الفصل الثالث

التحول السريع

التطور على أرض الواقع

الانتخاب الطبيعي يمحِّص جميع التنويعات الموجودة في العالم بأكمله على مدار اليوم والساعة؛ لينبذ منها ما هو سيئ، ويحفظ ما هو جيد ويضيف إليه، وهو يعمل بصمت ودونما وعي على تحسين الظروف الحياتية العضوية وغير العضوية لكلٍّ من الكائنات الحية، وذلك متى توفرت الفرصة وأينما توفرت.

تشارلز داروين، «أصل الأنواع» (۱۸٥۹)

أخيرًا بدأ علماء الأحياء يدركون أن داروين كان شديد التواضع. فيمكن للتطور من خلال الانتخاب الطبيعي أن يحدث بسرعة تكفي لأن نرصده بأنفسنا. والآن، صار هذا المجال البحثي شديد الرواج والازدهار. ذلك أنه يوجد أكثر من ٢٥٠ شخصًا حول العالم يعملون على رصد التطور وتوثيقه، وليس ذلك في الشرشوريَّات وأسماك الجوبي فحسب، بل في حشرات المن أيضًا، والذباب، وسمك تملوس، وزهرة الدندل، وأسماك السلمون، وسمك أبو شوكة. ومن هؤلاء الباحثين مَن يعمل على توثيق التطور في حالة أزواج من الأنواع — كالحشرات والنباتات التكافلية — التي وجد بعضها البعض مؤخرًا، وهم يرصدون هذه الأزواج من الكائنات وهي تنجرف معًا إلى عالمها الخاص، كعاشقين في رواية من تأليف دي إتش لورانس.

جوناثان وينر، «التطور على أرض الواقع» (٢٠٠٥)

من الخرافات الشائعة التي تتردد بين هؤلاء الذين لا يفهمون التطور أن كل هذا حدث في الماضي، ولكنه لا يحدث اليوم. والحق أنَّ هذا بعيد كل البعد عن الحقيقة! فليس التطور بتخمين جامح لتفسير الأحداث التي حدثت منذ زمن بعيد. إنما التطور ظاهرة حقيقية وُثِّقت في الطبيعة مئات المرات، على يد عشرات من علماء الأحياء الذين يعملون في ظروفٍ ميدانيةٍ قاسية عامًا بعد عام، موثِّقين بشِقِّ الأنفس ما تنبَّأ به داروين. في عام ۱۹۹٤، ألَّف جوناثان وينر كتابًا حاز جائزةَ بوليتزر بعنوان «منقار الشرشوريات: قصة تطور في زماننا»، وهو يصف فيه العشرات من أمثلة التطور التي تحدث حاليًّا. وقد تراكم المزيد من الأمثلة منذ ذلك الحين، ويقدم ديفيد ميندل العديد من الأمثلة المعاصرة للتطور في كتابه الصادر عام ٢٠٠٦ بعنوان «عالمنا الذي يتطور: التطور في الحياة اليومية».

يبدأ كتاب وينر بأحد أشهر أمثلة التطور؛ عصافير جالاباجوس. خلال رحلته حول العالم على متن سفينة البيجل من عام ۱۸۳۱ إلى عام ۱۸۳٦، قضى تشارلز داروين الشاب (الشكل ٣-١) خمسة أسابيع في جزر جالاباجوس خلال شهرَي سبتمبر وأكتوبر من عام ۱۸۳٥. توقفت السفينة في جزر جالاباجوس لاستكشاف الجزر، إلى جانب الحصول على المياه العذبة والطعام، وإجراء بعض الإصلاحات الطفيفة بعد إبحارها حول الطرف الجنوبي العاصف لأمريكا الجنوبية. وخلال ذلك الوقت، أبحر داروين من جزيرة إلى أخرى في قارب صغير مدوِّنًا الملاحظات في أثناء تجواله، إضافةً إلى اصطياد عينات من الحيوانات والطيور ليأخذها معه إلى الوطن.
fig12
شكل ٣-١: صورة لتشارلز داروين في أواخر العشرينيات من عمره، رسمها جورج ريتشموند في أواخر ثلاثينيات القرن التاسع عشر، بعد أن عاد داروين من رحلته على سفينة البيجل، وبدأ ينشر ملاحظاته، واستهلَّ حياته المهنية كعالم. (إهداء من «ويكيميديا كومنز»)
كان الكثير من البحَّارة آنذاك يأخذون سلاحف حية على متن سفنهم؛ لتكون مصدرًا للُّحوم الطازجة في الرحلات الطويلة. لاحظ داروين بعض الاختلافات الواضحة بين السلاحف العملاقة على الجزر، وأخبره نائب حاكم الجزر البريطاني أنه يستطيع التمييز بينها. كانت السلاحف التي تعيش بالجزر الوافرة المياه لها أصدافها العادية المقبَّبة (الشكل ٣-٢(أ))، بينما تلك التي تعيش على الجزر الأكثر جفافًا كانت لها ثنية على شكل سرج، تبلغ ذروتها عند مقدمة صدفتها (شكل ٣-٢(ب)). كان ذلك يسمح لها برفع أعناقها ورءوسها للوصول إلى النباتات الأعلى، وإلى أوراق الصبار في فترات الجفاف.
fig13
شكل ٣-٢: تختلف أشكال أصداف سلاحف جالاباجوس وفقًا لنوع الجزيرة التي تعيش عليها. في الصورة (أ)، تظهر السلاحف التي تعيش في الجزر الوافرة المياه، وأصدافها هي العادية المقبَّبة؛ إذ لا يتعين على هذه السلاحف الوصول إلى منطقة مرتفعة للعثور على الطعام. وفي الصورة (ب)، تظهر السلاحف التي تعيش في الجزر الأكثر جفافًا، والتي يكون لها سرج مرتفع في مقدمة قوقعتها، كي يمكنها رفع رقبتها إلى أعلى للوصول إلى النباتات العالية وأوراق الصبار في فترات الجفاف. (إهداء من «ويكيميديا كومنز»)

لاحظ داروين هذه الاختلافات آنذاك، ولاحظ أيضًا الاختلاف بين الطيور المحاكية في كل جزيرة. وقد دوَّن ملاحظات دقيقة عن الطيور المحاكية وعن موطنها، ولاحظ أن الطيور الموجودة على جزيرة تشاتام مشابهة لتلك الموجودة في أمريكا الجنوبية، لكن تلك الموجودة في جزيرة تشارلز كانت مختلفة تمامًا. إضافة إلى ذلك، بدا أنَّ الطيور المحاكية التي تعيش بجزيرة ألبيمارل، وتلك التي تعيش بجزيرة جيمس، كلٌّ منهما ينتمي لأنواع مختلفة. ورأى داروين الإجوانا البحرية المميزة القادرة على السباحة بين الصخور في الأمواج المتكسرة والرعي على الطحالب، ولاحظ تشابهها مع الإجوانا البرية المعتادة، لكن كان من الواضح أنَّ الإجوانا البحرية قد بدأت في اتخاذ نمط حياة فريد تمامًا بين السحالي. ومثلما توضح لنا دفاتر داروين، فبعد مغادرته جزر جالاباجوس، وقضائه العديد من الأيام الطويلة المملَّة في البحر، بدأ يفكر في أن الأنواع ليست ثابتة ومستقرة، بل قادرة على التغير، وكان هذا يُعَد مستحيلًا في ذلك الوقت لأن معظم الناس كانوا يعتقدون أن الله خلق كل نوع على حدة، وأن جميع الأنواع قد ظلَّت على حالها عبر الزمن. كانت بذور فكرته العظيمة تتسرب إلى رأسه، لكنه لم ينشرها كاملةً إلا بعد ٢٤ عامًا (على الرغم من أنه سجَّل الخصائص المثيرة للفضول التي رصدها في جزر جالاباجوس، في كتابه الصادر عام ۱۸۳۹ بعنوان «رحلة البيجل»).

إننا لم نفهم ما حدث في جزر جالاباجوس فهمًا تامًّا، إلى أن وثَّق مؤرخ العلوم فرانك سولاوي مكان وجود داروين كل يوم، وما قام بجمعه توثيقًا دقيقًا. صاد داروين وخادمه سيمز كوفينجتون عشرات الطيور وحنَّطاها، وكان داروين يعتقد أن بعضها من طيور النمنمة، أو «ذوات المنقار الغليظ»، أو طيور الشحرور، أو الشرشوريات (۳۱ منها كانت شرشوريات من أربع جزر مختلفة، مُمثِّلةً تسعة أصناف مختلفة). وبعد خمس سنوات طويلة في البحار، عاد داروين إلى إنجلترا في الثاني من أكتوبر عام ۱۸۳٦، وسرعان ما بدأ في اتخاذ الترتيبات اللازمة لدراسة العينات التي جلبها معه من رحلة البيجل. وفي الرابع من يناير ۱۸۳۷، تبرع داروين بعيناته لجمعية علم الحيوان في لندن (وهي موجودة الآن في متحف التاريخ الطبيعي في لندن). كان داروين قد رتَّب لأن يدرس عالِمُ الطيور جون جولد، من المتحف البريطاني، مجموعتَه من الطيور المحنَّطة، وأن ينشر نتائج دراسته. (فعل داروين ذلك مع معظم مجموعاته؛ لأنه لم يكن قد أصبح خبيرًا بعدُ في أي مجال. فعلى سبيل المثال، أعطى داروين جميعَ حفرياته إلى عالم التشريح ريتشارد أوين، عالم الحفريات الأبرز في بريطانيا في ذلك الوقت.) نحَّى جولد جميع أشغاله الأخرى جانبًا، حتى يتمكن من إبلاغ علماء الحيوان المجتمعين بعد أسبوع (في ۱٠ يناير) أن طيور «النمنمة»، و«ذوات المنقار الغليظ»، و«الشحرور» وغيرها من الطيور التي جمعها داروين كلها أنواعٌ جديدةٌ من العصافير (لم يكن داروين حاضرًا في ذلك الوقت، بل كان في كامبريدج). ومثلما أعلن جولد، «كانت مجموعة من طيور الشرشوريات مميزة للغاية [حتى إنها تُشكِّل] مجموعة جديدة تمامًا، تضم ۱٢ نوعًا». وكان التقرير بارزًا جدًّا لدرجة أنه ذُكِر في الصحف آنذاك.

fig14
شكل ٣-٣: على الرغم من أن داروين لم يدرك ذلك خلال وجوده في جزر جالاباجوس، فقد كانت غالبية الطيور هناك من الشرشوريات، التي تطوَّرت من سلَف مشترك للشرشوريات، وانتقلَت من أمريكا الجنوبية، وتطوَّرت إلى طيورٍ تتمتع بمجموعةٍ متنوعةٍ من المناقير المناسبة لتكسير الجوز، والبحث عن الحشرات، والْتقاط البذور الصغيرة، والعديد من المهام الأخرى التي تؤديها فصائل مختلفة من الطيور في البر الرئيسي. (بتصرف من كتاب «عصافير داروين» لديفيد لاك [۱۹٤۷]، إعادة طبع. كامبريدج: كامبريدج يونيفرستي برس، [۱۹۸۳])
وأخيرًا الْتقى داروين وجولد بكامبريدج في مارس ۱۸۳۷، وتلقَّى تقريرًا كاملًا عن العمل الذي قام به على مدار شهور. لم تكن الطيور المحاكية التي تستوطن جزرًا مختلفة من أنواع مختلفة فحسب، بل إنَّ جولد أقنع داروين بأن معظم طيور «النمنمة» و«ذوات المنقار الغليظ» و«الشحرور» قد عُرِّفت خطأً، وأنها في الواقع شرشوريات عُدِّلت بحيث أصبحت تُشبه طيور الشحرور، والنمنمة، وذوات المنقار الغليظ الموجودة في أجزاء أخرى من العالم (الشكل ٣-٣). إجمالًا، أخبره جولد أن ٢٥ من طيور اليابسة، البالغ عددها ٢٦، هي أنواع جديدة ومميزة لا توجد في أي مكان آخر. وكما وثَّق المؤرخ فرانك سولاوي، عندئذٍ فقط أدرك داروين أنه كان مهملًا في جمع العينات، ولم يسجل اسم الجزيرة التي أتَت منها كل عينة. لقد كان في عجلةٍ من أمره؛ إذ دوَّن ملاحظات مذهلة، وجمع كل ما في وسعه تقريبًا، لدرجة أنه لم يُسجِّل المكان الذي حصل منه على كل عينة. افترض داروين أن الطيور التي اصطادها في أول جزيرة قابلها، كانت مماثلةً لتلك الموجودة في الجزيرة التي تلَتْها؛ لأن الجزر كانت متقاربةً جدًّا وشديدة التشابه في المناخ وأنواع النباتات؛ لذلك قام بوضع عيناته معًا في الحقيبة نفسها.

تشاوَر داروين مع قبطان السفينة روبرت فيتزروي، وأيضًا خادمَيه هاري فولر وسيمز كوفينجتون، اللذين جمع كلٌّ منهما مجموعته الخاصة، واحتفظا بملاحظات أكثر دقة. وفي النهاية، تمكَّن داروين من تذكر مواقع معظم عينات طيوره، ومثلما كان مؤكدًا بالطبع، تبيَّن أن الأنواع المختلفة من الشرشوريات كانت جميعها من جزرٍ مختلفة، مما يؤكد فكرة أن كل جزيرةٍ لها نوعها المميز الخاص بها.

في عام ۱۸۳٦، لم يحاول داروين الإعلان عن الاستنتاج الواضح التالي، وهو أن الشرشوريات قد تحوَّلت من سلَفٍ مشتركٍ وصل من البر الرئيسي، وتطوَّرت إلى أشكالٍ مختلفةٍ تمثَّلَت في ذوات المنقار الغليظ، وطيور النمنمة، وطيور البر الرئيسي الأخرى التي لا تنتمي إلى جزر جالاباجوس. وبالرغم من ذلك، فبحلول عام ۱۸۳۹، حين صدر كتابه «رحلة البيجل»، كان داروين مستعدًّا للذهاب إلى أبعد من ذلك. فقد جاء في كتابه ما يلي:

تشكِّل طيور اليابسة المتبقية مجموعةً فريدة للغاية من الشرشوريات، يرتبط بعضها ببعض في بنية مناقيرها، وذيولها القصيرة، وشكل أجسادها وريشها … يوجد منها ثلاثة عشر نوعًا، قسَّمها السيد جولد إلى أربع مجموعاتٍ فرعية. كل هذه الأنواع مختصَّة بهذا الأرخبيل، وكذلك هي المجموعة بأكملها، باستثناء نوعٍ واحدٍ من المجموعة الفرعية كاكتورنيس، التي أُحضِرتْ مؤخرًا من جزيرة بو الموجودة في الأرخبيل المنخفض … عند رؤية هذا التدرُّج والتنوُّع في بنية مجموعة واحدة صغيرة من الطيور الوثيقة الصلة؛ يمكن للمرء حقًّا أن يتخيَّل أنَّ ثمة مجموعةً صغيرةً من الطيور الأصلية في هذا الأرخبيل، قد اختير منها نوعٌ واحدٌ وعُدِّل لغايات مختلفة.

من شيء كاد أن يفوته تمامًا في أثناء جمع العينات، جعل داروين من عصافير جالاباجوس واحدة من أفضل الأمثلة على كائنات لا بد وأنها قد تغيرت من سلف مشترك منذ زمن ليس ببعيد. صحيحٌ أنَّ داروين لم يشهد تطورها في الوقت الفعلي الذي حدث فيه، لكنه توصل من خلال هذه العصافير إلى آلية عمل التطور.

كانت المجموعة التالية التي قامت بأبحاث عن عصافير جالاباجوس، هي رحلة استكشافية من أكاديمية كاليفورنيا للعلوم في سان فرانسيسكو على مدار العامَين ۱۹٠٥-۱۹٠٦، وجمعت مجموعة عينات أكبر بكثير على مدى عدة أشهر. وفي نهاية المطاف، درَس هذه المجموعةَ عالمُ الطيور الشهير بجامعة أكسفورد ديفيد لاك، وذلك في عامَي ۱۹۳۸ و۱۹۳۹. قدَّم كتابُه «عصافير داروين»، الصادر عام ۱۹٤۷، وصفًا مُحدَّثًا للعصافير وأكثر تفصيلًا، متضمِّنًا العديد من تفاصيل علم الأحياء التطوري من تلك الفترة الزمنية. أمضى لاك ثلاثة أشهر في الجزر لتوثيق سلوك العصافير وبيئتها وخصائصها الجسمانية، فتدارك بذلك الكثير من التفاصيل التي أَغفَلها داروين. وبالرغم من ذلك، استند لاك في الكثير من أبحاثه إلى الطيور المُحنَّطة في أدراج المتحف، ولم يقضِ في المراقبة الميدانية إلا ثلاثة أشهر فقط، وليست تلك بالمدة الكافية لمشاهدة الطيور وهي تتغيَّر على مدار سنوات عديدة.

وقعت هذه المهمة على عاتق بيتر جرانت وروزماري جرانت، الباحثَين بجامعة برينستون، وهما فريق من زوج وزوجته، عالِما طيور عقدا العزم على إجراء دراسة تفصيلية طويلة الأجل قد تسجِّل التطور أثناء حدوثه. ومنذ عام ۱۹۷۳ إلى عام ٢٠۱٢، أمضيا ستة أشهر في الميدان، معظمها وهما يخيِّمان في جزيرة دافني ميجور، وهي واحدة من أكثر الجزر انعزالًا وأقلها تلوثًا في الأرخبيل. وهناك، ميَّزا كل عصفور على تلك الجزيرة بعلامة، وقاما بقياسه وتصويره على مدار ٤٠ عامًا تقريبًا، ثم تقاعدا أخيرًا من العمل في عام ٢٠۱٢. عرف الزوجان جرانت من أبحاث لاك أن شكل المنقار وحجمه يدلان على نوع الطعام الذي يمكن أن يأكله كل نوعٍ من أنواع الشرشوريات. فتلك الطيور التي أخطأ داروين في تعريفها على أنها من ذوات المنقار الغليظ لها مناقير سميكةٌ وقوية، ومُكيَّفة لتكسير البذور الكبيرة الصُّلبة (انظر الشكل ٣-٣). أما الشرشوريات ذات المنقار الأصغر فتتغذى على بذور أصغر، وأكثر ليونةً تكون أكثر وفرةً في السنوات الممطرة؛ كي يمكنها أن تتغذَّى بسرعةٍ أكبر من الشرشوريات ذات المنقار السميك. وتتخصص بعض الشرشوريات في اصطياد الحشرات من على أجنحتها، وجسِّ الأشجار بحثًا عن اليرقات، وهناك نوع يستخدم شوكة الصبار «لصيد» اليرقات في جحورها.

بعد سنوات عديدة من جمع البيانات، رصد الزوجان جرانت بعض الأحداث المدهشة. ففي عام ۱۹۷۷، حدث جفاف شديد، وفي الأشهر التالية، كانت العصافير ذات المنقار السميك هي المفضَّلة؛ إذ لم يعد متاحًا من الطعام سوى البذور الصُّلبة القديمة ذات القشرة السميكة، والتي كانت تتجاهلها في السابق. وفي غضون عامَين، تطوَّرت لدى هذه العصافير مناقير أكثر سُمكًا وقوة. تغيرت بسرعة أكبر بكثير مما كان يظنُّ أي شخص في ذلك الوقت. وفي الوقت نفسه، ماتَت أنواع العصافير الأصغر التي لا تمتلك مناقير سميكة. وفي العامَين ۱۹۸٢-۱۹۸۳، شهدت الجزيرة ثمانية أشهرٍ من الأمطار، بدلًا من الشهرَين المعتادين؛ بسبب ظاهرة إل نينيو قياسية. أدَّى هذا إلى نموٍّ هائلٍ للنباتات وإلى البذور الأصغر الأكثر ليونة، مما أدى إلى تفضيل العصافير ذات المنقار الأصغر. وحتى عندما ضرب الجفاف العام التالي، كانت لا تزال هذه العصافير تتغذَّى على الفائض الوفير.

في عام ۱۹۸۱، اكتشف الزوجان جرانت طائرًا لم يرياه من قبل. كان أثقل من الشرشوريات الأخرى بمقدار ٥ جرامات؛ ولهذا لقَّباه ﺑ «الطائر الكبير». كان له نداء مميز، وريش أكثر لمعانًا، وكان يستطيع أكل أي موردٍ غذائي تقريبًا، بما في ذلك البذور الكبيرة والصغيرة، والرحيق، وحبوب اللقاح، وحتى الصبار. وعلى الرغم من أنه ربما كان هجينًا من الشرشوريات الأرضية المتوسطة المنقار وشرشوريات الصبار، فقد عاش لمدة ۱۳ عامًا، وأنشأ جماعةً جديدةً من الشرشوريات التي لم تتزاوج إلا فيما بينها، مما أدى على ما يبدو إلى إنشاء نوعٍ جديد. لم يوثق الزوجان جرانت التغير التطوري الذي حدث داخل الأنواع استجابةً للانتخاب وحسب، بل شهدا أيضًا على ما بدا أنه تشكُّل نوع جديد. وقد نجحت الأبحاث الحديثة في تحديد الجينات التي تتحكم في شكل المنقار في هذه الشرشوريات، إضافةً إلى محاكاة النمط الموجود في الطبيعة عن طريق زيادة عدد تلك الجينات أو تقليله.

وُلِد كلٌّ من بيتر جرانت وروزماري جرانت عام ۱۹۳٦، وهما الآن متقاعدان — بينما أكتب سطور هذا الكتاب — بعد أن بلغا من العمر ۸٤ عامًا. إنهما عملاقان في مجال علم الأحياء لقيامهما بهذه الدراسة الطويلة والمفصَّلة والعسيرة بشكل لا يُصدَّق، حيث أمضيا ما يقرب من نصف حياتهما، لمدة ٤٠ عامًا، في مخيَّمات صغيرة رَثَّة على جزيرة دافني ميجور، منجِزَين قدرًا هائلًا من العمل لتوثيق التطور السريع. لقد حصلا على كل الجوائز الممكنة تقريبًا في مجالهما، ومنها «جائزة ليدي» من أكاديمية العلوم الطبيعية في فيلادلفيا عام ۱۹۹٤، و«جائزة لوي وآلين ميلر» عام ٢٠٠۳، و«جائزة بالْزان لعلم الأحياء السكاني» عام ٢٠٠٥، و«جائزة كيوتول» في العلوم الأساسية عام ٢٠٠۹، و«الميدالية الملكية» في علم الأحياء عام ٢٠۱۷، وفي عام ٢٠٠۸، حصلا على الجائزة الأسمى على الإطلاق؛ «وسام داروين-والاس» للجمعية اللينية في لندن، والتي تُمنَح مرة واحدة فقط كل ٥٠ عامًا. وبفضل كتاب واينر لعام ۱۹۹٥ والذي حمل عنوان «منقار الشرشوريات: قصة تطور في زماننا»؛ فإنهما بمثابة أسطورتين مشهورتين عالميًّا بين علماء الأحياء.

ملأ عملُ الزوجين جرانت فجوةً طويلة الأمد في أبحاث التطور. لقد أوضح داروين أن الحياة تطورت، وأن الانتخاب الطبيعي أفضل آلية تشرح كيفية تطورها، لكن لم يكن لديه أي وسيلة لمشاهدة حدوث ذلك آنيًّا، لم يكن بوسعه سوى أن يستنتج وجوده من النتائج. في عام ۱۸۹۳، أشار عالم الأحياء الألماني أوجست وايزمان إلى أنه «من الصعب جدًّا تخيُّل تفاصيل عملية الانتخاب الطبيعي، ولا يزال من المحال حتى يومنا هذا إثبات هذه العملية في لحظة بعينها».

طيلة الجزء الأعظم من القرن التالي، نما علم الأحياء التطوري وتوسع مع اكتشاف علم الجينات والنمذجة الرياضية لعلم الأحياء السكاني، مما أثبت أن آلية الانتخاب الطبيعي كافية لتفسير كيفية حدوث التطور. لكن قِلة فقط من علماء الأحياء هم مَن استطاعوا التوصل إلى طريقة لمشاهدة الانتخاب الطبيعي وهو يحدث فعليًّا في الطبيعة؛ لأن هذا كان يتطلب سنوات من العمل الميداني، إضافةً إلى جمع الكثير من الملاحظات والبيانات، وكلتاهما عمليتان بطيئتان للغاية، وتحملان الكثير من المشقة. وبحلول عام ۱۹۳٤، علَّق أحد علماء الوراثة بأنه إذا «صرخت فكرة ما وتوسلت» طلبًا لبرنامج بحثي تجريبي «فهي تلك الفكرة ولا شك … لكن هذه البرامج نادرة للغاية». وفي عام ۱۹٦٠، علَّق عالم وراثة مختلف بأن «مقدار الملاحظة أو التجربة التي أُجرِيتْ حتى الآن على التطور في المجموعات البرية» لا يزال «صغيرًا بدرجة مدهشة». وقد وجد هذا الأمر مزعجًا؛ لأن «التطور هو المسألة الأساسية في علم الأحياء، بينما الملاحظة والتجربة هما أدوات العلم الأساسية». وفي أواخر عام ۱۹۹٠، اشتكى عالم أنثروبولوجيا في «موسوعة التطور» من أن «شكوى نصف قرن مضى لا تزال تنطبق في وقتنا هذا؛ فعدد الاختبارات التجريبية للانتخاب الطبيعي هزيل للغاية، ولا تزال هذه القِلة القليلة تُستخدَم بمثابة أمثلة ونماذج على نحو مكثَّف».

وبفضل ما أنجزه الزوجان جرانت والعديد من علماء الأحياء الآخرين منذ سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، لم يعد هذا الرثاء في محله. فبدلًا من ذلك، تضاعفت الدراسات الخاصة بتغيير الانتخاب الطبيعي للأنواع الموجودة، أو نشوء الأنواع الجديدة لتشكِّل مجالًا بحثيًّا رئيسيًّا في حد ذاته. كان بنجامين والش، زميل داروين في كامبريدج، أحد مَن أجرَوا واحدة من أوائل هذه الدراسات. هاجر والش وزوجته إلى الولايات المتحدة، وقاما ببناء العديد من المزارع وخسارتها في ولايات مختلفة، وفي النهاية أصبح عالم حشرات علَّم نفسه بنفسه. وعندما وصله كتاب داروين، أصابه الذهول وأصبح مقتنعًا رويدًا رويدًا باستنتاجات داروين.

بعد ذلك، لاحظ والش مثالًا على نوع يتكيف مع مورد جديد. فإحدى أنواع ذبابة الفاكهة، المعروفة باسم ذبابة الزعرور، تضع بيضها على ثمار شجرة الزعرور البرية. ومع قيام المزارعين بنشر زراعة أشجار التفاح في جميع أنحاء المنطقة، غيرت ذبابة الزعرور عاداتها وتكيفت مع التغذية على التفاح، وانتشرت ببطء في هذه البيئة على هيئة نوع جديد من ذبابة التفاح. في عام ۱۸٦۷، نشر والش بحثًا أشار فيه إلى أن هذا الذباب «لا يهاجم إلا التفاح المزروع في منطقة محدودة معينة، حتى في الشرق؛ لأن … هذا العدو الجديد والمَهول للتفاح موجود في وادي نهر هادسون، لكنه لم يصل بعدُ إلى نيوجيرسي». تُوفِّي والش بعد وقتٍ قصير من نشره هذا التوقع، لكن تبيَّن بعد ذلك أنه كان على صواب. فقد اكتُشِف هذا الذباب في شمال نيويورك وفيرمونت ونيو هامبشاير في عام ۱۸۷٢، وفي ولاية مين عام ۱۸۷٦، وفي كندا بحلول عام ۱۹٠۷. وفي غضون ذلك، انتشر الذباب جنوبًا عبر جورجيا في عام ۱۸۹٤، وغربًا إلى ميشيجن بحلول ۱۹٠٢. وفي نهاية المطاف، انتشر في جميع أنحاء البلاد إلى أن وصل إلى الساحل الغربي منذ حوالَي ۳٠ عامًا فقط. تطوَّرت أنواع أخرى لتتغذَّى على ثمرة الورد البري، وأحيانًا الكمثرى والبرقوق، وفي شمال ويسكونسن، يوجد نوع آخر يأكل الكرز الحامض، وإلى جانب ذلك كلِّه، لا تزال ذبابة الزعرور الأصلية تأكل فاكهة الزعرور. دُرِست جينات هذه المجموعات المختلفة من الذباب فيما بعد، واتضح أنها متمايزةٌ جينيًّا بالفعل، مما أظهر أنها أصبحت أنواعًا مختلفة خلال ما يزيد قليلًا عن قرن.

ثمة حالة أخرى من حالات التطور رصدها هيرمون كاري بومبوس في فترة مبكرة، وهي العصفور الدوري الإنجليزي. جاءت هذه الدراسة نتيجة صدفة سعيدة؛ إذ هبَّت عاصفة ثلجية ضخمة في ۳۱ يناير ۱۸۹۸، وأثَّرت على عشرات الطيور، التي أُحضِرت بعدها إلى بومبوس في مختبره بجامعة براون في بروفيدنس بولاية رود آيلاند. وفي دفء المختبر، عاد ۷٢ من عصافير الدوري الإنجليزية إلى الحياة، لكن ٦٤ منها لم تتمكن من النجاة وماتت. أخذ بومبوس قياسات جميع الطيور وسجَّل جنسها. وجد أنه في الظروف القاسية للعاصفة الثلجية، كان أغلب الذكور الناجين أقصر وأخفَّ وزنًا، أي إنهم كانوا يُنتخَبون على حساب الذكور الأكبر حجمًا (وهذا ما يُسمى بالانتخاب الاتجاهي). وكانت جميع الإناث الناجية متوسطة الحجم، أي إنَّ الانتخاب لم يكن في صالح أكبر الأفراد حجمًا ولا أصغرهم (وهذا ما يُسمَّى الانتخاب التثبيتي). وسرعان ما اشتهرت هذه الحالة المبكرة، ووردت في الكثير من مراجع علم الأحياء في القرن العشرين. وبالرغم من ذلك، فهي حالة لا تجسِّد إلا مثالًا واحدًا للانتخاب الطبيعي ولم تكن قابلةً للتكرار؛ فلم يتمكن باحثون آخرون من تأكيد ما إذا كانت العواصف الثلجية قد تسبَّبت في تغير المجموعة بمرور الوقت أم لا.

يوجد الكثير ممن يدرسون جماعات الطيور البرية (ومنهم هواة مراقبة الطيور)، وكثيرًا ما بيَّنوا أمثلة على التطور. على سبيل المثال، جُلِب عصفور الدوري الأوروبي إلى أمريكا الشمالية في عام ۱۸٥٢، وانتشر منذ ذلك الحين في الغالبية العظمى من المناطق المأهولة بالسكان في القارة، بدايةً من غابات كندا شمالًا إلى كوستاريكا جنوبًا. وبعد انتشاره في كل هذه الموائل، بدأ يتشعَّب سريعًا إلى مجموعات مختلفة الأحجام، حيث الشمالية منها هي الأكبر حجمًا. وذلك أسلوب تكيُّفي مشهور يُعرَف باسم قاعدة بيرجمان؛ للأجساد الكبيرة مساحة سطح أقل مقارنة بحجمها؛ ومن ثَم تفقد حرارة الجسد ببطء أكبر من الأجساد الأصغر والأنحف، التي تكون أكثر ملاءمة للمناطق الاستوائية. وتوجد أيضًا تغييرات في طول الجناح وشكل المنقار وصفات أخرى؛ لذلك تختلف هذه العصافير اختلافًا كبيرًا عبر خطوط العرض المختلفة في الأمريكتَين، حتى إنها تُصنَّف في كثيرٍ من الأحيان إلى أنواعٍ فرعيةٍ مختلفة. فغالبًا ما تكون تلك التي تعيش في المناخات الصحراوية الجافَّة أفتح لونًا، للتمويه الوقائي. وبالرغم من ذلك، فقد تباعَد بعض هذه الأنواع من الناحية الجينية أيضًا، ومن أمثلة ذلك النويعة «الباخترية»، وهو نوع فرعي للعصفور الدوري.

ويمكن أن يكون التحول سريعًا جدًّا في بعض الحالات. فعلى سبيل المثال، عادةً ما تتسم ذكور سمك السلمون الأحمر البري، الذي يعيش في أنهار سريعة الحركة، بأجساد قوية نحيلة لتتمكن من السباحة ضد التيارات، بينما تكون أجسام الإناث أكبر حجمًا لتتمكن من عمل حُفَر أعمق تضع فيها بيضها دون أن يجرفها النهر بعيدًا. ولكن في عام ۱۹٥۷، استعمر سمك السلمون شاطئًا يُدعى «بليجر بوينت» في منطقة سياتل، حيث كان يعيش في المياه العميقة الهادئة (الشكل ٣-٤). وفي غضون ٤٠ عامًا، تطوَّر الذكور لتصبح أجسادهم أكثر عمقًا واستدارة؛ لأنهم لم يعودوا مضطرين لمحاربة التيارات القوية، بل صار التحدي الأكبر الذي يواجههم هو محاربة الذكور الآخرين للتزاوج مع الإناث. وطوَّرت الإناث أيضًا أجسادًا أصغر حجمًا؛ لأنها لم تعُد تحتاج إلى حَفْر ثقوب عميقة لوضع بيضها. وقد أظهرت الدراسات الجينية لهذه الجماعة من أسماك السلمون أنها تباعدت بشكلٍ ملحوظٍ بالفعل عن نوعها السالف، وأنها كانت في طريقها لأن تصبح نوعًا جديدًا متمايزًا.
fig15
شكل ٣-٤: حدث التطوُّر في بعض المجموعات خلال عقود قليلة فحسب. ففي التيارات السريعة لنهر سيدار بواشنطن، تكيَّف سمك السلمون الأحمر الذي جاء إلى النهر في ثلاثينيات القرن الماضي بما يمكِّن الذكور من السباحة في التيارات القوية، ويمكِّن الإناث من حفر جحور أعمق في الرمال لتضع فيها بيضها. غير أنَّ ذكور السلمون التي غزت المياه الضحلة في بليجر بوينت عام ۱۹٥۷؛ طوَّرت أجسادًا أكثر استدارةً وعمقًا لمساعدتها في محاربة الذكور المنافسين، وصار للإناث أجساد أصغر إذ أصبحت تحفر جحورًا ضحلة لبيضها؛ لأنه لا توجد تيارات قوية. («التطور على أرض الواقع» جوناثان وينر (بتصرف)، «ناتشورال هيستوري» ۱۱٥، ۹ [٢٠٠٥]: ٤۷-٥۱)
fig16
شكل ٣-٥: تُعَد سمكة أبو شوكة الثلاثية الأشواك مثالًا آخر على التطور السريع. فالأنواع التي تعيش في البحيرات أو المحيطات لها أشواك أطول، مما يجعل من الصعب على المفترس ابتلاعها. طوَّرت أسماك أبو شوكة التي تعيش في جداول ضحلة أشواكًا أقصر؛ حتى لا تتمكن يرقات اليعسوب والحيوانات المفترسة الأخرى من الإمساك بها عن طريق أشواكها البارزة. (الصور إهداء من دي إم كينجسلي وشون كارول)
ومن الأمثلة التي دُرِست جيدًا سمكة أبو شوكة الثلاثية الأشواك، التي يمكنها تعديل الدرع الواقي للبدن وعدد الأشواك وفقًا لموئلها (الشكل ٣-٥). فأسماك أبو شوكة التي تستوطن مناطق عميقة في المحيط تمتلك دروعًا جسدية أثقل، بينما تتَّسم المجموعات التي تعيش في البحيرات بدروع أخف. وقد حدث هذا التغيير في أقل من ۳۱ عامًا في بِركة بالقرب من مدينة بيرجن بالنرويج، ولم يستغرق سوى اثني عشر عامًا في بحيرة لوبيرج بألاسكا. ولدينا أيضًا معلومات موثَّقة عن وجود تغيُّرات في أشواكها. فلأسماك أبو شوكة التي تعيش في المياه المفتوحة العميقة أشواكٌ طويلة لردع الحيوانات المفترسة. لكن هذه الأشواك الطويلة قد تمثل مشكلة لسمكة أبو شوكة التي تعيش في الجداول، حيث يمكن ليرقة يعسوب أن تمسك الأشواك بملاقطها؛ ولهذا فغالبًا ما تُقلِّص سمكة أبو شوكة التي تعيش في مجاري المياه أشواكها أو تستغني عنها. ثمة جين واحد، هو جين Pitx1، مسئول عن تنظيم الاستجابة المتعلقة بطول الأشواك. وثمة دراسات تضمنت إجراء تعديل اصطناعي لأسماك أبو شوكة أسيرة؛ بحيث أصبح لديها تكوينات جديدة وغير مألوفة من الأشواك. وَجدت هذه الدراسات أن الإناث لا تتزاوج إلا مع الذكور التي تتمتَّع بصفاتٍ جديدة؛ ومن ثَم فإن الانتخاب الجنسي قوة دافعة في تطورها. قبل هذه الدراسات، كان علماء الأسماك يتسرعون في تصنيف الأسماك إلى أنواعٍ مختلفة، بناءً على تباين عدد أشواكها واختلاف دروعها البدنية، لكن هذه الدراسات توضِّح مدى سهولة تحول مجموعةٍ من أسماك أبو شوكة إلى نوعٍ آخر في ظل الظروف المناسبة.

إن مثل هذه الأمثلة يمكن أن تتضاعف إلى ما لا نهاية. ففي نيو إنجلاند، غيَّرت رخويات الونكة الشائعة شكل قشرتها وسُمكها بشكل كبير في أقل من قرن، وذلك على الأرجح بسبب ضغوط الافتراس من السرطانات التي كانت قد جاءت إلى البيئة حديثًا. وفي جزر الباهاما، غيَّرت سحالي الأنول («الحرباء» الشائعة في متاجر الحيوانات الأليفة، وهي ليست حرباء في واقع الأمر) النِّسَب بين أطرافها الخلفية والأمامية عندما جاءت إلى جزر جديدة بها نباتات مختلفة. وفي جزر هاواي، طوَّر طائر العسل المتسلق منقارًا أقصر، عندما تحوَّل إلى تناول مصدرٍ آخر للرحيق حين اختفى مصدر الغذاء المفضَّل لديه؛ وهو زهور اللوبيليا المحلية. وفي نيفادا، سرعان ما طوَّرت أسماك البعوض الصغيرة، التي تعيش في حُفَر المياه المنفصلة الموجودة بالصحراء، والتي كانت متصلةً خلال العصر الجليدي الأخير، اختلافاتٍ كبيرةً في أقل من ٢٠ ألف عام. وفي أستراليا، قامت الأرانب البرية التي جلبها المستوطنون الأوروبيون منذ أقل من قرنٍ من الزمان، بتعديل وزن أجسادها وحجم آذانها استجابةً للظروف المختلفة في المناطق النائية.

يمكننا أيضًا أن نلاحظ في الحشرات بعضًا من أفضل الأمثلة على التطور السريع، وقد ذكرنا منها الدراسة التي أجراها والش على ذبابة الزعرور. ذلك أنَّ الزمن الجيلي لمعظم الحشرات قصير للغاية، وهي تضع أعدادًا هائلة من البيض تتراوح من المئات إلى الآلاف؛ ولهذا يمكنها التطور بسرعة أكبر كثيرًا من الحيوانات ذات الأجيال الطويلة ومعدلات الولادة البطيئة. ولعل أشهر مثال على ذلك هو العُثَّة المُرقَّطة، («بيستون بيتولاريا»)، التي تُذكَر في العديد من الكتب الدراسية لعلم الأحياء (الشكل ٣-٦). كانت حشرات العُث البرية مغطَّاة ببقع على أجنحتها، لتمويهها على لِحاء الأشجار المغطَّى بالطحالب. لكن هذا كله قد تغير خلال الثورة الصناعية، عندما أدى التلوث إلى تحويل جذوع الأشجار إلى اللون الأسود. وفجأة أصبح الشكل الأكثر شيوعًا من هذه الحشرة هو نوعًا متحوِّرًا، كان نادرًا فيما سبق، له أجنحة سوداء؛ إذ كانت تخفيه جيدًا على لحاء الشجر الأسود في ذروة التلوث الناجم عن حرق الفحم. أما الضَّرْب البري المُرقَّط، فقد اختفى تقريبًا لأنه أصبح الآن واضحًا للطيور المفترسة، ولم يكن الانتخاب الطبيعي في صالحه. وفي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، أدت قوانين مكافحة التلوث إلى إغلاق محطات الطاقة أو تنظيفها، وعادت الأشجار إلى مظهرها الرمادي المرقط. ومرة أخرى، أصبحت حشرات العُث السوداء نادرة، وازدهرت حشرات العُث المُرقَّطة؛ لأنها كانت مموَّهة جيدًا.
fig17
شكل ٣-٦: عادةً ما تكون العُثَّة المُرقَّطة مغطَّاة بنمط مُرقَّط رمادي، لكنَّ لها أيضًا شكلًا متحوِّرًا نادرًا أسود تمامًا. وقد سادت هذه الأشكال السوداء خلال الثورة الصناعية، عندما تسبب السُّخام في اسوداد لحاء الشجر، مما جعل العُث الأسود أقل وضوحًا؛ ومن ثَم فضَّله الانتخاب الطبيعي على الأصناف المرقَّطة. (إهداء من «ويكيميديا كومنز»)

ثمة مثال آخر على التطور السريع الحديث في الحشرات، وهو حشرة «سرينثاني»؛ وهي حشرة صغيرة ذات «منقار» طويل، أو خرطوم، تستخدمه لاختراق قشرة الفاكهة أو البذور، وامتصاص باطنها المغذِّي. في جنوب الولايات المتحدة، تعيش هذه الحشرة على ثلاثة أنواع من النباتات الأصلية، ولهذه الحشرات مناقير طويلة نسبيًّا. لكن في فلوريدا، تعلمت هذه الحشرات العيش على نبات جُلِب في الخمسينيات من القرن الماضي؛ شجرة المطر الذهبية ذات القرون المسطحة، وهي شجرة تتسم بأنَّ قشور بذورها أرقُّ. يبلغ طول مناقير هذه الحشرة في البرية ۹ ملِّيمترات تقريبًا، لكنها لا تحتاج إلا إلى حوالي ۳ ملِّيمترات من هذا المنقار، لاختراق الجزء الخارجي من مصدر الغذاء الجديد هذا. وبناءً على هذا، فإن حشرة سرينثاني الموجودة في فلوريدا تكيَّفت عن طريق امتلاكٍ لمناقير أقصر في الستين عامًا الماضية فقط. وفي منطقة أخرى، تتغذَّى هذه الحشرة نفسها على نبات النوفة (الذي تتسم بذوره بسُمك قشرتها)، وبدأت بالفعل في أن تتطور لديها مناقير أطول منذ عام ۱۹۷٠، عندما أُدخِل هذا النبات قبل أقل من ٥٠ عامًا.

ومن بين الأمثلة العديدة للحشرات التي تتطور، فإن أكثرها لفتًا للنظر هي تلك التي طورت مقاومة لمبيدات الحشرات في غضون بضعة عقود فحسب، مما تسبب في أضرار اقتصادية هائلة في جميع أنحاء العالم. إنَّ جميع حشرات الذباب المنزلي الحديثة لا تحمل الآن جينات تجعلها مقاوِمة لمادة اﻟ «دي دي تي» فحسب، بل تزودها أيضًا بالمقاومة للبيرثرويد والديلدرين والفوسفات العضوي والكاربامات، فلم يتبقَّ سوى القليل للغاية من السموم التي يمكن أن تبيد هذا الذباب. وهذا البعوض الذي طور مقاومة لمادة اﻟ «دي دي تي» وغيرها من المبيدات الحشرية المصنوعة من الفوسفات العضوي، والذي تطور في أفريقيا خلال الستينيات على ما يبدو، انتشر في آسيا ووصل إلى كاليفورنيا بحلول عام ۱۹۸٤، وإيطاليا في عام ۱۹۸٥، وفرنسا في عام ۱۹۸٦. وأودُّ هنا أن أقتبس وصف عالم الحشرات مارتن تايلور لهذه المسألة، والذي ورد في كتاب جوناثان وينر «منقار الشرشوريات»:

دائمًا ما يدهشني أن أنصار التطور لا يُولون مثل هذه المسائل كثيرًا من الاهتمام، وأنَّ على مزارعي القطن التعامل مع هذه الآفات في الولايات نفسها التي تعارض هيئاتها التشريعية نظرية التطور. إن ما يكافحونه في حقولهم كل موسم ليس إلا التطور نفسه. فهؤلاء الأشخاص يحاولون حظر تدريس التطور، بينما يفشل محصول القطن في حقولهم بسببه. كيف يمكن أن تكون مزارعًا يؤمن بالخلق بعد كل هذا؟ (٢٢٥)

غير أنَّ الأمثلة الأسرع على التطور توجد في الميكروبات، التي يمكن أن تتكاثر في غضون فترة تتراوح من بضع دقائق إلى ساعات من الزمن الجيلي، لتكوِّن آلاف الأفراد في المجموعة السكانية. لن يوجد لدينا علاج لفيروس البرد الشائع أبدًا لأن الفيروسات التي تسبب نزلات البرد تطوِّر أغلفة بروتينية جديدة في غضون بضعة أشهر، مما يجعلها غير مألوفة لجهازنا المناعي؛ ومن ثَم قادرة على مهاجمتنا مرة أخرى (سوف نعاني من نزلة برد شديدة إلى أن يتمكن نظامنا المناعي في نهاية المطاف من مقاومة الفيروسات). وفي كل عام، يجب على المختبرات الطبية حول العالم تطوير لقاحات جديدة لفيروس الإنفلونزا؛ إذ تظهر منه في كل عام سلالات جديدة لا يتعرف عليها جهازنا المناعي. فلقاح الإنفلونزا يحتوي على نسخ مقتولة من عدة سلالات من هذا الفيروس، يتفاعل جهازك المناعي مع هذه النسخ ويتأهب لها حتى لا تصاب بالمرض. لكن العديد من السلالات الجديدة يظهر كل عام، ولا يمكن للقاح الإنفلونزا توقعها جميعًا؛ ولهذا ثمة أشخاص ممَّن يتلقَّون اللقاح يصابون بالعدوى رغم ذلك. هذه معركةٌ لا تنتهي أبدًا مع الكائنات الحية التي تتطوَّر بوتيرةٍ أسرع كثيرًا من وتيرة حمايتنا لأنفسنا، مثل الحشرات التي تطوِّر مقاومة لجميع ما لدينا من مبيدات حشرية.

لذلك في المرة القادمة التي تُصاب فيها بالبرد أو الإنفلونزا، أو تلدغك بعوضة، تذكر أنك شاهد على التطور في أرض الواقع، حتى وإن استخدمت المبيدات الحشرية لإبعادها عنك. إنَّ التطور يحدث في كل مكان من حولنا طوال الوقت، سواء اعترفنا به أم لا. ويُعَد تطوير مبيدات حشرية جديدة ولقاحات للإنفلونزا أمرًا ضروريًّا لبقائنا في هذا السباق مع هذه الكائنات السريعة التطور. إذا لم نعترف بالتطور، فسنخسر السباق ضد الأمراض ونخسر المحاصيل.

قراءات إضافية

  • Berta, Annalisa, The Rise of Marine Mammals: 50 Million Years of Evolution, Baltimore, Md.: Johns Hopkins University Press, 2017.
  • Berta, Annalisa, James L. Sumich, and Kit M. Kovacs, Marine Mammals: Evolutionary Biology, 3rd ed., Amsterdam: Academic Press, 2015.
  • Gould, Stephen Jay, “Hooking Leviathan by Its Past,” Dinosaurs in a Haystack: Reflections in Natural History, New York: Norton, 1997.
  • Prothero, Donald R., The Princeton Field Guide to Prehistoric Mammals, Princeton, NJ: Princeton University Press, 2016.
  • Prothero, Donald R. and Scott E. Foss, eds., The Evolution of Artiodactyls, Baltimore, Md.: Johns Hopkins University Press, 2007.
  • Prothero, Donald R. and Robert M. Schoch, Horns, Tusks and Flippers: The Evolution of Hoofed Mammals, Baltimore, Md.: Johns Hopkins University Press, 2002.
  • Pyenson, Nick D., Spying on Whales: The Past, Present and Future of the World’s Most Awesome Creatures, New York: Viking, 2018.
  • Savage, R. J. G. and M. R. Long, Mammal Evolution: An Illustrated Guide, New York: Facts-on-File, 1986.
  • Thewissen, J. G. M., ed., The Emergence of Whales: Evolutionary Patterns in the Origin of Cetacea, New York: Plenum Press, 1998.
  • ______, The Walking Whales: From Land to Water in Eight Million Years, Berkeley: University of California Press, 2014.
  • Zimmer, Carl, At the Water’s Edge: Macroevolution and the Transformation of Life, New York: Free Press, 1998.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤