الفصل الثالث

«ألن يمد أحدهم يد العون؟»

الصحافة الشبكية والسياسة

(١) مقدِّمة

لطالما ساد اعتقاد — وقد كنت ممن اعتقدوا — بأن المساعدة كانت تلوح في الأفق؛ فأشكال الاتصال الجديدة سوف تطرح منافذ جديدة لتلافي النبرة الحادة والصاخبة للإعلام التقليدي. لكن في حقيقة الأمر يمكن أن تكون الأشكال الجديدة أشد خبثًا وأقل اتزانًا وأكثر انكبابًا على آخر نظريات المؤامرة أضعاف أضعاف المعتاد.

(توني بلير، من حديث له كعضو في البرلمان)1

إن التغطية الصحفية لمجال السياسة هي أهم وظيفة للصحافة؛ فهي الكيفية التي تتحدث بها المجتمعات عن السلطة، فمَنْ غير الإعلام الإخباري يُمَكِّنُنا من إجراء نقاش ذي مغزًى خارج نطاق مجتمعنا المباشر؟

سأستطلع في هذا الفصل الطريقة التي تغيِّر بها الصحافة الشبكية بنود هذا النقاش، وكيف يمكنها أن تفعل ذلك في المستقبل.

ثمة قصور ديمقراطي كبير في أنحاء كثيرة من العالم؛ فقد شهدنا في الثلاثين سنة الماضية توسُّعًا في الأنظمة الديمقراطية التمثيلية في الجزء الأكبر من الكوكب، ومع ذلك فيبدو أن مجال السياسة في أزمة. إن شرعية الساسة واندماج المواطنين موضع تشكك كبير. وفي عصر «الوساطة السياسية»، وفي «القرية الكونية»2 المزعومة، يقع الجدل بشأن هذه الفجوة بين الوضع المثالي والواقع على نحو متزايد في قلب الإعلام الإخباري ذاته. يعجِّل توسعُ الإنترنت والاتصالات الرقمية هذا الاتجاهَ؛ فهما يقدمان على ما يبدو فرصًا متزايدة لتقديم خطاب ديمقراطي مُحسَّن؛ وعليه تتطلع المؤسسات لمزيد من الاستثمار في القدرة السياسية لوسائل الإعلام. إلا أن الإعلام الجديد — كما رأينا في الفصل الأول — يقدِّم أيضًا مسارًا لعزل وتفتيت المجال العام.

اتسم رد الفعل على هذا الوضع بشيء من الحماقة؛ ففي الوقت الحالي، الجزء الأكبر من سياسة الاندماج الجماهيري يسير في مسار عكسي. ثمة افتراض بأن السياسة التقليدية المعاصرة مهمة، ويبدو أن واضعي السياسات على قناعة بأن طريقتهم في العمل يمكن تعديلها بحيث ينخرط العامَّة في السياسة دون إدخال أية تغييرات جوهرية. يشبه هذا بشدةٍ الطريقةَ التي نظر بها ذات مرة الكثير من العاملين في مجال الإعلام التقليدي إلى عملائهم؛ فقد ساد شعور بينهم بأنه إذا جرى تجديد المنتج وتم استغلال الإعلام الجديد لتقديم منصات إعلامية جديدة؛ إذن فبكل تأكيد سوف يسترجعون جمهورهم. وفي حالتَي السياسة والإعلام، يُتجاهل هذا الاتجاه طويل المدى لدى الجمهور نحو الانفصال عن مجال السياسة التقليدي والتغطية الصحفية التقليدية. وكما أشرت في الفصل السابق، يتعيَّن على كلٍّ من مجال السياسة والتغطية السياسية الاتجاه إلى حيثما تتجه الجماهير، بل وفعليًّا ينبغي على الساسة والإعلام لعب دور ريادي في هذا الإطار. ويتقن الإعلام الإخباري هذا الدرس بسرعة كبيرة؛ تدفعه في ذلك الضروريات التجارية. يسير الساسة في هذا الاتجاه بسرعات مختلفة، لكن الكل لم يلحق بعدُ بمعدل التغيرات في سلوكيات العامَّة.

لا يعني هذا أنه كان هناك عصر ذهبي تميز باندماج العامَّة بقوة، عصر شهد مجتمعًا ديمقراطيًّا مثاليًّا فيه تشاركَ عامة الناس والساسة والإعلام مجالًا مشتركًا على قدم المساواة. ثمة العديد من الخرافات حول الصحافة الشعبية في الماضي. وتبالغ هذه الخرافات في قوة الإعلام ومدى تمكُّن الرأي العام من أن ينساب كقوة ديمقراطية مباشرة. على سبيل المثال، واحدة من الأساطير المسلَّم بها هي أن النشرات الإخبارية التي قدمتها الشبكات التليفزيونية الأمريكية قد غيَّرت بشكلٍ ما مسار أحداث حرب فيتنام. لكن في حقيقة الأمر، أُعِيدَ انتخاب الرئيس نيكسون في ذروة الحملة الإعلامية التي كشفت بشاعة تلك الحرب في جنوب شرق آسيا، وفي المملكة المتحدة هناك أسطورة عن الصحف الشعبية (التابليود) الذكية مثل ديلي ميرور في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين؛ فوفقًا لبعض الأشخاص مثل جون بيلجر3 (الذي كان حاضرًا وقتها وخاض بعض الحملات الصحفية المبالغ في أهميتها)، كانت صحافة التابلويد قادرة على نحو فريد على إضفاء لمسة شعبية على الحملات الترويجية للسياسة اليسارية، وحتى لو وجد هذا العصر الذهبي لصحف التابلويد من الأساس، فمن المؤكد أنه كان قصيرًا وغير قابل للاستمرار. وكما ناقشنا في الفصل الأول، فلطالما كان وجود الفترات التي شهدت كون السياسات رفيعة المستوى والصحافة الجادَّة جزءًا حقيقيًّا من الثقافة الشعبية العامَّة موضع شك، بل ويُقال إنه في المجتمع التقدُّمي المفتوح، ينبغي أن تكون العلاقة بين الصحافة والسياسة والعامة في توتر وليست في حالة تصالح، فبمجرد أن تصبح العلاقة مستقرة؛ إذن فهي بالفعل في حالة اضمحلال.

وفي معظم البلدان الغربية في الوقت الحالي، لم تكن التغطية السياسية قط أكثر شمولية وتفصيلًا ومهنية كمثلها الآن؛ فأي شخص مهتم بوقائع الكونجرس أو وستمنستر أو بروكسل أو الأمم المتحدة فإنه يحصل على كل ما يطلب وأكثر؛ وكل هذا بفضل المعلومات على الإنترنت والقنوات الرقمية والقنوات الإخبارية التي تعمل على مدار ٢٤ ساعة. تقدِّم مواقع الويب السياسية الرسمية منها والمستقلة الآن كميات هائلة من البيانات الرئيسية. ثمة آلاف من المجلات المتخصصة على الإنترنت التي تقدِّم أبحاثًا وتفاسير حول جميع جوانب الأجهزة السياسية في العالم. لكن هذا يستهدف في المقام الأول الصفوة المندمجة سياسيًّا، والخوف هو أن تكون بقية السكان غير مبالين.

أصبح متاحًا للقطاع الأكبر من الناس كمٌّ من المعلومات السياسية أكبر من أي وقت مضى. يقدِّم الإعلام تغطية صحفية وتحليلًا وتفسيرًا فوريَّين للعملية السياسية أثناء حدوثها، ومع ذلك تشير معظم الدلائل إلى أن الناس يجدونها مَقِيتة. يمكن أن يعود هذا إلى أن الأشخاص أصبحوا أقل شغفًا بالسياسة التقليدية. بعد المشهد الرائع لنهاية الحرب الباردة ومرحلة التحرر الديمقراطي منذ عام ١٩٨٩ فصاعدًا، أصبحت الدراما السياسية أقل حضورًا على مسارحها الأساسية. بكل تأكيد لم ينتهِ التاريخ بعدُ، لكن التاريخ السياسي لم يعُد يصنعه قادة الأحزاب والحكومات بقدر ما تصنعه القوى الاقتصادية والاجتماعية والدينية والعرقية. بات الخبر السياسي في غاية التعقيد بالنسبة للصحافة السياسية التقليدية. تجتاز السياسة التقليدية في الكثير من البلدان الغربية مرحلة خمول حيث لا تبدو الانقسامات الأيدلوجية بالغة العمق. تميزت الانتخابات الرئاسية الفرنسية لعام ٢٠٠٧ بمرشحين رئاسيين متناقضين بوضوح في الشخصية والسياسات، وكانت المشاركة الانتخابية مرتفعة. لكن هذا كان أمرًا استثنائيًّا ولعله كانت هناك مبالغة في الفروق بين المرشحين. في عصر تشوبه المخاوف بشأن المخاطر العالمية مثل الإرهاب والتغير المناخي، يمكن أن يبدو الخطاب السياسي الحزبي الضيق عقيمًا، وفي عصر يشهد تمتُّع الفرد بحرِّية ومسئولية شخصية أكبر، تبدو العملية السياسية التقليدية أكثر بعدًا عن حياتنا الواقعية وأقل أهمية لها. ليس هذا بالضرورة أمرًا سيئًا في حد ذاته؛ ففي الوقت نفسه، هناك أدلة على أن الأشخاص لا يزالون مهتمين للغاية بأشكال الأخرى للسياسة ويرغبون في التفاعل مع القضايا الكبرى، فثمة تصاعد في الأعمال الإنسانية والعطاء الخيري وتزايد في الانضمام إلى جماعات الضغط وحملات المصالح الخاصة.4 الأمر لا يرجع إلى كون الناس أقل «اهتمامًا بالسياسة»، وإنما بالأحرى إلى أن السياسة التقليدية لا تتعامل مع القضايا الصحيحة بطريقة موثوق بها أو تمس أرض الواقع. مشكلة الإعلام التقليدي هي أنه لا يزال يقدِّم تغطية لهذا النوع من السياسة؛ وعليه تنطبق لا مبالاة العامَّة بالمجال السياسي وعدم ثقته به على الصحافة السياسية بالمثل. رغم ذلك لا بد أن يتحمل الإعلام نفسه جزءًا من اللوم أيضًا.
ثمة توقعات عالية جدًّا عن دور الإعلام في السياسة، وخيبة أمل كبيرة من الدور الذي يقوم به فعليًّا.5 تساورني شكوك عميقة في بيانات الأبحاث المتعلقة بالثقة؛ فأرى أنه من الصعب جدًّا قياس الثقة، فما بالك بقياسها على مدار فترة زمنية! وأشك في أن الناس يعبِّرون عندما يتحدثون مع مستطلعي الآراء عن عدم ثقة تزيد عما يشعرون به فعليًّا؛ فقد أصبح النمط السائد الآن أن تظهر بمظهر المحنك الساخر. هذا نوع من الخمول الفكري إلى حدٍّ ما. لكن حتى إذا وُضِعَ هذا التحذير في الحُسبان، لا تبدو الاحصائيات جيدة. تشير استطلاعات الرأي إلى أن الثقة في الإعلام الإخباري قد انخفضت بمعدل الربع تقريبًا على مدار العَقْدين المنصرمين في الولايات المتحدة وأوروبا. وتشير بحوث مركز بيو إلى انخفاضٍ من ٨٠ في المائة إلى ٥٩ في المائة في درجة «تصديق الصحف». وبالمثل، كانت شبكات التليفزيون تنعم بثقة تصل إلى حوالي ٨٠ في المائة. في حين أن أعلى نسبة ثقة في شبكات التليفزيون الآن تصل إلى ٦٦ في المائة. وبشكل أكثر دقة، ارتفع عدد الأمريكيين الذين يعتقدون أن إعلامهم متحيز سياسيًّا من ٤٢ بالمائة إلى ٦٠ بالمائة.6 هذا نمط تكوَّن على المدى الطويل لكنه قابل للتغيير. وفي الواقع فاق عدد الأمريكيين الذين عبَّروا عن استحسانهم لتغطية انتخابات ٢٠٠٦ (٤٢ بالمائة) عدد الأمريكيين الذين عبَّروا عن استحسانهم لتغطية انتخابات ٢٠٠٤ (٣٣ بالمائة)؛ فالثقة يمكن أن ترتفع مثلما تنخفض. وأعتقد أن ملخص التقرير الإعلامي لمركز بحوث بيو لعام ٢٠٠٦ عن الموقف الأمريكي ينطبق على المستوى الدولي:

أفضل ما يمكن أن يُقال تقريبًا عن رأي الناس في الصحافة هو أن الموقف لم يَعُد آخذًا في الانخفاض بصفة عامَّة وبمعدل ثابت.

يواصل الأمريكيون تقدير الدور الذي ينتظرون من الصحافة أن تلعبه، بل وإلى حدٍّ ما هذا التقدير آخذ في الزيادة.

لكن عندما يتعلق الأمر بكيفية إتمام الصحافة لهذه المهام، فإن ثقة العامَّة تستمر في التهاوي.7

ليس بالضرورة أن تكون شكوك الجمهور المتزايدة في الإعلام السياسي والسياسة ذاتها شيئًا سيئًا. إن توجُّهًا تلقائيًّا نحو التشكك هو بكل تأكيد موقف صحي يتخذه المرء حِيالَ أولئك الذين يَعْتَلُونَ السلطة، سواء كانوا في الإعلام أو الحكومة، غير أنه يمكن أن يصير مدمِّرًا ومسببًا للشقاق إذا تحول إلى سوداوية قانعة ترفض بشكل تلقائي فكرة السياسة كجزء عقلاني وضروري من المجتمع البشري. ثمة حدود مادية لاندماج العامَّة في السياسة. هذا شيء كثيرًا ما يُغفله الساسة والصحفيون السياسيون. ليس الجميع لديهم نفس الرغبة في الانضمام إلى مجلس المدرسة أو التماس أصوات الناخبين، وبالمثل ليس كل الناس يريدون أن يُمضوا وقتهم في استهلاك صحافة تثقفهم سياسيًّا؛ فلدينا حياة لنحياها، غير أن الأرقام والتجارب العامَّة تخبرنا بكل وضوح أن نوعية الإعلام السياسي الذي لدينا والسياسة التي يحاول الإعلام تقديمها لا تتناسب وطموحات الجماهير. إذن يرنو الناس إلى صحافة سياسية أفضل، غير أن الإعلام التقليدي يفشل في تقديمها. تنشأ الفجوة في جزء منها بسبب انصراف الناس على نطاق أوسع عن الإعلام التقليدي الذي وصفناه في الفصل الأول. لكنها تنشأ أيضًا لأن كثيرًا من الإعلام السياسي التقليدي متحيز ومُحابٍ وسطحي حقًّا؛ فهو مهووس بالعملية السياسية والربح التجاري، وهو بصفة عامَّة يجهل ما يهتم به جمهوره ولا يعبأ به.

تقدِّم الصحافة الشبكية فرصة التصدي لهذه المشكلة. سيقول قائل إن التقنيات التكنولوجية الجديدة والظروف الاجتماعية الجديدة التي تغَيِّر الإعلام الإخباري تقدِّم فرصة أيضًا لتغيير السياسة. لا يتزحزح جو تريبي، المناصر القديم للحزب الديمقراطي والمبشر بفوائد الإنترنت، عن هذا الموقف فيقول: «هناك أداة واحدة، ومنصة إعلامية واحدة، ووسيط إعلامي واحد يساعد الأمريكيين على استرداد حكومتهم، ألا وهو الإنترنت.»8

كيف يمكن أن تشكل فكرة الصحافة الشبكية هذه التطورات؟ نحن نشهد الآن بزوغ ثقافة متممة للتيار السائد للصحافة السياسية. هي تختلف عن الثقافات المضادة للإعلام التي عزلت نفسها عمدًا عن السياسة السائدة في الماضي أو قاومتها، وهي لا تشبه الصحافة السرية التي كانت موجودة في ستينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة أو إعلام الساميزدات (مطبوعات سرية تُكتب بخط اليد) المحظور بالبلدان الشيوعية بشرق أوروبا قبل عام ١٩٨٩. كثيرًا ما تسعى الأشكال الجديدة للإعلام البديل إلى التأثير على التيار السائد بدلًا من تقديم نموذج منفصل كليةًّ، ولا يكون دائمًا محتواها، مقارنة بشكلها، متطرفًا سياسيًّا. لا أنكر أن الإنترنت يولِّد نماذج صحفية مضادة للثقافة بحق؛ لكنني مهتم هنا بالجزء الأكبر من صحافة الإعلام الجديد المستقلة الذي يتداخل مع الإعلام والسياسية التقليديين؛ لأن هذا هو المكان الذي تنشأ فيه الصحافة السياسية الشبكية.

يلعب الإنترنت بالفعل دورًا بارزًا في الحملات الانتخابية الأخيرة بالولايات المتحدة. الولايات المتحدة هي دولة غنية بالموارد، وهي أول من بادر بإدخال وسائل الإعلام الجديد؛ ومن ثم فما يحدث هناك هو أمر ريادي واستثنائي في الوقت نفسه، وهو يقدِّم لمحات عن المستقبل لا وصفات ينبغي اتِّباعها. أصبحت التغطية الصحفية والحملات الإلكترونية على الإنترنت عاملًا مهمًّا في الإعلام التقليدي وحملات الأحزاب الرئيسية، كما أتاح الإنترنت أيضًا خلق نظام النشاط السياسي المتمركز على الإنترنت والإعلام السياسي البديل. لكن هل يمكن وصف هذا بأنه صحافة شبكية؟ كون هيلاري كلينتون قد أطلقت حملتها عبر الإنترنت، لا يعني أن المدوِّنين أو موقع اليوتيوب قد أصبحا هما من يحدد التغطية السياسية الآن.

ثمة سيناريو معاكس في وستمنستر؛ إذ كثيرًا ما يرفض المدوِّنون السياسيون أية ادعاءات صحفية أو سياسية، ومع ذلك هم منخرطون عن كَثَب في التغطية الصحفية لسياسة البرلمان في المملكة المتحدة. هل سيشكل هذا نواة نوع جديد من الصحافة السياسية في المملكة المتحدة؟ تحرص السلطات على استخدام المنصات الإعلامية على الإنترنت كطريقة لتعزيز مشاركة الناخبين. أثمرت بعض التجارب الأخيرة مثل برنامج العريضة الإلكترونية لحكومة بريطانيا نتائج غير متوقعة. في المملكة المتحدة وأنحاء أوروبا يوجَّه الكثير من المال لدعم فكرة أن الإعلام الجديد قد يحيي اهتمام العامَّة بالسياسة. لكن بدون فهم الكيفية التي يجب أن يصبح بها الإعلام الإخباري أكثر اتصالًا حقًّا بالعامة، فمن الصعب رؤية الكيفية التي يمكن أن ينجح بها.

والمحك النهائي للعصر الجديد من السياسة المنقولة إعلاميًّا هو ما إذا كان بمقدورها أن تلعب دورًا في تطوير المناطق التي تشح بها الموارد التكنولوجية. تتبنى أفريقيا الآن إعلامًا جديدًا لكن بالخطى والطريقة الملائمة لاحتياجاتها، لقد تحققت خطوات هائلة للأمام في الديمقراطية في أفريقيا في العقود الأخيرة، لكن لا تزال هناك أزمة مساءلة وحوكمة في الكثير من أنحاء القارَّة. ويعني الفشل في إقامة صحافة تعددية ناجحة أن دور الإعلام في التطور السياسي الأفريقي لا يزال كامنًا وليس مؤكدًا. هل يمكن أن يناسب نموذج الصحافة الشبكية العملية الإعلامية في أفريقيا؟ أولًا، دعونا نلقِ نظرة على تأثير أشكال الصحافة الشبكية في الولايات المتحدة الأمريكية.

(٢) الصحافة الشبكية والسياسة الأمريكية

لدى الولايات المتحدة أكثر الأنظمة السياسية وأقلها ديمقراطية في العالم؛ فهي توفر لأي شخص مستعد للتصويت أو الاشتراك في الحملات أفضل السبل للوصول إلى خيار سياسي حر. ومع ذلك يعني إضفاء الطابع المهني الاحترافي على السياسة الأمريكية أنها قد أصبحت خاضعة بشدة لهيمنة المال لدرجة أن السلطة تشعر أنها متأثرة بجمع التبرعات أكثر من تأثُّرها بالنقاشات السياسية. هذه هي الأمة التي رادت معظم التقنيات الحديثة لمساندة الحملات الانتخابية. خبراء العلاقات العامَّة، والإعلانات التي تنتقد الأحزاب الأخرى، ووحدات خاصة بدحض الادعاءات، كلها ظهرت أول ما ظهرت بين فرق الحملات الانتخابية بالولايات المتحدة. في عصر تُنقل فيه المعلومات عبر الإعلام، كثير من تلك الممارسات موجَّهة مباشرة صوب الإعلام. وبالتأكيد، أصبحت الأجهزة السياسية في الولايات المتحدة، من خلال الدعاية التليفزيونية السياسية، هي الإعلام، وما من شك في أن الإعلام الجديد هو جزء كبير الآن من هذه العملية. لكن السؤال المثير للاهتمام هو: هل الإعلام الجديد يغيِّر العملية؟ إجابتي على هذا السؤال هي «نعم» فيما يتعلق بالعمليات، و«قريبًا» على السياق العملي، و«ربما» فيما يخص المبدأ.

الأرقام مذهلة بالفعل، الولايات المتحدة هي أمة رائدة في تبنِّي التكنولوجيا الحديثة. وفقًا لمنظمة بيو تراست للأعمال الخيرية، في الانتخابات الرئاسية لعام ٢٠٠٤ تمتَّع ٤٢ في المائة من الأمريكيين بخدمات النطاق العريض،9 واستخدم ٣٧ في المائة منهم الإنترنت للبحث عن معلومات سياسية،10 واتصل ١٣ مليون فرد بالإنترنت لتنفيذ مهامَّ سياسية مثل التبرع لمرشحين.11 وارتفع الإنفاق على الدعاية السياسية على الإنترنت من ٢٩ مليون دولار عام ٢٠٠٤ إلى ٤٠ مليون دولار في انتخابات التجديد النصفي لعام ٢٠٠٦. لكن هذا لا يزال يمثل ٢٪ فقط من إنفاقات الإعلام السياسي كافة — قارن هذا بالمليارَي دولار التي أُنفقت على إعلانات التليفزيون الأرضي. تشير فعليًّا الحملة الانتخابية لعام ٢٠٠٨ إلى أن تلك الأرقام ترتفع سريعًا، وسيقول نشطاء الإنترنت إن ثمة تأثيرات مختلفة تمارس عملها هنا. معظم هذه التأثيرات ستكون هامشية، لكن في عالم السياسة الهامشي هو المهم، فإذا كانت هناك بضع نقاط مئوية يمكن قلبها للطرف الآخر، إذن فمن الممكن أن تكسب حملة بأكملها أو تخسر قوة دافعة، وكما سنرى، فالمصوت المتأرجح هو الذي كثيرًا ما يقرر النتائج الختامية.

سيقول نشطاء الإنترنت أيضًا إن الطريقة التي يؤثرون بها على السياسة مختلفة تمامًا عن استخدام الحملات السابقة لوسائل الاتصالات؛ ففي الماضي كان هناك فرق ما بين الدعاية الانتخابية المباشرة التي يقوم بها الناشط المصوت وبين الدعاية الانتخابية التي يقوم بها الناشط الإعلامي؛ فقد كان عمل الأول ينطوي على توزيع المنشورات، والتماس أصوات الناخبين، وكتابة الخطابات، وتجميع بيانات الناخبين وحشدهم إلى الاجتماعات العامَّة. أما مهام الثاني فقد انطوت على الإعلانات التليفزيونية، وممارسة الضغط على الصحفيين، والظهور في وسائط الإعلام. يجمع الإنترنت الفئتين معًا؛ إذ يتيح البريد الإلكتروني، ومقاطع الفيديو على الإنترنت، ومواقع الويب، ومنتديات الويب للنشطاء، ونقل رسالتهم ثم الدخول في حوار مع المصوتين. يوفر الإنترنت للنشطاء فرصة سهلة لالتماس الأصوات والتحاور مع المصوتين دون الاضطرار إلى اللجوء إلى الإعلام التقليدي على الإطلاق.

بلا شك أروع مثال على ذلك هو مجموعة الضغط الليبرالية القائمة على الإنترنت «موف أون» وحملتها لتمكين هاورد دين من الترشح للرئاسة عن الحزب الديمقراطي في ٢٠٠٤. ما من شك في أن منتديات الويب مثل ذا ديلي كوس باتت الآن جزءًا من نسيج السياسة الأمريكية؛ حيث إنها قادرة على خلق الجدل وإدرار المال من أجل القضايا التي تتبناها.

ما يثير اهتمامي بالأخص ليس حركة البريد الإلكتروني الذي يتضمن دعوات لجمع التبرعات، إنما التفاعلية على الإنترنت الأكثر ارتباطًا بالمدوَّنات. من الصعب جدًّا فصلهما، وبالتأكيد أحد الجوانب الشيقة للإعلام الجديد والسياسة هو الطريقة التي يمكن أن يمتزج بها كلٌّ من نقل السياسة وجمع التبرعات والمناقشات والتشهير العادي معًا من خلال تشابك وسائل اتصالات الإعلام الجديد. على سبيل المثال، سوف ينشر أحد النشطاء مقطع فيديو فاضحًا على موقع يوتيوب ثم يضع رابطه في رسائل بريد إلكتروني لجمع التبرعات، وعندئذٍ كل ما عليك فعله هو أن تقف متفرجًا وتنتظر حتى يلتقط الإعلام التقليدي الخبر.

(٢-١) عقدٌ من قوة المدوَّنات

هذا ليس جديدًا بالمرة؛ فالولايات المتحدة لها باع عمره عقدٌ من الزمن مع مواقع الإنترنت والمدوِّنين الذين يؤثِّرون على الصحافة السياسية. في يناير ١٩٩٨ نشر موقع دردج ريبورت خبر علاقة كلينتون بمونيكا لوينسكي. ورغم كونه خبرًا كان الإعلام التقليدي قد اكتشفه إلا أنه لم يُعلن عنه، كما يوضح المنشور الأصلي على الموقع:
علم موقع دردج ريبورت أن المراسل الصحفي مايكل إيزيكوف قد أعدَّ أهم خبر في حياته المهنية، لكن إدارة صحيفة نيوزويك رفضت نشر الخبر قبلها بساعات، فتاة بالغة من العمر ٢٣ عامًا متورطة في علاقة جنسية مع حب حياتها، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية منذ أن كانت متدربة عمرها ٢١ عامًا بالبيت الأبيض. كانت مونيكا زائرًا كثير التردد على مكتب صغير قريب من المكتب الرئاسي حيث تدَّعي أنها كانت تلبِّي رغبات الرئيس الجنسية. (مات دردج، دردج ريبورت)12
وفي ٢٠٠٥ استقال السيناتور ترنت لوت بعد التعليقات التي صرح بها وتتضمن تأييده للفصل العنصري، وكان قد صرح بتعليقاته الفعلية في حدث غطَّته قناة سي-سبان المدفوعة التي تغطي الأخبار السياسية. غير أن الإعلام التقليدي لم يتابع الخبر، وإنما تُرك الخبر للمدوِّنين أمثال إتريوس للتعبير عن استيائهم ولتقصِّي الحقائق وقرنها بالسياقات.13 وكشف المدوِّنون عن مناسبات سابقة أبدى فيها لوت ملاحظات مماثلة. تحول هذا من تعليق طائش صدر مرة واحدة سهوًا إلى نمط سلوكي، وفي هذه اللحظة عاد المراسلون السياسيون إلى ساحة المعركة، وأُجبر لوت على سحب كلامه والاستقالة من منصبه كزعيم أغلبية. لم «يَنل» المدوِّنون من لوت بمفردهم، لكنهم أَجبروا الإعلام التقليدي على القيام بدوره.14
هاجم المدوِّنون أيضًا الصحفيين أنفسهم؛ ففي سبتمبر ٢٠٠٤ استقال معلق الأخبار الشهير بقناة سي بي إس الإخبارية دان راذر بعد أن أثبتت المدوَّنات على ما يبدو أن خبرًا قُدِّم في برنامج «٦٠ دقيقة» (سيكستي مينتس) استند إلى أدلة زائفة غير مؤكدة فيما بات معروفًا بواقعة «وثائق كيليان». وتستحق التدوينة المنشورة على المنتدى الشبكي فري ريبابليك freerepublic.com القراءة بالكامل، ويبرهن مؤلفها «بكهيد» بكل وضوح على الكيفية التي يتيح بها الإنترنت للناشط استغلال معرفة «الهاوي» المتخصصة:

كل مذكرة من هذه المذكرات مكتوبة بخط متناسب المسافات ربما باستخدام نوع الخط بالاتينو أو تايمز نيو رومان.

في عام ١٩٧٢ استخدم الأشخاص الآلات الكتابة لمثل هذه النوعية من الوثائق، وكانت الآلات الكاتبة تستخدم خطوطًا ثابتة المسافات.

لم يأت استخدام الخطوط ذات المسافات المتناسبة إلى حيز الاستخدام العام في مذكرات المكاتب إلا مع اختراع طابعات الليزر وبرامج معالجة الكلمات والكمبيوترات الشخصية، التي لم يكن أيٌّ منها منتشرًا حتى الفترة ما بين منتصف وأواخر تسعينيات القرن العشرين … أؤكد أن هذه الوثائق مزيفة، وقد أعيد نسخها مئات المرات عبر آلة التصوير كي تبدو قديمة.

ينبغي تعقب هذه القضية بلا هوادة. (بكهيد على موقع فري ريبابليك دوت كوم)15
لا يزال راذر يشكك في قرار طرده من قناة سي بي إس وحقائق هذه القضية، إلا أن هذه القضية قطعًا تبرهن على الجهود والمهارات التي يمكن أن يستخدمها المدوِّنون في نقدهم للإعلام التقليدي. وفي فبراير ٢٠٠٥ اضْطُرَّ الرئيس التنفيذي لقطاع الأخبار بمحطة السي إن إن إيسن جوردان إلى الاستقالة بعد حملة على الإنترنت ثارت بسبب زعمه أن جنود الولايات المتحدة كانوا «يستهدفون» الصحفيين في العراق. كان هذا تعليقًا استثنائيًّا صدر عنه أثناء اجتماع مداولة خاص في المنتدى الاقتصادي العالمي. ومن المفارقة أن الخبر نُشر أول ما نُشر من خلال تدوينة لأحد حضور الاجتماع على المدوَّنة الخاصة بالمنتدى. كان المدوِّن المعتمد رسميًّا هو روني أبوفيتز وهو رائد في مجال التكنولوجيا مقيم في فلوريدا. وسرعان ما وصل التعليق إلى المعلقين والمدوِّنين اليمينيين الذين شنوا عاصفة من التدوينات التي تعجُّ بالغضب والغيرة الوطنيين.16 وكان الاجتماع يسير وفق «قاعدة دار تشاتام» التي بموجبها لا يمكن الاقتباس مباشرة من أقوال الحضور، وبموجبها أيضًا لم ينشر المنتدى الاقتصادي العالمي أبدًا شريط تسجيل بما قاله إيسن. وجاء في نص استقالة إيسن: إن «تعليقاتي حول هذا الموضوع في اجتماع مداولة المنتدى الاقتصادي العالمي لم تكن واضحة كما ينبغي.» وعلى غرار كثيرين ممن نطقوا بكلام غير لائق في الإعلام التقليدي ووجدوا أن حياتهم المهنية قد تدمرت، اكتشف إيسن أن الإنترنت هو بالمثل وسيط ليس بهيِّن يمكنه الوصول إلى أماكن لم يصلها الإعلام القديم قط.
ثأر الليبراليون لأنفسهم في فبراير ٢٠٠٥ عندما كشف موقع ميديا ماترز فور أمريكا Media Matters for America ذو الميول اليسارية حقيقة جيف جانون. من المفترض أن جانون — اسمه الحقيقي دوكرت — صحفي مختص بمتابعة وكالات الأنباء في السلك الصحفي بالبيت الأبيض، غير أن مدوِّنين ليبراليين كشفوا أنه ناشط جمهوري مزروع في قلب المجموعة من أجل طرح الأسئلة «السهلة» في مؤتمرات البيت الأبيض الصحفية التي تشهد عادةً طرح أسئلة عسيرة، والمفارقة هي أن المدوِّنين الليبراليين وجدوا أنفسهم يفضحونه لكونه مثليَّ الجنس ومدونًا،17 لكن كان من الواضح أنه ليس صحفيًّا «رسميًّا» محترفًا كما ادعى. تلك هي مفارقات عصر الإنترنت.

(٢-٢) ليبرمان ولامونت: الإنترنت يكسب ثم يخسر ثم يكسب

في صيف ٢٠٠٦ خسر عضو مجلس الشيوخ لثلاث فترات والمرشح الرئاسي والنائب الرئاسي السابق جوزيف ليبرمان انتخابات عضوية مجلس الشيوخ للحزب الديمقراطي عن ولاية كونيتيكت أمام مرشح مجهول نسبيًّا هو نيد لامونت. أدت حملة متمركزة على الإنترنت — شنَّها ناشطون ديمقراطيون متَّقدو الحماس ومناوئون لمواقف ليبرمان المؤيدة لحرب العراق وسياسات بوش وإسرائيل — إلى حملة عالية التأثير وقاسية في أوقات كثيرة ضد السيناتور على الإنترنت. نال نيد لامونت الدعم المحلي والقومي من عالم المدوَّنات السياسية الليبرالية من ناحيتي التبرعات المالية والدعاية السياسية على حدٍّ سواء. كان معظم هذا الدعم في صورة حملات مباشرة لكنها تمَّت على الإنترنت بدلًا من الاتصال الهاتفي أو توزيع المطبوعات الدعائية. على أن الإنترنت جرى استخدامه أيضًا كقناة اتصالات؛ فقد فتح منتدى جديدًا للنقاش ساعد في تشكيل طبيعة الحملة. كانت أرض المعركة هي الإنترنت مثلما كانت عتبة أبواب المصوتين، وانتشرت الصورة المزيفة ومقاطع الفيديو المشوِّهة للسمعة والحرب الكلامية في كل الأرجاء.

وقبل الاقتراع في كونيتيكت بيوم واحد مباشرة، تعطَّل موقع الحملة الدعائية لسيناتور ليبرمان، وتراشق كلا الجانبين الاتهامات؛ فقد قال البعض إن حملة لامونت قد اخترقت الموقع، والبعض الآخر قال إن ليبرمان نسي أن يسدد المستحقات المالية اللازمة لتشغيل الموقع. أصبحت صفحة ليبرمان على ويكيبيديا مكانًا آخر للمناوشات السياسية، فيما حاول الناشرون المناوئون إعادة تحرير السيرة الذاتية للسيناتور على الإنترنت. وفي وقت ما نشر موقع ديلي كوس صورًا متجاورة من إعلان تليفزيوني لليبرمان، وتقول الكتابة المجاورة للصور إنها تصوِّر شروق الشمس، لكن خصومه الدءوبين على الإنترنت أثبتوا أنها كانت تصور فعليًّا غروب الشمس. كان هذا بمنزلة انتصار رمزي، لكنه عظَّم أيضًا المغزى الذي يشير إلى أن ليبرمان لم يكن مؤيدًا كبيرًا للجناح الأيمن فحسب بل ومخادعًا أيضًا.

أظهر انتصار لامونت في الانتخابات التمهيدية أن الحملات التعبوية على الإنترنت تتمتع بالقدرة على طرح تحديات خطيرة أمام أصحاب مناصب كانوا يعتبرون أنفسهم فيما مضى في مأمن. كان المدوِّنون يتصرفون مثل الصحفيين الهجوميين. لقد كانوا يصنعون تقاريرًا عن ليبرمان بطريقة في غاية التحيز لكن هذا كان يُخضعه لتدقيق حقيقي لم يكن الإعلام التقليدي ليجربه قط. كان هؤلاء الناشطون يقومون بنوع من الصحافة، لقد كانوا يغطُّون ما فعله ليبرمان، ومن ذلك «قبلة» جورج بوش الشهيرة لملك السعودية، تلك الصورة التي دامت وانتشرت بغزارة بفضل الإنترنت.18 كان النشطاء يصنعون أيضًا صحافة تحليلية — وإن كانت في غاية التحزب — في محاولة لشرح لماذا كان خصومهم يفعلون ما كانوا يفعلونه ويقولون ما كانوا يقولونه.

من ناحية ما، هذا توجهٌ تطوَّر مع الإنترنت، وجدَتْ مؤسساتٌ إعلامية أخرى متحيزة سياسيًّا مثل فوكس نيوز جمهورًا جاهزًا لتغطية مدفوعة أكثر بأيدلوجية فكرية. لطالما كان مجال السياسة بالولايات المتحدة ماهرًا في خلق أطراف لها مصالح وفي التعامل معها. يتيح الإنترنت الآن والتكنولوجيا الرقمية للإعلام الإخباري الانضمام إلى تعددية مجموعات الضغط، ولطالما كان تقديم التنازلات لمجموعات الضغط التقليدية استراتيجية ضرورية لساسة الولايات المتحدة إن كانوا يريدون البقاء؛ ويرجع ذلك إلى سبب في غاية الوضوح: فجماعات الضغط هي التي تملك الثروة والنفوذ لمساندة الأشخاص المحتملين الذين يمكن الاستعاضة بهم. غير أن ما أثبتته حملة ليبرمان ولامونت هو أن الحملات التعبوية على الإنترنت قد اكتسبت ذلك النفوذ أيضًا، والنفوذ الذي يتمتع به نشطاء الحملات التعبوية على الإنترنت متشعب. وتتمتع جماعات المصالح التقليدية بنفوذ مالي نابع من مجموعة من الأفراد الأثرياء، غير أن نشطاء الحملات التعبوية على الإنترنت بمقدورهم خلق نفوذ مماثل من خلال أعدادهم الهائلة. حصلت حملات نيد لامونت على أغلب تمويلها من التبرعات المعتمدة على المدوَّنات. إن مجموعات المصالح التقليدية قادرة على دعم مرشحهم المختار بالتمويل اللازم للتعامل مع العلاقات العامَّة والمهام الإعلامية، لكن نشطاء الحملات التعبوية على الإنترنت استغلُّوا إمكانيات الإعلام الجديد؛ فقد أعدُّوا مقاطع الفيديو والتقارير والادعاءات ونشروها كلها عبر شبكاتهم، ومع التفاف حشود من وسائل الإعلام التقليدي حول المدوَّنات، يتزايد تأثير هذا المحتوى الذي يُعدُّه المستخدم.

وتلعب المدوَّنات الآن دورًا في تحديد معايير الجدل. كان المدوِّنون مُصرِّين على أن موقف ليبرمان المؤيد لحرب العراق يستوجب التشكيك في صحته، وهكذا وُضعت معايير الانتخابات على أساس المؤيدين والمناهضين لحرب العراق. لم يكن لدى ليبرمان خيار حقيقي فيما يخص إلى أي جانب سينحاز، ومع ذلك ظل الجدل نفسه في أيدي الساسة، فالسياسات لا يصنعها صخب الجدل على مدوَّنة، لكن لكي يستطيع ساسة الولايات المتحدة صنع هذه السياسات، فإنهم سيحتاجون باطراد أن يعملوا في إطار الحدود التي يضعها نشطاء الحملات التعبوية على الإنترنت.

وبالطبع فاز جو ليبرمان بولاية كونيتيكت الآن كنائبٍ «مستقل»، منتصرًا بذلك على نيد لامونت، ويوضح هذا أن نشطاء الحملات التعبوية والمدوِّنون قطعًا ليسوا خارقي القوة. إن أحد جوانب الحملات التعبوية على الإنترنت كان عاملًا من عوامل فشلها؛ فعندما انتقلت الانتخابات إلى ساحة المشاركة العامَّة ضعف تأثير الإنترنت، مقارنة بتأثيره في مجتمع الديمقراطيين الأكثر اتصالًا بالشبكة والمؤهلين للتصويت في الانتخابات، ومع ذلك فلا يمكن تجاهله. وتشير كل الدلائل من الانتخابات التمهيدية لاختيار مرشح ديمقراطي للرئاسة إلى أن مجال المدوَّنات هو عامل متزايد التأثير، وفي الوقت نفسه يأخذ هذا المجال الطابع المهني مع وضع هيلاري كلينتون أفلام هواة زائفة على يوتيوب.19 إن حملات التعبئة على الإنترنت هي النوع الجديد من الحملات الذي سيسود في المستقبل.

(٢-٣) تغطية يوتيوب السياسية

في وقت من الأوقات كان التدوين يقوم في الأساس على النصوص المكتوبة، لكنه الآن يعتمد بشكل متزايد على مقاطع الفيديو على الإنترنت؛ فبمقدور أي شخص أن يكتب، لكن بالنسبة لثقافة تعتمد على التليفزيون فإن قوة الصور المتحركة هي التي لها التأثير المباشر الأكبر. والأمر المهم بشأن هذه المقاطع هو أنها لا تختفي، وفيما مضى، كان تأثير التعليق العدواني نحو ناشط سياسي مزعج في موقف السيارات يدوم فقط طوال مدة إذاعة الشبكات الإعلامية للمشهد المصور، أما الآن فيتم نسخ تلك المقاطع المصورة على الأقراص الصلبة في كل أنحاء العالم ويشاهدها آلاف المستخدمين مرارًا وتكرارًا. وما من شيء بمقدور الحملة أن تفعله لإزالة هذه المقاطع، بل كل ما يمكنها فعله هو الرد بالطريقة ذاتها، وأن تأمل أن يكون خصمها ضحية لعدد أكبر من مقاطع الفيديو مما يرجح الكفة لصالحها. وبهذا المعنى كانت انتخابات التجديد النصفي لعام ٢٠٠٦ نقطة تحوُّل أخرى للإنترنت. لم يكن يوتيوب موجودًا أثناء انتخابات عام ٢٠٠٤ لكنه الآن ربما ساعد في تحديد الفائزين بمقاعد مجلس الشيوخ؛ ومن ثم إيجاد رئيس محدود الصلاحيات.

توقف سباق السيناتور جورج ألان الانتخابي في فيرجينيا على بضعة آلاف صوت وحسب. كم عدد الأشخاص الذين قاموا بتنزيل مقطع الفيديو المشين الموجود على موقع يوتيوب الذي كان يصوره بينما يستخدم لغة عنصرية؛ حيث كان يستخدم لفظة «ماكاكا» — والتي تعني: قردًا — لنعت أحد المتطوعين في الحملة المناوئة الذي كان يصور خطاب ألان في جولته الانتخابية؟ الإجابة قرابة ٤٠٠ ألف شخص.20 ومقطع فيديو آخر يصور أفراد الأمن بحملته وهم يدفعون بقسوة أحد المدوِّنين الليبراليين، شاهده ١٨٠ ألف شخص. ولا يمكن على الإطلاق أن يكون كلُّ من شاهدوا هذا الفيديو مؤيدين للحزب الديمقراطي أو أشخاصًا من خارج الولاية؛ فقطعًا كثيرون منهم كانوا مؤيدين محتملين لجورج ألان واقتنعوا بعدم التصويت له بعد ما رأوه، وقطعًا الأشخاص الذين حمَّلوا مقطع الفيديو تحدثوا عنه وأرسلوه عن طريق البريد الإلكتروني إلى آخرين؛ وعليه، فقد انتشر تأثيره، وتضاءلت فرص فوز ألان.
كانت انتخابات ٢٠٠٦ بولاية ميزوري مثالًا آخر على الربح عبر استمالة الأصوات المتأرجحة؛ حيث حسمها ٢٠ ألف ناخب متأرجح. قدَّم الممثل مايكل جيه فوكس، الذي يعاني من داء باركنسون، إعلانًا تليفزيونيًّا مساندةً للمرشحة الديمقراطية كلير ماكسكل، التي تدعم الأبحاث في مجال الخلايا الجذعية، إلا أن ذلك لم يَسْتَرْعِ الكثير من الانتباه، إنما ما استرعى الانتباه هو مقطع فيديو هجومي من النوع الذي يستخدم لغة غير لائقة لمقدِّم البرامج اليميني راش ليمبو على قناة فوكس، ألمح فيه إلى أن الممثل السابق كان يغالي في وصف آثار حالته المرضية. حمَّل هذا الفيديو أكثر من ١٫١ مليون شخص، وقطعًا كانت تعليقات ليمبو ودحض مايكل جيه فوكس الوقور لهذه الادعاءات كافيَين لمساعدة كلير ماكسكيل في ضمان الفوز على خصمها مرشح الحزب الجمهوري جيم تالنت.21 عنى انتصار ماكسكيل بمساعدة الإنترنت فقدان الجمهوريين السيطرة على مجلس الشيوخ.
إن نشر مقاطع فيديو على موقع إلكتروني — سواء أكان من صنع المستخدم مثل حادثة «ماكاكا» لجورج ألان، أم مأخوذًا عن الإعلام التقليدي مثل مقطع ليمبو — هو جانب من جوانب المشهد، لكن ما شهدناه في آخر حملة رئاسية هو أيضًا تفجُّر لطاقات الإبداع في مقاطع الفيديو السياسية على الإنترنت. ومن الصعب للغاية تحديد كم من هذه المقاطع يعدُّ إعلامًا حقيقيًّا من صنع المواطن مقارنة بالمقاطع المركبة الخبيثة سريعة الانتشار التي يعدها أفراد الحملات المناوئة. هل مقطع فيديو «فتاة أوباما» هو أمر في صالح السيناتور أوباما أم ضده؟22 قطعًا يظهره الفيديو في إطار جيد ويضيف حسًّا من الفكاهة إلى صورته.
وصل هذا إلى ذروته في مناظرات المرشحَيْنِ الرئاسيين التي أعدتها قناة السي إن إن بالتعاون مع يوتيوب في يوليو ٢٠٠٧ (انظر شكل ٣-١). نشر أكثر من ٣٠٠ شخص أسئلتهم المسجلة بالفيديو، لكن السي إن إن اختارت من بينها ٣٩ سؤالًا فحسب للبرنامج الذي مدته ساعتان، وكان هذا مزيجًا غريبًا ما بين الإعلامين التقليدي والجديد، حفظ للسي إن إن حق التحكم في المحتوى الصحفي، غير أنه أتاح أيضًا تسلل موضوعات أكثر إثارة بعض الشيء إلى المناظرة، وقطعًا أدى إلى عرضها بطريقة مختلفة. كانت هناك أسئلة عن الصحة من أخوين يرعيان أباهما الذي يعاني من داء ألزهايمر؛ وعن دارفور من أمريكي في معسكر للاجئين؛ وعن قوانين تنظيم حيازة السلاح من رجل يحتضن بندقية واصفًا إياها ﺑ «رضيعه». رأى جو تريبي أحد أفراد حملة المرشح جون إدواردز أن المناظرة نجحت نجاحًا غير محدود، وقال ديفيد أكسلرود، الخبير الاستراتيجي الذي يعمل لصالح أوباما، إن أوباما «استمتع بالمناظرة؛ فهو يظن أن الشعب الأمريكي قد حُرم من المشاركة في سياسة واشنطن.» غير أن المدوِّن جيف جارفيس يرى أن هناك فرصة ضاعت:
إن الأسئلة التي اختارتها السي إن إن كانت … تافهة وغير ناضجة وعقيمة وسخيفة: رفع أحد السائلين عملة وطلب من المرشحين تعريف الكلمات المكتوبة عليها — «بالله نؤمن». سألت دمية مصنوعة من جورب على شكل رجل الجليد عن الاحترار العالمي … لم يمتزج الإعلام التقليدي والإعلام الجديد معًا بشكل متناغم. عرضت السي إن إن مقاطع فيديو يوتيوب في مربعات صغيرة على شاشة كبيرة مصورة بكاميرا كبيرة؛ مما أدى إلى تصغير حجمها في النهاية لتبدو في حجم طوابع البريد على شاشاتنا. وعلى ما يبدو كانت شبكة السي إن إن خجلة من عرض مقاطع الفيديو ملء الشاشة لأنها لن تبدو كإعلام تليفزيوني حقيقي، وهذا بالطبع هو بيت القَصِيد؛ فهي لم تكن إعلام تليفزيون حقيقيًّا، بل كانت قصاصات من حديث. (جيف جارفيس، معلِّق إعلامي)23
fig5
شكل ٣-١: المناظرة التي تمت بالتعاون ما بين سي إن إن ويوتيوب — يقف المرشحون على منصاتهم الخاصة أثناء مناظرة المرشَّحَيْنِ الرئاسيين الديمقراطيين التي أعدتها سي إن إن بالتعاون مع يوتيوب في الثالث والعشرين من يوليو ٢٠٠٧ بكلية سيتادل العسكرية بتشارلستون، كارولاينا الجنوبية (تصوير تشيب سوموديفيلا، حقوق النشر محفوظة لموقع جيتي إيمدجز).

أعتقد أن جيف جارفيس كان قاسيًا بعض الشيء بل وربما متزمتًا قليلًا، ولعل أهم إنجاز لمناظرة سي إن إن ويوتيوب كان أنها تمكنت من جلب السباق الديمقراطي إلى جمهور أوسع وأصغر سنًّا على الإنترنت. ولعلها حملتهم على إمعان التفكير في الطريقة التي سيعرضون بها آراءهم السياسية في المستقبل. وفي الوقت الحالي فإن معظم مقاطع الفيديو الخاصة بالأحزاب السياسية على يوتيوب هي مجرد مقاطع مأخوذة من تغطية الإعلام التقليدي أو إعلانات الحملات. وسيتعيَّن على الساسة في المستقبل أن يكونوا أكثر إبداعًا إن كانوا يرغبون في الانضمام إلى الحوار الأوسع الذي يدور على الإنترنت.

يظن المدوِّنون في الولايات المتحدة أن عام ٢٠٠٨ هو عامهم. يظل الإعلام التقليدي مملًّا وغير ملهم باستثناء فوكس نيوز أو برنامج جون ستيوارت «ذا ديلي شو» (العرض اليومي)، وفي مواجهة نسب المشاهدة المنخفضة يتمسك السلك السياسي بقوة بالصيغ المُجربة والمثبتة؛ ولهذا السبب أنشأت ملكة التدوين السياسي الليبرالي التي نصبت نفسها في هذه المكانة آريانا هافينجتون مشروعًا بالتعاون مع الملك الأكاديمي لخطاب الإنترنت جاي روزن، ويهدف المشروع إلى إنشاء شبكة مدوَّنات من الصحفيين المواطنين لتقديم التقارير عن الحملة، ولهذه الشبكة من المدوَّنات بيان تأسيسي جريء:
سيسعى مراسلونا المتطوعون إلى تقديم أخبار حقيقية تسير في الاتجاه المعاكس للإجماع الموحد الذي كثيرًا ما يرمينا به الإعلام التقليدي، وسوف يستمدُّون إلهامهم من الجهود التصاعدية التي يبذلها الصغير قبل الكبير … وإذا ما أُتيحت الظروف المواتية، فإن المجموعات الكبيرة من الأفراد ستكون أذكى من النخبة القليلة. (هافينجتون بوست دوت كوم، Huffingtonpost.com)24

هي حقًّا محاولة شجاعة ومثيرة لحشد وتركيز جهود صحافة المواطن بما يتيح تحقيق تأثير حقيقي على الطريقة التي تُغطى بها الحملة الانتخابية. ويختلف هذا تمام الاختلاف عن العواصف الهجومية التي أثارها المدوِّنون من تلقاء أنفسهم التي ذكرتها أعلاه، فتلك محاولة لتوحيد مجال التدوين ما لم تكن لإضفاء الطابع المؤسسي عليه، وعندها تصير صحافة شبكية.

وقطعًا يتفق المرشحون الرئاسيون على أن مجال التدوين ضروري؛ فكل الحملات الانتخابية الآن لها مديرو حملات تفاعليون أو مختصُّون بشبكة الإنترنت، وجميع الديمقراطيين الواعدين قد اتجهوا إلى المحفل التدويني السياسي وهو الملتقى السنوي الذي يعقده موقع ديلي كوس. لكن فيما يُجري المدوِّنون والسياسيون ملتقاهم الذي يعبِّرون فيه عن شغفهم، من الممكن أن ينصرف الجمهور والمصوتون إلى مكان آخر. يزور المصوتون المنتظمون الصفحات السياسية على مواقع شبكات التواصل الاجتماعي مثل ماي سبيس وفيسبوك أكثر مما يزورون المدوَّنات السياسية الجادة. ربما لا تضع هذه الصفحات الأجندات السياسية، لكنها بلا شك توجد حيث يدور العدد الأكبر من المحادثات الشخصية. ويعرف المرشحون الرئاسيون هذا، وقد أنشئوا كلهم صفحات شخصية لهم على هذه المواقع، والتعليقات التي يكتبها الزوار على هذه الصفحات هي نفحة منعشة. حتمًا هناك تعليقات هدامة، ومن الواضح أن المرشحين ليس لديهم متسع من الوقت للرد عليها، ومن هذا المنطلق هم لا يندمجون تمامًا مع روح هذا النوع من التفاعل. ومع ذلك، فأي شخص يقرأ الحوار التفاعلي على مواقع المرشحين الديمقراطيين الثلاثة الأساسيين25 لا يسعه سوى الانبهار بتنوع الأشخاص، ونطاق الآراء، وأصالة ما يُعَبِّرون عنه. صحيح أنها دردشة وليست مناظرات عميقة، لكنها تشير إلى ترابط لا يمكن أن يقدِّمه سوى الإنترنت. ومن هذه الناحية أظن أن جيف جارفيس محقٌّ في رأيه العام الذي يشير فيه إلى أن الإنترنت «يتيح الفرصة لإقامة حوار بين المرشح والمصوت لم يكن ممكنًا قبل الإنترنت.»
يشكك مات باي في كتابه «الحجة» في نجاح الإنترنت في تغيير السياسات الفعلية. لكنه ليس لديه أدنى شك في أنه غيَّر السياسة:
لا يهم إن كان قرَّاء المدوَّنات الليبرالية يصلون إلى ٥٠٠ ألف قارئ أم إلى ٥ ملايين قارئ، ومع ذلك، فكثيرون ممن يتابعون مدوَّنات مثل ديلي كوس هم الأفراد الأكثر اهتمامًا بالسياسة؛ ومن ثم كانوا الأكثر احتمالًا للترويج للمدوَّنات بين كل معارفهم، وأدى ظهور الإنترنت عريض النطاق إلى جعل التسويق الفيروسي عبر الإنترنت الطريقة الوحيدة الأكثر فاعلية لتوصيل فكرة لعملاء محددين، والمدوَّنات السياسية تكاد تعادل إنفلونزا الطيور في سرعة انتشارها الفيروسي. (مات باي، «الحجة»)26

يتيح البريد الإلكتروني، ومقاطع الفيديو على الإنترنت، ومواقع الويب، ومنتديات الويب للنشطاء نشر رسائلهم ثم الاشتراك في حوار مع المصوتين ووسائل الإعلام الإخبارية. ويتيح الإنترنت للصحفيين فعل الشيء نفسه في تغطيتهم الصحفية. هذه هي الصحافة الشبكية، والمسألة المهمة هي هل سيؤدي هذا إلى سياسة أكثر تشابكًا، وهل هذه السياسة سوف تثمر عن سياسات وحوكمة مختلفين؟ بلا ريب سيمنحنا السباق الرئاسي لعام ٢٠٠٨ بعض الخيوط، لكن التغيرات الجوهرية في السلطة سوف تحتاج كي تظهر إلى وقت أطول مما يَسْمَح به التاريخ القصير للعلاقة بين الإنترنت ومجال السياسة في الولايات المتحدة.

(٢-٤) الصحافة الشبكية والسياسة البريطانية

لا بد من المجاهرة بالحقيقة الواضحة البسيطة التي تقر بأن هذا الجيل لديه القدرة على تدمير الجنس البشري، لكن بسبب التكنولوجيا والتقدُّم العلمي، فإن لديه القدرة أيضًا على إنقاذه، والمعلومات التي نحصل عليها بشأن هذا الاختيار هي جزء لا يتجزأ من دور الصحفي وضرورية من أجل بقائنا. (توني بن)27
قلَّما يستهوي الساسةَ البريطانيين الانغماسُ في حديثٍ جادٍّ حول الإعلام الجديد؛ وعليه، فمن المثير للاهتمام أن السياسي الاشتراكي المحنَّك توني بن قد أظهر اهتمامًا كبيرًا بالأهمية السياسية للإنترنت:
من الواضح بشدة أن الإنترنت يمثل خطرًا جسيمًا على الامتيازات التي ينعم بها الموسرون وذوو النفوذ، وإن تسليط الضوء على الجريمة والمخدرات والمواد الإباحية الذي تم استغلاله لتبرير قمع الإنترنت إنما هو يهدف في الحقيقة إلى قمع المعرفة بالبدائل السياسية الجذرية المتاحة الآن. (توني بن)28
كان السيد بن في السلطة في آخر مرة ثارت حماسة أحد رؤساء وزراء بريطانيا، هارولد ويلسون، بشأن «التأثير المذهل للتكنولوجيا»، وقد أسفر هذا الحماس عن طائرة الكونكورد الأسرع من الصوت التي تتجاوز تكلفتها قيمتها، لكن هذه المرة يرى السيد بن أن الابتكار التكنولوجي سوف يؤدي إلى منافع سياسية بالإضافة إلى المكاسب الاقتصادية. وثمة سياسيون آخرون ممن يتبوَّءون الآن مناصب كبيرة في الحكومة — مثل وزير الخارجية البريطاني الحالي ديفيد ميليباند — خاضوا مجال التدوين، ويظهر أنهم واعون بعصر المعلومات الجديد. وفي واقعة شهيرة اعترف رئيس الوزراء السابق توني بلير أنه كان يعرف بالكاد كيف يستخدم الكمبيوتر لدى توليه قيادة حزب العمال، فما بالك بالقيام بعمليات بحث عبر الإنترنت، لكنه سرعان ما أدرك هو وإدارته أهمية مكاسب التكنولوجيا الرقمية:
ليس هناك اقتصاد جديد، وإنما هناك اقتصاد واحد تغير بالكامل بسبب تكنولوجيا المعلومات. ما يحدث ليس بدعة إلكترونية ستظهر ثم تضمحل، إنها ثورة اقتصادية عميقة. (توني بلير، من حديث له كعضو في البرلمان)29
وضع توني بلير جميع الخدمات الحكومية على الإنترنت وسعى إلى إقناع نظام التعليم ومجال الأعمال بمنح الأولوية للاستثمار والتدريب الرقميين، ومع ذلك، فلا أعتقد أنه فكر قط في آثار الإنترنت على الطريقة التي سوف يُغطى بها مجال السياسة نفسه إعلاميًّا، وفيما ترك السلطة عام ٢٠٠٧ بدا أنه كان مصابًا بخيبة أمل في الإعلام الجديد والسياسة مثلما كان منزعجًا من الإعلام الإخباري ككل، بل وبلغ به الأمر أن يؤيِّد الرقابة المتزايدة على صحافة الإنترنت:
فيما تؤدي التكنولوجيا إلى طمس الخط الفاصل بين الصحف والتليفزيون، يزيد لاعقلانيتها وجود أنظمة مختلفة للمساءلة حسب نوع التكنولوجيا؛ إذ لم يعد من الممكن التفريق بين أنواعها بالطريقة القديمة. (توني بلير، من حديث له كعضو في البرلمان)30

تُرى أيهما على صواب: توني بلير أم توني بن؟ في ظل ديمقراطية ناضجة ومتصلبة، كما سيقول البعض، مثل ديمقراطية بريطانيا، ثمة حس بأن السياسة والصحافة مرتبطان معًا في عناق قاتل، فرقصة الدعاية المتحيزة والتشويه أصبحت رقصة الموت. ويزداد سخط العامَّة على السياسة وعلى التغطية الإعلامية التقليديين. هل يقدِّم الإنترنت الفرصة لبث الحياة من جديد في هذه العلاقة؟ هذا أمر مهم؛ لأنه بالرغم مع الحديث المنتشر عن الديمقراطية الإلكترونية والحكومة الرقمية المباشرة، لا يزال أغلب الخطاب السياسي يجري عبر الإعلام، وفيما يزداد الإعلام تعقيدًا واتصالًا بأشكال الاتصالات الأخرى، تظهر ديناميكية جديدة. دعونا نلقِ نظرة على إحدى دراسات الحالة لهذه العلاقة الجديدة.

(٢-٥) «صاحب سيارات الجاجوار الثلاث» والمدوِّنون

تنتشر أخبار الآن عن مؤامرة يحيكها مدونون تُحركهم دوافع سياسية لتلطيخ سمعة بريسكوت. لكن الواقع هو أن الحقيقة ذاتها هي ما يحطُّ من شأن بريسكوت … الحقيقة هي أن نظامنا السياسي فاسد، ويُسمح للساسة بالإفلات من العقاب بفضل صحفيي جماعات الضغط الذين جُرِّدوا من قوتهم والذين يُؤْثِرون الحفاظ على علاقتهم الطيبة مع الساسة على إطلاع قرَّائهم على الحقائق الكاملة. (بول ستينز المعروف أيضًا باسم «جاي فوكس»)31

هذه قصة نائب رئيس الوزراء البريطاني السابق جون بريسكوت، وسكرتيرته تريسي، وملياردير أمريكي، ومدوَّنة مسماة تيمُّنًا بإرهابيٍّ عاش في القرن السابع عشر (جاي فوكس). هي قصة رجل أعمال أمريكي، وعلاقة جنسية بين زميلَي عمل، وقبَّة الألفية. وهي أيضًا تلك اللحظة التي أكدت فيها المدوَّنات على اضطلاعها بدور صغير في الصحافة السياسية في بريطانيا. وسيقول البعض إن المدوِّنين كانوا مجرد عامل صغير، لكن في رأيي أنهم — بالإضافة إلى بعض عوامل التكنولوجيا الرقمية الأخرى — يتيحون الفرصة لشكل أكثر اتصالًا من الصحافة السياسية. كانت القصة شأنًا بريطانيًّا للغاية. إن سياسة وستمنستر هي شأن إقليمي ومركزي على نحو استثنائي، والإعلام القومي للمملكة المتحدة غريب من حيث إنه متمركز على نحو حصري في العاصمة، ويقع مقر الإعلام السياسي في قلب المربع القديم من وستمنستر، لكنني أظن أن هذه القصة والطريقة التي عُوملت بها توضح حقًّا الكيفية التي ستتغير بها التغطية السياسية فيما يتعلق بكل الديمقراطيات البرلمانية بينما يتجه تبادل المعلومات إلى الإنترنت، ويبرح الجدل دهاليز السلطة إلى الكابلات المحورية للإنترنت.

التفاصيل الفعلية لدراسة الحالة هذه معقدة، ولا يزال الكثير منها مطويًّا في غيابات الإنكار والتلميحات الغامضة. ولا ينبغي للقرَّاء الذين لم يسمعوا بهذه القصة أو لا يألفون السياسة البريطانية أن يقلقوا. استرخِ وانْعَمْ برواية لا تقلُّ إثارة عن نسخة كوميدية من رواية شفرة دافينشي. وباختصار، كانت قصة جون بريسكوت وتريسي تيمبل وفيليب أنشوتز في الواقع قصتين تشابكتا لبضعة أشهر عام ٢٠٠٦. وبدأت القصة بفضيحة جنسية تقليدية تم فضحها في الصحف على الطريقة التقليدية التي فيها يَفْضح شخصٌ علاقتَه الجنسية بشخصية شهيرة لجني المال، وفي البداية روى الزوج المكلوم الذي يعمل سائق شاحنة قصة العلاقة، ثم روت المرأة نفسها تفاصيل المهزلة الجنسية التي جرت في شقة بشارع وايتهول المؤدي إلى ويسمنستر. اكتسبت علاقة نائب رئيس الوزراء البريطاني جون بريسكوت مع سكرتيرته تريسي تيمبل زخمًا صحفيًّا أكبر؛ لأن كثيرًا من الغراميات الجنسية وقعت أثناء أوقات العمل والمهام الرسمية؛ ومن ثم ربما يكون ذلك خرقًا للأعراف الوزارية. تحالفت النتائج السيئة في الانتخابات المحلية مع الضجة التي أثيرت حول القصر الريفي «الذي تبرعَّت به الملكة» لزيادة الضغط على هذا السياسي المهيب الذي كان محبوبًا من القاعدة الشعبية بحزب العمال وحليفًا رئيسيًّا لتوني بلير، لكن لم تكن العلاقة الجنسية أو صور بريسكوت — الذي يعتبر بطلًا في أنظار الطبقة العاملة — وهو يلعب لعبة الكروكيه بين الاجتماعات رفيعة المستوى، هي ما أطاح به؛ بل الذي ضرب السيد بريسكوت في مقتل هو بثٌّ صوتيٌّ.

ديفيد هينكي مراسل سياسي محنك يحصد الجوائز يعمل في صحيفة الجارديان، وقد قام بتغطية الأخبار السياسية لوستمنستر لعقود، وفي التاسع والعشرين من يونيو عام ٢٠٠٦ نشرت الجارديان بثًّا صوتيًّا عن «إشاعة في وستمنستر» من إعداد «مفتشهم الدءوب» هينكي. وكان ما ذكره هينك في البث الصوتي يستحق نقله بالنص لأنه يوضح صميم عمل الصحافة الشبكية؛ إذ نرى صحفيًّا في جريدة يتصرف بحرية، ويشارك عملية التغطية الصحفية مع جمهوره:
لكم أن تتخيَّلوا كمَّ الذهول الذي أصابني لدى استقبالي مكالمة تليفونية مثيرة للدهشة جدًّا عن إشاعة فاضحة عن جون بريسكوت، وفي الوقت الذي كان السيد بريسكوت يواجه عاصفة من الانتقادات، وصل إلى مصدري — الذي لديه معارف في الولايات المتحدة — قصة في غاية الغرابة تروي أن السيد بريسكوت قام بزيارة سرِّية إلى منزل مزرعة فيليب أنشوتز، الرجل الذي يدير قبَّة الألفية، وعلاوة على ذلك لم يعرف أحد بهذه الزيارة، وقد استضافه هناك صاحب الدار العضو البارز في الحزب الجمهوري. اعتقد مصدري الذي — صدِّق أو لا تصدِّق — حصل على المعلومات من محادثة دارت بين دبلوماسيين بريطانيين في أحد مطاعم لوس أنجلوس واسترقَ أحدهم السمع إليها؛ اعتقد أن هذا شيء مثير، ونحن بدورنا نوجه السؤال للسيد بريسكوت: هل قام بأي زيارات حرة غير معلنة عندما كان هناك؟ لدواعي أسفنا، ولحسن حظ السيد بريسكوت فإن ما فعله لم يخرق أية قواعد، لكن مصادرنا تعتقد أن السيد بريسكوت قد يكون في مأزق لأنه لم يعلن عن هذه الزيارة أَلْبَتَّة. وفي حقيقة الأمر كان السيد بريسكوت قد أفشى هذا الأمر إلى سكرتيره الدائم [أحد كبار الموظفين الحكوميين] وفيما كان يتلقى الترحيب في هذا البيت الفاخر الخاص بالسيد أنشوتز قدَّم تبرعًا لهيئة الصليب الأحمر البريطانية في سرية تامة حتى لا يظهر أنه يتلقى الأموال من الأمريكيين، وهكذا بينما يبدو أن السيد بريسكوت في ورطات كبيرة بسبب لعبه للكروكيه وبسبب عشيقاته، فإن المسألة هذه المرة مسألة تتعلق بأمانة الرجل الذي أكد أنه لم يخرق قوانين مكافحة الفساد. (ديفيد هينكي، صحيفة الجارديان)32
اعتقاد هينكي أن القصة قد توقفت عند هذا الحد كان غريبًا، ومن الغريب أن هذا الخبر — الذي كان على أقل تقدير محرجًا لبريسكوت حتى وإن لم يكن غير مشروع — لم يُتابَع في النسخة المطبوعة للجارديان. لكن بعدها بيومين، يوم السبت، نشرت جريدة ذا تايمز القصة بأكملها تحت عنوان «القبة والملياردير الأمريكي وليلة بريسكوت في المزرعة» كعنوان رئيسي لها، وفي يوم الإثنين التالي شارك المدوِّن اليميني «جاي فوكس» — اسمه الحقيقي بول ستينز — بقوة في الهجوم على جون «بريكسا» بريسكوت:

قصة بريكسا تتكشف؛ لقد قضى إجازة نهاية الأسبوع في «زيارة خاصة» جرى التبرع بتكلفتها لأعمال الخير، بينما اتضح أن هذه التبرعات من أموال دافعي الضرائب. لم يكن لبريكسا يد في عملية صنع القرار بخصوص منح الملياردير صاحب المزرعة عقد قبة الألفية، ومع ذلك عرفنا طوال أشهر أن نائب رئيس الوزراء هو المسئول عن الأمر. إن روايته عن الأحداث محض هراء، وفي وسع المرء إدراك أنها فضيحة كبيرة؛ لأن نيك روبنسون [المحرر السياسي بالبي بي سي] تجاهلها؛ تعرف البي بي سي أن هذا الخبر يمكن أن يكون مدمرًا لبريكسا، ولا سيما إن كان صحيحًا أن صحيفة ديلي ميل قد عرفت القصة — التي لطالما انتظرها الجميع بحماس — من سائق رسمي بالحكومة، عن العلاقات الجنسية التي مارسها بريسكوت بالمقعد الخلفي للسيارة، مع روزي وينترتون وغيرها.

هددت روزي بمقاضاة صحيفة ذا صن إذا أطلقوا عليها عشيقة بريسكوت الأخرى. ومثلما كان تنصيب الإمبراطور الروماني كاليجولا حصانَه عضوًا بمجلس الشيوخ استهزاءً بأعضاء المجلس، فإن تنصيب روزي وينترتون مستشارًا في المجلس الخاص بالملك هو استهزاء بالعامة. (بول ستينز المعروف أيضًا باسم «جاي فوكس»)33

هذا فيض جامح ومليء بالتفاصيل المثيرة من ادعاءات لا تستند إلى معلومات حقيقية جديدة عن قصة أنشوتز، لكنه قدَّم ادعاءً جنسيًّا جديدًا تمامًا. كان هذا كفيلًا وحده بأن يحافظ على الزخم بين وسائل الإعلام التي كانت بحلول هذه الآونة قد أدركت ضعف موقف خصمها واستعدت للنيل منه. لكن الأمر الذي يحظى بنفس القدر من الأهمية هو الهجوم على المحرر السياسي بالبي بي سي نيك روبنسون. وثمة افتراض حتى من المدوِّن نفسه بأن الخبر نفسه يظل ضعيف التأثير إلى أن تنقله جهة البث الرئيسية. ربما لا يوجد أساس من الصحة لنظرية المؤامرة التي يدعيها ستينز، والتي تدفع بأن روبنسون يحمي بريسكوت بطريقة ما، لكنها تركت تأثيرًا.

وفي اليوم التالي بدأ الخبر يدخل في دائرة من الاستشهاد بأطراف أخرى بين الإعلام التقليدي والجديد، وبدأت الصحف تنشر عناوين مثل «إشاعات على الإنترنت» لكنها لم تبلغ الحد الذي بلغته المدوَّنة في تغطية القصة.

أطلق موقعا ويب لتدوين اليوميات تابعان لمؤيدي حزب المحافظين على عضوة بالبرلمان بحزب العمال أنها عشيقة السيد بريسكوت — وهو ادعاء ينكره بريسكوت والمرأة نفسها … ويدير أحدَ الموقعين ناشطٌ يميني مؤيد لحزب المحافظين في أواخر الثلاثينيات من عمره. ذكر متحدث رسمي باسم حزب المحافظين أن: «هذا الشخص ليس له أدنى علاقة من بعيد أو قريب بحزب المحافظين، وغير صحيح بالمرة أننا مشتركون في نشر هذه الشائعات.» وتكررت الادعاءات على موقع آخر يديره مرشح برلماني سابق بحزب المحافظين. (صحيفة إيفنينج ستاندرد، ٤ يوليو ٢٠٠٦)34
وفي هذا الوقت تحولت التغطية على الإنترنت أيضًا إلى شجار بين المدوِّن المهني نيك روبنسون والمدوِّنين غير المهنيين، وفي الخامس من يوليو نشر المحرر السياسي بإذاعة البي بي سي تدوينة شنَّ فيها هجومًا على المدونتين وعلى مدون آخر يتبع حزب المحافظين هو إيان ديل تحديدًا:

هذا مثال آخر على بعض المدوَّنات التي تحاول خلق زوبعة في المناخ السياسي. أولًا، يطالبون بمعرفة سبب عدم تغطية الإعلام التقليدي — وبالأخص البي بي سي — للفضيحة المزعومة، ثم ينشرون مزاعم غير مدعومة بالأدلة وينكرها أولئك المعنيون بها، وبعدها تنشر تلك المزاعم بعض الصحف على أنها أخبار منقولة.

لنكن واضحين، لا يرجع ذلك إلى أنهم صحفيون أفضل وليس عليهم رقابة، لكن أغلب الظن أن لديهم مخططًا سياسيًّا. (نيك روبنسون، المحرر السياسي بالبي بي سي)35
هذه لحظة مذهلة؛ إذ لم يدَّعِ بول ستينز (جاي فوكس) إلا أنه شخص متحيز سياسيًّا. يقر شعار موقع ستينز بأن «الثرثرة والفضائح والشائعات والفكاهة هي ما تهدف هذه المدوَّنة إلى تقديمه.»36 روبنسون على حق تمامًا، وإن كان متحفزًا بعض الشيء. كان للمدوَّنات تأثير، وقد دفعت القصة إلى الأمام أو «أحدثت زوبعة». وكان رد جاي التالي على روبنسون هو التعبير عن سروره لأجل حقيقة أنه أثار غيظ المحرر السياسي للبي بي سي، والاحتفاء بقوة المدوَّنة غير الخاضعة للمساءلة. يقول جاي إنه ليس لديه أية شكوى ضد روبنسون بصفة شخصيَّة، وإنما ضد البي بي سي:
بدا تعليق نيك … مغرورًا بعض الشيء، أتحتكر البي بي سي لنفسها التغطية السياسية/المناخية؟ نيك مراسلٌ عظيم، لكنه مكتوف اليدين في هيئة بي بي سي التي أصابها الضعف بعد تقرير هاتون، والتي دائمًا ما يستبد بها القلق بشأن التمويل المستقبلي. إذا أراد بقية الإعلام متابعة تقارير جاي، فهذا أمر متروك لهم. (بول ستينز المعروف أيضًا باسم «جاي فوكس»)37
وصولًا لهذه اللحظة كان الإعلام التقليدي قد أقام وليمة على سمعة بريسكوت بعيدًا عن المدوَّنات، وعندما تحدَّث جون بريسكوت أخيرًا على الهواء ليدافع عن نفسه، وجد صحفيي الإعلام التقليدي يرشقونه بالادعاءات المنتشرة على الإنترنت. ظهر بريسكوت في برنامج «برنامج اليوم» (توداي بروجرام) على راديو بي بي سي ٤ وهو برنامج الراديو الصباحي السياسي الرئيسي بالمملكة المتحدة؛ كي يستجوبه أعنف محققي البي بي سي جون همفريز بقسوة. سأله صحفي البي بي سي: «توجد أخبار حاليًّا، وهي متداولة على الإنترنت كما تعرف، تقول إن لديك علاقات غرامية أخرى، هل هذا صحيح؟»38
كانت هذه لحظة دخول المدوَّنات إلى مجال الصحافة السياسية البريطانية بشكل رسمي، وبكل تأكيد كتب جاي عن هذه اللحظة بدوره في مدونته:
قام جون همفريز في هذا الصباح بالمهمة التي يتقاضى أجرًا من أجلها؛ لقد سأل بريسكوت ثلاث مرات: هل توجد علاقات غرامية أخرى؟ وثلاث مرات يتبجَّح بريسكوت دون أن يجيب عن السؤال؛ لأنه بالطبع توجد علاقات أخرى كثيرة، ليست مجرد «سقطة واحدة» كما أشار مرارًا وتكرارًا في مماراةٍ ومراوغة. (بول ستينز المعروف أيضًا باسم «جاي فوكس»)39

وكما هو الحال مع السياسة البريطانية، انتهى كل هذا باستجواب برلماني داخلي وجد أن السيد بريسكوت قد خرق الأعراف الوزارية، غير أن لجنة المعايير الموحدة أقرت بأنه لا يُفترض اتخاذ أية إجراءات ضد نائب رئيس الوزراء لأنه سجل الزيارة في وقت لاحق. لم يكن لدى البرلمان السلطة لتقصِّي قضايا أكبر بشأن تضارب المصالح، وهكذا انتهى الحال بتلقي السيد بريسكوت لعقاب خفيف، غير أن مهنته السياسية كانت قد انتهت فعليًّا. إذًا، أكان هذا انتصارًا لعالم المدوَّنات البريطانية؟ وما تأثير ذلك على الصحافة الشبكية؟

انضم مدوِّنون سياسيون آخرون إلى بول ستينز «جاي فوكس» في الاحتفاء بتأثيرهم الجديد. لم يدَّعِ المدوِّن المؤيِّد لحزب المحافظين إيان ديل40 أنه صحفيٌّ، على أنه ادعى أنه أثار الأخبار التي لم يمسسها الإعلام التقليدي. وهو يقول إن الصحفيين يسربون إليه معلومات لا يمكنهم نشرها بأنفسهم، وما يثير استياءه هو أن الصحفيين المهنيين يستخدمون المواد التي يُعدُّها المدوِّنون دون أن ينسبوها إليهم:
في أي يوم من الأيام، ستجد في عمود إفرام هاردكاسيل [عمود الثرثرة في صحيفة الديلي ميل]، وعمود لندنير دايري [يوميات سكان لندن] وغيرها من أعمدة اليوميات، خبرين أو ثلاثة مسروقين بالكامل مني أو من جاي، دون أن ينسبوا أيَّ شيء إلينا على الإطلاق، وعلى الأقل يضيف المدوِّنون رابطًا يقود إلى أول مكان قرءوا فيه خبرًا ما أيًّا كان هو. (إيان ديل، مدون)41

أكد لي الصحفيون المهنيون الذين غطَّوا هذا الخبر أن المدوَّنات لم تكن حاسمة في كشف حقائق هذه القصة، لكن مذيعة سياسية في الإعلام التقليدي ذكرت أنه أصبح من الضروري الآن على الصحفي الحديث الذي يرزح تحت ضغط الكثير من الأعباء أن يقرأ المدوَّنات السياسية؛ فقد أوضحت أنه ليس لديهم متسع من الوقت ليقضوه في التسكع في حانات وستمنستر بعد الآن لأنهم يكونون على الهواء أو يُعدُّون الأخبار طوال الوقت؛ ومن ثم تكون المدوَّنات هي طريقتهم للاطلاع على الفضائح وعلى القيل والقال، وحقًّا لطالما كان الصحفيون المهنيون يلجئون إلى مجلات الفضائح مثل «برايفت آي»، كمصدر للأخبار الهامشية وكمكان لاختبار الشائعات غير المدعومة بالأدلة. غير أن عالم المدوَّنات الآن يجعل هذا ظاهرة شبكية تفاعلية تعمل لمدة ٢٤ ساعة على مدار الأسبوع. أثار هذا قلق بعض المراسلين السياسيين:

في رأيي إن ما يفعلونه غير مبرر بالمرة؛ هم لا يساعدون على نقل الأخبار بل يعوقونها. ثمة قضايا هامة يجري مناقشتها لكنهم يرونها ألاعيب دعائية رخيصة يستغلونها كي تُذكَر أسماؤهم في الإعلام. إني أتحدث إلى المدوِّنين وأستعين بهم لكنهم ينشرون أخبارًا ليس لديهم أدلة عليها. من المستحيل أن يكون هذا سليمًا.42
يتمتع المدوِّن حقًّا بحماية؛ فمن الصعب أن تقاضيه إذا كان الموقع يستضيفه خادم من خارج المملكة المتحدة، والأفراد أقل عرضة للمقاضاة وغير معرَّضين للضغوط المؤسسية التي قد تشعر بها مؤسسة إعلامية تقليدية لها اسم تجاري بينما تحاول حماية سمعتها بأنها جديرة بالثقة. تختلف مدوَّنة نيك روبنسون الذي يعمل بالبي بي سي اختلافًا طفيفًا عن عمله الإذاعي؛ فهي أكثر تخمينية في نبرتها، وكل بند من بنودها أقل «رصانة» مقارنة بالطابع الرسمي المطلوب على الهواء، لكنها لا تزال بعيدة جدًّا عن «المخاطر» التي يرى أن المدوَّنات المستقلة تمثِّلها:
يقول المدوِّنون إننا لا نغطي خبرًا ما لأننا جبناء. هذا هراء؛ فنحن لا نغطي خبرًا معينًا لأنه لا توجد حقائق تدعمه. لا بد أن نكون حذرين ألا نستخدم المدوَّنات كمبرر لنتخطى معاييرنا وقواعدنا وأخلاقيات الصحافة. وثمة مجازفة من أن يستخدم الأشخاص المدوَّنات كطريقة لنقل أخبارٍ، ما كانوا ليقدموها بأنفسهم في المعتاد؛ كي تذاع على الهواء أو تُطبع في الصحف. (نيك روبنسون، محرر سياسي بالبي بي سي)43
من الحقيقي أن الصحفيين السياسيين أكثر تقيُّدًا من المدوِّنين فيما يمكن أن يقولوه؛ الصحفي المهني الذي يبتغي الحصول على معلومات من الساسة يُضْطَرُّ إلى أن يدَع السياسيين «يستغلونه». ينبغي أن يتعلم الصحفيون السياسيون أن يحبُّوا المدوَّنات؛ ويعود هذا جزئيًّا إلى أنهم هم أنفسهم يصيرون مدوِّنين على نحو متزايد. تذكَّر أن سلسلة فضائح بريسكوت بأكملها قد بدأت بالبث الصوتي المثير الذي قدمه ديفيد هينكي، ولكن يعود هذا أيضًا إلى أن الإعلام المستقل على الإنترنت يقدِّم بالفعل مدخلات ضرورية من منظورات ومعلومات جديدة؛ فهو يقدِّم مسارًا بديلًا للحوار السياسي، يزعم أنه يملك حقيقة وبصيرة خاصة به، وقد عبر جاي عن هذا قائلًا:
لقد ولَّت أيام تكتلات وسائط الإعلام التي تقرر الأخبار وفقًا لنهج فورد الذي يتدرج من القمة إلى القاع. لم تعد الأخبار هي ما يجيزه المذيع باكسمان والمحرر روبنسون. ستُجرد وسائل الإعلام الكبرى من دور الوساطة الذي تضطلع به لأن التكنولوجيا قللت تكلفة نشر المعلومات على نحو هائل. لا تظن أنني دخيل على مجال الإعلام يقوم بعملية التدوين وهو مسترخٍ في منزله؛ فكل كاتب يوميات في جريدة أخذ أخبارًا من مدونتي، ومصادري هي الآلاف من عشاق السياسة الذين يأتون إلى مدونتي من أجل متابعة الإشاعات، وأفضل مصادري هم في الغالب الصحفيون الأصغر سنًّا والأوسع اطلاعًا الذين لا تُنشر أخبارهم. (بول ستينز المعروف أيضًا باسم «جاي فوكس»)44

واحدة من الملامح الرئيسية التي تميِّز مشهد الإعلام السياسي البريطاني هي التوتر ما بين الصحفيين، فضلًا عن التوتر ما بين الصحفيين ومن يشغلون المناصب، وغالبًا ما يخلق هذا مناخًا مليئًا بالأحقاد يمكن أن يُسفر عن صحافة رديئة الجودة أو متحيزة. سيحدث هذا على الإنترنت إلى جانب منصات الإعلام التقليدي. يمكن القول أيضًا إن التنافسية هي ما يمكِّن الإعلام البريطاني من تجنب الثقافة المنعزلة الودِّية لسلك صحافة البيت الأبيض أو قصر الإليزيه. وسوف يُسهم المدوِّنون في هذه التنافسية، لكن إذا احتفظ صحفيو الإعلام التقليدي بكفاءتهم المهنية، إذن بكل تأكيد ليس ثمة ما يدعوهم للقلق وسيحققون منافع جمة في كل الأحوال من العلاقة الأكثر اتصالًا. قد لا تكون الصحافة السياسية الشبكية دائمًا مشهدًا رائعًا لكنها تحدث في وستمنستر. وبدلًا من التقهقر إلى المواضع القديمة، من المفترض استخدام الصحافة الشبكية كطريقة لإنعاش الصحافة السياسية والضغط على الحكومة للقيام بالشيء نفسه.

(٢-٦) ما وراء المدوَّنات: مشاركة المواطنين

الصحافة الشبكية لا تقتصر فقط على التدوين أو التفاعلية. الصحافة السياسية الشبكية هي أكثر من مجرد علاقة تكافلية بين الإعلام التقليدي والمدوِّنين؛ فدور الصحافة السياسية أكبر بكثير من مجرد التعامل مع مؤسسات الديمقراطية التمثيلية. والمشاركة المدنية آخذة في الاضمحلال، وثمة مخاوف من اختفائها تمامًا. كما رأينا، فإن مواقع شبكات التواصل الاجتماعي هي الآن منتدًى لتبادل الرسائل السياسية؛ ومن ثم هي تكوِّن فعليًّا نوعًا جديدًا ناشئًا من الصحافة أيضًا. كيف تُقحم وسائل الإعلام الإخبارية نفسها في هذا النوع من الحوار؟ هو أمر غير معروف بعد. لكن إذا أراد الصحفيون الشبكيون الانضمام إلى هذا الحوار السياسي في هذه الأوساط الجديدة، إذن فعليها أن تؤقلم نفسها.

وسيتعيَّن أيضًا على الصحافة السياسية الشبكية أن توجِّه أنظارها إلى قنوات التواصل السياسي الجديدة التي تنعشها مبادرات الديمقراطية الإلكترونية. تخلق الهيئات كافة وبالأخص الشركات والمنظمات الاجتماعية على نحو متزايد شبكات تواصل مع الجماهير. وتمزج تلك الشبكات بين الأداء الوظيفي لأنشطة المنظمة على الإنترنت وبين الرغبة في التواصل على نحو جادٍّ مع العميل أو المواطن. على سبيل المثال، يمكن استخدام موقع هيئة محلية لتقاضي أجرة تصاريح انتظار السيارات أيضًا كطريقة لاستطلاع رأي المقيمين. تلك الأنواع من المساحات هي الأماكن التي تحتاج الصحافة السياسية الشبكية التواجد بها، من نفس المنطلق الذي كان يحضر به الصحفيون المحليون اجتماعات البلدية العامَّة. وأؤكد مرة أخرى، أنه عندما «تذهب» الصحافة السياسية الشبكية إلى هذه المساحات الجديدة فإنها تكون بشروط مختلفة؛ فالآن سوف يصبح الجماهير جزءًا من العملية؛ إذ سيساعدون في وضع خطة العمل والتحكم في تدفق المعلومات، وستكون الصحافة السياسية الشبكية المنسق لهذه العملية، وليست مجرد ناقل لها.

وفي أحيان كثيرة تنظر الحكومات إلى الديمقراطية الإلكترونية على أنها طريقة لإبعاد الإعلام وترسيخ علاقة مباشرة بين الحكومة والشعب. والواقع هو أن الإعلام الشبكي وسيلة ضرورية لجعل هذه العلاقة تنجح بطريقة عملية وتمثيلية. لا يريد الجماهير الاضطرار إلى تلقِّي فيض المعلومات السياسية مباشرة؛ فالصحافة الشبكية موجودة كي تشاركهم في فعل هذا. انظر إلى محاولة حكومة المملكة المتحدة إنشاء نظام عريضة إلكترونية بموجبها يمكن للأفراد إنشاء عريضة على موقع ١٠ داونينج ستريت (مقر إقامة ومكتب رئيس وزراء بريطانيا). أنشأ الناس مئات العرائض، الكثير منها تافه وبعضها جادٌّ، كانت أشهرها عريضة تظلُّم ضد اقتراحات الحكومة بشأن رسوم استخدام الطرق وقَّعها أكثر من مليون شخص.45 كان مستحيلًا أن تقبل حكومة العمال مطالبها، وقد اعتُبرت هذه العريضة صفعة كبيرة على وجه رئيس الوزراء، واعتُبر رفضه لمطالبها دليلًا على أن الديمقراطية الإلكترونية زائفة. لكن لم تكن المشكلة في أن العريضة أثارتها جماعات الضغط، ولا أنها عارضت سياسة الحكومة، وإنما كمنت المشكلة في أن العريضة اعتُبرت تدريبًا على فكرة التأثير على السياسة وليست كوسيلة للتواصل. وكوسيلة للتواصل كانت وسيلة بدائية وأحادية الجانب إلى حدٍّ كبير. وعد توني بلير أن يرد عن طريق البريد الإلكتروني على كل هؤلاء الذين وقَّعوها، لكن إرسال رسالة البريد الإلكتروني نفسها إلى مليون فرد ليس نقاشًا سياسيًّا عميق المغزى. لو كان هناك إعلام شبكي لأتاح تمثيلًا أكثر دقة لهذه الآراء وحوارًا أفضل بالإضافة إلى توقعات أكثر واقعية. على سبيل المثال، كان أحد مواقع الويكي سيتيح إقامة منتدًى للتفاعل، وكانت سلسلة من المدوَّنات ستسمح للأفراد بالتعبير عن آراء وتعليقات مدروسة أكثر، ومع ذلك، على الأقل ذكَّرت هذه العريضة الحكومة برغبة الجمهور في التعبير عن نفسه على الإنترنت وضرورة تحلِّي أولئك الذين هم في السلطة بالمزيد من التواضع والانفتاح.

إن الهدف الأسمى للصحافة السياسية الشبكية هو التعامل مع فقدان الجماهير الثقة في الإعلام والسياسة. ليس مبتغاي هو أن يحب الجماهير الصحفيين أو الساسة، ولست أريد أن يحب الصحفيون الساسة أو حتى الجماهير. لكن الممارسات الإعلامية الشبكية تقدِّم للصحفيين الفرصة لوضع المزيد من الأمور في نصابها الصحيح من خلال الاتصال بالعامة والسماح لهم بتصويب للأخطاء، فمن خلال مشاركة الصحفيين جدول الأعمال، فإنهم يوفرون الفرصة لجعل الأخبار أكثر صلة بالواقع. عندئذٍ يرجع الأمر إلى الحكومة بشأن الإفصاح عن أجندة سياساتها. في النهاية لا تقدِر الجماهير إلا على تلقي قدر محدود من السياسة أو الأخبار السياسية، وأخيرًا، يتعلق الأمر بالأفعال الحقيقية، لا التمثيل؛ ومن ثم يراودني الكثير من الشك بشأن المزاعم التي تقول إن الإعلام الجديد هو أكثر ديمقراطية من الإعلام التقليدي تلقائيًّا. كثير من المنصات الإعلامية الجديدة تفتقر إلى المساءلة والتشريع المؤسسي على سبيل المثال. ثمة مخاطر أخرى على الصحافة السياسية في ظل الاتجاهات الراهنة؛ إذ يوجد تفتيت للعملية الإخبارية فيه تختزل المنافذ المتعددة فكرة الحوار المشترك، وتوجد إمكانية لحدوث الاحتيال الرقمي الذي يمكن أن يُسهم في فقدان الثقة في الإعلام، وهناك احتمالية تجرُّد الصحفيين من المهارة بفعل الضغوط الاقتصادية التي تدفعهم على القيام بمهام متعددة. يحتاج الصحفيون الشبكيون إلى وقت أكثر، لا أقل، لإمعان التفكير في عملهم، ومع ذلك هذه المخاطر هي أقل إثارة للقلق بمراحل من الإخفاقات الراهنة «للإعلام ومجال السياسة القديمين» فيما يتعلق بتقديم خدمة جيدة للعامة. إن قدرة تقنيات الإعلام الجديد وتنافسية الإنترنت على إضافة تنوع وتنافسية تعني أننا ينبغي أن نحصل على علاقة أفضل بين الجماهير والساسة. لا يوجد مكان يحتاج إلى علاقة أفضل بين الحكومة والشعب مثل أفريقيا. دعونا الآن نلقِ نظرة على فرصة خلق أشكال جديدة من الصحافة لتؤثر على سياسات الإعلام هناك.

(٣) أفريقيا: الصحافة الشبكية، والحوكمة والتنمية

لا تقلل حرية التعبير وحرية الصحافة من انتهاكات السلطة الحكومية فحسب، بل تعزز احتمالية تلبية الاحتياجات الاجتماعية الأساسية للأفراد أيضًا. (جوزيف ستجليتس)46

بعيدًا عن المطالبة بأحقية الصحافة الشبكية وسط الأسواق الإعلامية الثرية بشكل فاحش والمتطورة تكنولوجيًّا في الولايات المتحدة وأوروبا، من الممكن أيضًا رؤية أن الصحافة الشبكية لها تأثير على الاقتصادات سريعة النمو لدول مثل الصين والهند. سيكون مذهلًا أن نبحث ونفسر الكيفية التي يمكن أن يكون بها للصحافة الشبكية مستقبل في أماكن مثل كوريا الجنوبية وروسيا أيضًا. من الضروري ألا نكتفي برؤية أن الصحافة الشبكية عملية ملائمة فقط للولايات المتحدة والمملكة المتحدة؛ هذين السوقين الكبيرين اللذين هيمنا على هذا الكتاب. لكن أود أن أتأمَّل تحديًا أصعب لمستقبل الصحافة وهو أفريقيا.

يستحيل أن نطلق أحكامًا عامَّة حول هذه القارة المتنوعة، لكنني سأحاول أن أوجز مدخلًا نظريًّا للصحافة الشبكية وعلاقتها بأفكار الحوكمة السياسية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. يمر الإعلام في أفريقيا الآن بلحظة في غاية الإثارة في تاريخه. ثمة سلسلة من المبادرات العالمية الكبيرة47 تحدث كجزء من مساعٍ عالمية لضخ المزيد من المال في تنمية القارة وتقليل ديونها وتعزيز التقدُّم السياسي بها. ثمة اهتمام متجدد بدور الإعلام في أفريقيا لثلاثة أسباب رئيسية:
  • (١)

    يعتبر الإعلام طريقة نافعة لنقل رسائل التنمية، فالراديو والصحف والتليفزيون ووسائل الاتصالات الأخرى هي طرق في غاية الفاعلية لتوصيل معلومات عن الصحة على سبيل المثال إلى الأشخاص، ولا سيما في المجتمعات التي ينخفض فيها معدل الإلمام بالقراءة والكتابة والتي تعاني من ضعف البنية الأساسية الحكومية ورداءة التعليم.

  • (٢)

    الإعلام صناعة تستحق التطوير في حد ذاتها؛ إذ تساعد في توطيد أشكال أخرى من التنمية الاقتصادية والاجتماعية. يخلق الإعلام فرص عمل ويعزز صناعات ذات الصلة مثل الدعاية والإعلان والإنتاج الإعلامي. ويساعد التواصل الأفضل من خلال الصحافة الاقتصادية والدعاية والإعلان والأخبار العامَّة في التعريف بالمنتجات والخدمات.

  • (٣)

    الإعلام أحد طرق إخضاع الحكومات للمساءلة وزيادة الشفافية فيما يتعلق بتقديم المعونات. الإعلام الناجح والمستقل يضع المزيد من المعلومات في متناول العامَّة حتى يمكن للأفراد الإلمام بمجريات الأمور. تساعد الصحافة السياسية الجيدة الساسة في التواصل مع المصوِّتين، لكنها أيضًا تتيح للمصوتين الحكم على سجل أولئك الذين هم في السلطة بدءًا من الضباط المعنيين بإصدار المخالفات للسيارات المخالفة ووصولًا إلى الرؤساء.

لكن فيما تدرك وكالات الإغاثة والبلدان المتبرعة أهمية الإعلام الإخباري النابض بالحيوية، ثمة إجماع ضئيل على كيفية تعزيزه.
نحن على حق في أن نفكر أولًا قبل أن نساند على نحو أعمى تنمية الإعلام؛ ففي نفس اللحظة التي وافق فيها العالم على أن يضخ مزيدًا من المال في أفريقيا، كانت هناك موجة من التحليلات — من إعداد الصحفيين في أغلب الأحيان — تتحدث عن فشل التبرعات الغربية في الماضي.48 يمكن من خلال قراءة التاريخ إثبات أن المعونات فشلت. من خلال أي تحليل معقول للفوائد مقارنة بالتكلفة يتبين أن كمية المال المتدفق إلى أفريقيا لم يسفر عن منافع جوهرية مستدامة؛ فعلى الرغم من تقديم مئات المليارات من الدولارات للإغاثة، فإنها تأبى باستماتة أن تتغلب على متاعبها الاقتصادية الجمة. حدثت بالفعل إصلاحات في أنحاء القارة مثل: القضاء على التفرقة العنصرية، وحدوث تغييرات سلمية للسلطة في أماكن مثل موزمبيق، والتحرر الإعلامي واسع النطاق، وكانت هناك حالات نجاح تنموية كبيرة مثل نمو معدل محو الأمية، ومع ذلك، بالرغم من كل هذه الإصلاحات تظل أفريقيا متأخرة على نحو هائل. تزدهر كلٌّ من الهند وآسيا بصفة عامَّة، وتتقدم أمريكا اللاتينية. إذن لماذا لا تتقدم أفريقيا؟
إن وصف الإعلام الغربي لأفريقيا هو وصف مليء بالحروب والمجاعات والكوارث، وهي نظرة لا تخلو من الصحة؛ فلطالما كانت هناك حروب كثيرة في أفريقيا منذ زيادة استقلال الدول الأفريقية بعد الحرب العالمية الثانية، وفقًا لتقرير منظمة العفو الدولية لعام ٢٠٠٦:
تأثرت على الأقل اثنتا عشرة دولة في أفريقيا بالنزاعات المسلحة. تمثل بعض من الأسباب الكامنة وراء النزاعات في تهميش مجتمعات معينة، وانتشار الأسلحة الصغيرة، والنزاع من أجل السلطة الجغرافية السياسية، والتحكم في الموارد الطبيعية. (منظمة العفو الدولية)49
يصل دخل الفرد في أفريقيا إلى حوالي نصف دخل الفرد في أمريكا اللاتينية، ولا تزال في تراجع على الرغم من امتلاكها الموارد الطبيعية الغنية التي تجذب الآن انتباه الصينيين المتعطشين للحصول على المواد الخام والذين لا يبالون في الأساس بتنمية أفريقيا، وفقًا لبرنامج الأمم المتحدة المعني بمتلازمة نقص المناعة المكتسبة50 أسفر الفيروس عن ٢,١ مليونًا من الوفيات عام ٢٠٠٦ و٢,٨ مليون إصابة جديدة، ليصل إجمالي عدد المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز في القارة إلى ٢٤,٧ مليون شخص يعيشون بالمرض، ومع ذلك لا يزال العديد من الزعماء مثل زعيم جنوب أفريقيا تابو إيمبيكي في حالة إنكار بشأن مسبباته. لا يزال فساد القطاعين العام والخاص مستشريًا في أنحاء أفريقيا؛ مما يسد القنوات الاقتصادية وينفِّر الأفراد من تنفيذ استثمارات تجارية شرعية ويهدر أموال المعونات. مرة أخرى نستشهد ها هنا أيضًا بتقرير منظمة العفو الدولية لعام ٢٠٠٦:
واصل الفساد العام الهائل المنتشر في أفريقيا المساهمة في خلق دائرة مفرغة من الفقر المدقع، متجلِّيًا في انتهاكات لحقوق الإنسان المعترف بها دوليًّا ولا سيما الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وفي المؤسسات والقيادات الضعيفة، وفي تهميش معظم قطاعات السكان الضعيفة بما فيها المرأة والأطفال.51
وعليه؛ فلعله ليس مستغربًا أو خاطئًا أن هذه هي صورة أفريقيا التي يصورها الإعلام الغربي. إذا كانت هذه الصورة تنطوي على سكان غير نشطين وسياق سياسي راكد، فهي إذن ليست صحيحة. إن كانت تشير إلى أن الفشل هو بطريقة ما في صميم «طبيعة» أفريقيا، إذن فهي صورة كاذبة. تعاني أفريقيا من مشكلة سياسية، وبينما يمكن أن تكون هذه المشكلة أكثر عسرًا من مشكلات معظم البلدان، فإنها ليست مستعصية على الحلِّ. لكن أول خطوة على درب حلِّ مشكلة سياسية هي التسليم بوجودها. ماذا يفعل الإعلام الأفريقي للربط بين الفشل ومجال السياسة؟ للأسف الإعلام جزء كبير من المشكلة. توضح أي خارطة لحرية الإعلام أن أفريقيا توجد على قدم المساواة مع الصين والاتحاد السوفيتي السابق. هذا القمع هو سبب رئيسي حقًّا لفشل الإعلام التقليدي الأفريقي حتى الآن. غير أنه لا يوجد عيب متأصل في الصحافة الأفريقية، كما سيشهد أي شخص يعمل مع صحفيين أفارقة أو يحضر أحداثًا مثل «جائزة الصحفيين الأفارقة» التي تمنحها شبكة سي إن إن.52

يشير كل هذا إلى أن دور الإعلام الهادف للتنمية فشل في تغيير حقائق الوضع الأساسية شأنه في ذلك شأن الكثير من وسائل التنمية الأخرى في أفريقيا. وبالطبع قد يقول قائل إنه لم يجرِ تجريب الإعلام الهادف التنمية بشكل سليم بعد. دعونا نتوقف عن النقاش التاريخي ونفكر فيما قد ينجح. لست أشير إلى أن هذا سوف يحلُّ كل مشكلات أفريقيا. غير أن الديمقراطيات الليبرالية المتقدمة كافة تسلِّم بأن الإعلام التعددي الناجح هو جزء من نجاحها. لماذا ترضى أفريقيا بأقل مما تستحق؟ هذه هي الأسباب التي تدعم الإعلام الهادف للتنمية والإعلام الذي يتبنى الصحافة الشبكية. لكننا نحتاج أولًا أن نفهم ماذا نعني بالمصطلح. ثمة نوعان من الإعلام الإخباري الأفريقي؛ إعلام عن أفريقيا وإعلام من إنتاج أفريقيا. والإعلام بغرض التنمية معنيٌّ بكليهما.

(٣-١) الإعلام الغربي الهادف للتنمية

إن الطريقة التي يصوِّر بها بقية العالم أفريقيا لها تأثير كبير على كيفية صنع الحكومات قراراتها بشأن المعونات. من الواضح أن حملات مثل «لايف إيد» (تحت شعار «يوم غيرت الموسيقى العالم»)53 و«لايف ٨» (تحت شعار «اجعل الوعود تتحقق»)54 ساعدت في وضع ضغوط شعبية على الساسة. لقد استخدمت الإعلام بطريقة واضحة للغاية، استعانوا خلالها بهيئات بثٍّ كبرى مثل البي بي سي لإنتاج مواد تكميلية. إن الجهات الخيرية مدركة تمام الإدراك كيف يمكنها استغلال وسائل الإعلام لتحقيق أهدافها.

عند مستوًى معين هذا شيء جيد للغاية. بالتأكيد لا يمكن أن يعارض أحد تعريف الناس أكثر بأفريقيا والاهتمام بمشكلاتها. لكن يوجد خطر من وضع المحنة الأفريقية في إطار كونها مشكلة يمكننا المساعدة في حلها من خلال حفلات الروك. نادرًا ما جرى التعامل مع المشكلات التي تواجهها أفريقيا والطريقة التي تتعامل بها جهات المساعدة مع هذه المشكلات على أنها موضوعات تصلح للنقاش والنزاع. ينظر الصحفيون الغربيون إلى أفريقيا على أنها حقيقة مسلَّم بها؛ وعليه فإن الإعلام الإخباري الغربي يركز على سردية سياسية تحكي عن أصحاب الحملات النبلاء الذين يسعَون إلى إقناع الساسة المترددين بأن يُهْرَعُوا إلى مساعدة أفريقيا، ويُخصص لنشطاء الأعمال الخيرية مساحة مميزة ضمن تقارير النشرات الإخبارية ومساحة كبيرة في الصحف حيث يُسمَح لهم بنقد الحكومات لعدم تنفيذ ما تريده مجموعات الضغط. المتحدثون الرسميون هم طريقة نافعة للصحفيين لإضافة الطابع المأساوي على خبرٍ ما، لولا ذلك لكان خبرًا في غاية التعقيد ومملًّا في الغالب. عبارات مثل «لكن أوكسفام استهجنت المبادرة باعتبارها تقدِّم القليل وبعد فوات الأوان» تتيح للمراسل الإشارة إلى وجود انقسامات عميقة، وبعض الجدل الدرامي دون الاضطرار إلى الخوض في تفاصيل، هذا ناهيك عن التحليل أو الجدل، حول الحقائق على الأرض في ميدان العمل. نادرًا ما نسمع أي شخص يذكر أن المنظمات غير الحكومية هي أيضًا رافعة شعارات غير منتخبة، وجامعة للتبرعات، وتبسط رسالتها؛ كي تبرز دورها بنفس قدر إثارتها للنقاش، ووراء الكواليس هي في الغالب تعمل يدًا بيد مع نفس الحكومات التي تنتقدها على الملأ. ليس مألوفًا أن يسأل الصحفيون المنظمات غير الحكومية عن سبب فشل المعونات في الماضي، أو هل يمكن أن يكون السوق طريقة أفضل لتحقيق نتائج أم لا، ومع ذلك يشعر الصحفيون بنوع من الدافع الأخلاقي لتجنيب المنظمات غير الحكومية الأسئلة المحرجة؛ إذ من يستطيع أن يعارض منح أفريقيا البائسة المزيد من المال؟ بطريقةٍ ما أرى أن هذا النوع من التناول يمكن أن يكون ساذجًا سذاجة تغطية «كارثة أفريقيا» التي تصوِّر القارة بأكملها على أنها مأوًى لسكان سلبيين يتحمَّلون كوارث مروعة سواء أكانت «طبيعية» أو يجلبونها هم على أنفسهم. الصورة الأساسية التي تعبِّر عن هذه النوعية من الصحافة هي صورة لرضيع كبير البطن مستلقٍ على أرضية كوخ طيني وهو ينازع الموت والذباب يحتشد حول عينيه الغائرتين. وعلى ما يبدو نجح القائمون على الحملات في إقناع الساسة؛ ومن ثم سوف يتدفق المزيد من المعونات على أفريقيا. لأفريقيا الأولوية في تلقي المال مقارنة بجهات أخرى، لكنني آمل أن تقدِّم الصحافة هذه المرة صورة أكثر تعقيدًا عن السياسة التي سوف تحيط بتلك المعونات في المستقبل. آمل حقًّا إنفاق جزء من المال على الصحافة الأفريقية نفسها.

(٣-٢) إعلام أفريقي من أجل التنمية

يوجد ثلاثة قطاعات من وسائل الإعلام الأفريقية، يلعب كلٌّ منها دورًا في التنمية.

أولها: «الإعلام المجتمعي» وهو عبارة عن مشروعات خاصة صغيرة الحجم غير هادفة للربح وبعض محطات الراديو المملوكة للدولة التي تتمركز في المجتمعات. يرى الإعلام المجتمعي أنه يلعب دورًا خاصًّا في تقدُّم الأهداف التنموية والسماح للمجتمعات بالتعبير عن نفسها. وهو غالبًا ما يكون مدعومًا مباشرة من المنظمات الخيرية الدولية وينقل رسائل تنمية مجتمعية، قد تتخذ شكل مواد دعائية بسيطة أو وسائل أكثر تعقيدًا لرفع الوعي مثل المسلسلات الاجتماعية الدرامية.

ثاني قطاع من وسائل الإعلام الأفريقية هو «الإعلام المملوك للدولة»، ولا سيما خدمات البث الإذاعي والتليفزيوني، وهو يصل إلى أكبر قطاع من الجمهور، وفي الغالب له التأثير الأكبر، ولكن من جانب آخر يمكن أن يؤدي عجز الموارد والعمالة المدربة إلى برامج ضعيفة الجودة، والتحيز للحكومة، والإفراط في التركيز على القضايا الحضرية. يولِّد انعدام الأمن المالي الناجم عن عدم وجود تمويل حكومي ثابت الحاجةَ إلى السعي وراء موارد من الدعاية والإعلان؛ ومن ثم تقليل الفرص أمام المحطات الإذاعية الخاصة. وإلى جانب هيئات البث، يملك معظم الحكومات في أفريقيا صحفًا ووكالات إخبارية أو تتحكم فيها، ومعظمها يعكس في عمله تحيزًا للحكومة.

القطاع الأخير هو «الإعلام الخاص» وهو يُرى على أنه يقدِّم عنصرًا مستقلًّا قادرًا على القيام بدور الرقيب على الحكومة وقادرًا على المساعدة في إخضاع الحكومة للمساءلة. يُنظر إلى جزء من الإعلام الخاص على أنه يسير فقط بدافع الربح ويمتثل بشدة للمصالح التجارية؛ مما يضر بجودة البرامج التي تخدم نطاقًا واسعًا من الجمهور. ويشير النقاد إلى أنه يفرط في الاعتماد على الواردات الأجنبية الرخيصة أو «تبسيط» المحتوى. يسهم الإعلام الصحفي الخاص باطراد في تنوع المشهد الإعلامي.

لكلٍّ من هذه القطاعات الثلاثة دور ليقوم به في الإعلام الهادف للتنمية. ويوجد نوعان من الإعلام الهادف للتنمية.

يركز الإعلام الاجتماعي الهادف للتنمية على نقل المعلومات التي لها تأثيرات اجتماعية مباشرة — عادة ما تكون في المجالات التعليمية والصحية والاقتصادية — وتتولى المنظمات غير الحكومية هذه المهمة بالكامل تقريبًا وتستخدم تشكيلة من المنصات من بينها الراديو والمسرح والشعر والإعلانات والعلاقات العامَّة لنقل الرسائل الاجتماعية. وعادة ما يهتم هذا الإعلام بشدة ببرامج سياسات معينة مثل التطعيمات ومنع الحمل ومحو الأمية.

ويحاول القائمون عليه دمج وسائل الإعلام الإخبارية الخارجية من خلال الرحلات والدعاية والتقارير والأحداث الموجهة مثل حفلات الروك. وفي حقيقة الأمر هو عبارة عن علاقات عامَّة هادفة، وهو يسعى بالمثل إلى إدماج الإعلام الأفريقي الداخلي، وإن كانت الدلائل تشير إلى أنه يمضي وقتًا أطول في التواصل المباشر.

تهتم التنمية الصحفية بدعم تنمية وسائل الإعلام الإخبارية الأفريقية نفسها، وهي تسعى إلى بناء قدرة صحفية داخل أفريقيا من خلال تدريب أو تدعيم الصحفيين والهياكل، مثل اللوائح، التي تعزز قطاع إعلام إخباري؛ فهي تدعم الإعلام الإخباري في تأدية دوره كوسيلة للمساءلة والشفافية وكمنتدًى للنقاش، وهي خليط من القطاعين العام والخاص. تدعم هيئات مثل صندوق الإنماء التابع لإذاعة البي بي سي تدريب وتنمية الأطر التنظيمية.

(٣-٣) السياق الأفريقي

جميع الوسائل الإعلامية محلية؛ ومن ثم نحتاج إلى الانتباه إلى الظروف الخاصة التي تكتنف صحافة أفريقيا. ثمة رأي قائل بأن أسواق الإعلام الأفريقي مختلفة بسبب الوضع السياسي التاريخي والمعاصر للمجتمعات الأفريقية. مثل هذه الآراء مفيدة من ناحية أنها تنفع في التمييز بين السياقات المختلفة للتنمية الإعلامية. غير أنه يجدر بنا أن نكون ناقدين بصرامة لهذه «الاستثنائية» لأنها يمكن أن تصير بسهولة عذرًا للفشل والقمع.

يوجد أربعة ظروف رئيسية لوصف سياق تنمية الصحافة في أفريقيا، وإن كان أي بلد يمكن أن يكون عرضة لأكثر من ظرف منها، وهذه الظروف هي:
  • (١)

    الدول الهشة.

  • (٢)

    الدول المحررة.

  • (٣)

    الدول المعقدة.

  • (٤)

    الدول الفقيرة.

الدول الهشة هي دول مثل الصومال وسيراليون والسودان التي لا تملك تقريبًا هياكل عامَّة عاملة؛ فالمؤسسات مثل المدارس والمستشفيات وهيئات الاتصالات هي فعليًّا مستقلة عن الدولة. تدَّعي الحكومات الناشئة في الدول الهشة أنها لا يمكن أن تكون عرضة لنفس الفحص والتدقيق الذي تمارسه الصحافة الحرة في أي مكان آخر، بل وتتمادى وتصر على أن الإعلام لا بد أن يكون مقيَّدًا؛ ومن ثم يمكن للسلطات الناشئة أن تقمع نوعية الصحافة التي يمكن أن تثير المزيد من الصراعات، وهي تقول فعليًّا إنه يتعيَّن على الإعلام التوقف مؤقتًا عن لعب دور «الرقيب»، وإن كانت الحكومة تتعرض لهجوم مادي فإنها في حاجة إلى الدعم لا النقد، وإن كانت الآراء الإعلامية في غاية القوة لدرجة أنها تسبب الصراعات كما حدث في رواندا، إذن فبكل تأكيد لا بد من تقييد الإعلام.55

وكثيرًا ما تقتضي الدول «المحررة» المساس بحرية الإعلام بذريعة تحقيق ودعم السلطة السياسية، وهذه نسخة أكثر حزمًا من حجة الدول الهشة، وقطعًا لا تنفرد بها أفريقيا بأي حال من الأحوال، وفيما يلي نصها: «لقد حصلنا لتوِّنا على استقلالنا من السلطة الاستعمارية أو الديكتاتور، وخليق بنا جميعًا أن نُظهر انضباطًا وطنيًّا في مواجهة المصاعب ونتحد معًا من أجل الصالح العام.» عندما زرت الهند مؤخرًا كان هذا لا يزال واضحًا هناك. كان هناك انطباع بأن الإعلام من المفترض أن يكون مساندًا للهند في سعيها لتصبح قوة عالمية. وهذا هو الحال في فنزويلا أيضًا؛ حيث يُطلب من الصحفيين التغاضي عن القيود المتزايدة على حرية الصحافة من أجل الصالح الأعم المتمثل في النضال ضد الولايات المتحدة.

تشدد «الدول الاستثنائية» على تقييد حرية الإعلام بحجة أن بنيتهم التاريخية أو الاجتماعية تشير إلى أن الإعلام الحر الليبرالي التعددي غير مرغوب فيه. منذ تولي الرئيس موسيفيني رئيس أوغندا السلطة منذ ما يزيد عن عشرين عامًا وهو يسمح بحرِّية صحافة أكبر؛ حتى إنه يوجد الآن مجموعة من الأصوات الإعلامية المستقلة بل والناقدة. لكنه يقول إنه في ظل بلد تئوي ما يزيد عن ٤٠ جماعة لغوية مختلفة لها مطالب سياسية تنافسية، لا يمكن لأوغندا أن تقدِّم صحافة حرة بالكامل. لا بد من السماح للحكومة المركزية أن تمارس الرقابة. لهذا السبب لا تزال أوغندا دولة حزب واحد فعليًّا. أغلق موسيفيني مؤخرًا محطة تليفزيونية مستقلة جديدة واعتقل صحفيين صرحاء متذرِّعًا بأن الكثير من المعارضة سوف تعيد خلق الانقسامات في المجتمع الأوغندي التي أسفرت عن فترات الحكم السيئ للرئيسين أوبوتي وأمين.56

«الدول الفقيرة»: الحجة الأخيرة هي أن أفريقيا لا تملك ببساطة الموارد كي تنعم بنوعية الإعلام التعددي الجدير بالثقة الذي يمكن أن يؤتمن على لعب دور في إخضاع الحكومات للمساءلة. يتلقى الصحفيون تعليمًا وتدريبًا رديئين للغاية، فهم ليس لديهم المعلومات الملائمة ولا يفهمون القضايا، وهم يتقاضون رواتب ضئيلة ومن ثم يصبحون فاسدين، والصحفيون الذين يكتسبون ثقافة أو مهارات يهجرون الإعلام للعمل في منظمات دولية أو في الحكومة. يشيع القول إنه لا يوجد المال لدعم الدعاية أو اشتراكات لمساندة الإعلام المستقل.

كل هذه الحجج لها نصيب من الصحة، ومن المفترض وضعها كلها في الحسبان عند تخطيط إعلام يهدف إلى صنع استراتيجيات تنموية من أي نوع. والفشل في تمييز هذه الحجج يتعارض وروح الإعلام من أجل التنمية. لكن هذه الحجج في أسوأ أحوالها هي مجرد أعذار. إن مفتاح التغلب على القيود المفروضة على النقاش هو مواجهة قضية «الملكية» السياسية.

(٣-٤) الملكية الأفريقية للإعلام الهادف للتنمية

كان هناك صراع في الماضي بين نموذج المستعمر ونموذج الاستقلال لدور الإعلام في أفريقيا. يتجاوز هذا الملكية الاقتصادية الفعلية للصناعة نفسها. يدفع الإعلامي الأكاديمي الأفريقي فاكسون باندا بأن ترسيخ ملكية سياسية للممارسة الإعلامية الأفريقية هو أمر ضروري في حسم نجاح الإعلام كقوة من أجل الحوكمة والتنمية.57 ويذكر أن هناك أربع طرق لتناول هذه الملكية السياسية للإعلام: ملكية أيديولوجية ومفهومية وإجرائية وسياقية.

يتركز الجدل حول الملكية الأيديولوجية على كون الإعلام من أجل التنمية امتدادًا للأفكار التي تقوم على ديمقراطية ليبرالية، أم أنه امتداد للإمبريالية الغربية؟ أيُفترض أن يكون إطار العمل الأيديولوجي نهجًا اشتراكيًّا أم نموذج السوق الحر على غرار النمط الأمريكي؟

ثمة جدل أيضًا حول الملكية المفهومية، فمن ذا الذي يحدد معنى المفاهيم المحيطة بالتنمية الإعلامية؟ وما هي الأنواع المتنافسة من «التنمية» و«الصحافة» التي نتخيَّلها؟ أينبغي على الأفارقة التسليم بالتوجه الحالي نحو «الصحافة التنموية» بينما يعتبرها كثيرون في «الغرب» أثرًا بغيضًا من آثار الماركسية الجديدة؟

من سيتحكم في هذا الإعلام التنموي ويشارك فيه؟ وبعبارة أخرى، من له الملكية الإجرائية؟ أيُفترض أن يحوزها الإعلام نفسه أم قادة الحكومة؟ كيف يمكن أن تدمج الجهات الفاعلة في الحقل السياسي على كلٍّ من المستويين القومي وعموم أفريقيا، بحيث تشرك الصفوة السياسية بالإضافة إلى العامَّة؟

وأخيرًا، هناك نقاش حول الملكية السياقية. يتعلق هذا جزئيًّا بكيفية ضمان إضفاء الطابع المحلي على ملكية الإعلام بغرض التنمية لتمثل «الأوضاع الأفريقية الفعلية» الكثيرة التي وصفناها أعلاه عندما تناولنا السياقات الأربعة الرئيسية لتنمية الإعلام الأفريقي.

هذه المناقشات المفهومية يمكن أن تصير أطر عمل إيجابية للتنوع وليست عوائق للتقدم، ويمكن فعل ذلك عن طريق التركيز على نموذج تطوير الصحافة ومن خلال إدخال إطار عمل الصحافة الشبكية. لا يتضمن هذا إقصاء مناهج الإعلام الهادف للتنمية الأخرى، لكنه يعني التركيز على بناء أسواق وقدرات وعلى محو الأمية الإعلامية.

الطريقة الوحيدة التي يمكن بها للصحافة الشبكية أن تعزز نفسها هي من خلال إدرار المال كصناعة وأيضًا كسبيل لرفع كفاءة الأسواق الأخرى عبر الدعاية وتبادل المعلومات. يزيد هذا من فرص خلق مراكز إنتاج مستقلة وتنافسية. لا بد من رؤية الإعلام والاتصالات على أنهما قطاع فيه أي استثمار خاص في أي نوع من أنواع الإعلام يحظى بأفضلية على الحلول التي تصر على نسخ نماذج الخدمة العامَّة من الغرب. وبهذا المعنى تكون الصحيفة النيجيرية «صَن» — التي فاز رئيس تحريرها شولا أوشنكي بلقب الصحفي الأفريقي للعام58 — أقيم من مجلة متخصصة عالية الجودة لأنها تبني قاعدةً عريضة من عموم القرَّاء وسوقَ دعاية وهيكلًا وظيفيًّا للصحفيين، وهي تنتج أيضًا صحافة استقصائية تحصد الجوائز يستطيع أن يقرأها الأشخاص إلى جانب أخبار المشاهير والرياضة.

يحتاج الصحفيون الذين يعملون في هذه المشروعات إلى تلقي التدريب والتأهيل. لكنه من الخطأ أن تظن أنه إذا وفرت عددًا كافيًا من الصحفيين فسوف تضمن الحصول على ما يكفي من الصحافة. يترك الكثير جدًّا من الصحفيين الإعلام، حالما يصبحون مهرة؛ من أجل العثور على وظائف أفضل. ينجح بناء القدرات أفضل ما ينجح عندما يكون جزءًا من بناء مجال العمل الإعلامي. ينبغي أن يتم بناء القدرات — عبر برامج التدريب الصحفي على سبيل المثال — بالاشتراك مع مبادرات محو الأمية الإعلامية؛ ومن ثم يمكن أن يخلق الصحفيون الشبكيون مشروعات مدمجة في مجتمعاتهم.

يعني تعزيز محو الأمية الإعلامية في السياق الأفريقي توفير أطر العمل القانونية واللوائح والشراكات التي تدعم الصحافة. ينبغي أن تكون الصحافة جزءًا من التعليم الابتدائي والثانوي لتعزيز الاندماج والمشاركة العمليين في الإعلام. لكن ينبغي أيضًا بذل جهد أكبر لدعم فهم المواطنين العام للدور السياسي الذي في وسع الصحافة لعبه في المجتمع. كما يشرح أحد المعلقين في مجال تطوير وسائل الإعلام الأفريقية، يتجه الأفارقة بالفعل إلى صحافة المواطن:
تنشأ حركات المواطنين المعارضة لعدم الكفاءة والفساد الحكوميين من التعبئة السياسية للعامة، وتُشعل بدورها جذوة الشراسة الإعلامية. تلقي أدوات الإعلام الجديد — مثل إرسال الرسائل النصية — أيضًا الضوء على الطريقة التي يستطيع بها الأشخاص العاديون، وليس الصحفيون المهنيون، مواجهة دعاية الحكومات الطالحة على نحو أكثر فاعلية. يظل الصحفيون المهنيون معرَّضين بشدة للترويع من السلطات لأنهم يعملون في العلن. من ناحية أخرى يكون من الأصعب تمييز المواطنين وهم يملكون في متناولهم أدوات اتصالات تزيد كثيرًا عما كانوا يملكون منذ خمس سنوات حتى مع انتشار الهواتف الخلوية والإنترنت والراديو في السنوات الأخيرة. (جي باسكال زاكري)59

يمكن أن تنطبق نفس الديناميكية على نطاق الصحافة السياسية والتنموية برمَّته في أفريقيا. لا تسهم مدخلات المواطن في حجم الصحافة السياسية فحسب، وإنما تغير صميم طبيعتها، وتجعلها أكثر متانة وأكثر اتصالًا. كما أن مدخلات المواطن أرخص وأكثر مرونة، ولأنها تعمل مع المجتمعات المحلية، فإنها تكون أكثر تعبيرًا عن ظروف معينة. لكنها ليست متاحة للجميع، ويمكن أن تكون سريعة التأثر باحتياجات الدول الهشة أو الظروف الاستثنائية لأنه لا يزال الصحفيون هم من ينقلونها، وسوف تنشأ من مبادرة المواطنين الأفارقة الذين يرومون أن يكونوا جزءًا من إعلامهم، تمامًا مثلما اقتنص المواطنون هذه الفرصة في الغرب. لكن هذا لا يعني أن الإعلام من أجل التنمية لا يستطيع المساعدة في تطوير العملية.

(٣-٥) انبعاث الصحافة الشبكية الأفريقية: الهواتف المحمولة

تعاني أفريقيا بلا ريب من شكل من أشكال الفجوات الرقمية؛ إذ لا تزال بعض مناطق القارة غير قادرة على الاتصال بما يسمى شبكة الويب العالمية؛ ولا تتوافر في أماكن كثيرة إمدادات الكهرباء بالصورة المنتظمة اللازمة لوجود أي بيئة متصلة بصورة مجدية، ومع ذلك يقدِّم لنا الانتشار الهائل في استخدام الهواتف المحمولة نموذجًا للكيفية التي بها يمكن للصحافة الشبكية الأفريقية أن تنطلق. يتزايد استخدام الهواتف المحمولة في أفريقيا بمعدل سنوي يعادل ضعف معدل استخدام بقية العالم:
بين عامي ٢٠٠٠ و٢٠٠٥ كانت هناك زيادة طفيفة في استخدام الهواتف الثابتة، بينما انكمش استخدامها في سبعة بلدان. من جهة أخرى شهد استخدام الهواتف المحمولة زيادة هائلة في أنحاء بلدان أفريقيا كافة، الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، منها ١٠ بلدان حدث فيها معدلات نمو سنوية مركبة بلغت ٨٥ بالمائة أو أكثر. (تقرير مبادرة تنمية الإعلام الأفريقي)60
يمتلك عدد أكبر من الأفارقة الآن هواتف محمولة شخصية تقدِّم خدماتها شركات خاصة بدلًا من الخطوط الأرضية الثابتة غير الموثوق بها التي تقدِّمها الدولة على نفقتها. ومن المشاهد المألوفة الآن على جوانب الطرق وفي الأسواق في أفريقيا الأكشاك التي تبيع خدمات استخدام الهواتف المحمولة المدفوعة مقدَّمًا، ويستخدم المزارعون والتجار الهواتف المحمولة لعقد الصفقات وتفقُّد الأسعار، وتبدأ المصارف في مساعدة العملاء على استبعاد الوسطاء المرتشين من خلال دفع أثمان البضائع والخدمات مباشرة عن طريق الهواتف المحمولة. إن هذه التكنولوجيا التي تعمل الآن في كينيا تتفوق فعليًّا على استخدام الغرب للهواتف المحمولة. بات الآن إرسال الرسائل عبر الهواتف المحمولة جزءًا من الحملات الانتخابية؛ ففي انتخابات نيجيريا لعام ٢٠٠٧، استخدم المراقبون الرسائل النصية لتجميع معلومات فورية حول تزييف الاقتراع، وتنوي «أصوات أفريقيا»61 — وهي عبارة عن منظمات إعلام تنموي — إنشاء شبكة من الصحفيين المزوَّدين بهواتف محمولة مزودة بجي بي آر إس (خدمة الحزمة العامَّة الراديوية)، وسوف تبيع برامج إخبارية كاملة ومقاطع فيديو ولقطات يلتقطها المراسلون بهواتفهم المحمولة إلى وكالات ومحطات تليفزيونية وصحف للمساعدة في تمويل المشروع، وهي تعدُّ نسخة خاصة من المشروع لتغطية الانتخابات الكينية لعام ٢٠٠٧.

تلخص كينيا جميع تناقضات الإعلام في أفريقيا؛ فقد سن ساستها الذين يتقاضَون أجورًا مرتفعة مشروع قانون آخر لوسائط الإعلام يقيد حريات الصحفيين، وفي الوقت نفسه، يستعد إعلام كينيا المتطور للغاية لاستخدام محتوًى من إعداد المستخدمين مثل صور الهواتف المحمولة على مواقع مثل كينيان ستاندارد. تقدِّم هذه الشبكة الناشئة من قنوات الاتصال الرقمية البديلة فرصة فريدة للتنمية الإعلامية كي تتحاشى المشكلات المعتادة في مجال تدعيم الصحافة في أفريقيا. ينبغي أن تكون الأولوية لتطوير قدرة المواطنين على الاتصال وقدرة الصحفيين على استغلال هذه التكنولوجيا. سوف يخلق هذا موردًا مستقلًّا سياسيًّا يتمتع بفرصة هائلة لأن يسمح للعامة بترك تأثير واسع النطاق على الإعلام والسياسة. كان القول المأثور القديم في مجال التنمية يقول: «أعطِ لرجل سمكة فيقتات ليومه. أعطِه شبكة صيد فيجد طعامًا إلى الأبد.» أما القول الجديد فينبغي أن يكون: «أعطِ لصحفيٍّ تدريبًا وسوف يعرف ماذا عليه فعله. أعطِه شبكة هاتف محمول وسوف تقوم الجماهير بعمله.»

(٣-٦) انبعاث الصحافة الشبكية الأفريقية: المدوِّنون

أشرت بالفعل إلى أنه من الخطأ رؤية التدوين على أنه سقف الصحافة السياسية الشبكية أو حتى شكلًا أوليًّا منها، إلا أنه جزء ضروري من عالم الصحافة السياسية الشبكية. من الصعب تجميع أرقام إحصائية، لكن موقع استضافة المدوَّنات بلوجز ويبرنج62 بدأ عام ٢٠٠٤ بعشر مدوَّنات فقط، والآن يضم أكثر من ٤٣٠ مدوَّنة. شهدت أفريقيا زيادة هائلة في استخدام الإنترنت، فبفضل البريد الإلكتروني ومواقع الويب، لا يزال الصحفيون في زيمبابوي قادرين على تقديم تغطية صحفية لا بأس بها، ومع أنهم لا يستطيعون النشر جهارًا داخل زيمبابوي، فإن بمقدورهم نقل المعلومات إلى مواقع بالخارج مثل موقع ذا زيمبابويان The Zimbabwean.63

تتيح تلك المواقع لأفراد خارج زيمبابوي إرسال أموال عبر رسائل نصية لشراء قسائم الوقود كي يستخدمها أصدقاؤهم وعائلاتهم المحبوسون في بلد يتسبب فيه نقص البنزين والتضخم الجامح في جعل حياتهم مأساة، وتتيح كذلك وصول الأخبار إلى قرابة المليون شخص من أهل زيمبابوي الذين يعيشون في المنفى، وبالطبع، فهؤلاء الذين يعيشون في زيمبابوي نفسها وبمقدورهم الاتصال بالإنترنت يمكنهم الاطلاع على رؤية إخبارية لما يحدث في بلدهم بعيدًا عن قيود الرقابة الحكومية، ومع أنه لا يوجد اتصال بالإنترنت على نطاق واسع في المناطق الريفية، فإن الإنترنت يتوافر بشكل جيد في هراري والمدن الرئيسية الأخرى؛ والدليل على قوة هذه العملية يظهر في حقيقة استماتة روبرت موجابي لإيقافها، وقد سنَّ قانونًا الآن يمكِّن قوات الأمن من اعتراض جميع الرسائل الإلكترونية والأنشطة على الإنترنت ومراقبتها.

حتى أكثر الأخبار صعوبة والتي تحدث في المناطق النائية يغطيها المدوِّنون. وكما يقر المراسل الأفريقي ستيف بلومفيلد64 فكثير من أفضل التغطيات الصحفية الميدانية من دارفور قام بها مدونون لا صحفيون مهنيون.65 إبَّان مهمة مدتها ١٢ شهرًا في دارفور ضمن بعثة الاتحاد الأفريقي في السودان، دوَّن الرائد بسلاح المشاة فرنر كلوكو من جنوب أفريقيا بانتظام المشكلات التي كانت تواجهها البعثة في المنطقة. تضم هذه المدوَّنة الرائعة سلسلة من الصور التي تقدِّم مصاحبة بصرية مذهلة لرواياته المقتضبة المليئة بالحقائق لما كان عليه الوضع في دارفور. في مدوَّنة أخرى بعنوان أَرِقٌ في السودان Sleepless in Sudan، روى عامل مساعدات غربي مجهول الهوية الصراعات اليومية التي تواجه تسليم المساعدات الإنسانية في دارفور. وتقدِّم هذه المدوَّنة رؤًى ثاقبة فريدة لواقع معسكرات اللاجئين. في كلٍّ من التغطية والتعليقات:
تكره سلطات الحكومة المحلية معسكر «كلمة» (فهي لا تكترث لجمع غفير من الرجال المسلَّحين الغاضبين القريبين للغاية من عاصمة البلد ومطارها الرئيسي) ومن وجهة نظرها سيكون الجميع بحال أفضل كثيرًا لو أن أهل معسكر «كلمة» عادوا إلى منازلهم ببساطة. بهذه الروح بذلوا قصارى جهدهم لجعل حياة الأشخاص هناك أكثر بؤسًا مما هي عليه بالفعل من خلال الحصار الاقتصادي للمعسكر، ومحاولات نقل المعسكر إلى بقعة أخرى، ومؤخرًا الرفض المتعنت للقيام بإحصاء أعداد الأشخاص الذي سوف يمكِّن أولئك غير المسجلين من الحصول أخيرًا على بطاقات تموينية. (مدوَّنة «أَرِقٌ في السودان»)66
هذه مصادر لا تقدَّر بثمن للصحافة الشبكية. لكنها لا تزال أصواتًا لأشخاص من خارج البلدان الأفريقية. أفضل المدوَّنات هي تلك التي تغطي وقائع الحياة اليومية كما يعيشها المدنيون. كتب واحد من أشهر الصحفيين الشبكيين في جمهورية الكونغو الديمقراطية يُدعى سيدريك كالنجي: «أعترف أنني أصرف المزيد من الاهتمام إلى تغطية الأمور التي لا تسير على ما يرام في بلدي، لكن في هذه المدوَّنة أتحدث فقط عما أراه بشكل يومي من يوم لآخر.» وهو أيضًا يرفق صورًا رائعة ونصًّا (بالفرنسية) يشهدان على الحياة اليومية لمواطن أفريقي بدءًا من الحملات السياسية ووصولًا إلى عودة إشارات المرور إلى العاصمة كينشاسا.67 لعل المدوَّنة تدور حول الحياة العادية، لكن حتى مع إلمامي الضعيف باللغة الفرنسية أدرك أن التعليقات التي يتلقاها على مدونته تثبت أنه يثير نقاشًا حقيقيًّا وصريحًا في واحدة من أكثر الأمم تقلبًا وانحطاطًا سياسيًّا في أفريقيا. إليكم ردود أفعال القرَّاء على صورة بسيطة68 وضعها تصوُّر أطفال الأحياء الفقيرة بكينشاسا:

ما يزعجني هو رؤية هؤلاء الأطفال بلا أحذية، وبلا حقائب مدرسية … وربما بلا مدارس أيضًا. لقد جاءت هذه الصورة في الوقت المناسب يا سيدريك. يا إلهي! حان الوقت لاتخاذ موقف حيال هذا.

ما يثير رعدتي هو أن أحدهم يسير كجندي مؤدِّيًا التحية العسكرية … أهذا ما يحلم به؟ أم أنه مجرد تمثيل؟69
أما مدوَّنة «بانكيلي» في كينيا فهي أكثر اهتمامًا بالسياسة على نحو مباشر:
قدَّم لنا أعضاء برلماننا هذا الأسبوع لحظة أخرى مثيرة للحنق من خلال قيامهم بمحاولة أخرى لرفع رواتبهم. هم أشخاص يعيشون في قوقعة اقتصادية حيث يعتقدون أن القوانين العامَّة لا تسري عليهم. هم يرفعون رواتبهم (أي مهنة أخرى يمكن أن تطالب بهذا؟)، ويدفعون ضرائب زهيدة، وقادرون على اقتراح أعداد لا حصر له من مشروعات القوانين التي تخص جميعها أموال الأشخاص الآخرين والتلاعب بها. (مدوَّنة بانكيلي)70
وبالمثل هذه التدوينة الشخصية الغاضبة من تيتيلايو أوبيسيسان حول حالة البنية التحتية العامَّة في منطقة دلتا نهر النيجر الغنية بزيوت النخيل بنيجيريا:
شعرت بالخزي والعار الشديدين على حال مدينة بورت هاركورت، وكما لو كانت حسرتي وخيبة أملي غير كافيين، بعدها بيومين — لسوء حظي — سافرت عبر الطريق المؤدي من بورت هاركورت … إلى لاجوس، وقد تبيَّن أن هذه الرحلة من أكثر التجارب التي مررت بها رعبًا دون مبالغة؛ فالقول إن الطرق في غاية «الرداءة» هو استهانة بالواقع، ومن القليل الذي رأته عيناي من … المنطقة الغنية بزيوت النخيل في هذا البلد … فإن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن أصف بها حالة منطقة دلتا النيجر هي ما أطلقت عليه «اغتصاب دلتا النيجر». (المدوِّن تيتيلايو سوريمي)71
تدحض تلك النوعية من الآراء فكرة أن الأفارقة لا يغضبون من الانتهاكات التي تحدث في بلدانهم وأنهم لم يعودوا يرغبون في أن يبذل ساستهم المزيد من الجهد. يوفر الإنترنت كذلك مجالًا للنقاش على مستوى أفريقيا، كما توضح هذه التدوينة التهكمية التي نشرها أوبيد ساربونج من أكرا بغانا. كان هذا رد فعله على قرار جنوب أفريقيا بفرض مراقبة أكثر صرامة على الحدود:
ماذا كان سيحدث لو أن زيمبابوي وسائر أفريقيا [بما فيها بلدي غانا] أغلقت حدودها المطلة على جنوب أفريقيا عندما كانت تعاني في ظل نظام التفرقة العنصرية البربري الذي فرضه عليها البيض، هه؟ … يدين شعب جنوب أفريقيا لعموم أفريقيا بدين معنوي ولا بد أن يرد الجميل بكل الطرق — متى استطاع — لأي أفريقي. لا تقلقوا، إنني أمزح فحسب. أعلم أن شعب جنوب أفريقيا يخشَوْن على وظائفهم. ربما أنتم على حق، لكن ألم نكن كلنا نحمل التخوف نفسه عندما قدمنا لهم يد العون؟ (المدوِّن أوبيد ساربونج)72
إذا كان كنه التدوين هو أن تكون سوداويًّا على المستوى العالمي، إذن أوبيد ساربونج هو دليل على بلوغ التدوين مرحلة النضج بحق في أفريقيا:

إذا كان في وسعي الاعتماد على غريزتي بشكل ما، فإنني أتهم القوى الغربية، والحكومات الأمريكية (لكني لا أكنُّ أي ضغينة لمواطنيها الأبرياء)، وروسيا، وبعض من محتالي الشرق الأوسط مثل إيران وسوريا والسعودية بالقتل، وأستنكر ما يحيكونه من خطط لإنزال المعاناة بشعوب العالم.

لا أعرف لماذا يفترض بي التفكير بهذه الطريقة في يوم بارد وعاصف ومليء بالأتربة وغائم يعتريه تدفق عارض لأشعة الشمس نحو منزلي في أوسو هنا بأكرا؛ وعليه فلا تسألني عن تلك الأشياء التي كتبتها لتوِّي في عجالة عن بعض الأشخاص القابعين في بلدانهم المختلفة. لكني سأوضح لك الأمر على أية حال. (المدوِّن أوبيد ساربونج)73
هذا تدوين سياسي لاذع في أكثر أشكاله ذاتية. هو الصوت الصادق لشخص واحد في مكان واحد بعينه يتحدث إلى العالم. هذا التدوين يقدِّم للأفارقة صوتًا يخلق مجتمعات على الإنترنت على المستويين المحلي والعابر للحدود. يظهر هذا الاستخدام المتزايد سريعًا للهواتف المحمولة والإنترنت ابتكارًا ومرونة ملحوظين. كما أنه يثبت وجود احتياج هائل للصحافة الشبكية، ويشير إلى وجود موارد هائلة من إبداعية المواطنين في انتظار استغلالها. لكن في الوقت الحالي ثمة إحجام مفهوم من جانب مؤسسات الإعلام التنموي التقليدي عن خوض التحدي، ولديهم أسبابهم الخاصة، فهم يقولون إن الإعلام الجديد يمثل أقلية قليلة من الإعلام الإخباري وإنه يخدم صفوة مثقفة. لماذا نحول التمويلات بعيدًا عن المهمة الضرورية المتمثلة في التدريب الأساسي للصحفيين أو الضغط من أجل حرية التعبير؟ في رأيي لا تقول الصحافة الشبكية إنه يفترض بك أن تهجر الإعلام التقليدي، وإنما العكس تمامًا. كما خلص تقرير حديث حول مستقبل الإعلام الأفريقي، تقدِّم الصحافة الشبكية طريقًا للتقدم لكلا الإعلامين:
يقدِّم ازدهار منصات الإعلام الجديد فرصة لتوجيه المبادرات الإعلامية عبر قنوات جديدة، ويوطد دعم نهج لتطوير الإعلام على مستوى أفريقيا. سوف يحتاج ذلك الجهد إلى السماح بإدماج مشروعات وعمليات تعلُّم مشتركة ومنسقة، وإنشاء المزيد من نماذج تطوير الإعلام المستدامة، وفتح مجال للدعم، ودعوة تمويل أكثر تكاملًا، واحترام الحاجة إلى محتوًى يتلاءم مع احتياج الجماهير المحليين. سوف تقلل مثل هذه النوعية من المبادرات بعضًا من التحديات التي يواجهها الإعلام الأفريقي، ونحن نرحب في المستقبل بفرصة بحث ما سيشكل مشهدًا إعلاميًّا ذا عواقب ليست محلية أو قومية أو إقليمية فقط بل وعالمية أيضًا. (تقرير تنمية وسائل الإعلام الأفريقية)74

إن الصحافة الشبكية هي فرصة جديدة للإعلام الهادف للتنمية في أفريقيا، وهي تقدِّم طرقًا للتغلب على العوائق التي حالت دون تطور الإعلام في الماضي. ينبغي أن يدرك كلٌّ من المتبرعين الغربيين والحكومات الأفريقية والمنظمات الإعلامية والمستثمرين أن هذه فرصة لصنع نموذج جديد، وسوف يكون مختلفًا عما مضى قبلًا، وقطعًا يكاد يكون مختلفًا عما يحدث في الغرب. تتمثل مهمته العظمى في المساعدة في إحياء مجال السياسة الأفريقية؛ ففرص التنمية سوف تكون أكبر في ظل الحوكمة الأفضل. والتغطية الأفضل للسياسات الأفريقية هي شرط أساسي لما سيحدث مستقبلًا. لكن كما لخصت في الفصل السابق، تحتاج الصحافة الشبكية إلى استثمار والتزام، ولم يُفعل إلا أقل القليل لمواجهة هذا الاحتياج في الوقت الحالي، وقد حان الوقت لأولئك الذين يقدِّرون دور الإعلام لاغتنام هذه الفرصة.

(٤) خاتمة: الصحافة الشبكية والسياسات

يمكن بناء تفاؤل عملي بشأن الإعلام الإخباري السياسي على تجربتنا حتى الآن في مجال الصحافة الشبكية. أعترف أن هناك تحفظات؛ فهناك حدود للديمقراطية، وهناك دائمًا مجموعات تسعى للاحتفاظ بالسلطة من خلال تقييد الشفافية، وهناك حدٌّ للتثقيف السياسي وحاجة إلى الكفاءة. يمكن للديمقراطية التمثيلية أن تعمل فقط في حال سُمح للممثلين في مرحلة ما من العملية بمباشرة العمل. من الصعب دائمًا قياس تأثيرات الإعلام، ويتعيَّن إجراء نقاش طويل بشأن تعريف كنه ما هو سياسي بالضبط، في عالم ما بعد عصر الصناعة. بالمثل، كيف نفصل الصحافة عن الاتصال السياسي العام؟ يضم هذا العلاقات العامَّة والدعاية والمعلومات العامَّة التي يتعيَّن أن تتماشى مع إطار الإعلام الإخباري.

عادة ما تضع دراسات الاتصالات السياسية الإعلام في موقع يتوسط الممثلين السياسيين والعامة.75 على نحو متزايد سيصير هذا الرأي مفرطًا في التبسيط، فسيستطيع الساسة استخدام تكنولوجيا الإعلام الجديد للتواصل مباشرة مع المصوتين والعكس. أشارككم فيما يلي أمل جو تريبي في أن يصلح هذا هياكل السياسة نفسها:
بتواصل الأفراد ستتغير السياسة على مستوى العالم، هي مسألة وقت فحسب. فيما تُرد العملية إلى الأفراد، وفي الوقت الذي فيه تتقوى الشبكات، سوف ينهض الحكم الذاتي مرة أخرى. جو تريبي76

إنني أقل ثقة من تريبي في التوقيت ومدى حدوث هذا، وتساورني الريبة في أنه سوف يسفر عن نتائج سياسة جديدة أو نقل عميق للسلطة من الممثلين السياسيين إلى المصوتين؛ إذ لا بد أن ينبع هذا من أحداث اجتماعية وسياسية، وليس من مجرد رسائل. إلا أن الصحافة السياسية الشبكية أثبتت بالفعل أنها تغير موازين القوى من حولها؛ فهي تعيد ترتيب العمليات السياسية، كما أنها تعكس رغبة ملموسة بشدة بين المواطنين المعاصرين لشكل أكثر مباشرة وانفتاحًا من التواصل السياسي. حان الوقت الآن لرؤية الكيفية التي يمكن أن تتأهب بها الصحافة والمجتمع لهذه الفرصة.

ملخص الفصل

  • لأسباب عديدة، منها عوامل تتجاوز السياسة أو الصحافة، يوجد خلل ديمقراطي عالمي؛ حيث إن الجماهير تشير إلى انقطاع قنوات الاتصال بين السلطة والشعب.

  • يقدِّم الإعلام الإخباري تغطية صحفية لمجال السياسة أكثر من أي وقت مضى إلا أنها تغطية غير موثوق بها.

  • في الولايات المتحدة الأمريكية تغير المدوَّنات والحملات التعبوية على الإنترنت إطار عمل الاتصالات السياسية.

  • لا تزال وسائل الإعلام التقليدية والحملات السياسية التقليدية مسيطرة.

  • تقدِّم الأشكال الجديدة للاتصالات والصحافة على الإنترنت إمكانية بدء حوار سياسي جديد حقيقي، لكنه قد يظل هامشيًّا.

  • في بريطانيا تكتسب صحافة الإعلام الجديد المستقل المزيد من التأثير المحلي، عادة في ظل علاقة تكافلية مع وسائل الإعلام الإخبارية التقليدية.

  • لن تكون المساعي المبذولة لتثبيت الديمقراطية الإلكترونية فعالة إلا في حال إدماج الصحافة الشبكية.

  • تملك أفريقيا سوقًا إعلاميًّا مختلفًا ذا مشاكل خاصة ويطرح فرصًا لاستغلال القيمة السياسية للإعلام الجديد.

  • تشير إبداعية الأفارقة في استخدام الهواتف المحمولة والتدوين إلى وجود فرصة كبيرة لتطوير الصحافة السياسية في صورة نموذج شبكي.

  • سوف تكفل تكنولوجيا الإعلام الجديد إعادة الاتصال بين الجماهير والسلطة شريطة أن تُطبَّق عبر صحافة أكثر شبكية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤