الفصل السادس

غرق سفينة نوح

الجغرافيا الحيوية

عند النظر إلى توزيع الكائنات الحية على الأرض، فإن أبرز حقيقة تذهلنا هي أننا لا نستطيع تفسير التشابه بين الكائنات المستوطنة لمختلف الأقاليم، ولا الاختلاف فيما بينها تفسيرًا كاملًا من خلال الظروف المناخية، أو غيرها من الظروف المادية.

تشارلز داروين، «أصل الأنواع» (۱۸٥۹)

قبل القرن الثامن عشر الميلادي، لم يكن علماء الطبيعة يعرفون سوى القليل للغاية عن الحيوانات التي تعيش خارج أوروبا. فلم تُدرِج التصنيفاتُ المبكِّرة لعلماء مثل لينيوس (انظر الفصل السابع) سوى ٤٢٠٠ نوع من الحيوانات، وجميعها تقريبًا من أوروبا أو الشرق الأوسط، لكنها تضمَّنت أحيانًا بعض الحيوانات الغريبة من آسيا أو أفريقيا أو العالم الجديد. وفقًا للإصحاح السادس من سفر التكوين، فإنَّ جميع الحيوانات هاجرت من جبل أرارات (في تركيا الآن) إلى مواقعها الحالية. ظهر هذا التفسير لأول مرة في الأساطير الشرق أوسطية القديمة، في وقت لم يكن الناس يعرفون فيه أكثر من مائة نوع من الكائنات التي كانت توجد في محيطهم المحدود. فإلى جانب ماشيتهم المستأنَسة والأغنام والماعز والخنازير والكلاب والقطط والخيول، لم يعرفوا سوى عددٍ قليلٍ جدًّا من الحيوانات البرية؛ لذا كان من المعقول الاعتقادُ بأنه يمكن إحضار بضع مئات منها على سفينة نوح.

تعود أسطورة الفيضان العالمي الذي دمر البشرية جمعاء إلى ملحمة جلجامش، التي يعود تاريخها إلى عام ٢۷٥٠ قبل الميلاد تقريبًا. حذَّرت إلهةُ الأرض آيا البطلَ السومري زيوسودرا (الذي أطلق عليه الأكاديون اسم أتراخاسيس، وأطلق عليه البابليون اسم أوتنابيشتيم) من أنَّ الإله إليل سئم من ضجيج البشرية ومشاكلها، وخطَّط لمحو البشر بفيضان، وأمرته ببناء قارب. وعندما انحسرت مياه الفيضان، رسا القارب على جبل نصير. بعد أن ظل القارب عالقًا لمدة سبعة أيام، أطلق أوتنابيشتيم حمامة، لكنها لم تجد مكانًا للراحة فعادت. أطلق بعدها سنونوًا وعاد هو أيضًا، لكن الغراب الذي أطلق سراحه في اليوم التالي لم يعُد. وقدَّم أوتنابيشتيم قربانًا إلى الإلهة آيا على قمة جبل نصير. تتطابق القصة برُمَّتها تقريبًا مع قصة طوفان نوح، وليس ذلك في حبكتها وبنيتها فحسب، بل في تفاصيل صياغتها أيضًا. كل ما تبدَّل هو أسماء الشخصيات والآلهة وبعض التفاصيل الأخرى، بما يتناسب مع الاختلافات بين الثقافة العبرية التوحيدية والثقافات السومرية والأكادية والبابلية التي كانت تؤمن بتعدد الآلهة.

أظهرت الدراسات الإنجيلية على مدى قرنين من الزمان أن التوراة العبرية (أي الكتب الخمسة الأولى من العهد القديم) تتألَّف من مجموعةٍ من المصادر المختلفة التي كتبتها مجموعات مختلفة من الناس في أزمنةٍ متباينة. ولهذا يوجد العديد من التناقضات، فنجد في الآية الثانية من الإصحاح السابع من سفر التكوين (وفقًا لمجموعة من الكهنة يُطلَق عليهم المصدر اليهوي) أن نوحًا أخذ في الفلك سبعة أزواج من كل حيوان طاهر، لكن الآيات من الثامنة إلى الخامسة عشرة في الإصحاح السابع من سفر التكوين (وفقًا لمجموعةٍ مختلفةٍ من الكهنة يُطلَق عليهم المصدر الكهنوتي) تقول إنه أخذ في الفلك زوجًا واحدًا فقط من كل حيوان. وفي الآية السابعة من الإصحاح السابع في سفر التكوين دخل نوح وعائلته أخيرًا إلى الفلك، لكننا نراهم في الآية الثالثة عشرة من الإصحاح السابع في سفر التكوين يدخلون الفلك مرة أخرى (الآية الأولى وفقًا للمصدر اليهوي، والآية الثانية وفقًا للمصدر الكهنوتي). إنَّ العبرانيين القدماء لم يفسروا التوراة حرفيًّا بالطبع. وبدلًا من ذلك استخدموها دليلًا لفهم علاقتهم بيهوه، ولم يروا مشكلة في قصة سفينة نوح. لقد كان عالمهم يقتصر على وادي دجلة والفرات وأجزاء من شرق البحر المتوسط، وهي منطقة لم يعش فيها سوى بضع مئات من أنواع الحيوانات. أما اليوم فنحن نعرف بوجود الملايين من الأنواع، وفكرة وجودها في قارب واحد سيسعها جميعًا هي فكرة عبثية بشكل هزلي.

وعلى الرغم من تمييز لينيوس لما يقرب من ٤٢٠٠ نوعٍ من الحيوانات (وهي مشكلة بالفعل لسفينة نوح)، فقد أدَّت مجموعة من الرحلات والبعثات العلمية في السنوات التي أعقبت عام ۱۷٠٠، إلى العديد من الاكتشافات التي دحضَت هذه النظرة المتمثِّلة في الجغرافيا الحيوية. ذلك أنَّ الأماكن النائية، مثل أمريكا الجنوبية وأفريقيا ومدغشقر وجنوب شرق آسيا وأستراليا وجزر المحيط الهادي قدمت أعدادًا هائلة من الأنواع الغريبة من الحيوانات والنباتات، مما أدى إلى انقلاب تام في النظرة المركزية الأوروبية إلى الطبيعة. فالمناطق الاستوائية، على وجه الخصوص، تحتوي على حيوانات ونباتات أكثر ثراءً وأكثر غرابةً من الحياة البرية المستنزَفة في شمال أوروبا، والتي تأثَّرت بشدة بسبب مجموعاتها السكانية البشرية الكبيرة، والزراعة الواسعة الانتشار، والتاريخ الطويل من إزالة الغابات. لقد دُفِع العديد من الأنواع الأوروبية الشائعة سابقًا إلى الانقراض بحلول عصر الهولوسين المبكر، بما في ذلك الماشية البرية (الأُرْخُص) والخيول البرية (منذ حوالي ۱٠ آلاف عام). وعلى النقيض، كانت المناطق الاستوائية غنية ومتنوعة، حتى إن المؤرخين الطبيعيين كانوا مُثقَلين بمحاولة وصف كل هذه الأنواع الجديدة في هذه الأراضي الغريبة وتصنيفها.

والأهم من ذلك كله أنه صار جليًّا أن قصة سفينة نوح لا يمكن أن تفسِّر هذه التوزيعات الجغرافية. لماذا كانت قارة أستراليا بها مجموعة حيوانية تهيمن عليها ثدييات جرابية ولا توجد بها ثدييات مشيمية محلية؟ هل ركضت الجرابيات من جبل أرارات باتجاه أستراليا مباشرة، بينما لم تحاول المشيميات حتى الوصول إلى هناك؟ والأكثر إثارةً للدهشة أن العديد من الجرابيات لديها أجساد تحاكي المشيميات، التي تقطن موائل بيئية مشابهة في قارات أخرى (الشكل ٦-١). فكانت هناك جرابيات مكافئة للذئاب والغُرَير والقطط والسناجب الطائرة وجرذ الأرض وآكلات النمل والخُلْد والأرانب والفئران، لكنها كانت جميعًا من الجرابيات ولا علاقة لها بنظيراتها المشيمية في القارات الأخرى. إننا ننظر إلى هذه الحقائق الآن باعتبارها مثالًا بارزًا على التطور التقاربي، لكن هذه الاكتشافات الرئيسية حدثت قبل قرن من أن يتمكن التطور من تفسيرها.
fig27
شكل ٦-١: تتكون المجموعة الحيوانية الأصلية في أستراليا بشكل أساسي من الجرابيات، التي تُعَد مثالًا بارزًا على التطور التقاربي مع نظيراتها المشيمية الموجودة في قاراتٍ أخرى، على الرغم من أن المجموعتَين لا تجمعهما صلة قرابة وثيقة. في أستراليا، توجد جرابيات تبدو إلى حدٍّ ما مثل الذئاب والقطط والسناجب الطائرة وجرذ الأرض وآكلات النمل والخلدان والفئران، لكنها كلها ثدييات جرابية. (جورج جايلورد سيمبسون وويليام بيك، «الحياة: مقدمة في علم الأحياء» (بتصرف)، الطبعة الثانية. [نيويورك: «هاركورت، برِس، آند وورلد»، ۱۹٦٥])

كثيرًا ما يُقال إنَّ «السَّفر يوسِّع الآفاق»، ولا شك أنَّ ذلك كان من عوامل اكتشاف التوزيعات الجغرافية الحيوية للحيوانات والنباتات. فقد غيَّر السفر منظور كلٍّ من داروين وألفريد راسل والاس؛ شريكه في اكتشاف الانتخاب الطبيعي. فعندما انطلق داروين في رحلة البيجل عام ۱۸۳۱، كان قد تلقَّى تعليمًا جيدًا في التاريخ الطبيعي البريطاني بالنظر لكونه شابًّا تخرج للتو من كامبريدج، لكن السنوات الخمس التي أبحر فيها حول العالم وزار العديد من المواقع الغريبة، مثل الغابات المطيرة البرازيلية وجزر جالاباجوس إضافةً إلى أستراليا وأفريقيا، غيَّرت تمامًا من تصوره عن عالم الحيوانات والنباتات. لم يكن تجاوز الثانية والعشرين من عمره، عندما وصلت سفينة البيجل إلى أمريكا الجنوبية لأول مرة. وكأي إنجليزي، كان معتادًا على الطقس البارد المظلم والممطر في معظم الأوقات، وعلى عدد قليل فقط من الحيوانات البرية في الطبيعة الإنجليزية المستأنَسة بشكل كبير. وصل داروين إلى أمريكا الجنوبية في الثامن والعشرين من فبراير عام ۱۸۳٢، وكانت محطته الأولى هي مدينة سلفادور في ولاية باهيا في البرازيل، عند حافة غابة الأمازون المطيرة. افتتن داروين على الفور، وغمره ثراء الحياة البرية وكثافة أوراق الشجر في الغابة الاستوائية والحرارة والرطوبة الخانقتان، والحشرات القارضة العديدة التي واجهها. ومثلما كتب هو لاحقًا، كان منتشيًا بسبب «أناقة الحشائش وحداثة النباتات الطفيلية وجمال الأزهار». كان يتجول وهو في حالة أشبه بالذهول، غير قادر على استيعاب جميع المشاهد والأصوات والروائح والأفكار الجديدة؛ «فلِشخصٍ مولَع بالتاريخ الطبيعي، كان مثل هذا اليوم يحمل متعة أعمق من أن يتمنى تجربتها مرة أخرى». كانت كل محطة في الغابة المطيرة البرازيلية مليئة بالنشوة لعالِم طبيعة، وجامِع شديد الحماسة مثل داروين. جمع في أحد الأيام ما لا يقل عن ٦۹ نوعًا مختلفًا من الخنافس، وكلها كانت جديدة على العلم. وعن ذلك كتب داروين يقول: «إن مجرد التفكير في الحجم المستقبلي لفهرس كامل سيكون كافيًا لإفساد هدوء أي عالِم حشرات.»

في الثالث من أبريل، وصلت سفينة البيجل إلى ريو دي جانيرو، حيث سافر داروين مع مجموعة من الإنجليز متجهين إلى مزرعة للبُن تبعد عن الساحل ۱٠٠ ميل تقريبًا. كانت رحلة صعبة بسبب الحرارة الشديدة، وأماكن الإقامة السيئة، والخفافيش الماصَّة للدم التي هجمت على خيولهم في الليل، لكن داروين كان لا يزال مبتهجًا بدهشته. كانت الطيور الباهرة والفراشات في كل مكان، والطيور الطنَّانة تتنقل من زهرة إلى زهرة. وكان نخيل السبال يرتفع لمسافة ٥٠ قدمًا فوق رءوسهم، بينما تدلَّت منه النباتات العارشة. كان جليًّا أنَّ بعض الغابات تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، نظرًا لما بها من أشجار السرخس الهائلة، وهي من بقايا عصر ما قبل الديناصورات. ذكَّره ظل الشجرة العملاقة الشاهقة فوق رأسه بكاتدرائيةٍ ضخمةٍ ذات سقف عالٍ، لا يدخلها الضوء إلا من فتحاتٍ صغيرةٍ للغاية تتخلَّل الغطاء السميك من الأوراق.

استمرت دهشة داروين من جمال الغابة البرازيلية ووفرتها. وعن ذلك كتب في «رحلة البيجل» (۱۸۳٦) يقول:

لم يكن من الممكن أن أتمنى أي شيءٍ أكثر بهجةً من قضاء بضعة أسابيع في بلدٍ بمثل هذه الروعة. في إنجلترا، يحظى المولَع بالتاريخ الطبيعي بميزة كبيرة في جولاته، إن وجد ما يجذب انتباهه دائمًا، لكن في هذه المناخات الخصبة التي تعجُّ بالحياة، تتعدد عوامل الجذب، فيكاد المرء ألَّا يتمكن من التقدم في المشي على الإطلاق.

وكما ذكرنا في الفصل الثالث، كان التنوع البيولوجي الضخم في البرازيل متناقضًا مع العدد المحدود من الحيوانات الغريبة الموجود في جزر جالاباجوس. فعندما صنف داروين الطيور المحاكية، وما تلا ذلك من اكتشافه أن «الطيور الغليظة المنقار» و«طائر النمنمة» وغيرها من الطيور الأخرى كانت في الواقع شرشوريات معدَّلة، أدرك أن التفسير الوحيد لتنوعها لا يمكن أن يكون خَلْقها بشكلٍ مستقل على كل جزيرة، وإنما أنها تنوَّعت من سلفٍ من الشرشوريات انتقل من أمريكا الجنوبية وصولًا إلى هذه الجزر. والواقع أنَّ الدليل الجغرافي كان مهمًّا جدًّا لداروين، حتى إنه خصص له فصلَين كاملَين في «أصل الأنواع» الصادر عام ۱۸٥۹، وسنورد منهما هذه الفقرة:

الحقيقة الأكثر لفتًا للنظر والأكثر أهمية بالنسبة لنا، فيما يتعلَّق بالكائنات القاطنة في الجزر، هي تقارُبها مع تلك الموجودة في أقرب برٍّ رئيسي، دون أن تنتمي في الواقع إلى النوع نفسه. [في] أرخبيل جالاباجوس … نجد أن كائنات اليابسة والماء جميعَها تقريبًا تحمل طابع القارة الأمريكية على نحوٍ لا لبس فيه. يوجد بالأرخبيل ستة وعشرون من طيور اليابسة، وقد صنَّف السيد جولد خمسة وعشرين منها بصفتها أنواعًا متمايزةً من المفترَض أن تكون قد خُلقَت هنا، لكن التقارب الوثيق بين معظم هذه الطيور والأنواع الأمريكية ظاهرٌ وواضحٌ من حيث صفاتها، وعاداتها، وإيماءاتها، ونغمات صوتها … إن عالِم الطبيعة الذي ينظر إلى الكائنات القاطنة لهذه الجزر البركانية في المحيط الهادي على بُعد مئات الأميال من القارة؛ يشعر أنه يقف على أرضٍ أمريكيةٍ رغم ذلك. فما السبب في هذا؟ ولماذا تكون الأنواع التي يُفترَض أنها خُلقتْ في أرخبيل جالاباجوس، وليس في أي مكان آخر، على هذا القدر من التقارب مع تلك التي يُفترَض أنها خُلقتْ في القارة الأمريكية؟ وليس في الظروف المتعلقة بالحياة، ولا في الطبيعة الجيولوجية للجزر، ولا في ارتفاعها أو مناخها، ولا في نِسَب القرابة والارتباط بين طوائفها العديدة، ما يشبه عن قربٍ الظروفَ الموجودة على ساحل أمريكا الجنوبية، بل كبيرة هي الاختلافات في جميع هذه النواحي. ومن ناحية أخرى، نجد درجة كبيرة من التشابه في الطبيعة البركانية للتربة، وفي المناخ والارتفاع وحجم الجزر، بين جزر جالاباجوس وأرخبيل كاب فيردي، ويا له من فارق شاسع ومطلق بين الكائنات القاطنة في كلٍّ منهما! إن الكائنات القاطنة لجزر كاب فيردي تنتمي إلى الكائنات القاطنة في أفريقيا، مثلما تنتمي كائنات جزر جالاباجوس إلى كائنات القارة الأمريكية. أعتقد أن هذه الحقيقة الكبرى لا تجد أي تفسير في وجهة النظر التقليدية المتمثلة في الخلق المستقل، أما من خلال وجهة النظر التي نتبناها هنا، فمن الواضح أنه سيكون من المرجَّح أنَّ جزر جالاباجوس قد استقبلت كائنات من أمريكا، سواء أكان ذلك عن طريق وسائل النقل العرضية، أو عن طريق اتصال الأرض فيما سبق، وينطبق الأمر نفسه مع كاب فيردي وأفريقيا، وستكون هذه الكائنات المستعمرة عرضةً للتعديل، لكن مبدأ الوراثة سيظلُّ يكشف عن مَنشئها الأصلي.

يثير هذا الاقتباس أيضًا نقطة ثانية لاحظها داروين: غالبًا ما تكون المجموعات الحيوانية والنباتية في الجزر المحيطية غريبة وغير متوازنة. فمعظم الجزر الكبيرة توجد بها أنواع فريدة من الحيوانات والنباتات التي تختلف تمامًا عن تلك الموجودة في البر الرئيسي، تُعرَف هذه بالأنواع المتوطِّنة. ولا تقتصر هذه الأنواع على عصافير داروين في جزر جالاباجوس، والطيور المحاكية والسلاحف فحسب، بل تتضمن الأشكال الغريبة من الحياة الموجودة في كل جزيرة تقريبًا. تشتهر مدغشقر على سبيل المثال بمجموعتها الغريبة من الليمور، والفوسا المفترسة الشبيهة بالقطط، والمدال آكل الحشرات، ومجموعة كاملة من الطيور الفريدة (٦٠ بالمائة منها متوطنة في مدغشقر)، والزواحف (۹٠ بالمائة منها متوطنة)، والبرمائيات، وفصيلتَين كاملتَين من الأسماك متوطنتَين، بالإضافة إلى الكثير من الحشرات المتوطنة، ومائة بالمائة من أنواع حلزونات اليابسة الموجودة بها، والبالغ عددها ٦٥١ نوعًا. يوجد بها أيضًا ما يقرب من ۱٥ ألف نوعٍ من النباتات، أكثر من ۸٠ بالمائة منها لا يوجد في أي مكانٍ آخر. وفي المجموع، ۹٠ بالمائة من الأنواع الموجودة في مدغشقر ينحصر وجودها فيها دون غيرها.

لنيوزيلندا أيضًا نصيبُها من التفرُّد؛ من حيث إنه لم تقطنها أيُّ ثديياتٍ برية قطُّ (باستثناء الخفافيش)؛ ولهذا تؤدي الطيور والزواحف والحيوانات الأخرى دور الثدييات في أماكن أخرى. إضافةً إلى ذلك، لم يكن يوجد بها سوى عددٍ قليلٍ من المفترسات؛ ومن ثَم لم يتكيَّف العديد من حيوانات نيوزيلندا على تطوير سلوكيات مضادة للمفترسات (إلى أن وصل البشر وحيواناتهم قبل حوالَي ۹٠٠ عام). ليست نيوزيلندا موطن طائر الكيوي وحسب، بل هي أيضًا موطن ببغاء ليليٍّ ضخمٍ لا يطير، ويُعرَف باسم ببغاء كاكابو، والببغاء المفترس كيا، وببغاء الموا العملاق الذي لا يطير، والعديد من الأنواع الفريدة الأخرى التي لا توجد في أي مكانٍ آخر. إنَّ كل جزيرة حول العالم تقريبًا توجد بها قائمةٌ مماثلةٌ من الأنواع الفريدة والمتوطنة التي لا توجد إلا بها فحسب، لكن العديد من هذه الأنواع لها قرابة بعيدة بالحيوانات الموجودة في أقرب برٍّ رئيسي. وإذا كان الإله قد خلقها جميعًا في وقتٍ واحد، ثم انتقلَت إلى هذه الجزر بعد مغادرة جبل أرارات، فما السبب في تفرُّد الكائنات القاطنة لكل جزيرة؟ إذا كانت أسلافها هربت من البر الرئيسي ووصلت إلى الجزر منذ زمن بعيد، وعُزِلت عن المنافسة مع حيوانات البر الرئيسي، فمن المنطقي أنها قد تطورت لتسكن هذه الموائل الجديدة.

وكلما كانَت الجزيرة بعيدةً عن القارة، زادَت غرابة المجموعة الحيوانية. لم يدرس داروين الكائنات الموجودة في هاواي، لكن هذه الجزر بعيدةٌ جدًّا عن أي مساحة من اليابسة. ولا يمكن أن تكون هذه الكائنات قد وصلت إلى هذه الجزر إلا عن طريق التحليق إليها، أو أن الرياح حملَتها إلى هناك عبر مساحاتٍ شاسعةٍ من المحيط الهادي. ونتيجةً لهذا، لا يوجد في هاواي ثديياتٌ بريةٌ أصليةٌ (باستثناء الخفافيش)، ولا زواحف ولا برمائيات، وكذلك لا يوجد فيها سوى عددٍ قليلٍ من أسماك المياه العذبة المحلية (وجميعها يستطيع السباحة أيضًا في المياه المالحة). إنَّ أحفادَ هذه الكائنات التي حملتها الرياح إلى هناك عرَضًا خلال الأعاصير؛ هي التي تسود الآن في هاواي، مجموعة فريدة تمامًا تتألَّف من ۷۱ نوعًا من الطيور التي لا توجد في أي مكانٍ آخر، ويبدو أنَّ بعضها قد تنوَّع تطوريًّا بدرجةٍ كبيرة (مثل طائر هاواي الباحث عن العسل، وهو أحد طيور ذات مناقير طويلة تستخدمها لاحتساء الرحيق، بالإضافة إلى البط والشرشوريات وطيور الغُرَّة وطيور التفليقة والصقور، وغيرها من الطيور المتوطنة الفريدة)، والكثير من الحشرات المتوطنة (بما في ذلك العديد من الأنواع الفريدة من ذبابة الفاكهة التي لا توجد في أي مكان آخر)، ومئات الأنواع من النباتات المتوطنة. ليس من المنطقي على الإطلاق أن تكون هذه الكائنات قد سارت بطريقة ما من جبل أرارات، ولكن من الواضح أن هذا يتفق مع فكرة أن عددًا قليلًا فقط من الحيوانات المحظوظة التي نجت، قد انتقلَ إلى هذه الجزر النائية في العالم، وتنوَّع إلى مجموعةٍ من الأنواع المتوطِّنة في غياب أي منافسةٍ من الأنواع الموجودة في البر الرئيسي.

اتخذ والاس، الذي شارك في اكتشاف الانتخاب الطبيعي، مسارًا مهنيًّا مختلفًا تمامًا عن المسار الذي اتخذه تشارلز داروين (الشكل ٦-٢). وُلد والاس عام ۱۸٢۳ في لانبادوك، ويلز، لعائلة فقيرة مكوَّنة من تسعة أطفال، وكان أصغر من داروين ﺑ ۱٤ عامًا، وكان ينظر إلى داروين على أنه مرشده الأكبر. كان فقر والاس يعني أن دراسته الرسمية قصيرة، وقد عمل لسنوات عديدة في مجال المسح ليكسب قوت يومه، إضافة إلى عمله في رسم الخرائط والتدريس. من خلال جولاته في مسح الريف ورسم خرائطه، أصبح عالمًا طبيعيًّا متحمسًا، لا سيما في جمع الحشرات. وتأثرًا بكتاب داروين عن رحلة البيجل وروايات ألكسندر فون هومبولت ومستكشفين آخرين، انطلق والاس البالغ من العمر ٢٥ عامًا في عام ۱۸٤۸ برفقة صديقه ويليام هنري بيتس (الذي أصبح بعدها بقليل عالمًا طبيعيًّا مشهورًا) في رحلة خطرة إلى غابات الأمازون لجمع العينات. أمضى والاس وبيتس أربع سنوات هناك، جمعا خلالها أعدادًا كبيرة من الأنواع الجديدة من الحيوانات (خاصة الحشرات) لبيعها للسوق النَّهِم لهواة جمع غرائب التاريخ الطبيعي في إنجلترا. لكنْ ثمة حادث مأساوي وقع في طريق العودة إلى الوطن؛ إذ اشتعلت النيران في سفينة والاس وغرقت، مما أدى إلى تدمير مجموعاته القيمة بأكملها تقريبًا. اضطرت النيرانُ والاس وطاقمه إلى الطفو في قارب نجاة مكشوف لمدة عشرة أيام قبل أن تصلهم النجدة. وعندما عاد إلى لندن، أمضى ۱۸ شهرًا وهو يعيش على مدفوعات التأمين لمجموعاته المفقودة، وبيع العينات التي كان قد شحنها في وقت سابق. وبين عامَي ۱۸٥٤ و۱۸٦٢، استكشف والاس أرخبيل الملايو (إندونيسيا وماليزيا حاليًّا) وجمع منه العينات، وأوشك على الموت عدة مرات بسبب إصابته بالملاريا أو تعرضه للحوادث. وبنهاية هذه الرحلة الاستكشافية، كان قد رأى ووثَّق من الحيوانات والنباتات الجديدة أكثر من أي إنسان على قيد الحياة في ذلك الوقت، وكانت لديه ثروة من الخبرة في اثنتَين من أكثر المناطق الاستوائية تنوعًا في العالم، مما جعله متمكنًا بشكلٍ كاملٍ من أنماط التوزيع الجغرافي الحيوي للحيوانات.
fig28
شكل ٦-٢: صورة لألفريد راسل والاس عندما كان شابًّا. (إهداء من «ويكيميديا كومنز»)

أثناء إقامته في تيرنايت بجزر مالاكو في عام ۱۸٥۸، عانى والاس من نوبة شديدة من الملاريا، وكان على وشك الموت عدة مرات. وخلال لحظات من الصفاء الذهني، كتب نسخته الخاصة من الانتخاب الطبيعي، وأرسلها بالبريد إلى تشارلز داروين تحديدًا من بين جميع الناس! ومن المعروف أن داروين قد صُدم عندما تلقى نسخة والاس، وكان قلقًا من أن يسبقه شخص آخر بعد أن أمضى ٢٠ عامًا من التردد والمماطلة في نشر أفكاره الأصلية عن الانتخاب الطبيعي، والتي كان قد دوَّنها في عام ۱۸۳۸. استنجد داروين بأصدقائه؛ الجيولوجي تشارلز لايل وعالم النبات جوزيف هوكر، ليساعداه في التوصل إلى حل ملائم لمعضلته. نسَّق لايل وهوكر لقراءة كلٍّ من خطاب والاس واثنتَين من مذكرات داروين المبكرة عن الانتخاب الطبيعي في اجتماع الجمعية اللينية، كي يتشارك داروين ووالاس الفضل في هذه الفكرة. ويبدو أنَّ أحدًا لم يولِ تلك الفكرة حقها آنذاك. فقد علَّق توماس بيل، رئيس الجمعية في عام ۱۸٥۸ حين عُقِدت تلك الجلسة التي عُرِضت فيها وثائق داروين ووالاس، قائلًا: «لم يشهد العام الماضي في حقيقة الأمر أيًّا من تلك الاكتشافات المذهلة التي يمكن القول إنها تُحدِث ثورةً في التخصص العلمي الذي تنتمي إليه.» ولكَم كان مخطئًا! يبدو أنَّ أحدًا لم يدرك في ذلك الوقت مدى أهمية أبحاث داروين ووالاس.

أثناء ذلك، أدرك داروين أن الفكرة حاضرة بالفعل وسيسبقه آخرون إليها إذا لم يتصرف بسرعة، ليثبت أنَّ ما أنجزه في هذه المسألة أكثر مما أنجزه أيُّ شخص آخر. وبحماسة كتب نسخة «قصيرة» من كتابه الذي طالما أجَّله، وقد بِيعَت جميع نُسخه في اليوم الذي نُشرت فيه في نوفمبر ۱۸٥۹.

عند عودته إلى لندن في عام ۱۸٦٢، علم والاس بالحماسة الشديدة التي أحاطت بكتاب داروين في السنوات الثلاث السابقة، لكنه لم يحقد على داروين قط أنه اشتهر بفضل فكرةٍ توصَّل إليها كلاهما بشكلٍ مستقل. أصبح والاس أحد أقوى مناصري داروين دون أن يلفت الانتباه إلى اكتشافه للفكرة بنفسه. والحق أنَّ أحد كتبه الأخيرة عن هذه المسألة جاء بعنوان «الداروينية»، وقد صدر عام ١٨٨٩.

ساهم والاس في الجدل حول التطور، وجعلته تجربته العالمية الهائلة مع الحيوانات الغريبة رائدًا في الجغرافيا الحيوية. يُعَد والاس هو المؤسس الفعلي لهذا المجال بأكمله من خلال نشره لكتاب «التوزيع الجغرافي للحيوانات» في عام ۱۸۷٦. جمع والاس في هذا المؤلَّف جميع المعلومات الجديدة عن مناطق وجود المجموعات الحيوانية، وأسَّس للعديد من مفاهيم الجغرافيا الحيوية التي لا تزال قائمةً حتى يومنا هذا. كانت إحدى مساهماته الأبرز هي اكتشاف الحدِّ في الأرخبيل الإندونيسي بين الجزر التي تحتوي في أغلبها على مجموعاتٍ حيوانيةٍ متأثرة بآسيا (مثل التابير، ووحيد القرن، والنمور، وحيوانات أخرى من الغابات الآسيوية) وتلك التي تهيمن عليها حيوانات أسترالية (مثل الولب وغيره من الجرابيات، و«آكل النمل الشوكي» أو القنافذ الشوكية، والطيور الكبيرة التي لا تطير مثل الشبنم). سُمي هذا الحدُّ باسم «خط والاس» (الشكل ٦-٣)، وهو مثالٌ صارخٌ على إمكانية اختلاط مجموعتَين حيوانيتَين مختلفتَين عند انجراف قارة (أستراليا) إلى حيِّز تأثير قارةٍ أخرى (آسيا).
fig29
شكل ٦-٣: قام ألفريد راسل والاس بجمع العينات في العديد من الأماكن في أرخبيل الملايو بجزر الهند الشرقية الهولندية (إندونيسيا وماليزيا حاليًّا)، وتَعرَّف جيدًا على الاختلافات بين المجموعات الحيوانية في كل جزيرة. أذهله التشابه بين حيوانات نيو غينيا والجزر الغربية وبين حيوانات أستراليا، وخاصة الجرابيات الأسترالية التقليدية (مثل الولب)، وقنفذ النمل الشوكي واضع البيض أو آكل النمل الشوكي، والطيور الكبيرة التي لا تطير مثل طائر الشبنم. في الطرف الغربي من سلسلة الجُزر، تتشابه معظم الثدييات مع تلك الموجودة في البر الرئيسي لجنوب شرق آسيا (مثل التابير ووحيد القرن والنمور وحيوانات الغابة الآسيوية الأخرى). رسم والاس خطًّا بين بورنيو وسولاويزي ممتدًّا إلى بالي ولومبوك، حيث كان التحول أكثر لفتًا للانتباه. يمثل هذا الخط أعمق جزء من المضايق (مثل مضيق لومبوك) الذي يفصل الجُزر (والجروف القارية) في آسيا عن تلك الموجودة في أستراليا. فحتى عندما انخفض مستوى سطح البحر بمقدار ٤٠٠ قدم خلال العصر الجليدي الأخير، دائمًا ما كان يوجد فصل في المياه العميقة بين هذه الجزر، مما جعل من الصعب على الحيوانات البرية (النمور ووحيد القرن جهة الشرق، والجرابيات وأحاديات المسلك جهة الغرب) عبور الحاجز. ومنذ ذلك الحين، اقترح الجيولوجيون وعلماء الأحياء خطوطًا أخرى لترسيم الحدود بين مقاطعات المجموعات الحيوانية. وبالمصطلحات الحديثة، تمثل هذه الخطوط المنطقة الانتقالية التي تقلَّصت تدريجيًّا منذ العصر الطباشيري بانجراف الصفيحة الأسترالية نحو الصفيحة الآسيوية، مما جعل مجموعاتهما الحيوانية أكثر تشابهًا. (إهداء من و«يكيميديا كومنز»)
لقد ركَّزت أغلب المؤلَّفات في مجال الجغرافيا الحيوية قبل ستينيَّات القرن العشرين، على تفسير انفراد المنطقة الجغرافية الواحدة بما يوجد بها من حيواناتٍ ونباتات، وغياب هذه الكائنات عن أي منطقةٍ أخرى. إنَّ هذا النمط جعل قصة سفينة نوح غير قابلةٍ للتصديق؛ لأن نمط توزيع الحيوانات لم يكن ينبع من جبل أرارات في تركيا. ثم إنَّ الدليل الأكثر وضوحًا هو مدى تشابه بعض الحيوانات الآهلة لمناطق مختلفة وارتباطها ارتباطًا وثيقًا. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك المجموعةُ البدائية من الطيور التي لا تطير، والتي تشمل النعامة في أفريقيا، والرِّيَة في أمريكا الجنوبية، والشبنم والإيمو في أستراليا ونيو غينيا، والكيوي في نيوزيلندا. لقد ظل توزيع هذه الطيور في جميع القارات الجنوبية لغزًا لزمن طويل، خاصةً لأنها لم تتمكن من الطيران عبر المحيطات التي تفصل بين تلك القارات. وفي ستينيات القرن العشرين، عندما أثبتت الصفائح التكتونية أن جميع القارات الجنوبية كانت ذات يوم جزءًا من القارة العظمى التي تُدعى جندوانا، والتي تفكَّكت في أواخر العصر الطباشيري، أصبح هذا النمط منطقيًّا أخيرًا (الشكل ٦-٤). لقد نشأت هذه الطيور في جندوانا قبل أن تتفكك وظلَّت في أوطانها، وتطورت وتباعدت إلى أنواع مختلفة من مسطحات الصدور، مثل النعام والرِّيَة والإيمو. (لكن القصة تتعقد إلى حدٍّ ما؛ إذ توجد حفرية لطائر من مسطحات الصدورِ نعرف أنه كان يعيش في أوروبا قبل ٤٠ مليون سنة تقريبًا.)
fig30
شكل ٦-٤: تسلسل التفرُّع الذي يوضح تطور مسطحات الصدورِ الكبيرة التي لا تطير، وفقًا لتفسيره من خلال التسلسل الزمني لتفكُّك قارة جندوانا الكبرى إلى قارات، والذي ترك اليوم نوعًا واحدًا أو اثنين من مسطحات الصدور في كل قارة. (أُعيدَ رسمه من عدة مصادر)
وبالمثل أيضًا، فإن توزيع الثدييات الجرابية (انظر الشكل ٦-١) يعكس النطاق الأصلي الذي كانت تشغله من قارة جندوانا. من هذه الجرابيات؛ الكنغر، والولب، والبندقوط، والومبات، والكوالا، وشياطين تسمانيا في أستراليا، إضافةً إلى عدد من الجرابيات البدائية في أمريكا الجنوبية، وحفرية جرابية واحدة في أنتاركتيكا. علاوةً على ذلك، كانت الجرابيات تنتشر في أمريكا الجنوبية بدرجة أكبر كثيرًا مما هي عليه الآن، مع تشعُّب كبير لجرابيات مفترسة منقرضة تشبه الذئاب والضباع، وجرابيات سيفية الأنياب شديدة الشبه بالقطط السيفية الأنياب التي توجد في القارات الشمالية. حيوانات الأبسوم البدائية نسبيًّا هي فقط التي تمكنت من الفرار إلى الجزء الشمالي من العالم خلال العصر الطباشيري، لكنها لم تهيمن قط على القارات الشمالية كما فعلت الجرابيات في أستراليا وأمريكا الجنوبية، حيث لم تواجه من الثدييات المشيمية التي سادت في أماكن أخرى سوى قدر ضئيل من المنافسة، أو لم تواجه منافسة إطلاقًا.

ولنا مثال آخر على هذا النمط من التوزيع الجغرافي، يتمثل في السلاحف البدائية الجانبية الرقبة، التي تنحني أعناقها جانبًا، وتثني عنقها ورأسها تحت الحافة الأمامية من الصدفة للحماية (بدلًا من سحب رأسها داخل قوقعتها، مثل السلاحف المخفيَّة الرقبة الأكثر شهرة). فهذه السلاحف الجانبية الرقبة لا توجد اليوم إلا في أفريقيا ومدغشقر وأستراليا وأمريكا الجنوبية، إضافةً إلى العثور على حفريات لها في الهند أيضًا؛ ومن ثَم فقد كانت موجودة في جميع قارات جندوانا باستثناء القارة القطبية الجنوبية (التي يتَّسم سجلُّها الأحفوري بالفقر بسبب الغطاء الجليدي الذي يغطي معظم الصخور). كانت هذه السلاحف تتجه إلى أوراسيا وأمريكا الشمالية في بعض الأحيان، لكن الجزء الأكبر من تطورها قد حدث في جندوانا قبل تفكُّكها. ولنا أمثلة أخرى في فصيلتَين من الضفادع؛ الشقدعيات وناتاتانورا، وهما لا توجدان اليوم إلا على بقايا جندوانا. نظرًا لأن البرمائيات لا تستطيع عبور حواجز المياه المالحة بسبب جلودها المسامية، فإن التفسير الوحيد لتوزيعها حول القارات الجنوبية هو تباعدها قبل تفكك جندوانا في أواخر العصر الطباشيري. وتوجد الأنواع الحية الثلاثة من الأسماك الرئوية في أفريقيا وأمريكا الجنوبية وأستراليا، على الرغم من أنها من بقايا توزيع عالمي سابق للسمك الرئوي خلال عصر الديناصورات. يمكننا العثور على أمثلة مشابهة في العديد من مجموعات الحيوانات الأخرى (خاصة الحشرات والعناكب) وفي النباتات. وخير مثال على ذلك هو شجر الزان الجنوبي (نوثوفاجوس) الذي لا يوجد إلا في الأجزاء الأكثر برودة ورطوبة من جندوانا (نيوزيلندا وتسمانيا وباتاجونيا اليوم).

لقد قطعنا شوطًا طويلًا من الأسطورة القديمة لسفينة نوح إلى الجغرافيا الحيوية الحديثة، التي أسَّسها داروين ووالاس وغيرهما من العلماء. إننا لا نعلم حتى يومنا هذا جميع أنماط توزيع الحيوانات والنباتات بشكلٍ كامل. بالرغم من ذلك، فنحن لا نستطيع أن نفهم معظمها سوى في ضوء التطور، والثورة العلمية العظيمة الأخرى في هذا القرن؛ الصفائح التكتونية.

قراءات إضافية

  • Brown, James H. and Arthur C. Gibson, Biogeography, St. Louis, Mo.: Mosby, 1983.
  • Browne, Janet, The Secular Ark: Studies in the History of Biogeography, New Haven, Conn.: Yale University Press, 1983.
  • Cox, C. Barry and Peter D. Moore, Biogeography: An Ecological and Evolutionary Approach, 7th ed., Cambridge, Mass.: Blackwell, 2005.
  • Darlington, Peter J., Zoogeography: The Geographical Distribution of Animals, New York: Wiley, 1957.
  • Lomolino, Mark V., Brett R. Riddle, Robert J. Whittaker, and James H. Brown., Biogeography, 4th ed., Sunderland, Mass.: Sinauer, 2010.
  • McCarthy, Dennis, Here Be Dragons: How the Study of Animal and Plant Distributions Revolutionized Our Views of Life and Earth, New York: Oxford University Press, 2009.
  • Morrone, Juan J., Evolutionary Biogeography: An Integrative Approach with Case Studies, New York: Columbia University Press, 2008.
  • Parenti, Lynne R. and Malte C. Ebach, Comparative Biogeography: Discovering and Classifying Biogeographical Patterns of a Dynamic Earth, Berkeley: University of California Press, 2009.
  • Pielou, E. C., Biogeography, New York: Wiley-Interscience, 1979.
  • Simpson, George Gaylord, Evolution and Geography: An Essay on Historical Biogeography with Special Reference to Mammals, Eugene: Oregon State System of Higher Education, 1962.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤