الفصل الرابع

المخطط المشترك لأجسادنا

التناظر

رأينا كيف أنَّ الكائنات التي تنتمي إلى الطائفة نفسها يتشابه بعضها مع بعض في الأساس العام لتكوينها العضوي، بصرف النظر عن عاداتها الحياتية. وغالبًا ما يُعبَّر عن هذا التشابه بمصطلح «وحدة النمط»، أو بالقول إنَّ الأجزاء والأعضاء المختلفة في الأنواع المختلفة التي تتبع الطائفة نفسها؛ متناظرة. يندرج الموضوع بأكمله تحت مصطلح عام، وهو علم الشكل؛ المورفولوجيا. وهذا العلم هو واحد من أكثر تخصصات التاريخ الطبيعي إثارة للاهتمام، بل يجوز لنا القول إنه روحه نفسها. فأي شيء أعجب من أن تكون يد الإنسان المهيَّأة للقبض، ويد الخُلْد المهيأة للحفر، وساق الحصان، ومجداف خنزير البحر، وجناح الخفاش، قد تأسست جميعها على النمط نفسه، وهي تضم عظامًا متشابهة في المواضع النسبية نفسها؟

تشارلز داروين، «أصل الأنواع» (۱۸٥۹)

كتب الفيلسوف وعالم الرياضيات البريطاني الشهير ألفريد نورث وايتهيد يقول إن «أسلم وصف عام للفلسفة الأوروبية هو أنها تتألف من سلسلة من الهوامش على أفلاطون». هذا تبسيط مخلٌّ بالطبع، لكنه يعكس حقيقة أن أفلاطون هو مَن حدد معظم الموضوعات الرئيسية في الفلسفة، ووضع الأساس لها، وتلك هي الموضوعات نفسها التي طُوِّرت بعد ذلك على مدى الألفَي عام التي تلَتْه. ومن بعض النواحي، نشأ الكثير من العلوم الحديثة (لا سيما علم الأحياء) مع طالب أفلاطون الشهير؛ أرسطو، الذي لم يركز كثيرًا على الفلسفة بقدر ما ركَّز على وصف الطبيعة، كما عرفها الإغريق عام ۳٥٠ قبل الميلاد تقريبًا وتفسيرها. ورغم ذلك، فعلى عكس المشاكل الفلسفية التي وضعها أفلاطون والتي لن تُحَل أبدًا، تلاشت معظم أفكار أرسطو؛ إذ أثبت العلم الحديث أنه أخطأ أكثر مما أصاب.

غير أنَّ أرسطو كان محقًّا عندما ناقش مفهومًا مهمًّا نعرفه نحن الآن باسم «التناظر». ربما يكون علماء الطبيعة القدماء الآخرون قد لاحظوه كذلك، لكن أرسطو هو أول من كتب عنه فيما يبدو (هذا ما تشير إليه الكتابات القديمة التي وصلت إلينا على الأقل). أشار أرسطو إلى أن العظام نفسها في أطراف الفقاريات قد عُدِّلت تعديلات كبيرة لاستخدامات مختلفة تمامًا (الشكل ٤-١). فعلى سبيل المثال، تحتوي بنية الأطراف الأمامية لدى رباعيات الأرجُل على نفس العناصر الأساسية؛ عظمة ذراع طويلة قوية معلَّقة بلوح الكتف من خلال مَفصِل كروي حُقِّي (عظم العَضُد)، وزوج من العظام الطويلة في الساعد (الكُعبُرة والزَّنْد)، وعدد من العظام التي يتكون منها الرُّسْغ والأصابع (عظام الرُّسْغ، عظام السِّنْع، والسُّلامَيَات). ورغم ذلك، عُدِّلت هذه البنية الأساسية بما يتلاءم مع وظائف مختلفة تمامًا في مختلف الفقاريات. تُعَد بنية هذه العظام في البشر والرئيسيات الأخرى غير معدَّلة نسبيًّا، لكنها معدَّلة في الحيتان لتُشكِّل زعنفة، وفي الخفافيش تستطيل الأصابع للغاية لدعم غشاء الجناح، وفي الخيول تُفقَد جميع الأصابع الجانبية ولا يبقى سوى الإصبع الوسطى وعظام الرسغ الأوسط (ميتابوديال) التي تستطيل بدرجةٍ كبيرةٍ لتشكيل الحافر، وفي الخُلْد يصبح الرسغ والأصابع بالغَي القِصَر ومتينَين بغرض الحفر، وفي القطط تندمج الأصابع في كفٍّ بمخالب حادَّة، وهكذا. بعبارة أخرى، يبدأ الطرف الأمامي للفقاريات بتخطيطٍ أساسي، لكنه يتحوَّل تمامًا بعد ذلك ليؤدِّيَ وظائف مختلفة للغاية. لم يعرف أرسطو تفسيرًا لهذه الظاهرة، لكنه قال إنها توضح الوحدة الأساسية لخطة الطبيعة، أي إنها منظومة موحَّدة، وليست خليطًا عشوائيًّا من المخلوقات.
fig18
شكل ٤-١: الأدلة على التناظر. تتكون جميع الأطراف الأمامية للفقاريات على نفس التخطيط الأساسي بالوحدات الأساسية نفسها، على الرغم من أنها تؤدي وظائف مختلفة إلى حد كبير. عُدِّل الطرَف الأمامي الفقاري الأساسي إلى زعنفة لدى الحيتان، وجناحٍ لدى الخفافيش، ويدٍ بإصبع واحدة للركض لدى الخيول، رغم أن الهيكل العظمي الأساسي هو نفسه. (رسم كارل بويل)
fig19
شكل ٤-٢: نقيض التناظر هو التماثل (المعروف أيضًا باسم التطور المتقارب)، والذي يحدث فيه أنْ تتطوَّر بنًى في أجساد الكائنات الحية التي لا تجمعها صلة قرابة وثيقة، لتصبح متشابهة في الشكل والوظيفة. فالزعانف والأجساد الانسيابية للحيوانات المائية، مثل الأسماك والإكثيوصورات والدلافين، تمنحها جميعًا بنًى جسدية متشابهة للغاية، على الرغم من أن دراسة تشريحها غير المرتبط بالسباحة تُظهِر أن أحدها حيوان ثديي يتنفس الهواء (الشكل ٤-٢(ﺟ))، والآخر زاحف يتنفس الهواء (الشكل ٤-٢(ب))، بينما القرش هو حيوان فقاري خيشومي كالأسماك الأخرى (الشكل ٤-٢(أ)) يستطيع استخلاص الأكسجين من الماء مباشرة.
إضافةً إلى ذلك، ميَّز أرسطو هذا المفهوم عن «التماثل». في حالة التناظر، تستخدم الحيوانات الأجزاء الأساسية نفسها لوظائف مختلفة. أما في حالة «التماثل»، فإنَّ الحيوانات تُعدَّل للقيام بوظائف متماثلة باستخدام أجزاء مختلفة من أجسادها. فعلى سبيل المثال، تمتلك معظم الفقاريات المائية أجسادًا انسيابية على شكل الطوربيد، إضافةً إلى نوع أو غيره من الزعانف لدفعها (الشكل ٤-٢). ولسنا بحاجة إلى مقارنة أجساد الفقاريات المائية الشبيهة بالأسماك، مثل الحيتان والدلافين وطيور البطريق، بأجساد الزواحف المنقرضة الشبيهة بالدلافين، والمعروفة باسم الإكثيوصورات؛ لرؤية التشابه السطحي بين هذه وتلك. وبالرغم من ذلك، فبنيتها الأساسية مختلفة تمامًا (لا سيما بالنسبة لتشريحها الداخلي وتكاثرها)؛ ولهذا نعلم أن هذا الشكل الجسدي قد تطور للسباحة بشكلٍ مستقلٍّ في مجموعات مختلفة؛ الثدييات (الحيتان)، الطيور (البطاريق)، الزواحف (الإكثيوصورات)، وأيضًا في العديد من السلالات التي تندرج كلها تحت الاسم الفضفاض للغاية؛ «الأسماك».
يمكنك أيضًا أن تتأمل الوسائل المختلفة التي شكلت بها الحيواناتُ الطائرة أجنحتها (الشكل ٤-٣). فالخفافيش تستخدم أصابعها المطولة، بينما دمجت الطيور جميع عظام أصابعها في عظمة واحدة تُسمى الجُنيح أو «الألولا» (ذلك الجزء العظمي الرقيق من أجنحة الدجاج الذي لا تأكله أبدًا)، وهي تدعم أجنحتها بقوائم الريش. للزواحف الطائرة المعروفة باسم التيروصورات (وتُسمى أيضًا الزواحف المُجنَّحة) إصبعٌ رابعة استطالَت بدرجةٍ كبيرة («إصبع البِنصَر»)؛ وذلك لدعم أجنحتها. أما الحشرات الطائرة فقد بنَت أجنحتها من أعضاء مختلفة تمامًا عن أذرع الفقاريات الطائرة. صحيحٌ أنَّ هذه البنى جميعها تخدم وظيفة الطيران، سواء في الثدييات أو الطيور أو الزواحف أو الحشرات، لكنها بُنيت بطرق مختلفة تمامًا. حقيقة الأمر أنَّ بذور العديد من النباتات، مثل بذور الجُمَّيز، تحتوي على أغلفة شبيهة بالأجنحة تسمح للبذرة الساقطة «بالطيران» لمسافة كبيرة من الشجرة الأصلية، ومن الواضح بالطبع أنها تشكلت من أجزاء تختلف تمامًا عن تلك التي تشكلت منها أجنحةُ أيِّ حيوان.
fig20
شكل ٤-٣: يَبرُز التطور المتقارب في ثلاث مجموعات مختلفة من الفقاريات الطائرة. تستخدم الخفافيش أصابع يدها المطوَّلة لدعم أغشية أجنحتها، بينما دُمِجت أصابع الطيور في عظمة واحدة، وهي تدعم أجنحتها بقوائم الريش. أما التيروصورات فطوَّرت حلًّا آخر؛ الجناح مدعوم بإصبع رابعة طويلة للغاية («البنصر»).
وعلى مدار الألفيتين التاليتين، ناقش العلماء والباحثون وصف أرسطو للتناظر مرات عديدة. والأرجح أنَّ أول تقرير فعلي مُفصَّل عن هذا الوصف هو تقرير عالم الطبيعة والرحَّالة والدبلوماسي الفرنسي بيير بيلون. فعلى غرار غيره من المثقفين في عصر النهضة، كان بيير بيلون مهتمًّا بموضوعات عدة، ومنها الهندسة المعمارية وعلم المصريات وعلم النبات وعلم الأسماك وعلم التشريح المقارن. في عام ١٥٥١، ألَّف كتابًا عن الأسماك البحرية الغريبة (والتي كانت تشمل الحيتان آنذاك). في عام ۱٥٥۳ ألَّف أربعة كتب جديدة، أصبح أحدها أساس علم الأسماك، والآخر عن الصنوبريات، والثالث عن العادات الجنائزية للقدماء (خاصة التحنيط المصري)، والكتاب الرابع عن «الأشياء البارزة» الموجودة في اليونان، وآسيا، ويهودا، ومصر، و«دول غريبة أخرى». في عام ۱٥٥٥، كتب «تاريخ طبيعة الطيور». وفي هذا الكتاب، ناقش بيلون بعضًا من المفاهيم الأولى لما يُسمى الآن بالتشريح المقارن، وقد أورد فيه رسمًا رائعًا كان من بين أوائل الرسومات التي أظهرت العظام المتناظرة على الهياكل العظمية للطيور والبشر (الشكل ٤-٤).
fig21
شكل ٤-٤: رَسْم بيير بيلون الشهير للهيكل العظمي البشري والهيكل العظمي للطيور، مرسومَين بنفس الحجم وفي وضعٍ مماثل، مما يوضح التشابه بين معظم عظام الهيكلَين. من كتاب «تاريخ طبيعة الطيور»، ۱٥٥٥.

وقد اعتُبِر هذا النمط من التشابه جزءًا من «سلسلة الوجود العظمى» لعدة قرون، مفسرًا الزيادة التدريجية في التعقيد من الإسفنج والشعاب المرجانية إلى الرخويات إلى الأسماك إلى الزواحف إلى البشر، وغالبًا ما كانت هذه السلسلة تمتد إلى الكائنات الإلهية، من الشيروبيم والسيرافيم إلى الملائكة لرؤساء الملائكة إلى الرب. وبحلول القرن الثامن عشر الميلادي، كانت المدرسة الألمانية للفلسفة («الفلسفة الطبيعية» أو «التاريخ الطبيعي» في الإنجليزية) تمجِّد التناظر بصفته جزءًا من الخطة العظيمة المتمثلة في وحدة الطبيعة (مع صبغة دينية في المعتاد توحي بأنَّ تلك هي مشيئة الرب). لاحظ الشاعر والفيلسوف والباحث الألماني العظيم يوهان فولفجانج فون جوته في عام ۱۷۹٠؛ أنه حتى النباتات تتسم بحالات التناظر؛ إذ ليست بَتَلات الزهور سوى أوراقٍ معدَّلة. وفي عام ۱۸۱۸، نشر عالم الحيوان الفرنسي الرائد إيتيان جوفروا سانت هيلار نظريته عن التماثل، التي افترض فيها أن الهياكل المشتركة بين الفقاريات كلها واحدة. وقد حاول توسيع افتراضه ليشمل اللافقاريات، مما أثار الجدالات الشهيرة مع البارون جورج كوفييه، أعظم علماء التشريح والحفريات في ذلك الوقت، الذي كان يعتقد أنه لا توجد روابط بين الفروع الخمسة العظيمة للطبيعة.

في البداية، لاحظ عالم الأجنَّة الإستوني الشهير كارل إرنست فون باير (انظر الفصل الخامس) أن البنى المتناظرة، كالطرف الأمامي لدى الفقاريات، بدأت من بنًى جنينية مشتركة بين جميع الفقاريات، وبهذا تتبَّع باير جذور التناظر إلى النمو الجنيني. وأخيرًا، في عام ۱۸٤۳، صاغ عالم التشريح والحفريات البريطاني الأسطوري ريتشارد أوين مصطلح «التناظر»، وقد استُخدِم بهذا المعنى منذ ذلك الحين. اعتمدت اختباراته لمعرفة ما إذا كانت أي بنية متناظرة أم لا على ثلاثة أشياء؛ الموضع والنمو والتكوين. ورغم ذلك، فقد ابتكر أوين تفسيراته الخاصة المتفردة للسبب في وجود التناظر، لقد كان التناظر جزءًا من «النموذج الأصلي» الأساسي، أو مخطط الرب لتصميم الكائنات الحية.

واجهت جميع هذه التفسيرات القديمة المزعومة للتناظر المشكلة ذاتها، وهي أنها وصفت التناظر، لكنها لم تفسره في واقع الأمر. ففي معظم الحالات، لا تقدم الأفكار المتمثلة في النماذج الأصلية أو وحدة النمط سوى أنها تُعيد طَرْح ما هو واضح؛ جميع الكائنات لها نمط مشترك للجسد، لكن «سبب» وجود هذا النمط غير معلوم. وفي كثير من الحالات، كان فلاسفة الطبيعة يزعمون أن السبب في وجود هذا النمط المشترك أو النموذج الأصلي؛ أنَّ ذلك هو المخطط الذي وضعه الرب للحياة. لكن هذا الزعم أيضًا ليس بفرضية قابلة للاختبار؛ فالاكتفاء بقول إنَّ «الرب مَن فعل ذلك» لا يسمح بأي نوع من التحليل العلمي، أو أي اختبار لهذه الفكرة. وقد اتضح صحة ذلك تحديدًا عندما أشار فون باير إلى أن التناظر يمتدُّ إلى السلائف الجنينية للأطراف الأمامية.

وإلى هذه الفجوة تقدَّم تشارلز داروين. فمنذ أيام دراسته في جامعتَي إدنبرة وكامبريدج، وهو على دراية بالنقاش الدائر بشأن وحدة النمط، التي أيَّدها فلاسفة الطبيعة في عصره. وكانت هذه المسائل تجول بخاطره، عندما عاد في عام ۱۸۳٦ من رحلة البيجل التي استمرَّت خمس سنوات. ومثلما يتضح من دفاتر ملاحظاته المبكرة، فإن كلًّا من هذه الرحلة وأبحاثه التي لحقتها جعله يشكُّ في أن الأنواع «ثابتة» و«غير قابلة للتغيير» على مدار الزمن. وحالما فتح الباب لفكرة تحول نوعٍ ما إلى نوعٍ آخر، وأن هذا التغيير مدفوعٌ بالانتخاب الطبيعي، أصبح من الممكن تفسيرُ وحدة النمط. فالسبب الكامن وراء التناظر بين أفراد أنواع كثيرة من النباتات والحيوانات هو أن سلَفها المشترك قد تكوَّن على نفس مخطط الجسد، ثم عدَّل الأسلاف ما ورثوه ليلائم وظيفة أخرى.

ومثلما فسَّر الانتخابُ الطبيعي التناظر، فسر التماثل أيضًا. فإذا كان الانتخاب قد دفع الكائنات الحية للتكيف مع بيئتها المحلية، فلا بد أنَّ المجموعات المختلفة ذات الأصول المختلفة، مثل الأسماك والحيتان وطيور البطريق والإكثيوصورات، كانت ستتخذ شكلًا أكثر انسيابية للجسد للتنقُّل عبر الماء بكفاءةٍ أعلى. وستبني الكائناتُ التي أصبحت طيورًا فيما بعدُ أجنحتها مما ورثته عن أسلافها، وهذا هو سبب اختلاف أجنحة الحشرات عن أجنحة الخفافيش والطيور والتيروصورات. لقد رأى داروين نفسه كيف أنَّ مناقير شرشوريات جالاباجوس تحوَّلت لتُشبه مناقير طيور البر الرئيسي التي تنتمي إلى نوعٍ مختلف، وليس ذلك لشيءٍ إلا لأنَّ للمنقارَين وظيفةً مشتركة. فعلى أية حال، إذا أراد مصمِّم إلهي كليُّ القدرةِ خَلْق أجنحة، فلماذا لا يستخدم خطة البناء الأكثر كفاءة نفسها، بدلًا من ارتجال أجنحة من بنًى مختلفة تمامًا؟ واليوم، نسمِّي هذا التطور للبنى المتشابهة في المجموعات التي لا تجمعها صلة قرابةٍ وثيقة باسم «التطور المتقارب».

منذ أن ناقش داروين التناظر في «أصل الأنواع» عام ۱۸٥۹ (راجع الاقتباس الوارد في بداية الفصل)، تضاعفت الأمثلة بشكل هائل. يمكن رؤية بعض أفضل الأمثلة في نمو الأجنحة والزوائد الأخرى في المفصليات، وهي تلك الكائنات «التي تحتوي أرجلها على مفاصل»، ومنها الحشرات والعناكب والقشريات وثلاثيات الفصوصِ وأقاربها. لجميع هذه الحيوانات خطة جسد مرنة مع عدد من المقاطع (الجسيدات)، التي يستطيع كلٌّ منها أن يتحمَّل زوائد مختلفة. ويمكن لهذه الكائنات مضاعفة مقاطعها كما هو الحال في الديدان الألفية أو المئويات الأرجل، أو يمكنها تعديل زوائدها في كل جزء إلى وظائف مختلفة؛ الأرجل، وأجزاء الفم، وقرون الاستشعار، والملاقط، والأجنحة. تُعرَف ظاهرةُ وجود البنية نفسها في جميع المقاطع وتكرارها مرارًا وتكرارًا باسم «التناظر التسلسلي». فكل زائدةٍ في كل مقطع متناظرة مع أنواعٍ مختلفةٍ من الزوائد على مقاطع أخرى. أقدم مفصليات الأرجل المعروفة هي الديدان الألفية، وقد تطوَّرت المجموعات اللاحقة عن طريق تقليل عدد المقاطع، وتغيير وظيفة الزوائد في كل مقطع. وحتى داخل المجموعات يمكننا العثور على بعض الأمثلة الرائعة للكائنات المتناظرة تسلسليًّا التي تتطور. فعلى سبيل المثال، أكثر الحشرات المجنَّحة بدائيةً هي اليعاسيب ومقترنات الأجنحة، التي يوجد لها زوجان من الأجنحة على ظهورها (الشكل ٤-٥(ب)). لكن في الخنافس، عُدِّلت المجموعة الأولى من الأجنحة إلى زوجٍ من الأغطية الصُّلبة الشبيهة بالصَّدَف تُسمَّى الغِمْد، والتي تحمي الأجنحة الطائرة خلفها من خلال تغطيتها (الشكل ٤-٥(أ)). وفي حشرات الذباب والبعوض وأقاربها، عُدِّلت مجموعة الأجنحة الخلفية إلى زوج من الهياكل الشبيهة بالعقد تُسمى الرسن، وهي تساعد على استقرارها أثناء الطيران (الشكل ٤-٥(ﺟ)). كل هذه السمات تتطور من جذع جنيني مشترك، والذي عادةً ما يُكوِّن جناحًا طائرًا، لكنها تتغير في أثناء النمو بينما تمر الحشرة بمراحل اليرقة المختلفة حتى تصبح بالغة.
fig22
شكل ٤-٥: بعض البنى الموجودة في الحشرات المُكوَّنة من السلائف الجنينية للأجنحة. (أ) المجموعة الأولى من براعم الجناح تتحول في الخنافس إلى الأصداف الواقية الصلبة، أو الغِمْد، لحماية مجموعة الأجنحة الطائرة الرقيقة التي تنمو من الزوج الثاني من براعم الجناح. (ب) في اليعاسيب، كلا الزوجين من الأجنحة مكتمل النمو. (ﺟ) في الذباب، تنمو المجموعة الأولى من الأجنحة، بينما تشكِّل المجموعة الثانية زوجًا من المقابض القصيرة يُسمَّى الرسن، ويساعد على حفظ التوازن عند الطيران. (إهداء من «ويكيميديا كومنز»)
لقد توصل العلماء بالفعل إلى النمط الدقيق للنمو الجنيني للمفصليات، استنادًا إلى المخطط البدائي لتكوينها الجسدي، وتوصلوا منه أيضًا إلى فهم الشفرة الجينية الأساسية التي تتحكم في هذا المخطط. تحمل جميع الجسيدات العشر الأولى أعدادًا تشير إليها (الجدول ٤-١)، وتقوم المجموعات المختلفة من المفصليات بتعديل الزوائد في كل جسيدة بشكل مختلف. على سبيل المثال، نجد أنَّ ثلاثيات الفصوص لا تعدل سوى زوائدها الواقعة على الجسيدة ۱ إلى قرون استشعار، بينما بقية المقاطع تحمل أرجلًا. للعناكب ست جسيدات فقط؛ الجسيدة ۱ تحمل الكُلَّاب القرني (الفكين والأنياب)، والجسيدة ٢ تتحول إلى اللوامس القدمية (بقية أجزاء الفم)، وبالنسبة إلى الجسيدات ۳–٦ فلكلٍّ منها زوج من الأرجل، ما يمنحها ثماني أرجل إجمالًا. تنتِج المئوياتُ الأرجل قرونَ الاستشعار على الجسيدة ۱، ونجد أنَّ الجسيدة ٢ خالية من الزوائد، وتوجد أجزاء فمها على الجسيدات ۳–٥، ثم تبدأ المجموعة الأولى من الأرجل على الجسيدة ۷، وتتبعها عشرات الجسيدات وأزواج من الأرجل. وفي الحشرات، تنمو قرون الاستشعار على الجسيدة ۱، وتنمو أجزاء الفم على الجسيدات ۳–٥، وتنمو مجموعاتها الثلاث من الأرجل على الجسيدات ٦–۸. وأخيرًا، تمتلك القشريات مجموعتَين من قرون الاستشعار على الجسيدتَين ١ و٢، بينما تخرج أجزاء فمها من الجسيدات ۳–٥، وتوجد أزواج أرجلها الخمس على الجسيدات ٦–۱٠. وبناءً على هذا، فإنَّ الجسيدات ۳–٥ أرجل في ثلاثيات الفصوص والعناكب، ولكنها أجزاءٌ من الفم في المئويات الأرجل والحشرات والقشريات.
جدول ٤-١: تناظر الزوائد المختلفة في مجموعات محددة من المفصليات.*
جسيدة (مقطع من الجسم) ثلاثيات الفصوص (الترايلوبيتومورفا) عنكبوت (كُلَّابيات القرون) مئويات الأرجل (دخداخيات) حشرة (سداسيات الأرجل) قريدس (قشريات)
۱ قرون استشعار الكُلاب القرني (الفكان والأنياب) قرون استشعار قرون استشعار قرون الاستشعار الأولى
٢ الأرجل الأولى اللوامس القدمية - - قرون الاستشعار الثانية
۳ الأرجل الثانية الأرجل الأولى الفك العلوي الفك العلوي الفك العلوي
٤ الأرجل الثالثة الأرجل الثانية الفك السفلي الأول الفك السفلي الأول الفك السفلي الأول
٥ الأرجل الرابعة الأرجل الثالثة الفك السفلي الثاني الفك السفلي الثاني الفك السفلي الثاني
٦ الأرجل الخامسة الأرجل الرابعة طوق (بدون أرجل) الأرجل الأولى الأرجل الأولى
۷ الأرجل السادسة - الأرجل الأولى الأرجل الثانية الأرجل الثانية
۸ الأرجل السابعة - الأرجل الثانية الأرجل الثالثة الأرجل الثالثة
۹ الأرجل الثامنة - الأرجل الثالثة - الأرجل الرابعة
۱٠ الأرجل التاسعة - الأرجل الرابعة - الأرجل الخامسة
المصدر: تجميع المؤلف من مصادر مختلفة.

وماذا عن إبرة اللدغ لدى الدبابير والنحل؟ كانت إبرة اللدغ في الأصل جهاز حَقن أنبوبيًّا طويلًا (شبيهة بإبرة تحت الجلد) تُعرَف باسم المسرأ، وتستخدمه أنواع كثيرة من إناث الحشرات لوضع البيض (غالبًا داخل مادة حية أخرى كحشرة أخرى، راجع الفصل الثامن). لكن العديد من الحشرات الاجتماعية للغاية، مثل الدبابير والنحل، لم تعد تستخدمها في وضع البيض. فالنحل العامل، على سبيل المثال، جميعه من الإناث، لكنها إناث لا تستطيع التكاثر؛ لذلك عُدِّل المسرأ الخاص بها إلى إبرة اللدغ. إذا لدغت نحلة عاملة شيئًا ما، فعادة ما تكون تلك مهمة انتحارية لها؛ إذ تتمزق إبرة اللدغ خارجة من بطنها، مما يُنهي حياة النحلة. أما ذكور النحل فلا تنمو لديها إبرة اللدغ على الإطلاق لأنها لا تمتلك الجينات الخاصة بالمسرأ، وهو عضو تناسلي أنثوي.

توجد أمثلة مفاجئة على حالات التناظر في مختلف الكائنات الحية. فأنت الآن مثلًا، تسمع من خلال العظام الثلاثة الموجودة في أذنك الوسطى؛ المطرقة والسِّندان والرِّكاب. تعمل هذه العظام على توصيل الأصوات من اهتزازات طبلة الأذن، إلى لوح الضغط الموجود في نهاية الأنبوب الملفوف الطويل في أذنك الداخلية (القوقعة)، والتي تحوِّل هذه الاهتزازات من الشعيرات الصغيرة في السائل إلى صوت في دماغك. لكن كيف تطور هذا التنظيم الأخرق وغير الفعَّال؟ عندما كنت جنينًا، كان كلٌّ من المطرقة والسندان جزءًا من المفصل الواقع بين الجمجمة والفكَّين، وقد انتقلا إلى أذنك الوسطى خلال نُموِّك الجنيني. كان السندان في الأصل هو العظمة المربعة في مؤخرة الجمجمة، والتي كانت متصلةً بالعظمة الزاوية (= المطرقة) الموجودة في مؤخرة الفك.

فلماذا طورت الثدييات مثل هذا التنظيم الأخرق؟ يمكننا تتبع أصله إلى حفريات أقدم أقرباء الثدييات، وهي مجموعة «الثدييات الأولية»، أو ما يُعرَف باسم ملتحمات الأقواس. كانت هذه الحفريات تُسمى بشكل خاطئ «الزواحف الشبيهة بالثدييات»، لكن لم يكن لها أي علاقة بالزواحف، ولم يعد هذا المصطلح يُستخدم الآن. وعندما نتتبَّع تطوُّر أقدم ملتحمات الأقواس إلى ثدييات، نرى أنَّ كلًّا من العظمة الزاوية في الفك، والعظمة المربعة في الجمجمة يصبح أصغر وأصغر حتى يتطوَّر مفصلٌ جديدٌ بين عظمتَين مختلفتَين؛ العظمة الحرشفية للجمجمة والعظم السني للفك، وهو مفصل الفك الموجود الآن في جمجمتك. بقيَت هذه العظام بينما فقدت الزواحف عظام الفك الأخرى؛ لأن الزواحف تنقل الصوت في المعتاد من فكها السفلي عبر مفصل الفك إلى الأذن الداخلية. وفور أن توقف مفصل الفك التربيعي المفصلي القديم لدى الزواحف عن العمل كمفصل للفك، عاد إلى وظيفته الأخرى؛ وظيفة السمع (الشكل ٤-٦).
fig23
شكل ٤-٦: خضعت منطقة الأذن في ملتحمات الأقواس («الزواحف الشبيهة بالثدييات») والثدييات إلى تحول جذري؛ إذ تنتقل العظمة المفصلية لمفصل الفك السفلي، والعظمة المربعة لمفصل الفك في الجمجمة إلى الأذن الوسطى، وتتحولان إلى السندان والمطرقة. ونحن لا نرى هذا التحول في الحفريات وحسب، بل في نمو أجنَّة الثدييات أيضًا. عندما كنتَ جنينًا، بدأت عظام أذنك الوسطى في فكك.
الحق أنَّ الأمثلة على التناظر كثيرة للغاية في جميع الحيوانات، بما في ذلك نحن أنفسنا. فعلى سبيل المثال، أعضاؤنا التناسلية (الخصيتان والقضيب لدى الذكور، والمبيض والبظر لدى الإناث) متناظرة، وتؤدي العديد من الوظائف نفسها. ففي المراحل المبكرة من نمو الأجنة البشرية، تظل الأعضاء التناسلية غير متمايزة إلى أن تُفرَز الهرمونات المناسبة لتحفيز نموها. إذا كان لديك الكروموسوم Y، فسوف يُرسَل هرمون التستوستيرون إلى أعضائك التناسلية الجنينية لتنمو إلى الأعضاء الذكرية. وإذا كنت لا تملك الكروموسوم Y، فسينمو الجنين وفقًا للإعداد الافتراضي المعتاد، وتنمو لديه الأعضاء التناسلية الأنثوية. ومن حين لآخر، تقع اضطرابات في نقل الإشارات الهرمونية للأعضاء التناسلية الجنينية، فيولَد بعض الأشخاص مخنَّثين قد نمَت لديهم كِلتا مجموعتَي الأعضاء، إما جزئيًّا أو كليًّا. لكن تذكر أننا — نحن البشر — إناث كلنا ما لم نحصل على هرمون التستوستيرون في الوقت المناسب؛ لكي يحولنا إلى ذكور!

يمكننا ذكر العديد من الأمثلة الأخرى للأعضاء المتناظرة المدهشة، لكن ما يهمنا أن نتذكر الصورة الكبرى، وهي أنَّ حالات التناظر علامة واضحة على التطور من سلَف مشترك، عبر مسار جنيني مشترك. وليس من الممكن تفسير الأعضاء المتناظرة بفكرة وحدة النمط، أو النماذج الأصلية السابقة على الداروينية. ذلك أنَّ هذه الأعضاء دليل واضح على تعديل التطور لما يمتلكه الجنين بالفعل لإنتاج بنية مختلفة. صحيحٌ أنها لم تُصمَّم بكفاءة أو بشكل جيد، لكن هذا يتفق مع فكرة أن الطبيعة تستخدم ما لديها بالفعل من أشكال مستمَدة من الأسلاف لإنتاج بنًى جديدة. ومنذ صدور كتاب داروين قبل ١٦١ عامًا، اكتشفنا المزيد من الأمثلة على هذه العملية الخرقاء وغير الفعالة، وعرفنا التفسير الجيني والجنيني لكيفية حدوثها وسببه. لقد قطعنا شوطًا طويلًا منذ زمن داروين، وصار دليل التطور المستنِد إلى التناظر أقوى مما كان عليه في زمن داروين.

قراءات إضافية

  • Carroll, Sean, Endless Forms Most Beautiful: The New Science of Evo Devo, New York: Norton, 2005.
  • ______, The Making of the Fittest: DNA and the Ultimate Forensic Record of Evolution, New York: Norton, 2006.
  • Fitch, Walter M., “Homology: A Personal View on Some of the Problems,” Trends in Genetics 16, no. 5 (2000): 227–231.
  • Hall, Brian, Homology, Novartis Foundation Symposium, 2008.
  • Mindell, David P. and Axel Meyer, “Homology Evolving,” Trends in Ecology and Evolution 16, no. 8 (2001): 434–440.
  • Panchen, Alec L., “Homology: History of a Concept,” In Homology, ed. Gregory R. Bock and Gail Cardew, 5–18, Chichester, UK: Wiley, 1999.
  • Scotland, Robert W., “Deep Homology: A View from Systematics,” BioEssays 32, no. 5 (2010): 438–449.
  • Wagner, Günter, Homology, Genes and Evolutionary Innovation, Princeton, N.J.: Princeton University Press, 2014.
  • Zakany, Jozsef and Denis Duboule, “The Role of Hox Genes During Vertebrate Limb Development,” Current Opinion in Genetics & Development 17, no. 4 (2007): 359–366.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤