الفصل الخامس

يمكننا جميعًا أن نكون أبطالًا خارقين

الصحافة الشبكية قيد العمل: التنوع التحريري ومحو الأمية الإعلامية

سلَّط تحدي الإرهاب الضوء بقوة على أننا بحاجة إلى المزيد من الصحافة، لا أقل، وأن الصحافة بحاجة إلى التطور. ولقد ذكرتُ أن هذه الصحافة تحتاج إلى أن تكون أكثر ترابطًا بمراحل؛ وبما أن كل صحفي بمقدوره فعل المزيد، فإن كل صحفي سوف يقدِّم المزيد. مرحبًا بكم في عصر الإعلام الخارق وبطل هذا العصر هو «الصحفي الشبكي». سيظل لدى الصحفي الشبكي مهام ومهارات أساسية معروفة، فنحن نريد شخصًا يغربل التدفقات المعلوماتية الهائلة، وأن يفعل ذلك بسرعة؛ فقد أصبح بإمكاننا الاطلاع بلا قيود على كم هائل من الحقائق والآراء والصور. نحن بحاجة إلى محررين؛ إلى شخص ينتقى بين الخيارات، ويفاضل بين البيانات والتعليقات على حسب أهميتها، ولا بد من إخراج هذا كله في صورة نهائية. نحتاج إلى أشخاص بمقدورهم معالجة المعلومات بطريقة نجدها مفهومة، ويتعيَّن فعل ذلك بسرعة، بل ويمكن أن تكون الصحافة أكثر نفعًا بأن تقدِّم لنا تغطية محلية ترصد التغيرات التي تطرأ على عالمنا السريع الإيقاع بصورة متزايدة. ولكي تستحق عملية نقل الإخبار لقب صحافة لا بد أن تنال درجة من المصداقية لا أن تكتفي بكونها شهادة على الأحداث، ولا بد أن يثق الناس بها كنسخة من الواقع تتطلع إلى الموضوعية والنزاهة والدقة والشمولية. ربما تكون ذات قيمة دون هذه الميزة، لكنها لن تكون صحافة في تلك الحالة. يمكن أن تعهد بهذه المهارات إلى فاعل متخصص، وبعبارة أخرى: إلى صحفي. أو أن المشاركين بمقدورهم تحمل مسئولية تلك الأدوار. وفي كلتا الحالتين يكون الشكل النهائي هو صحافة شبكية. وسأحاول في هذا الفصل الأخير توضيح الكيفية التي يمكننا بها إنقاذ الصحافة؛ أعني بهذا الكيفية التي ينبغي أن نغير بها الصحافة. وكي نفعل ذلك نحتاج إلى الاستثمار في التنوع التحريري ومحو الأمية الإعلامية، وسأختم بالإشارة إلى ما قد يقدِّمه هذا في مجال السياسة.

يحتاج الصحفيون العاملون بالصحافة الشبكية إلى أن يكونوا أكثر كفاءة من أي وقت مضى؛ لأنهم يعملون مع أناس يظنون أنهم يعرفون أكثر منهم ألا وهم العامَّة، وفي كثير من الأحيان يكون هذا صحيحًا بالفعل؛ فالمعلومات في كل الأرجاء ومن السهل الوصول إليها؛ وعليه، فيتعيَّن على الصحفيين العاملين بالصحافة الشبكية إضافة قيمة تحريرية إضافية. وفي هذا العصر الذي يتميز «بفيض المعلومات» سيكون هناك المزيد من الطلب على الصحفيين بصفتهم محررين، وعلى الأسماء الصحفية الجديرة بالثقة التي يمكن الاعتماد عليها، في التخلص مما لا قيمة له وإنتاج ما هو نافع بطريقة تتسم بالمصداقية. وفي عالم تتلاعب فيه الحكومات وأصحاب الأعمال بوسائل الإعلام على نحو متزايد، تتزايد أهمية استخدام الصحفي الاستقصائي للتكنولوجيا وأساليب الاتصال لكشف الحقائق المستترة. يتسم الصحفيون العاملون بالصحافة الشبكية بالانفتاح والتفاعلية والاهتمام بمشاركة العملية الصحفية، وبدلًا من أن يكونوا ملقمين يتحكمون في تدفق المعلومات، يكونون وسطاء؛ وتصير الجماهير شريكة في الإنتاج. الصحفيون العاملون بالصحافة الشبكية هم «غير مهتمين بالوسط الذين ينقلون به الخبر» وإنما هم «مهتمون بالخبر» نفسه.1 تتسم عملية الصحافة الشبكية بكونها أسرع وتساعد على بقاء المعلومات لفترة أطول وعلى دورانها إلى ما لا نهاية. بالطبع يتعيَّن على الصحفيين العاملين في مجال الصحافة الشبكية معرفة آلية عمل التكنولوجيا وكيفية استخدامها: من مدوَّنات، وملقمات أخبار، إلى العلامات، والروابط إلى آخر المصطلحات الخاصة بالتكنولوجيا. كما يتعيَّن عليهم التمكن من وضع مقطع فيديو أو مقطع صوتي على الإنترنت، ومن البث الصوتي، وبعث رسائل تحذيرية، وبإمكانهم تعهيد الجماهير وإنشاء صفحات ويكي. ليست جميع هذه المهام جديدة أو عالية التقنية؛ فالصحافة في عصر شبكي تستعين أيضًا بقوالب قديمة. بعض «المنصات الإعلامية» المجربة والمختبرة يجري إعادة اكتشافها من أجل الصحافة. لقد زاد عدد الكتب غير الروائية التي تتناول موضوعات جادة مثل كتاب «أمة الطعام السريع»،2 والأفلام الوثائقية الطويلة مثل فهرنهايت ٩ / ١١، وهذان مثالان اثنان فحسب.3 الكتب والأفلام الوثائقية هي منصات إعلامية قديمة تجد قيمة متجددة ومتينة في عصر من المتوقع أن ينتصر فيه كل ما هو سريع وغاضب، ومرتجل وسطحي، ومع ذلك يجد أشخاص مثل مايكل مور ومورجان سبورلوك وإريك شلوسر جمهورًا جديدًا متلهفًا على الأعمال الطويلة. على أنهم يستغلُّون أيضًا التكنولوجيا الجديدة للترويج لأفلامهم وكتبهم ولمدِّ تأثير أعمالهم إلى الإنترنت. ولا يتعيَّن على الصحافة الشبكية أن تكون فقط ماهرة بما يكفي لاحتضان مجموعة التغيرات الحالية، وإنما أن تكون أيضًا مرنة بما يكفي لاغتنام مجموعة الفرص التالية كي تنهض.

الطرف الآخر في معادلة الترابط هو محو الأمية الإعلامية لدى العامَّة. ليس بالضرورة أن يتحول كل مواطن إلى صحفي. لكن في ظل سياسة واقتصاد المعلومات، لكل فرد الحق في الوصول إلى الإنترنت. وفي البيئة الأكثر ترابطًا يحتاج الأفراد إلى مجموعة متطورة من المهارات لممارسة هذا الحق بطريقة عملية وذات معنًى؛ ومن ثم فنحن بحاجة إلى توفير تجارب التعلم وفرص المشاركة التي ستتيح للعامة الارتباط شبكيًّا بالصحافة. وعلى أحد المستويات تعد هذه مسألة مباشرة نسبيًّا تخص تعديل المناهج من خلال نظام التعليم وما بعده. لكن على مستوًى عميق هي أيضًا مسألة تحدٍّ لفكرة «الجمهور واسع الاطلاع».

كي تتمتع الصحافة بشفافية صادقة وفاعلية أكيدة في بيئة الإعلام الجديد التي وضحتها، يحتاج المجتمع إلى استيعاب شكل مختلف للعلاقة بين الجمهور ومنتج وسائل الإعلام الإخبارية وتدعيمها. يعني هذا أن المؤسسات كافة، بدءًا من الحكومة إلى العلاقات العامَّة ووصولًا إلى القطاعات الخيرية، سوف تُضْطَرُّ إلى إعادة توجيه نهجها نحو العامَّة والإعلام، وسيتعيَّن عليها أن تكتسب معرفة أكبر بالإعلام وتقدم دعمًا أكبر لمحو الأمية الإعلامية بين الناخبين والعملاء والداعمين. يبدأ الأمر بتمكين المواطنين من أن يكونوا جزءًا من عملية الإنتاج الإخباري. على أن هذا عالم إعلام جديد؛ حيث تعني مفاهيم مثل «المشاع الإبداعي» أن محو الأمية الإعلامية ترتبط أيضًا بمحو الأمية الفكرية بل وأيضًا الأيديولوجية، بالإضافة إلى مجموعة من المهارات العملية. وكي يصير هذا كله واقعًا فلا بد أن نستثمر كمجتمعات في الصحافة الشبكية. وفي رأيي فإن هذا المال منفَق في محله. محو الأمية الإعلامية هو منفعة اجتماعية. هو ليس بأهمية خدمات عامَّة مثل الدفاع أو الصحة على سبيل المثال. على أنه شرط مسبق مهم كي تقدَّم المنافع الاجتماعية الأخرى كافة بطريقة فعالة وديمقراطية. يعزز محو الأمية الإعلامية الشفافية والحوكمة عن طريق المشاركة المدنية. في هذه المرحلة تصطبغ الصحافة الشبكية بالصبغة السياسية. إذن ماذا علينا أن نفعل؟ أولًا، سوف أتناول مفهوم محو الأمية الإعلامية الناشئ من منظور الصحفيين المهنيين ثم من منظور المواطن.

(١) التنوع التحريري

يحتاج الصحفيون العاملون في مجال الصحافة الشبكية إلى إدراك أنهم في منافسة مع مجموعة هائلة من وسائل الجذب البديلة. يجب أن يفهموا تنوع جمهورهم، ولا أقصد بهذا فقط التركيبة العرقية أو الانتماء السياسي للجمهور، إنما أقصد أيضًا حقيقة أننا كلنا سوف يكون لدينا هويات متعددة على نحو متزايد بمساعدة تكنولوجيات الإعلام الجديد. يمكننا أن نتحول من الشخصي إلى المهني، وأن نمزج العمل بالمتعة، والتعلم بالتسلية ونقوم بتغطية المعلومات بينما نتفاعل اجتماعيًّا. لا بد أن تقوم الأخبار بما هو أكثر من مجرد التعبير عن هذا التنوع في ممارسة الاتصالات، ولا بد أن تكون جزءًا منه، ولا بد أن يعكس تكوين غرفة الأخبار جمهورها من حيث التعبير عن هويته ولكن أيضًا من حيث سلوك الصحفيين. من المفترض رؤية التنوع كمورد وليس كشرط أدبي. تيسر الصحافة الشبكية هذا لأن عملية الإنتاج تسمح باستقبال مدخلات أكبر من الجمهور. لكن ما هي المهارات والصفات التي يحتاجها الصحفي الذي يعمل في الصحافة الشبكية كي يصنع إعلامًا خارقًا؟

تتمثل واحدة من المشكلات في وجود نقص في التنوع التحريري في وقت نحتاجه فيه أشد الاحتياج. انظر إلى التركيبة الاجتماعية الفعلية للإعلام الإخباري. قد تظن أن عوامل مثل التوسع العالمي في «مواصلة التعليم» والسهولة التي بها يمكننا جميعًا الوصول إلى صحافة الإنترنت من المفترض أن تعني أن الإعلام الإخباري سيكون أكثر تنوعًا في تركيبه عما سبق. لكن الواقع هو أن وسائل الإعلام التقليدية عرضة لأن تصبح أضيق أفقًا وأكثر تفتُّتًا لا أكثر تعددية وثراءً؛ فهي لا تزال خاضعة لهيمنة مجموعات اجتماعية صغيرة نسبيًّا تخلق ثقافات حصرية غير منفتحة. يختلف هذا على حسب المجتمع ووسائل الإعلام الإخبارية المعنية. على أن تركُّز ممارسي الإعلام الذين ينتمون إلى مجموعات محدودة أمر شائع في معظم الأسواق الإعلامية. في المملكة المتحدة على سبيل المثال، لم نشهد زيادة واسعة في أعدد الصحفيين السود أو المسلمين أو الصحفيين من خارج أبناء الطبقة الحضرية الوسطى. هذا بالرغم من الجهود الجماعية المنسقة التي يبذلها المذيعون بالأخص لتشجيع تعيين صحفيين من أقليات عرقية. تقلل اتجاهات أخرى مثل نمو دراسات الصحافة في التعليم العالي تأثير هذه المبادرات جزئيًّا؛ إذ يتسبب إضفاء الطابع المهني على الصحافة في استبعاد الفئات المجتمعية التي لا تنتمي إلى النخبة. ليس لديَّ أدنى اعتراض على الدراسات الإعلامية أو الدورات التدريبية في مجال الصحافة كوسيلة للتأهل لمهنة الإعلام الإخباري، بل على العكس تمامًا. لكن هذه الدورات التدريبية تلقى رواجًا كبيرًا، والالتحاق بها يقتضي خوض منافسة شديدة؛ ومن ثم تكمن المشكلة في إنها عرضة للتمييز لصالح الأكثر تأهلًا والمتمتعين بالامتيازات الاجتماعية. كذلك ربما يكون أبناء الطبقة الوسطى هم من يستطيعون تحمُّل الرواتب المنخفضة التي يتقاضاها الموظفون المبتدئون والتي تكون مَعبرًا إلى الكثير من مؤسسات الإعلام الإخباري التجاري؛ إذ سوف يدعمهم أهاليهم ماديًّا أثناء عملهم بلا مقابل إلى أن يكتسبوا هذه الخبرة المبدئية المهمة ويكوِّنوا معارف. يمتزج هذا الاتجاه بشعور متزايد لدى الشباب من الأقليات بأن الإعلام التقليدي غير موجه لهم كمستهلكين، فما بالك كممارسين. من الضروري أن تكدَّ كليات الإعلام من أجل جذب دفعة أكثر تنوعًا إن كانت تبغي تقديم إعلام إخباري يتمتع بالموارد البشرية المتنوعة التي يحتاجها؛ بَيْدَ أنَّ الصناعة نفسها هي التي تخلق الطلب، كما هو الحال دائمًا مع الإعلام الإخباري.

الصحافة الشبكية ليست الحل الوحيد إلا أنها تقدِّم طريقة لأن يحل التنوع محلَّ التفتيت؛ فهي تقدِّم فرصة لأن تحل الشمولية التشاركية — التي قد تتمخض عن تنوع أكبر في الأشخاص الذين يمكن أن يلتحقوا بمجال الإعلام الإخباري بل ويديروه — محل الحصرية المهنية. الصحافة الشبكية بمقدورها جلب مهارات الإنتاج وتقنيات الاتصال التي تميز الإعلام الإخباري التقليدي إلى الصحافة التشاركية المتصلة بالإنترنت. من مصلحة الإعلام الإخباري أن يوظف تشكيلة منوعة من الأشخاص الذين سوف يتصلون بالجماهير المتنوعة، فضلًا عن أن خبرة العامَّة الظاهرة في صحافة المواطن يمكن أن تساعد في بناء إبداع ومهارات جديدة في الصحافة التقليدية. مع الصحافة الشبكية يمكننا جميعًا أن نتعلم معًا أثناء ممارستها.

ما يجدر بنا تعلُّمه هو الكيفية التي يمكن بها تحسين حالة الصحافة التقليدية المعاصرة التي يشوبها الملل وعدم القدرة على التعبير عن الواقع والافتقار إلى الإبداع على نحو متزايد، فيما تتسارع خطى الأخبار وتتقلص ميزانيات العمليات التحريرية، تصبح طريقة إنتاج الأخبار أكثر توقعًا وأقل اختلافًا. تقدِّم الصحافة الشبكية تنوعًا أكبر في المحتوى في حال تدبرها كما ينبغي وعلى نحو خلَّاق، وبمقدورها أن تقدِّم مدًى وعمقًا وسياقًا أكبر. ما نسعى إليه هنا هو ما أسميه «التنوع التحريري»، وهو في الأساس انفتاح على التعاون مع مصادر ووجهات نظر وروايات جديدة وقدرة على استخدامها لصنع صحافة شبكية. إليكم مثالًا ضربه توم أرميتاج في مقال عن «الإعلام القادم»:
عندما اندلعت أعمال الشغب في الضواحي الفرنسية الخريف الماضي، أرسلت الصحيفة السويسرية لو أبدو www.hebdo.ch صحفيين ليدوِّنوا أعمال الشغب من قلب الحدث، حيث كانوا يعملون من مكتب صغير في بلدة بوندي. عندما فعلوا هذا اكتشفوا أن ما يجعل مدوَّنة ما ناجحة ليست التكنولوجيا التي تدعمها، أو تطلعها إلى مصافِّ العمل الصحفي، وإنما ما يجعلها ناجحة هو الأصوات التي تكتبها.
وعليه، غيرت لو أبدو نهجها، فأخذت سبعة أفراد من قاطني بوندي إلى سويسرا، وقدمت لهم دورة تدريبية مكثفة في الصحافة والتدوين ثم سلمتهم المدوَّنة، وكانت النتيجة هي مدوَّنة بوندي بلوج previon.typepad.com التي ما زالت تحقق نجاحًا ساحقًا وتحظى بموقع مهم في مناخ السياسة الفرنسية الحالي. ما كانت هذه المدوَّنة لتوجد لولا إدماج مهارات الإعلام القديم بتكنولوجيا وتوجه الإعلام الجديد.4
هذا مثال جيد على مشروع شراكة، وهناك أمثلة أخرى كثيرة،5 لكن الهدف من الصحافة الشبكية أن يصبح هذا نمطًا متكررًا باطِّراد. في بعض الأحيان سيكون هذا منافيًا للبديهة من منظور الصحافة. وكما يوضح جيف جارفيس، يتعيَّن على الصحفيين في بعض الأحيان أن يفعلوا القليل لإنجاز الكثير:
جرب هذا كقاعدة جديدة للصحف: غطِّ الأخبار التي تبرَع فيها أكثر ما تبرع، ثم اربطها ببقية الأخبار. هذه ليست الطريقة التي تعمل بها الصحف الآن؛ فهي تحاول تغطية كل شيء لأنها ألِفت الاضطرار إلى أن تقدِّم كل شيء لجميع أنواع الأفراد في الأسواق التي تستهدفها. كانت تأخذ نسخة وكالة الأنباء ثم تعيد صياغتها حتى يمكنها أن تقدِّم إلى جمهورها كل شيء. لكن في عصر الترابط، من الواضح أن هذا غير مُجْدٍ وغير ضروري؛ إذ يمكنك الوصول إلى أخبار أعدَّها شخص آخر وإلى أخبار بقية العالم، وإن فعلت هذا، فبمقدورك إعادة توزيع مواردك المتضائلة على ما يهم. (جيف جارفيس، مدوَّنة باظ ماشين)6

وكما يوضح جارفيس، ففي عصر مقاطع الفيديو التي تُذاع على الإنترنت يمكن أن ينطبق هذا على نشرات الأخبار أيضًا. إن تطبيق هذا المبدأ ينبغي أن يساعد الصحفيين على إنجاز المزيد؛ أن يقوموا «بما يهم» كما يقول جارفيس.

وكي يحقق الصحفيون المزيد، فسوف يتعيَّن إعدادهم على نحو أفضل، ولكي يقدموا نوعية تحليل أو تغطية صحفية تضيف قيمة نافعة، فسوف يتعيَّن عليهم التحدث إلى مصادر أكثر، لا أقل. سيتعيَّن عليهم أن يكونوا أكثر مصداقية وجدارة بالثقة في مواجهة الذاتية المطلق لها العنان في عالم المدوَّنات. كما أشار أحد مؤرخي الصحافة، يمكن النظر إلى هذا على أنه عودة إلى القيم الأساسية للصحافة. لكننا بحاجة الآن إلى مزج المهارات التحريرية العتيقة الجيدة مع القدرات والمؤهلات الشبكية الجديدة:
يمكن مسامحة المراسلين المستنزفين على أحلامهم بأن مجيء هذا العصر من التحليل والتقييم [الذي سيحلُّ محلَّ عصر جمع الحقائق الأساسية] سيؤدي بهم إلى حياة من التأمُّل الهادئ. لكن هيهات! سيتطلب الأمر المزيد من التغطية المضنية وليس أقل … فالوصول إلى معنى الأحداث سوف يتطلب البحث فيما وراء المؤتمرات الصحفية، والهرب من الحشود الغفيرة، وتعقُّب مصادر أكثر اطلاعًا، وإمضاء المزيد من الوقت برفقة المتضررين … من المفترض أن المزيد والمزيد من المصادر المتنوعة سوف يحسن أفكار الخبر ويعزز الأخبار، ويساعد المراسلين على معرفة المزيد عندما يصرِّحون بما يعرفونه. (ميتشل ستيفنز، مجلة كولومبيا جورنالزم رفيو)7
قد يُوجَّه هذا المورد التحريري الذي تحرَّر مؤخرًا نحو تغطية أكثر محلية أو أكثر تخصصًا. قد يُستخدم أيضًا للسعي وراء ما كان الكثير من صحفيي الإعلام التقليدي يزعمون أنه غاية مساعي الإعلام الإخباري ألا وهو التحقيق والاستقصاء. عندما تستثمر الصحافة الشبكية في التعمق في البحث والتنقيب يمكنها الارتقاء بتلك العملية من خلال مشاركة النتائج بدلًا من اتباع غرائزها السابقة التي كانت تسعى إلى حماية النتائج. حين نشرت صحيفة الجارديان البريطانية سلسلة من الأخبار الحصرية حول علاقة حكومة المملكة المتحدة بحكومة السعودية بشأن صفقة أسلحة بي إي إيه، قررت أن تضع البيانات الهائلة التي حصلت عليها على الإنترنت، ولم يقتصر وظيفة الموقع الذي يعرض ملفات بي إي إيه8 الذي أنشأته الصحيفة على عرض مقالاتها المنشورة كافة وبعض المقالات الأساسية عن الموضوع على الإنترنت، وإنما يضم الموقع أيضًا مخططات بيانية تفاعلية رائعة تتيح لك متابعة هذه القصة الشديدة التعقيد، وكان يحتوي كذلك مقاطع فيديو رائعة لمقابلات مع المشاركين الرئيسيين. لكن ربما أهم ما في الموقع أنه يعرض أيضًا كمية هائلة من الروابط والمستندات الأساسية على الإنترنت التي سوف تساعد صحفيين آخرين على المزيد من التعقب لهذه القصة على المستوى الدولي. ولديه إمكانية إصلاح مجمل طريقة عمل التحقيقات الصحفية. كما يقول المراسل الذي قاد التحقيق ديفيد لي، هذا أمرٌ مهمٌّ؛ لأن الأخبار أصبحت عالمية الآن:
نحن نسعى إلى أن نشق طريقنا نحو نوع جديد من الصحافة. يقول الجميع إن الإنترنت صار عالمًا جديدًا مع صحافة المواطن؛ حيث يوجد جمهور عالميٌّ يدلي كلٌّ منهم بدَلْوِهِ الخاص، ونحن حاولنا أن نمارس الصحافة بهذه الطريقة ونقول «هذه نوعية جديدة من الصحافة وسوف نعرض كل شيء أمام الجميع.» المشكلة هي أن كل المجرمين أصبحوا يعملون على مستوًى عالمي، وقوات الشرطة تتجه تدريجيًّا نحو العالمية، والآن الصحفيون عالميون بالمثل. من الضروري أن نلحق بالركب. (ديفيد لي، صحيفة الجارديان)9

فيما مضى كان من الممكن أن يكتب ديفيد لي كتابًا عن هذا التحقيق وكان سيمكث على أرفف المكتبات تكسوه الأتربة، إنما بدلًا من ذلك أنشأت الجارديان موقعًا مذهلًا من شأنه أن يجذب القرَّاء. ليس هناك بديل لمنح الصحفيين الاستقصائيين المزيد من الوقت والإيمان بقدرتهم على الإتيان بثمار من النبش في الأعماق والبحث على نطاق أوسع. على أن الإنترنت والتكنولوجيا الجديدة الأخرى بإمكانها المساعدة. يمكن لمواقع الويب التي تتمتع بإمكانية تعهيد الجماهير لتتبُّع ملفات بي إي إيه ممارسة ضغطها لمواصلة فتح القضية من خلال تشجيع صحفيين أو جماهير آخرين على تغذية غرف أخبارهم بمعلومات عن هذه القضية أو قضايا أخرى مشابهة للفساد العالمي.

(١-١) فكرة الويكي

دعونا نلقِ نظرة أعمق على مثال شهير حول الكيفية التي حاول الناس بها استخدام إحدى وسائل الإعلام الجديدة لإعادة استحداث صحافة. من الواضح أن مواقع الويكي تختلف كثيرًا عن «الإعلام القديم» أو التغطية الصحفية التقليدية؛ فهي تقدِّم تسهيلات للتواصل تختلف من حيث الجودة والحجم عن الإعلام الخطي. لكن كما سنرى، تسفر التكنولوجيات الحديثة لدى تطبيقها عن مشكلات تمامًا مثلما تخلق فرصًا.

تتجسد فكرة الويكي أشهر ما تتجسد في الموسوعة الموجودة على الإنترنت التي تحمل الاسم نفسه،10 وفكرتها هي التوصل إلى توافق في الرأي عن طريق التفاعل المفتوح. في المعتاد كانت الموسوعات التقليدية تكلف أحد الخبراء بكتابة المدخلات، بنفس الطريقة التي بها يُتوقع من صحفي في الإعلام القديم أن يعد تقريرًا عن حدث ما أو حقيقة ما. هكذا يصبح لديك نسخة واحدة — رسمية عادةً — من الواقع. تنتفع مواقع الويكي من برنامج يسمح بإنشاء نسخة من الواقع يعدها مجموعة من الأفراد. يعني هذا عمليًّا أن ويكيبيديا غير مستقرة لأنه يتم الإضافة إليها ومراجعتها على الدوام. لكن بما أن عددًا كافيًا من الأشخاص يتولى المراجعة والتعديل، فإنها أقرب ما يكون إلى نسخة مفصلة أُعدت بإجماع الأشخاص. وأي شخص ينشر رأيًا متطرفًا أو بندًا غير دقيق يخاطر بأن يتم حذف رأيه أو بنده. وقد أشارت التجارب عمومًا وبمرور الوقت إلى أن ويكيبيديا لا تقل دقة عن الموسوعة البريطانية.11 فكلاهما يقع في أخطاء، لكن ويكيبيديا على الأقل تتمتع بإمكانية تصحيح الأخطاء سريعًا. لكن في المقابل تمنحنا ويكيبيديا هذا المصدر الرائع الموجود على الإنترنت مجانًا الذي يضع كمًّا هائلًا من المعلومات في المجال العام بشكل يسهل الوصول إليه. دائمًا ما أتعامل مع معلومات ويكيبيديا بحذر، لكنني شديد الامتنان لوجودها.
هل يمكن أن ينفع هذا مع الصحافة؟ حسنًا، كانت هناك محاولة بالفعل أسفرت عن نتيجة واحدة سيئة على الأقل. في يونيو ٢٠٠٥ سمحت صحيفة ذا لوس أنجلوس تايمز في واقعة شهيرة لقرَّائها بالتدخل، على غرار فكرة مواقع الويكي، في كتابة افتتاحية عن حرب العراق. وهكذا وصف دان جليستر، المراسل في قطاع التكنولوجيا، ما حدث بعدها:
بحلول الصباح الباكر، كان القرَّاء يكتبون بنبرة أكثر حدَّة من النبرة المتوازنة المهذبة التي كُتبت بها الافتتاحية الأصلية تتضمن عبارات مثل: «ينبغي توجيه الاتهامات لحكومة بوش ومحاكمتها على الملأ على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها.» وبحلول التاسعة صباحًا، كان أحد القرَّاء قد محا الافتتاحية واستبدل أخرى بها، والغريب أن النسخة الجديدة كانت تردد موقف الافتتاحية الأصلي، وفي منتصف الصباح، حلَّ محل النسخة الأخيرة عبارة أكثر اختصارًا: «تبًّا للولايات المتحدة الأمريكية»، وبحلول منتصف النهار بدأ مؤسس الويكيبيديا المشاركة في الحدث؛ حيث «قسَّم» الافتتاحية إلى جزأين، يمثِّلان رأيين متضادين. كتب جيمبو ويلز ناصحًا الصحيفة حول تجربتها: «أقترح أن تكون هذه الصفحة بديلًا لما ستضطر الصحيفة حتمًا إلى فعله ألا وهو تنقيح ممتد للمقال الأصلي لجعله محايدًا … الأمر الذي قد يكون مناسبًا على موقع ويكيبيديا، لكنه لا يصلح لافتتاحية». وفي تمام الرابعة صباحًا تلقَّى مدير تحرير الصحيفة مكالمة من المكتب؛ فقد وُضعت صور فاضحة تُعرف باسم «الصور الصادمة» على صفحة الافتتاحية القابلة للتنقيح؛ وعليه أُنهيت التجربة. (دان جليستر، صحيفة الجارديان)12
هناك أيضًا موقع ويكينيوز13 الذي يحاول تطبيق فكرة ويكيبيديا في الصحافة، وحتى وقت كتابة هذا الكتاب، كان هذا الموقع واحدًا من أكثر المواقع الإخبارية التي رأيتها مللًا وأقلها ارتباطًا بأرض الواقع وأفقرها بالمعلومات المفيدة. لم يظهر خبر واحد جديد في القسم الخاص بأفريقيا لمدة تجاوزت الأسبوع. تبدو هذه المواقع في غاية النفع عندما يكون هناك خبرٌ مهمٌّ للغاية مثل إعصار كاترينا الذي يولد مصادر معلومات مختلفة بما يكفي لجعل صفحة الويكي شيقة، ومع ذلك يتراءى لي أن كلًّا من ويكينيوز وتجربة لوس أنجلوس تايمز قد أساءتا فهم الكيفية التي يعمل بها التشبيك مع الصحافة، فتجربة لوس أنجلوس تايمز وقعت في خطأ الاعتقاد بأن الاستعانة بحكمة القارئ هي ممارسة لا تتم إلا مرة واحدة فقط، وقد ظنت أيضًا أن الصحيفة ينبغي أن تتخلى عن زمام السيطرة. وقطعًا سوف يصير كلٌّ من المؤسسة الإخبارية والقرَّاء أنفسهم أكثر مهارة مع الوقت، لكن ما مبرر محاولة كتابة افتتاحية رأي مكونة من جمع من الأصوات المختلفة؟ في هذا المثال، لم تسهم فكرة الويكي في حد ذاتها في التغطية أو التحليل الصحفيين. في الصحافة الشبكية لا يهم إذا كان من نفذ الوظائف الصحفية الأساسية من تغطية صحفية وتحليل وتعليق هو الصحفي «الهاوي» أم الصحفي «المهني»، لكن يتعيَّن تنفيذ وظيفة أو اثنتين منها. كانت تجربة لوس أنجلوس تايمز مناسبة تمامًا كعمل فني أو غرفة دردشة على الإنترنت لكنها لم تكن صحافة شبكية ناجحة.
بمقدوري تخيُّل أن فكرة الويكي يمكن أن تنجح تمامًا كمحاولة لإنشاء نسخة من منظور المجتمع لحدث ما. في حالة حادث إطلاق النار بجامعة فيرجينيا للتكنولوجيا (انظر شكل ٥-١) ثمة بعض الأدلة على أن هذا حدث بطريقة تلقائية إلى حد ما.14 من خلال فهم مجتمع جامعة فيرجينيا للتكنولوجيا بأكمله ربما يمكن تكوين صورة أكثر اكتمالًا عما حدث فيما يتعلق بتجربة كل شخص في الجامعة مع أحداث هذا اليوم، وكما كتب دان جيلمور في أعقاب الحادث:
اعتدنا أن نقول إن الصحفيين يكتبون المسودة الأولى من التاريخ. لم تَعُدْ هذه المقولة تعكس الواقع بعد الآن؛ إذ يكتب الأشخاص الذين في قلب هذه الأحداث المسودة الأولى. لا يُعَدُّ هذا تغييرًا مثيرًا للقلق، شريطة أن نحتفظ بقدر صحي من التشكك وأن نجد مصادر موثوقًا بها. سوف نحتاج إلى تطوير محو الأمية الإعلامية لتناسب العصر الجديد أيضًا. (دان جيلمور)15
fig8
شكل ٥-١: جامعة فيرجينيا للتكنولوجيا — وسائل الإعلام التقليدية تعلن عن حضورها بقوة في حين أن الحدث الفعلي كان يُروى على الإنترنت. تصوير تشيب سوموديفيلا، حقوق النشر محفوظة لموقع جيتي إيمدجز.
كان من الممكن أن تطلعنا صفحة ويكي على نهج تحليلي للحادث يجتمع فيه طلاب جامعة فيرجينيا والمسئولون وطاقم التدريس ليقدموا فهمهم الجماعي لسبب حادثة القتل وغيرها من القضايا المرتبطة بها مثل ضوابط حيازة الأسلحة، وأخيرًا، فبالتأكيد لو كان هناك صفحة ويكي لتغطية أحداث جامعة فيرجينيا لكانت قطعًا ستوفر منصة يقدِّم من خلالها المتضررون أوصافًا للأحداث تمس شغاف القلب وذات صلة بأرض الواقع. غير أن هذا كان من الممكن أن يشكل محتوًى صحفيًّا لو أنه كان قد مرَّ بنوع من أنواع مراحل أو وظائف الصحافة الشبكية. كما يقول الأستاذ الجامعي بول برادشو في صفحة الويكي الخاصة به عن مواقع الويكي:
على غرار المدوَّنات، لن تنتعش مواقع الويكي إلا إذا أُولِيَت الكثير من الوقت والاهتمام مثل الذي يُمنح لتحرير المقالات. ويمكن التعامل مع نواحي الضعف المعروفة مثل التخريب وعدم الدقة إذا تم تكليف طاقم تحريري على دراية بالويب بمراقبة وإدارة موقع الويكي، للحيلولة دون وقوع مشكلات قانونية، ولجذب قائمة من المساهمين البارزين، وبناء مجتمعات حقيقية على الإنترنت. (بول برادشو، جامعة بيرمنجهام سيتي)16

ينبغي تطبيق هذا على الصحافة الشبكية كلها. يمكن أن يقدِّم الإعلام الجديد طرقًا مختصرة وموارد جديدة، لكن لا توجد طريقة سحرية للاستعاضة عن الاستثمار في المهارات التحريرية. أعتقد أن مواقع الويكي غير متقنة وتتطلب الكثير من الرقابة كي تعمل بكفاءة كناقلات للتغطية الإخبارية أو النشر الفعَّالين. عندما يكون الحدث متعلقًا بالأحداث الجارية (ويكينيوز) مقابل أن يكون متعلقًا بالأحداث التاريخية (ويكيبيديا)، تصبح فكرة الويكي أقل نفعًا كصحافة. لكن هناك تنسيقات أخرى للإعلام الجديد بخلاف مواقع الويكي التي قد تقدِّم المزيد للصحافة.

(١-٢) مهارات التنوع التحريري

من الواضح أنه إلى جانب نواحي نقاط القوى التحريرية التقليدية، فسيقتضي الأمر توافر مجموعة كاملة جديدة من المهارات للانتفاع من هذه الممارسات الجديدة. وإليكم اقتراح أحد خبراء الإعلام الجديد لقائمة من المهارات الجديدة التي من المنتظر من الجيل التالي من الصحفيين أن يتمتعوا بها ويظهروها في مقابلة العمل:
من جهتي سأبحث عن واحد من ثلاثة: تعدد الوسائط الإعلامية والتفاعلية والبيانات.
  • هل بمقدورك برمجة إحدى مراحل برنامج فلاش لإعداد شرائح صوتية مقسمة؟

  • هل بمقدورك استخدام مقاطع صوتية وصور ومقاطع فيديو في عرض جذاب متعدد للوسائط الإعلامية؟

  • هل يمكنك إدارة مجتمع من المستخدمين؟

  • هل تستطيع الإشراف على التعليقات والمنتديات، والأخبار والصور ومقاطع الفيديو التي يُعدُّها القرَّاء؟

  • هل بمقدورك إنشاء موقع مزج بيانات خرائط يزود نفسه ببيانات مأخوذة من السجلات العامَّة؟

  • هل يمكنك تصميم رسومات بيانية تفاعلية باستخدام برنامج فلاش؟

إذا جاءت الإجابة على أي سؤال من هذه الأسئلة بالإيجاب، فوضعك مبشر، لكن مجرد معرفة أنه ينبغي أن تكون قادرًا على الإجابة بنعم على بعض من هذه الأسئلة يمكن أن يمنحك وظيفةً هذه الأيام. (رايان شولين، موقع إنفيزيبل إنكلينجز)17

يملك شولين من الخبرة الصحفية ما يؤهله للإقرار بأنه ما من أحد سوف يملك كل هذه المهارات، وهو يؤكد على أن القدرة الأساسية ستظل هي القدرة على السرد. على أنه محقٌّ في وصف ذلك بأنه طريقة تفكير بقدر ما هو مجموعة مهارات. سيتعيَّن على كليات ومؤسسات الصحافة إعداد أفرادها للتعامل مع حقل العمل الجديد هذا.

ينبغي أن يتمخض هذا عن نوع من الصحافة تضرب أكثر بجذورها في تجربة العرض الفعلي لزمرة واسعة من الآراء، ولا يعني هذا أنه يتعيَّن على الصحفي التنازل عن الملكات النقدية أمام «حكمة الجموع».18 واحدة من المؤهلات الأساسية التي سوف يحتاجها الصحفي بمجال الصحافة الشبكية، والتي تشبه تلك التي يتمتع بها المتخصص في العلوم الاجتماعية، هي مهارة تحليل البيانات الْمُجمعة. على أن هذه المهارة ستقتضي أيضًا التمتع بالقدرة على الحكم التحريري للتمييز بين الآراء الرائجة ليس إلا، والآراء المتبصرة التي تتسم بالفِطْنة الحَقَّة. لطالما كانت الصحافة الجيدة تسير في هذا الإطار؛ فكثيرًا ما كانت الصحافة التقليدية تتصرف في الماضي بِناءً على مبدأ القاسم المشترك الأدنى دون حتى أن تكلف نفسها عناء التحقق من معناه. في المستقبل، فيما ستكون الصحافة السهلة أيسر توافرًا، سيُولى الاهتمام بالصحافة التي تضيف قيمةً أو تُمَيِّز نفسَها عن المعلومات الأساسية، وكما هو الحال مع أشكال الصحافة الجيدة كافة فإن القدرة على النظر في الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي يسير فيه القطيع سيكون لها قيمة خاصة.19
واحدة من المهارات الأساسية هي القدرة على التكيُّف وتفتُّح الذهن؛ فالأمور لن تثبت على حال واحد؛ ففيما تكافح الصحافة للتكيف مع الفرص التي تتيحها التكنولوجيات الجديدة، يسعى الحالمون إلى إدراك طريقة جديدة للتواصل لتحل محل المنطق الشديد الثنائية الحالي للإنترنت. يحقق الإنترنت نجاحًا كبيرًا في الوقت الحالي لأن بمقدوره أن يعالج على نحو دقيق الكثير من البيانات بسرعة كبيرة؛ فهو يمحِّص ويربط لكنه لا يفكر بفطنة فيما تحاول البحث عنه. عندما نتواصل بعضنا مع بعض على شبكة الإنترنت، فإننا نفعل هذا على نحو يشبه المكالمات التليفونية. ماذا لو كانت هناك بنية أساسية عامَّة جديدة من شأنها أن تستنبط البحث أو تستهلَّ حوارًا نيابة عنك؟ وماذا لو استفاد الصحفيون من هذه البنية؟20 تخيَّل شكلًا من أشكال البحث الصحفي يستطيع التواصل على نحو تفاعلي بطريقة ذكية مع الجمهور، وتخيَّل لو أنه كان بمقدورك أن تسألهم عن تجاربهم في قضيةٍ ما وعن ردود أفعالهم لتكوين صورة معقدة عن الرأي العام. سيكون الأمر أشبه بأن يكون لديك مليون مراسل يطرحون أسئلة، فيما تتغير التكنولوجيا على جناح السرعة، يكمن الخطر في ألا نملك جميعنا المعرفة والمهارات لفهم كيفية استخدامها؛ لهذا نحتاج إلى المزيد من محو الأمية الإعلامية.

(٢) محو الأمية الإعلامية

هي القدرة على الوصول إلى وسائل الاتصالات وفهمها وخلقها في سياقات متنوعة. (أوفكوم، هيئة تنظيم الاتصالات البريطانية)21
إن ذلك التعريف البدائي للغاية لمحو الأمية الإعلامية ما هو إلا نقطة بداية للأشخاص الذين ينظمون عملية البث في بريطانيا، وهم بالفعل الأشخاص الذين يظن كثيرون أنهم سوف يشتركون في تنظيم الإنترنت أيضًا، وهم يوسِّعون التعريف أنفسهم ليشمل هذا الوصف:
يشبه محو الأمية الإعلامية محو الأمية التقليدية؛ أي تعليم قراءة نص وكتابته. محو الأمية الإعلامية هو القدرة على «قراءة» و«كتابة» المعلومات الصوتية المرئية بدلًا من المعلومات النصية. إن محو الأمية الإعلامية في أبسط مستوياته يعني القدرة على استخدام مجموعة من الوسائل الإعلامية وفهم المعلومات المتحصَّلة. وعند مستوًى أكثر تطورًا ينتقل من إدراك المعلومات واستيعابها إلى مهارات التفكير النقدي الأسمى مثل طرح الأسئلة والتحليل وتقييم المعلومات. وأحيانًا ما يُشار إلى هذا الجانب من محو الأمية الإعلامية على أنه «النظرة النقدية» أو «التحليل النقدي».22

وبالنسبة للصحفيين في مجال الصحافة الشبكية فلا بد من أن يكون التعريف أوسع من ذلك أيضًا، وهذا هو السبب: تحتاج الصحافة إلى المزيد من الإبداعية التحريرية كما شرحنا أعلاه. كثير من هذا سوف يحدث عن طريق المبادرة وتطبيق الأفكار الملهمة، اللذين لطالما تمخَّضا عن صحافة جيدة. وهذه هي المعادلة السحرية: منافسة بالإضافة إلى خيال بالإضافة إلى استثمار تساوي إعلامًا خارقًا. لقد استثمرت بالفعل صناعة الإعلام العالمية استثمارًا هائلًا في الإعلام الجديد، وهي تحتاج إلى أن تفعل شيئًا مماثلًا من جديد مع الصحافة الشبكية. أتمنى أن يرى أصحاب المنفعة وحاملو الأسهم قيمة الاستثمار في هذه العملية. إنها تقدُّمٌ منطقي للمرحلة الأولى من الانتقال إلى شبكة الإنترنت (انظر الفصل الأول). نستطيع أن نرى أن العامَّة بالفعل على استعداد لاستثمار جهودهم في الصحافة الشبكية. لقد أنتج المواطنون كمًّا هائلًا من الصحافة دون مقابل مادي تقريبًا. سوف يستمر هذا. لكن كي ندعم هذا هناك حاجة إلى حدوث تغيير أعمق في الطريقة التي يدعم بها المجتمع ككل الصحافة الشبكية. وأفضل صور هذا الدعم هو الاستثمار في محو الأمية الإعلامية، وهي قضية أوسع من مجرد فهم آلية عمل الإعلام؛ إذ ينبغي أن يشمل ذلك الجميع ولا يقتصر على طلبة الإعلام أو صحفيي الإعلام التقليدي. ولمحو الأمية الإعلامية آثار على التعليم العام وأيضًا على دراسات إعلامية أو تدريبات مهنية بعينها.

ينبغي إعادة تسمية دراسات الإعلام أو الصحافة لتصبح محو الأمية الإعلامي، وعلى كليات الصحافة إدراك أنها تُعدُّ المهنيين للإعلام القادم؛ فلم تعُد مهمتها قاصرة على تدريس ما هو معروف منذ عقود مضت. إنها مسألة تتعدى مجرد إنشاء صحيفة لكلية جامعية على الإنترنت. لا يزال من المفترض أن يتضمن التدريب الصحفي دورات تعليم الكتابة على سبيل المثال. لكن في عصر الاتصالات التي يغلب عليها الطابع غير الرسمي والحواري، ينبغي تعليم الصحفيين أن هناك أساليب أكثر من الصيغ التي تتبعها الصحف أو حديث المذيع التلفزيوني، بما يتَّسمان به من غرابة في كثير من الأحيان. لا بد أن تكون ريادة الأعمال جزءًا من العملية؛ لأن كل صحفي سيتعيَّن عليه أن يكون أكثر «إبداعية في مجال العمل». يرجع هذا جزئيًّا إلى أن مسألة تحويل المحتوى إلى قيمة نقدية ستصير أكثر تعقيدًا؛ ففي ظل وجود جمهور أكثر تنوعًا أو تفتيتًا، فسيتعيَّن على المنتجين قضاء المزيد من الوقت في العثور على عملائهم أو الاتصال بهم. ستصير هذه عملية تحريرية بقدر ما ستكون عملية تجارية. ينبغي أن تعمل كليات الصحافة وإدارة الأعمال معًا على نحو أوثق فيما تصير المعلومات أكثر أهمية للاقتصاد وفيما تصبح اقتصاديات الإعلام نفسها أكثر تعقيدًا وأكثر ارتباطًا بصناعات أخرى.

سوف يتعَيَّن أن تدرَّس دورات محو الأمية الإعلامية عن الصحفيين المواطنين وكيفية العمل معهم، وسيتعَيَّن أيضًا تدريس مبادئ التنوع الصحفي وكيفية ممارسته. ويتطلب كثير من الأفكار المذكورة في الجزء السابق تدريبًا وإعدادًا، بعضها سوف يكون عمليًّا لكنه سيكون أيضًا أخلاقيًّا. في الماضي لطالما كان الصحفيون راغبين عن تقنين أعمالهم على نحو صارم، وهي غريزة منطقية في رأيي؛ لأن الصحافة تتعلق بما هو محدد وما هو صعب؛ فهي لا تنجح تحت عباءة اللوائح والخطوط الإرشادية اللازمة لعمل الأطباء أو المعلمين. ومع ذلك، ينبغي أن يكون هناك المزيد من النقاش والتأمُّل في صناعة الصحافة، وينبغي أن يكون هذا متاحًا كجزء من عملية تدريب على التنوع التحريري لكل الصحفيين، وليس فقط لكبار المديرين الذين يحضرون مؤتمرات دولية. كما يُفترض أن يتخذ شكل عملية نقد ذاتي، ولا بد أن يشمل دائمًا العامَّة بدلًا من الاقتصار على التجمعات الحصرية التي عادة ما تتسم بها جلسات التأمُّل الذاتي التي يجريها الإعلام، ولا ينبغي أن تنتهي بمجرد دخول طلبة الإعلام إلى غرف الأخبار. وفي ظل بيئة الإعلام المتغيرة سريعًا سوف يتعيَّن على الصحفيين أن يصيروا مثل المهندسين المعماريين والمحامين ويسعَوا للحصول على تدريبات منتظمة للنهوض بحياتهم المهنية. وينبغي أيضًا أن يعلِّموا الصحفي المواطن، فإذا كان المواطن ينوي أن يعمل صحفيًّا، عندئذٍ فمن المفيد أن يفهم المبادئ الأساسية للصحافة من دقة وشمولية ونزاهة وشفافية وقدرة على التشكك.

دأبتُ خلال هذا الكتاب على التأكيد على أنه من أجل الوصول إلى صحافة شبكية سوف يصبح الكثير من المهارات الأساسية للصحافة أكثر أهمية وليس العكس. لكن ستظهر حاجة إلى توجيه اهتمام تعليمي نحو إعداد الصحفيين الشبكيين نظرًا لوجود ثلاثة فروق مثيرة للاهتمام على الأقل بين العمل الصحفي التقليدي والعمل على شبكة الإنترنت:
  • (١)

    المشاع الإبداعي.

  • (٢)

    حرية التعبير.

  • (٣)

    حيادية الإنترنت/حقوق الملكية.

(٢-١) المشاع الإبداعي

إن فكرة المشاع الإبداعي هي أيضًا حملة صحفية.23 الفكرة هي أن حقوق النشر التقليدية على الإنترنت تمثل عائقًا أمام العبقرية الانتشارية التي تضفيها شبكة الإنترنت على الاتصالات. ينبغي أن يدعم الصحفيون العاملون في الصحافة الشبكية هذه الفكرة وأن يتلقَّوا تدريبات حول كيفية تحقيق أقصى استفادة من مبدأ المشاطرة. يسير هذا عكس توجه الصحفيين التقليديين الذين يعوِّلون على فكرة الحصرية، ومع ذلك، لا أرى ذلك عمليًّا على أنه مشكلة إلا فيما يخص حقوق الصور. سوف يتعيَّن على الصحفيين العاملين في الصحافة الشبكية أن يتقنوا التعامل مع الحصرية المقيدة الممزوجة بأقصى درجات الكشف. لا تشبه الصحافة معظم المجالات الإبداعية التي تحتاج إلى حماية ملكيتها الفكرية لتحقيق أقصى دخل. تحقق الصحافة المنفعة من خلال الاتصال بالمنصات الإعلامية المتعددة، وهو ما اكتشفته معظم المؤسسات الإخبارية عندما «فككتها» مواقع تجميع الأخبار مثل جوجل نيوز. يشير هذا إلى أن تلك المؤسسات الإخبارية التي تردد الحقائق ببساطة سوف تعاني. يقلل الجمهور من قيمة المعلومات الأساسية، لكنه يولي أهمية كبيرة للسرعة والدقة والشكل النهائي للمنتج.

بعض من وسائل الإعلام سوف تظل منفصلة عن الواقع. وكما ناقشنا في الفصل الأول، فإن بعضًا من المؤسسات الإعلامية سوف تظل تتقاضي مالًا من القرَّاء مقابل الاطلاع على محتواها. لكن حتى هذه الأقلية لا تزال ينبغي عليها السعي من أجل أن تكون شبكية؛ بمعنى أنها سوف تسعى لاستغلال قيمة مجتمع عملائها. ينبغي أن يتخطى هذا مجرد الاستطلاع التقليدي لرأي القرَّاء. تملك صحيفة ذا فاينانشال تايمز على سبيل المثال ثروة مذهلة من المعرفة الاقتصادية بين قرَّائها الذين بمقدورهم تقديم آراء ثاقبة لا تقدَّر بثمن لصحفييها. من مصلحة جميع المنظمات الإعلامية أن توسِّع المدارك الإعلامية لعملائها؛ ومن ثم يمكنهم المشاركة في تلك العملية.

(٢-٢) حرية التعبير

حرية التعبير هي مبدأ آخر نسبه الإنترنت لنفسه ويمثل تحديًا للصحافة التقليدية. سيوجه جزء من التثقيف الإعلامي نحو تعلُّم كيفية التعامل مع الحقوق والواجبات التي تصاحب الفرص الأكبر في حرية التعبير التي توفرها التكنولوجيا الجديدة، وجد الصحفيون التقليديون أنفسهم في حالة من الذهول لدى الاقتراب من العامَّة والاتصال الشخصي بهم. كانت صحيفة الجارديان واحدة من أوائل الصحف التي تحمست للمدوَّنات عن طريق صحفييها. أنشأ موقعها كومنت إز فري منتدًى عالميًّا على الإنترنت حيث يقدِّم فريق عمل الصحيفة والمدوِّنون الزائرون وجبة يومية من الآراء. وربما يجذب الموقع بسبب آرائه الليبرالية التي لا تروق للقطاع الأكبر من الجمهور (حتى في المملكة المتحدة، الجارديان صحيفة ورقية كبيرة قليلة المبيعات) ردود أفعال قدح وذم يجدها الصحفيون وقحة وعديمة النفع. عبَّر رد فعل الصحفية السياسية المحنكة جاكي أشلي عن هذا:
تلقيت عشرات الرسائل الإلكترونية التي لا تقول في الواقع شيئًا سوى: «أنتِ بقرة حمقاء، ما هذا الهراء الذي تكتبينه؟» حقًّا لا أستطيع أن أرى فائدة وراء إرسال إهانة لشخص ما بينما تختبئ تحت عباءة إخفاء الهوية. يشبه الأمر أن يفعل الكبار ما كان يفعله الصغار عندما كانوا يرسلون خطابات مجهولة الهوية إلى بعضهم بعضًا في الفصل المدرسي تقول: «أنت سمين» أو «أنت غير محبوب». ما سأقوله دفاعًا عن كتَّاب الأعمدة المهنيين هو أن معظمنا لديه سنوات من الخبرة في تغطية موضوعات في السياسة أو السياسات الاجتماعية أو الشئون الدولية على سبيل المثال … دائمًا ما سيكون هناك من يعرف معلومات عن الموضوع تزيد كثيرًا عما يعرفه كاتب عمود، وبالمثل دائمًا ما سيكون هناك أولئك الذين يظنون أنهم يعرفون المزيد. يسرني أن أسمع من كليهما طالما يديران مناقشات مناسبة ولا ينعتانني بالبقرة الحمقاء. (جاكي أشلي، صحيفة الجارديان)24
حتى أولئك الصحفيون الذين يديرون هذه النوعية من المنتديات تصيبهم خيبة الأمل:
ثمة شعور بأن التدوين يوفر لك مدخلًا لم يكن متاحًا في الماضي، لكن البعض منا تصيبه خيبة الأمل في عالم المدوَّنات؛ إذ قد تولِّد شعورًا بالانقسام ما بين «نحن» و«هم». يشعر عدد من المدوِّنين أن وظيفتهم هي إخضاع الإعلام التقليدي للمساءلة أو محاولة تقويض سلطتنا. وهو هدف ذو قيمة لأن ثمة الكثير من الغطرسة في الصحافة. لكننا كنا نأمل أن يهتموا أكثر بتقديم آراء ثاقبة لنا في موضوعات لا نعرف عنها ما يكفي. (روس تايلور، جارديان أنليميتد)25
هذه معضلة عامَّة دفعت أشخاصًا مثل رائد الإنترنت تيم أوريلي إلى أن يسعى إلى صياغة مجموعة من قواعد السلوك؛ فإذا بالرجل الذي ابتكر مصطلح الويب ٢,٠ يحاول الآن صياغة آداب سلوك للمدوَّنات.26 بالتأكيد يتمثل جزء من محو الأمية الإعلامية في تعلُّم كيفية ضبط النفس في حوار ما دون اللجوء إلى الأكاذيب وتراشق الإهانات. وبالنسبة للصحفي العامل بالصحافة الشبكية، فمحو الأمية الإعلامية هو مسألة توفير مساحة للآراء الصريحة دون استبعاد أطياف الآراء الأخرى. إن هذا الدور الرقابي والتلطيفي هو دور ينبغي أن يبرع فيه الصحفيون. لكن فعل ذلك على الإنترنت يتطلب قدرًا من التحكم من شأنه أن يحفظ حرية الاطلاع على المدوَّنات وحيويتها لكن يمنع الفوضى.

(٢-٣) حيادية الإنترنت

حيادية الإنترنت هي مفهوم مقتصر على الإنترنت بالفعل، وهو يقول إن الشبكة العنكبوتية العالمية قائمة في جوهرها على مبدأ المساواة؛ إذ لا ينبغي تقييد المعلومات المتبادلة على الإنترنت بأسعار أو نظام دخول. يتمثل جزء من محو الأمية الإعلامية في مجال الصحافة الشبكية في فهم قيمة وحدود هذا النموذج المثالي. تزدهر الاتصالية في المجال العام للإعلام الإخباري عندما تتوفر الظروف المثلى للاتصالات. وأي عائق ورسوم وإقصاء للمعلومات يحدث على مستوًى بدائي هو ضد التدفق الحر للمواد. من ناحية عملية، يشوَّه هذا السوق فيما يتعلق بالأفكار. ومن ناحية أخلاقية، فإن حرمان فئات معينة من الناس من نفس القدرة على الاستفادة من الإنترنت كالباقين هو إجراء سياسي سلبي. غير أنه يتعيَّن على الصحفيين والعامة فهم أن عالم الإنترنت ليس خاليًا من التدخل حتى في الوقت الحالي، فهناك بالفعل تكاليف مختلفة للوصول إلى الإنترنت والنطاق العريض بالإضافة إلى مناطق أو مواقع معينة للوصول. ووظيفة البحث ليست حيادية، ويحدث الترابط بطرق مختلفة متنوعة الاتصالية. على سبيل المثال، إذا ربط أحدهم مدونتي بملقم أخبار آر إس إس، فإنه يرى تدويناتي، لكنه ربما لا يرى التعليقات. يتعلق محو الأمية الإعلامية بفهم كيفية تحقيق أقصى اتصالية بأقل تحيز، وحيثما توجد أوجه اختلال ينبغي توضيحها. يتعيَّن على الصحافة الشبكية أن تستخدم محو الأمية الإعلامية ومحو أمية الإنترنت للتعامل مع المخاطر التي تهدد حيادية الشبكة التي ينبغي أن تكون على الأقل هدف الأخبار على الإنترنت ما لم تكن حقيقتها المطلقة.

(٣) محو الأمية الإعلامية في التعليم

من الواضح أن الإنترنت والتكنولوجيات الرقمية الأخرى تجلب مجموعة كاملة جديدة من التعقيدات إلى طبيعة الصحافة وعملياتها. يحتاج كلٌّ من العامَّة والمهنيين إلى أن يُعَدُّوا إعدادًا أفضل. رأينا بالفعل الكيفية التي يتعيَّن على المنظمات الإعلامية أن تستجيب بها. هناك أيضًا حاجة إلى المزيد من التثقيف الإعلامي بصفة عامَّة. لا يمكن تحقيق هذا إلا على المدى الطويل من خلال التعليم. على وجه العموم، تسلم معظم الحكومات باحتياج المجتمعات الحديثة إلى مستويات أعلى من التعليم لمواكبة متطلبات اقتصاديات المعلومات. في رأيي أننا ما زلنا لا ننتبه إلى الدور الحيوي الذي يلعبه الإعلام الإخباري في لب هذه الأنظمة. على الرغم من النمو السريع في دراسات وسائل الإعلام المتخصصة وكليات الصحافة فإننا لا نقوم بما يكفي لتزويد النطاق الأعرض من السكان بالفهم والمهارات الأوسع التي يحتاجها العالم المتصل بالشبكات.

أوضحت خلال هذا الكتاب أن «الصحفي» يمكن أن يكون مواطنًا. البعض سيتفرغون للصحافة بالكامل في حين أن كثيرين لن يهجروا وظائفهم المنتظمة. لكن مع الصحافة الشبكية تعم الفائدة على الجميع من زيادة الثقافة الإعلامية لدى العامَّة حتى لو كان التفاعل هامشيًّا أو عارضًا. على التعليم العام أن يعطي أولوية لمحو الأمية الإعلامية؛ ومن ثم يُمنَح الأشخاص المعروفون قبلًا بالجماهير المهارات كي يفهموا هذا الإعلام الشبكي وكي يتمكنوا من استخدام مجموعة المنصات الإعلامية والهياكل والعمليات التي يقدِّمها. يتعلق هذا عند أحد المستويات بالمعرفة الإعلامية الأساسية. إن التكنولوجيات الإعلامية الجديدة القائمة على النص بصورة كبيرة تعَوِّل على تمتع المستهلك بقدر جيد من الثقافة الإعلامية. أي شخص أخطأ في كتابة استفسار بحثي على الإنترنت يعرف هذا. لكن بخلاف هذه القدرات الأساسية، لدى الأفراد الحق في أن يُؤهَّلوا للمشاركة في الإعلام الإخباري، سواء من أجل أنفسهم أو من أجل مجتمعاتهم، أو للمشاركة في شبكات مع صحفيين. يتجاوز هذا مجرد وضع كمبيوترات شخصية في الحجرات الدراسية؛ إذ يعد تحولًا جادًّا من التركيز على دور دفاعي إلى التركيز على دور إيجابي. إنه نقلة من تدريس محو الأمية الإعلامية كمحاولة لفهم الإعلام إلى تدريسها كوسيلة للمشاركة في الإعلام الإخباري. هي أيضًا تحوُّل مما هو تحليلي إلى ما هو أخلاقي. ينبغي أن يتعلم العامَّة القيمة السياسية والاجتماعية للنشاط الإعلامي. ينبغي أن يكون هذا جزءًا من كل شيء بدءًا من دروس التربية المدنية في المدرسة ووصولًا إلى تدريبات النهوض بالحياة المهنية.

ثمة معضلة تاريخية فيما يتعلق بتحسين محو الأمية الإعلامية عن طريق التعليم؛ فالأشخاص الذين من المفترض أن يتولَّوْا عملية التدريس هم أنفسهم ينتمون إلى عالم ما قبل الويب ٢,٠. هناك حاجة إلى إعادة نظر جذرية في تدريب المدرسين، ليس فقط في مجال الدراسات الإعلامية لكن في جميع مجالات التدريس المتعلقة بالاتصالات. ولا تقتصر الحاجة على المعرفة التقنية؛ فمن الضروري أن يفهم المدرسون أن الطريقة التي يتقن بها الأشخاص المزيد من المعرفة الإعلامية هي بالأكثر عملية استكشاف شخصي بوحي واسترشاد من المجتمعات المشاركة. وبعبارة أخرى يتقن الناس المعرفة الإعلامية بممارستها؛ فهم يبدءون باستخدام الإنترنت لطلب مشترياتهم، وينتهي بهم الحال بتنظيم لقاء للجيران؛ هم يبدءون برفع صور عطلتهم وينتهي بهم الحال وهم ينشرون تقارير مصورة لحفلة المدرسة؛ وعليه، يتعيَّن على التجربة التعليمية أن تُبنى على هذا النهج التطبيقي البديهي وليس على البنية التعليمية التقليدية القائمة على النظريات والمبادئ والقواعد.

واحدة من أكثر الهيئات التعليمية جرأة تقع في منطقة «سيليكون جلنس» في اسكتلندا. المستشار القومي لمستقبل التعليم والتكنولوجيا هو إيوان مكنتوش. أنشأ مكنتوش شبكة تجمع التربويين الرقميين في اسكتلندا لمشاركة أفضل التطبيقات وتشجيع الابتكار.27 يصف مكنتوش الكثيرين من هؤلاء المنخرطين في التعليم بأنهم «أُمِّيُّو القرن الحادي والعشرين»، ويساوره القلق من أن المدارس قد تنفق الوقت للحيلولة دون وصول الطلاب إلى الإنترنت أكثر مما تسعى إلى تعزيز محو الأمية الرقمية، بل وقد دعت بعض نقابات المعلمين إلى حظر مواقع مثل يوتيوب، ولا يكون هذا رد فعل مغالًى فيه فحسب، وإنما هو أيضًا فشل في تقدير أن التواصل الاجتماعي عبر الشبكة هو المفتاح إلى تحسين التثقيف الرقمي وليس من المشتتات.
ليس هذا هو المكان الملائم لعرض تفصيلي لمستقبل تعليم الثقافة الإعلامية، لكن بعض المبادئ ظهرت واضحة؛ فكما أن الجماهير سوف ينشئون في المستقبل المزيد من الصحافة الخاصة بهم، فإنه لا بد أن ينشئوا آليات محو الأمية الإعلامية الخاصة بهم. كما يقول مكنتوش، يتغير دور التربوي بحيث «لم يَعُدِ المعلم حكيمًا يعتلي المنبر وإنما مرشد يسير بجوار الطالب».28 ليس هناك قواعد لكنه يُصِرُّ على أنه من الضروري أن يستخدم المعلمون نفس مجموعة وسائل الإعلام الرقمية التي يمكن للأشخاص الوصول إليها في حياتهم الشخصية:
  • اسْتَخْدِمِ المدوَّنات؛ إذ يتعيَّن على المعلمين والطلبة التواصل مع الوسائل الإعلامية الرقمية عندما يكونون بصدد تعلُّم كيفية فهمها واستخدامها.

  • اسْتَخْدِمِ الألعاب؛ فهي تمنح مهارات تقنية مهمة وطرقًا للتفكير بشكل رقمي.

  • اسْتَخْدِمْ وسائط التواصل الاجتماعي عبر الشبكة؛ فهي تكوِّن شبكات يمكن الوصول إليها وتنشر التعليم.

  • شارِكْ؛ إذ يتعيَّن على المعلمين أداء نفس المهام مثل التلاميذ لكي يفهموها.

  • اقْبِلْ تدفق المعلومات؛ فأنت تدرس «كيفية عمل الأشياء» وليس «ماهية الأشياء».29

ليس بالضرورة أن تكون هذه الأفكار متعارضة مع طرق التدريس التقليدية. لكن في الغالب لا تزال هناك نظرة إلى محو الأمية الرقمية على أنها تخصص منفصل أو متدني الأولوية. في الواقع هي تكاد تتمتع بنفس أهمية محو أمية القراءة والكتابة، وينبغي أن تكون جزءًا من التعلم وتدعم الموارد التعليمية لكل شخص. بالفعل يُظهر الأشخاص قدرة رائعة لإنشاء أنماط الحياة الرقمية الخاصة بهم. لكن إن كان من المفترض أن يستفيد الجميع من المزايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الكاملة التي تجلبها بيئة الإعلام الجديد، عندئذٍ يجدر بنا أن ننشئ تعليمًا أكثر اتصالًا من أجل عالم متصل.

(٤) دور محو الأمية الإعلامية في مجال الحوكمة

يتطلب إنشاء مجتمع مثقف إعلاميًّا تعهُّدًا باستخدام الصحافة الشبكية في صميم الحكم الرشيد والتنمية الجيدة. لن يكون هذا بالأمر اليسير:
من وجهة نظر سياساتية، لو كان من المفترض أن يزيد هذا وغيره من الأشكال الجديدة لعبور الحدود، فإنه سوف يتعيَّن على التمويل أن يتحول من دعم الصحافة التقليدية إلى تعزيز محو الأمية الإعلامية. بهذه الطريقة فقط تصبح الجماهير هي المتحكمة في أخبارها. قد لا يكون دعم السياسات لهذا قويًّا بالدرجة لأن الصحافة الشبكية تتعارض مع الحكومات، وعندما يتعارض الانفتاح مع أساليب التشغيل التقليدية، تضطرب الحكومات؛ فقلة فقط من الأنظمة السياسية هي التي تقوم على الحاجة إلى جماهير واسعة الاطلاع فضلًا عن أن تكون مترابطة. (الأستاذة الجامعية روبن مانسيل، في خطابها إلى الجمعية العامَّة للأمم المتحدة)30

كما تقول الأستاذة مانسيل، لا يتحمس الساسة عادة لتشجيع وجود إعلام إخباري أقوى. ثمة رغبة متزايدة لتعزيز «الديمقراطية الإلكترونية». وأعتقد أن هذا يرجع جزئيًّا إلى محاولة الساسة قطع الاتصال بين الإعلام والعامة. ومع ذلك، فعندما ننحي هذه النظرة السوداوية، يتبين حقًّا أنه يمكن تعزيز المجال العام بموارد التكنولوجيا الجديدة. لكن لا يمكن أن تُحَقِّق زيادة حقيقية في السياسة التي تقوم على المشاركة دون حكومة أكثر انفتاحًا، ما لم يكن أولئك الذين في السلطة على استعداد لإتاحة فرصة المشاركة في عملياتهم ونقل السلطة، فسيظل المواطن في موقع المتفرج على آلة الحكم. على سبيل المثال، ما الفائدة من السماح لقاطني مشروع سكني بإنشاء موقع على الويب إذا لم يكن هنا أدنى تأثير للآراء التي يعبِّرون عنها في هذا الموقع؟ تتيح المشاركة الحقيقية للقاطنين استخدام اتصالاتهم الرقمية لصنع اختياراتهم بشأن كيفية إنفاق ميزانية حقيقية. في تلك الحالة، يكون دور الإدارة هو التأكد من أن تلك الاختيارات تستند إلى معلومات دقيقة. يتعيَّن عليها أن تكون منفتحة بشأن المعلومات ذات الصلة وبشأن أطر السياسة. دور الساسة هو التصرف كمساندين للنقاش الرقمي، ودور الإعلام الإخباري أن يكون جزءًا من الحوار الشبكي. في ظل الصحافة الشبكية يصير قاطنو هذه المنطقة السكنية هم الصحفيين المواطنين الذين ينتجون إعلامًا مجتمعيًّا يغطي ويرصد ويناقش ديمقراطيتهم الرقمية. ودور الصحفي الذي يعمل في مجال الصحافة الشبكية هو تمكين وتعزيز هذا الحوار وليس استبداله. كل هذا يحتاج إلى مجهود وإلى إرادة حقيقية لتثقيف المواطنين من أجل هذه الفرصة الشبكية. إن تجهيز الأدوات التكنولوجية مثل المدوَّنات ومقاطع الفيديو على الإنترنت والتجهيزات اللازمة لتفاعل ديمقراطي تشاوري هو الجزء اليسير. لكن التحدي الحقيقي يكمن في تعزيز الثقافة الإعلامية وعدم مقاومة التحول في البنيان السياسي. يظل الدور الصحفي مهمًّا في تمكين حدوث هذا.

إن أي شكل من أشكال المشروعات التشاركية يسعى إلى بناء تفاعلية ديمقراطية عن طريق الاتصالات الرقمية دون تناول دور الإعلام الإخباري (الشبكي) يفتقر إلى عنصر مهم في بناء المجال العام الجديد. السياسات التي تشجع التدفق الحر للمعلومات والتفاعل مع الجماهير هي سياسات تخلق بيئة يمكن أن تزدهر فيها الصحافة الشبكية. يمكن أن تكون الصحافة الشبكية جزءًا من خطاب عامٍّ مطوَّر من شأنه المساهمة في التصدي للتحديات المعقدة التي نواجهها. يتحدى هذا إطار العمل الكلاسيكي لإعلام يمرر الرسائل من الحكومة إلى المحكومين؛ وعليه من ناحية ما يمكن أن يسعى لمواجهة المعضلات المتأصلة في الجدل بين ليبمان وديوي حول «المجتمع المستنير».31 كان هناك فيما مضى فريقان: أحدهما كان يرجح أن الجماهير يمكن أن تتخذ قرارات سياسية أفضل فقط لو توافرت لها المعلومات المناسبة، والآخر رأى أن السياسة في غاية التعقيد وأن هناك حدودًا لقدرة الجمهور العام على أن يضطلع بدور كبير في إدارة الأمور. بالمثل، يختلف الفريقان حول الإعلام، فأحدهما يشير إلى أنه لو كان الإعلام أكثر ذكاءً ومعقولية وتحملًا للمسئولية فحسب لكان لدينا جمهور أكثر ثقافة، والآخر يؤكد على الحدود المتأصلة لإعلام إخباري يغطي الأحداث الجارية بحتمياته التجارية وافتقاره الهيكلي للوقت اللازم للتأمُّل والتشاور والتفكير.

بدا الإنترنت والإعلام الجديد لبعض الناس أنهما يقدمان طريقًا لاختراق هذا الجدل. رأى بعض المنادين بفوائد الإنترنت أنه قد يمنح الناس القدرة للهيمنة على الإعلام والحكومة. ستنتقل أشكال السياسة كافة دون وسيط بفعل العالم الرقمي. لكن كما رأينا أيضًا فالتكنولوجيا الجديدة ليست ديمقراطية بطبيعتها. يمكن أن ييسر الإنترنت اتصالية أكبر، غير أنه يمكن أن يفضي أيضًا إلى المزيد من التفتيت. بمقدوره أن يتيح وصولًا أكبر إلى المعلومات التي يحتاجها المصوت لاتخاذ خيارات سياسية، لكن بمقدوره أيضًا تفتيت المجال العام وجعله حيز نقاش أقل تماسكًا. تقتضي الصحافة الشبكية من محو الأمية الإعلامية أن تضطلع بدور مختلف من شأنه أن يطرح أملًا أكثر حذرًا وتقدميًّا في الوقت نفسه، وهي تتحاشى المغالطات الآلية التي يقع فيها نشطاء الديمقراطية الإلكترونية الذين يقعون فريسة لفكرة أنه برفع كل شيء على الإنترنت أو بإعطاء موقع إلكتروني لكل شخص فإنك بذا حتمًا سوف ترفع نسبة المشاركة السياسية. تقدِّم الصحافة الشبكية فوائد أكثر اعتدالًا وتعقيدًا لكنها أكثر أهمية غالبًا على المدى الطويل، ولا يمكن إدراكها إلا من خلال استثمار في محو الأمية الإعلامية يربط فهمًا أفضل للاتصالات بفهم عميق للسلطة.

(٤-١) الآليات السياسية للصحافة الشبكية

وصولًا لهذه المرحلة، يجدر بنا رؤية الصحافة الشبكية على أنها سياسية. لست متشبثًا بفكرة أن الصحافة الشبكية حتمًا لها تأثير سياسي بعينه، بل على العكس هي تتمحور في الأغلب حول ما يجنيه الأشخاص منها. لكنني أرى أن آلياتها تنطوي على زخمٍ يدفع نحو عالم أكثر اتصالًا وتفهمًا وأمنًا، ومن الطرق الأكثر أكاديمية لتناولها القول إن الصحافة الشبكية تقدِّم الفرصة لتجسيد المفهوم المعقد للإعلام «الكوني»:
تجسِّد فكرة الكونية وتصورها المثالي تحديدًا هذا البعد الأخلاقي للعلاقة الوسيطة على أنها تمكين أو تقييد لنوع معين من الاتصال الانعكاسي مع أشخاص آخرين مختلفين عنا لكن يشاركوننا نفس العالم. استُخدم هنا مفهوم الكونية — ذلك المفهوم القديم الذي كان أول من احتفى به هم الفلاسفة الرواقيون — لإمعان النظر في الدور الأدائي للإعلام الغربي في تأسيس «حيزنا» العام كمقابل «لحيز الآخر» في اللحظة التي يدَّعون فيها أنهم يمثلونه ليس إلا. (الأستاذة الجامعية ليلي تشلوراكي، كلية لندن للاقتصاد)32
بعبارة أخرى، تتيح الصحافة الشبكية فرص «تقريب» المسافات بين الأشخاص حتى على مستوًى عالمي. وهي تفعل ذلك ليس فقط عن طريق تكنولوجيا الاتصالات، لكن أيضًا من خلال تغطية صحفية أكثر ارتباطًا بالسياق من شأنها أن تمنح صوتًا للأفراد، فببساطةٍ بدلًا من أن نقدم تقارير عن «الآخرين»، بإمكاننا تقديم تقارير «نتعاون فيها» مع الآخرين الذين تفصلهم عنا الحدود الجغرافية والطبقية والعوامل الاجتماعية الأخرى. لا يعني هذا أن الجروح الناتجة عن الانقسامات قد التأمت، وإنما يعني إمكانية تجاوزها على الأقل:
عندما يتعلق الأمر بتكوين صورة عن الآخرين البعيدين، غالبًا ما تخذلنا وسائل الإعلام التقليدية بشدة؛ إذ غالبًا ما تنزع عن هؤلاء الآخرين إنسانيتهم؛ فهي إما أن تستبعدهم من المشهد تمامًا حتى لا نرى جانبهم الإنساني، وإما أن تقربهم بشدة منا لدرجة أننا نعجِز عن رؤية اختلافهم عنا. على أنه يتعيَّن إدراك الآخرين البعيدين كأفراد آدميين. غالبًا ما تكون وسائل الإعلام التقليدية غير متناسقة ومختلة ومَعِيبَة في هذا الصدد. تقدِّم الصحافة الشبكية ما يدعو إلى التفاؤل حيال إمكانية تحول المجال العام إلى حيز عادل أكثر ترحابًا ومراعاةً واتساعًا للجميع. (الأستاذة الجامعية روبن مانسيل، في خطابها إلى الجمعية العامَّة للأمم المتحدة)33

كما ذكرت الأستاذة الجامعية مانسيل بحقٍّ في خطابها للأمم المتحدة، فأيُّ تكنولوجيا للإعلام الجديد هي عملة ذات وجهين؛ فيمكنها أن تطرح فرصًا سلبية تمامًا مثل الفرص الإيجابية. على أن الصحافة الشبكية على الأقل تُفضي إلى صنع قرارات لا مركزية وهياكل متكافئة وتنوع أكبر له تأثير على ممارسة الإعلام، وهي تضع الإنسانية في صميم عملية نقل الأخبار. يقترن بهذا تكالب الطلب على الإعلام، وسيُنتظر منه أن يلعب دورًا أكبر في التفاعلات الاجتماعية، وفيما يصبح جزءًا أكبر من حياة الأفراد، وسوف يكتسب المزيد من القوة، ومع هذه القوة تأتي المسئولية. «المسئولية» هي لفظة أحجمتُ عن استخدامها بصفة عامَّة في هذا الكتاب لأنني أرى أن هناك مبررات وجيهة تدعم الصحافة الشبكية بعيدًا عن أي مناشدات أو وصايا أخلاقية. لكن الآن حان الوقت للنظر بعين الاعتبار إلى المبادئ الأخلاقية.

في الماضي نزع الصحفيون إلى اعتبار السياسة التي تحكم عملهم وسيطًا لتجسيد السياسة خارج مجال الإعلام. نزع صحفيون متحزبون أمثال جون بيلجر34 أو بي جاي أورورك35 إلى الانكباب على صفحاتهم باعتبارها شكلًا من أشكال الإقناع أو الكشف التي تخدم أهدافًا سياسية. هذا بُعد من الأبعاد المستحبة للإعلام التقليدي التي تضيف ثراءً أيديولوجيًّا إلى تدفق التغطية الإخبارية. على أنه لا يغير في حد ذاته العلاقة بين المستهلك أو الفردِ موضوعِ الخبر والوسيط الناقل للأخبار. الصحافة الشبكية تستطيع أن تفعل ذلك؛ فعلى خلاف النسخ السابقة من «صحافة الارتباط»36 أو «الصحافة الملتزمة بقضية»، لا تُسلِم الصحافة الشبكية البوصلة الأخلاقية إلى الصحفي وحده، لكنها تطلب من الصحفي مراعاة السياق الأخلاقي لما يفعله والطريقة التي يفعله بها. هذه ليست مناشدة إلى البحث في أعماق النفس عن الفضيلة الأدبية أو التضحية بالذات أو الإيثارية، وإنما هي بالأحرى إصرار على أن سياسة الاتصال ينبغي أن توجه الصياغة الصحفية لأي حدث أو قضية. تقدِّم هذه العملية تغييرًا دقيقًا في طبيعة الصحافة من كونها في الأساس تمثيلًا لمشهد إلى عملية اتصالية. لطالما كانت الصحافة الجيدة تسعى لأن تكون أكثر من مجرد «عيون اصطناعية» على الحدث؛ إذ تحاول تفسيره والتعاطف مع بعض جوانبه. لكن أيجدر بها أن تتجه نحو مناصرة «أيادي عون اصطناعية» أو حتى تقديمها؟ تمتلك الصحافة الشبكية القدرة على عرض مشكلات الإنسان بطريقة من شأنها أن توفر فرصًا تتجاوز التغطية الصحفية والتحليل. تؤكد الصحافة الشبكية على التعاطف وتلمِّح ضمنيًّا إلى ضرورة اتخاذ إجراءات سياسية، لكنها تفعل ذلك منذ نقطة الانطلاق لا كنتيجة فرعية للتغطية الصحفية. بإدخال المستهلك أو شريك الإنتاج في أثناء العملية نفسها بدلًا من إشراكه عند نهايتها، فإنك تُشرك المشاهد في عملية الاتصال، وبتمكين موضوع الخبر من أن يكون جزءًا من العملية عن طريق التفاعلية ومحو الأمية الإعلامية فإنك بالمثل تشركه في عملية الاتصال. في رأيي هذه أفضل إمكانية أدبية تتمتع بها الصحافة. مع الصحافة الشبكية تلك فالنتيجة الأخلاقية هي نتاج طريقة عملها، وما زاد على ذلك هو ممارسات سياسية محضة.

(٥) خاتمة

هكذا يمكن أن ينقذ الإعلام الخارق العالم. صحيح أنه لا يحلُّ مشكلة مثل مشكلة التغير المناخي، لكنه سوف يتناول القضية بطريقة تقدِّم تفاهمًا شبكيًّا وتتيح إشراك العامَّة. صحيح أن العامَّة يحتاجون إلى الفهم لكنهم يحتاجون أيضًا إلى أن يكونوا مشاركين في العملية. إن كان من المزمع أن يتعامل العالم مع الاحترار العالمي، إذن فلن توجد الحلول إلا عن طريق إجماع دولي وعبر تسليم عامٍّ بوجوب تغير أنماط حياة الفرد. وبعيدًا عن حلول التكنولوجيا السحرية، فإننا سنحتاج كمواطنين إلى امتلاك المزيد من المعرفة والقدرة كي نتمكن من تقليل انبعاثات الكربون. فلكي تنجح أي سياسة، لا بد أن تشرك الأفراد كي نعمل بطريقة متسقة. على سبيل المثال، سوف يتوجب تحفيز الأفراد عبر التعاطف مع أولئك المتضررين من عواقب الاحترار العالمي. يتعيَّن أيضًا تمكينهم للتأثير على أولئك الذين تتوافر لهم سبل وإمكانيات تغيير السياسة. لست أشير إلى أنه يتعيَّن على الإعلام الإخباري التصرف كآلة دعائية للحركات البيئية، بل على العكس يشير سجل مناصري حماية البيئة في استغلال الإعلام في الماضي إلى أننا ينبغي أن نرتاب في مزاعمهم مثلما نرتاب في مزاعم أصحاب الأعمال أو الحكومات. على أن الإعلام الشبكي يوفر للعامة فرصة لأن يكونوا أكثر من مجرد مطلعين على القضية؛ فزيادة الحوار بين الجماهير والسلطة يمكنه أن ييسر التغيير، وفي النهاية، المسألة مسألة تحويل محو الأمية الإعلامية إلى محو الأمية السياسية. هذا ما قصده الأستاذ الجامعي روجر سيلفرستون بفكرته عن «ميديابوليس» (المدينة الإعلامية).37 ميديابوليس ليست مكانًا أو مشروعًا مثاليين وإنما هي محاولة في غاية الواقعية لفهم الصحافة وممارستها. هي تؤكد على إمكانية الإعلام كجزء من التغيير. كي تستطيع الصحافة الشبكية أن تفعل هذا لا بد أن تقوي العلاقات الافتراضية أو الرقمية. يمكنها أن تتيح لنا:
فهم فكرة الاتصالية في عصر مترابط شبكيًّا على نحو متزايد، وماهية العواقب الأدبية والأخلاقية لهذا البعد الخاص، والجوهري رغم ذلك، لدور الوسيط. (الأستاذ الجامعي روجر سيلفرستون)38

إن محو الأمية الإعلامية بالمعنى الأعمق الذي حاولت عرضه هنا يتعلق بالمساعدة في بناء هذه الاتصالية. لهذا أكرر أن الصحافة الشبكية لن تظهر دون فهم حقيقي لآثارها وإمكانياتها. هي ليست مجرد وصف آخر للإعلام الجديد؛ وسوف تحتاج استثمارًا وخيالًا وابتكارًا.

في الوقت الحالي لا تزال الصحافة الشبكية مفهومًا جديدًا؛ مما قد يعلل الحاجة الملحة إلى المزيد من البحث ودعم الابتكار. إن حالة صناعة الصحافة، وتدريب المهنيين وتعليمهم، والفرص الاجتماعية، والإمكانيات السياسية لهذه النوعية الجديدة من الصحافة، كل هذه العوامل لم يتم رصدها تقريبًا، فما بالك بتقصِّيها وبحثها بدعم مؤسسي جاد. سوف تتطلب تحالف العمل الإعلامي وقطاع الإعلام العام والتعليم والحكومة لمواجهة هذا العجز. إن مؤسسة «بوليس»39 البحثية التي أقودها هي محاولة لحشد هذا النوع من النشاط عبر ربط الصحافة الدولية والمجتمع معًا لبحث ومناقشة فرص الصحافة.

لست أرغب في تضخيم فكرة حتمية الصحافة الشبكية، فحتى وإن كنا قادرين على تحقيق نوعية الإعلام الإخباري الذي أرنو إليه، فما من ضمانات أنها سوف تضمن لنا عالمًا أسعدَ أو آمَنَ أو أغنى. كذلك أنا أطلب من المجتمع الكثير حقًّا فيما يخص الاستثمار والمجهود اللازمَين لإنشاء صحافة شبكية دون انتظار مكافأة معينة. لكنني أعتقد أن قضية الصحافة الشبكية تدعمها حجج لا يمكن مقاومتها في كلٍّ من مجالات الأعمال والسياسة العامَّة والوضع الاجتماعي. تلك الحجج هي في حدِّ ذاتها أسباب جيدة جدًّا لدعم تنفيذ محو أمية الإعلام الشبكي على أرض الواقع.

سيختلف المستقبل مرة أخرى، وأية توقعات لفترة تتجاوز الخمس سنوات قليلة النفع، ولهذا لم أقدم أية تكهنات. الصحافة الشبكية ليست حلًّا أو تكهنًا صالحًا للاستخدام مرة واحدة، وإنما هي طريقة جديدة لمؤازرة الصحافة والدور العام المنوط بها بطريقة تجمع المزايا القديمة بالإمكانيات الجديدة. ونحن نتجه إلى الأمام، سيواصل المشهد التغيير من تحت أقدامنا، وفعليًّا يعتبر الجيل الجديد الكثير من مزايا تكنولوجيا الإعلام الجديد من البديهيات. هذا أمر جيد لأنه يعني أننا يمكن أن نتخطى الحوار الذي ينحصر بين المثالية المطلقة والتدهور المطلق إلى أجندة أكثر عملية لكنها جريئة، يمكن أن نكون أقل إفراطًا في التحمس للأدوات الذكية وأكثر جدية في الممارسة وأكثر تطلعًا إليها. يمكننا تعلُّم أن وتيرة التغير سوف تتحرك بسرعات مختلفة. على ما يبدو انتشر التليفزيون المحمول بسرعة أقل بكثير مما كان متوقعًا له منذ أقل من عامٍ، وتحقِّق مقاطع الفيديو على الإنترنت شعبية هائلة لكن بطريقة أقل تعقيدًا بكثير مما ظن كثيرون من القائمين على تقديمها. إن إمكانية التقارب بين وسائل التكنولوجيا ما تنفك تزداد؛ ومع ذلك لم تحدث بعدُ النقلة من الكمبيوتر الشخصي إلى التليفزيون أو حتى العكس، ومن المثير للاهتمام أنه يُنظر الآن إلى المدوَّنات التقليدية على أنها منصة تخص الأشخاص الأكبر سنًّا وليست الشكل الثوري الذي تميزت به منذ عقد من الزمان. إن احتمالية نشأة شبكة الويب «ذات الدلالات اللفظية» التي تتمتع بوظائف بحث ذكية تبشر بظهور بُعد آخر لوسائل الاتصالات والربط على الإنترنت؛ ومع ذلك فأيًّا كانت المنصة الإعلامية التي تتبناها الصحافة الشبكية، فهي لا بد أن تحتفظ بإدراك عامٍّ لمبادئها.

سعى هذا الكتاب إلى وصف ما يُفترض أن تكونه الصحافة الشبكية، لكنني مهتم بالديناميكيات أكثر من التفاصيل. إنني متحمس للإمكانيات أكثر من طرق العمل، وأملي تحقيق ما تمناه الأستاذ الراحل روجر سيلفرستون من منتدًى للبحث والنقاش حول الصحافة والمجتمع:
لا بد من أن تكون هناك طريقة لتناول القضايا: ربما طريقة لحرث الأرض حتى تصير أكثر خصوبة؛ ومن ثم يكون هناك احتمالية أكبر لأن تنبت بذور العمل السياسي والحكم المهني. (الأستاذ الجامعي روجر سيلفرستون)40

لقد لخصتُ المخاطر التي تهدد الصحافة، لكنني أود أن أختتم برفع الآمال بشأن الفرص الواردة؛ فهذا هو أروع وقت لأن تكون صحفيًّا. كما أنه الوقت الأمثل للمواطن الذي يفكر في أن الإعلام الإخباري ينبغي أن يكون جزءًا إيجابيًّا من عالمه. لا خداع بعد اليوم؛ فنحن الإعلام أصبحنا الآن شبكة إعلام خارق.

ملخص الفصل

  • نحن في حاجة إلى المزيد من الصحافة لكن الصحافة لا بد أن تضيف قيمة اجتماعية وتحريرية.

  • ينبغي أن يعكس الصحفيون العاملون بالصحافة الشبكية تنوع تركيبة جمهورهم وسلوكه.

  • يحتاج الصحفيون العاملون بالصحافة الشبكية إلى استخدام تقنيات أكثر تنوعًا وإبداعية لبناء القدرة على الاتصال.

  • ستضيف الجماهير قيمة تنويع وتحرير إضافية.

  • لا بد أن تصير الدراسات الإعلامية برنامجًا لبناء قيادة فكرية للصحافة الشبكية.

  • لا بد أن تشتمل الدراسات الإعلامية على دراسات إدارة الأعمال وعلى مشاركة الجماهير.

  • لا بد أن تواجه الدراسات الإعلامية قضايا أساسية مثل المشاع الإبداعي، وحرية التعبير، وحيادية الإنترنت.

  • لا بد أن تصبح الدراسات الإعلامية في التعليم برنامج تمكين إيجابي.

  • لا بد أن تصير الدراسات الإعلامية في الحكومة جزءًا من مشروعات تطبيق الديمقراطية كافة.

  • يحتاج ممولو التعليم العالي والأبحاث الاجتماعية إلى أن ينظروا إلى مجال البحث في الإعلام الإخباري والصحافة الشبكية بمزيد من الجدية.

  • الصحافة الشبكية هي طريقة لخلق مدينة إعلامية كونية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤