الفصل الثالث

توصيف الثقوب السوداء

قدَّمنا في الفصل الأول مفهوم وجود نقطةٍ مُتفردة من الكُتلة تتكوَّن في أثناء الانهيار بفعلِ الجاذبية ومُحاطة بمنطقةٍ من مناطق أفق الحدث. ويُسمَّى النوع الذي لا يدور من هذه الأجسام ثقوب شفارتزشيلد السوداء، وهذا المصطلح يُشير بالأخص إلى ثقوب سوداء لا تدور؛ أي، بالمصطلحات المتخصصة، ليس لديها زخم زاوي. ببساطة، السمة الوحيدة التي تُميز أحد ثقوب شفارتزشيلد السوداء عن الآخر (بخلاف الموقع) هي مقدار كتلته. سنتعلَّم في الفصل السابع كيف تنمو الثقوب السوداء، ولكن الآن سيكفي أن نعرف أنَّ الانهيار تحت تأثير الجاذبية هو المكوِّن الرئيسي. إذا وُجِد أي دوران على الإطلاق في المادة قبل الانهيار، مهما كان بسيطًا، فعندئذٍ سيزداد معدل الدوران مع حدوث الانهيار (إلَّا إذا وُجِد تأثير مُعين يمنع حدوث ذلك). ينشأ ذلك بسبب قانون فيزيائي بارز يُعرف بقانون حفظ الزخم الزاوي. ويتضح هذا القانون بالمثالِ في راقصة مُتزلِّجة تدور على ساقٍ واحدة؛ فعندما تجذب ذراعَيها نحو جسدها، تدور بوتيرةٍ أسرع. وبالطريقة نفسها، إذا كان النجم الذي أسفر عن نشوء الثقب الأسود يدور ببطء، فعندئذٍ سيكون الثقب الأسود الذي سيُكِّونه في النهاية يلفُّ بسرعةٍ كبيرة، ويُسمَّى «ثقب كير الأسود». وفي الواقع، فإنَّ معظم النجوم تدور، لأنها هي نفسها مكوَّنة من انهيار سُحب غازية ضخمة بطيئة الدوران بفعلِ الجاذبية. (إذا كانت هذه السحابة الغازية تتَّسِم بقدرٍ ضئيل جدًّا من محصلة الدوران الصافي، سيكون لدى السحابة المنهارة زخم زاوي غير صفري، وبينما تشغل المادة حجمًا يزداد صغرًا، فإنَّ الدوران النهائي للجسم المنهار سيكون سريعًا بعض الشيء على الأرجح.) وهكذا نرى أنَّ الدوران، الذي تشيع تسميتُه باللفِّ المغزلي أو الزخم الزاوي، من المرجَّح أن يكون سمةً سائدة في معظم الثقوب السوداء التي تكوَّنَت للتوِّ من انهيار المادة، إن لم يكن سمةً منتشرة في كل هذه الثقوب. نعتقد الآن أنَّ اللفَّ والدوران شيء حتمي في الثقوب السوداء الفيزيائية الفلكية الحقيقية بقدْر ما هو حتمي في مجال السياسة الحالي (وإن كان، في تلك الحالة الثانية، ينشأ بسبب شيءٍ آخر غير حفظِ الزخم الزاوي!).

ذكرنا الآن أنَّ مُعامِلًا مُحدِّدًا فيزيائيًّا ثانيًّا، أي اللف المغزلي أو الزخم الزاوي، يُمثل سمةً خاصة تُميز كل ثقبٍ أسود عن الآخر مثلها مثل الكتلة. وبذلك فمن المُهم أن نضع في حسباننا خاصيَّتَين من خواص الثقوب السوداء ونحن ندرس سلوكها: الكتلة والزخم الزاوي. وتُوجَد، من الناحية النظرية، سمة مميزة ثالثة لدى الثقوب السوداء ربما تكون مرتبطة بسلوكها؛ وهي الشحنة الكهربائية. وهذه أيضًا كمية محفوظة في الفيزياء، والقوى الموجودة بين الشحنات الكهربائية، المعروفة بالقوى الكهروستاتيكية، تُشبه قوة الجاذبية من عدة جوانب. أحد التشابُهات الرئيسية أنَّ كلتَيهما (على نطاقاتٍ كبيرة) تُعتبران أمثلةً لقوانين التربيع العكسي، التي تعني أنَّ قوة الجاذبية التي يتعرض لها جسمان لهما كتلة مُعينة تقلُّ إلى رُبع قِيمتها الأصلية عندما تُضاعِف المسافة الفاصلة بينهما. وأحد الاختلافات الرئيسية أنَّ قوى الجاذبية دائمًا ما تكون تجاذُبية، في حين أنَّ قوى الشحنات الكهروستاتيكية لا تكون تجاذُبية إلَّا في بعض الأحيان فقط (عندما تكون شحنة أحد الجسمَين مُعاكسةً لشُحنة الجسم الآخر؛ أي يكون أحدهما موجبًا والآخر سالبًا). بينما تكون تنافُرية في أحيانٍ أخرى (عندما يكون لدى الجسمَين كليهما شحنة تحمل العلامة نفسها؛ أي يكون كلاهما موجبًا أو يكون كلاهما سالبًا، فإنهما يتنافران). وبذلك فإذا كان جسمان يحملان نوع الشحنة نفسها، فعندئذٍ سيميل التنافُر الكهروستاتيكي إلى منعهما من الالتحام معًا، حتى وإن كانت الجاذبية تميل إلى جذب كليهما نحو الآخر. لذا فبينما يُمكن نظريًّا أن تكون الشحنة خاصيةً ثالثة للثقوب السوداء قد يتطلَّع المرء إلى قياسها، فإنَّ شحنة الثقب الأسود سرعان ما تُصبح متعادلةً في الواقع بفعل المادة المحيطة به. لذا من الوجيه أن نستخدِم افتراضًا عمليًّا مفاده أنَّ السمات ذات الصِّلة التي تُميِّز كل ثقبٍ أسود عن الآخر سمتان فقط: الكتلة والزخم الزاوي. هذا كل ما هنالك!

الآن، ربما تتساءل عمَّا إذا كان يمكن تمييز الثقوب السوداء بتركيبها. إذ ربما يكون أحدُها قد تكوَّن من سحابةٍ من غاز الهيدروجين، والآخر من سحابةٍ من غاز الهيليوم. فلِماذا لا يكون مصدر المادة المنهارة المتساقِطة التي أدَّت إلى نشوء الثقب الأسود ظاهرًا في الخصائص القابلة للقياس لدى الثقب الأسود الذي تكوَّن لاحقًا؟ هذا لأنَّ المعلومات لا يمكن أن تخرج من أفق الحدث! فالضوء هو الوسيلة التي يمكن من خلالها نقل المعلومات، لكنَّنا رأينا بالفعل في الفصل الأول أنه لا يستطيع الهروب من داخل أفق الحدث المحيط بالثقب الأسود. ومن ثَمَّ، فالتركيب الكيميائي للمادة التي سقطت داخل الثقب الأسود لا يمكن أن يكون له أي تأثير على خصائص الثقب الأسود حسبما تُحدَّد من الخارج. لن يكون من الصحيح اعتبار الجاذبية شيئًا يحتاج إلى «الخروج من» الثقب الأسود. فالوجود المستمر لمجالٍ من الجاذبية خارج الثقب الأسود شيء يُرسَى أولًا في تكوين الثقب الأسود بينما يتشوَّه نسيج الزمكان. ولا يُوجَد تأثير من داخل الثقب الأسود يمكن أن يغير المجال الخارجي بعد تكوُّن أفق الحدث.

الثقوب السوداء ليس لها شَعر

عندما يُطلَب منا وصف شخصٍ آخر، فإحدى السمات المميزة التي نذكُرها كثيرًا في أوصافنا لون شَعره (وليكُن مثلًا أشقر ذو حُمرة خفيفة، أو رمادي فضي أو بني كالشوكولاتة). وأحيانًا ما تحمل طبيعة شَعر البشر أماراتٍ تشير إلى أعمارهم أو جنسياتهم. وقد تُتيح معلوماتٌ متعلقة بخصائص جسدية أخرى مثل «مؤشر كتلة الجسم» معلوماتٍ عن نظامهم الغذائي. غير أنَّ الثقوب السوداء، على عكس البشر، كيانات ليس لها أي خصائص مميزة على الإطلاق عدا كتلتها وزخمها الزاوي (مع إهمال الشحنة للأسباب المذكورة أعلاه). يتجسَّد هذا بدقَّة في عبارة «الثقوب السوداء ليس لها شعر» القصيرة التي صاغها جون ويلر لتأكيد أنَّ الثقوب السوداء ليس لها سمة تحمل أي دليلٍ على طبيعة النجم الذي وُلِدت منه. لا شكله ولا تكتُّلات سطحه الناتئة، ولا مظاهر سطحه، ولا نشاطه المغناطيسي، ولا تركيبه الكيميائي. لا شيء. وقد أظهرت الحسابات التي أجراها الفيزيائي البيلاروسي ياكوف زيلدوفيتش، وعلماء آخرون، أنَّه إذا انهار نجم غير كروي ذو سطح به تكتُّلات ناتئة ليُكوِّن ثقبًا أسود، سيستقر أفق الحدث المحيط به في النهاية مُكوِّنًا شكلَ اتزانٍ أملس لا يحمل تكتُّلات بارزة أو نتوءات من أي نوع. لذا فالثقب الأسود لا يمرُّ أبدًا بيومِ الشعر السيئ! كل ما يُمكن أن تعرفه عنه كتلته وزخمه الزاوي.

الزخم الزاوي يُغيِّر الواقع

لعلَّ أبرز سمة للثقوب السوداء الدوَّارة أنَّ مجال الجاذبية يجذب الأجسام حول محور دوران الثقب الأسود، وليس نحو مركزه فحسْب. ويُسمَّى هذا التأثير «تباطؤ الإطار المرجعي». فعند إسقاط جُسيم على أحد ثقوب كير السوداء في اتجاه نصف القطر نحو المركز، سيكتسِب مكونات حركة غير مُتجهة في اتجاه نصف قطره (أي دورانية) أثناء سقوطه سقوطًا حرًّا في مجال جاذبية الثقب الأسود.

وهذا يعني أنَّ محور اللفِّ المغزلي لأي جُسَيم اختبار يحمل زخمًا زاويًّا (كجيروسكوب صغير مثلًا) سيتغيَّر إذا كان يسقط سقوطًا حرًّا نحو جسمٍ ضخم دوَّار، كأحد ثقوب كير السوداء. ويكأنَّ إطاره المرجعي المحلي تباطأ بفعلِ تعرُّضه لقوة سحبٍ بسبب دوران الجسم الضخم المركزي. وهذه الظاهرة، التي اكتُشِفَت عام ١٩١٨ والتي تُسمَّى تأثير «لينز-ثيرينج»، لا تحدُث في الواقع حول الثقوب السوداء فقط، بل تحدُث بدرجةٍ ما حول أي جسمٍ دوَّار. فإذا وضعتَ جيروسكوبًا دقيقًا جدًّا في مدارٍ حول كوكب الأرض، فسيتغيَّر اتجاه محور دورانِهِ بسبب تباطؤ الإطار المرجعي.

إنَّ معادلات المجال التي وضعَها أينشتاين هي التي تصِف رياضيات الثقب الأسود، وقد حلَّ كارل شفارتزشيلد، كما ذُكر أيضًا في الفصل الأول، هذه المعادلات مُطبقًا إيَّاها على حالة الثقب الأسود الثابت (غير الدوَّار)، مُحقِّقًا بذلك إنجازًا باهرًا بالنظر إلى أنه فعل ذلك في عام ١٩١٥، وهو العام نفسه الذي طرح فيه أينشتاين نظرية النسبية العامة. وبعد ذلك بكثير، تناول النيوزيلندي روي كير حالة الثقب الأسود الدوَّار. وعقب ذلك بسنواتٍ قليلة، تعمَّق الأسترالي براندون كارتر تعمُّقًا أشدَّ بكثير في استكشاف الحل الذي وضعَه كير. إذ دَرَس كارتر نتائج دالَّةِ كير المترية دراسةً شاملة عميقة. وأثبت أنَّ الثقب الأسود الدوَّار يُسبب دوامةً دوَّارة شديدة في نسيج الزمكان تُحيط به، وتنشأ بسبب تباطؤ الإطار المرجعي. ولِتَخيُّل هذه الدوَّامات، يُمكن أن نضرب مثالًا لها بالزوبعة؛ فبالقُرب من مركز الزوبعة، يلفُّ الهواء بسرعة حاملًا معه أي شيء في مساره، سواء أكان تبنًا في حقل من التبن أو رمالًا في صحراء. وكلما ابتعَدْنا عن مركز الزوبعة، يدور الهواء (وبالتبعية التبن أو الرمال) بوتيرة أبطأ. ينطبق هذا أيضًا على نسيج الزمكان المحيط بالثقب الأسود الدوار؛ فبعيدًا عن أفق الحدث، تكون السرعة التي يدور بها نسيج الزمكان نفسه بطيئة، ولكن عند الأفق، يدور نسيج الزمكان نفسه بالسرعة نفسها التي يدور بها الأفق.

أي إنَّ أفق الحدث المحيط بالثقب الأسود الدوَّار (ثقب كير) يكاد يُطابِق الثقب الأسود غير الدوار (ثقب شفارتزشيلد)، باستثناء أنَّ ازدياد سرعة دوران الثقب الأسود يجعل بئر طاقة الوضع الناجمة عن قوى الجاذبية أعمق؛ أي إنَّ ثقب كير الأسود يُكوِّن بئرًا أعمق من طاقة الوضع الناجمة عن الجاذبية من تلك التي يُكوِّنها ثقب أسود من ثقوب شفارتزشيلد له الكتلة نفسها، ولذا فإنَّ ثُقب كير الأسود يُمكن أن يكون مصدر طاقةٍ أقوى من الثقب الأسود غير الدوار، وسنعود إلى هذه النقطة في الفصل السابع. وإلى أن نصل إليها، فمن المفيد تلخيص هذا السلوك بالقول إنَّ أفق الحدث المحيط بثقب شفارتزشيلد الأسود يعتمد على الكتلة فقط، لكن أفق الحدث المحيط بثُقب كير الأسود يعتمد على الكتلة والزخم الزاوي كليهما.

ويبقى السؤال عمَّا إذا كان يُمكن أن يُوجَد، ولو نظريًّا حتى، أيُّ نقاط تفرُّد في نسيج الزمكان ليست مُحاطة بأيٍّ من مناطق أفق الحدث ومَخفيَّة بين طيَّاتها، أو ما يُسمَّى «نقاط التفرد العارية»، دون إجابة حتى الآن. بحُكم الطبيعة، فكلُّ حالات الثقوب السوداء التي تُمثِّل حلولًا لمعادلات المجال التي وضعَها أينشتاين مُحاطةٌ بمناطق من آفاق الحدث، وكما هو مُوضَّح في الفصل الأول، لا ضوء — وبالتبعية لا معلومات — يُمكن أن يهرب من آفاق الحدث. إذ يُعتقَد أنَّ كل نقاط تفرُّد الثقوب السوداء مُحاطة بنطاق آفاق الحدث، ولذا فهي ليست «عارية»؛ ولذلك يستحيل الوصول إلى معلوماتٍ مباشرة عن نقطة التفرُّد من بقية الكون الواقع خارجها. صاغ عالِم الرياضيات البريطاني روجر بنروز الفرضية المُسمَّاة فرضية الرقابة الكونية، وهي تنصُّ على أنَّ كلَّ نقاط التفرُّد في نسيج الزمكان مُكوَّنة من ظروفٍ أولية مُعتادة، ومَخفية بين طيَّات آفاق الحدث، وأن الفضاء ليس فيه نقاط تفرُّد عارية.

متي يكون مقدار الزخم الزاوي أكبر ممَّا ينبغي؟

يُوجَد حدٌّ أقصى لمقدار الزخم الزاوي الذي يُمكن أن يصِل إليه الثقب الأسود. ويعتمِد هذا الحد على كتلة الثقب الأسود، إذ يستطيع الثقب الأسود الأضخم أن يدور أسرع من ثقب أسود أقل ضخامة. ويُعرَف الثقب الأسود الذي يدور بسرعةٍ قريبة من هذا الحد الأقصى باسم ثُقب كير الأسود المتطرف. ومن الممكن إظهار أنَّ المرء إذا حاول زيادة الزخم الزاوي لثقبٍ أسود، ليصنع ثقبًا أسود متطرفًا من نوعية ثقوب كير، بإطلاق مادة سريعة الدوران داخله (أي زيادة سرعة دورانه كأنك تُقلِّبه بملعقة)، فإن قوى الطرد المركزي عندئذٍ تمنع المادة حتى من دخول أُفق الحدث.

وعلى مسافةٍ أبعد بعض الشيء من أفق الحدث المحيط بثقبٍ أسود دوَّار، يقع سطح رياضي مُهم آخر يُعرَف باسم الحد الاستاتيكي. ويعني تباطؤ الأُطر المرجعية القصورية عدم وجود راصِدِين ثابِتِين داخل هذا السطح إذا كانت قيمة الزخم الزاوي للجسم الضخم غير صفرية؛ فكلُّ إطارٍ مرجعي يُمكن تحقيقه ماديًّا داخل الحد الاستاتيكي يدورُ حتمًا. وداخل نطاق هذا السطح، يدور الفضاء بسرعة كبيرة جدًّا لدرجة أنَّ الضوء نفسه يُضطر إلى الدوران مع الثقب الأسود؛ أي إنه من المستحيل أن يظل ساكنًا. هذا وتُعرَف المنطقة الواقعة بين الحد الاستاتيكي وأفق الحدث باسم الإرجوسفير، لكنها، كما يتضح في شكل ٣-١، ليست كروية، وهذا مُحيِّر بعض الشيء لأنَّ اسمها يُوحي بعكس ذلك. إذ تكون منطقة الإرجوسفير أكبر بكثيرٍ من أفق الحدث مع الاتجاه نحو خط الاستواء، لكن نصف قُطرها يقترِب من نصف قُطر أفق الحدث كلما اتجهنا نحو القطبَين إلى أن يُصبِح مُساويًا له عندهما. وبذلك يكون شكل الإرجوسفير الناتج شِبه كروي مُفلطحًا، على غرار شكل إحدى ثمرات يقطين جاراديل (من دون الساق). غير أنَّ المقطعَين الأولَين من كلمة «إرجوسفير» مُشتقَّان من اسم «إرجون» اليوناني الذي يعني «الشغل» أو «الطاقة» (كما في كلمة «إرجونوميكس» التي تعني دراسة الناس في بيئات العمل)، وقد اشتُقت منه أيضًا وحدة قياس الطاقة القديمة، الإرج. ومن المثير للاهتمام أن نُضيف أنَّه يُوجَد فعل يوناني يُنطَق «إرجو»، ويعني الإحاطة بالشيء وإبقاءه بعيدًا، وهذا الوصف مناسب لطبيعة منطقة الإرجوسفير. وربما كان هذا حاضرًا في ذهن روجر بنروز الذي صاغ اسم هذه المنطقة المحيطة بثقب أسود دوَّار وديميتريوس كريستودولو الذي أيَّد صحته. وتكمُن أهمية الإرجوسفير في أنها المنطقة التي يمكن فيها استخراج الطاقة من الثقب الأسود.
fig10
شكل ٣-١: السطحان المختلفان المحيطان بثقب أسود (ثابت) من نوعية شفارتزشيلد وبثقب أسود (دوَّار) من نوعية كير (في تمثيل إحداثيات بوير-لينديكويست الشائعة الاستخدام).

ولأن الجزء الواقع داخل فضاء منطقة الإرجوسفير يدور، فإن جزيئات المادة الموجودة داخل هذا الفضاء أيضًا تُجرَف إلى حركة دورانية. لذا تُخزَّن طاقة دورانية كبيرة في هذا الدوران الذي يُدوِّره الفضاء، وهذه نقطة مُهمة جدًّا سنعود إليها في الفصل الثامن.

الثقوب البيضاء والثقوب الدودية

تتَّسِم معادلات أينشتاين المتعلقة بنظرية النسبية العامة بأنها غنية جدًّا وتُتيح حلولًا مختلفة كثيرة تصِف نُسَخًا بديلة من نسيج الزمكان المنحني. وهذا يوفِّر لدارسي الكون مصدرًا لا ينضب تقريبًا من الأكوان المُحتمَلة ليَصِفوها ويتأمَّلوها. صحيح أنَّ نوعية الكون الذي نعيش فيه بالفعل لا يُمكن تحديدها إلَّا بالرصد (إن أمكن ذلك أصلًا!). لكن هذا لا يمنع علماء الفيزياء الرياضية من النظر في معادلات أينشتاين من كل وجهٍ للعثور على كل أنواع الحلول الشائقة.

وأحد الأجسام المثيرة للاهتمام التي يمكن أن يتخيَّلها علماء الفيزياء الرياضية هو ما يُسمَّى بالثقب الأبيض. يتصرف الثقب الأبيض كالثقب الأسود تمامًا، ولكن مع عكس اتجاه الزمن (تخيَّل فيلمًا يُعرَض بتسلسُلٍ عكسي من الأمام إلى الخلف). فبدلًا من أن يمتص المادة، يقذفها خارجًا. وبدلًا من أن يُشكِّل أفق الحدث المُحيط به منطقة لا يمكن الهروب منها أبدًا، يَحرسُ منطقة لا يمكن لأي شيء دخولها. فحالما تخرج المادة من ثقبٍ أبيض، لا يمكنها العودة إلى هناك؛ ويكون مُستقبلها كله خارِجَه. وكما سنرى في الفصل السادس، يتشكَّل الثقب الأسود من نجمٍ منهار ولا بدَّ أن يتبخَّر في النهاية وفق قوانين ميكانيكا الكم إلى إشعاع هوكينج (انظر الفصل الخامس). أمَّا الثقب الأبيض، فلا يُمكن أن يَنتُج إلَّا من الإشعاع الذي يتجمَّع تلقائيًّا، لسببٍ ما، ليكوِّن ثقبًا أسود. ليس من السهل فَهْم الكيفية التي يمكن أن يحدث بها هذا في الواقع، وفوق ذلك، أثبت دوجلاس إيردلي أنَّ الثقوب البيضاء غير مُستقرة بطبيعتِها.

وعندما كان أينشتاين وتلميذه ناثان روزن يُجرِّبان طُرقًا مختلفة لحل معادلات أينشتاين في ثلاثينيَّات القرن العشرين، وجدا حلًّا مُثيرًا للاهتمام. إذ توصَّلا إلى أنه إذا أمكَن أن تكون منطقة من نسيج الزمكان منحنيةً بشدة، فربما يُمكن أن تُصبِح مطويةً بما يكفي للتوصيل بين جزأين من نسيج الزمكان، كانا مُنفصِلَين سلفًا بمسافةٍ كبيرة، بواسطة جسر صغير، أو ثُقب دودي، كما هو موضح في شكل ٣-٢. ودائمًا ما كانت المسافات الهائلة الفاصلة بين النجوم والمجرات غير مواتية لرغبة أولئك الكُتاب الذين يريدون تقديم عروض درامية بشرية على مسرحٍ كوني، غير أنَّ الثقوب الدودية (المعروفة أيضًا باسم جسور أينشتاين-روزن) أتاحت للكُتاب آلية الحبكة المثالية التي يستطيعون بها نقل أبطال رواياتهم الأخيار والأشرار إلى هناك. يُعَد هذا الابتكار الرياضياتي بمثابة نعمة بأتمِّ معنى الكلمة لكُتاب روايات الخيال العلمي، لأنه يُتيح وسيلةً جاهزة لقطعِ مسافاتٍ هائلة عَبر الفضاء، وبذلك يدعم نجاح العديد من آليات الحبكة التي قد تبدو مُختلَقة تمامًا وغير قابلة إطلاقًا للتصديق. ولكن تجدُر الإشارة مجدَّدًا إلى أننا لا نملك أدلة رصدية على وجود الثقوب الدودية في كوننا بالفعل. وفوق ذلك، تُوجَد أدلة نظرية كثيرة بعض الشيء على أنَّ الثقب الدودي، فور تكوُّنه، لن يبقى مُستقرًّا فترةً طويلة. إذ يبدو أنَّ إبقاء الثقب الدودي مفتوحًا يستلزِم كميةً كبيرة من مادةٍ ذات طاقة سالبة، في حين أنَّ كل المادة العادية لها طاقة موجبة (هذا مرتبط بحقيقة أنَّ قوى الجاذبية عادة ما تكون تجاذُبية على الدوام). ومن ثَمَّ، فمرور مادة عادية عبر ثقبٍ دودي ربما يكون كافيًا لإنهاء استقراره وتدميره، ما يجعله يتحول إلى نقطة تفرُّد في ثقب أسود.
fig11
شكل ٣-٢: ثقب دودي يصِل بين منطقتَين في نسيج الزمكان كان من المفترَض أن تكونا مُنفصلتَين لولاه.
إذا كانت الثقوب الدودية موجودة بالفعل، وأمكن الحفاظ على بقائها أيَّ فترة زمنية معقولة، فستكون لها بعض الخصائص الغريبة والمدهشة. فهي لن تُتيح وسيلةً لأخذ طريقٍ مختصَر هائل عبر مساحة شاسعة من الفضاء فحسب، بل ستسمح أيضًا للمسافر بالعودة في الزمن إلى الوراء. إذ يُمكن للمرء حينئذٍ إنشاء مُنحنَيات مُغلقة مُحاكية للزمن؛ أي حلقات في نسيج الزمكان تُشكِّل فيها المخاريط الضوئية دائرةً مغلقة (انظر شكل ٣-٣) بحيث يستطيع شخصٌ مسافر على طول منحنًى مُغلَق مُحاكٍ للزمن أن يُكرِّر التجارب نفسها التي عاشها مرارًا وتَكرارًا ببساطة، كما يظهر في فيلم «يوم مُكرَّر» (جراوندهوج داي).

وفي الحقيقة، تُوجَد عدة حلول لمعادلات أينشتاين، بالإضافة إلى حلول الثقوب الدودية، لها هذه الخاصية المُقلِقة المنافية للحسِّ المنطقي. ففي عام ١٩٤٩، وجد عالم الرياضيات كيرت جودل حلًّا يصف كونًا دوَّارًا، وهذا الحل يتضمَّن النوعَ نفسَه بالضبط من المنحنيات المغلقة المحاكية للزمن التي تمرُّ عَبر الأحداث مرارًا وتَكرارًا في حلقةٍ لا تنتهي من «يوم مُكرر». (من الواضح أنَّ «حُرية الإرادة» ليست جزءًا من معادلات المجال!) صحيح أنَّ الجزء الذي يُعتقَد أنَّ له أهمية مادية حقيقية في العالم الفعلي من حلِّ «كير» هو ذلك الذي يصف نسيج الزمكان خارج أفق الحدث. ولكن لم يتَّضِح ما إذا كان الجزء المتعلق بما يوجَد داخل أفق الحدث من حل «كير»، وإن كان سليمًا من الناحية الرياضية، له أي أهمية مادية. ففي هذا الجزء من حلِّ كير، لا تكون حالة التفرُّد مجرد نقطة (مثلما تكون في الثقب الأسود غير الدوار)، بل تأخُذ شكل حلقةٍ سريعة الدوران (لكنَّ صحة ذلك من الناحية المادية قائمة أساسًا على مجرد تخمينات). وتكون هذه المتفردة الشبيهة بالحلقة محاطة بمنحنيات مُغلقة محاكية للزمن. وعلى هذا المنحنى، يكون مُستقبلك جزءًا من ماضيك أيضًا، ويُصبح ممكنًا لك من الناحية النظرية أن تقتُل جدك أو جدتك قبل أن يلِدا والدَيك! وبذلك يبدو أنَّ وجود منحنيات مغلقة مُحاكية للزمن يخلق إمكانية حدوث جميع أنواع المفارقات المتعلقة بالسفر عبر الزمن. وأحد الحلول الممكنة لهذا هو الاعتراف بأننا ليس لدَينا نظرية تربط ميكانيكا الكم (التي تصف الأشياء الصغيرة جدًّا) بنظرية النسبية العامة (التي تصف الأشياء الضخمة جدًّا)، أي ليس لدينا نظرية عن الجاذبية الكمية. فنحن لا نعرف فيزياء الأجسام التي تتَّسِم بكتلة هائلة لكن حجمها صغير جدًّا. ويرى معظم الفيزيائيين أننا بحاجةٍ إلى هذا لنفهم سلوك نسيج الزمكان بالقُرب من نقاط التفرُّد فهمًا تامًّا. ومن ثَمَّ، قد يكون السبب في أنَّ هذه الحلول الغريبة لمعادلات أينشتاين لا تتحقَّق بالفعل في الكون هو أنَّها محظورة أصلًا بحُكم طبيعتها الميكانيكية الكمية الأساسية. إذ ربما تسفر التأثيرات الكمية، على سبيل المثال، عن إنهاء استقرار الثقوب الدودية. ويعتقد ستيفن هوكينج أن هذا ما يحدث بالفعل، وسَمَّى هذا المبدأ «فرضية حماية التسلسُل الزمني». وقال ساخرًا إنَّ هذا هو المبدأ الأساسي الذي يُبقي الكون آمنًا للمؤرِّخين.

fig12
شكل ٣-٣: منحنًى مُغلق مُحاكٍ للزمن حيث يُصبح مُستقبلك هو ماضيك.

يُوجَد الكثير من السِّمات والظواهر المتعلقة بالأجزاء الداخلية من الثقوب السوداء الدوارة يكاد يتجاوز فَهمنا للفيزياء الأساسية، ولذا يصير جزءٌ كبيرٌ من وصفِنا لها قائمًا على مجرد تكهنات. وعلى النقيض من ذلك، فدوران الثقوب السوداء وتأثيرها في مُحيطها لهما أهمية عملية هائلة لفَهم ما نستطيع رؤيته بتلسكوباتنا. ولذا فخطوتنا التالية هي التفكير بمزيدٍ من التفصيل فيما يحدُث للمادة عندما تسقط في ثقب أسود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤