الفصل الحادي عشر

اجتياح البر

البرمائيات تزحف خارج المياه

عادةً ما أُمضي فصول الصيف بين الثلج والصقيع أشُق الصخور على المنحدرات شمال الدائرة القطبية الشمالية. وفي معظم الوقت، أتجمد وأُصاب بالبثور ولا أجد شيئًا على الإطلاق. ربما أجد عظام سمكة قديمة إن حالفني الحظ. لن يبدو هذا لمعظم الناس كنزًا مدفونًا، لكنه بالنسبة لي أثمن من الذهب. فعظام الأسماك القديمة يمكن أن تكون وسيلة نعرف بها مَن نكون، وكيفية وصولنا إلى ما وصلنا إليه. إننا نتعلم عن أجسادنا في أماكن تبدو غريبة، بدايةً من حفريات الديدان والأسماك المستخرَجة من الصخور في مختلف أنحاء العالم، وحتى الحمض النووي في كل حيوان على قيد الحياة اليوم.

نيل شوبين، «السمكة داخلك: رحلة في تاريخ الجسد البشري» (٢٠٠۸)

جثَم عالِمان في البرد القطبي القارس وهما يفحصان الأرض بإمعان بحثًا عن علامات على وجود عظام أحفورية. وعلى الرغم من أن الوقت حينها كان منتصف الظهيرة، فلم تزد درجة الحرارة خلال الجزء الأكثر دفئًا من اليوم، في هذا الجزء النائي من القطب الشمالي الكندي، عن درجة التجمد إلا قليلًا، ولم تتوقف الرياح عن الهبوب قطُّ عبر إقليم التندرا بطبيعته القاحلة. كانا يرتديان ستراتٍ قطبية برتقالية زاهية وأقنعة ونظارات تزلُّج واقية للحماية من العمى الثلجي، ولفح الرياح، وقضمة الصقيع، وعلاوةً على ذلك، كانا يحملان البنادق تحسبًا لمصادفتهم دبًّا قطبيًّا جائعًا. كان ذلك بعد اليوم الأول من فصل الصيف مباشرة، وكانت «شمس منتصف الليل» تدور في دائرةٍ منخفضةٍ في الأفق طوال اليوم ولا تغرب أبدًا. ولكي يتمكنا من النوم، كان عليهما إجبار أنفسهما على الذهاب إلى الفراش عندما تشير الساعة أن وقت الليل قد حان، وإن كان ضوء النهار لا يزال ساطعًا بالخارج.

هذان العالمان هما صديقاي نيل شوبين من جامعة شيكاجو، وتيد دايشلر من أكاديمية فيلادلفيا للعلوم الطبيعية، وقد كانا هناك لأن هذه النتوءات من الحجر الرملي الضارب إلى الحمرة كانت تَعِد باكتشاف محتمَل مهم. كانا يبحثان عن حفريةٍ وسيطةٍ في العمر بين أقدم حفرية وُجِدت للبرمائيات، لكنها أقل تطورًا من أحدث الحفريات البرمائية المعروفة. كانا يعلمان أن الاكتشافاتِ السابقةَ للحفريات التي تنتمي إلى تلك الفترة الزمنية، قد عُثِر عليها في صخورٍ من العصر الديفوني الأعلى. ولهذا بحثا في الخرائط الجيولوجية عن الصخور التي تغطي فترة زمنية معينة (قبل فترةٍ تتراوح من ٣٦٥ إلى ٣٨٥ مليون سنة) خلال العصر الديفوني المتأخر. كان قد عُثِر سابقًا بالفعل على حفرياتٍ جيدةٍ لأسماك شبيهة بالبرمائيات بدائية جدًّا ترجع إلى ۳۸٥ مليون عام، كما عُثِر على حفريات لبرمائيات أكثر تقدمًا يرجع تاريخها إلى ۳٦٥ مليون عام. وبعد تفتيش الخرائط الجيولوجية للعالم، لم يجدا سوى ثلاث مناطق تتسم بالعمر المناسب، والبيئة الرسوبية المناسبة (الحجر الرملي البحري الضحل، والطَّفْل الصفحي المتكون في أنهار أو دلتا). ثمة اثنتان من هذه المناطق كانتا قد خضعتا للاستكشاف بالفعل؛ إحداهما في ولاية بنسلفانيا، حيث عثروا على بعض الأسماك المتقدمة للغاية، والثانية في سبيتسبيرجن وجرينلاند في القطب الشمالي، والتي أنتجت البرمائيات المعروفة أكانثوستيجا وإكثيوستيجا. أما المنطقة الثالثة، فتقع في القطب الشمالي الكندي، ولم تُدرَس المنطقة الثالثة قط، ويرجع تاريخها إلى ما بين ۳۸٥ و۳٦٥ مليون سنة.

fig45
شكل ١١-١: نيل شوبين وتيد دايشلر وطاقمهما يجمعون الصخور الديفونية في القطب الشمالي الكندي. (أ) تطلبت هذه المهمة حصولهما على خيام قطبية يمكنها تحمُّل الرياح العاصفة والعواصف الثلجية، بالإضافة إلى الكثير من المعدات غير المطلوبة عادةً خارج المناطق القطبية. (ب) محجر تيكتاليك بعد موسمٍ من التنقيب. (إهداء من نيل شوبين)
قام شوبين ودايشلر بجمع منحةٍ ماليةٍ للقيام بزيارةٍ سريعةٍ إلى المنطقة في عام ۱۹۹۹، ووجدا بعض بقايا عظام مُبشِّرة. ثم اضطُرا إلى جمع ملايين الدولارات للقيام برحلةٍ استكشافيةٍ واسعة النطاق في القطب الشمالي، وهو ما قاما به لعدة فصول صيف متتالية (الشكل ١١-١(أ)؛ الشكل ١١-١(ب)). وقد وصف شوبين ذلك في كتابه «السمكة داخلك»، كما يلي:

رأيت إحدى أسماكنا الداخلية للمرة الأولى في ظهيرةٍ ثلجيةٍ من شهر يوليو، بينما كنت أدرس صخورًا عمرها ۳۷٥ مليون عام في جزيرة إليسمير على خط عرض حوالي ۸٠ درجة شمالًا. لقد سافرت أنا وزملائي إلى هذا الجزء الموحِش من العالم لمحاولة اكتشاف إحدى المراحل الرئيسية في التحول من الأسماك إلى الحيوانات التي تعيش على اليابسة. برز لنا من بين الصخور خطم سمكة. وهي ليست أي سمكة، بل سمكة برأس مسطح. وحالما رأينا الرأس المسطح، علمنا أننا سنكتشف شيئًا مهمًّا. إذا عثرنا على المزيد من هذا الهيكل العظمي داخل الجرف، فسيكشف لنا عن المراحل المبكرة في تاريخ جمجمتنا، وعنقنا، وأطرافنا. (۸-۹)

وبعد ثلاثة أعوام من العمل الشاق والمكلف والخطير من التعامل مع الطقس القاسي والدببة القطبية المُغِيرة، عثرا على حفريات تيكتاليك، وهي حفرية انتقالية مهمة بين الأسماك والبرمائيات (الشكل ١١-٢(أ)؛ الشكل ١١-٢(ب)). تيكتاليك هي الكلمة التي يطلقها شعب الإنويت على سمكة المياه العذبة المحلية، التي يصطادها سكان المنطقة. كما قال تيد دايشلر الذي شارك في الاكتشاف: «كان ما وجدناه بمثابة مساومةٍ جيدةٍ للغاية.» وكتبت خبيرة الأسماك والبرمائيات جيني كلاك عن اكتشافهما: «إنه أحد تلك الاكتشافات التي يمكنك أن تشير إليها وتقول: «لقد أخبرتك أنه موجود»، وها نحن قد وجدناه.»
fig46
شكل ١١-٢: (أ) الهيكل العظمي لتيكتاليك؛ (ب) إعادة بناء بالحجم الطبيعي لتيكتاليك. (إهداء من نيل شوبين)
كانت زعانف تيكتاليك الفصية تحتوي على جميع العناصر السالفة للطرَف البرمائي، لكنها كانت لا تزال تمتلك زعانف شعاعية بدلًا من أصابع القدم (الشكل ١١-٣). كان لتيكتاليك قشور كالأسماك، ومزيج من خياشيم (كما يتضح من عظام القوس الخيشومي)، ورئتان (كما يتضح من الفتحات التنفسية في رأسه)، إضافةً إلى فك سفلي وحَنَك كالأسماك. وعلى عكس أي سمكة، كان لتيكتاليك سمات برمائية أيضًا؛ جمجمة قصيرة مسطحة ذات رقبة متحركة، وثلمات لطبلة الأذن على الحافة الخلفية للجمجمة، وأضلاع وأطراف قوية، وعظام في الكتف والورك. وبالرغم من ذلك، فعلى غرار أكانثوستيجا، لم تكن زعانف تيكتاليك تتمتع من القوة والمرونة بما يكفي للسماح لها بالزحف على الأرض، بل كانت الزعانف تُستخدم على الأرجح للتجديف في المياه الضحلة والضغط لأعلى لرؤية ما فوق السطح. ومثل الحفريات الانتقالية الأخرى للأسماك والبرمائيات (والعديد من البرمائيات الحديثة، خاصة النيوط والسلمندر)، قضت تيكتاليك معظم وقتها في الماء على الأرجح، مستخدمة أطرافها للدفع والتجديف. كان بإمكانها أن تصطاد على أطراف الجداول التي تعيش فيها، لكنها لم تكن قادرة على جر نفسها عبر الأرض بعيدًا جدًّا، أو المشي بدون أن يلمس بطنها الأرض.
fig47
شكل ١١-٣: تحوُّل الزعنفة الصدرية لدى لحميات الزعانف إلى اليد والطرف الأمامي لرباعيات الأرجل البدائية. كل عظمة من عظام الزعنفة الفصية تناظر أحد عظام الأطراف في رباعيات الأرجل. وتتمثل الاختلافات الرئيسية في التعديلات في الشكل، وفي المتانة، وفي الاستعاضة عن الزعانف الشعاعية بالأصابع. (من نيل إتش شوبين، وإدوارد بي دايشلر، وفاريش إيه جنكينز جونيور، «الزعنفة الصدرية للتيكتاليك وأصول أطراف رباعيات الأرجل»، مجلة «نيتشر» ٤٤٠ [٢٠٠٦]: شكل ٤، مستخدَم بتصريح من «نيتشر بابليشينج جروب»)

بعد هذا الاكتشاف المذهل، عاد شوبين ودايشلر وطاقمهما إلى القطب الشمالي عدة مرات أخرى، ووجدوا العديد من عينات تيكتاليك مع عددٍ من الأسماك والحيوانات الأخرى، التي عاشت في دلتا هذا النهر القديمة قبل حوالي ۳۷٥ مليون سنة. يُظهِر اكتشاف تيكتاليك القدرة التنبُّئيَّة للجيولوجيا والتطور. فقد كان شوبين وزملاؤه يعرفون بالفعل الفترة الزمنية التي يجب عليهم البحث فيها (قبل ۳۷٥ مليون سنة)، وذلك استنادًا إلى عمر الحفريات التي اكتُشِفت بالفعل من الحفريات الانتقالية الشبيهة بالأسماك الأكثر تقدمًا، وأكثر البرمائيات بدائية. لقد استعانوا بالخرائط الجيولوجية للعثور على صخور من العمر والنوع المناسبين، واستبعدوا تلك المناطق التي استُكشِفت بالفعل، وحددوا مواقع تسلسلات الصخور المكشوفة في القطب الشمالي الكندي؛ حيث اكتُشِفت الحفريات المهمة، مما قدَّم لنا «الحلقة المفقودة» في السلسلة التطورية.

ولم تكن مغامرة نيل وتيد الرائعة سوى أحدث اكتشاف في تاريخ طويل من البحث عن الحفريات التي ربطت الأسماك بالفقاريات البرية. فحتى علماء الطبيعة الأوائل لاحظوا أن الأسماك الرئوية تحمل أوجُه تشابهٍ مع البرمائيات، لكنها كانت لا تزال أسماكًا تمتلك زعانف. لم تكن «زعانفها الفصية» تتكون من صفائح زعنفية طويلة شبيهة بالعصا مماثلة لتلك الموجودة في معظم الأسماك الحية. بدلًا من ذلك، كانت الزعانف الفصية مكوَّنة من سلسلة من العظام التي تتطابق إلى حد كبير مع عظام الذراع والساق لدى الفقاريات. في الواقع، عندما اكتُشِفتْ أول سمكة رئوية في أمريكا الجنوبية عام ۱۸۳۷ ووُصِفتْ، وردَ أنها كانت تحمل زعانف شبيهة الأنشوطة عديمة الفائدة تجرُّها وراءها وهي تسبح مثل الأنكَلَيْس. اعتقد بعض علماء الطبيعة أنها كانت برمائيات منتكسة لأنها كانت تمتلك رئتين. ولكن عندما اكتشف العلماء سمكة الرئة الأفريقية ووصفوها، كانت زعانفها الفصية لها نفس عظام البرمائيات البرية. وفي نهاية المطاف، عثر العلماء على حفريات لأسماك رئوية تمتلك هذا النوع من الزعانف العظمية المتينة، وليس الزعانف المعدَّلة بشكل غريب التي تتمتع بها الأسماك الرئوية من أمريكا الجنوبية.

وشيئًا فشيئًا، اكتُشِف المزيد والمزيد من الحفريات التي سَدَّت الفجوة بين الأسماك والبرمائيات، والتي كانت كبيرة فيما سبق. في عام ۱۸۸٢، نشر جوزيف بي وايتيفز وصفًا مكوَّنًا من فقرتين لقوية الزعانف «يوسثينوبتيرون»، لم يذكر فيه تقريبًا أيًّا من سماتها الشبيهة بالبرمائيات ولم يُلحِق بهذا الوصف رسومًا توضيحية. كانت سمكة كبيرة (يصل طولها إلى ۱٫۸ متر [٦٫٥ أقدام]) فصِّية الزعانف تشبه البرمائيات أكثر مما تشبهها أي سمكة رئوية حية أو شوكيات الجوف. تُعرَف هذه السمكة الآن ضمن العديد من العينات الرائعة من منطقة أحفورية شهيرة تُسمَّى ميجواشا على خليج سكاوميناك في كيبيك. كانت لديها كل العظام الصحيحة التي يمكن من خلالها بناء ذراع البرمائيات وساقها، ولديها جميع العظام الصحيحة في الجمجمة لأن تكون سلفًا للبرمائيات.

في أوائل القرن العشرين، اكتشف العلماء المزيد من حفريات الأسماك ذات الزعانف الفصية التي تعود إلى العصر الديفوني المتأخر، وتبع ذلك اكتشافُ الكثير من الحفريات البرمائية من العصر الفحمي المبكر، لكن تلك الفترة لم تكن قد شهدت بعدُ العثورَ على حفريات تُمثِّل انتقال البرمائيات إلى أسماك. وفي عام ۱۹٢٠، أدَّت قوًى سياسية غير ذات صلة إلى اكتشاف حفريات رئيسية بالصدفة. فخلال عشرينيات القرن الماضي، كانت الدنمارك والنرويج تتنازعان على ملكية شرق جرينلاند، التي زارها أسلافهم من الفايكنج قبل أكثر من ألف عام. غير أنَّ أيًّا من البلدين لم يكن قد استكشف المنطقة بدرجة كبيرة؛ ومن ثَم كان من الضروري إجراء بعض الأبحاث بشأن المنطقة لإثبات مطالبهما. ونتيجةً لذلك، رتَّب الدنماركيون رحلة استكشافية لمدة ثلاث سنوات في فصول صيف أعوام ۱۹۳۱ إلى ۱۹۳۳، بتمويل من مصنع كارلسبيرج للجِعَة والحكومة الدنماركية. قاد المستكشف والجيولوجي الدنماركي الشهير لاوج كوخ هذه الرحلة، التي ضمَّت العديد من العلماء السويديين والدنماركيين البارزين في مجالات مختلفة، كعلم النبات وعلم الحيوان والجيولوجيا والجغرافيا وعلم الآثار، إضافةً إلى عالم الحفريات السويدي جونار سافي-سودربيرج، الذي لم يكن يبلغ من العمر سوى ٢۱ عامًا فقط عندما انضم إلى البعثة. وجد سافي-سودربيرج حفريات للعديد من الكائنات الرائعة، مثل إكثيوستيجا وأكانثوستيجا والعديد من الأسماك الرئوية وأوستيوليبيس، وهي سمكة فصية الزعانف شبيهة إلى حد كبير بقويَّات الزعانف. وخلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، كتب سافي-سودربيرج أوصافًا قصيرة لحفرياته، وقام بتسميتها، لكنه تُوفي في عام ۱۹٤۸ عن عمر ۳۸ عامًا بمرض السُّل قبل أن يُكمِل التحليل المُفصَّل لعيناته. وفي نهاية المطاف، درس عيناتِه عالمُ الحفريات السويدي إريك جارفيك الذي كان مرافقًا لسافي-سودربيرج في بعض الرحلات الاستكشافية اللاحقة. أجرى جارفيك، المعروف بدقته الشديدة رغم بطئه، تحليلاتٍ تفصيليةً للحفريات، لكنه استغرق ٥٠ عامًا قبل أن ينشر وصفه لجميع حفريات إكثيوستيجا في عام ۱۹۹٦، حين كان يبلغ من العمر ۸۹ عامًا!

على مدار سنوات عديدة، ظل الرسم المنفرد الذي أعده سافي-سودربيرج لإكثيوستيجا هو الوصف الوحيد للحفرية الوحيدة الانتقالية بين الأسماك والبرمائيات الذي كان منشورًا ومتاحًا للمقارنة، إلى أن نشر جارفيك التفاصيل أخيرًا. كانت حفرية انتقالية رائعة تتمتع بمزيج مثير للاهتمام من صفات الأسماك وصفات البرمائيات (الشكل ١١-٤). فعلى غرار الأسماك، كان لا يزال لديها زعنفة ذيلية كبيرة للدفع تحت الماء، وشقوق خيشومية كبيرة على جانب الرأس، ولديها شبكة القنوات المغلقة على الوجه المسماة بجهاز الخط الجانبي، والذي تستخدمه معظم الأسماك لاستشعار التغيرات في التيارات المائية حولها. وعلى الرغم من ذلك، من الواضح أنها كانت تمتلك أذرعًا وأرجلًا متطورة بأصابع تقوى على دفعها عبر سطح صلب، شأنها شأن البرمائيات. (أظهرت الأبحاث اللاحقة أن الأطراف الأمامية لم تكن قوية بما يكفي للقيام بالكثير من المشي؛ ومن ثَم كانت تتحرَّك بقفزات قصيرة بينما تسحب أطرافها الخلفية الشبيهة بالزعنفة.) مثل النيوط والسلمندر الحديثَين، كانت أطرافها تُستخدم في الغالب لدفع العوائق في الماء، وليس لرفع أجسادها فوق الأرض في المشي السريع. كانت ضلوع إكثيوستيجا تحتوي على حواف قوية تدعم تجويفها الصدري؛ لتمكِّنها من التنفس وهي خارج الماء، لكنها منعتها من التنفس عن طريق دفع الأضلاع، وهي الوسيلة التي يتنفَّس بها العديد من البرمائيات. كان لديها أيضًا خَطْم مسطح طويل، وعينان تتجهان إلى الأعلى، وجمجمة قصيرة، على عكس الجمجمة الأسطوانية العميقة لقويَّات الزعانف والعديد من الأسماك الأخرى ذات الزعانف الفصية التي كان لها خَطْم قصير، وجمجمة كبيرة، وعينان موجَّهتان جانبيًّا.
fig48
شكل ١١-٤: رسم تخطيطي للهيكل العظمي لأكانثوستيجا: (أعلى) وإكثيوستيجا: (أسفل)، يوضح مزيجًا من الصفات الشبيهة بالأسماك (الزعانف الذيلية وجهاز الخط الجانبي والشقوق الخيشومية)، وخصائص رباعيات الأرجل (الأطراف القوية وعظام الكتف والورك، وصِغَر حجم الجزء الخلفي من الجمجمة، واتساع الخطم). (رسم مايكل كوتس)

وفي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، انتقل البحث عن الحفريات الانتقالية بين الأسماك والبرمائيات من السويد إلى جامعة كامبريدج، مع جيني كلاك وبير ألبيرج ومايكل كوتس وطلابهم. لقد أدركوا أن جرينلاند تحتوي، ولا بد، على حفرياتٍ أكثر بكثير من ذلك العدد المحدود الذي جمعه الدنماركيون في عشرينيات القرن الماضي. وكما كتبت كلاك في عام ٢٠٠٢:

في عام ۱۹۸٥، بدأتُ أفكر في إمكانية القيام برحلة استكشافية إلى شرق جرينلاند، بتشجيعٍ من زوجي روب. وفي أثناء ذلك، قابلت بيتر فريند من قسم علوم الأرض على الجهة الأخرى مني في كامبريدج، والذي قاد عدة بعثات استكشافية إلى جزء من جرينلاند كان مثار اهتمامي. اتضح أنه كان لديه طالب يُدعى جون نيكلسون، كان قد جمع بعض الحفريات بصفتها جزءًا من أطروحته عن رواسب العصر الديفوني الأعلى، في شرق جرينلاند بين عامَي ۱۹٦۸ و۱۹۷٠. جلب بيتر هذه العينات من درج في الطابق السفلي، وأراني أيضًا دفتر الملاحظات الذي كان جون يدوِّن فيه، في أثناء البعثة الاستكشافية من عام ۱۹۷٠. وقد كتب جون في هذا الدفتر أنه في ستينسيو بيْيرج على ارتفاع ۸٠٠ متر، كانت عظام جمجمة إكثيوستيجا شائعةً ومدهشةً ومُبشِّرة. وكانت الحفريات التي جمعها جون تكوِّن معًا عند تركيبها كتلة صغيرة واحدة من ثلاث جماجم جزئية، وأجزاء من حزام كتف، لكنها لم تكن لنوع إكثيوستيجا، بل لنوعها المعاصر الأقل شهرة في ذلك الوقت، أكانثوستيجا. اقترح بيتر أن أتواصل مع سفيند بينديكس-ألمجرين، أمين الحفريات الفقارية في المتحف الجيولوجي في كوبنهاجن. كان الدنماركيون لا يزالون يشرفون على رحلات استكشافية يقوم بها جيولوجيون إلى الحديقة الوطنية في شرق جرينلاند، حيث توجد المواقع الديفونية؛ ومن ثَم فهو الشخص الذي كان ينبغي أن أبدأ به في محاولاتي للقيام برحلةٍ استكشافيةٍ هناك. اقترح بيتر أيضًا أن أتواصل مع نيلز هينريكسون من هيئة المسح الجيولوجي في جرينلاند. وبمحض الصدفة والحظ السعيد، كان لدى هيئة المسح الجيولوجي في جرينلاند مشروع في نفس المكان الذي كنت بحاجة للذهاب إليه، وكان موسمهم الأخير هناك هو صيف عام ۱۹۸۷. بأموال من متحف جامعة كامبريدج لعلم الحيوان، وصندوق هانز جادو، ومؤسسة كارلسبرج في كوبنهاجن؛ رتبتُ أنا وزوجي روب، وتلميذي — في ذلك الوقت — بير ألبرج، وسفيند بينديكس-ألمجرين وتلميذه بيرجر جورجينسون، رحلةً ميدانية لمدة ستة أسابيع تحت رعاية هيئة المسح الجيولوجي في جرينلاند، لشهرَيْ يوليو وأغسطس من عام ۱۹۸۷. وباستخدام الملاحظات الميدانية لجون نيكلسون، حدَّدنا في النهاية المنطقة التي أتَت منها عينات أكانثوستيجا؛ ومن ثَم الموضع الدقيق الذي وُجدت فيه. كان في الواقع «مَقْلعًا» صغيرًا للغاية لحفريات أكانثوستيجا، لكنه غني جدًّا.

عثرت مجموعة كلاك على العديد من الحفريات نفسها التي وجدها سافي-سودربيرج، لكنهم عثروا أيضًا على عينات أفضل بكثير لحفرية غير معروفة أطلق عليها جارفيك في عام ۱۹٥٢ اسم أكانثوستيجا (انظر الشكل ١١-٤). كانت أكانثوستيجا أشبه بالسمك من إكثيوستيجا، وكانت أطرافها أكثر شبهًا بأطراف الأسماك، مما يشير إلى أنه لم يكن من الممكن أن تكون قد زحفت على الأرض، إضافةً إلى افتقارها إلى أَرسُغ أو مرافق أو رُكَب. ورغم أنها كانت لا تزال تمتلك ذراعَين ورجلَين وليس زعانف، فقد كانت تستخدمها لسحب نفسها عبر الماء، ولم تستطع هذه الأذرع والأرجل دفعها عبر الأرض كثيرًا. تمثلت الصدمة الأكبر في اليدَين والقدمَين الأكثر اكتمالًا، وهو ما لم نكن نفهمه جيدًا في إكثيوستيجا. كان لديها ما يصل إلى سبع أصابع أو ثمانٍ في اليدين، وليس الأصابع الخمس التي تمتلكها معظم الفقاريات، لكنها لم تكن تمتلك سوى أربع أصابع في القدم. كانت تشبه الأسماك أيضًا من حيث امتلاكها زعنفة ذيلية كبيرة جدًّا، وأضلاعًا قصيرة تمنعها من التنفس على البر. وبالرغم من ذلك، كانت لا تزال كالعديد من البرمائيات، من حيث امتلاك آذان تسمع في الماء وعلى اليابسة، وعظام قوية في الوركَين والكتفَين، ومفصل في الرقبة يسمح لها بإمالة رأسها جانبًا بسرعة والانقضاض على الفريسة، وهو ما لم يكن له مثيل في أي سمكة.
fig49
شكل ١١-٥: تطور السلالات للسلسلة الانتقالية من «الأسماك الرئوية الرباعية الأطراف» عبر رباعيات الأطراف البدائية. (رسم كارل بويل)
توالت الاكتشافات، واليوم صارت شجرة عائلة تحوُّل الأسماك إلى البرمائيات مكتملةً على نحو رائع (الشكل ١١-٥). فصعودًا من لحميات الزعانف، مثل الأسماك الرئوية وشوكيات الجوف، لدينا قويَّات الزعانف الشبيهة للغاية بالأسماك اللحمية الزعانف، وحفريات أكثر تقدمًا قليلًا تُسمَّى سمكة باندر (بانديريكثس) وإلجينيربتون وفينتاستيجا وميتاكسيناثوس. ونأتي بعد ذلك إلى تيكتاليك التي تشبه البرمائيات قليلًا، ولكنها لا تزال لا تمتلك يدَين ولا قدمَين مثل أكانثوستيجا. وأخيرًا نصل إلى أكثر الحفريات شبهًا بالبرمائيات؛ إكثيوستيجا. وبدايةً منها، لدينا حفرية يصنِّفها الجميع على أنها برمائيات. لا يمكن للمرء أن يطلب تسلسلًا انتقاليًّا بين مجموعتين رئيسيتين من الحيوانات أكثر اكتمالًا من هذا، وإن كنا نعرف الآن العديد من مثل هذه التسلسلات الانتقالية.
fig50
شكل ١١-٦: طوَّر العديدُ من الأسماك ذات الزعانف الشعاعية القدرة على الحياة على البر والزحف عليه، أو قامَ بتعديل زعانفه الشعاعية إلى زوائد للمشي لاستخدامها في الزحف في قاع البحر. (أ) يتلوى سمك قرموط الكلاريس على الأرض بين البِرَك المائية عندما يجف موئله، أو يصبح شديد الازدحام. (ب) تقضي أسماك نطاط الطين معظم حياتها خارج الماء قابعةً على السهول الطينية أو جذور المانجروف. (ﺟ) عدَّلت سمكة الضفدع زعانفها الشعاعية إلى «أصابع» تمكِّنها من الزحف في القاع. ([أ] ألفريد شيروود رومر، «قصة الفقاريات» [شيكاجو: شيكاجو يونيفرستي برس، ۱۹٥۹]؛ [ب] إهداء من «ويكيميديا كومنز»؛ [ﺟ] جينيفر إيه كلاك، «اكتساب الأرض: أصل رباعيات الأرجل وتطورها المبكر» [بلومنجتون: إنديانا يونيفرستي برس، ٢٠٠٢]، شكل ٤-۱٥، مستخدَم بتصريح.)
إن السجل الأحفوري صار يوضح الآن الزمن الذي زحفت فيه البرمائيات خارجةً لأول مرة إلى اليابسة، والمكان الذي قامت فيه بذلك، إضافةً إلى الكيفية. لكن لماذا فعلت ذلك؟ ما الذي دفع الأسماك إلى القيام بهذا الانتقال الصعب إلى اليابسة، حيث احتاجت إلى أعضاء حسية جديدة، وطُرق جديدة للتنفس (الرئتين بدلًا من الخياشيم)، وأطراف وأقفاص صدرية أقوى، وكذلك عظام أقوى للكتف والورك مندمجة في العمود الفقري لدعم وزنها للخروج من الماء؟ ظل العلماء يناقشون هذه المسألة على مدار عقود باعتبارها معجزة غير قابلة للتصديق. غير أنَّنا نستطيع بالفعل رؤية العديد من الحيوانات التي قامت بهذا الانتقال جزئيًّا فيما حولنا. فالأسماك ذات الزعانف الشعاعية (۹۹ بالمائة من الأسماك الحية، بما في ذلك معظم الأسماك التي تأكلها، أو تلك الموجودة في حوض السمك الخاص بك) قامت بذلك عدة مرات بشكل مستقل في العديد من المجموعات المختلفة. فيمكن لقرموط الكلاريس على سبيل المثال (الشكل ١١-٦(أ)) أن يتلوى على الأرض، منتقلًا من حوضٍ مائيٍّ إلى آخر عندما يبدأ موئله بالجفاف، أو عندما تفسد المياه، أو للعثور على حوض مائي جديد به موارد غذائية جديدة، عندما يصبح الحوض القديم شديد الزحام. وتتلوَّى أسماك نطاط الطين وتزحف عبر الأراضي الجافة للعثور على أحواض أفضل، ويمكنها حتى الزحف أعلى الأشجار، ومن هنا جاء اسمها. تعيش أسماك نطاط الطين (الشكل ١١-٦(ب)) بشكلٍ دائمٍ على حدود اليابسة والمياه. ترعى على الطحالب وتثبِّت نفسها في مستنقعات المانجروف والمسطحات الطينية بواسطة زعانفها الشعاعية، وتستخدم أعينها المترصِّدة للرؤية خارج الماء عندما تكون مغمورةً بالمياه. يمكنها الفرار إلى المياه حين تُهدِّدها الحيوانات المفترسة في اليابسة، وأن تفرَّ إلى اليابسة عندما تظهر الحيوانات المفترسة في المياه. ويوجد العديد من أسماك أحواض المد والجزر، مثل أسماك الفصيلة القوبيونية والإسقلبينينات، التي تقضي جزءًا كبيرًا من أوقات الجَزر في الزحف على الصخور بزعانفها الشبيهة باليدَين، لتفترس الحيوانات التي احتجزها الجَزر. وتتلوى الشيقات المرقَّطة خارجةً من الماء خلال الجَزر لتفترس السرطانات التي تبحث عن طعام أصغر تتناوله. وقام العديد من الأسماك الأخرى بتعديل الزعانف الشعاعية من زعانفها الأمامية إلى «أصابع» غير متقَنة، لكنها تمكِّنها من الزحف على الأسطح (الشكل ١١-٦(ﺟ)).

كل هذه أسماك من شعاعيات الزعانف لا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأسماك الرئوية، أو شوكيات الجوف، أو لحميات الزعانف الأخرى التي أدت إلى ظهور البرمائيات. كل هذه أمثلة على أسماك ذات أنماط حياة شبه برية تطورت بشكل مستقل، وبوسائل مختلفة، وفي مجموعات مختلفة، من الواضح أن هناك ضغوطًا قوية على الأسماك لاستغلال اليابسة (وإن كان ذلك لفترات قصيرة من الوقت على الأقل) للعثور على طعام جديد أو للهروب من الحيوانات المفترسة أو ازدحام المياه. من الواضح أيضًا أن القيام بذلك ليس بالأمر الصعب؛ إذ تطورت بالفعل مجموعاتٌ من الأسماك غير المرتبط بعضها ببعض إطلاقًا، وكان ذلك عدة مرات، وبدرجات مختلفة. وعلى عكس الصعوبات التي كان يتصورها العلماء قبل بضعة عقود فقط، يبدو الآن أنها مهمةٌ عادية؛ إذ نفَّذها الكثيرُ من مجموعات الأسماك دون أن يكون بينها صلةُ قرابة، وفعلت ذلك مراتٍ كثيرة. وكما كتب شوبين في «السمكة داخلك»:

ما الذي دفع بالأسماك لتخرج من المياه أو لأنْ تعيش على الحواف؟ تخيل ما يلي: جميع الأسماك تقريبًا التي تسبح في هذه الجداول التي يبلغ عمرها ۳۷٥ مليون عام كانت مفترسةً من نوع ما. بعضها كان يصل طوله إلى ست عشرة قدمًا، أي ضِعْف حجم أكبر تيكتاليك تقريبًا. أكثر أنواع الأسماك شيوعًا التي نجدها إلى جانب تيكتاليك يبلغ طوله سبع أقدام، وله رأس في عرض كرة السلة. والأسنان هي أشواك بحجم مسامير السكك الحديدية. فهل كنت سترغب في السباحة في هذه الجداول القديمة؟ (٤۱)

أخيرًا، أظهرَت دراسةٌ حديثة أجراها مجموعة من العلماء بقيادة إميلي ستاندين، مدى سهولة أن تُعدَّل الأسماك لتناسب نمطًا ما على الأقل من الحياة على اليابسة. فسمكة بشير الموجودة في أفريقيا (جنس كثيرات الزعانف)، والتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بسمك الحفش وسمك المجداف، هي سمكةٌ بدائيةٌ للغاية ذات زعانف شعاعية تجتمع في بعض أوجه التشابه مع أقدم حفريات لحميات الزعانف. في هذه الدراسة، نشأت هذه البشيرات على اليابسة بدلًا من المياه (فهي تستطيع تنفس الهواء جيدًا بالفعل). وفي غضون أجيال قليلة فقط من التكاثر، أصبحت زعانفها أكثر قوة وأفضل للزحف على الأرض من زعانف أسلافها. من الواضح أنه يسهل تحفيز الجينات الخاصة بتعديل الزعانف إلى شيء آخر. والعديدُ من الأسماك الشعاعية الزعانف التي تعيش على اليابسة التي ناقشناها، قد استخدم هذه الآلية.

إذا قال أي شخص إنه لا يستطيع تخيل الأسماك وهي تزحف خارجةً إلى اليابسة وتتحول إلى برمائيات، يمكنك إخباره أنه لا يحتاج إلا إلى إلقاء نظرةٍ على سجل الحفريات، وعلى سلوك العديد من الأسماك الحية الشعاعية الزعانف للتوصُّل إلى الإجابة.

قراءات إضافية

  • Clack, Jennifer A., Gaining Ground: The Origin and Early Evolution of Tetrapods, Bloomington: Indiana University Press, 2002.
  • Daeschler, Edward B., Neil H. Shubin, and Farish A. Jenkins Jr., “A Devonian Tetrapod-Like Fish and the Evolution of the Tetrapod Body Plan,” Nature 440 (2006): 757–763.
  • Long, John A., The Rise of Fishes, Baltimore, Md.: Johns Hopkins University Press, 1995.
  • Maisey, John G., Discovering Fossil Fishes, New York: Henry Holt, 1996.
  • Shubin, Neil, Your Inner Fish: A Journey Into the 3.5-Billion-Year History of the Human Body, New York: Pantheon Books, 2008.
  • Shubin, Neil H., Edward B. Daeschler, and Farish A. Jenkins Jr., “The Pectoral Fin of Tiktaalik roseae and the Origins of the Tetrapod Limb,” Nature 440 (2006): 764–771.
  • Zimmer, Carl, At the Water’s Edge: Macroevolution and the Transformation of Life, New York: Free Press, 1998.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤