الفصل الأول

كل شيء يتطور ويتغير

اكتشاف التطور في الكَون
ما من شيء ثابت في الكون،
كل شيء يتقلب بالزيادة أو النقصان، وكل ما يولَد
يَحمِل في رَحِمه بذور التغيير.
أوفيد، «التحولات»، الجزء الخامس عشر (۸ ميلاديًّا)

كل شيء يتغير، ولا شيء يظل ساكنًا.

هيراقليطس، ٥٠٠ ق.م. تقريبًا، كما نقله أفلاطون في «محاورة كراتيليوس»
fig2
شكل ١-١: نقشٌ مشهور من كتاب يرجع إلى عام ۱۸۸۸ لعالم الفلك الفرنسي نيكولا كامي فلاماريون، يوضح تصوُّر البشر للأرض في العصور الوسطى على أنها قرص مسطح محاط بالنجوم المُثبَّتة على قُبَّة سماوية. يحرِّك المستكشفُ المحب للاستطلاع رأسَه عبر «قُبة السماء»؛ ليرى الشمس والقمر والكواكب تتحرَّك على عجلات تروسٍ هائلةٍ أثناء دورانها من حولنا. (إهداء من «ويكيميديا كومنز»)
لقد تغيرت نظرتنا للكون وللنظام الشمسي تغيرًا جذريًّا خلال الأعوام الخمسمائة الماضية. فقبل عام ۱٥٤۳ كان جميع البشر تقريبًا يؤمنون بأن الأرض مسطحة، وأنها في مركز الكون، وأن النجوم نقاط بالغة الصغر من الضوء توجد على قُبَّة السماء (الشكل ١-١). وفي عام ۱٥٤۳، قَدَّم كوبرنيكوس الأدلة على فكرة أنَّ الشمس — لا الأرض — هي التي تقع في مركز عالمنا، وأنَّ الأرض ليست سوى كوكب يدور حول الشمس. وفي عام ۱٦٠۹، استخدم جاليليو جهازًا حديث الاختراع يُدعى التلسكوب، ليكتشف أنَّ النجوم لا تُعَد ولا تُحصَى، وأنها ليست متناثرة على قُبَّة هائلة فوق رءوسنا. أثبت جاليليو أيضًا أن كوكب المشتري له أقماره الخاصة التي تستطيع القيام بدورة كاملة حوله، مما دلَّ على أنَّ المشتري لا يقبع في كرة سماوية نموذجية، أو قُبَّة توجَد فوق الأرض. كشف جاليليو أيضًا زيف الفكرة القائلة بأن أجسام الكواكب مثالية لا تشوبها شائبة؛ عندما كشف من خلال تلسكوبه أنَّ قمر كوكب الأرض مُغطًّى بفُوَّهات، وليس عبارة عن كرة سماوية مثالية. وأخيرًا، باكتشافه أن كوكب الزهرة يمر بأطوار شبيهة بأطوار قمر كوكب الأرض (التربيع الأول للزهرة، التربيع الثاني للزهرة … إلخ.)، أَوضَح أنَّ كوكب الزهرة يدور حول الشمس في مدار يقع داخل مدارنا. والأهم من ذلك كله، أنه أكد فكرة كوبرنيكوس القائلة إنَّ الأرض مجرد كوكب آخر يدور حول الشمس. وبحلول سبعينيات القرن السابع عشر وثمانينياته، كان إسحاق نيوتن قد توصَّل إلى قوانين الحركة والجاذبية، مثبِتًا بذلك إمكانية تفسير النظام بأكمله من خلال قواعد الفيزياء الأساسية.

إننا ننظر اليوم إلى صور الفضاء المذهلة التي تأتينا من التلسكوبات الموجودة على الأرض وتلسكوب هابل الفضائي، ونرى ما لم يكن بمقدور أي شخص أن يتخيله منذ ۳٠ عامًا مضت. فنحن نستطيع أن نرى مراحل ولادة النجوم وموتها، وكيفية تشكُّل الكواكب والأنظمة الشمسية الأخرى. وهذه الصور، إضافةً إلى الحسابات الفيزيائية الفلكية والنماذج الرياضية التي تفسرها؛ تقدِّم لنا رؤيةً جديدةً عن أصل النظام الشمسي، وتسمح لنا بأن نفسر معظم ما كنا نخمِّنه قبل هذا القرن.

من أين أتينا؟ متى وأين بدأ كل شيء؟ مثل هذه الأسئلة أسَرَت الإنسانَ وأثارت لديه القلق منذ أن نظر إلى السماء لأول مرة. وعلى مدار آلاف السنين، أتت التفسيرات من مجموعة كبيرة من مختلف الأساطير والقصص الدينية، التي تمثِّل جميع الثقافات الموجودة على الأرض. لكن في أوائل القرن العشرين، صار تجاوز الأسطورة والتكهُّن ممكنًا، وبدأنا في استخدام مناهج العلم لنكتشف ما حدث بالفعل.

fig3
شكل ١-٢: «كمبيوترات هارفارد» في مقر عملهن نحو عام ۱۸۹٠. تجلس هنرييتا سوان ليفيت، الثالثة من اليسار، ممسكة بالعدسة المكبِّرة. وإلى يمينها توجد آني جامب كانون، وتظهر ويليامينا فليمنج واقفة، وأنتونيا ماوري في أقصى اليمين. (إهداء من «ويكيميديا كومنز»)
تحقَّق أول إنجاز علمي كبير على يد مجموعة من عالمات الفلك (الشكل ١-٢) العاملات في مرصد كلية هارفارد تحت إشراف دبليو إس بيكيرينج. كُن يُعرَفن باسم «كمبيوترات هارفارد»؛ لأنهن كُن عالمات رياضيات موهوبات يستطعْنَ أن يجرين العمليات الحسابية ذهنيًّا وكتابةً بسرعة كبيرة، وأن يَقُمن بعمليات القياس بأيديهن. (الحقُّ أنَّ كلمة «كمبيوتر» لم تظهر إلا بعد ذلك بوقت طويل لتشير إلى الأجهزة الإلكترونية التي نستخدمها جميعًا الآن.) لم يُعيِّنهن بيكيرينج لإجادتهن للرياضيات فحسب، بل لحَذَرهن أيضًا وتدقيقهن في دراسة الآلاف من ألواح الصور الزجاجية لسماء الليل التي الْتقطَتْها مختلف التلسكوبات، وتحليلها. إضافةً إلى ذلك، كُن أقلَّ تكلفةً من المساعدين الذكور (٢٥ سنتًا في الساعة، أي أقل من السكرتير)، وكُن يعملْنَ باجتهادٍ دون شكوى لستة أيام في الأسبوع. كان هذا في وقت تُمنَع فيه النساء من الوظائف العلمية تمامًا، وهؤلاء اللواتي حاولْنَ أن يحصلْنَ على تعليم متقدم في العلوم قابلْنَ عقباتٍ ضخمة في كل خطوة على الطريق.

بالرغم من ذلك، سرعان ما ظهرت مواهبهن وقامت كلٌّ منهن باكتشافات أحدثت ثورة في علم الفلك، وتفوَّقْنَ على معظم علماء الفلك الذكور في عصرهن. أشهرهن كانت آني جامب كانون، التي فهرست نجوم سماء الليل، واقترحت أولَ نظامٍ لتصنيف النجوم وفقًا لدرجات حرارتها. استندَت آني جامب كانون في تشكيل هذا النظام إلى أول نظامٍ كاملٍ لتصنيف النجوم لأنتونيا ماوري.

لكن المرأة الأهم في قصتنا هي هنرييتا سوان ليفيت. كُلِّفت هنرييتا بدراسة «النجوم المتغيرة»، وهي أنواع من النجوم يتغير سطوعها من ليلة لأخرى. وسرعان ما أدركت أن التغير في سطوعها يحدث على مدار فترة منتظمة من التقلب، حيث النجوم الأكثر سطوعًا (الأكثر لمعانًا) تمر بأطول فترات من تغير السطوع. وجدت ليفيت نجومًا متغيرة في تجمع نجمي في كوكبة قيفاوس (ومن ثَم سُمِّيتْ بالنجوم «القيفاوية») كانت جميعها على نفس المسافة، مما أتاح لها معايرة طيف السطوع. وفي عام ۱۹۱۳، وبعد دراسة ۱۷۷۷ من النجوم المتغيرة، توصلت ليفيت إلى العلاقة بين مدة تقلب سطوع النجوم المتغيرة ولمعانها، مما مكَّنها من تحديد بُعد نجم ما من خلال قياس لمعانه وفترة تقلُّبه. وبفضل ليفيت، صار لدى علماء الفلك أداة موثوقة لقياس المسافة التي يبعدها نجمٌ ما أو مجرةٌ ما عن الأرض.

قام بالخطوة التالية عالم الفلك الأسطوري إدوين هابل. ففي عام ۱۹۱۹ كُلِّف هابل بالعمل في مرصد ماونت ويلسون المكتمِل إنشاؤه حديثًا آنذاك (الشكل ١-٣(أ))، والذي يقع في الجبال أعلى باسادينا بولاية كاليفورنيا. كانت لديه حرية استخدام ما كان آنذاك أقوى تلسكوب على وجه الأرض؛ وهو تلسكوب عاكس بمرآة حجمها ۱٠٠ بوصة (الشكل ١-٣(ب)؛ والشكل ١-٣(ﺟ)). وتوصَّل هابل إلى أول اكتشافاته المهمة في عام ۱۹٢٤ باستخدام نجوم ليفيت المتغيرة الملتهبة، ليوضِّح أنَّ ما كان علماء الفلك يشيرون إليه باسم «السُّدُم الحلزونية» هو في الحقيقة مجرات تقع خارج مجرتنا، درب التبانة، وأن درب التبانة ليس سوى مجرةٍ واحدةٍ ضمن العديد من المجرات. أدَّى هذا إلى اتساع إدراكنا لحجم الكون بدرجةٍ أكبر كثيرًا مما كان البشر يعتقدون أنه ممكن من قبل.
fig4
شكل ١-٣: (أ) إدوين هابل ينظر عبر التلسكوب الرئيسي على جبل ويلسون. (ب) أكبر القِباب الثلاث على جبل ويلسون، والتي تضم (ﺟ) التلسكوب العاكس بحجم مائة بوصة الذي استخدمه هابل. (إهداء من «ويكيميديا كومنز»؛ [الصورتان: (ب)، و(ﺟ)] من تصوير المؤلف)
استخدم هابل التلسكوب ليدرس أكبر عدد ممكن من النجوم والمجرات وغيرها من الأجرام السماوية الضخمة دراسةً منهجية. فقاس المسافة التي تبعدها باستخدام أسلوب المتغير القيفاوي، كما استفاد أيضًا من عمل عالم الفلك الهولندي فيستو سليفر الذي كان يعمل في مرصد لويل في فلاجستاف بولاية أريزونا، وحلل أطياف الضوء القادم من النجوم. فمثلما يُقسِّم المنشور الزجاجي ضوء الشمس إلى ألوانه الرئيسية، يمكن أيضًا للضوء القادم من النجوم أن يُقسَّم إلى طيف من الألوان (الشكل ١-٤). لكن هذا الطيف توجد به «نطاقات» مميزة على طول مقياس الألوان، وهي ناتجة عن امتصاص عناصر معينة. عندما نُحلِّل في المعمل الطيفَ الناتج عن احتراق الصوديوم أو أي معادن أخرى، نجد تلك النطاقات نفسها، ويمكننا أن نُحدِّد العناصر التي نراها في كل مجموعة من النطاقات.
fig6
شكل ١-٤: عندما ينقسم طيف ضوء النجوم عبر منشور زجاجي، تظهر الألوان والأطوال الموجية المختلفة جنبًا إلى جنب مع نطاقات امتصاص بيضاء مختلفة الأطوال الموجية، تشير إلى عناصر مختلفة، مثل الصوديوم والكالسيوم. ويتضح في الضوء القادم من النجوم البعيدة انزياح نطاقات الامتصاص إلى الطرَف الأحمر من الطيف، وذلك مقارنةً بمواقعها الطبيعية على النحو الذي يحدده مصدر الضوء في المختبر. (بتصريح من أكسفورد يونيفرستي برس)

كان أهم شريك لهابل في هذا المسعى هو ميلتون هيوماسون، الذي لم يحظَ بأي تعليمٍ بعد أن تخطَّى سن الرابعة عشرة، لكنه كان متحمسًا لإثبات جدارته. كانت مهمة هيوماسون الأصلية هي قيادة البغال الحاملة للتلسكوب وباقي الأدوات إلى أعلى ذلك الجبل الشديد الانحدار. وبعدها أصبح حاجبًا خلال النوبة الليلية التي كانت تتزامن مع عمل علماء الفلك، فتعرف هابل عليه. وجد هابل أن لديه مواهب غير متوقَّعة فقام بترقيته ليكون مساعده. أُعجبَ هابل بتصميم هيوماسون الهادئ على أخذ الصور الفوتوغرافية الصعبة، وإجراء القياسات الدقيقة لأطياف آلاف الألواح الفوتوغرافية التي الْتقطها التلسكوب.

وبعد قياس المئات من مختلف النجوم والمجرات، لاحظ هابل وهيوماسون شيئًا غير اعتيادي. وجدا أنَّ أطياف النجوم الأقرب بها خطوط امتصاص تتشابه مع خطوط الامتصاص التي تظهر في طيف ذلك العنصر الموجود على الأرض. وكلما ابتعد النجم أو المجرة عن الأرض، انزاحت نطاقات الامتصاص البيضاء من مكانها الأصلي باتجاه الطرَف الأحمر من الطيف.

لماذا تتحرك خطوط الامتصاص باتجاه الطرف الأحمر من الطيف؟ أعلن فيستو سليفر عن هذا الاكتشاف وعن تفسيره في حالة بِضع مجرات في عام ۱۹۱٢. تُعرَف هذه الظاهرة باسم انزياح دوبلر، وهي تحدث بسبب ما يُعرَف باسم تأثير دوبلر. لقد سبق لك أن اختبرت تأثير دوبلر للصوت مرات عديدة. فعلى سبيل المثال، إذا كنت تقف على الطريق بينما تندفع نحوك سيارة أو قطار بسرعة عاليةٍ نافخةً بوقها، فستلاحظ أن حدَّة الصوت تزداد قليلًا مع اقتراب السيارة أو القطار. وحالما تتخطَّاك المركبة مسرعةً بعيدًا عنك، ستجد أن حدة صوت البوق تنخفض مجددًا. يحدث تأثير دوبلر لأن موجات الصوت تتكتَّل كلما ازداد مصدرها قربًا منك. إذا تكتَّلت الأمواج وكان طولها الموجي أقصر، فستكون حدة صوتها أعلى. وبصورة مماثلة، عندما يتحرك مصدر الصوت بعيدًا عنك، تتمدد الأمواج (الشكل ١-٥). والأمواج الأطول، الأكثر تمددًا، أقلُّ درجةً في حدة الصوت.
fig7
شكل ١-٥: يحدث تأثير دوبلر في حالة وجود حركة بين مصدر الموجات وبين الراصد. فعندما تُطلِق سيارة متحركة بوقها مثلًا، يبدو أن الموجات الصوتية تزداد حدة مع اقتراب السيارة، ويبدو أنها تنخفض في الحدة بينما تتحرك السيارة بعيدًا. تعود زيادة حدة الصوت إلى ضغط الموجات الصوتية مع اقتراب البوق (تكتُّل الموجات وقِصَر الطول الموجي). وعندما يتحرك مصدر الصوت بعيدًا عنك، تتمدد الموجات ويزداد طولها الموجي، فتنخفض حدة الصوت. ينطبق التأثير نفسه على موجات الضوء المنبعث من النجوم البعيدة. إذا كانت النجوم تقترب منا، فستتجمَّع أطوالها الموجية وتتقلَّص؛ مما يؤدي إلى انزياحها إلى الطرف الأزرق-البنفسجي من الطيف. غير أنَّ جميع النجوم والمجرات تنزاح إلى الطرف الأحمر من الطيف، مما يدل على أنها تبتعد عنا. (بتصريح من أكسفورد يونيفرستي برس)

ينطبق تأثير دوبلر على موجات الضوء مثلما ينطبق على الموجات الصوتية. فإذا كان المصدر يتحرك بسرعة شديدة تجاهنا، فستتكتَّل الموجات الضوئية، وسيصبح طولها الموجي أقصر (وهو ما يتطابق مع الطرف الأزرق والبنفسجي من طيف الضوء). وإذا كان مصدر الضوء يتحرك مبتعدًا عنا بسرعة كبيرة، فستتمدَّد الموجات الضوئية وتصبح أطول (وهو ما يتطابق مع الطرف الأحمر من الطيف).

أوضحتْ أولى ملاحظات سليفر في عام ۱۹۱٢، ثم التصنيف الدقيق الذي وضعه هابل وهيوماسون لأكثر من ٤٦ مجرة والعديد من النجوم، أنَّ المجرات المرصودة جميعها تقريبًا تنزاح باتجاه الطرف الأحمر، مع عدم وجود أية أجرام تنزاح باتجاه الطرف الأزرق ربما تكون تتحرك باتجاهنا. والأهم من ذلك أنَّ هابل وهيوماسون اكتشفا أن الأجرام الأبعد عنَّا تتَّسم بدرجةٍ أكبر من الانزياح نحو الأحمر، ولا بد أن تكون هي الأسرع في الابتعاد عنَّا. كان ما اقترحه عمل هابل وهيوماسون أنَّ الكون يتمدد. ويمكننا تشبيه ذلك بصنع رغيف خبز بالزبيب. فعندما تبدأ بكُرة العجين، تكون جميع حبَّات الزبيب متلاصقة بالقرب من بعضها. لكن مع تمدد كرة العجين، تبتعد كل حبة زبيب عن الأخرى، وتلك الحبَّات الواقعة على الجزء الخارجي من كرة العجين تكون هي الأسرع حركةً.

«الكون يتمدد». هذه فكرة مخيفة، ولم يكن معظم علماء الفلك قادرين على تقبلها في البداية. غير أنَّ بيانات هابل وهيوماسون كانت متَّسقة ومتماسكة، ومع مرور الوقت، ومع تحليل المزيد والمزيد من الأجرام، تبيَّن أنَّ جميعها ينزاح نحو الأحمر. وفي عام ۱۹٢۷، اقترح عالم الفلك والقَسُّ البلجيكي جورج لومتر نموذجًا تمدَّد فيه الكون من نقطةٍ واحدةٍ في الماضي السحيق. لم يُعجَب معظم علماء الفلك بفكرة وجود بداية للكون؛ إذ كانوا يعتقدون أنه في «حالة ثابتة»، مع خلق مادة جديدة في المركز طوال الوقت. وكان فريد هويل من بين هؤلاء المؤيدين لفكرة الحالة الثابتة، وهو الذي صاغ مصطلح «الانفجار الكبير» على سبيل السخرية من نموذج لومتر، وقد ظل هذا المصطلح مستخدمًا منذ ذلك الحين.

استمر الجدال بشأن الانفجار الكبير في مقابل الحالة الثابتة لما يقرب من ۳٠ عامًا، حتى نهاية خمسينيات القرن العشرين، بدون التوصل إلى أي إجماع واضح. وبعد ذلك، توصلت البشرية إلى اكتشاف حاسم، ولم يكن مَن توصَّل إليه مِن علماء الفلك، بل عالمَا فيزياء ومهندسَان في نفس الوقت؛ أرنو بنزياس وروبرت دبليو ويلسون (الشكل ١-٦). ففي عام ۱۹٦٤ كان بنزياس وويلسون يعملان في «مختبرات بِل»، وهي قسم الأبحاث الأصلي لشركة «إيه تي آند تي» أو «بِل تليفون»، وهي المختبرات التي كانت مسئولةً عن تطوير تكنولوجيا التواصل لشركات «ما بِل». كان بنزياس وويلسون يعملان على تطوير أول قرون استشعار، لاستقبال الإشارات وإرسالها من خلال الموجات الميكروية، وذلك في المقام الأول لإتاحة التواصل مع مشروع وكالة الفضاء الأمريكية «إيكو» (أول محاولة لاستخدام الأقمار الصناعية من أجل التواصل العالمي)، ومع القمر الصناعي «تلستار» لاحقًا. وبصفتهما كبيرَي العلماء والمهندسين في المشروع، كانت وظيفتهما الرئيسية هي التخلص من «عيوب» الجهاز وتحسين كفاءته. وقد وجدا العديد من مصادر «الضوضاء» في قرون الاستشعار وتخلصا منها، لكنهما وجدا بعد ذلك مصدر «تشويش في الخلفية» أقوى مما كانا يتوقعان بمائة مرة. كان الجهاز يلتقط هذا التشويش ليلًا ونهارًا، وكان موزَّعًا بالتساوي عبر السماء (لم يكن التشويش آتيًا إذن من مصدر واحد على الأرض أو من الفضاء). كان من الجليِّ أنه آتٍ من خارج مجرتنا، ولم يتمكَّنا من تفسير ذلك.
fig8
شكل ١-٦: روبرت دبليو ويلسون (على اليسار) وأرنو بنزياس (على اليمين) أمام قرن استشعار الموجات الميكروية الخاص بهما، والذي الْتقط دليلًا على إشعاع الخلفية الكوني المتخلف من أثر الانفجار الكبير. (إهداء من «ويكيميديا كومنز»)

ومن حسن الطالع أنه على بُعد ۳۷ ميلًا فقط، في برينستون بولاية نيوجيرسي، كان الفيزيائيون روبيرت ديك، وجيم بيبلز، وديفيد ويلكينسون يعملون على مشكلةٍ وثيقة الصلة بهذا الأمر. ففي أربعينيات القرن العشرين، تنبَّأ جورج جامو ورالف ألفر بوجود «ضوضاء» في الخلفية متبقية من الانفجار الكبير، عندما تفجر كل شيء بدفقات ضخمة من الإشعاع. كان علماء برينستون في بداية تجاربهم للكشف عن تلك الضوضاء، عندما قال صديقٌ ما لبنزياس إنه اطَّلع على ورقةٍ علمية، لم تُطبع بعدُ، لمجموعة برينستون التي تنبَّأت بضوضاء الخلفية نفسها. تواصلت المجموعتان، وعرض بنزياس وويلسون ما اكتشفاه. ويا للمفاجأة؛ لقد اكتشف عالِما مختبرات بِل بالصدفة الدليلَ على أن الانفجار الكبير قد حدث بالفعل. فاز بنزياس وويلسون بجائزة نوبل في الفيزياء لعام ۱۹۷۸، عن هذا الاكتشاف الذي حدث بالكامل عن طريق الصدفة!

هذه القصص أمثلةٌ تقليديةٌ توضِّح كيف يمكن للبحث العلمي «الخالص» أن يؤدي إلى اكتشافات مذهلة. في بعض الأحيان يتوصل إلى الاكتشافات أشخاصٌ يبحثون عن حل لمشكلة بعينها. لكن في أغلب الأحيان، يقوم العلماء والمهندسون بإنجازات مهمة عن طريق ممارسة البحث فحسب، أي ممارسة البحث لغرض البحث في حد ذاته. لكن أفضل الإنتاج العلمي في الغالب يتحقق عن طريق جمع نطاق واسع من البيانات عن موضوع محدَّد، بدون معرفة ما يمكن أن نجده. عادةً ما يتهكَّم الساسة وغيرهم على الأبحاث التي لا يكون لها هدف محدد، ويحاولون منع التمويل عن مثل هذه المشروعات. وبالرغم من ذلك، فالبحث من أجل البحث في حد ذاته هو ما أدى إلى الاكتشافات العظيمة في العلم جميعها تقريبًا، وبدونه سينتهي العلم، وستنتهي معه الطفرات العلمية والاكتشافات التي يمكن أن تنقذ حياتنا وتنفعنا جميعًا.

منذ هذا الاكتشاف، خضع نموذج الانفجار الكبير للكثير من التعديلات؛ إذ يستخدم الفيزيائيون خصائص المادة ومعادلات الفيزياء ليعرفوا كيف حدث كل شيء. وأحدثُ الأساليب الموجودة لدينا يؤرِّخ وقت الانفجار الكبير بأنه حدث منذ نحو ۱۳٫۸ مليار سنة تقريبًا. في البداية، كان الكون عبارةً عن «متفردة»، وهي منطقة صغيرة بشكل لا نهائي، عالية الطاقة، وذات كثافة لا نهائية. وبعد مرور ۱٠ ملِّي ثوانٍ على هذه المتفردة، امتلأ الكون بجزيئاتٍ عالية الطاقة، تتمدد بسرعة كبيرة في كل الاتجاهات، في درجات حرارة تتعدى التريليون درجة كلفنية. كانت الحرارة مرتفعة للغاية حتى إنه لم يكن للمادة وجود، بل الإشعاع فحسب، ولم يكن للزمان والمكان المعنى الذي نعطيه لهما الآن، وإنما كانا مُلتوِيَين بشكل لا نهائي حول هذه المنطقة الشديدة الكثافة. وخلال الثواني القليلة التالية، انخفضت حرارة الكون بما يكفي لتكوين الجُسيمات دون الذرية، وظهرت المادة في صورة ذرَّات في غضون حوالي ۳۸٠٠٠٠ سنة. استمر التمدد خلال الاثني عشر مليار سنة التالية، وبدأت كُتَل عشوائية من المادة تندمج لتُكوِّن نجومًا ومجرات وكوازارات. واحترقت بعض هذه النجوم بالفعل وانفجرت، منتجِةً العناصر الأثقل، كالأكسجين، والسيليكون، والكربون، والحديد … إلخ، والتي تُكوِّن معظم المادة في النظام الشمسي. وعلى هذا النحو، فنحن جميعًا نُعد من غبار النجوم.

لقد علَّمَنا علمُ الفلك أن الكون هائل بدرجة نعجز عن إدراكها، وأن البشر ليسوا سوى جزء صغير منه. لقد تلقَّى غرورُنا الكوني، الذي ورثناه عبر آلاف السنين من الثقافة والأسطورة، ضربةً مميتة. ففكرة أننا في مركز الكون، وأن الكون قد خُلِق من أجلنا تحطمت بفعل الجهد الدَّءوب لاكتشاف ماهية الكون الحقيقية، وليس ما نودُّه أن يكون عليه. وقد عبَّر كارل ساجان عن هذا المعنى في برنامج «كوزموز» قائلًا:

منذ أن كان لنا نحن البشر وجودٌ في هذا الكون، ونحن نبحث عن موضعنا فيه. أين نحن؟ من نحن؟ ثم نكتشف أننا نحيا على كوكب عديم الأهمية، لنجم رتيب تائه، في مجرة تقبع بعيدًا في زاويةٍ منسيَّة من كون به من المجرات أكثر مما يوجد من البشر. وهذا المنظور للكون هو امتدادٌ شجاع لوَلَعنا ببناء نماذج ذهنية للسموات واختبارها، مثلما حدث عندما وصفنا الشمس بأنها حجر ملتهب، والنجوم بأنها شعلة سماوية، والمجرة بأنها العمود الفقري للَّيل.

قراءات إضافية

  • Bartusiak, Marcia, The Day We Found the Universe, New York: Pantheon, 2009.
  • Bembenek, Scott, The Cosmic Machine: The Science That Runs Our Universe and the Story Behind It, New York: Zoari Press, 2017.
  • Brockman, John, ed., The Universe: Leading Scientists Explore the Origin, Mysteries and Future of the Cosmos, New York: Harper Perennial, 2014.
  • Carroll, Sean, The Big Picture: On the Origins of Life, Meaning and the Universe Itself, New York: Dutton, 2016.
  • An Illustrated Guide to the Cosmos and All We Know About It, New York: Chartwell Books, 2017.
  • Hazen, Robert, The Story of Earth: The First 4.5 Billion Years from Stardust to Living Planet, New York: Penguin, 2013.
  • Krauss, Lawrence, The Greatest Story Ever Told … So Far: Why Are We Here? New York: Atria Books, 2017.
  • ______, A Universe from Nothing: Why There Is Something Rather Than Nothing, New York: Atria Books, 2012.
  • Natarajan, Priyamavada, Mapping the Heavens: The Radical Scientific Ideas that Reveal the Cosmos, New Haven, Conn.: Yale University Press, 2016.
  • Perlov, Delia and Alex Velenkin, Cosmology for the Curious, Berlin: Springer, 2017.
  • Ryden, Barbara, Introduction to Cosmology, Cambridge: Cambridge University Press, 2017.
  • Sagan, Carl, Cosmos, New York: Ballantine, 2013.
  • Saraceno, Pablo, Beyond the Stars: Our Origins and the Search for Life in the Universe, New York: World Scientific, 2012.
  • Silk, Joseph, The Big Bang, 3rd ed., New York: W. H. Freeman, 2001.
  • Singh, Simon, Big Bang: The Origin of the Universe, New York: Harper Perennial, 2005.
  • Sobel, Dava, The Glass Universe: How the Ladies of the Harvard Observatory Took the Measure of the Stars, New York: Viking, 2016.
  • Tyson, Neil deGrasse and David Goldsmith, Origins: Fourteen Billion Years of Cosmic Evolution, New York: Norton, 2004.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤