الفصل الخامس

تقرير المعمل الجنائي

الابتكار خارج المضمار وتمرين العقل

تزداد رجفة قلبك عندما ترى طفلك العزيز مربوطًا بإحكام بإحدى زلاجات الثلوج الخاصة بحالات الطوارئ والمزودة بالإسعافات الأولية، وهي تتأرجح في طريقها إلى سفح جبل سويسري شديد الانحدار ويقودها مسئول الإسعافات الأولية. بالنسبة لأسرة حريصة على ممارسة رياضة التزلج على الجليد، فإن رؤية هذه الزلاجات أمر مألوف، وعادةً ما يذكِّرهم ذلك بجدية بالأخطار الكامنة في هذه الرياضة التي لا تبحث إلا عن المتاعب. فكر في الأمر: الوقوف على لوح لامع للغاية، ثم الاندفاع بسرعة قصوى إلى أسفل المنحدَر على جبل فوق كتلة بيضاء من بلورات الثلج الزلقة، لا بدَّ أن يعتبر ذلك أمرًا جنونيًّا!

لكن كان ذلك مبلغ تفكيرنا في أن كالن — الذي كان وقتها طفلًا نشيطًا في الثانية عشرة من عمره — مصاب بجروح بالغة. ولعلَّ قلوبنا عادت لتنبض بانتظام في آن واحد عندما وصلت الزلاجة ورأينا ابننا يبتسم. «لقد كانت جولة ممتعة.» كذا قال كالن، مضيفًا: «هل لي أن أفعلها مرة أخرى؟!» وفي النهاية، كان الشيء الوحيد الذي عانى منه في هذا اليوم هو الألم والكدمات في ساقيه بالإضافة إلى جرح في كبريائه، ولكن لحسن الحظ لم تكن هناك عظام مكسورة. وبينما تتكشف القصة شيئًا فشيئًا، عرفنا أنه خرج عن «مضمار» التزلج كما كان يحب، لكنه لم يرَ انحدار الجرف المفاجئ في ظلال الظهيرة. ولقد ساعده المسعفون الذين أسرعوا لنجدته وسط الجليد على التعافي بدنيًّا كما زودوه بنصائح قيمة حول إجراءات السلامة في الجبال، مما يضمن بعد ذلك احترامه للمسارات الجامحة التي تقع خارج مضمار التزلج مع استمتاعه بالتزلج.

ونظرًا لأن المسعفين هم عادةً أول من يصل إلى موقع الحادث أو الجريمة العنيفة، فإنهم يتعاملون دائمًا مع مواقف الحياة أو الموت. تاريخيًّا، كان قادة المائة عند الرومان الطاعنون في السن هم أول مسعفين عرفهم التاريخ. فلأنهم لم يعودوا قادرين على خوض المعارك، كان يُطلب منهم في كثير من الأحيان تنفيذُ الإجراءات الطبية الخطيرة مثل تقطيب الجروح وبتر أعضاء الجرحى من المقاتلين. وكان مفهوم «الفرز» الذي يعود إلى الحرب الأهلية الأمريكية قد مكَّن المسعفين من زيادة فرص نجاة المصابين كثيرًا. وينطوي مفهوم الفرز على تصنيف المرضى إلى ثلاث فئات طبقًا لخطورة حالتهم.1
وحيث إن الإبداع هو الضحية، فيجوز تطبيق هذا المبدأ أيضًا عليه. وإنعاش الإبداع يحتاج إلى دراسة ثلاثة عوامل:
  • إنقاذ التفكير الإبداعي الفردي: الضحية الأولى للجريمة.

  • إيجاد حلول جماعية: قناة الإنعاش.

  • تأسيس أنظمة ابتكارية: نظام دعم الحياة للتدخل الابتكاري المتواصل.

وبدلًا من اقتصار عملية الإنقاذ على الإبداع وحده (وهو القدرة على استخدام الخيال للتوصل إلى أفكار أو أشياء جديدة ومبتكرة)، علينا اتخاذ خطوة أخرى بإحياء التفكير الإبداعي خلال تقديم استراتيجيات للنمو المتواصل. والحل الإبداعي للمشكلات هو عملية ابتكار حل لمسألة أو مشكلة أو فرصة أو تحدٍّ، وهو النتيجة الطبيعية للتفكير الإبداعي. ونظرًا لأن عمليتي التفكير الإبداعي وحل المشكلات عمليتان تركِّزان على النتائج، فإنهما ليستا مجرد تفكير متأنٍّ دون فعل، بل عمليتان منتِجتان. فالابتكار هو التطبيق العملي لعملية التفكير الإبداعي. لكن المشكلة هنا هي أن حل المسائل في الواجبات المدرسية أو تذكُّر المعلومات في تقييمات التدريبات لا يشمل عادةً الحل الإبداعي للمشكلات؛ لأن هذه المشكلات عادةً ما يكون لها حلول معروفة، لكن حتى الآن لا تزال هذه هي الطريقة نفسها التي حاول بها مجتمعنا إحياء التفكير الإبداعي.

وفيما يخص كالن، سمحنا له بمواصلة ممارسة رياضة التزلج على الجليد، وبطبيعة الحال أعطينا له الكثير من التعليمات الصارمة والتحذيرات الأبوية الشديدة، واستمر في المنافسة حتى فاز ببضع ميداليات ذهبية وبلغ المنافسة على المستوى القومي. وعندما مضى قدمًا إلى القفزات الخطرة والخدع البهلوانية — التي تثير قلقنا كثيرًا — تذكر نصائح المسعفين: «اعرف ما هو أمامك، وسِرْ بسرعة آمنة إذا لم تكن تعرف ما هو أمامك، وتدرب على الحركة الجديدة حتى تتقن جميع زواياها، إلى أن تصبح طبيعية بالنسبة لك.» وسرعان ما اكتشفنا أروع اختراعات رياضات الجليد التي مَكَّنت كالن من القيام بذلك؛ ففي هذا الوقت تقريبًا، استُخدمت لأول مرة الوسائد الهوائية الضخمة القابلة للنفخ التي صممت لالتقاطك بلطف عندما تهبط إلى الأرض بعد القيام بحركات جريئة في الهواء. وبمساعدة إحدى هذه الوسائد، تمكن كالن من التدرُّب على أكثر حركات الجمباز جرأةً من قفز وتَلَوٍّ في الهواء، وأتقنها؛ حيث كان يقفز إلى ارتفاع كبير كما يحلو له مرارًا وتكرارًا، ويهبط بسلام على فقاعة هوائية ضخمة.

لقد ذكرنا لك هذه القصة لأننا على وشك أن نأخذك في مغامرة خارج المضمار. نريد أن نوسِّع نطاق تفكيرك ونتحداك بطرق قد تظن أنها مستحيلة. قد تشعر في نهاية الأمر بعدم الراحة كليَّةً، لكن لا تقلق؛ لقد وجدنا سبلًا لتكون هذه المغامرة ممتعة لا مؤلمة كما هو محتمل، وها نحن نعرِّفك على دورية إنقاذ من المسعفين، وهي لن تقتصر على مساعدتك على تقطيب الجرح وتجبير المعنويات المحطمة مما تشهده في معارك التفكير الابتكاري، بل يمكنها أن توفر لك أيضًا استراتيجيات للارتقاء إلى مستويات جديدة. وبعد سنوات من التجريب، توصلنا إلى سبل لتيسير توسيع نطاق تفكيرك دون التعرض لخطر الإجهاد الشديد. ووضعنا سلسلة من التمارين التي تمكِّنك من التدرُّب (بأمان) إلى أن تبني المهارات والثقة اللازمة لإجراء أكثر ما تستبعد من التجارب الإبداعية، والتوصل إلى أكثر الأفكار روعة. ويمكننا إنقاذك من الاضطرار إلى تحمل المخاطر الكبيرة (والصعبة) التي قد تكلِّف سمعتك أو شركتك مبالغ طائلة من المال. وفي مغامرة التفكير الإبداعي هذه، من المستبعد أن تعاني مما هو أكثر من صدمة بسيطة في أقل مناطق المخ استخدامًا.

(١) تدريب العقل: وسِّع نطاق تفكيرك دون أن تعرِّضه للإجهاد الشديد

مثلما يحتاج الوصول إلى مرحلة القفزات والمراوغات في الهواء على لوح التزلج الكثير من الممارسة والتدرُّب، فإن التحليل الإبداعي والتطوير الابتكاري الفعالَيْن أيضًا يستلزمان التدرُّب. ومن المهم إعداد الذهن للتحديات قبل الشروع في رحلة إحياء العملية الإبداعية. والإبداع كغيره من المواهب والمهارات لا يأتي دائمًا بسرعة وسهولة؛ فعادةً ما يستلزم تطويره مثابرة وخبرة جمة. من أين إذن نبدأ مع توسيع النطاق الإبداعي؟

بجسمك أكثر من ٦٣٠ عضلة، وفي الواقع تشكل العضلات في المتوسط ٤٠٪ من وزن الجسم. ويمكن تطبيق تعبير «حرِّكها وإلا تفقدها!» مباشرة على الألياف العضلية. ويعد القسيم العضلي أحد أجزاء اللُّيَيف العضلي المخطط، وهو عبارة عن قِطع صغيرة من العضلات. وإذا لم تمرَّنْ هذه العضلات عبر شدها وبسطها، فستفقد في الواقع مائة قسيم عضلي يوميًّا. والآن، فلتتصور المخ على أنه عضلة. إننا في هذا الكتاب نريد أن نمرِّن عضلات المخ التي لم تستخدمها لفترة طويلة، ربما حتى منذ الطفولة. ويتكون المخ من مناطق مختلفة ترتبط تقريبًا بوظائف مختلفة؛ ولكل منها غرض مختلف، ولكن الشخص واسع المعرفة يستخدم جميع أجزاء عقله.

يمكن أيضًا استخدام تعبير «استخدمها وإلا تفقدها» في سياق المحافظة على بقاء عقولنا نشطة. يسعى الشخص السليم بدنيًّا إلى بناء جميع مجموعاته العضلية ثم يركز على مناطق معينة يرغب في تقويتها. ويفعل الشخص السليم ذهنيًّا الأمر نفسه مع عقله. وتوضح دراسات أجريت حول التفكير الإبداعي أن الأطفال ذوي المستويات المنخفضة في التفكير التباعدي — ممن يستمرون في تمرين «عضلات» الإبداع — يمكنهم أن يتفوَّقوا على الأطفال ذوي مستويات التفكير التباعدي الأعلى الذين لا يؤدون هذه التمارين. وقال أينشتاين: «عندما ينبسط العقل بفعل أفكار جديدة، فإنه لا يعود أبدًا إلى أبعاده الأصلية مرة أخرى.» بعبارة أخرى، إنه ينمو ليستوعب القدرات الجديدة.

يكشف مجالٌ آخر من مجالات أبحاث المخ التي تكشف قدرتنا على تعلم التفكير الإبداعي أدلةً متزايدةً على أن المخ في الواقع مرن. يبدو أن المخ ليس متصلًا بالكامل بمسارات عصبية محددة المواقع يتم إعدادها مسبقًا وفقًا للترميز الجيني ثم تُرسَّخ بعد ذلك طيلة الحياة. وتدعم الأبحاث المتوالية فكرة أنه يمكن «إعادة تزويد المخ بالوصلات العصبية» في أي مرحلة من مراحل الحياة لتكوين علاقات جديدة ومتنوعة.2 وتمَّ التوصل أيضًا إلى أن مرونة المخ كافية لتعزيز وبناء مناطق معينة على مر الزمن. وذلك من شأنه أن يعطينا الأمل بأننا حتى وإن شعرنا أن لدينا أنماطَ تفكير متأصلةً برسوخ وطرق إدراك وتصرف معتادة، فإننا لن نبقى محصورين فيها طوال العمر.
وحسبما لاحظ المعالج النفسي ريتشارد هيل في إحدى مناقشات منتدى مجلس تدريب المهارات الإبداعية،3 يكشف لنا علم الأعصاب أنباءً سارةً حول مرونة العقل حيث إن «المخ البشري يفضِّل الاندماج والاختلاط اجتماعيَّا والتوسع بأسلوب إبداعي»، وإننا — وهو الأفضل — «منظمون بتطور سلالاتنا … لننخرط اجتماعيًّا ونسعى بأسلوب إبداعي للتوصل إلى المعنى الشخصي لنا كإعداد افتراضي؛ أي عندما يسير كل شيء على ما يرام.» ومن المثير للاهتمام أنه بعد عقود من ملاحظة ماسلو هذه الميول في السلوك البشري، بدأ علم الأعصاب في توفير قاعدة تجريبية تدعم هذه النظريات.
ولقد ركز المعلِّمون على مدى مئات السنين على التدريبات والتمرينات التي تقوِّي وصلات المخ.4 وبعد أن بات هذا الأسلوب غير عصري في ستينيات القرن العشرين؛ أي بعدما خلُص المدرسون إلى أن تلك المنهجيات كانت صارمة بصورة مبالغ فيها، بدأ العديد من الطلاب في مواجهة صعوبات في المهارات الأساسية للقراءة والكتابة والحساب. وقد نُبذ النهج شبه المتعصب للتعليم الذي اعتمد على الصَّم — في تعلم اللغات مثلًا — (وحقيقةً، يعزز الصَّم الذاكرة السمعية والتفكير عند تعلم اللغات)، واعتمد كذلك على الاهتمام الشديد بالكتابة بخط اليد (الذي يساعد على تقوية المهارات الحركية، ويزوِّد التحدث والقراءة بالسرعة والطلاقة). لكن بندول الساعة يتحرك الآن إلى الوراء مرة أخرى. وسعى قدر كبير من الأبحاث مؤخرًا إلى تحديد تلك الوصلات التي يمكن تطويرها، والفائدة وراء تطويرها. وتتيح التمرينات الموجهة تقوية الروابط العصبية الضعيفة، ولا يختلف ذلك عن الطريقة التي يمكن أن تقوي بها التمرينات الرياضية الموجهة عضلات بدنية معينة بسرعة.
ما أثر التدريب العقلي المتخصِّص؟ تمَّ التوصل إلى أن الحيوانات التي تُربى في بيئات خصبة (أي محاطة بحيوانات أخرى، ويتاح أمامها فرص الاستكشاف واللعب) تتعلَّم بشكل أفضل من غيرها من الحيوانات من نفس النوع التي لم تقضِ وقتًا في هذا النوع من البيئة الخصبة،5 وتتميز الحيوانات في البيئات الخصبة بما يلي:
  • مستويات أعلى من مادة الإستيل كولين؛ وهي مادة كيمائية بالمخ ضرورية للتعلم.

  • زيادة وزن المخ (أكبر بمقدار ٥٪ في القشرة الدماغية و٩٪ في المنطقة التي تستهدفها التمرينات).

  • زيادة فروع الخلايا العصبية «المدربة» بمقدار ٢٥٪ وزيادة حجمها وعدد وصلاتها في كل خلية عصبية وزيادة في تدفق الدم.

وقد أظهرت التشريحات التي أُجريت على الجثث أيضًا أن الأشخاص الذين تلقوا تعليمًا في مجالات محددة ينمو لديهم عدد أكبر من الفروع العصبية، وهذا يرتبط بزيادة عامة في حجم المخ وسُمكه في تلك المناطق تحديدًا.

(٢) إلى أي مدًى يمكن تعليم التفكير الإبداعي؟

إذن هل يمكن تعليم التفكير الإبداعي؟ هل هناك أي أساس بيئي يشكل التفكير الإبداعي؟ يقول عالم الأعصاب بجامعة نيو ميكسيكو ريكس يونج إن نسبة ٤٠٪ تقريبًا من إبداعنا تُتوارث من الجينات و٦٠٪ منها تأتي نتيجة التأثيرات البيئية.6 ويقول إن جميع الناس يتمتعون بالقدرة على التفكير الإبداعي الذي يتأثر بتفاعلاتهم مع البيئة. وحتى إن لم تُحفَّز هذه القدرة في سن مبكرة، فإنها تعاود الظهور في وقت لاحق في الحياة. وإذا وصل المخ إلى أعلى مستويات الاسترخاء وأخذ في التفكير في احتمالات متعددة، فعندئذ تكون عملية التفكير الإبداعي المتقدم ممكنة.
تقول تيريزا أمابل الأستاذة بكلية هارفرد للأعمال: «الأسطورة المتعلقة بالإبداع هي أنه يرتبط بشخصية أو عبقرية معينة في الإنسان،7 وفي واقع الأمر، الإبداع يعتمد فعلًا إلى حد ما على ذكاء8 الفرد وحنكته وموهبته وخبرته. وبالطبع هو كذلك. لكنه يعتمد أيضًا على التفكير الإبداعي باعتباره مهارةً تنطوي على بعض الخصائص مثل الميل للمجازفة وقلب المشكلة رأسًا على عقب للإتيان بمنظور جديد. وهذا يمكن تعلمه.»
يؤكد الدكتور جيسون أنه تمَّ التوصل إلى أن الإبداع يرتبط بالمتغيرات التالية في الشخصية:
  • الذكاء (طبقًا لنتائج اختبارات قياس مستوى الذكاء).

  • المرونة الإدراكية (مثلًا كما تُقاس باختبار وسكونسن لتصنيف البطاقات).

  • المثابرة البالغة؛ التي تصل في كثير من الأحيان إلى حد الهوس بإتمام الشيء (أحد أبعاد الشخصية).

  • الانفتاح على الخبرات/الانبساط النفسي (وفقًا لقائمة سمات الشخصية الخمس الكبرى).

  • التفكير التباعدي والطلاقة (من اختبار جيلدفورد للاستخدامات البديلة).

وبصرف النظر عن أبعاد الشخصية والذكاء تلك، هناك عدد من العوامل البيئية التي يمكن أن تؤثِّر بشكل كبير على التنمية الإبداعية، ويجوز قول إن هذه العوامل أكثر أهمية. ولتطوير التفكير الإبداعي، تعلَّمْ كيف تهيئ الظروف لتعزيزه بأفضل طريقة. إن تنمية الإبداع قريبة الشبه بتعزيز الفرص المناسبة لازدهاره، وليس توجيه ضربة خاطفة. ويقول سكوت بيركَن في كتاب «أساطير الابتكار»9 إنك إذا انتظرت لحظة من لحظات الاكتشاف المفاجئ «فلا يمكنك الشعور إلا بالملل»!

قد يكون التحدي المتمثل في «أن تكون مبدعًا» مخيفًا لأولئك الذين لا يشعرون بأنهم يميلون إلى خوض هذا الطريق. ولأننا كثيرًا ما نربط الإبداع بالمقدرة الفنية أو الموسيقية، يفترض العديد من الأشخاص الذين لا يتمتعون بهذه المواهب أنهم لا يمكنهم أن يكونوا أكثر إبداعًا، لكن رغم أن الجميع ليسوا فنانين، فبالتأكيد يمكن للجميع أن يكونوا مبدعين. إذ يركز التفكير الإبداعي على تغيير الأفكار والتصورات والمفاهيم بدلًا من تطوير الجماليات أو العمل بكد أكبر على تلك الأفكار والتصورات والمفاهيم. لكن الخبر السار هو أن الإبداع أيضًا «طريقة تفكير». وتلعب القدرة الفطرية دورًا بالطبع، لكن السلوك الإيجابي والإرادة يمكنهما تعويض أي نقص في تلك المنطقة.

إننا نُولَدُ جميعًا مزودين بالقدرة الإبداعية، لكنَّ كثيرًا منا نسي كيف يستخدمها أو يطبقها. وتوضح أغلب الأبحاث في هذا المجال أن أي شخص ذي مستوى ذكاء عادي يقدر على التفكير الإبداعي، فأكثر ما يَكْبِت الإبداع فينا هو فشلنا في تمرينه.

ويحدد مايكل ميتشالكو10 الخصائص الرئيسية للمبتكرين فيما يلي:
  • المبتكرون لديهم نية الإبداع ويتصرفون ويتحدثون بأسلوب إيجابي ومرِح.

  • المبتكرون يدرسون ماهية الشيء وما يمكن أن يكون عليه بدلًا مما هو ليس عليه. فبدلًا من استبعاد بعض الاحتمالات، يدرس المبتكرون جميع الاحتمالات، سواء الحقيقية أو المتخيَّلة.

  • المبتكرون يفسرون العالم لأنفسهم ويتجاهلون تفسيرات المفكرين السابقين. والمبتكرون مبدعون لأنهم يؤمنون بأنهم مبدعون.

  • يتعلم المبتكرون كيف ينظرون إلى الأمور بطرق مختلفة، ويستخدمون أساليب مختلفة من التفكير.

ولتدريس التفكير الإبداعي، نحن بحاجة أولًا إلى خلق بيئة لتشجيع التنمية الإبداعية في هذه المجالات. ويمكننا — على سبيل المثال — العمل على الآتي (وهو ما يُشكل أساس استراتيجياتنا السبع):
  • تشجيع نية الابتكار: جعْل العملية الإبداعية عملية مرحة ومشوقة وذات صلة، بالإضافة إلى توفير الوقت والفرص المخصصة من أجل التنمية الإبداعية.

  • تدريس التفاؤل والثقة بالنفس: الكشف عن أنماط التفكير التي تؤدي إلى تفكير منفتح وليس منغلقًا، وخلق ثقافة يُعامل فيها الموظفون باحترام.

  • بناء الثقة والتفكير المستقل: توفير منبر للأفكار الإبداعية يتم فيه تشجيع جميع الأفكار ودعمها، وفيه يمكن للأفراد الشعور بالفخر بما حققوه وتعلُّم طرح هذه الأفكار بثقة، والاعتماد على التجربة على أنها فرصة للتعلم، وليست مجرد لحظة للثناء أو التوبيخ.

  • توضيح كيفية رؤية الاحتمالات المختلفة: استخدام التمارين التي تشجع على التفكير التباعدي.

(٣) تمرين العقل

يرى الدكتور جيسون أنه «لا توجد نواة واحدة للإبداع في المخ.» بل إن الإبداع غالبًا ما يكون مهمة شديدة التعقيد تدمج جميع القدرات العقلية المختلفة التي نستخدمها في التفكير العادي. وفي مثال التزلج على الجليد الذي ذكرناه، على الرغم من أن الناس يفترضون أن رياضة التزلج لا تستخدم سوى عضلات الساقين، فهي في الحقيقة تستخدم مزيجًا معقدًا من العضلات في جميع أجزاء الجسم؛ من عضلات الرقبة إلى عضلات المعدة والذراعين. وبالمثل، فإن الإبداع عملية معقدة ومتكاملة.

جدول ٥-١: أنماط الإبداع الأربعة.
النمط الإدراكي النمط الشعوري
النمط المتعمد    معالجة إدراكية متعمدة معالجة شعورية متعمدة
«شِق المخ الأيسر» «شِق المخ الأيمن»
من القشرة الجبهية الأمامية إلى منطقة الربط الجداريَّة الصدغية القذالية من القشرة الجبهية الأمامية إلى الهياكل الحوفية
النمط التلقائي معالجة غير واعية معالجة شعورية غير واعية
من منطقة الربط الجداريَّة الصدغية القذالية إلى القشرة الجبهية الأمامية من الهياكل الحوفية إلى القشرة الجبهية الأمامية
وتكشف أنماط الإبداع الأربعة التي حددها علم الأعصاب (انظر الجدول ٥-١) كيف يمكننا تنمية التفكير الإبداعي على نحو بنَّاء من خلال نظام يُطبق «من الأمام إلى الخلف»؛ أي عن طريق إدراك الحاجة إلى تعمد تطوير الإبداع في القشرة الجبهية الأمامية — القادرة على التفكير الواعي — ثم تمريره إلى الخلف إما إلى أجزاء المعالجة الإدراكية أو الشعورية.11 وفي الواقع، بمعرفة هذه العمليات المختلفة، يمكن زيادة فرص التوصل إلى سبل مختلفة لحل المشكلات. ويوضح النموذج أنه إلى جانب الإبداع التلقائي الذي يظهر ببساطة عندما نوضع في البيئة السليمة، يمكننا أيضًا تشكيل المخ على نحو متعمد من أجل توليد حلول إبداعية.12

يمكن استخدام التمارين الموجهة أو أي تدخلات أخرى من أجل تقوية وظائف المخ في المناطق ذات الصلة ومن أجل تشجيع الإبداع. ويمكن أن تساعد هذه التمارين في إنشاء مسارات غير مكتشفة مسبقًا وتقوية المسارات الضعيفة وفتح الباب لاحتمالات جديدة. فعلى سبيل المثال، في إحدى الطرق التي غالبًا ما تُستخدم في التدريب على الأداء المرتفع وإعادة التأهيل، يوضع الفرد في موقف جديد يُحاكي النتيجة المرجوة. وخلال التعرض لهذا الموقف، تتشكل وصلات جديدة في المخ الذي يمكن تمرينه ذهنيًّا بعد ذلك لتقوية المسارات العصبية التي تخلق فرصة للتعرف على الأنماط وتدعم التنمية في هذه المنطقة. ويمكن أن يليه التمرين البدني الفعلي في النهاية. وحينما استخدم هذا النهج مع فرق السباحة، سُحب السباحون في الماء بسرعات عالية (أسرع مما لو كانوا يسبحون بأنفسهم). فمَكَّن ذلك السباحين من الشعور بالحركة الشديدة السرعة من أجل تحفيز المخ على تكوين الوصلات اللازمة لمحاكاة هذه الحركة، ولمعرفة كيفية ممارسة المهارات اللازمة للوصول إلى سرعات عالية في سباق السباحة في النهاية.

بات مفهوم تمرين العقل الآن مفهومًا شائعًا لدرجة أن «الصالات الرياضة» المعنية بتدريبات العقل أصبحت صناعة تقدَّر قيمتُها بملايين الدولارات، بعد أن كان يعد سوقًا متخصصة للأشخاص المصابين بالألزهايمر أو بمشكلات إدراكية أخرى. وصمَّمت شركات مثل لوموسيتي ألعابًا ومنتجات أخرى لتحسين أداء العقل لاقت قبولًا عالميًّا من جميع الفئات السكانية. فاشترك قرابة ١٤ مليون شخص في أكثر من ١٨٠ دولة في موقع شركة لوموسيتي الإلكتروني أو حملوا تطبيقات الآي فون الخاصة بها. وتتوقع إحدى شركات أبحاث السوق التي تتابع على وجه الخصوص التطور في مجال «لياقة» المخ أن هذه السوق سوف تنمو إلى ما يُقدر بملياريْ دولار على الأقل بحلول عام ٢٠١٥.13
وقد خلص ريكس يونج إلى أن الذين يجتهدون في ممارسة الأنشطة الإبداعية يتعلمون كيفية توظيف الشبكات الإبداعية بأدمغتهم بوتيرة أسرع وأفضل. وعند المواظبة على ممارسة هذه الأنشطة مدى الحياة، فإن الأنماط العصبية في المخ تتغير تدريجيًّا. ورغم أن طوال القامة بديهيًّا يتمتعون بميزة عند ممارسة رياضة مثل كرة السلة، فإن هذا لا يعني أن الأشخاص الذين لا يتمتعون بالطول الشديد لا يمكنهم التمرُّن حتى يتقنوا كرة السلة. وبالمثل، يتمتع المبدعون بالفطرة بميزة في التفكير الإبداعي وربما تزيد لديهم احتمالية قضاء حياتهم العملية في ذلك المجال، لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن لأي شخص آخر تطوير تفكيره الإبداعي. وبالإضافة إلى الجوانب الفطرية في نشاط المخ، فهناك مجالات معينة أخرى يمكن تنميتها مثل التفكير التقاربي والانتباه المركَّز. إن القدرة على الانتقال بسرعة بين التفكير التقاربي والتفكير التباعدي بالغة الأهمية أيضًا، والخبر السار هو أن هذا الأمر يمكن تعلمه أيضًا. وأوضح عدد من الدراسات أن أنماط المخ قد تغيرت وظهرت قدرة أكبر على التفكير الإبداعي خلال تصميم برامج تدريب تُنَاوِب بين فترات من التفكير التقاربي المكثَّف مع الحد الأقصى للتفكير التباعدي مرارًا وتكرارًا على مدى عدة مراحل.14

والدراسات التي أجريت حول عازفي موسيقى الجاز وهم يرتجلون كانت شائقة على وجه الخصوص في هذا المجال. فالعازفون المدربون تدريبًا جيدًا يَقْدِرون على تعطيل الموصل الصدغي الجداري الأيمن، الذي عادةً ما يكون له يد في قراءة المحفزات الواردة وتصنيفها من حيث درجة صلتها. ويستطيعون خلال تعطيل هذا الموصِّل — ومن ثم حجب عوامل التشتُّت — تحقيق مستويات عليا من التركيز ومن ثَمَّ عزف الموسيقى بعفوية أكثر. ويُعد الراقصون والممثلون الكوميديون والخطباء — والرياضيون أيضًا — من بين الأشخاص المدربين الذين تبيَّن أنهم يتمتعون بالقدرة على الانتقال إلى هذا المستوى الرفيع من التركيز. لذا، فإن تعلم تعطيل هذا الجزء من المخ قد يساعد على التنمية الإبداعية.

(٤) إبطاء إطلاق النبضات المشبكية

منذ عدة سنوات، قيل لعائلة من أصدقائنا إن ابنتهم التي كانت في رياض الأطفال آنذاك قد تحتاج إلى مساعدة خاصة؛ إذ بدت وكأنها كانت تواجه صعوبة في التركيز على الأنشطة، وكانت تستجيب ببطء وتتعلَّم ببطء. فحينما يكون الأطفال مشغولين بإعداد أدواتهم في بداية اليوم، تحدِّق طفلتهم من النافذة بذهن شارد. ومتى ينتهي الأطفال من تغيير ملابسهم ويخرجون من أجل استراحة الصباح، تكون هي ما زالت على الأرض تحاول عقد أربطة حذائها. وبطبيعة الحال شعر والداها بقلق شديد فأخذاها لإجراء اختبار نفسي مناسب. واتضح أن هذه الطفلة لم تكن تعاني من تأخُّر عقلي على الإطلاق، بل على النقيض من ذلك، كان مستوى الذكاء لديها مرتفعًا على غير العادة. وسرعان ما اكتشفوا بعد ذلك أنها كانت تستغرق الوقت في التفكير في المعلومات ومعالجتها على مستوًى عالٍ، فتتوصل في نهاية المطاف إلى روابط ونتائج ممتازة.

فلنتَّجِه الآن إلى المعمل الجنائي لفحص المخ قليلًا ومعرفة ما يحدث به عندما نُبدع. وإذ تستمر الأبحاث الرائدة الجديدة حول العقل في الظهور، فإننا نتعلَّم الكثير والكثير عن الطريقة التي يحلل بها المعلومات، فضلًا عن تعلُّم سبل علمية جديدة لإحياء التفكير الإبداعي. من المتعارف عليه بصورة متزايدة أن المسارات العصبية تتكون في مرحلة مبكرة من الحياة، وأن نمو مسارات معينة أو عدمه أمر أساسي لتنمية قدراتنا في مجالات بعينها أو لتقوية ذكائنا العام. وقد تمَّ التوصُّل إلى أنه من الممكن تعمُّد دعم قوة مسارات عصبية معينة وتنمية قدراتها، وتقوية نوع معيَّن من الذكاء عبر التدريب خلال تلك العملية. وحيث إنه من الممكن القول بأن الذكاء هو تكوين تأكيدات سريعة — وهذا بلغة العقل يعني وجود نواة ذات استجابة سريعة ومسارات عصبية راسخة — فإن هذا التدريب قد يَزِيد نسبة الذكاء في جوانب معينة قد تساهم في مستوى الذكاء العام. ومع ذلك، أثبتت نتائج أبحاث أجريت في الآونة الأخيرة اكتشافات أخرى مهمة أحدث تتعارض مع هذه الفكرة.

ففي الوقت الذي يسعى فيه علماء الأعصاب إلى اكتشاف الأساس العلمي للتفكير الإبداعي، توصلت فرق بحثية مختلفة الآن إلى أن العقول البطيئة قد تحتضن قدرًا أكبر من الأفكار الإبداعية.15 فعندما تزداد درجات التفكير التباعدي، تنخفض تدريجيًّا كمية مادة بيضاء تسمى بالميلين، وهي موجودة في أجزاء معينة من القشرة الأمامية اليسرى.16 وهذا قد يعني أن هؤلاء الأشخاص يعانون من بطء في الإرسال العصبي؛ لأن هذه المادة البيضاء هي عبارة عن شريحة دهنية عازلة تلتفُّ حول الخلايا العصبية، وتسمح للنبضات الكهربائية التي تنتقل على طول الأعصاب بالتحرك بسرعة. وانخفاض كمية الميلين يعني أن المعلومات تنتقل ببطء أكثر. وكلما زادت القدرة على التفكير التباعدي لدى الفرد، يقل «تكامل» المادة البيضاء لديه. وعلى وجه الخصوص، اكتشف ريكس يونج أن الأشخاص الأكثر إبداعًا يملكون مادة بيضاء أقل تكاملًا في المنطقة التي تربط القشرة الجبهية الأمامية بالمهاد الذي يقع في مكان أعمق.17 ويمكن القول إن هذه الوصلات البعيدة في المخ هي السبب في الوظائف الإدراكية المتنوعة وربما تدعم عمليات التفكير غير المتخصصة والمباشرة مثل الإبداع.

وأدت هذه النتيجة التجريبية إلى التوصل إلى فكرة غير متوقعة: أنه رغم افتراض أن المخ الذي يعمل بكفاءة يعزِّز التفكير الإبداعي، فالأشخاص الذين يملكون المشابك العصبية المخية التي تُطلق نبضات أبطأ من المعتاد يتمتعون بقدرة أكبر على التفكير الإبداعي. وقد يرجع ذلك إلى أنه في هذا الجزء من المللي ثانية بين إطلاق نبضة واستقبالها، يكون أمام الرسالة فرصة لعمل وصلات جديدة أخرى. أثناء التفكير الإبداعي، فإن المسار من فكر إلى آخر لا يكون خطًّا مستقيمًا، وهذا يعني أن الأشخاص الذين يتمتَّعون بدرجة عالية من الإبداع يمكنهم تكوين وصلات جديدة ابتكارية بسهولة، كما أنهم أيضًا لا يتقيَّدون بالمناهج القياسية. فهم لا يشعرون بانسجام مع طرق التفكير الراسخة ولا يتبعون المسارات المعيارية.

لا تزال هذه النظرية تخمينية، وهناك الكثير من الأدلة التي تَدْحَضُهَا وتربط سرعة الإرسال العصبي بالذكاء، والذكاء بزيادة الإبداع. وفي المقابل، يقول بول طومسون — الأستاذ بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس — إن إرسال المعلومات السريع خلال المشابك العصبية ليس أمرًا حيويًّا للفكر الإبداعي مثلما تُوُقِّعَ سابقًا. فهو يرى أن «السرعة الذهنية الكبيرة قد تكون مفيدة للعب الشطرنج أو حل مكعب روبيك، لكنك لا تعتقد بالضرورة أن كتابة الروايات أو ابتكار الأعمال الفنية أمر يتطلب سرعة ذهنية فائقة.»18

لذلك عند النظر في السؤال: كيف يُمكِنُنَا تقوية التفكير الإبداعي؟ فربما نحتاج إلى التفكير في كيفية المساهمة في إبطاء عمليات التفكير لإتاحة الفرصة لظهور وصلات مشبكية جديدة. وهو ما يعني على الأرجح أننا بحاجة إلى البدء في إبطاء إيقاع حياتنا.

(٥) مفتاح «تشغيل/إيقاف» المخ

سوف يتَّضِح لك أن تحفيز حالة من الاسترخاء أمر بالغ الأهمية لتشجيع التفكير الإبداعي، إذا ما ربطت بين هذه النظريات الجديدة الشائقة والحقيقة المعروفة منذ أمد بأن الضغط العصبي يمكنه أن يتسبب في «إغلاق» أو «إيقاف عمل» جوانب مهمة في المخ بحيث لا يمكن الوصول إليها مرة أخرى. ومن المهم أن تتمكَّن من الوصول إلى مستويات أعمق وأكثر اتساعًا في المخ، بدءًا من الحصين وحتى القشرة الجبهية الأمامية. وكلما زاد استرخاء الفرد، زاد «تفتح» عقله وزادت سهولة تكوين وصلات أوسع نطاقًا. وفي الواقع، يُتيح الاسترخاء تحرر التفكير الواعي من المهام الملحة والمباشرة وصولًا إلى تفكير أكثر تفتحًا وتباعدًا.19

ويبدو أن المخ قادر على إيقاف عمل الوصلات مؤقتًا في حالة الضغط العصبي الجسيم، وهو ما يحدث غالبًا بعد الصدمات، عندما يفقد الفرد الذاكرة إما لفترة قصيرة أو طويلة، ربما للحد من الألم وحماية الفرد في النهاية. ويقول البعض إن هذه غريزة تنشط بشدة لدى الحيوانات في اللحظة التي تؤكل فيها! فهل لاحظت من قبل أنه في اللحظة التي يبدأ فيها الأسد بالتهام الغزال، فإن الغزال يتوقف عن الصراع ويُصبِح هادئًا للغاية وفي عينه نظرة جوفاء؟ ربما لأن الحيوان يهرب من الألم والرعب بدخوله في حالة تفارقية. ولا يعني هذا أننا نوصي بهذه الحالة العقلية للعمل المثمر، حتى وإن كان هناك قاتل إبداع يتربص في الخفاء!

وبالمثل يبدو أن الضغط النفسي قد يتسبَّب في تعطيل تقبل الأفراد للتعلم وترحيبهم به. وقد يكون ذلك مُهمًّا على وجه الخصوص فيما يتعلق بالتفكير الإبداعي الذي يتطلَّب حالة من الاسترخاء، والقدرة على إمعان التفكير في الخيارات بوتيرة بطيئة وتفتح الذهن على استكشاف البدائل المختلفة دون خوف. وحسبما يشير ريتشارد هيل، عندما يتعرَّض الإنسان إلى ضغط نفسي أو صدمة، فإن المخ يعطِّل عمل الأنظمة المعنية بالعثور على المعنى الشخصي والاجتماعي والتي تؤثِّر على التفكير الإبداعي من أجل مساعدة موارد المخ على التركيز.20
ويبدو أنه هناك جين معين يُمكِّننا من أن نكون أكثر استرخاءً في ظل الضغط العصبي وأكثر قدرة على التعامل مع الأثر المحتمل للضغط من خلال تكوين المزيد من الخلايا في الحُصين. وقد يتم «إيقاف» نشاط هذا الجين في مرحلة مبكرة من الحياة في حالة وجود عوامل بيئية خانقة. وقد تبيَّن أنه عندما يتسبب الضغط العصبي في تقليل بروتين معين — وهو عامل التغذية العصبية المشتق من الدماغ — فإن الخلايا العصبية في بعض الأجزاء في الحُصين تتقلَّص ويقلُّ حجم الحُصين ككل. ونظرًا لأن الحُصين يلعب دورًا رئيسيًّا في المزاج والإدراك والذاكرة، فإن الضغط العصبي يضرُّ بالتأكيد بتنمية التفكير الإبداعي. ومن المثير للاهتمام أن إحدى الدراسات أوضحت أن صغار الجرذان يُولَدُون بهذا الجين متوقفًا نشاطه بالفعل، وربما يكون ذلك آلية وقائية، ولا يتم إثارته إلا عندما ترعى الأم جرذها الصغير بالاعتناء والتغذية.21

ولذا، لكي نتمكَّن من تشجيع التفكير الإبداعي، من المهم ألا يكون هناك ضغط عصبي خارجي زائد عن الحد، و/أو أن تكون الآليات الفعالة للتعامل مع الضغط في نصابها الصحيح. وهذا من شأنه أن يَضمَن إشراك مناطق المخ التي يمكنها الوصول إلى المعنى الشخصي في العملية، كما يضمن ازدهار الفرد.

(٦) مسارات جديدة للتفكير المتفوق

مثلما تعلَّم كالن كيفية شَقِّ مساراتٍ جديدة على الجليد غير المحدد بمسارات، فإنه بإمكان الناس كافةً تعلُّم كيفية التوصل إلى أفكار إبداعية جديدة تُوَسِّع نطاق تفكيرهم وتتحداهم. ومثلما احتاج كالن إلى التدريب لممارسة مهاراته الجديدة — بينما كان يمرِّن نفسه على القفز والدوران — فنحن أيضًا بإمكاننا التمرُّن باستخدام الاستراتيجيات التي ستصل بنا إلى التفكير الإبداعي المتفوق. وستحدد مبادئ واستراتيجيات الإنقاذ التالية الخطواتِ البسيطة التي من الضروري اتخاذها، كما ستضمن التمارين التي نقدمها هنا استخدامك للوسائد الكبيرة القابلة للنفخ (وسائل الأمان) عندما تمارس الحركات الصعبة في الهواء (المهام الصعبة وأنشطة توسيع نطاق التفكير). وسيدفع ذلك عنك الحرج أثناء التدريب، وقد يجنبك ارتكاب خطأ المليون دولار!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤