الفصل السابع عشر

بِركة صغيرة دافئة

كيف نشأت الحياة؟

كثيرًا ما يُقال إنَّ جميع الشروط اللازمة لإنتاج أول كائن حي موجودة الآن، ومن المحتمل جدًّا أنها كانت موجودة من قبل. لكن ماذا لو (ويا له من احتمال هائل!) أمكننا تصوُّر بِركةٍ ما — صغيرة ودافئة تحتوي على جميع أنواع الأمونيا والأملاح الفوسفورية والضوء والحرارة والكهرباء، وما إلى ذلك — تشكَّل فيها مركَّب بروتيني كيميائيًّا، وكان لا يزال قابلًا للخضوع لتغيرات أكثر تعقيدًا؛ إنَّ مثل هذه المادة البروتينية كانت ستُمتص على الفور في وقتنا الحالي، لكن ذلك لم يكن ليحدث قبل أن توجد الكائنات الحية.

تشارلز داروين، في رسالة لجوزيف هوكر عام ۱۸٧١

تُعَد نشأة الحياة أحد أكثر الموضوعات التي يُساء فهمها، وتتعرَّض للتشويه عند مناقشة التطوُّر في المجال العام. وفيما يلي بعض ما يشيع من أكاذيب ومفاهيم خاطئة عن نشأة الحياة:

«لا أستطيع أن أتخيل نشأة الحياة من صُدفة عشوائية.»
«إن احتمال نشأة الحياة من اللاحياة هو احتمال ضئيل يكافئ احتمال هبوب إعصار على ساحة خردة وتجميع طائرة من طراز ٧٠٧.»
«يُظهِر العلم أن التوالد التلقائي لا يمكن أن يحدث، فكيف إذن تنشأ الحياة؟»

إننا دائمًا ما نسمع هذه الحجج وغيرها من الحجج الخاطئة والمضلِّلة، وتوجد ردود عديدة عليها توضح خطأها. وبالرغم من كشف عَوار هذه الأفكار، يبدو أن التفسيرات العلمية لنشأة الحياة لم تستقر في الوعي العام بعد.

حقيقة الأمر أن تفسير نشأة الحياة (التخلق التلقائي) لا يندرج أصلًا ضمن النظرية التطورية الكلاسيكية، التي تتعامل أساسًا مع الانتخاب الطبيعي بعد نشأة الحياة. لكنها وسيلة سهلة لمنكري العلم لأن يستغلوا التشكك الشخصي لدى جمهورهم، ونقص المعرفة العلمية لديهم؛ فيطرحوا مسألة نشأة الحياة طوال الوقت.

لقد أدت الإنجازات الحديثة في أبحاث نشأة الحياة إلى اكتشافات رائعة، يتحدَّى العديدُ منها تفسيراتِ مَن ينكرون حقيقة التطور. فعلى سبيل المثال، إذا كان كلٌّ من الميتوكوندريا والبلاستيدات الخضراء قد خُلِق على نحوٍ خاص، فلماذا تمتلك جينوماتها الخاصة بها داخل الخلية الحقيقية النواة، ولماذا يمكن القضاء عليها بالمضادات الحيوية؟ يقدم التطور تفسيرًا لذلك، وهو تفسير اختُبِر جيدًا. ولماذا تعتمد الحياة كلها على ٢٠ حمضًا أمينيًّا فقط من أصل أكثر من ١٠٠ حمض أميني معروف، ولماذا لا تتخذ هذه الأحماض إلا نوعًا واحدًا من الكيرالية (كيرالية اليد اليمنى)؟ يشرح التطور ذلك أيضًا بشكل جميل. إذا كانت الحياة قد خُلِقت بشكل خاص، فلماذا توجد اللبنات الأساسية للحياة (الأحماض الأمينية) في جميع أنحاء الكون؟ مرة أخرى، لا نجد لهذا أي معنًى إلا في ضوء التطور. لقد نجح العديد من الاكتشافات المدهشة في محاكاة كل خطوات نشأة الحياة تقريبًا في المختبر، وقد صرنا — في أثناء كتابتي لهذا الكتاب — قريبين للغاية من خَلْق الحياة معمليًّا من اللاحياة.

لكنني سأبدأ أولًا بمعالجة المفاهيم الخاطئة بشأن التولُّد التلقائي. قبل ستينيات القرن التاسع عشر، كان معظم الناس (ومنهم لامارك وداروين) يعتقدون أن الحياة يمكن أن تنشأ تلقائيًّا من اللاحياة. فالديدان مثلًا تظهر على نحو غامض في اللحم المتعفن، والمرق المتروك يفسد؛ إذ تنتشر فيه البكتيريا والفطريات. بعد ذلك، قام لويس باستير بسلسلة شهيرة من التجارب أوضحت أن التولد التلقائي لا يحدث، بل تنمو الديدان أو البكتيريا فقط، إذا كانت هناك طريقةٌ ما تسمح لها بالانتشار من الكائنات الحية التي لا تخضع للتجربة. لكن جميع تلك التجارب افترضت الظروف الحالية للأرض، لا سيما مستويات الأكسجين الحالية في الغلاف الجوي البالغة ٢١٪. وحقيقة الأمر أننا نمتلك الكثير للغاية من الأدلة الجيولوجية، التي توضِّح أن الغلاف الجوي المبكر للأرض لم يكن يحتوي على أكسجين حر عندما تشكَّل قبل ٤٫٦ مليارات سنة، وأن حوالَي ١٪ فقط من الغلاف الجوي كان يحتوي على أكسجين قبل ٢٫٣ مليار سنة. في ظل هذه الظروف، يكون من الأسهل بكثيرٍ تكوين الحياة من اللاحياة. وبناءً على وجود مواد كيميائية حيوية مثل الأحماض الأمينية في جميع أنحاء الكون، يبدو أنَّ نشأة الحياة أسهل كثيرًا مما قد تتوقع. وحالما ظهرت الحياة، الْتهمت جميع العناصر الغذائية الغنية بحيث لا يمكن لأي مخلوقات أخرى استغلالها؛ ومن ثَم منعت نشأة الحياة مرة أخرى. ما ينبغي أن نتذكره إذن هو: «في ظل الظروف الحالية على الأرض مع وجود الأكسجين الحر، فإن التولد التلقائي لا يحدث.»

ثانيًا: كيف يمكن للمصادفة العشوائية أن تقوم بتجميع شيء معقد مثل الحياة؟ نرى مجددًا أنَّ هذه الفرضية التي تنطوي عليها هذه الحجة خاطئة تمامًا. صحيحٌ أن التنوع الجيني يحدث بسبب طفرات الصدفة وإعادة التركيب الجيني، لكن التطور لا يحدث بالصدفة؛ فالانتخاب الطبيعي عملية غير عشوائية تتخلص من الأقل لياقةً من بين تلك الكائنات التي تتمتع باللياقة. ثمة تشبيه قديم يذهب إلى أن قيامَ قرد بالضرب على مفاتيح الآلة الكاتبة عشوائيًّا سيؤدي إلى كتابة أعمال شكسبير؛ احتماليةٌ ضئيلة للغاية. (هذا التشبيه قديم من الناحيتين؛ لأن الآلات الكاتبة قد انقرضت تقريبًا.) يمكننا، بدلًا من ذلك، تقديم تشبيه أفضل بكثير لقرد لديه مدقق إملائي في برنامج معالجة الكلمات الخاص به. يقوم المدقق الإملائي بإصلاح الأخطاء وتصحيحها تلقائيًّا عندما يميز مجموعة من الكلمات السليمة، ويزيل العديد من سلاسل الحروف غير المنطقية الناتجة عن ضرب لوحة المفاتيح بشكل عشوائي. إنَّ الانتخاب الطبيعي شبيه بمدقق إملائي غير عشوائي يتخلص من التركيبات السيئة التي تنشأ عن طريق الصدفة، ويفضِّل التركيبات السليمة. إذا أجريتَ عددًا من عمليات المحاكاة الحوسبية البسيطة لهذه العملية؛ فستجد أنه من الممكن إنتاج تسلسل من كلمات ذات معنًى في بضع عشرات إلى بضع مئات من مرات تكرار هذا الروتين؛ إذ يقوم البرنامج بحذف الأخطاء وانتخاب التوليفات السليمة فحسب. في كتابَي «صانع الساعات الأعمى» (١٩٨٦) و«صعود جبل اللااحتمال» (١٩٩٦)، يقدِّم ريتشارد دوكينز العديد من الأمثلة المثيرة والنماذج الحوسبية التي تُظهِر مدى سهولة القيام بذلك.

ثمة تشبيهات أخرى طُرِحت، وهي أيضًا خاطئة، تفترض أن الصدفة العشوائية هي الآلية المسئولة. كان عالم الفلك فريد هويل (وحاكاه فيما بعدُ دوان جيش) هو مَن صاغ التشبيه الخاطئ الشهير لإعصار في ساحة خردة يقوم بتجميع طائرة من طراز بوينج ٧٠٧ (مرة أخرى، تشبيه عتيق من بطولة طائرة عمرها ٦٠ عامًا). لكن التطور ليس بقوة عشوائية مدمرة كإعصار أو عاصفة مدارية، بل برنامج كمبيوتر للتدقيق الإملائي، بطيء منهجي مصلِّح، يبني النظام من مكونات عشوائية من خلال إعدادات برمجة تنتخب التوليفات الناجحة.

كثيرًا ما يقول منكرو العلم: «كيف يمكن للخطوات العديدة اللازمة لصنع خلية معقدة أن تحدث بالصدفة العشوائية؟ إن الاحتمالية المنافية لحدوث هذا هائلة جدًّا!» سوف يشرعون بعد ذلك في إجراء عملية حسابية غير منطقية، بناءً على الافتراض الخاطئ بأن كل شيء يعمل بالصدفة. وكما يعلم أي شخص على دراية بالاحتمالات، لا يمكنك طرح مثل هذه الحجة بعد وجود الواقع. وإذا قمت بذلك، فإن أي تسلسل معقد من الأحداث سيكون غير محتمل، على الرغم من حدوث بعض هذه الأحداث بالفعل. خلال إحدى المناظرات، طلبتُ ذات مرة من الجمهور المكون من عدة مئات تقدير احتمال أن جميع الأحداث التي وقعت في حياتهم ستحدث بالفعل بعد حقيقة وقوعها، واحتمالية أن ينتهي بهم الأمر جميعًا في هذه الغرفة في هذه اللحظة بالذات. إن احتمالية عدم وقوع هذا الحدث هائلة بالطبع. وباستخدام حجج الاحتمالية لخصمي في المناظرة، أشرت إلى أن هذا الجمهور لم يكن من الممكن أن يوجد! دعونا إذن نُنحِّ هذه المقارنات الزائفة والحجج الخاطئة، ولْنراجع الأبحاث العلمية المؤكدة بشأن كيفية نشأة الحياة.

يمكننا تتبع البحث في مسألة نشأة الحياة ودراستها إلى داروين الذي اقترح نموذجًا لنشأة الحياة في رسالةٍ كتبها عام ١٨٧١ إلى صديقه عالم النبات جوزيف هوكر (راجع الاقتباس في بداية الفصل). تكهَّن داروين بأن «بِركة صغيرة دافئة» تحتوي على الخليط المناسب من المركَّبات الكيميائية (سماها العلماء اللاحقون بدافع الفكاهة: «الحساء البدائي») والمصادر المناسبة للطاقة يمكن أن تُنتِج بروتينات. وفي عشرينيات القرن الماضي توصَّل عالم الكيمياء الحيوية الروسي إيه آي أوبارين، وعالم الوراثة البريطاني جيه بي إس هالدين إلى فكرة أن الأرض كانت تحتوي في الأصل على غلافٍ جويٍّ مختزِل، يحتوي على النيتروجين وثاني أكسيد الكربون والأمونيا (NH3) والميثان أو الغاز الطبيعي (CH4)، لكنه لا يحتوي على أكسجين حر. إن هذا الغلاف الجوي، إضافةً إلى محيط يقابله، يمثِّلان الحساء البدائي المثالي لإنتاج مركَّبات عضوية بسيطة.
في عام ١٩٥٣ قرر ستانلي ميلر، طالب الدراسات العليا الشاب بجامعة شيكاجو، اختبار فرضية أوبارين، بالتعاون مع مستشاره، الكيميائي هارولد أوري. نال أوري بعد ذلك جائزة نوبل في الكيمياء عن إنجازاته العديدة في كيمياء النظائر، بما في ذلك اكتشاف الديوتيريوم، وطريقة فصل النظائر اللازمة لصنع القنابل النووية في مشروع مانهاتن. أراد ميلر معرفة ما إذا كان مثل هذا الحساء البدائي يمكن أن يولِّد مواد كيميائية حيوية. فقام ببناء جهاز بسيط مكوَّن من أنابيب زجاجية شكَّلت حلقة متصلة مُحكَمة الغلق، وقام بإخراج كل الهواء (بما في ذلك الأكسجين) بواسطة مِضَخة تفريغ. وضخَّ في هذه الأنابيب المفرغة «غلافًا جويًّا» جديدًا غنيًّا بثاني أكسيد الكربون والنيتروجين والميثان والأمونيا والماء (ولكن بدون أكسجين حر). بعد ذلك، قام بتسخين قارورة «المحيط» في القاعدة لبدء دوران البخار، واستخدم الشرارات في قارورة أخرى لمحاكاة «البرق» كمصدر للطاقة (الشكل ١٧-١). وفور أن مرَّ البخار المحمَّل بالميثان والأمونيا ﺑ «البرق»؛ برَد البخار بفعل المكثِّف، وتدفَّق الماء السائل عائدًا إلى قارورة «المحيط».
fig84
شكل ١٧-١: نموذج للجهاز الذي استخدمه ستانلي ميلر وهارولد أوري في عام ١٩٥٣، لمحاكاة تخليق المركَّبات العضوية المعقدة على الأرض في بداية تاريخها. فُرِّغ الهواء من الجهاز، واحتفظت القارورة الكبيرة ﺑ «غلاف جوي» غني بثاني أكسيد الكربون والماء والنيتروجين والأمونيا والميثان (ولكن بدون أكسجين). حاكت شرارات من الأقطاب الكهربائية البرق، ثم تدفق ناتج هذا التفاعل عبر المكثف وتراكم في القارورة، التي أصبحت بمثابة «حساء بدائي». بعد حوالي أسبوع، تحول المحلول الصافي إلى وحل بني عَكِر سميك مليء بالمركبات العضوية الحديثة التخليق، بما في ذلك العديد من الأحماض الأمينية اللازمة لبناء الحياة. (بتصريح من ستانلي ميلر)
لقد أسفرت هذه التجربة البسيطة عن نتائج مذهلة. في غضون أيام، استحال المحلول الصافي «للمحيط» بُنيًّا مصفرًّا، مع تكوُّن مواد كيميائية جديدة، وفي غضون أسبوع، تحوَّل المحلول إلى مادة لزجة غنية بالمواد العضوية لونها بني داكن. وعندما قام ميلر بتحليلها، وجد أنه قد أنتج بالفعل أربعة من الأحماض الأمينية العشرين المستخدَمة في صنع البروتينات، إضافةً إلى العديد من الجزيئات العضوية البسيطة والمهمة، مثل السيانيد (HCN) والفورمالدهايد (H2CO). من خلال تجربة واحدة رائعة، استهلَّ ميلر توظيف مجال البحث الكيميائي الحيوي في مسألة نشأة الحياة.

صحيحٌ أن الأحماض الأمينية أكثر تعقيدًا بكثير من المواد الكيميائية التي بدأ بها ميلر، لكنه أوضح أن إنتاجها سهل بدرجة كبيرة. ثمة مختبرات أخرى أجرت فيما بعد تجارب مماثلة لتلك التي أجراها ميلر، وأنتجت ١٢ حمضًا أمينيًّا من أصل العشرين حمضًا الموجودة في الحياة. لقد نتج عن إجراء التجارب على خليط من السيانيد المخفَّف سبعةُ أحماض أمينية. وأيًّا كانت التجربة التي تصممها، فإنها لن تتطلب قوًى خارقة للطبيعة، أو حتى أكثر من بضعة أيامٍ في المختبر لصنع اللبنات الأساسية للحياة. في الواقع، إن تجربة ميلر بسيطةٌ للغاية، حتى إنه يمكن لأي شخصٍ القيام بها، إذا كانت لديه إمكانية الوصول إلى مختبرٍ كيميائي مناسب ومضخة تفريغ والغازات المناسبة، وتوجد مقالات على الإنترنت تصف كيفية إعداد تجربة ميلر-أوري. في السنوات التي تلت تجارب ميلر الأصلية، وجد علماء آخرون ٧٤ نوعًا من الأحماض الأمينية المختلفة حبيسة في النيازك التي تشكلت في النظام الشمسي الأصلي (ومنها جميع الأحماض الأمينية العشرين الموجودة في الأنظمة الحية). إن إنتاج الأحماض الأمينية أمر سهل بدرجة كبيرة؛ لذلك يمكننا أن نفترضَ أنها كانت موجودةً في محيطات الأرض في بداية تكوُّنها (مثلما كانت في بعض الأحجار النيزكية وفي جميع أنحاء الفضاء على ما يبدو).

لكننا مهتمون بالمواد الكيميائية الحيوية الأكثر تعقيدًا، والمعروفة باسم البروتينات، والتي تتكون من سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية. البروتينات هي اللبنات الأساسية لمعظم الأنظمة الحية. ويحتاج الكائن الحي أيضًا إلى سلاسل معقدة أخرى تتكون من لبنات بناء بسيطة. فنحن بحاجة إلى ليبيدات (وهي شائعة في الزيوت والدهون)، وتتكون من سلسلة طويلة من الأحماض الدهنية المرتبطة بالكحولات. ونحتاج أيضًا إلى مزيج الكربوهيدرات والنشويات التي تتكون من سلاسل طويلة من السكريات البسيطة مثل الجلوكوز. ونحتاج إلى أحماض نووية (الحمض النووي الريبوزي، والحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين)، وكلاهما يتكون من سلاسل معقدة من السكريات، والفوسفات، والقواعد الأربعة (الأدينين، والثايمين، والسيتوزين، والجوانين)، والتي تحمل الشفرة الوراثية اللازمة لعمل نُسَخ من الكائن الحي. إن جميع هذه الجزيئات المعقدة عبارة عن بوليمرات تتشكل من خلال ربط مكونات أبسط معًا، من خلال تفاعل يسمَّى البلمرة (الشكل ١٧-٢). فكيف إذن نُنشِّط تفاعلات البلمرة؟
fig85
شكل ١٧-٢: تتمثل الخطوة التالية لنشأة الحياة في ترتيب وحدات البناء الأصغر، في سلاسل أطول وأكثر تعقيدًا (البلمرة). ومن التفاعلات الشائعة ربط العديد من الأحماض الأمينية معًا لتشكيل البروتينات، وهي اللبنات الأساسية للحياة؛ وبلمرة السكريات البسيطة إلى كربوهيدرات معقدة، وهي المكون الأساسي لجدران الخلايا، ومصدر طاقة مهم في عملية التمثيل الغذائي؛ وربط السكريات والفوسفات والنيوكليوسيدات معًا لصنع الحمض النووي والحمض النووي الريبوزي، وهما يمثلان الشفرة الجينية الأساسية لجميع أشكال الحياة. (بتصريح من جيه ويليام شوبف)

اتضح لاحقًا أنه من السهل بدء العديد من هذه التفاعلات، وإنتاج بوليمرات قصيرة السلسلة. في خمسينيات القرن الماضي، قام سيدني فوكس برشِّ محلولٍ من الأحماض الأمينية على الصخور البركانية الساخنة الجافة، وشكَّل هذا الخليط العديد من البروتينات الموجودة في الحياة. وفي وجود الفورمالديهايد، تُشكِّل بعض السكريات كربوهيدرات معقدة بسهولة. أدت تجارب ميلر المبكرة أيضًا إلى إنتاج مكونات الأحماض النووية، مثل القاعدة النوكليوتيدية؛ الأدينين (من خلال تسخين محاليل مائية من السيانيد)، وإنتاج الأدينين زائد الجوانين (من خلال توجيه الكثير من الأشعة فوق البنفسجية إلى سيانيد الهيدروجين المخفَّف).

fig86
شكل ١٧-٣: تحتوي بعض المواد الكيميائية العضوية على خصائص تمكِّن الخلايا من التشكل تلقائيًّا بدون تفاعلات عضوية معقدة. الليبيدات، وهي اللبنات الأساسية للدهون والزيوت، لها طرف يطرد الماء وطرف يرتبط بالماء. تصطف هذه الخصائص التي تجذب الدهون إلى الماء أو تبعدها عن الماء تلقائيًّا، ثم تتحد لتشكل أغشية. عندما يختلط الزيت بالماء، يشكِّل غشاءً طبيعيًّا يغلف قطرة، وهو يشبه الغشاء الذي يتكوَّن من ليبيدات ثنائية الطبقة والذي يحيط بجميع الخلايا. (بتصريح من جيه ويليام شوبف)
وبالنسبة إلى إنتاج الليبيدات، فهو أكثر سهولة حتى من ذلك (الشكل ١٧-٣). تتكون اللبنات الأساسية للِّيبيدات من كحول قابل للذوبان في الماء، وجليسرول في أحد طرفيها، وسلسلة طويلة من الأحماض الدهنية على الطرف الآخر. الطرف الكحولي محب للماء (قابل للذوبان في الماء)، وطرف الأحماض الدهنية كارهٌ للماء (لا يذوب في الماء). عندما تضع شيئًا من الليبيدات في الماء، يتوجَّه الطرف المحب للماء من الجزيء نحو الماء، والحامض الدهني الكاره للماء يبتعد عن الماء. مع وجود كمية كافية من الليبيدات، يمكنك إنشاء ليبيدات ثنائية الطبقة، حيث تصطفُّ جميع الليبيدات وتتجمع معًا في نفس الاتجاه، مما يسمح لها بالارتباط معًا. أنت ترى هذا التفاعل في أي وقت تضع فيه قطرة من الزيت في ماء، أو قطرة ماء في زيت. كما يعلم الجميع، فإن الزيت والماء لا يختلطان، بل يشكلان تكتلات سائلة منفصلة تفصل بينها ليبيدات ثنائية الطبقة. وقد اتضح أن الأغشية البسيطة لدى معظم الكائنات البدائية هي أيضًا ليبيدات ثنائية الطبقة. إذن، فإنتاج غشاء لأكثر الكائنات الحية بدائيةً هو ببساطة صنع صلصة من الزيت والماء!

عندما تُجفَّف هذه القطرات من الدهون ثم يعاد ترطيبها مرة أخرى، فإنها تشكل كرات تركز أي حمض نووي موجود بمقدار يصل إلى ١٠٠ ضعف. فهذه القطرات الصغيرة من الليبيدات الثنائية الطبقة مع الأحماض النووية المحبوسة بداخلها، تحتوي على جميع خصائص «الحياة الأولية». أنتج أوبارين تكتلات سماها «كواسيرفات»، وأنتج سيدني فوكس بنًى مماثلة سماها «بروتينويدات». تتصرف هذه القطرات مثلما تتصرف الخلايا الحية إلى حد كبير؛ إذ تتماسك معًا عندما تتغير الظروف، وتنمو وتتبرعم تلقائيًّا إلى قطرات وليدة. وهي تعمل بشكل انتقائي على امتصاص مركبات معينة وإطلاقها، في عملية مشابهة للتغذية البكتيرية وإخراج الفضلات. وبعضها أيضًا يقوم بالتمثيل الغذائي لمادة النَّشا! صحيحٌ أن هذه الخلايا الأولية ليست حية، لكنها تتمتع بمعظم خصائص الخلايا الحية، وجميعها قد نشأت عن تفاعلات كيميائية بسيطة إضافةً إلى حرارة.

من السهل نسبيًّا تكوين اللبنات الأساسية للحياة في مختبر للكيمياء العضوية؛ أحماض أمينية، وبروتينات قصيرة السلسلة، وسكريات، ونشويات بسيطة؛ وأحماض دهنية زائد كحول لصنع ليبيدات ثنائية الطبقة وأغشية الخلايا؛ وأحماض نووية قصيرة لنقل المعلومات الجينية، لكن معظم الأنظمة الحية تتألف من جزيئات يبلغ طولها من مئات إلى آلاف الوحدات. من الصعب تجميع هذه الجزيئات إذا كانت وحدات البناء الفردية تتصادم عشوائيًّا بعضها مع بعض في محلول، لكن لدينا طريقة أكثر كفاءة وطبيعية بدرجة أكبر لتقريب هذه الجزيئات من بعضها؛ كي ترتبط في النمط الصحيح لتكوين جزيئات معقدة. غالبًا ما يستخدم علماء الكيمياء العضوية محفزًا، وهو نوع من مادة غير عضوية تُضاف إلى المحلول لتسريع التفاعل. وفي الطبيعة، يمكن للعديد من هذه المحفزات أن تساعد في اصطفاف اللبنات الأساسية للحياة، في إطار مُتراصٍّ بإحكام من الجزيئات. يمكن اعتبار هذه المحفزات بمثابة «قوالب» أو «دعامات»؛ فهي إطار خارجي غير عضوي يحافظ على الجزيئات العضوية الأصغر في موضعها، حتى تصطفَّ جميعها في الاتجاه الصحيح، وتصبح مكتظَّة إلى أن يتدافع أحدها مع الآخر. يمكننا تشبيه الجزيئات في هذه الحالة بمجموعة من الأشخاص في إحدى حفلات الروك، وقفوا — في الساحة الواقعة أمام المسرح — قريبين كتفًا إلى كتف، وكلهم متوجهون نحو المسرح. إذا كانوا مكتظين بما فيه الكفاية، فقد ترتبط حلقات آذانهم الكبيرة وأقراطهم الأخرى بعضها ببعض، فيشكلون سلسلة بشرية محكَمة. وبالمثل أيضًا، إذا جُمِعت الجزيئات العضوية في الاتجاه الصحيح على مقربة من بعضها البعض، فإن «قُرطَيها» (OH− وH+، أو الهيدروكسيل والهيدروجين، البارزَين من نهاية كل سلسلة) سيتصلان (انظر الشكل ١٧-٢)، فيَنتُج عن ذلك جزيئان أكبر حجمًا يرتبط أحدهما بالآخر.
فما القوالب أو الدعامات التي قد تكون قادرة على تحفيز مثل هذه التفاعلات؟ أكثرها ملاءمةً هو ذهب الأحمق، أو بشكل أدق، المعدن المعروف باسم البيريت (كبريتيد الحديد FeS2). للبيريت مظهر ذهبي معدني؛ ولهذا سُمي بذهب الأحمق. لكن البيريت معدن له أهمية في حالات معينة، لا سيما في السوائل الشديدة الاختزال الناضبة من الأكسجين، والتي يتَّحد فيها الحديد مع الكبريت بدلًا من الأكسجين. تُعتبر كبريتيدات الحديد شائعة في المياه المحيطية العميقة التي تعاني من نقص الأكسجين، مثل قاع البحر الأسود، حيث تشكل ظروف الاختزال كبريتيدات الحديد بدلًا من أكاسيد الحديد التي توجد عادة في الطَّفْل الصفحي الأسود. يوجد البيريت بكثرة بشكل خاص في المَنافس المائية الحرارية الموجودة في حَيد وسط المحيط، أو «الأدخنة السوداء» (الشكل ١٧-٤)، حيث ترتفع الكبريتيدات الذائبة من قشرة المحيط مع الماء الشديد الحرارة من الحجرة الصهارية في حيد وسط المحيط. وهذا مثير للغاية للاهتمام؛ إذ زعم عدد من العلماء أن الطبيعة الكيميائية لهذه المَنافس التي تبثُّ الكبريتيد مثالية لإنتاج أقدم أشكال الحياة. فالأمر لا يقتصر على وجود قدر كبير من الطاقة في شكل حرارة بركانية، وإنما يزعم العديد من الكيميائيين أيضًا أن البيريت هيكل أو قالب جيد. فأسطح البيريت البِلَّورية مشحونة كهربائيًّا؛ ومن ثَم تنجذب الجزيئات العضوية إليها تلقائيًّا، وترتبط بطرَفَيها ذوَي الشحنات المتضادة. وعندما تتكتل الجزيئات العضوية مثل حلقة رقص مكتظة، فسوف ترتبط ببعضها عن طريق تفاعل التكثيف، وتقوم بتشكيل مواد كيميائية حيوية طويلة السلسلة على هيكل البيريت.
fig87
شكل ١٧-٤: في الوُديان المتصدِّعة البركانية العميقة بحَيد وسط المحيط، تندلع حمم بركانية جديدة بينما تتفكك القشرة المحيطية. تقوم الصهارة بتسخين مياه البحر التي تتسرب من خلالها إلى درجات حرارة شديدة، وتشكِّل أعمدة من الماء المغلي والمعادن الذائبة المعروفة باسم «الأدخنة السوداء». والراسب الرئيسي لهذا التفاعل هو البيريت (كبريتيد الحديد، أو ذهب الأحمق)، وهو أيضًا قالب جيد لربط المواد العضوية المعقدة. وقد وجد علماء الأحياء أن أبسط أشكال الحياة جينيًّا، وهي البكتيريا القديمة، شائعة في الأدخنة السوداء، مما يتفق مع الفرضية القائلة بأن الحياة نشأت في فُوَّهات في أعماق البحار. وتُمثِّل تلك البكتيريا القديمة قاعدة سلسلة غذائية تضم مجموعة ضخمة من المحار العملاق، والديدان الأنبوبية، وسرطان البحر، والعديد من المخلوقات الفريدة الأخرى التي لا توجد إلا في مجتمعات أعماق البحر المظلمة. لا يوجد ضوء في هذا العمق؛ لذا فإن النظام بأكمله لا يعتمد على التمثيل الضوئي، بل على التخليق الكيميائي حيث توجد البكتيريا المختزِلة للكبريت (بدلًا من النباتات) في قاعدة السلسلة الغذائية. (بتصريح من الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي)

لنظرية مَنفس حيد وسط المحيط المتعلقة بنشأة الحياة ميزة أخرى أيضًا؛ فالمنفس معزول عن معظم الأحداث على سطح الأرض، ومستقر للغاية. حتى عندما ضربت النيازك الأرض قبل فترة تتراوح بين ٤٫٦ و٣٫٩ مليارات سنة، وبخَّرت المحيطات الضحلة مرارًا وتكرارًا، ظلت المنافس الموجودة في أعماق المحيطات آمنةً. ويتضح من التقارب الأخير لخيوط الأدلة أمر مثير للاهتمام، وهو أن الكائنات الحية الأكثر بدائية على الأرض، البكتيريا القديمة أو بكتيريا «آركيا»، توجد في نفس الظروف القاسية المتمثلة في المياه الشديدة السخونة ووفرة الكبريت.

إننا لا نفتقر إلى آليات جيدة لتجميع الجزيئات العضوية الصغيرة تلقائيًّا، لتشكل تلك المواد الكيميائية الحيوية الطويلة السلسلة التي تتطلبها الحياة. تتوافق بعض هذه النماذج المقترحة أيضًا مع مجموعةٍ متزايدة من الأدلة، التي تُشير إلى أن الحياة نشأَت في المنافس البركانية في أعماق البحار، وليس في «بركة داروين الصغيرة الدافئة»، كما كان يُعتقَد لفترة طويلة.

لقد قمت بإيضاح أن أصول المواد الكيميائية الحيوية الأساسية (الأحماض الأمينية والبروتينات والسكريات والكربوهيدرات والليبيدات وأغشية الخلايا، إضافة إلى الأحماض النووية) اللازمة للحياة؛ يمكن إنتاجها بسهولة عن طريق تفاعلات كيميائية طبيعية بسيطة، لدرجة أن بعضها يحدث في الفضاء. ترتبط هذه البوليمرات البسيطة القصيرة السلسلة بسهولة وتلقائية بعضها ببعض، في البوليمرات الطويلة السلسلة عن طريق التحفيز على هياكل بعض القوالب غير العضوية، مثل البيريت. تعطينا جميع هذه الخطوات حمضًا نوويًّا مغلَّفًا بغطاء من ليبيد ثنائي الطبقة، له العديد من وظائف تمثيل الغذاء شبيهة بتلك الموجودة في الخلايا الحية. الخلاصة أنَّ شكل الحياة الافتراضي هذا لا يختلف كثيرًا عن الخلايا البكتيرية الأكثر بدائية، وهي أبسط الكائنات الحية المعروفة، والتي لا تعدو كونها حمضًا نوويًّا مغلَّفًا بغشاء خلوي، ويقوم ببعض الوظائف الإضافية الأخرى.

إن البكتيريا وغيرها من الكائنات البسيطة للغاية هي كائنات بدائيات النَّوى، أي إنَّ جينات الحمض النووي الخاصة بها (إما «آر إن إيه» أو «دي إن إيه») تطفو في الخلية بدون نواة. عادةً ما تكون بدائيات النَّوى بالغة الضآلة (يبلغ قُطرها بضعة ميكرونات فقط) وبسيطة للغاية. إن أقدم الحفريات المعروفة (من صخور يزيد عمرها عن ٣٫٤ مليارات سنة في أستراليا وجنوب أفريقيا) تتسم في الحجم والشكل بما يُمكِّننا أن ننسبها بثقة إلى بدائيات النَّوى، ومنها البكتيريا الخضراء المزرقة (البكتيريا الزرقاء، التي كانت تُعرَف خطأً قبل ذلك باسم «الطحالب الخضراء المزرقة») وأنواع أخرى من البكتيريا. أما الكائنات الحية الأكثر تعقيدًا، فتُعرَف باسم حقيقيات النَّوى، وهي تتألف من الخلايا الحقيقية النواة (توجد في الحيوانات والنباتات والفطريات)، وهي أكبر بحوالي ١٠ مرات من خلية بدائية النواة (الشكل ١٧-٥). جميع جينات الحمض النووي محاطة بغشاء يحيط بالنواة، ودائمًا ما تحتوي الخلايا الحقيقية النواة على بنًى إضافية (عُضَيات) داخل جدار الخلية. منها، على سبيل المثال، البلاستيدات الخضراء، وهي مواقع التمثيل الضوئي في الخلايا النباتية؛ والميتوكوندريا — وهي «محطات توليد الطاقة» في الخلية — حيث يجري تبادل الطاقة باستخدام الأدينوسين الثلاثي الفوسفات والأدينوسين الثنائي الفوسفات؛ وأجهزة جولجي التي تعالج البروتينات وتقوم بتعبئتها؛ والشبكة الإندوبلازمية التي تصنع البروتينات والليبيدات والستيرويدات ومواد كيميائية أخرى، إضافة إلى تنظيم تركيز الكالسيوم وستيرويدات أخرى؛ والأجزاء الخارجية، مثل الأهداب الشبيهة بالشعر التي تُستخدَم في الدفع، أو السوط، الذي يُشبِه سَمِيَّه بالفعل؛ حيث يزوِّد الخلية بالقدرة على الحركة بسرعة عبر السوائل. لقد ظلت كيفية تطور جميع هذه البُنى المعقدة من لا شيء لغزًا كبيرًا لفترة طويلة.
fig88
شكل ١٧-٥: بدائيات النَّوى، كالبكتيريا البدائية والبكتيريا الحقيقية، هي خلايا صغيرة يبلغ قطرها بضعة ميكرونات فقط. ومادتها الجينية (دي إن إيه) ليست محاطة بنواة، بل تطفو داخل الخلية، ولا توجد بها عُضَيات. أما حقيقيات النَّوى (جميع الكائنات الحية الأخرى) فلديها خلايا أكبر وأكثر تعقيدًا، وبكلٍّ منها نواة منفصلة تحتوي على حمضها النووي. قد يكون لديها أيضًا عدد من العُضيات الأخرى، بما في ذلك الميتوكوندريا، والبلاستيدات الخضراء، وجهاز جولجي، والشبكة الإندوبلازمية، والأهداب، والسوط وغيرها من الهياكل الخلوية. (من دونالد بروثيرو، «التطور: ما تخبرنا به الحفريات وأهميته»، الطبعة الثانية. [نيويورك: كولومبيا يونيفرستي برِس، ٢٠١٧])
في عام ١٩٦٧، اقترحت عالمة الأحياء لين مارجوليس حلًّا ثوريًّا لهذه المشكلة (كان عالم النبات الروسي كونستانتين ميريشوفسكي قد اقترح نسخة من هذه الفكرة في عام ١٩٠٥، لكنها قد نُسيت بحلول ذلك الوقت). بدلًا من العملية الصعبة المتمثلة في تطور العضيات من لا شيء، ذهبت مارجوليس إلى أن كل عُضَية موجودة في الخلية الحقيقية النواة، كانت ذات يوم خلية بدائية النواة تعيش في علاقةٍ تكافليةٍ داخل خلية أخرى، حتى أصبحت في النهاية جزءًا منها (الشكل ١٧-٦). تُعرَف هذه الفكرة باسم نظرية النشوء التعايشي. لقد بدأت البلاستيدات الخضراء فيما يبدو كبكتيريا زرقاء، وهي بكتيريا ضوئية، وإن كانت بدائية النواة لا تحتوي على عضيات. والبكتيريا الأرجوانية غير الكبريتية لها بنية الميتوكوندريا نفسها ووظيفتها، ويبدو أنها تمثِّل أصل الميتوكوندريا. ونجد أن السوط يتألف من تركيب ٩ + ٢ من الألياف (تسع مجموعات من الأنيبيبات الدقيقة المزدوجة المحيطة بزوج من أنيبيبات دقيقة مفردة في المركز)، وتتطابق هذه البنية مع بنية بدائيات النَّوى المعروفة باسم البكتيريا الملتوية، والتي تسبب أيضًا المرض المعروف باسم الزهري. وعندما بدأت كلٌّ من بدائيات النَّوى الصغرى تعيش داخل خلية أكبر، حوَّلت وظائفها إلى وظائف مضيفها؛ فاستحالت البكتيريا الزرقاء إلى بلاستيدات خضراء، أصبحت الآن مركز القيام بعملية التمثيل الضوئي، وأصبحت البكتيريا الأرجوانية غير الكبريتية ميتوكوندريا، وأدَّت دور محول الطاقة للخلية.
fig89
شكل ١٧-٦: وفقًا للين مارجوليس، نشأت الخلايا الحقيقية النواة المعقدة من خليتين أو أكثر من الخلايا البدائية النواة التي اجتمعت لتعيش تكافليًّا. يبدو أن البكتيريا الزرقاء هي سلائف البلاستيدات الخضراء التي تقوم بعملية التمثيل الضوئي في الخلايا النباتية. تمتلك البكتيريا الأرجوانية غير الكبريتية نفس البنية والشفرة الجينية التي تمتلكها الميتوكوندريا التي توفر الطاقة في الخلية. وللسوط بنية بدائيات النَّوى نفسها المعروفة باسم البكتيريا الملتوية، وهي البكتيريا المسببة لمرض الزهري. (دونالد بروثيرو، «التطور: ما تخبرنا به الحفريات وأهميته»، الطبعة الثانية. [نيويورك: كولومبيا يونيفرستي برِس، ٢٠١٧])

إضافة إلى أوجُه التشابه المُفصَّلة بين بدائيات النوى والعضيات، أشارت مارجوليس إلى العديد من خطوط الأدلة الأخرى الداعمة لفكرتها. فهذه العضيات لا تطفو عادة داخل غشاء الخلايا الحقيقية النواة، بل هي معزولة عن بقية الخلية داخل أغشية خاصة بها، مما يشير بقوة إلى أنها أجسام غريبة دُمِجت جزئيًّا داخل خلية أكبر. ثم إن كلًّا من الميتوكوندريا والبلاستيدات الخضراء يصنع بروتينات بتشكيلته الخاصة من المسارات الكيميائية الحيوية، والتي تختلف عن تلك التي تستخدمها بقية الخلية. وتتأثر البلاستيدات الخضراء والميتوكوندريا أيضًا بالمضادات الحيوية، مثل الستربتومايسين والتتراسيكلين، وهما يتمتعان بفعالية في قتل البكتيريا وغيرها من بدائيات النوى، بينما لا تتأثر بها بقية عضيات الخلية. والأكثر إثارةً للدهشة أن الميتوكوندريا والبلاستيدات الخضراء يمكن أن تتكاثر بمحض الانقسام إلى خلايا وليدة، مثل بدائيات النوى. فلدى الميتوكوندريا والبلاستيدات الخضراء آلياتُ تكاثر مستقلة خاصة بها لا يصنعها سيتوبلازم الخلية. إذا فقدت خلية ما الميتوكوندريا أو البلاستيدات الخضراء فلا يمكنها تعويض ما فقدَتْه بإنتاج المزيد.

لقد لاقت أفكار مارجوليس المدهشة مقاومة كبيرة عندما اقتُرِحت لأول مرة، منذ أكثر من ٥٠ عامًا. لكن علماء الأحياء بدءوا يدركون وجاهة الفكرة عندما رأَوا المزيد والمزيد من الأمثلة على التكافل في الطبيعة. فنحن البشرَ لدينا الملايين من المعايشات الداخلية (معظمها من البكتيريا) على جلودنا وبداخلنا. أمعاؤنا مليئة بالبكتيريا الإشريكية القولونية (اختصارًا إي كولاي)، والتي نعرفها من أطباق بتري، ومن التحذيرات الإخبارية حول تسرب مياه الصرف الصحي أو المطابخ الملوثة. إنَّ هذه البكتيريا هي التي تقوم بدلًا عنا بالقدر الأكبر من عملية الهضم؛ إذ تحلل الطعام إلى مغذيات مقابل الحصول على منزل داخل أحشائنا. إنَّ البراز يتكون في معظمه من الأنسجة البكتيرية الميتة بعد الهضم، إضافة إلى الألياف غير القابلة للهضم، والمواد الأخرى التي لا يمكننا تمثيلها غذائيًّا. يوجد العديد من الأمثلة الأخرى على التعايش الداخلي في الطبيعة. فالنمل الأبيض والسلاحف البحرية، والماشية والغزلان والماعز، والعديد من الكائنات الحية الأخرى كلها من الكائنات التي تعيش بداخلها بكتيريا أمعاء متخصصة تساعد في تكسير السليلوز غير القابل للهضم، مما يُمكِّن هذه الحيوانات من أكل المواد النباتية بكفاءة. وتستضيف جميع الشعاب المرجانية الاستوائية والمحار العملاق طحالب تكافلية في أنسجتها، وهي تنتج الأكسجين، وتزيل ثاني أكسيد الكربون، وتساعد على إفراز المعادن لأصدافها الكبيرة.

وجاء الدليل الأقوى عندما بدأ العلماء في دراسة العضيات عن قرب بدرجة أكبر، ووجدوا أنَّ الأمر لا يقتصر على أنَّ لديها البنية الصحيحة التي تثبت أنها كانت ذات يوم خلايا بدائية النواة مستقلة وحسب، بل تمتلك أيضًا الشفرة الجينية الخاصة بها! فلكلٍّ من الميتوكوندريا والبلاستيدات الخضراء الحمض النووي الخاص بهما، والذي يختلف في تسلسله عن الحمض النووي الموجود في نواة الخلية. واقع الأمر أنَّ الحمض النووي للميتوكوندريا يتطور بمعدل مختلف عن الحمض النووي في النواة، وهو مختلف بما يكفي لأن يُستخدَم في الإجابة عن أسئلة التطور، التي لا يستطيع الحمض النووي في النواة الإجابة عنها. ولن يكون هذا منطقيًّا إذا حاولَتِ الخلية الحقيقية النواة صنع العضيات من لا شيء. لن يكون لدى العضيات شفرة جينية خاصة بها إذا كان ذلك صحيحًا. وهذا الاكتشاف أحد أقوى الأدلة على أن الحياة تطورت ولم تُخلَق.

والعامل الحاسم هو أن العديد من الخلايا الحية المتعايشة داخليًّا تثبت أن هذه العملية تحدث الآن. إن حقيقيات النواة الأبسط، مثل أميبا المياه العذبة بيلوميكسا والجيارديا (المعروفة بالتسبب في مرض الدوسانتاريا من المياه الملوثة) تفتقر إلى الميتوكوندريا، ولكنها تحتوي على بكتيريا تكافلية تؤدي نفس الوظيفة التنفسية. وفي المختبرات، رصد العلماء بعض أنواع الأميبا التي أدمجت بكتيريا معينة في أنسجتها كمتعايشات داخلية. فذوات الجُسيم القاعدي التي تعيش في أحشاء النمل الأبيض تستخدم بكتيريا ملتوية كعضو للحركة بدلًا من السوط. إن أفكار مارجوليس التي بدأت كتكهنات جامحة في عام ١٩٦٧، أصبحت هي المقبولة الآن كأفضل تفسير ممكن لأصل حقيقيات النواة والعضيات.

لذلك، وخلافًا للاعتقاد الشائع، فإن نشأة الحياة من خلال عمليات طبيعية ليست بالأمر البعيد الاحتمال، ولا هي عملية يصعب تخيُّلها. والحق أنَّ العلماء حاكَوا جميع الخطوات تقريبًا في المختبر، بدءًا من تخليق الأحماض الأمينية (الموجودة في جميع أنحاء الكون) إلى بلمرة الجزيئات الحيوية البسيطة في اللبنات الأساسية للحياة الطويلة السلسلة، مثل البروتينات والليبيدات والكربوهيدرات والأحماض النووية؛ إلى كائناتٍ كيميائيةٍ حيوية أكثر تعقيدًا تأسست على سطح مشحون من البيريت في فوهات الأدخنة السوداء في أعماق البحار؛ حيث يوجد أكثر أشكال الحياة بدائية (البكتيريا القديمة) اليوم. وقد اكتشفنا بعد ذلك كيفية تجميع الخلايا الحقيقية النواة المعقدة، مع تحوُّل الخلايا البدائية النواة المتعايشة داخليًّا إلى عضياتها. توجد أدلة قوية (مباشرة أو غير مباشرة) على أن جميع هذه المراحل قد حدثت بالفعل، وقد حاكى العلماء معظم هذه المراحل في المختبر.

في السنوات الأخيرة، رصد العديد من الباحثين جينات جديدة تتطور في أنابيب الاختبار، وجينات جديدة تجمع نفسها في أشكال حياة أكثر تعقيدًا، ورصدوا أيضًا نشأة حياة متعددة الخلايا من حياة أحادية الخلية في أنبوب الاختبار. في إحدى التجارب، لاحظ العلماء وجود سلالتين مختلفتين من الحمض النووي الريبوزي تتطوران وتتغيران وتتنافسان أيضًا إحداهما مع الأخرى. إننا لم ننتج الحياة نفسها في أنبوب اختبار حتى الآن، لكن نشأة الحياة ليست بهذا الغموض، ولن تظل بدون إجابة. فجميع الخطوات التي أدت إلى نشأة الحياة معروفة جيدًا، وقد أكدت النتائج المختبرية كل خطوة منها على طول الطريق.

قراءات إضافية

  • Cone, Joseph, Fire Under the Sea: The Discovery of the Most Extraordinary Environment onEarth: Volcanic Hot Springs on the Ocean Floor, New York: Morrow, 1991.
  • Fry, Iris, The Emergence of Life on Earth: A Historical and Scientific Overview, New Brunswick, N.J.: Rutgers University Press, 2000.
  • Knoll, Andrew H., Life on a Young Planet: The First Three Billion Years of Evolution on Earth, Princeton, N.J.: Princeton University Press, 2003.
  • Knoll, Andrew H. and Sean B. Carroll, “Early Animal Evolution: Emerging View from Comparative Biology and Geology,” Science 284 (1999): 2129–2137.
  • Hazen, Robert M., Gen-e-sis: The Scientific Quest for Life’s Origins, New York: Joseph Henry Press, 2005.
  • Margulis, Lynn, Symbiosis in Cell Evolution, San Francisco, Calif.: W. H. Freeman, 1981.
  • ______, Symbiotic Planet: A New Look at Evolution, New York: Basic Books, 2000.
  • Miller, Stanley L., “A Production of Amino Acids Under Possible Primitive Earth Conditions,” Science 117, no. 3046 (1953): 528–529.
  • Schopf, J. William, Cradle of Life: The Discovery of Earth’s Earliest Fossils, Princeton, N.J.: Princeton University Press, 1999.
  • ______, Life’s Origin: The Beginnings of Biological Evolution, Berkeley: University of California Press, 2002.
  • Shapiro, Robert, Origins: A Skeptic’s Guide to the Creation of Life on Earth, New York: Summit, 1986.
  • Wills, Christopher and Jeffrey Bada, The Spark of Life: Darwin and the Primeval Soup, New York: Perseus, 2000.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤