الفصل الثالث عشر

طيور لها أسنان

الديناصورات التي تعيش بيننا

إذا كان من الممكن أن تصبح مؤخرة فرخ دجاج لم يكتمل فقسه بعدُ متضخمةً فجأة — من الحَرْقَفة إلى أصابع القدم — ثم تتصلَّب وتتحفر، فإنها ستكون مثالًا على الخطوة الأخيرة للانتقال بين الطيور والزواحف؛ لأنه لن يكون هناك شيء من صفاتها يمنعنا من إلحاقها بالديناصورات.

توماس هنري هكسلي، «مزيد من الأدلة على الصلة بين الزواحف الديناصورية والطيور» (۱۸۷٠)

في عام ۱۸۹٢، ضرب جفاف شديد غرب الولايات المتحدة. وحدثت أيضًا مشكلات في توزيع المياه، وكان المستوطنون يحثون الكونجرس على التدخل. كانوا حانقين خصوصًا على هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية. والسبب في ذلك أنَّ جون ويسلي باول، المحارب المخضرم في الحرب الأهلية، والذي اشتهر بقيادة أول رحلة استكشافية لنهر كولورادو عبر جراند كانيون في عام ۱۸٦۹، تولى رئاسة هذه الهيئة منذ عام ۱۸۸۱. في عام ۱۸۷۸، أصدر باول «تقريرًا عن أراضي المناطق القاحلة بالولايات المتحدة»، حذَّر فيه من أن المياه ستُمثِّل مشكلة على الدوام في الغرب القاحل، وأن المنطقة ليس لديها ما يكفي من المياه للزراعة والاستيطان على نطاق واسع. وفي مؤتمر عام ۱۸۸۳ عن حقوق المياه، حذَّر باول على نحوٍ تنبُّئِي: «إنكم، أيها السادة، تشيِّدون تراثًا من الصراع والدعاوى القضائية بشأن حقوق المياه؛ لأنه لا توجد مياه كافية لإمداد الأرض.» غير أنَّ شركات السكك الحديدية القوية كانت تحقق أرباحًا طائلة من بيع أراضيها الزائدة للمستوطنين (كانت هذه الشركات قد مُنِحت أكثر من ۱۸۳ مليون فدان، عندما قامت ببناء أول خط سكة حديد عابر للقارات). وأرادت هذه الشركات الاستمرار في تشجيع الاستيطان، فقدموا الرِّشا لأعضاء الكونجرس لتعزيز مصالحهم. واستجاب الكونجرس لضغوط الجفاف بإلقاء اللوم على حامل الرسالة بدلًا من الاستماع إلى تحذيراته، والتي ثبتت صحتها خلال سنوات قصعة الغبار في ثلاثينيات القرن الماضي.

فحَص محققو الكونجرس كل جزء من أجزاء هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية بدقة شديدة، لا سيما فيما يتعلق بإنفاقها للأموال، محاولين العثور على دليل على الفساد أو الإهدار (وهو ما كان شائعًا في العديد من المنظمات السياسية والحكومية آنذاك). كان من بين ما اكتشفوه أن البروفيسور أوثنيْل تشارلز مارش من جامعة ييل، الذي كان يشغل أيضًا منصب كبير علماء الحفريات في هذه الهيئة، قد نشر أُفرودة بارزة ضخمة في عام ۱۸۸٠، عن بعض الهياكل العظمية الكاملة الرائعة لحفريات طيورٍ من الطبقات الطباشيرية البحرية في غرب كانساس. كان من بين هذه الهياكل طائران من العصر الكريتاسي القديم، وهما طائر الغرب الشبيه بطائر الغوَّاص (شكل ١٣-١(أ)) وطائر الإكْثُور المشابه للخرشناوات (شكل ١٣-١(ب))، واللذان يشبهان نظراءهما الأحياء — باستثناء أنهما امتلكا أسنانًا. أطلق مارش على مجموعة من هذه الطيور الأسلاف ذات الأسنان اسم أودونتورنيثيس («الطيور المسننة» في اليونانية). عَلم هيلاري هربرت، عضو الكونجرس الأصولي في ولاية ألاباما، بهذا النبأ واستشاط غيظًا. فبالنسبة له، كانت فكرة أن تقوم هيئة المسح بنشر كتب عن مستحيلات توراتية كتلك الطيور ذات الأسنان، تثير حنقه أكثر من الفساد الاعتيادي وإساءة استخدام أموال الضرائب. وفي قاعة الكونجرس، انفجر قائلًا: «طيور لها أسنان! هذا مآل أموالكم التي كسبتموها بشق الأنفس أيها الناس؛ إلى طيور سخيفة يقول بها بروفيسور؛ طيور سخيفة ولها أسنان.» بعد ذلك بوقت قصير، خفَّض الكونجرس ميزانية هيئة المسح بشدة، ولا سيما أبحاثهم في علم الحفريات. أرسل باول إلى مارش برقية فظَّة قائلًا: «انقطعت الاعتمادات المالية. قدم استقالتك فورًا.» وبعد مرور عام، أُجبرَ باول نفسه على الاستقالة. ومن المفارقات أنه استُبدِل به عالم الحفريات الثلاثية الفصوص الشهير تشارلز دوليتل والكوت، الذي كان مؤيدًا للتطور أكثر من باول.
fig59
شكل ١٣-١: الهياكل العظمية ﻟ (أ) طائر الغرب الشبيه بطائر الغوَّاص، و(ب) طائر الإكْثُور الشبيه بالخرشناوات، وكلاهما من الطيور المسننة، عُثِر عليهما في الطبقات الطباشيرية البحرية من العصر الكريتاسي في غرب كانساس. (من أوثنيْل تشارلز مارش، «أودونتورنيثيس: أُفرودة عن الطيور المُسنَّنة المنقرضة في أمريكا الشمالية؛ مع أربع وثلاثين لوحة وأربعين نقشًا خشبيًّا» [واشنطن العاصمة: مكتب الطباعة الحكومي، ۱۸۸٠])

غير أنَّ اكتشاف الطيور المسننة لم يكن شيئًا جديدًا. الحق أنَّ أول مثال عليها كان هو الحفرية الانتقالية الشهيرة أركيوبتركس، التي وُصِفت لأول مرة وسُمِّيت في عام ۱۸٦۱، أي بعد عامين فقط من نشر كتاب داروين. وصف ريتشارد أوين أول هيكلٍ عظميٍّ لهذه الحفرية الأسطورية في عام ۱۸٦۳، عندما اشتراها المتحف البريطاني وجلبها من ألمانيا. وعلى الرغم من أن أوين كان من أشد المنتقدين لداروين وأفكاره، وبذل قصارى جهده للتقليل من الصفات الديناصورية لدى أركيوبتركس، فقد كانت أهميتها واضحة لداروين ونصيره توماس هنري هكسلي. وبحلول الوقت الذي أعدَّ فيه داروين الطبعة الرابعة من كتاب «أصل الأنواع»، كان يتفاخر بأنه في وقت ما كان بعض العلماء يرَون أن:

طائفة الطيور بأكملها قد ظهرت فجأة إلى الوجود خلال عصر الإيوسين [قبل ٥٤–۳٤ مليون سنة، كما نؤرخ له حاليًّا]، لكن بناءً على ما قدَّمه البروفيسور أوين، صرنا نعلم الآن أن طائرًا كان يعيش بالتأكيد في أثناء ترسيب تكوين «جرينساند الأعلى» [أواخر العصر الكريتاسي المبكر بالمصطلحات الحديثة، منذ حوالي ۱٠٠ مليون سنة، تبين أن هذه العينة لتيروصور]، وفي الآونة الأخيرة، اكتشف العلماء هذا الطائر الغريب؛ أركيوبتركس، ذا الذيل الطويل الذي يشبه ذيل السحلية، والذي يحمل زوجًا من الريش على كل مفصل، وأجنحته مُزوَّدة بمخلبَين طليقَين. عُثِر عليه في صخور الأردواز الكلسية الرملية في سولنهوفن. وما من اكتشافٍ حديثٍ آخر أوضح من هذا، في تبيان مدى ضآلة ما نعرفه حتى الآن عن الكائنات التي كانت تقطن العالم في السابق.

ومنذ ذلك الوقت، عُثِر على ما لا يقل عن ۱۱ أو ۱٢ عينة أخرى من أركيوبتركس. أفضل العينات وأشهرها (الشكل ١٣-٢) — الموجودة الآن في متحف التاريخ الطبيعي في برلين — هي عينة للهيكل العظمي الكامل في وضعية طبيعية للموت، وكلٌّ من الجمجمة والأسنان محفوظ بشكل أفضل بكثير من عينة لندن. عند النظر إلى أركيوبتركس، أدرك هكسلي قوة الدليل الذي تقدمه هذه الحفرية على أن الطيور ببساطةٍ ديناصورات معدَّلة. فمن ناحية، كان هكسلي قد وصف منذ وقتٍ قريبٍ الهيكل العظمي للديناصور الصغير الأنيق الفك كومبسوناثوس، وكان قد عُثِر عليه في محاجر الحجر الجيري التي تعود إلى العصر الجوراسي، والموجودة في سولنهوفن حيث اكتُشِفت حفرية أركيوبتركس (اشتهر هذا الديناصور باسم «كومبيز» في أفلام وكتب جوراسيك بارك وجوراسيك وورلد). كان هكسلي شديد الاندهاش من أوجُه التشابه بين هياكلهما العظمية، على الرغم من أن الريش كان محفوظًا في أحدهما وعُرِّف على أنه طائر، بينما لم يوجد في الآخر أي ريش وعُرِّف على أنه ديناصور. والحق أنَّ عينةً أخرى من أركيوبتركس قد عُرِّفت خطأً على أنها أنيق الفك كومبسوناثوس، ولم يُصنَّف على النحو الصحيح إلا لاحقًا، حين أدرك جون أوستروم من جامعة ييل أنه كان في الواقع أركيوبتركس.
fig60
شكل ١٣-٢: أشهر هيكل عظمي لأركيوبتركس، وُجِد في طبقات الحجر الجيري التي تعود إلى العصر الجوراسي العلوي في سولنهوفن في بافاريا عام ۱۸۷۷، وهو موجود الآن في متحف التاريخ الطبيعي في برلين. هذه العينة هي الأكثر اكتمالًا من بين ۱٢ أو ۱۳ عينة. (إهداء من «ويكيميديا كومنز»)
غير أنَّ قائمة الصفات الديناصورية لدى أركيوبتركس لا تقتصر على الأسنان فحسب، بل هي أكثر من ذلك بكثير (الشكل ١٣-٣(أ)). لأركيوبتركس ذيل عظمي طويل، وهذا من صفات الديناصورات التي لا توجد في أيٍّ من الطيور الحية، إذ تلتحم عظام الذيل لديها في جزءٍ صغيرٍ من العظام يُطلَق عليه الشاخص الذيلي، أو «أنف بارسون». وتتسم جمجمة أركيوبتركس بنمط الثقوب نفسه الذي يوجد في جانب الجمجمة لدى الديناصورات، ولا سيما ذلك النمط الموجود لدى الديناصورات المفترسة، مثل فيلوسيرابتور؛ فجمجمة أركيوبتركس تختلف اختلافًا كبيرًا عن جماجم الطيور الحديثة المعدَّلة للغاية. ونجد أيضًا أنَّ فقراته تشبه الديناصورات، ولا تتسم بالترتيب المرن الذي نراه في الطيور الحديثة. أما عظمة الورك فمتوسطةٌ بين عظمة الورك لدى الديناصورات ونظيرتها لدى الطيور، وينطبق الأمر نفسه على عظمة الكتف الشبيهة بالطَّوق. لأركيوبتركس أيضًا أضلاع البطن التي توجد في العديد من الديناصورات المفترسة، لكنها غير موجودة في الطيور الحديثة.
fig61
شكل ١٣-٣: (أ) مقارنة الصفات التشريحية لأركيوبتركس بطائر أكثر تقدمًا وبديناصور صغير من وحشيات الأرجل مثل أورنيثوليستيس. (ب) البنية التشريحية للطرف الأمامي للطيور والديناصورات، مع توضيح لعظم الرُّسْغ. (ﺟ) البنية التشريحية للساق الخلفية للطيور والديناصورات، مع توضيح لمفصل منتصف الرسغ، وزائدة عظم الكاحل التصاعدية. (رسم كارل بويل؛ من دونالد بروثيرو، «التطور: ما تخبرنا به الحفريات وأهميته»، الطبعة الثانية. [نيويورك: كولومبيا يونيفرستي برس، ٢٠۱۷])
السمة الأكثر لفتًا للنظر هي بنية اليد والرسغ. فقد كان لأركيوبتركس مخالب طويلة مثل مخالب الديناصورات المفترسة وليس كمخالب الطيور، وكانت له يدان تعملان بالكامل، بكلٍّ منهما ثلاث أصابع (الإبهام، والسبابة، والإصبع الوسطى) مثل جميع الديناصورات الوحشيات الأرجل، على عكس عظام اليد المدمَجة التي نراها في أجنحة الطيور، والتي تُسمى المشط الرسغي والجُنيْح. تُشكِّل هذه العظام الجزء الصغير المدبَّب من العظم الموجود في طرف أجنحة الدجاج، والذي لا تأكله أبدًا بسبب عدم وجود لحم (عضلات) عليه. بدلًا من دعم الأصابع لأجنحتها (كما في حالة الخفافيش)، فإن الطيور ليس لها أصابع على الإطلاق، وهي تدعم أجنحتها بقوائم من الريش. تمتلك كلٌّ من الطيور وديناصور فيلوسيرابتور في الرسغ تكوينًا فريدًا؛ إذ تلتحم العظام على شكل هلال، ويُطلَق عليها اسم عظمة الرسغ الهلالية (الشكل ١٣-٣(ب)). وفي ظل هذا التكوين للمعصم، يمكن لفيلوسيرابتور وأقاربه أن تضرب بأيديها إلى الأسفل وإلى الأمام بسرعة، لكنها لا تستطيع تدوير راحة اليد للداخل (وهو ما يُشاهَد عادةً في عمليات إعادة التصور غير الصحيحة للديناصورات). وبعبارةٍ أخرى، لم يكن بمقدورها الإمساك بكرة سلة بين أيديها، لكنها كانت تستطيع إدارة راحة اليد إلى الأسفل لجعل الكرة تقفز على الأرض. تلك الحركة السريعة للمعصم نحو الأسفل والأمام هي الحركة نفسها التي تراها في الضربة السفلية لجناح الطائر في أثناء الطيران، وكلتا الحركتَين ممكنة بسبب عظمة الرسغ الهلالية.
أرجل أركيوبتركس الخلفية هي التي حسمت الأمر. لدى أركيوبتركس تكوين كاحلي فريد يُسمى مفصل منتصف الرسغ، وهو لا يوجد إلا لدى الديناصورات والطيور، وأقرب أقاربها؛ التيروصورات (الشكل ١٣-٣(ﺟ)). تتكون معظم كواحل الفقاريات (بما في ذلك كاحلك) من سلسلة من صفوف عظام الكاحل، وبها مفصل بين عظم الظنبوب (قصبة الساق) والصف الأول من عظام الكاحل (عظم العَقِب وعظمة الكاحل). أما في الطيور والديناصورات والتيروصورات، فيقع مفصل الكاحل بين الصفَّين الأول والثاني من عظام الكاحل؛ لذلك يندمج كلٌّ من عظمة الكاحل وعظمة العَقِب في نهاية قصبة الساق. في المرة القادمة التي تأكل فيها أوراك الدجاج أو الديك الرومي، لاحظ الغطاء الغضروفي الصغير على طرف «مقبض» دبُّوس الدجاج. هذا هو الصف الأول من عظام الكاحل، وهي سمة ديناصورية موجودة في كل طائر معروف. إضافةً إلى ذلك، تمتلك جميع الطيور والديناصورات نتوءًا عظميًّا يبرز من عظمة الكاحل بمحاذاة مقدمة قصبة الساق، وهي سمة ديناصورية أخرى فريدة من نوعها. إن أصابع قدم أركيوبتركس وأقدامه تشبه أصابع الديناصورات وأقدامها، أكثر مما تُشبه نظيراتها لدى معظم الطيور، كما أن إصبع قدمه الكبيرةَ لم تكن على الجانب المقابل ولم تكن قادرةً على إمساك الأغصان، على عكس معظم الطيور الجاثمة اليوم. علاوةً على ذلك، كان لأركيوبتركس مخلب إصبع متضخم مشابه لمخالب القطع التي كان يمتلكها فيلوسيرابتور وأقاربه.

ليس أركيوبتركس سوى ديناصور له ريش من معظم النواحي. وكل ما يميزه عن باقي الديناصورات مثل فيلوسيرابتور، هو انعكاس اتجاه إصبع القدم الكبيرة للإشارة خلفًا، وعدم وجود السطح المنشاري الشبيه بسكين تقطيع اللحم على حواف أسنانه، وامتلاكه ريش طيران غير متناسق، وأذرعًا كبيرة نسبيًّا. وفي العقود القليلة الماضية، أسفرت المئات من الاكتشافات المذهلة (خاصة من طبقات العصر الكريتاسي السفلي في مقاطعة لياونينج في الصين) عن مختلف أنواع الطيور البدائية ذات الأسنان، المحفوظة جيدًا مع الحفاظ على سلامة ريشها، وبعضها كان لا يزال يحتفظ بألوان ريشها الأصلية، إضافةً إلى بعض العينات النادرة التي كانت تضم محتويات المعدة أو الأعضاء الداخلية محفوظةً. علاوةً على ذلك، تكشف هذه الطبقات نفسها عن مجموعة من الديناصورات ليست من الطيور، مما يشير إلى أن الريش موجود في جميع مجموعات الديناصورات (ومنذ عام ٢٠۱۸ وجدنا عينات من التيروصورات توضح امتلاكها هي أيضًا للريش). معظم هذه الديناصورات التي ليست من الطيور ليس لديها ريش للطيران، وإنما تمتلك الريش لغرضه الأصلي، وهو العزل الحراري. هذا هو الحال تمامًا بالنسبة للطيور الحديثة التي تستخدم نسبة صغيرة فقط من ريش أجنحتها وريش الذيل للطيران. فمعظم ريشها هو ريش جسدي مثل الريش السفلي الذي يحتفظ بحرارة أجسادها.

لقد كان أركيوبتركس هو أول «حلقة مفقودة» تثبت تطور الطيور من الديناصورات، لكننا توصلنا الآن إلى سرب ضخم من الطيور الوسيطة الأكثر تقدمًا من أركيوبتركس، التي تُعَد بمثابة خطوات على طريق الانتقال والتحول إلى الطيور الحية (الشكل ١٣-٤). منها على سبيل المثال راهونافيس، الذي ينتمي إلى العصر الكريتاسي في مدغشقر، والذي كان يمتلك مخلبًا يشبه المنجل على كلتا قدمَيه الخلفيتَين، وذيلًا عظميًّا طويلًا، وأسنانًا، والعديد من الصفات الديناصورية الأخرى. بالرغم من ذلك، فعلى غرار الطيور الأكثر تقدمًا، نجد أنَّ وركَيه تندمجان في فقرات الظهر السفلية لتشكيل تركيب العَجُز المركب، ولديه ثقوب في فقراته بدلًا من الأكياس الهوائية الموجودة في الطيور الحية. وعلاوةً على ذلك، فإنه يمتلك مقابض ريش (نتوءات يلتصق فيها الريش بالعظم) على ذراعيه وأصابعه، مما يدل على أنه امتلك ريشًا قويًّا للطيران، وربما كان طائرًا أفضل من أركيوبتركس. وإحدى أكثر صفاته الشبيهة بالطيور هي عظمة الشظية؛ إذ لم تَعُد هذه العظمة الصغيرة — التي تمتدُّ موازيةً لقصبة الساق — تصل إلى الكاحل كما هو الحال لدى أركيوبتركس، بل صارت مدبَّبة في نهايتها، ولا تتصل بشيء. عندما تأكل دبُّوس دجاج أو ديك رومي، فستجد هذا العظم — الشبيه بعود أسنان صغير — لا يتصل بالكاحل، ولكنه مغروس في عضلات الساق.
fig62
شكل ١٣-٤: شجرة عائلة طيور حقبة الحياة الوسطى، مع التركيز على بعض الاكتشافات الحفرية الحديثة. (إهداء من لويس إم تشيابي)
على بعد خطوة واحدة من راهونافيس، نجد طائر كونفوشيوسورنيس الصيني، الذي يعود إلى العصر الكريتاسي المبكر. إنه طائر متقدم بدرجة طفيفة؛ إذ اختُزِلت عظام الذيل العديدة المنفصلة التي كانت توجد لدى أركيوبتركس والطيور والديناصورات البدائية إلى عظام الشاخص الذيلي، التي هي في مثل صِغَر نظيرتها لدى الطيور الحديثة. وعند الخطوة التالية صعودًا نجد مجموعة كاملة من الطيور السائدة في العصر الكريتاسي؛ الطيور النقيضة. وهي أكثر تقدمًا من أركيوبتركس أو راهونافيس أو طائر كونفوشيوسورنيس؛ إذ تمتلك عددًا أقل من فقرات الجذع، وتمتلك عظمة ترقوة مرنة، وتندمج عظام يدها لتشكيل العظم المشطي الرسغي والجُنيْح، ولديها مفصل كتف أفضل بكثير للطيران (انظر الشكل ١٣-٤).
نأتي بعد ذلك إلى الطيور الأكثر تقدمًا من العصر الكريتاسي، مثل فورونا من مدغشقر، ومجنحة باتاجونيا من الأرجنتين، والطيور المائية المعروفة، مثل طائر الغرب وطائر الإكثور من الطبقات الطباشيرية في كانساس (انظر الشكل ١٣-١). يقل تشابه هذه الطيور مع الديناصورات، ولديها العديد من الصفات التي تتشابه فيها مع الطيور، بما في ذلك فقدان ضلوع البطن، وإعادة توجيه عظم العانة للخلف بالتوازي مع عظم الإسك لتشكيل «ورك الطائر» الكلاسيكية، ووجود فقرات أقل في الجذع، وخصائص إضافية لليد والكتف. وفوق هذا كله، كان لطائر الإكثور عظمة قص قوية على عظمة الصدر لدعم عضلات الطيران القوية، وكان لا يزال يمتلك أسنانًا!

وأخيرًا، نصل إلى أول أفراد طائفة الطيور، أو الطيور الحديثة. إن الكثير من صفات الطيور التشريحية لا يوجد في أسلافها، ومن ذلك فقدان الأسنان (أخيرًا)، والاندماج الكامل لعظام الساق والصف الأول من عظام الكاحل لتشكيل ما يُسمى بالعظم الرسغي المشطي. إنَّ التسلسل الانتقالي من الطيور إلى الديناصورات أحد أكثر التسلسلات التي وُثِّقت بشكلٍ كاملٍ في السجل الأحفوري، لكن تحديد الخط الفاصل بين الطيور والديناصورات يُعَد مهمة شبه مستحيلة؛ لأننا نرى الطيور الآن على أنها مجموعةٌ فرعيةٌ من الديناصورات؛ ومن ثَم فإن الديناصورات لم تنقرض.

هل فقدت الطيور أسنانها بالكامل؟ قد يظن المرء ذلك لأننا لا نرى أي أسنان على الإطلاق في الطيور الحية الآن، وهي تمتلك منقارًا قرنيًّا بدلًا من ذلك. تنعكس هذه الفكرة في مقولة «نادر مثل أسنان الدجاجة» (أي نادر جدًّا حتى إنه لا يوجد أبدًا). بالرغم من ذلك، فقد أجرى إي جيه كولر وسي فيشر تجربة رائدة في علم الأجنة وعلم الوراثة في عام ۱۹۸٠، وكانت النتيجة مفاجئة. قام كولر وفيشر بزرع غشاء فم فأر مختبر في منقار فرخ كان ما يزال ينمو. تركا الفرخ ينمو، وأصابهما الذهول لدى اكتشافهما أنه بطريقة ما نمت أسنان الفرخ مرة أخرى! ولم تكن هذه الأسنان بأسنان فأر على الإطلاق، بل كانت تلك الأسنان المخروطية البسيطة للديناصورات المفترسة، وطيور العصر الكريتاسي التي كانت لا يزال لديها أسنان. يبدو أنَّ الطيور لا تزال تمتلك في جيناتها المعلومات اللازمة لصنع الأسنان الديناصورية، لكن جيناتها التنظيمية كبحت هذه المعلومات فلا يمكن التعبير عنها أبدًا، إلا عندما يتلاعب بها العلماء في التجارب العلمية.

لا يزال الكثير من الجينات القديمة موجودًا في الحيوانات، مثل جينات الذيل لدينا (الفصل الخامس)، أو جينات أصابع القدم الجانبية للحصان (الفصل الرابع عشر). تظهر هذه الجينات على أنها «ارتدادات تطورية» أو تأسلات، مما يوضِّح أنه حتى إذا لم تَعُد التعليمات الخاصة لعمل صفةٍ ما ضرورية، فلا يزال من الممكن ألَّا يتخلص منها الكائن الحي خلال تطوره. فربما يكتفي بدلًا من ذلك بإسكات الجينات الخاصة بها. منذ تجربة كولر وفيشر الشهيرة، وجد العلماء الكثير من جينات الديناصورات الأخرى التي كُبِحت في الطيور، ولكن يمكن التعبير عنها إذا تخلصنا من أمر الإغلاق. تمكنت إحدى الدراسات من التلاعب بجينوم الفرخ، كي يُنمِّي الطائر ذيلًا عظميًّا ديناصوريًّا طويلًا، مثل ذيل أركيوبتركس، وليس الشاخص الذيلي القصير الذي يوجد لدى الطيور الحديثة. وعدَّل الباحثون في تجربة أخرى من جينات الأفرخ؛ بحيث بدت أقدامها ديناصورية على عكس أقدام الطيور. والأكثر إثارة للدهشة هو التلاعب الجيني بالجينات الخاصة بفم الطائر، والذي أدى إلى فم ديناصوري بأسنان بدلًا من المنقار غير المُسنَّن للطيور الحديثة.

الخلاصة أننا نمتلك سجلًّا أحفوريًّا ممتازًا يوضح الانتقال من فيلوسيرابتور إلى أركيوبتركس إلى الطيور الحديثة. إنها لحقيقة ثابتة أن الطيور تنحدر من ديناصورات صغيرة مفترسة، ويمكننا أيضًا أن نقول إن «الطيور ديناصورات حية». علاوةً على ذلك، فنحن نعرف المفاتيح الجينية التي استُخدِمت لتحويل الهيكل العظمي للطيور خلال هذا التاريخ التطوري. ففي المرة القادمة التي تنظر فيها إلى أعلى وتسمع تغريدًا، أو ترى كائنًا ذا ريش يطير بالقرب منك، استمتع بالديناصورات التي لا تزال تزدهر على كوكبنا.

قراءات إضافية

  • Chiappe, Luis M., “The First 85 Million Years of Avian Evolution,” Nature 378 (1995): 349–355.
  • Chiappe, Luis M. and Gareth J. Dyke, “The Mesozoic Radiation of Birds,” Annual Review of Ecology and Systematics 33 (2002): 91–124.
  • Chiappe, Luis M. and Lawrence M. Witmer, eds., Mesozoic Birds: Above the Heads ofDinosaurs, Berkeley: University of California Press, 2002.
  • Currie, Philip J., Eva B. Koppelhus, Martin A. Shugar, and Joanna L. Wright, eds., Feathered Dragons: Studies on the Transition from Dinosaurs to Birds, Bloomington: Indiana University Press, 2004.
  • Dingus, Lowell and Timothy Rowe, The Mistaken Extinction, New York: W. H. Freeman, 1997.
  • Gauthier, Jacques A., “Saurischian Monophyly and the Origin of Birds,” In The Origin of Birdsand the Evolution of Flight, ed., Kevin Padian, 1–56, San Francisco: California Academy of Sciences, 1986.
  • Gauthier, Jacques A. and Lawrence F. Gall, eds., New Perspectives on the Origin and Early Evolution of Birds, New Haven, Conn.: Yale University Press, 2001.
  • Kollar, E. J. and C. Fisher, “Tooth Induction in Chick Epithelium: Expression of Quiescent Genes for Enamel Synthesis,” Science 207, no. 4434 (1980): 993–995.
  • Norell, Mark A., Unearthing Dragons: The Great Feathered Dinosaur Discoveries, New York: Pi Press, 2005.
  • Ostrom, John H., “Archaeopteryx and the Origin of Birds,” Biological Journal of the Linnaean Society 8, no. 2 (1976): 91–182.
  • ______, “Archaeopteryx and the Origin of Flight,” Quarterly Review of Biology 49, no. 1 (1974): 27–47.
  • Padian, Kevin and Luis M. Chiappe, “The Origin of Birds and their Flight,” Scientific American 278, no. 2 (February 1998): 28–37.
  • Prum, Richard O. and Alan H. Brush, “Which Came First, the Feather or the Bird?” Scientific American 288 (March 2004): 84–93.
  • Shipman, Pat, Taking Wing: Archaeopteryx and the Evolution of Bird Flight, New York: Simon & Schuster, 1988.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤