الفصل الخامس عشر

كيف حصلت الزرافة على عنقها؟

لامارك، وداروين، والعصب الحنجري الراجع الأيسر

إن الزرافة بقامتها الفارعة الطول، هي وعنقها وساقاها الأماميتان ورأسها ولسانها، تتميز ببنيةٍ تكيَّفت بشكلٍ رائعٍ للرعي على فروع الأشجار المرتفعة. فهي إذن تستطيع الحصول على طعامٍ ليس في متناوَل غيرها من ذوات الحوافر التي تعيش معها في مكانٍ واحد، ومن المؤكَّد أنَّ هذا يمثِّل أفضليةً عظيمةً لها في أوقات ندرة الطعام … وهكذا كان الحال في الطبيعة مع الزرافات وهي في طور النشوء؛ فالزرافات الأطول التي كانت قادرةً على الوصول في أوقات ندرة الطعام إلى أغصانٍ أعلى مما يصل إليه غيرها ولو بمقدار بوصةٍ أو اثنتَين، هي التي تمكَّنت في الغالب من البقاء؛ إذ تكون قد جابت الأرض كلها بحثًا عن الطعام … وتلك الزرافات التي استطال لديها جزء واحد من أجسادها أو عدة أجزاء على نحو أكثر من المعتاد، كانت تنجو غالبًا. ستكون تلك الزرافات قد تزاوجت، وتركت ذرية إما وارثةً لنفس الخصائص الجسدية المميزة، أو نزعت للتنوع مرة أخرى على نفس المنوال، أما الأفراد التي لم يُواتِها الحظ لتنعم بمثل هذه الصفات، فكانت على الأرجح هي الأكثر عرضة للهلاك … ومن خلال هذه العملية المستمرة منذ فترة طويلة، والتي تتوافق تمامًا مع ما أسميتُه بالانتخاب اللاواعي بواسطة الإنسان، وبمشاركة بالغة الأهمية لا ريب فيها لما يورَّث نتيجة للاستخدام المتزايد للبُنى، يبدو لي بشكل شبه مؤكد أن حافرًا عاديًّا رباعي الأرجل قد يتحول إلى زرافة.

تشارلز داروين، (۱۸٥۹)

الزرافة من أروع الحيوانات. وقد نشأنا جميعًا مع صور لها في الكتب التي كنا نقرؤها في طفولتنا، ورآها معظمنا في حديقة الحيوانات. لقد أذهلت الزرافات البشر وفتنتهم منذ أن رأَوها لأول مرة. فنجد لدى شعب السان في جنوب أفريقيا رقصة طبية تسمَّى «رقصة الزرافة»، يُفترَض أنها تعالج أمراض الرأس. وفي الحكايات الشعبية الأفريقية، اكتسبت الزرافات طولها من خلال أكل أعشاب سحرية. تظهر الزرافات في الفن الأفريقي القديم للمصريين والكوشيين والكيفيين. يُعتقد أن الكيفيين هم الذين أنتجوا نقشًا حجريًّا بالحجم الطبيعي لزرافتين، وهو يُعَد أكبر نقش حجري في العالم. علاوةً على ذلك، خصَّص المصريون حرفًا هيروغليفيًّا للزرافة، واحتفظوا بالزرافات كحيوانات أليفة، وكانوا يبحرون بها عبر البحر المتوسط إلى ثقافات أخرى.

عندما الْتقى الرومان بالزرافات لأول مرة، اعتقدوا أنها كائنات هجينة من جمل طويل العنق ونمر مرقط، وأطلقوا عليها اسم «كاميلوبارد» — بالإنجليزية camelopard؛ كلمة مركَّبة من camel بمعنى جمل، وleopard بمعنى نمر — وهو الاسم الذي بقي في الاسم العلمي للزرافة؛ جيرافا كاميلوبارداليس. في عام ٤٦ قبل الميلاد حصل يوليوس قيصر على زرافة وعرَضها في روما، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها الرومان هذا الكائن الغريب. وأُحضِر بعد ذلك العديد من الزرافات الأخرى إلى روما للمشاركة في الاستعراضات، أو لكي تُذبَح في الحلبة مع البشر والحيوانات الأخرى. وفور سقوط الإمبراطورية الرومانية، اختفت الزرافات من الوعي الأوروبي، وأصبح لها مكانة أسطورية في العصور الوسطى، على الرغم من أن بعض الأوروبيين عرفوها من خلال الاحتكاك بالتجار العرب. في عام ۱٤۱٤ شحن التجار العرب زرافة من البنغال إلى الصين، حيث صارت ضمن مجموعة حيوانات الإمبراطور. افتتن الصينيون بالزرافة التي اعتقدوا أنها مرتبطة بمخلوق أسطوري ذي حوافر يسمَّى كيلين. وفي عام ۱٤۸٦، قُدِّمت زرافة إلى لورنزو دي ميديتشي، حاكم فلورنسا خلال أيام مجدها في عصر النهضة. في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي، قدَّم الأمير محمد علي حاكم مصر عينة تسمَّى «زرافة» للملك الفرنسي تشارلز العاشر، كرمزٍ للتعبير عن حسن النوايا. وقد تسببت الزرافات في ضجة كبيرة في باريس، وأصبح الهوس بأي شيء يتعلق بالزرافات يُسمَّى «جيرافناليا». وحديثًا، ظهرت الزرافات في لوحات سلفادور دالي، وفي العديد من كتب وأفلام الأطفال، وكالعديد من الشخصيات الشهيرة، بما في ذلك ميلمان الزرافة العصابية (التي قام بأداء صوتها ديفيد شويمر) في أفلام مدغشقر، بل وحتى جوفري الزرافة، تميمة متاجر «تويز آر أص» التي أفلست الآن.
كثيرًا ما كانت صورة الزرافة الطويلة العنق عنصرًا أساسيًّا في الثقافة الغربية، وكذلك كانت محاولات تفسيرها. ففي عام ۱۸٠۹، استخدم جون بابتيست دي مونيه شوفالييه دي لامارك رقبة الزرافة (الشكل ١٥-١) مثالًا على تغير الكائنات مع مرور الزمن:
fig70
شكل ١٥-١: رسم يوضح تصور لامارك لكيفية حصول الزرافة على عنقها الطويل من الإطالة مرارًا وتكرارًا، للوصول للأوراق الأعلى في كل جيل، ثم تمرير هذه التنويعات إلى الجيل التالي.

من المثير للاهتمام ملاحظة نتيجة سلوكٍ ما على شكل الزرافة وحجمها العجيبين؛ فمن المعروف أن الزرافة، وهي أطول الثدييات، تعيش في المناطق الداخلية من أفريقيا، حيث تكون التربة قاحلةً جرداء على الدوام؛ لذلك فهي مجبرة على التغذي على أوراق الأشجار، وبذل قُصارَى جهدها للوصول إليها. لقد نتج عن هذا السلوك المحفوظ منذ زمن طويل في جنس الزرافات كله أن ساقيها الأماميتين أصبحتا أطول من الخلفيتين، وأن رقبتها قد استطالت إلى أن أصبح ارتفاع الزرافة ستة أمتار دون أن تقف على رجليها الخلفيتين.

غالبًا ما يُستخدَم هذا المقطع القصير للامارك لتلخيص كامل نظريته المعقدة، عن كيفية تطور الحياة، وهو يُقتبَس باستمرار في مراجع علم الأحياء أيضًا. فعلى غرار معظم علماء الطبيعة في عصره، اعتقد لامارك أن التغيرات التي تقع على أجسادنا البالغة يمكن أن تنتقل مباشرة إلى أبنائنا (وهو ما يُعرَف ﺑ «وراثة الصفات المكتسبة»). ووفقًا لفكرته الشائعة، فإن عضلات الحدَّاد القوية تنتقل إلى أبنائه، وكذلك فإنَّ الرقبة الممتدة لأعلى الأوراق في الشجرة لدى الزرافات الأسلاف القصيرة العنق تنتقل إلى الأحفاد. صاغ لامارك هذه الفكرة على النحو التالي: «تؤدي التنويعات في البيئة إلى تغيرات في احتياجات الكائنات الحية وعاداتها وأنماط حياتها … ومن ثَم تؤدي هذه التغيرات إلى تعديلات أو تطورات في أعضاء هذه الكائنات، وفي شكل أجزائها.»

من المؤسف أنَّ هذا هو الجزء الوحيد من مفاهيم لامارك المعقَّدة، بشأن التطور الذي لا يزال يُذكَر حتى يومنا هذا في المعتاد، ويعود ذلك بدرجة كبيرة إلى أن منافس لامارك، البارون جورج كوفييه، بذل قصارى جهده لتدمير إرث لامارك وتشويهه بعد وفاة هذا الرجل العظيم. وحقيقة الأمر أنه قبل اكتشاف آلية الوراثة المندلية وعلم الوراثة المبكر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كان معظم علماء الطبيعة يعتقدون بصحة وراثة الصفات المكتسبة، ومنهم تشارلز داروين.

نجد الكثيرين اليوم يسخرون من لامارك باعتباره «الرجل الذي أساء فهم التطور»، على الرغم من أن العديد من أفكاره كانت ثورية وصحيحة. علاوةً على ذلك، كان لامارك هو من أدرك وحدة علم الحيوان وعلم النبات، بل إنه هو من صاغ مصطلح «علم الأحياء». نجا لامارك من الثورة الفرنسية وعهد الإرهاب، لكنه اضطُر إلى التحول عن علم النبات، وتولى منصب أمين «الحشرات والديدان» في متحف التاريخ الطبيعي في باريس. وفي أثناء ذلك، انتهى به الأمر إلى إحداث ثورة وتأسيس مجال علم الحيوانات اللافقارية الحديث. ومن سوء الحظ أنَّ «اللاماركية» أو «الوراثة اللاماركية» قد اختُزِلت في فكرة واحدة خاطئة، لم تكن سوى جزءٍ ثانوي من تفكير لامارك، وهي فكرةٌ تمسَّك بها جميع علماء الطبيعة لعدة عقود أخرى.

حاول تشارلز داروين بالطبع تقديم تفسير لرقبة الزرافة في كتابه عن التطور (انظر العبارة المقتبَسة في بداية الفصل). لكن فكرة داروين كانت مختلفة عن تصور لامارك إلى حد كبير. فالفكرة الأهم وفقًا لداروين هي أن المجموعات الطبيعية غاية في التنوع، بحيث لا يوجد فردان متشابهان حقًّا حتى لو كانا شقيقين (باستثناء التوائم المتماثلة). فمن بين مجموعات الزرافات الأسلاف مثلًا، ربما كان لبعض الزرافات أعناق أطول قليلًا. وخلال فترات الجفاف عندما يندر الغطاء النباتي، تصبح هذه الزرافات قادرة على الوصول إلى أوراق أعلى الأشجار مقارنة بالزرافات الأخرى في المجموعة؛ ومن ثَم البقاء على قيد الحياة. بعد ذلك، تصبح هذه الزرافات الأسلاف ذات الأعناق الأطول آباء للجيل القادم، وتنقل جينات الأعناق الأطول إلى أحفادها. بعد عدة أجيال من القيام بذلك، ستكون أعناق مجموعة الزرافات أطول في المتوسط (شكل ١٥-٢).
fig71
شكل ١٥-٢: اقترح داروين أن الانتخاب الطبيعي يفسر عنق الزرافة الطويل. يمتلك كل جيل أعناقًا متباينة الطول، لكن خلال الفترات الصعبة، الزرافات ذات الأعناق الطويلة فقط هي التي تستطيع الوصول إلى الطعام والبقاء على قيد الحياة؛ ومن ثَم تنقل جينات الأعناق الأطول هذه إلى الجيل التالي، حتى يصبح لدى جميع مجموعات الزرافات أعناق أطول.

هذه القصة جذابة للغاية وتبدو بديهية، لكن الأبحاث التي تُجرَى على سلوك الزرافات الحية تُظهِر أنه من النادر أن تكون هذه هي الحقيقة. فالواقع أنَّ الزرافات تأكل في معظم الأوقات ورقابها في وضع أفقي، كما أنها تتغذى كثيرًا على نباتات الأرض ورءوسها منحنية لأسفل باتجاه أقدامها. نادرًا ما تُرى الزرافات تحاول الوصول إلى أعلى الأشجار؛ لأن معظم أجزاء الأشجار أعلى من أن يصل إليها أيُّ حيوانٍ آخر يتغذى على الأشجار. في دراسة أُجرِيت عام ٢٠۱٠، اتضح أن الزرافات ذات الأعناق الأطول تموت خلال فترات الجفاف أكثر مما تموت ذات الأعناق الأقصر؛ إذ يتطلب العنق الأطول المزيد من العناصر الغذائية، والتي تكون نادرة أثناء الجفاف.

بدلًا من ذلك، وجد علماء أحياء الزرافات أن الأعناق الطويلة غالبًا ما تمثل ميزة تكاثرية للذكور، وهم في العادة أطول كثيرًا من الإناث. يتنافس الذكور على الأزواج مع ذكور منافسين آخرين، وغالبًا ما ينخرطون في معارك عنيفة، تنطوي على الكثير من حركات دفع أعناقهم إزاء أعناق منافسيهم أو ضغطها وضربها («صراع التعانق»)، والتسبب في إصابتهم أحيانًا. إن الحجم الكليَّ والعنق الطويل يعطيان ذكر الزرافة الأكبر أفضلية في التزاوج، يتميَّز بها عن الذكور المنافسين الأصغر.

fig72
شكل ١٥-٣: تواجه الزرافات صعوبة للوصول إلى الأرض للشرب أو الأكل. (إهداء من «ويكيميديا كومنز»)
إن امتلاك مثل هذا العنق الطويل أمر غاية في التعقيد بالطبع، ويصعب الحفاظ عليه. ذلك أنَّ ضخ الدم إلى الرأس عبر رقبة بهذا الطول يتطلب قلبًا ضخمًا يزن أكثر من ۱۱ كيلوجرامًا (٢٥ رطلًا). يَنتُج عن مثل هذا الحجم ما يقرب من ضعف ضغط الدم الذي يمكن أن ينتجه قلب الإنسان. يجب أن ينقبض قلب الزرافة بمعدل يزيد عن ۱٥٠ نبضة في الدقيقة للحفاظ على هذا الضغط، وهو أعلى بكثير من معدل النبض الطبيعي للإنسان عند الراحة، والبالغ ۹٠ نبضة تقريبًا. إنَّ ضخ كل هذا الدم صعودًا إلى المخ صعب بما يكفي دون أي تعقيد إضافي، لكنه يمثل تحديًا أكبر عندما تخفض الزرافة رأسها (الشكل ١٥-٣). فعلى غرار البشر، ستُصاب الزرافة بالإغماء إذا اندفع كل الدم إلى رأسها دفعة واحدة. ولهذا السبب، تمتلك الزرافات شبكة من الأوعية الدموية الدقيقة تُسمَّى «الشبكة الرائعة»، وهي تُخفِّض ضغط الدم إلى الدماغ. وكانت الزرافة ستُصاب بالإغماء أيضًا بسبب التدفق الزائد للدم، لولا وجود سبعة صمامات أحادية الاتجاه في الوريد الوداجي. يَحُول هذا دون عودة الدم المتَّجه من الدماغ إلى القلب منهمرًا إلى الرأس عندما تخفض الزرافة رأسها. إن هذا الارتفاع الشديد في ضغط الدم في الرقبة والأطراف الأمامية يجبر الزرافة على أن يكون لها جلد سميك للغاية في رقبتها وساقَيها الأماميتَين للاحتفاظ بالضغط، تمامًا مثل الملابس الضاغطة التي يرتديها من يعانون مشاكلَ في الدورة الدموية. (يدرس العلماء جلد رقبة الزرافة لتحديد خصائصه، ومعرفة ما إذا كان يمكن محاكاته وإنتاجه للأغراض الصناعية.)
إنَّ جميع هذه الصفات ضرورية لبقاء الزرافات كحيوانات طويلة العنق؛ لذلك قد يقول البعض إن الزرافة مصممة بشكل جيد. لكن هذا لا يفسر مسار العصب الحنجري الراجع الأيسر، والذي يربط الدماغ بالحنجرة لدى البشر، ويسمح لنا بالتحدث. في جميع الثدييات يتجنب هذا العصب المسار المباشر بين الدماغ والحلق، وينحدر بدلًا من ذلك إلى الصدر، ويلتفُّ حول الشريان الأورطي بالقرب من القلب، ثم يعود إلى الحنجرة (الشكل ١٥-٤). هذا يجعله أطول بسبع مرات مما يجب أن يكون عليه! وبالنسبة لحيوان مثل الزرافة، فإن هذا العصب يجتاز العنق بالكامل مرتين؛ لذلك يبلغ طوله ۱٥ قدمًا (منها ۱٤ قدمًا غير ضرورية!). ليس هذا التصميم إذن مهدِرًا فحسب، بل إنه أيضًا يجعل الزرافة أكثر عرضةً للإصابة.
fig73
شكل ١٥-٤: في الإنسان، يمتد العصب الحنجري الراجع الأيسر من العمود الفقري، مرورًا بالشريان الأورطي على القلب، ثم إلى الأعلى باتجاه الحنجرة. وهذا هو المسار في الزرافة، مما يجعل طول العصب ۱٥ قدمًا، للانتقال عبر مسافة كانت ستصبح بضع بوصات فقط لو أنَّ العصب اتخذ مسارًا مباشرًا. (رسم ماري برسيس ويليامز)

غير أن هذا المسار الغريب منطقي تمامًا من الناحية التطورية. ففي الأسماك وأجنة الثدييات المبكرة، يوجد الشكل السلفي من العصب الحنجري الراجع الأيسر، متصلًا بالقوس الخيشومي السادس في عمق منطقة العنق والجسد. لا تزال الأسماك تحتفظ بهذا النمط، لكن في أثناء النمو الجنيني للثدييات اللاحقة، عُدِّلت الأقواس الخيشومية إلى أنسجة منطقة الحلق والبلعوم لدينا. وأُعيدَ ترتيب أجزاء من الجهاز الدوري القديم الشبيه بالجهاز الدوري للأسماك؛ ومن ثَم تراجع الشريان الأورطي (وهو أيضًا جزء من القوس الخيشومي السادس) إلى الصدر، آخذًا معه العصب الحنجري الراجع الأيسر (الملتف حوله) إلى الخلف أيضًا. لقد ورثت الزرافات هذا النظام الأخرق السيئ التصميم لأنه كان جزءًا من ماضيها الجنيني والتطوري. لم تكن هناك تكلفة كبيرة لإبقائه على تلك الحال، وكان من المحال تقريبًا إعادة ترتيب هذا النظام بسبب القيود التشريحية. إنَّ أعصاب الزرافة تُثار في غضون فترات تُقاس بالميكروثانية؛ لذا فإن الاختلاف في المدة الزمنية لاستجابتها لنبض عصبي ينتقل على مدار ۱٥ قدمًا بدلًا من قدم واحدة؛ لا يُعَد شيئًا ذا بال. وذلك مثال كلاسيكي على مدى ما قد تكون عليه الطبيعة من عدم كفاءة وسوء تصميم، عندما تسير على عمًى وراء المسارات الجنينية التي تأسَّست لدى أسلافنا أشباه الأسماك. ورغم هذه الدرجة من عدم الكفاءة، فإن الزرافة تتعايش جيدًا مع ۱٤ قدمًا إضافية من الأعصاب. فما دامت الزرافة تستطيع البقاء على قيد الحياة والتكاثر كي تترك المزيد من الزرافات، فإن عدم كفاءة أعصاب رقبتها يصبح أقل أهمية من الرقبة الطويلة التي تمنحها ميزة البقاء على قيد الحياة.

fig74
شكل ١٥-٥: تطور فصيل الزرافات. يُعتبر الأُكاب الحديث هو الأشبه بالمجموعة؛ نظرًا لرقبته القصيرة وقرونه القصيرة نسبيًّا. غير أن بعض الزرافات كانت لها زوائد متفرعة وجذابة للغاية. إن سلالة الزرافة الحديثة هي فقط التي تطورت لديها رقبة طويلة. (رسم بواسطة سي آر بروثيرو)
من لامارك إلى داروين، كانت جميع الأفكار عن كيفية حصول الزرافة على أعناقها الطويلة محض تكهنات حتى وقت قريب؛ إذ لم يكن أحد قد عثر على حفريات للزرافات. ولكن في أوائل القرن العشرين، عُثِر على العديد من حفريات الزرافات في طبقات عصر الميوسين (التي يعود تاريخها إلى ما قبل ٢٣–٢٥ مليون سنة) في جميع أنحاء أفريقيا وفي جنوب آسيا. واليوم يوجد ما لا يقل عن ٢٤ جنسًا من الزرافيات المنقرضة، وكذلك العديد من الأنواع المختلفة منها. وكانت المفاجأة الكبرى أن جميعها كانت لديها أعناق قصيرة! الواقع أنَّ العصر الميوسيني كان يمثل فترة زمنية شهدت تشعُّبًا هائلًا للزرافات القصيرة العنق (الشكل ١٥-٥)، وكان لمعظم هذه الزرافات قرون غريبة تشبه قرون الغزلان أو الموظ أو الظباء (الزرافات الحية لها قرون أسطوانية قصيرة تسمَّى بالمخاريط العظمية). كان لذكور بعض هذه الأنواع، مثل البروليبيثيريوم، قرون تشبه قرون الموظ. وكان لدى البعض الآخر قرون مثل الغزلان أو الظباء. فكان نوع شيفاثيريوم الضخم يبلغ من الارتفاع ما يزيد على ۱٠ أقدام، وكان لديه قرون متفرعة سميكة ويزن نصف طن. وكان براماثيريوم العملاق في طول الزرافة الحديثة نفسه تقريبًا، لكن عنقه كان قصيرًا سميكًا، وله قرون ضخمة على رأسه. وجميع هذه الزرافات كانت لديها أعناق قصيرة نسبيًّا.
fig75
شكل ١٥-٦: الجنس الوحيد الحي الآخر من فصيلة الزرافيات، هو جنس الأُكاب، الذي يعيش في الأدغال الكثيفة لحوض الكونغو. (إهداء من «ويكيميديا كومنز»)
عند مراجعة ما نعرفه، لا ينبغي أن يكون في ذلك أي مفاجأة لنا؛ إذ إن الجنس الآخر من الزرافيات الحية هو الأُكاب من أدغال الكونغو، وهو يعيش منعزلًا في الغابة، ويتغذى على أوراق الأشجار وله رقبة قصيرة (الشكل ١٥-٦). اكتُشِف الأُكاب حديثًا، وسُمِّي لأول مرة في عام ۱۹٠۱، وكان واحدًا من آخر الثدييات الكبيرة التي اكتُشِفت، وشاع آنذاك أنه «وحيد القرن الأفريقي». يُطلَق على الأُكاب أحيانًا اسم زرافة الحمار الوحشي؛ لأن فخذيه الخلفيتين وساقَيه مخطَّطة مثل الحمار الوحشي، مما يخفيه في الأدغال الكثيفة. يعيش الأُكاب حياة منعزلة في معظمها، ويتغذى على الأوراق الكثيفة الموجودة في الغابات، فهو صامت، ونادرًا ما يُرى، ويُعَد اليوم مهددًا بالانقراض بسبب الإفراط في الصيد الجائر وتدمير موئله في الغابات. إن وطأة الصيادين الجائرين شديدة بسبب وجود سوق سوداء مربحة لأجزاء الأُكاب. في شهر يونيو من عام ٢٠۱٢، هاجمت عصابة من الصيادين الجائرين مقر محمية الأُكاب للحياة البرية في جمهورية الكونغو الديمقراطية، مما أسفر عن مقتل ستة حراس وموظفين آخرين، إضافةً إلى جميع حيوانات الأُكاب الأربعة عشر، والتي كانت حبيسة في مركز التكاثر.
fig76
شكل ١٥-٧: رقبة ورأس ساموثيريوم ميجور، الحفرية المكتشَفة حديثًا التي لديها رقبة متوسطة الطول (في الوسط)، مقارنةً بالأُكاب (بالأسفل)، والزرافة الطويلة العنق (بالأعلى). (بتصريح من نيكوس سولونياس)
إننا نمتلك الآن سجلًّا أحفوريًّا يوضح كيفية تطور الزرافيات، ويوضح أنها أكثر تنوعًا بكثير من جنس الزرافة الطويلة العنق التي نعرفها جميعًا. ومع ذلك، لم يتوقع بعض الأشخاص أننا قد نعثر على أدلة أحفورية لكيفية حصول الزرافة على رقبتها الطويلة. وفي عام ٢٠٠۹، وصف صديقي نيكوس سولونياس وطلابه حفريات زرافيات آسيوية منقرضة تسمَّى ساموثيريوم ميجور. على عكس الحفريات غير المكتملة التي نجدها لمعظم الزرافيات المنقرضة، كان لهذه الحفريات عنق كامل، وكان طوله يقع في المنتصف بين عنق الأُكاب والزرافة الحديثة (الشكل ١٥-٧). لا يمكن للمرء إذن أن يطلب نموذجًا وسيطًا أكثر مثاليةً من هذا!

إن قصة الزرافة مثيرة للاهتمام ومعقدة. نحن نعلم أن أعناقها الطويلة قد تطورت، ولدينا الآن الحفريات التي توضح كيفية حدوث ذلك. ولدينا بالفعل حفريات لأكثر من عشرين نوعًا منقرضًا من الزرافيات، وجميعها تقريبًا لها أعناق قصيرة وأجزاء غريبة في الرأس. فلم تكن استطالة رقبة الزرافة ناتجةً بالكامل عن العمليات التي افترضها لامارك وداروين، على الرغم من استمرار هذه القناعات التقليدية لعقود من الزمن. ويقدم مسار العصب الحنجري الراجع الأيسر في عنقها الطويل مثالًا رائعًا على التصميم الأخرق وغير الفعَّال، مما يدحض محاولات الإشارة إلى وجود مصمم مثالي.

قراءات إضافية

  • Danowitz, Melinda, Aleksandr Vasilyev, Victoria Kortlandt, and Nikos Solounias, “Fossil Evidence and Stages of Elongation of the Giraffa camelopardalis Neck,” Royal Society Open Science 2, no. 10 (2015): 150393. http://doi.org/10.1098/rsos.150393.
  • Mitchell, G. and J. D. Skinner, “On the Origin, Evolution, and Phylogeny of Giraffes, Giraffa Camelopardalis,” Transactions of the Royal Society of South Africa 58, no. 1 (2003): 51–73.
  • Prothero, Donald R., The Princeton Field Guide to Prehistoric Mammals, Princeton, NJ: Princeton University Press, 2016.
  • Prothero, Donald R. and Robert M. Schoch, Horns, Tusks, and Flippers: The Evolution of Hoofed Mammals, Baltimore, Md.: Johns Hopkins University Press, 2003.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤