الفصل العشرون

الأعين دليل على التطور

تطور الاستقبال الضوئي

إن افتراض أن العين — بما لها من خصائص فذة لضبط البؤرة بما يتماشى مع مسافات مختلفة، وإدخال كميات متباينة من الضوء، وتصحيح الانحراف الكروي واللوني — يمكن أن تكون قد تشكَّلت بواسطة الانتخاب الطبيعي هو افتراض لا بد أن أعترف بمنتهى الصراحة أنه يبدو منافيًا للعقل لأقصى حد. عندما قيل لأول مرة إن الشمس تقف ساكنة في مكانها والعالم يدور حولها، أعلنَ الحدس البشري أنها فكرة خاطئة، لكننا لا يمكن أن نثق بالقول القديم: «صوت الناس هو صوت الرب» في مجال العلم، وذلك أمر يعرفه كل فيلسوف. إنَّ المنطق يدلنا على أنه إذا كان بالإمكان إثبات وجود درجات عديدة من عين بسيطة وغير كاملة إلى عين معقدة وكاملة، وكل درجة تؤدي فائدة لمالكها، كما هو الحال بالتأكيد، وإذا كان الأمر أنَّ العين تتنوع باستمرار وتورث هذه التنويعات، وهو الحال أيضًا بالتأكيد، وإذا كان المفترض أن تكون مثل هذه التنويعات مفيدة لأي حيوان في ظل ظروف الحياة المتغيرة؛ فلا ينبغي اعتبار صعوبة الاعتقاد بتشكُّل العين الكاملة والمعقدة عن طريق الانتخاب الطبيعي؛ أمرًا يدحض النظرية، وإن كنا غير قادرين على تصوره. إن الكيفية التي يصبح بها العصب حساسًا للضوء لا تعنينا تمامًا، مثلما لا تعنينا كيفية نشأة الحياة نفسها، لكن يجوز لي أن أشير إلى أنه لما كانت بعض الكائنات الحية الأقل تعقيدًا التي لا يمكننا رصد أعصاب لديها، قادرةً على إدراك الضوء، فلا يبدو من المستحيل أن تتجمع في بنيتها الحيوية بعض العناصر الحساسة؛ ومن ثَم تنمو إلى أعصاب تتمتع بهذه القدرة الحسية الخاصة.

تشارلز داروين، «أصل الأنواع» (۱٨٥٩)

في كتاب «أصل الأنواع»، تناول داروين واحدًا من أكبر الاعتراضات على أفكاره، وهو ما أسماه «الأعضاء البالغة الكمال». كان داروين يعلم أن أمثلة التصميم الاستثنائي، وتناسق البنى التشريحية هي جوهر مدرسة «اللاهوت الطبيعي» القديمة، وقد بذل جهدًا كبيرًا للتأكيد على أمثلة التصميم الرديء، أو غير الفعال في الفصل التاسع من كتابه. غير أنه لم يكن يستطيع تجنُّب الحديث عن التصميم الجميل إلى الأبد. ولهذا تناوله مباشرة في الفصل السادس، وركز تحديدًا على أعضاء مثل العين. كيف أمكنَ لمثل هذه البنية المثالية أن تُنتَج بواسطة الانتخاب الطبيعي العشوائي؟ يبدو أن داروين «اعترف بصراحة» أن هذا «يبدو منافيًا للعقل لأقصى حد».

عندما نشر داروين أفكاره لأول مرة، واجه هجومًا بالفعل من النقاد، مثل سانت جورج جاكسون ميفارت، بشأن هذه القضية. لقد ظهر الاقتباس الوارد في بداية هذا الفصل في طبعات لاحقة من كتابه كإجابة مباشرة على ميفارت. والحق أنَّ منكري العلم وَلِعون باقتباس الجملة الأولى من هذا الاقتباس على وجه التحديد؛ فهم يزعمون أن داروين اعترف بأن فكرة التطور «منافية للعقل لأقصى حد». إنهم يتجاهلون بقية الاقتباس بالكامل دونما نزاهة؛ لأن الجملة الأولى بالطبع هي التي تؤسس للمعضلة الأولية، بينما يوضح باقي الاقتباس أن داروين لديه إجابة بالفعل عن الكيفية التي يمكن أن تكون قد أدت إلى تطور العين. لقد رأيتهم يفعلون ذلك في المناظرات، وبفضل هاتفي الذكي، يمكنني عرض هذا الاقتباس بالكامل وقراءته عليهم مرة أخرى. وهم إما يفشلون تمامًا في فهم ما قاله داروين، ويستمرون في الإصرار على أن الجملة الأولى فقط هي التي تهم، وإما يصمتون عن هذه المسألة ويحيلون النقاش إلى موضوع آخر.

في عام ١٨٥٩، لم يكن لدى داروين الكثير من الأدلة لدعم قضيته. استطاع أن يشير إلى أن الكائنات الحية البسيطة الشبيهة بالأميبا (كانت تسمَّى «ساركوديات» في زمن داروين) لديها خلايا حساسة للضوء في أنسجتها تساعدها على التنقل باتجاه الضوء أو بعيدًا عنه، وقد قدَّم ثلاث صفحات من أمثلة لكائنات حية تتمتع بأنواع مختلفة من الإدراك الضوئي. ولكن في زمن داروين، كان هناك القليل جدًّا من العمل الذي أُجريَ على الاستقبال الضوئي في مجموعات أخرى من الحيوانات. ومن حسن الطالع، خلال أكثر من ١٦٠ عامًا منذ نُشِر كتاب داروين، أُنجزَ قدر هائل من الأبحاث فيما يتعلق بالاستشعار الضوئي في مملكة الحيوان، ونحن نمتلك الآن تسلسلًا استثنائيًّا لأنواعٍ مختلفة من المستقبلات الضوئية والأعين، التي توضح كيف يمكن للبصر حقًّا أن يتطور. (إذا كنت مهتمًّا، فإنني أوصي بكتاب إيفان شواب من عام ٢٠١٢، المصوَّر بشكل جميل، «شاهد على التطور: كيف تطورت العيون؟»، والذي يحتوي على مئات الرسوم التوضيحية والصور الملونة التي تعرض كل أنواع العيون المعروفة تقريبًا.)

أو بعبارة داروين:

إنَّ المنطق يدلنا على أنه إذا كان بالإمكان إثبات وجود درجات عديدة من عين بسيطة وغير كاملة إلى عين معقدة وكاملة، وكل درجة تؤدي فائدة لمالكها، كما هو الحال بالتأكيد، وإذا كان الأمر أنَّ العين تتنوع باستمرار وتورث هذه التنويعات، وهو الحال أيضًا بالتأكيد، وإذا كان المفترض أن تكون مثل هذه التنويعات مفيدة لأي حيوان في ظل ظروف الحياة المتغيرة؛ فلا ينبغي اعتبار صعوبة الاعتقاد بتشكُّل العين الكاملة والمعقدة عن طريق الانتخاب الطبيعي؛ أمرًا يدحض النظرية، وإن كنا غير قادرين على تصوره.

تحدث المرحلة الأولى من هذا الانتقال، من كائنات عمياء إلى كائنات يمكنها إدراك الضوء، في العديد من الكائنات الوحيدة الخلية التي غالبًا ما تسمَّى «الطلائعيات» أو «الأوليات»، والتي كان يُطلَق على بعضها اسم «ساركوديات» في زمن داروين. يمتلك العديد من هذه الكائنات بروتينات حساسة للضوء، لا سيما تلك الكائنات التي تحمل أيضًا البلاستيدات الخضراء، والتي تقوم بعملية التمثيل الضوئي، ومنها «يوجلينا»؛ ولهذا كان لا بد لها أن تطلب الضوء وتسعى وراءه. كل ما يحتاج إليه الكائن الحي للاستقبال الضوئي هو بروتين أوبسين الحساس للضوء، الذي يحيط بالخلايا الصبغية المسماة بالخلايا الحاملة للَّون، والتي يمكنها تمييز الألوان (الشكل ٢٠-١(أ)). يُعتقد أن مثل هذه «البُقَع العينية» البسيطة، وهي مجموعة من الخلايا الحساسة للضوء، قد تطورت بشكل مستقل، ربما من ٤٠ إلى ٦٥ مرة، في سلالات حيوانية متعددة لا تجمع بينها صلة قرابة. لكن جينات تسلسل «الصندوق المثلي» نفسها هي التي تتحكم في هذه البقع العينية، وخاصة جين Pax-6 Hox (انظر الفصل التاسع عشر)؛ ومن ثَم فإن المخطط الجيني لصنع عينٍ بسيطةٍ موحدٌ في مملكة الحيوان، وحتى في الطلائعيات الأحادية الخلية. وهذا لا يحدث في المخلوقات الوحيدة الخلية فحسب، وإنما يحدث أيضًا في بعض أنواع القناديل البحرية، مثل نوع كلادونيما، الذي يمتلك مستقبلات ضوئية دون دماغ. فتنتقل الرسائل الكهربائية من أعينها إلى العضلات مباشرةً؛ لتحفيز الحركة بالنسبة لمصدر الضوء. في الكائنات الحية العليا جميعها تقريبًا، تقوم حاملات الضوء الموجودة في المستقبِل الضوئي باستقبال فوتونات الضوء، التي تتحوَّل إلى إشارة كهربائية تنتقل عبر الجهاز العصبي إلى أي عقدة عصبية مركزية، أو دماغ موجود في الكائن الحي.
المرحلة التالية في تطور العين من بقعة العين هي مستقبِل بسيط للضوء على شكل وعاء أو كوب (الشكل ٢٠-١(ب)). لا يمكن لبُقَع العين تحديد الاتجاه الذي يأتي منه الضوء، لكنَّ مستقبِلًا على شكل كوب يسمح للحيوان باكتشاف زاوية مصدر الضوء واتجاهه؛ إذ يصيب الضوء أجزاءً معينة من السطح الشبيه بالكوب مرارًا وتكرارًا. هذا هو نوع العين الموجود في الديدان المسطحة أو البلانريا، والتي تُعَد من أبسط الحيوانات ذات التناظر الثنائي والرأس والذيل (وهو ما لا يوجد في الكائنات الشعاعية الأكثر بدائية التي تسمَّى اللواسع، مثل قناديل البحر أو شقائق النعمان، أو في الإسفنج). توجد هذه العين الشبيهة بالكوب أيضًا لدى معظم الحلزونات، الحية منها والمنقرضة على الأرجح، وهي في هذه الحالة من أوائل الكائنات في أوائل العصر الكمبري القادرة على استشعار الضوء. يستخدم معظم هذه الكائنات القدرة على استشعار اتجاه الضوء للعثور على الظل والمأوى، أو استشعار ظل حيوان مفترسٍ يسبح أعلاها.
fig95
شكل ٢٠-١: مراحل تطور المستقبلات الضوئية. (أ) أبسط المستقبلات الضوئية هي بقعٌ من الخلايا المصطبغة الحساسة للضوء في الطبقة الخارجية من الأنسجة، في العديد من الكائنات الحية البسيطة. (ب) مستقبِل ضوئي أكثر تقدمًا بقليل، وهو جيب على شكل وعاء أو كوب في الأدمة، مع مستقبلات ضوئية في الأسفل تساعد على تمييز الاتجاه الذي يأتي منه الضوء والظلام. (ﺟ) نوع أكثر تقدمًا من العين يتمثل في جيب دائري عميق، بفتحة صغيرة يخلق تأثير الكاميرا ذات الثقب، ويعرض صورة منخفضة الدقة للعالم على شبكية العين. (د) الشكل الأكثر تقدمًا منها هو العين الكروية المحاطة بغشاء قرني واضح، وتتفوق على أنواع الأعين الأخرى بالعديد من المزايا. (ﻫ) الأعين الأكثر تقدمًا على الإطلاق هي مُقَل الأعين المغلقة التي لا تحتوي على القرنية وحسب، بل تتضمن آلية العدسة والقزحية أيضًا، مما يمكِّن العين من تكوين صور واضحة. تطور هذا النوع من العين بشكل مستقل، وبطرق مختلفة في الحبار والأخطبوط والفقاريات. (إهداء من «ويكيميديا كومنز»)
في بعض الحيوانات، تزداد العين البسيطة الشبيهة بالكوب عمقًا، ويصبح لديها كثافة أعلى من الخلايا المستقبلة للضوء، فتصير العين قادرة على معالجة قدر من المعلومات عن البيئة أكثر بكثير من الاتجاه العام لمصدر الضوء. وفي نهاية المطاف، يصبح الكوب أعمق وأعمق حتى يتقيَّد حجم الفتحة، مما يخلق تأثيرًا شبيهًا بتأثير الكاميرا ذات الثقب (الشكل ٢٠-١(ﺟ)). وهذه الفتحة ذات الثقب، إضافةً إلى شبكية عميقة على شكل كوب، مع طبقة كثيفة من الخلايا المستقبلة للضوء؛ لا تسمح بالاستشعار الاتجاهي فحسب، بل تتيح للكائن أيضًا قدرًا من الاستشعار بالشكل والتصوير الخافت. يقلل ذلك من التشوه والتشتت من خلال السماح بشعاع رفيع فقط من الضوء في العين. لكن مستشعِر الضوء من نوع الثقب لا يحتوي على قرنية أو عدسة؛ ومن ثَم فإن قدرات العين تقتصر على دقة ضعيفة للغاية وتصوير خافت. على أنَّ هذا تحسُّن هائل عن عين الدودة المسطحة أو عين الحلزون الشبيهة بالوعاء. من بين الرخويات، عُثِر على هذه العين التي تتخذ شكل الثقب في نوع نوتيلوس Nautilus المُجوَّف. من المفترض أن هذا النوع المتقدم من العين كان موجودًا أيضًا في أواخر العصر الكمبري، عندما تطور أقرب أقرباء النوتويديات لأول مرة، ومكَّنت هذه النوتويديات الضخمة ذات الصدفة المستقيمة من العثور على الفرائس، وأن تصبح أولى الحيوانات المفترسة الكبيرة على الأرض.
الخطوة التالية هي تغطية فتحة الثقب بطبقة من الخلايا الشفافة وتشكيل القرنية (الشكل ٢٠-١(د)). من خلال إغلاق الحجرة الداخلية يمكن للعين تطوير حشوة سائلة شفافة (تسمَّى في مجال التشريح ﺑ «الخلط»)، تمنحها إمكانية تصفية الألوان أو تكوين مُعامِل انكسار أعلى، وحجب الأشعة فوق البنفسجية، إضافة إلى إعطائها القدرةَ على العمل في الهواء، كما تعمل في الماء. كما أنَّ هذا الغطاء يمنع حدوث تلوث داخل العين أو انتهاكها بعدوى أو بإصابة طفيلية. ويزيد وجود القرنية من طاقة العين الانكسارية. توجد مثل هذه العيون البسيطة في أجزاءٍ كثيرةٍ من المملكة الحيوانية. من هذه المجموعات مثلًا «الديدان المخملية» أو حاملات المخالب، ولها عين كروية بسيطة مملوءة بسائل وقرنية. خلال انسلاخها، تتخلص الديدان المخملية من جلدها الخارجي بالكامل، بما في ذلك غطاء القرنية مع بقية الهيكل الخارجي. ويصبح لديها بعد ذلك طبقة أو طبقتان من القرنية، وفقًا لمدى حداثة انسلاخها.
fig96
شكل ٢٠-٢: البنية التشريحية لأعين ثلاثيات الفصوص. (أ) تتكون أعين هولوكرول من عدسات متراصَّة عن قرب. (ب) أعين شيزوكرول مع عدسات مفصولة بجُلَيدة صلبة. (ﺟ) مقطع عرضي لعدسة عين شيزوكرول، يتضح فيه التقسيم إلى وحدتَين منفصلتَين. (د) رسم هوجنس البياني من عام ١٦٩٠ لمسار الشعاع البصري للعدسات، موضحًا كيفية تصحيحها للانحراف الكروي. حلَّت وحدة العدسة العلوية لأعين ثلاثيات الفصوص هذه المشكلة قبل ٤٠٠ مليون سنة من قيام البشر بذلك. ([أ، ب] ريكاردو ليفي سيتي، «ثلاثيات الفصوص» [١٧٥٨، أعيدَ طبعها، شيكاجو: شيكاجو يونيفرستي برِس، ١٩٩٣]؛ [ﺟ] ريتشارد إس بوردمان، ألان إتش تشيتام، إيه جيه رويل، «اللافقاريات الأحفورية» [بالو ألتو، كاليفورنيا: بلاكويل، ١٩٨٧]؛ [د] ملكية عامة)
تتمثل المرحلة التالية من تطور العين في إنماء طبقة من الخلايا داخل القرنية لتشكيل عدسة، وتتشكل هذه الطبقة من بروتين يسمَّى كريستالين العدسة (الشكل ٢٠-١(ﻫ)). يوجد نوعان مختلفان من هذا البروتين؛ كريستالين-ألفا، وكريستالين بيتا-جاما، وكلاهما بروتينان طوِّرا في الأصل لوظائف أخرى، وأعيدَ توجيههما ليصبحا جزءًا من عدسة العين. تتفرد هذه البروتينات بشفافية عالية، والقدرة على التراصِّ بالقرب من بعضها بأعدادٍ كبيرة، والقدرة على البقاء طوال فترة حياة الكائن الحي.
تُعَد خلايا العين نسيجًا حيًّا في الجنين، غير أنه لا بد من إزالة الآلية الخلوية المعتمة التي أنتجت بروتينات العدسة فور ولادة الكائن الحي؛ فتصبح العدسة مصفوفة من الخلايا الميتة المليئة ببروتينات الكريستالين. ويمثل الاحتفاظ بطبقة من الخلايا الشفافة مشكلة بالنسبة لمعظم أعين الحيوانات. ولهذا ففي بعض الكائنات الحية مثل ثلاثية الفصوص (الشكل ٢٠-٢)، حل معدن الكالسيت محل كريستالين العدسة. في بعض الأحيان، تُحفَظ هذه العيون المتحفرة جيدًا، لدرجة أن علماء الحفريات استطاعوا النظر من خلالها ورؤية ما كان الكائن الثلاثي الفصوص يراه في الأصل، وتصويره أيضًا. في بعض ثلاثيات الفصوص الأكثر تقدمًا، تكون العدسة مزدوجة، ولها جزء سفلي مقعر وجزء علوي محدب، مما يصحح الانحراف الكروي في العدسات السميكة. ابتكرت ثلاثيات الفصوص هذا الحل لمشاكل الرؤية منذ حوالي ٤٠٠ مليون سنة، ولم يُعِد البشر اكتشافه إلا في القرن الثامن عشر.

تُعَد إضافة عدسة بمثابة تحسُّن هائل. ففي العين البسيطة التي لا يوجد بها سوى قرنية، تُدخِل الفتحة رقعة واسعة من الضوء على مساحة كبيرة من الشبكية. لكن إضافة العدسة تركز الإشعاع المرئي الوارد على منطقة صغيرة من شبكية العين، مما يسمح لها باستشعار حتى الضوء الخافت، وتشكيل صورة أفضل بكثير في الضوء الساطع. وتحتوي بروتينات العدسة أيضًا على مُعامِل انكسار عالٍ، مما يسمح لها بتركيز الضوء بشكل أكثر وضوحًا.

من هذه المرحلة التطورية، تباين تركيب العدسات في العين وعددها تباينًا كبيرًا على مستوى المملكة الحيوانية. فمعظم الحيوانات ذات الأرجل المفصلية، أو المفصليات (الحشرات، والعناكب، والعقارب، والقشريات، والديدان الألفية، ومئويات الأرجل، ومعظم ثلاثيات الفصوص، وأقاربها) تمتلك العديد من العدسات الصغيرة المعبأة في عين مركبة. تستشعر كل عدسة صغيرة اختلافًا بسيطًا في الضوء أو الظلام، وعندما تُدمَج معًا، يمكن لدماغ الكائن تجميع فسيفساء معقدة من البقع الفاتحة والداكنة التي يفسرها على هيئة صورة. يحتوي العديد من هذه الأعين المركبة على مئات العدسات، وهي تنتفخ للخارج في شكل شبه كروي كي يرى الحيوان جميع الجوانب الموجودة حوله تقريبًا، ليَحذَر من الحيوانات المفترسة القادمة من أي اتجاه.

في شُعَب أخرى، يمكن تتبع تسلسل مختلف من المراحل التطورية لدى كائنات المجموعة. فعلى سبيل المثال، تتسم الرخويات عن غيرها من الشُّعب بأنها تتضمن أكبر تنوع من الأعين. بعض الرخويات الأكثر بدائية عمياء، أو لديها بقع صغيرة من الخلايا الحساسة للضوء منتشرة في جميع أنحاء أجسادها، لاكتشاف الظل الداكن لحيوان مفترس يقترب. المرحلة التالية هي العين البدائية المسطحة، أو البقعة العينية، والتي تتمثَّل في وجود مجموعة من الخلايا الحساسة للضوء مجتمعة معًا. إنها لا تسمح للكائن الحي باستشعار الظلام والنور فحسب، بل تسمح بتمييز مصدر الضوء أيضًا. يوجد هذا النوع من الأعين حاليًّا في قناديل البحر، إضافةً إلى مجموعةٍ صغيرةٍ من الرخويات البدائية جدًّا.

وتتمثل الخطوة التالية على ذلك في العين التي تتخذ شكل الكوب، والتي تحتوي على طبقة مصطبغة في الأسفل لاستشعار الضوء. تنتشر هذه الأعين بين الرخويات التي تحتاج إلى اكتشاف أي مفترس قادم، وتوجد في البطلينوس، والخيتون، وأنواع معينة من المحار. تُبعتْ هذه الخطوة بنمط الكاميرا ذات الثقب، الذي يعطي صورة مُركَّزة منخفضة الإضاءة على شبكية العين. عُثِر على مثل هذه في نوع نوتيلوس، وكذلك في أذن البحر والأنواع القريبة منهما. تحتوي العين الأكثر تقدمًا على قرنية (وهي في هذه الحالة نسيج ظهاري شفاف) بدون وجود عدسة دائمة تُذكَر، على الرغم من أن بعض الرخويات تستخدم حويصلة أو فقاعة من السائل لتقوم بدور العدسة. إنَّ هذه الأنواع من الأعين توجد في الحلزونات البحرية المفترسة ومعظم الحلزونات البرية، ومما يثير الدهشة أنها توجد لدى المحار المروحي الذي يمتلك العديد من الأعين الصغيرة حول حافة وشاحه، وهي تمكِّنه من استشعار اقتراب حيوان مفترس.

fig97
شكل ٢٠-٣: مقارنة بين الأعين المتقدمة للأخطبوط والفقاريات. تحتوي المقلتان كلتاهما على مركز مملوء بالسوائل، وقرنية، وعدسة، وقزحية، وتتمتعان بالقدرة على رؤية صور معقدة واضحة، ورؤية الألوان في كثير من الأحيان. لكن عين الفقاريات بها عيب كبير في التصميم؛ المستقبلات الضوئية (الخلايا العصوية والمخروطية) تقع تحت طبقة الأعصاب والأوعية الدموية التي تدعمها، وهي موجَّهة بطريقة خاطئة، مما يحدُّ من الرؤية في هذا النوع من الأعين. كما أن لديها عصبًا بصريًّا يجب أن يتصل بهذه الطبقات من الأنسجة أعلى الشبكية، ثم يخرج من خلال ثقب في الشبكية، مكونًا بقعة عمياء. في المقابل، لا تحتوي عين الأخطبوط على أيٍّ من هذه العيوب؛ تتوجه المستقبلات الضوئية نحو مصدر الضوء وتتصل من الأسفل، وترتبط مباشرة بالعصب البصري؛ لذلك لا توجد بقعة عمياء. بغضِّ النظر عن مدى جودة التصميم الذي تبدو عليه أعيننا، فهي ارتجالية وسيئة التصميم إذا قارناها بعيون الأخطبوط. (أعاد رسمه إي بروثيرو من عدة مصادر)
بالنسبة إلى الأعين الأكثر تقدمًا لدى الرخويات، يوجد بها مُقَل كروية محكَمة الغلق بالكامل، مليئة بسائل وعدسة بِلَّورية، وقزحية لتنظيم الضوء الوارد، والعديد من الصفات الأخرى التي تبدو شديدة الشبه بمقلة العين الفقارية. وربما يبدو النوعان متشابهين بالفعل من الناحية السطحية، لكنهما مختلفان تمامًا في التفاصيل. ففي أعين الفقاريات، تُستخدَم العضلات الهدبية الموجودة حول العدسة للضغط على العدسة المرنة أو إرخائها، كي تغير شكلها وتركِّز الضوء بشكل أفضل (الشكل ٢٠-٣). بينما تستخدم الرخويات العضلات نفسها لتحريك العدسة للأمام والخلف، مغيِّرةً بذلك المستوى البؤري، حتى تحصل على تركيز جيد بدون تغيير شكل العدسة. الأكثر لفتًا للنظر هو ترتيب الخلايا المستشعرة للضوء في شبكية العين. في الرخويات، على غرار الأخطبوط والحبار والحبار القاعي، توجد هذه الخلايا في الطبقة العليا من شبكية العين؛ فهي تواجه مصدر الضوء مباشرة. وعلى العكس من ذلك، نجد أنَّ الخلايا المستشعرة للضوء في عين الفقاريات تتَّجه إلى الخلف بعيدًا عن مصدر الضوء، وتكون مغطاة بشبكة الأعصاب والأوعية الدموية التي تحافظ عليها. وهذا يشوِّه الصورة القادمة إلى مستشعرات الضوء إلى حد ما، مما يمنحنا رؤية أدنى، مقارنةً بالأخطبوط. إضافةً إلى ذلك، ينتج عن هذا التصميم الأخرق أن الحزمة العصبية التي تربط العين بالمخ تأتي من منتصف الشبكية، مما يخلق نقطة عمياء. لا تحتوي عين الأخطبوط على نقطة عمياء، فنجدها تتفوق مرة أخرى على عين الفقاريات في هذا الصدد. إن كائنات كالأخطبوط والحبار والحبار القاعي تجيد استخدام أعينها الممتازة. فهذا الاستخدام لا يقتصر على رؤية فرائسها جيدًا للإمساك بها والهروب من الحيوانات المفترسة فحَسْب (فهي ليس لديها قشرة خارجية مثل النوتيلوس ومعظم الرخويات الأخرى)، بل هي تدرك خلفيتها بوضوح أيضًا، ويمكنها تغيير أنماط جلدها لتمويه أنفسها في مقابل أي خلفية. إضافةً إلى ذلك، تتواصل هذه الكائنات المذهلة عن طريق إطلاق مجموعة متنوعة مذهلة من الألوان والأنماط، عبر جلدها في أجزاءٍ من الثانية. إذا لم تكن قد شاهدتَ هذه العروض الرائعة من قبل، فإنني أوصيك بشدةٍ بمشاهدة بعض مقاطع الفيديو التي تظهر فيها وهي تغير ألوانها، وستجدها على شبكة الإنترنت.

إنَّ مُقَل الفقاريات في العموم تشبه مقلنا، والتي نعتقد أنها «اعتيادية» بالنسبة لأعين الحيوانات. لكن الفقاريات الأكثر بدائية، مثل سمكة الجريث اللزجة اللافكية، ليس لها سوى عين بسيطة على شكل كوب. تعيش هذه السمكة في المياه العميقة المظلمة، وهي تتنقل وتتغذى بواسطة حاستَي التذوق والشم. أما أقاربنا البدائيون من اللافقاريات، مثل الغلاليات (بخاخات البحر) والسُّهيمات أو الرُّميحات، فلديها بقعة عينية بسيطة، عندما تكون يرقات على الأقل. ويبدو أيضًا أن حفريات أقدم سمكة لا فكية من العصر الكمبري في الصين امتلكت بقعة عينية بسيطة أيضًا. لكن بدءًا من الجلكيات التي امتلكت عينًا بها عدسة بدون مقلة مملوءة بالسوائل، ثم أسماك القرش، التي لها مقلة تشبه مقلتنا إلى حد كبير، تمتلك جميع الفقاريات تقريبًا عينًا أكثر تعقيدًا لها عدسة، وقزحية، إضافةً إلى الخصائص الأخرى المتعلقة بقدرتنا على الإبصار.

لقد وُفِّق داروين في التحدي الذي طرحه. أشار الرجل إلى أنَّ تطور عين معقدة من عين أبسط قد تضمن، لا بد، خطوات عديدة، وذكر الأمثلة القليلة التي كانت معروفة في عصره. ونحن رأينا أنه يوجد بالفعل العديد من الخطوات الوسيطة التي مرت بها العين، بدءًا من بقعة عين بسيطة، ثم أعين معقدة لها عدسات وخصائص أخرى، وقد مرت عدة مجموعات أخرى، مثل الرخويات والفقاريات، بجميع هذه الخطوات بشكل مستقل لتطوير مقلة العين المعقدة التي نمتلكها. لقد اقترح داروين أنه «بالإمكان إثبات وجود درجات عديدة من عين بسيطة وغير كاملة إلى عين معقدة وكاملة»، وقد وثَّق العلم الآن كل هذه الدرجات، وليس ذلك في أقاربنا الأحياء الأكثر بدائية فحسب، بل في السجل الأحفوري أيضًا في بعض الأحيان. إن تصوُّر كيفية تطور العين لم يَعُد «منافيًا للعقل لأقصى حد».

قراءات إضافية

  • Glaeser, Georg and Hannes F. Paulus, The Evolution of the Eye, Berlin: Springer, 2015.
  • Lamb, Trever D., “Evolution of the Eye,” Scientific American 305, no. 1 (2011): 64–69.
  • Land, Michael F., Eyes to See: The Astonishing Variety of Vision in Nature, Oxford: Oxford University Press, 2019.
  • Land, Michael F. and Dan-Eric Nilsson, Animal Eyes, 2nd ed., Oxford: Oxford University Press, 2012.
  • Oakley, Todd H. and Daniel I. Speiser, “How Complexity Originates: The Evolution of Animal Eyes,” Annual Review of Ecology, Evolution, and Systematics 46 (2015): 237–260.
  • Parker, Steven, Color and Vision: The Evolution of Eyes and Perception, New York: Firefly Books, 2016.
  • Schwab, Ivan, Evolution’s Witness: How Eyes Evolved, Oxford: Oxford University Press, 2012.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤