الفصل الخامس

النمو الجنيني يلخِّص تطور السلالات

أدلة من الأجنَّة

لقد أشرنا عرَضًا بالفعل إلى أن بعض الأعضاء المحددة التي تصبح عند النضج مختلفة بدرجة كبيرة، وتؤدي وظائف مختلفة، تكون متشابهة تمامًا في المرحلة الجنينية. وغالبًا ما تكون أجنة الحيوانات المتباينة داخل الطائفة نفسها متشابهة بشكل لافت للنظر، وليس على ذلك دليل أقوى من الحالة التي ذكرها أجاسي، وهي أنه نسي ذات مرة أن يضع بطاقة على جنين حيوان فقاري ما، فلم يتمكن بعد ذلك من معرفة ما إذا كان هذا الجنين لحيوان من الثدييات أم من الطيور أم من الزواحف. وتتشابه اليرقات الدودية الشكل، من العُث والذباب والخنافس وغيرها، تشابهًا شديدًا بدرجة أكبر من تشابه هذه الحشرات وهي بالغة، لكن الأجنة تكون نشطة في حالة اليرقات، وقد تكيفت لتناسب اتجاهات محددة في الحياة.

تشارلز داروين، «أصل الأنواع» (۱۸٥۹)

قبل اختراع المجهر، كانت طبيعة التكاثر الحيواني لغزًا محيرًا. لم يكن بإمكان أحد أن يرى الحيوانات المنوية للإنسان أو البويضات، بدون التكبير الذي توفِّره العدسات القوية. كنا نعلم أن الجنس يؤدي إلى إنتاج ذرية، لكننا لم نكن نعلم كيفية حدوث ذلك. ولم يكن بوسعنا أن نشاهد نمو الأطفال بالعين المجردة، إلا بعد مرور مدةٍ زمنيةٍ طويلة بعض الشيء على نموهم. كان الفيلسوف اليوناني القديم فيثاغورس (المشهور بنظرية فيثاغورس) من أوائل المفكرين الذين كتبوا عن هذا الموضوع. جاء فيثاغورس بفكرة «التخلُّق من النطفة»، التي كانت تُفيد أن جميع الخصائص الأساسية للإنسان تُحمَل في الحيوانات المنوية، بينما تقتصر مساهمة الأم على الدعم المادي للجنين النامي. وقد اشتهرت هذه الفكرة بفضل أرسطو، وقَبِلها معظم العلماء والأطباء لعدة قرون. ورسم ليوناردو دافنشي رسمًا تخطيطيًّا لجنين بشري مشرَّح، ورد في دفاتر ملاحظاته غير المنشورة، وهو من أوائل الجهود في هذا المجال في تاريخ العلم. لكن في عام ۱٦٥۱، ألَّف الطبيب البريطاني العظيم ويليام هارفي (الشهير بشرحه للدورة الدموية)، كتابه «عن توالد الحيوانات»، وزعم فيه أن جميع الحيوانات تأتي من البويضة. استمر هذا الجدال بين أنصار التخلُّق من النطفة وأنصار التخلق من البويضة حتى عام ۱۸۷٦، عندما أثبت أوسكار هيرتويج أن الإخصاب البشري يحدث عندما يلتقي الحيوان المنوي بالبويضة.

أتاح المجهر لعلماء الطبيعة رؤية الحيوانات المنوية لأول مرة. ووصف أحد مؤسسي مجال الفحص المجهري، أنتوني فان ليفينهوك، حوالي ۳٠ نوعًا من الحيوانات المنوية عام ۱٦۷۷. ونظرًا لأن معظم العلماء اعتقدوا أن الطبيعة يجب أن تتبع قوانين ميكانيكية بسيطة، فقد طوروا مدرسة فكرية سُميت ﺑ «التكون المسبق». تشير فكرة التكون المسبق إلى وجود نسخة صغيرة من الإنسان في رأس الحيوان المنوي (الشكل ٥-١). تُعرَف هذه النسخة باسم «الأُنَيْسيان»، وهو يحمل جميع سمات الإنسان البالغ، وكل ما يحتاج إليه هو أن ينمو أكثر مع مرور الوقت. وقد كتب فان ليفينهوك بنفسه أنه يستطيع أن يرى تحت المجهر «جميع أنواع الأوعية الكبيرة والصغيرة، وهي تتنوع وتتعدد لدرجة أنني لا أشك في أنها أعصاب وشرايين وأوردة … وعندما رأيتها شعرت باقتناع بأنه لا يوجد في أي جسد مكتمل النمو أية أوعية لا يوجد مثلها في السائل المنوي». وذهب البعض إلى أبعد من ذلك، وافترضوا أن خلايا الحيوانات المنوية داخل خصيتَي الأُنَيْسيان تحمل الجيل التالي من الأُنَيْسيانات، وهكذا دوالَيك، حيث يصبح لدينا حُيَيوينات مجهرية أصغر وأصغر حجمًا بلا حدود.
fig24
شكل ٥-١: شخص صغير الحجم داخل رأس خلية منوية (أُنَيْسيان)، كما رسمه نيكولاس هارتسويكر في عام ۱٦۹٥. (إهداء من «ويكيميديا كومنز»)

لا شك أنَّ أي صورة مجهرية لائقة للحيوانات المنوية ستوضح أن هذا ليس صحيحًا، لكن قوة الإيحاء تجعلنا نرى أشياء غير موجودة، ثم إنَّ الجودة البصرية التي وفرتها تلك المجاهر المبكرة كانت بالغة السوء، لدرجة أنهم ربما شاهدوا صورًا مشوشة، أوحت للعلماء آنذاك أنهم يستطيعون حقًّا رؤية إنسان صغير عبر العدسة. وعلى مدار القرن الثامن عشر الميلادي، أصبحت نظرية التخلق من النطفة أكثر رسوخًا، حتى عندما أصبحت حجج أنصارها أكثر تعقيدًا (وغير مرتبطة فعليًّا بأي بيانات مجهرية).

شهد هذا العصر مدرسة فكرية أخرى؛ ألا وهي مدرسة «التخلق المتوالي»، وهي مدرسة تمتدُّ جذورها إلى الإغريق القدماء، وقد تبنَّاها العديد من المؤرخين الطبيعيين الأوائل، ومنهم دافنشي وجابرييل فالوبيو (الذي وصف قناتَي فالوب لأول مرة)، والعديد غيرهما. ذهب هؤلاء العلماء إلى أن الأجنة تبدأ كخلايا بسيطة جدًّا، يزيد تعقيدها تدريجيًّا بمرور الوقت عبر سلسلةٍ من المراحل.

ازدادت حدة الجدل بين أنصار التكوُّن المسبق وأنصار التخلُّق المتوالي في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، بينما لم تُقبَل النظرية الحديثة للخلية إلا بعد تطوير مجاهر أفضل، تسمح بالفحص المُفصَّل للبنى الموجودة داخل الخلايا، ولم يحدث ذلك حتى أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر. وبالتوازي مع نظرية الخلية، أصبح لدى العلماء إدراكٌ لما تتكون منه الخلايا، وكيفية نموها وتغيرها. وفي ستينيات القرن الثامن عشر وسبعينياته، قال الطبيب الألماني كاسبار فريدريش وولف إن العلماء بحاجةٍ إلى النظر في الطبيعة بموضوعية، وألَّا يخلطوا بين ما هو غامض وبين الاعتبارات النظرية أو الفلسفية. وفقًا لوولف، كان من الواضح أن الملاحظات المجهرية لا تدعم فكرة وجود أُنَيْسيان داخل كل حيوان منوي. وجاءت الضربة الأخيرة من تطوير جون دالتون للنظرية الذرية للمادة. صار جليًّا أنه لا يمكن أن يوجد أُنَيْسيان بداخل الحيوان المنوي لأُنَيْسيان أكبر، وتصبح هذه الأُنَيْسيانات أصغر فأصغر لتُشكِّل حييوينات مكدَّسة إلى ما لا نهاية؛ إذ يوجد حدٌّ أدنى لحجم الأنسجة والبنى البيولوجية، المُكوَّنة من ذرات أكثر ضآلة. وأخيرًا، تمكَّن عالم الأحياء هانز دريش في ثمانينيات القرن التاسع عشر من ملاحظة النمو الجنيني، من حيوان منوي وبويضة في قنفذ البحر، الذي يمتلك خلايا تناسلية وأجنة كبيرة، وكانت دراسته في المختبر أكثر سهولة. وقد حسمت هذه التجارب الجدل لصالح التخلق المتوالي إلى الأبد.

غير أنَّ الشخصية الأهم في التاريخ المبكر لعلم الأجنة هو كارل إرنست ريتر فون باير، إدلر فون هوثورن. وُلد فون باير لعائلة ألمانية أرستقراطية فيما يُعرَف الآن بإستونيا، ولم يتضمن اسمه الكامل لقبَي «فون» و«إدلر» الأرستقراطيَّين فحسب، بل تضمن أيضًا لقب «ريتر» (أي الفارس). تلقَّى باير تعليمه في مدارس وجامعات دون المستوى في إستونيا، ولم يدرك أوجُه القصور في تعليمه الطبي إلى أن ذهب إلى مدينة ريجا؛ لمساعدة المرضى والجرحى خلال حصار نابليون للمدينة في عام ۱۸۱٢. وفور تخرُّجه من جامعة دوربات في تارتو بإستونيا، ذهب إلى برلين وفيينا وفورتسبورج للدراسة مع كبار العلماء في عصره. كان إجناز دولينجر هو مَن عرَّفه بمجال علم الأجنة الحديث النشأة آنذاك. وبحلول عام ۱۸۱۷، كان فون باير أستاذًا في جامعة كونيجسبيرج في شرق بروسيا (حاليًّا كالينينجراد في روسيا)، وهي جامعةٌ متميزةٌ يعود تاريخها إلى عام ۱٥٤٤، وقد أنجبت العديد من الباحثين والعلماء الألمان المهمين، ومنهم إيمانويل كانط وهيرمان فون هيلمهولتز. وفي تلك الجامعة، أجرى فون باير معظم أبحاثه الرائدة في علم الأجنة.

في عام ۱۸۳٤، عانى فون باير من انهيارٍ عصبي وتدهورٍ صحي وهو في ذروة حياته المهنية وشهرته. قرَّر تغيير مجال عمله، فتخلَّى عن علم الأجنة وتولَّى وظيفةً جديدة في سانت بطرسبرج. وفي مسيرته المهنية الثانية، أمضى الكثير من وقته في التدريس وإجراء الأبحاث الميدانية في علم الحيوان والجغرافيا، بما في ذلك استكشاف بحر قزوين وجزيرة نوفايا زيمليا الروسية في القطب الشمالي. ويُعتبَر باير مؤسِّس مجالَي الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا في روسيا. وفي سنوات حياته الأخيرة، عاد فون باير إلى جامعة دوربات، ووجد أن أبحاثه قد ألهمت العديد من العلماء الآخرين، ومن بينهم داروين.

قبل أن يغير فون باير مهنته، كان قد قدَّم مساهمات هائلة في علم الأجنة. فاكتشف عبر دراسته للأجنة تحت مجهره الممتاز مرحلة الأريمة من النمو («بلاستولا»)، وهو من قام بتسميتها، وهي المرحلة التي تتميز بنمو مجموعة الخلايا إلى كرةٍ مجوَّفة. وفي عام ۱۸٢٦ اكتشف بويضة الثدييات، وأَتبعَ ذلك بوصف البويضة البشرية في عام ۱۸٢۷.

إضافةً إلى ذلك، تابع فون باير اكتشافات وولف بشأن علم التخلُّق والنمو، وأثبت (مع هانز كريستيان باندر) أن الجنين يحتوي على ثلاث «طبقات منتشة» هي: الأديم الباطن، والأديم المتوسط، والأديم الظاهر. توَّج هذه الاكتشافاتِ بكتابه التاريخي عام ۱۸۷۸ والذي حمل عنوان «التاريخ النمائي للحيوانات»، والذي لا يتضمَّن تفاصيل اكتشافاته عن الخلايا والنمو فحسب، بل يوثِّق أيضًا سنوات من البحث المُضني في نمو أجنة الطيور والثدييات والحيوانات الأخرى. في هذا الكتاب، وصف فون باير أيضًا كيف أن المراحل الجنينية للحيوانات — سواء أكانت ثدييات أم طيورًا أم زواحف أم برمائيات — تبدو شبيهة بالأسماك.

كان فون باير قد وصف شيئًا بدأ يظهر بالفعل في أعمال علماء أجنةٍ آخرين في عصره. إذا تتبَّعت الكائنات الحية البالغة عائدًا إلى مرحلتها الجنينية، فإنها تبدأ في أن يصبح بعضها شبيهًا ببعض أكثر فأكثر، وغالبًا ما تبدو أجنة الثدييات والطيور أشبه بالأسماك إذا عدتَ إلى الوراء بما فيه الكفاية. وبعبارة أخرى، فإنَّ الحيوانات تكرر مراحل سابقة من ماضيها في أثناء نموها، أو يمكن القول إنها «تستعيد» هذه المراحل. راجت هذه الفكرة بين العديد من فلاسفة الطبيعة، في تسعينيات القرن الثامن عشر وحتى عشرينيات القرن التاسع عشر، وكان ممَّن أيَّدوا هذه الفكرة يوهان فريدريش ميكل (الذي وصف الغضروف الجنيني، وهو سلَف الفك العَظْمي في الفقاريات) وإتيان سيريس، وكارل فريدريش كيلماير. صاغ سيريس هذه الفكرة بين عامَي ۱۸٢٤ و۱۸٢٦، وعُرِفت باسم «قانون ميكل-سيريس». ورغم ذلك، لم يُعتبَر هذا القانون دليلًا على الماضي التطوري للحيوانات الجنينية، وإنما «نمط من التوحيد» وضعه الرب يعكس وحدة الطبيعة (مثلما كان يُنظَر إلى التناظر قبل عام ١۸٥۹؛ راجع الفصل الرابع).

كان فون باير محدَّدًا في كتابه عام ۱۸٢۸ بأن ملاحظاته عن الأجنة لا تدعم فكرة ميكل-سيريس عن التكرار. فالعديد من خصائص الأجنة مثلًا (لا سيما الأعضاء الجنينية، مثل المشيمة أو الكيس المُحِّي) ليس من خصائص الكائنات البالغة؛ ومن ثمَّ فليس الجنين مكافئًا للفرد البالغ. إنَّ نمط الحياة الجنيني على وجه التحديد يختلف اختلافًا كبيرًا عن نمط حياة البالغين؛ فليس الجنين الثديي الشبيه بالأسماك بسمكةٍ حقيقية يمكنها البقاء على قيد الحياة كفردٍ بالغ. إضافة إلى ذلك، لا يوجد تطابق كامل أبدًا بين الجنين الثديي والسمكة البالغة. قد يكون لجنين الدجاج في مرحلة ما قلب ودورة دموية متطابقان مع ما يوجد لدى السمكة، لكنه يفتقر إلى معظم الأجزاء الأخرى الموجودة لدى الأسماك البالغة. ثم إن العديد من الخصائص الثابتة في الكائنات البالغة يكون مؤقتًا فقط في الأجنة. ففي بعض الأحيان، ثمة أجزاء من المفترض أن تأتي لاحقًا في النمو تظهر مبكرًا بشكل غير اعتيادي، مثل العمود الفقري في جنين الدجاج.

وبدلًا من ذلك، طرح فون باير ما يُعرَف الآن باسم قوانين فون باير لعلم الأجنة. ويمكن ذكرها باختصار على النحو التالي:

  • (١)
    السمات العامة لمجموعة كبيرة من الحيوانات تظهر في أجنَّتها قبل السمات الخاصة.
  • (٢)
    بالمثل، تتشكل العلاقات الهيكلية العامة قبل تشكُّل العلاقات الخاصة المحددة.
  • (٣)

    لا يتقارب الشكل الجنيني لأي حيوان معين مع أشكال أخرى محددة، بل ينفصل عنها.

  • (٤)
    لا يمكن أبدًا أن يكون جنين أي شكل حيواني أعلى شبيهًا بالفرد البالغ لشكل آخر أقل تطورًا، بل يكون شبيهًا بجنينه فحسب.

يتمثل جوهر قوانين فون باير في أن جميع أجنة الفقاريات تبدأ كفقاريات عامة غير متمايزة، ثم يُضاف إليها لاحقًا المزيد من السمات التي تميزها كأفراد بالغة. وعلى حد تعبير باير: «كلما عدنا إلى الوراء في نمو الفقاريات، وجدنا الأجنة أكثر تشابهًا في أجزائها العامة وفي أجزائها الفردية على حدٍّ سواء … لذا فإن السمات الخاصة تبني نفسها من نموذج عام».

حظيَت الأفكار التي روَّج لها فون باير وغيره، منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر، بنقاشٍ واسعٍ ساهم فيه العديد من علماء الطبيعة، ومنهم أحد أساتذة داروين المفضلين، روبرت جرانت، خلال دراسته المبكرة للطب في جامعة إدنبرة. وخلال صياغة داروين لأفكاره عن «مشكلة الأنواع» في عام ۱۸٤٢، صادف ملخص يوهانس مولر للبحث الجنيني الذي أجراه فون باير. ومن خلال قراءته والأفكار التي تعلمها من جرانت، كان داروين يدرك جيدًا بالفعل أن أجنة الكائنات الحية (مثل البرنقيل الذي درسه) غالبًا ما يكون لها سمات تساعد في تمييز الكائنات البالغة التي كانت ستتطابق لولا ذلك. وإضافةً إلى ذلك، توضح هذه الأجنة أيضًا أصل بعض الأعضاء التي كانت تُعرَف بأنها متناظرة (انظر الفصل الرابع). حينها أدرك داروين أن أفكار ميكل وسيريس القديمة عن التكرار تتناسب تمامًا مع مفهومه عن وجود سلَف مشترك لجميع الحيوانات. وفي دفاتر داروين غير المنشورة حيث كتب أفكاره عن التطور، يمكننا أن نرى كيف أنَّ أفكار علماء الأجنة أثَّرت في تفكيره. ففي «الدفتر ب: عن التطفُّر»، اقتبس عن جوفري قوله: «التوالد عملية قصيرة ينتقل خلالها حيوان واحد من دودة إلى إنسان، أو تغيرات نموذجية يمكن تتبعها في العضو نفسه لدى حيوانات مختلفة وفقًا للمقياس التطوري.»

كان الاقتراح الجنيني لانحدارنا من سلف مشترك واحدًا من أقوى الأدلة التي أمكن لداروين جمعها في عام ۱۸٥۹. وقد كتب داروين قسمًا موسعًا عن هذا الموضوع في «أصل الأنواع» (راجع الاقتباس الوارد في بداية هذا الفصل). كما كتب لصديقه عالم النبات الأمريكي آسا جراي، في عام ۱۸٦٠، يقول: «إن علم الأجنة هو ما يمثِّل لي إلى حدٍّ بعيدٍ أقوى مجموعةٍ منفردة من الحقائق لصالح تغير الأنواع». وكتب داروين في سيرته الذاتية: «ما من مسألةٍ منحتني شعورًا كبيرًا بالارتياح في أثناء عملي على «أصل الأنواع»، بقدر ما منحني تفسيرُ الاختلاف الواسع بين المرحلة الجنينية ومرحلة البلوغ في العديد من الفئات، والتشابه الوثيق بين الأجنة في حيوانات نفس الفئة». وفي الطبعة الخامسة من كتاب «أصل الأنواع»، أضاف داروين «ملاحظات تاريخية» يقر فيها بفضل علماء الطبيعة الذين أثروا فيه. وفي هذا الموضع كَتب: «إن فون باير، الذي يُكنُّ له جميع علماء الحيوان بالغ الاحترام والتقدير، عبَّر في حوالي عام ۱۸٥۹ … عن اقتناعه، القائم أساسًا على قوانين التوزيع الجغرافي، بأن الأنواع المتمايزة تمامًا الآن قد انحدرت من شكل سلف واحد.»

ومن جانبه، لم يكن فون باير سعيدًا للغاية باستخدام داروين لاكتشافاته (كان قد تقاعد حينها، ولكنه كان لا يزال في جامعة دوربات، التي بقي فيها حتى عام ۱۸٦۸ حين توفي عن عمر ناهز ۸٤ عامًا). لم يعترض على فكرة تطفر الأنواع، ووافق على فكرة أن الأجنة توضح أن جميع الفقاريات لها أصل مشترك. والحق أنَّ بعض كتاباته تتضمن واحدة من أولى «أشجار العائلة» للحياة بناءً على الأجنة. غير أنَّ فون باير كان من مدرسة أقدم في الفلسفة الطبيعية وأكثر باطنية، ولم تعجبه الآثار الميكانيكية المحايدة للانتخاب الطبيعي. كان يعتقد، بدلًا من ذلك، أن الحيوانات تسعى جاهدة وأنها تتغير لتصل إلى هدف أسمى (ما يُسمَّى بالغائية)، وأن هناك قوًى داخلية غامضة في الطبيعة تقوم بتوجيه هذا النوع من التطور.

كان داروين وفون باير حذِرَين إلى حد ما في استخدامهما للتحولات الجنينية دعمًا لفكرة التطور. لكن لم يكن الأمر كذلك مع عالم الأحياء الألماني الشاب إرنست هيكل. وُلد هيكل في بوتسدام عام ۱۸۳٤ لمحامٍ حكومي، وحصل على شهادته في الطب عام ۱۸٥۸، لكنه اكتشف أنه لا يحب الوجود بالقرب من المرضى المتألمين. ولهذا صبَّ اهتمامه على الأبحاث البيولوجية والطبية. عمل هيكل في جامعة جينا لمدة ثلاث سنوات مع عالم الأجنة العظيم كارل جيجينباور، وحصل على درجة تدريس في علم التشريح وعلم الحيوان في عام ۱۸٦۱. انتهى به المطاف بالبقاء في جينا لبقية حياته المهنية التي استمرت ٤۷ عامًا، أرسى فيها سمعته من خلال العمل على الإسفنج والديدان وغيرهما من اللافقاريات. اشتهر بشدةٍ بدراسة وتسمية مئات الأنواع من الأميبات الصخرية الصغيرة المعروفة باسم الشعاعيات، والتي كانت وفيرة للغاية في العوالق المحيطية. أُرسِلت إليه بعض أنواع الشعاعيات، والقناديل البحرية، وكائنات بحرية أخرى من أول رحلة كبيرة لدراسة المحيط، قامت بها سفينة «إتش إم إس تشالنجر»، بين عامَي ۱۸۷٤ و۱۸۷٦ لكي يفحصها؛ إذ كان واحدًا من علماء قليلين للغاية ممَّن يمتلكون معرفة بالشعاعيات أو القناديل البحرية.

كان هيكل أيضًا شخصًا يميل إلى «الأفكار الكبيرة»، وغالبًا ما كان يُصدِر تعميمات وتوقعات شاملة. فقد تنبأ مثلًا أن أصل البشر يوجد في جنوب شرق آسيا، مما ألهم يوجين دوبوا بالذهاب إلى جزر الهند الشرقية الهولندية والعثور على «إنسان جاوة». وكان هيكل متيقنًا من تَنبُّئِه، حتى إنه أعطى اسمًا لهذه الحفرية التي لم تُكتشَف بعد؛ بيثكانثروبوس ألالوس (الإنسان القرد غير المتكلم)، وأطلق دوبوا على عيناته اسم بيثكانثروبوس إريكتوس بعد أن وُصِفت. (وهي تُسمَّى اليوم «هومو إريكتوس»، أي «الإنسان المنتصب».) كان هيكل مغرمًا أيضًا بابتكار كلمات جديدة، مثل ecology (علم البيئة)، وphylum (شعبة)، وphylogeny (علم تطور السلالات)، وontogeny (تكون الفرد)، وProtista (الطلائعيات)، وهو ما يعكس أفكاره الإبداعية الكبيرة بشأن علم الأحياء. علاوةً على ذلك، كان هيكل أول من نشر رسمًا بيانيًّا لشجرة حياة محددة تجسد فكرة داروين بأن كل أشكال الحياة لها أصل مشترك.

وبصفته عالمًا يميل إلى الأفكار الكبيرة، فُتِن هيكل على الفور بكتاب داروين عندما قرأه أخيرًا في عام ۱۸٦٤. وخلال رحلته الاستكشافية إلى جزر الكناري عام ۱۸٦٦، قام برحلة جانبية إلى إنجلترا، وزار تشارلز داروين في ضَيعته في منزله الكائن ببلدة داون، وزار توماس هنري هكسلي وتشارلز لايل كذلك. وفور أن استقر هيكل في جينا، وترسخت سمعته فيها، أصبح كبير مناصري داروين في ألمانيا، وكان داعمًا قويًّا لتحديث تعليم العلوم، وإرساء نظرية التطور في جميع المراجع العلمية. وفي عام ۱۸٦۸، كان كتاب هيكل «تاريخ الخلق الطبيعي» هو الأكثر مبيعًا بين المؤلَّفات التي تشرح التطور، خاصةً بعد ترجمته إلى الإنجليزية عام ۱۸۷٦ تحت عنوان «تاريخ الخلق».

بالرغم من ذلك كله، جاءت أهم إسهامات هيكل في التطور في مجال علم الأجنة. ففي عام ۱۸٦٦، وضع هيكل مرجعًا ضخمًا بعنوان «المورفولوجيا العامة» قام فيه بتجميع أفكار داروين مع أفكار ميكل وسيريس الأقدم عن التكرار. اندفع هيكل في هذه المسألة متجاهلًا النهج الحذِر الذي اتبعه فون باير، وأصر على أن النمو الجنيني يكرر التاريخ التطوري للكائنات الحية. وبحسب كلماته: «النمو الجنيني يلخص تطور السلالات»، أو «التاريخ الجنيني يكرر التاريخ التطوري». وذهب أيضًا إلى أن الأسلاف المشتركة التي لم تُكتشَف بعدُ للعديد من مجموعات «شجرة الحياة» التي وضعها؛ ستتشابه تمامًا مع الأجنة الأكثر بدائية للعديد من الكائنات الحية. والحق أنَّ هذه الحجة لم تكن متماسكة، والكثيرين يعتبرونها واحدةً من أكبر أخطاء هيكل. لكنه كان يسير على الطريق الصحيح مع شجرة الحياة الخاصة به، حتى وإن أفرط في الاعتماد على الأدلة الجنينية. والأهم من ذلك أنه تجاهل تحذيرات فون باير بشأن أن العديد من السمات الجنينية تقتصر على الأجنة، ولا يكون لها أي علاقة بالأشكال البالغة لأي حيوان.

fig25
شكل ٥-٢: رسم توضيحي للنمو الجنيني للفقاريات، يوضح تشابه الأجنة المبكرة في وجود الصفات الشبيهة بالأسماك لديها، ثم تصبح أكثر تخصصًا بعد تمايزها إلى سمكة أو زاحف أو ثديي. هذا الرسم مُعدَّل من الرسم التوضيحي الذي أثار الجدل لهيكل، وهو صحيح بالأساس، على الرغم من أن هيكل ربما لم يكن دقيقًا في كل التفاصيل. (من كتاب جورج رومانيس، «داروين وما بعد داروين» [منشورات «أوبن كورت»، شيكاجو، ۱۹۱٠])
وأخيرًا، نشر هيكل بعض الرسومات التي تؤكد على أوجُه التشابه الواضحة بين المراحل الجنينية المبكرة لمعظم الفقاريات، والتي تكون فيها شبيهة بالأسماك، مبيِّنًا كيف أنها تنمو إلى أنواع مختلفة من الكائنات البالغة. ربما أفرط هيكل في حماسه فيما يتعلق بهذه الرسومات (شكل ٥-٢). لم يكن بعضها دقيقًا تمامًا، وقد جعل الأجنة تبدو شبيهة بالأسماك بدرجة أكبر مما هي عليه في الحقيقة. ففي إحدى الحالات، استخدم نفس الرسم التوضيحي ليمثل جنين كلب، وجنين دجاجة، وجنين سلحفاة، مما جعلها تبدو متطابقة، لكنه اضطُر لاحقًا إلى إصلاح هذا الخطأ، وقام بعرض الأجنة الحقيقية. والحقيقة هي أنَّ هذه الأجنة متشابهة للغاية بالفعل، لكننا حين نراجع الموقف نجد أنَّ رسومات هيكل غير الدقيقة جعلت الحُجة بأكملها تبدو سيئة. فقد أثار مناهضو التطور هذا النقد مرارًا وتكرارًا، بحجة أن علم الأجنة لا يدعم التطور. وبالرغم من ذلك، إذا نظرت إلى أي مجموعةٍ جيدةٍ من الصور التي توضح التطور الجنيني للفقاريات، فسترى الدليل جليًّا، أيًّا كانت الأخطاء التي قد يكون هيكل ارتكبها منذ أكثر من ۱٥٠ عامًا.
fig26
شكل ٥-٣: هذا ما كنتَ تبدو عليه بعد خمسة أسابيع من الحمل. كان لا يزال لديك العديد من السمات الشبيهة بالأسماك، مثل الذيل النامي والسلائف الجنينية للشقوق الخيشومية، وكلاهما يُفقَد في معظم الأجنة البشرية أثناء نموها. (من مكتبة صور آي إم إس آي)
إن معظمنا لا يفكر كثيرًا فيما يخبرنا به علم الأجنة عن تاريخنا التطوري. لكن إذا صح أننا لم ننحدر من سلف مشترك مع الأسماك والزواحف والثدييات الأخرى، فلماذا نمتلك سماتها المميزة أثناء نمونا؟ يوضح الشكل ٥-٣ جنينًا بشريًّا بعد خمسة أسابيع من الإخصاب. نرى في الشكل أنَّ ذيلنا النامي لا يزال واضحًا، كما هو الحال مع السلائف الجنينية للشقوق الخيشومية. وكما أشار فون باير، فإن هذا الجنين لا يشبه السمكة البالغة، ولا يمكنه العيش ككائن بالغ يسبح، لكنه يشبه سمكة جنينية في نفس المرحلة من النمو. إذا لم يكن لدينا أسلاف مشتركة مع الأسماك (ومع الزواحف والثدييات الأخرى التي تبدو كل أجنَّتها مشابهة جدًّا لأجنَّتنا في المراحل الأولى)، فلماذا يكون لدينا مثل هذا التشابه الجنيني الشديد؟ ولا تزال هذه الحجة قوية اليوم بقدر ما كانت عليه حين استخدمها داروين عام ۱۸٥۹.

قراءات إضافية

  • Gilbert, Scott F. and Michael J. F. Barresi, Developmental Biology, 11th ed. Sunderland, Mass.: Sinauer, 2016.
  • Gould, Stephen Jay, Ontogeny and Phylogeny, Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1977.
  • Hall, Brian K., Evolutionary Developmental Biology, Dordrecht, Germany: Springer, 1999.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤