الفصل الثامن عشر

باحة مخلَّفات جينية

أغلب حمضنا النووي عديم الفائدة

الانتخاب الطبيعي يمحِّص جميع التنويعات الموجودة في العالم بأكمله على مدار اليوم والساعة؛ لينبذ منها ما هو سيئ، ويحفظ ما هو جيد ويضيف إليه، وهو يعمل بصمت ودونما وعي على تحسين الظروف الحياتية العضوية وغير العضوية لكل من الكائنات الحية، وذلك متى توفرت الفرصة وأينما توفرت. ونحن لا ندرك شيئًا من هذه التغيرات البطيئة بينما تحدث، وإنما ندركها بعد أن يدور عقرب الزمن دهورًا طويلة، وحتى حينذاك، يظل فهمنا للعصور الجيولوجية في الماضي السحيق قاصرًا.

تشارلز داروين، «أصل الأنواع» (۱٨٥٩)

كان عام ١٩٥٣ علامة فارقة في تاريخ العلم. ففي جامعة شيكاجو، أجرى ستانلي ميلر التجارب الأولى في مجال أصل الحياة (انظر الفصل السابع عشر). وفي مرصد لامونت-دورتي الجيولوجي بجامعة كولومبيا، اكتشف موريس «دوك»، وبروس هيزن، وماري ثارب، الوادي المتصدع في حيد وسط المحيط الأطلسي، ورسموا خرائط له، وكان ذلك الدليل الأول على أنَّ تمدد قاع البحر يحدث بين صفائح القشرة المحيطية، وقد أصبح أساس نظرية الصفائح التكتونية بعد عقد من الزمن. وفي ذلك العام أيضًا، نشر آلان تورينج واحدةً من أكثر الأوراق البحثية تأثيرًا في علوم الكمبيوتر. وأعلن جوناس سالك عن أول لقاح ضد شلل الأطفال. واتضح زيف جمجمة «إنسان بلتداون» أخيرًا. وأعلن فريدريك رينز وكلايف كوان عن أول اكتشاف ناجح للنيوترينوات. وفي مختبر بجامعة كامبريدج، اكتشف عالمان شابان، هما فرانسيس كريك وجيم واتسون، تركيب جزيء الحمض النووي، وأكدا أنه «الشفرة» التي تستخدمها جميع الكائنات الحية لبناء أجسادها، ولصنع نُسخ من أنفسها تُنقَل إلى الأجيال التالية.

بعد أول فيض من الاكتشافات التي أكدت أن الحمض النووي هو مخطط الحياة، وبعد التوصل إلى بنيته التفصيلية وآلية نسخه وترجمته، بدأ علم الوراثة في الانتقال إلى موضوع أكبر هو معرفة الشفرة الجينية نفسها. لقد أظهرت دراسات الحمض النووي المبكرة أن تركيب الشريط المزدوج الذي يتخذه الحمض النووي بمثابة «عمود فقري» خارجي مصنوع من الفوسفات والسكر (الريبوز أو الريبوز المنقوص الأكسجين)، ويأتي على شكل «سُلَّم» ملتوٍ بشكل حلزوني (الشكل ١٨-١). تمثلت «درجات» السُّلم في سلسلة من القواعد النيتروجينية، وهي: الأدينين والثايمين والجوانين والسيتوزين (A وT وG وC). (في الحمض النووي الريبوزي (آر إن إيه)، يحل اليوراسيل محل الثايمين). يتحد كلٌّ من هذه القواعد مع السكر والفوسفات الموجودَين في السُّلم، وتُسمَّى الوحدة الناتجة عن هذا الاتحاد بالنوكليوتيد.
fig90
شكل ١٨-١: بنية جزيء الحمض النووي. تشكل السكريات والفوسفات «العمود الفقري» للجزيء الذي يتخذ شكل الشريط المزدوج، وتشكل القواعد المختلفة (الأدينين، الثايمين، الجوانين، السيتوزين) «درجات» السلم؛ إذ ترتبط كل قاعدة مع القاعدة المقابلة لها، فتتشكل «الشفرة الجينية» من تسلسل هذه الأزواج القاعدية على طول الحمض النووي.
منذ وقت مبكر في عام ١٩٥٩، اكتشفت مجموعة من الباحثين، بقيادة فرانسيس كريك أن كل ما يتطلبه الأمر لتشفير بروتين هو تسلسل من ثلاثة نوكليوتيدات متتالية (يسمَّى كودون). وبعد ذلك، استخدم مارشال نيرنبرج وهاينريش ماتاي، اللذان يعملان بالمعاهد الوطنية للصحة، تقنية ذكية لمعرفة أي ثلاثة نوكليوتيدات في كودون تشفِّر أي بروتين. قام نيرنبرج وماتاي بتركيب خيط من «آر إن إيه» من اليوراسيلات فحسب (UUUUUU…)، وأنتجا البروتين: فينيل ألانين. قدَّما نتائجهما في المؤتمر الدولي للكيمياء الحيوية في موسكو عام ١٩٦١. كان فرانسيس كريك منبهرًا للغاية، حتى إنه أقنع المؤتمر بالاستماع إلى حديث نيرنبرج مرة أخرى في اليوم التالي أمام الجمع بأكمله. وأوضحا بعد ذلك أن سلسلة من قواعد الأدينين فقط (AAAAA…) أنتجت البروتين لايسين، وأنتجت مجموعة من قواعد السيتوزين (CCCCCCC…) البروتين برولين. وسرعان ما انصبَّ التركيز في مجال علم الأحياء الجزيئي على سباق التشفير، حيث تنافس العديد من المختبرات لمعرفة من سيمكنه فك الشفرة الجينية أولًا.

كان مختبر سيفيرو أوتشوا في جامعة نيويورك (بعدده الكبير من العاملين) متصدرًا في السباق. ولم يكن مختبر نيرنبرج الصغير التابع لمعاهد الصحة الوطنية قادرًا على المنافسة؛ فنحَّى العديد من زملائه العلماء في المعاهد الوطنية للصحة أبحاثهم الخاصة جانبًا؛ لمساعدته في التوصل إلى تسلسل أكبر قدر ممكن من الشفرة الجينية. وصف ديويت ستيتن، مدير المختبر، هذه الفترة بأنها «أفضل أيام المعاهد الوطنية للصحة». وأخيرًا، في أوائل الستينيات قام هار جوبيند خورانا من جامعة كولومبيا البريطانية بفك رموز بقية الشفرة الجينية. كان هذا الاكتشاف بالغ الأهمية، حتى إن نيرنبرج وخورانا وآر دبليو هولي (الذي اكتشف الحمض النووي الريبوزي الناقل الذي يقرأ الشفرة الجينية) تشاركوا جميعًا جائزة نوبل في الطب لعام ١٩٦٨.

وعند فك الشفرة الجينية، اتضح للعلماء مدى تكرارها، وكان ذلك صادمًا. ففي التسلسل الثلاثي القواعد، كان كل ما يهم عادة هو أول «حرفين» (= قاعدتين) في الشفرة (الشكل ١٨-٢). ففي معظم الأحيان، تكون القاعدة الثالثة (الحرف) مكررة، ولا تغير الحمض الأميني الذي يُنتَج. على سبيل المثال، أي تسلسل يبدأ بالقاعدتين GU… ينتج فالين، وأي تسلسل يبدأ ﺑ AC… ينتج ثريونين، وما يبدأ ﺑ CG… ينتج أرجينين. عدد قليل فقط من الشفرات يستلزم الحرف الثالث لتحديد الحمض الأميني الذي تنتجه، وحتى في تلك الحالات، يوجد في العادة خياران محتملان (على سبيل المثال، نجد أنَّ كلًّا من CAU وCAC ينتجان هيستيدين، بينما ينتج كلٌّ من AAA وAAG لايسين). إنَّ هذه التوليفات الأربعة والستين الممكنة، المكونة من ثلاثة أحرف، لا تحدد سوى الأحماض الأمينية العشرين اللازمة للحياة، إضافة إلى عدد قليل من شفرات «التوقف» (لإنهاء النسخ)، وشفرة «البدء» (لبدء النسخ).
fig91
شكل ١٨-٢: الشفرة الجينية. يحدَّد كل بروتين من خلال كودون «ثلاثي» يتألف من ثلاثة أحرف من بين المجموعة؛ أدينين وجوانين وسيتوزين ويوراسيل. ستلاحظ أنَّه يمكن تحديد معظم الأحماض الأمينية من خلال الحرفَين الأولَين فقط، بينما لا يشكل الحرف الثالث فرقًا؛ فهو محايد تكيفيًّا، وجميع الطفرات في هذا الموضع صامتة وغير انتخابية. (دونالد بروثيرو، «التطور: ما تخبرنا به الحفريات وأهميته»، الطبعة الثانية. [نيويورك: كولومبيا يونيفرستي برِس، ٢٠١٧])

في عام ١٩٦٢، لاحظ بعض العلماء هذا التكرار، وأدركوا أن الطفرات في الموضع الثالث (الصامت) في الكودون ستكون غير ملحوظة للانتخاب الطبيعي. وفي عام ١٩٦٨، طوَّر موتو كيمورا في ورقته البحثية «معدلات التطور على المستوى الجزيئي» فكرة أن معظم الجينوم لم يتأثر على ما يبدو بالانتخاب الطبيعي؛ ومن ثَم فهو محايد انتخابيًّا، وظهرت في العام التالي حُجة أكثر جذرية، وكان ذلك في بحثٍ من تأليف جيه إل كينج وتوماس جوكس بعنوان «التطور غير الدارويني». وسرعان ما طوَّر كيمورا وكينج وجوكس ما أصبح يُعرَف باسم «نظرية التطور المحايدة».

شكَّلت هذه النظرية صدمة لمجتمع علماء الأحياء التطورية آنذاك، وأتذكر بوضوح أنني تلقيت مقررات في علم الأحياء التطوري من بعض الداروينيين الجدد المتشددين في جامعة كولومبيا، في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، والذين كانوا ما يزالون يؤمنون بالانتخاب الشامل الدقيق، بمعنى أن أي اختلاف، مهما كان طفيفًا، خضع لسيطرة الانتخاب الطبيعي، سواء تمكَّنا من رصده أم لا. وهذه الفكرة تعود إلى داروين نفسه الذي كتب عام ١٨٥٩ في كتابه «أصل الأنواع» أن الانتخاب الطبيعي يمحِّص كل اختلاف (راجع الاقتباس الوارد في بداية الفصل).

لكن في الوقت نفسه الذي كنت أسمع فيه هذه المفاهيم القديمة، كانت نظرية التطور المحايدة تزداد ترسخًا. فلم يكن من الممكن لأحدٍ بالطبع أن ينكر أن الموضع الثالث على الكودون صامت في أغلب الأحوال؛ ومن ثَم لن يكون لأي طفرة عشوائية في هذا الموضع تأثيرٌ على البروتين الناتج فلا يلاحظها الانتخاب الطبيعي. إنَّ ثلث الشفرة الجينية على الأقل محايدٌ تمامًا، ولا يمكن رؤيته، ولا يتأثر بالانتخاب الخارجي.

أصبح التكرار في الجينوم أكثر وضوحًا، عندما أثبتت سلسلةٌ من الدراسات أن معظم الكائنات الحية لديها من المواد الجينية أكثر مما تحتاج إليه بكثير، ومعظم هذه المواد هي ببساطةٍ حمض نووي غير مُشفر (يُسمَّى «مخلفات الحمض النووي»)؛ فهو لا يُقرأ ولا يؤثر في الكائن الحي. جاء الدليل الأول من تجربةٍ شهيرةٍ أجراها ريتشارد لوينتين وجاك هابي في عام ١٩٦٦، واللذان أثبتا فيها (بطريقة الرحلان الكهربائي للهلام، التي صارت قديمة الآن) أن معظم الكائنات الحية تتسم في حمضها النووي بتنوعٍ يفيض عن حاجتها، مما يعني أن الجزء الأكبر من الحمض النووي غير مقروء، لا بد، وزائد عن الحاجة. ومع نضوج علم الأحياء الجزيئي في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، أصبحت قراءة تسلسل الأحماض الأمينية أكثر شيوعًا، وبحلول عام ٢٠٠٠ أصبح بالإمكان قراءة الحمض النووي الكامل للكائن الحي؛ لذلك أصبح هذا التكرار أكثر وضوحًا.

ومثلما كتب جون سوندمان في مقالته الصادرة عام ٢٠١٣ بعنوان «كيف فككت شفرة الجينوم البشري»:

تحدث معي كينت بلغة النُّجَباء المهووسين، مستخدمًا عبارات غريبة خرقاء، مثل استخدامه لكلمة «بنًى» في صيغة الاسم: «هذه أحدث بنية للجينوم. البنية ٣١». كنت معتادًا على سماع علماء الأحياء يتحدثون عن أناقة الحمض النووي بأسلوب يكاد يقترب من التقديس. وعلى النقيض من ذلك، تحدث كينت عن الحمض النووي كما لو كان شفرة مكتوبة بصيغة «الاسباجيتي» المتشابكة والأكثر تعقيدًا، والأسوأ توثيقًا، والتي تُعَد وسائل صيانتها شديدة العشوائية؛ فلم يتحدث عنه باعتباره أروع ما خلقه الرب، بل باعتباره عملًا عشوائيًّا أنتجه شخصٌ غير بارع، وهو محمَّل بعدد لا نهائي من الآثار الجانبية، و«طفيليات لا حصر لها».

قال: «إنه نظام أضخم من أن يُهندَس عكسيًّا. فالحمض النووي شفرة لآلة. الجينات مُجمعة، والبروتينات لغات عالية المستوى مثل لغة البرمجة سي، والخلايا تشبه العمليات … لا ينطبق هذا التشبيه تمامًا في بعض التفاصيل، لكنه يقدم رؤًى مفيدة.» قال كينت إنه كان من المستحيل تقريبًا التفرقة بين الشفرة الوظيفية وبين تلك العديمة الفائدة. «هذا هو السبب في أن الكثير من الناس يقولون إنَّ «الجينوم مخلفات».» لكن هذا أيضًا ما وجده مثيرًا للاهتمام؛ فالشفرة العالية الجودة دائمًا ما تكون مباشرة وواضحة، أما لغة التجميع التي تنتقل من جيل إلى جيل من المرتجلين المرقعين (أقتبس هنا بتصرف مرة أخرى) فيمثل لغزًا حقيقيًّا لمَن يحبون الألغاز.1
إن الدليل الأكثر وضوحًا على التكرار هو أن حجم الجينوم لا يدل في كثير من الأحيان على تعقيد الكائن الحي. يُعرَف هذا باسم «مفارقة القيمة س»، أو «اختبار البصل»؛ إذ يتعارض ذلك مع الفكرة المبسطة التي تذهب إلى أن الكائنات الحية الأكثر تعقيدًا يجب أن يكون لها جينومات أكبر كي تُشفِّر كل هذا التعقيد. صاغ هذه التسمية عالِم الأحياء الكندي تي ريان جريجوري، وهو يشير إلى حقيقة أن البصل الشائع يحتوي على خمسة أضعاف الحمض النووي للإنسان، ومع ذلك فهو أبسط من الإنسان بكثير! وتحتوي بعض أنواع السلمندر على حمض نووي أكبر من الحمض النووي للبشر بخمسة وثلاثين ضعفًا، وتحتوي أسماك الرئة على ٤٠ ضعفًا من الحمض النووي للبشر. ويمتلك أحد أنواع الغزلان حمضًا نوويًّا يزيد عن الحمض النووي لأقرب أقربائه بنسبة ٢٠ بالمائة، ويحتوي نوعٌ من الأسماك الينفوخية على حمض نووي يبلغ ١٠٠ ضعف الحمض النووي لنوع آخر من الجنس نفسه. وفي النباتات، لا توجد علاقة بين التعقيد والحمض النووي، فالباقلاء تحتوي على حمض نووي أكبر من الحمض النووي للفاصوليا ذات الشكل الكلوي بمقدار أربعة أضعاف. حتى بعض الميكروبات الوحيدة الخلية لديها حمض نووي أكبر من البشر، والديدان الأسطوانية البسيطة (الديدان الخيطية) وجرجير الماء لها نفس كمية الحمض النووي التي يمتلكها الإنسان. إنَّ العلاقة بين كمية الحمض النووي ومدى تعقيده تقريبية في أحسن الأحوال (الشكل ١٨-٣). غالبًا ما تحتوي الكائنات الوحيدة الخلية على جينومات أصغر من جينومات الكائنات الحية المعقدة، لكن يوجد الكثير من الاستثناءات لفكرة أن المزيد من الحمض النووي ضروريٌّ للتعقيد الزائد. إذا كان البصل يحتوي على خمسة أضعاف كمية الحمض النووي التي نمتلكها، وكان لدى السلمندر وسمك الرئة من ٣٥ إلى ٤٠ ضعفًا من الحمض النووي للبشر، فمن الواضح أن معظم هذا الحمض النووي لا يُشفِّر المزيد من التركيبات؛ فهو غير مُشفِّر ولا يفعل شيئًا.
fig92
شكل ١٨-٣: كمية الحمض النووي في مجموعات مختلفة من الكائنات الحية. من الواضح أنه لا توجد علاقة بسيطة بين كمية الحمض النووي ومدى تعقيد الكائنات الحية. (بتصريح من تي ريان جريجوري)

وثمة دليل آخر أيضًا، وهو أنه لن يحدث شيء إذا حذفنا بعضًا من هذا التسلسل المتكرر غير المُشفِّر الذي يُعد بمثابة المخلفات. ففي عام ٢٠٠٤، أجرى العلماء تجربة حذفوا فيها ما يقرب من ثلاثة في المائة من جينوم الفأر الذي بدا أنه متكرر وغير مُشفِّر، واستمرت الفئران في التكاثر دون آثار سلبية. فإذا كان هذا الحمض النووي وظيفيًّا، فكيف أمكن للفئران الاستمرار في التكاثر بدونه؟

ما هي وظيفة كل هذا القدر من الحمض النووي العديم الفائدة إذن، إذا كانت له وظيفة من الأساس؟ يمكن أن يقوم بعضه بوظيفة الحفاظ على التباعد بين المناطق المُشفِّرة، أو يمكن استخدامه للمساعدة في الحفاظ على شكل الطيات المعقدة لشرائط الحمض النووي الطويلة. ومن أمثلة هذه المناطق غير المُشفِّرة ما يلي:

  • (١)

    الإنترونات: قطع من الحمض النووي التي كانت مقروءة في البداية، ولكنها عُدِّلت بعد ذلك أثناء التضفير الجيني النهائي.

  • (٢)

    الجينات الزائفة: أجزاء من الحمض النووي فقدت قدرتها على تشفير البروتينات.

  • (٣)

    الحمض النووي التكراري: في أجزاء كثيرة من الجينوم، يتكون الحمض النووي من الكودونات نفسها التي تتكرر مرارًا وتكرارًا مئات المرات، ولا يبدو أنها تُشفِّر أي شيء.

  • (٤)

    الينقولات: «جينات قافزة» يمكنها القفز من جزء من الحمض النووي إلى جزء آخر، ولا يُعبَّر عنها رغم ذلك.

  • (٥)

    عناصر نووية قصيرة الانتشار وعناصر نووية طويلة الانتشار: أجزاء من الحمض النووي عالقة في منتصف تسلسل مُشفِّر ليس لها وظيفة، ولا يمكنها تشفير البروتينات.

  • (٦)

    حمض نووي غير أساسي غير مُشفِّر محفوظ بدرجة عالية: يوجد على نحو متَّسق في تسلسلات العديد من الكائنات الحية، مما يشير إلى أهميته، ومع ذلك يمكن إزالته بدون أي تأثير على الإطلاق.

لعل أكثر هذه الجينات العديمة الفائدة إثارةً للاهتمام هي الفيروسات الراجعة الداخلية. تعمل معظم الفيروسات عن طريق تعديل آلية الخلايا المضيفة، مما يحمل المضيف على عمل المزيد من نُسَخ الفيروس. لكن الفيروسات الراجعة (بما في ذلك فيروس نقص المناعة البشرية، وهو الفيروس المسبب لمرض الإيدز، وفيروس آخر يسبب جدري الماء/الهِربِس النُّطاقي) أكثر خبثًا حتى من ذلك. فهي تُدخِل شفرتها الجينية في الحمض النووي للكائن المضيف، ويقوم المضيف بعمل نُسخ من الفيروس بشكل مباشر. غير أنَّ هذه الآلية التي تؤدي إلى تشغيل الفيروسات الراجعة الداخلية، وصنع المزيد من نُسخها مُعطَّلة في العديد منها. إن هذه الفيروسات عدوى أحفورية بالأساس، أي أجزاء قديمة من شفرة وراثية أصابت أسلافنا منذ ملايين السنين، ونُسِخت مرارًا وتكرارًا منذ ذلك الحين. تشكِّل الفيروسات الراجعة الداخلية المنقرضة نسبة تتراوح بين خمسة وثمانية بالمائة من الجينوم البشري، لكنها عبارة عن حمض نووي عديم الفائدة تمامًا نحمله إلى الأبد. والأكثر إثارة للاهتمام هو أننا نتشارك العديد من الفيروسات الراجعة الداخلية مع أقاربنا من القردة؛ لذلك يجب أن تكون قد انتقلت هذه الأنواع من العدوى قبل أن يتشعب البشر والقردة منذ أكثر من سبعة ملايين سنة. إن بعض هذه الفيروسات الراجعة الداخلية تنتقل عبر الجزء الأكبر من شجرة عائلة الفقاريات، مما يشير إلى أن هذه العدوى الأحفورية تعود إلى عدة ملايين من السنين، وهي لا تزال باقية في حمضنا النووي رغم ذلك.

إن علماء الأحياء التقليديين المؤمنين بالانتخاب الشامل يواجهون معضلات في معالجة كل هذه الأدلة، وبدلًا من ذلك، تجدهم يتشبثون بأي جزء من علم الأحياء يبدو أنه يدعم معتقداتهم. في عام ٢٠١٢، أحدثت وسائل الإعلام ضجة كبيرة عندما ذهب مشروع إنكود ENCODE الذي يرمز إلى الاسم «موسوعة عناصر الحمض النووي» إلى أن ٨٠٪ من الجينوم بالفعل ينتج بروتينات من نوع ما. وقد اهتم العديد من علماء الأحياء بهذه المعلومة بالطبع، لتأكيد اعتقادهم بأن الحمض النووي وظيفي كله. لكن مشروع إنكود أقر أيضًا بأن ما لا يقل عن ٢٠ بالمائة من الحمض النووي غير مُشفِّر؛ ومن ثَم فهذا لا يطمئن مؤيدي الانتخاب الشامل، لكنهم لم يلاحظوا ذلك وادعَوا أنَّ مزاعمهم قد ثبتت.

اتضح أن نتائج إنكود كانت أفضل من أن تُصدَّق. وقد أدت دراسة أجراها دان جراور وزملاؤه في عام ٢٠١٣ إلى دحض هذه النتائج تمامًا؛ إذ أكَّدت مجددًا أن معظم الجينوم (٩٠ بالمائة منه على الأقل، وربما ٩٨ بالمائة) غير مُشفِّر. النقطة الرئيسية هي أن دراسة إنكود لم تثبت سوى أن بعض الجينوم المسمَّى «مخلفات» يشفِّر بالفعل بروتينًا ما. غير أنها لم تثبت ما إذا كانت هذه البروتينات المعزولة العشوائية جزءًا من مسار كيميائي حيوي وظيفي، أو مؤديةً إلى أية نتائج متعلقة بالنمط الظاهري أم لا. إذا كان البروتين ناتجًا من الحمض النووي الذي يُعد من المخلفات لكنه لا يقوم بأي وظيفة، فهو لا يزال مخلفات.

إن حقيقة أن معظم الحمض النووي في أي كائن حي محايد انتخابيًّا، ويبدو أنه لا يشفر لأي شيء؛ فسَّرَت اكتشافًا آخر من ستينيات القرن الماضي. في عام ١٩٦٢، لاحظ العالمان الأسطوريان لينوس باولينج وإميل زوكركاندل أن عدد الاختلافات الجينية بين نوعَين مرتبطَين يتناسب مع المدة الزمنية المنقضية منذ انقسامهما إلى سلالات مختلفة. كلما طالَت المدة التي انقضت منذ انقسام أي نوعَين، زاد ما تراكم بينهما من اختلافاتٍ جينية. وعن ذلك كتب عالم أحياء جزيئية مشهور آخر، إيمانويل مارجولياش، في عام ١٩٦٣:

يبدو أن عدد الاختلافات المتبقية بين السيتوكروم سي لأي نوعين، مشروطٌ في الغالب بالوقت المنقضي منذ تباعد خطوط التطور التي أدَّت إلى هذَين النوعَين في الأصل. إذا كان هذا صحيحًا، فيجب أن يكون السيتوكروم سي لجميع الثدييات مختلفًا بالدرجة نفسها عن السيتوكروم سي لجميع الطيور. نظرًا لأن الأسماك تتباعد عن الجذع الرئيسي لتطور الفقاريات قبل الطيور أو الثدييات، فإن السيتوكروم سي لكل من الثدييات والطيور يجب أن يكون مختلفًا بالدرجة نفسها عن السيتوكروم سي للأسماك. وبالمثل، يجب أن يكون السيتوكروم سي لجميع الفقاريات مختلفًا بالدرجة نفسها عن بروتين الخميرة.2
يشير هذا الاكتشاف الرائع إلى أن الحمض النووي الخاص بكلٍّ من النوعين كان يتغير باستمرار بمرور الوقت. وكلما طالت فترة تغيره، زادت الاختلافات التي تراكمت لدى كلٍّ منهما. والأكثر إثارة للدهشة أنه كان متوافقًا للغاية مع وقت التباعد؛ ولهذا فإنَّ درجة الاختلاف في جزيئات مثل السيتوكروم سي لدى معظم الفقاريات تُقدَّر بنسبة تتراوح من ١٣ إلى ١٤ بالمائة فقط، بينما تبلغ هذه النسبة لدى الكائنات الأقل قرابةً، مثل النباتات والخميرة، من ٦٤ إلى ٦٩ بالمائة. لم يكن هذا يشير إلى إمكانية استخدام الجزيئات في إعادة بناء شجرة عائلة الحياة (انظر شكل ٧-٣) وحسب، بل أشار أيضًا إلى أن معدل التغيير كان ثابتًا تقريبًا، مثل دقات الساعة. أصبحت هذه الفكرة تُعرَف باسم «الساعة الجزيئية»، وقد سمحت لعلماء الأحياء الجزيئية بتقدير المدة التي انقضت، منذ أن تفرعت السلالات المختلفة عن شجرة تطورها المشتركة.

جاءت الفكرة القائلة بأن التغييرَ المتراكمَ ببطء في الحمض النووي بمرور الوقت ثابتٌ كدقَّات الساعة؛ متَّسقةً مع فكرة الحياد والحمض النووي غير المُشفِّر. فلم يكن من الممكن لهذه التغييرات أن تتراكم ببطء، بفعل الحوادث الجينية العشوائية والانحراف الجيني، ما لم تكن غير مرئيةٍ للانتخاب الطبيعي. ذلك أنه لو كان معظم الحمض النووي يخضع لرقابةٍ صارمةٍ من الانتخاب الطبيعي، لما وجدنا تطابقًا كبيرًا بين وقت التباعد والمسافة الجينية. إن كلًّا من أدلة الحيادية المستقاة من الموضع الثالث غير المرئي على الكودونات، ووجود الكثير من الحمض النووي غير المُشفِّر، وحقيقة أن الحمض النووي يتغير بمعدل ثابت بينما يتجاهل تأثيرات الانتخاب الطبيعي؛ يرسم صورة متسقة للجينات، معظم الحمض النووي غير مقروء ومحايد أو غير مرئي للانتخاب الطبيعي. كانت هذه فكرة صادمة للعديد من علماء الأحياء المتشبثين بمفاهيم الانتخاب الشامل في الستينيات.

من الأفكار الأخرى الشائعة التي كانت مترسخة في دراسات التطور الجزيئي المبكرة أن كل جين يشفر لبروتين واحد، وهما يتحدان فيما بعد ليشكلا صفة مميزة واحدة. عُرِف هذا فيما بعد بمبدأ «جين واحد، بروتين واحد». لكن اكتشاف الحمض النووي الذي يُعد نفاية يدحض هذه الفكرة القديمة بالكامل. فالأمر لا يقتصر على أنَّ معظم الجينات لا تشفر أي بروتين على الإطلاق، بل إن بعض الجينات الأخرى تشفر أكثر من بروتين واحد (وهو ما يُعرَف بتعدد النمط الظاهري). إذا كان الانتخاب يحتفظ بجين معين متعدد النمط الظاهري لأنه يُشفِّر صفة بالغة الأهمية، فإن جميع الصفات الأخرى التي يحددها قد «تُنقَل» سلبًا، حتى لو كانت محايدة انتخابيًّا أو ضارة قليلًا.

إن أصابع أقدامنا الكبيرة هي مثال على ذلك. لقد وُضعَ الكثير من التكهنات بشأن سبب امتلاك الإنسان لإصبع قدم كبيرة، واحتمالية أن يكون انتخابه مفيدًا لمشيتنا وخطواتنا. لكن هذا لا معنى له. إن إصبعَ القدم الكبيرةَ متضخمة؛ لأنها مرتبطة من الناحية الجينية والكيميائية الحيوية بإبهاماتنا المتضخمة التي توفر لنا مزايا تكيُّفية عديدة. ولا يمكننا الحصول على واحدة دون الأخرى. والواقع أنَّ بعض الدراسات تشير إلى أن أصابع القدم الكبيرة تسبب لنا مشاكل عند الجري والمشي؛ ومن ثَم قد توجد درجةٌ ضعيفةٌ من الانتخاب ضدها، لكن مزايا الارتباط بين تعددية النمط الظاهري والإبهام المعاكسة الكبيرة تتغلب عليها. في هذه الحالة، قد يسمح الانتخاب الطبيعي لصفات ضارة بالاستمرار، لمجرد أنها مرتبطة بصفاتٍ أكثر أهمية توفر ميزةً انتخابيةً قويةً إيجابية. إضافة إلى ذلك، فإنَّ العديد من الصفات يستلزم جيناتٍ متعددةً لإنتاج صفة واحدة فقط؛ فالتعقيد أكثر بكثيرٍ مما كان يمكن لعلماء الأحياء الجزيئية تخمينه في الستينيات.

الآن، وبعد مرور أكثر من ٦٧ عامًا على اكتشاف بنية الحمض النووي لأول مرة، ابتعدنا عن المفاهيم التبسيطية على غرار: «جين واحد يشفر بروتينًا واحدًا»، وأن الحمض النووي مصمم بشكل مثالي، وأن الانتخاب الطبيعي يضبطه بدقة باستمرار، وأنه أعجوبة من التكيف، أو أنه من «صنع الرب». بدلًا من ذلك، صرنا نعرف الآن أن الحمض النووي ونظام التشفير الجيني بأكمله أخرق وغير فعَّال ومرتجَل، ويتكون في معظمه من نفايات وأجزاء غير ضرورية. وهو يبدو أسوأ تصميمًا من بعض أعضاء الجسد التي تعمل بكفاءة. فهو كما قال كينت يبدو «كما لو كان شفرة مكتوبة بصيغة «الاسباجيتي» المتشابكة والأكثر تعقيدًا، والأسوأ توثيقًا، والتي تُعَد وسائل صيانتها شديدة العشوائية، فلم يتحدث عنه باعتباره أروع ما خلقه الرب، بل باعتباره عملًا عشوائيًّا أنتجه شخص غير بارع، وهو محمَّل بعدد لا نهائي من الآثار الجانبية، و«طفيليات لا حصر لها».»

قراءات إضافية

  • Carey, Nessa, Junk DNA: A Journey Through the Dark Matter of the Genome, New York: Columbia University Press, 2015.
  • Doolittle, W. Ford, “Is Junk DNA Bunk? A Critique of ENCODE,” Proceedings of the National Academy of Sciences of the United States of America 110, no. 14 (2013): 5294–5300.
  • Gregory, T. Ryan, ed., The Evolution of the Genome, Amsterdam: Elsevier, 2005.
  • Graur, Dan, Yichen Zheng, Nicholas Price, Ricardo B. R. Azevedo, Rebecca A. Zufall, and Eran Elhaik, “On the Immortality of Television Sets: ‘Function’ in the Human Genome According to the Evolution-Free Gospel of ENCODE,” Genome Biology and Evolution 5, no. 3 (2013): 578–590.
  • Hubby, J. L., and R. C. Lewontin, “A Molecular Approach to the Study of Genic Heterozygosity in Natural Populations: I. The Number of Alleles at Different Loci in Drosophila Pseudoobscura,” Genetics 54, no 2 (1966): 577–594.
  • Kimura, Motoo, The Neutral Theory of Molecular Evolution, Cambridge: Cambridge University Press, 1983.
  • ______, “The Neutral Theory of Molecular Evolution,” Scientific American 241, no. 5 (1979): 98–129.
  • King, Jack Lester and Thomas H. Jukes, “Non-Darwinian Evolution,” Science 164, no. 3881 (1969): 788–798.
  • Levinton, Jeffrey S., Genetics, Paleontology, and Macroevolution, 2nd ed, Cambridge: Cambridge University Press, 2001.
  • Lewontin, Richard C., The Genetic Basis of Evolutionary Change, New York: Columbia University Press, 1973.
  • Lewontin, Richard C., and J. L. Hubby, “A Molecular Approach to the Study of Genic Heterozygosity in Natural Populations: II. Amount of Variation and Degree of Heterozygosity in Drosophila Pseudoobscura,” Genetics 54, no. 2 (1966): 595–609.
  • Mindell, David P., The Evolving World: Evolution in Everyday Life, Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 2006.
  • Nelson, P. N., P. Hooley, D. Roden, H. Davari Ejtehadi, P. Rylance, P. Warren, J. Martin, and P. G. Murray, “Human Endogenous Retroviruses: Transposable Elements with Potential?” Clinical and Experimental Immunology 138, no. 1 (2004): 1–9.
  • Ohta, Tomoko, “Near-Neutrality in Evolution of Genes and Gene Regulation,” Proceedings of the National Academy of Sciences of the United States of America 99, no. 25 (2002): 16134–16137.
  • Palazzo, Alexander F. and T. Ryan Gregory, “The Case for Junk DNA,” PLoS Genetics 10, no. 5 (2014): e1004351.
  • Ridley, Mark, Evolution, 2nd ed., Cambridge, Mass.: Blackwell, 1996.
  • Wesson, Robert, Beyond Natural Selection, Cambridge, Mass.: MIT Press, 1991.
  • Wills, Christopher, The Wisdom of the Genes: New Pathways in Evolution, New York: Basic Books, 1989.

هوامش

(1) John Sundman, “How I Decoded the Human Genome,” Salon, October 21, 2003, https://www.salon.com/2003/10/21/genome_5/.
(2) Emanuel Margoliash, “Primary Structure and Evolution of Cytochrome C,” Proceedings of the National Academy of Sciences of the United States of America 50 (1963): 672–679.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤