الفصل الثامن

دفاعًا عن الدبابير القاسية

الطبيعة ليست أخلاقية

يا له من كتاب قد يكتبه قسيسٌ للشيطان عن الطبيعة الخرقاء، المسرفة، المتخبِّطة، الوضيعة، والقاسية بشكل مريع!

تشارلز داروين، في رسالةٍ كتبها عام ۱۸٥٦ لجوزيف هوكر

في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر لم تكن دراسة الطبيعة علمًا على الإطلاق، بل كانت في معظمها مجموعة من الملاحظات العرَضية عن الجوانب الطريفة والغريبة للحياة. وغالبًا ما كانت تُسمى ﺑ «الفلسفة الطبيعية»؛ لأنها كانت تستند بالفعل إلى الفلسفة والدين، وليس العلم (الحق أنَّ مفهوم «العلم» لم يظهر حتى أوائل القرن التاسع عشر). فقد كان العامل المحفز للجزء الأكبر من المناقشات هم مَن كانوا يحاولون «فَهْم عقل الرب من خلال تدبر ما صنعه». سُمي هذا الفرع من الفلسفة الطبيعية ﺑ «اللاهوت الطبيعي»، وكان معظم رجاله البارزين من القساوسة الذين كان لديهم الكثير من الوقت لدراسة الطبيعة، حين لم يكونوا يخدمون رعيتهم. وقد حثَّهم على ذلك ما رأَوه في الطبيعة من أدلَّةٍ على عمل الرب. ولم يكن العلم مهنةً تُحترَف بعد.

كان القس ويليام بايلي أشهر من كتب عن هذه المسألة، وفي عام ۱۸٠٢ ألَّف كتاب «اللاهوت الطبيعي»، الذي يُعَد المعالجة الأكثر اكتمالًا للموضوع. وفي هذا العمل، قدَّم بايلي تشبيه «صانع الساعات» الشهير. طلب بايلي من القارئ أن يتخيَّل أنه عثر على ساعةٍ وصخرةٍ على شاطئ. وفقًا لبايلي، فأنت لن تعتبر الصخرة غير اعتياديةٍ لأنها جزءٌ من العالم الطبيعي، لكنك ستُدرك على الفور أن الساعة «صُنِعت بشكلٍ معقد»، وستستنتج أن ثمة صانع ساعات قد صنعها. بالنسبة لبايلي، كانت المصنوعات المعقدة في الطبيعة دليلًا على وجود صانع ساعات إلهي، وهو الرب.

كانت مدرسة اللاهوت الطبيعي الفكرية بالغةَ التأثير في زمانها، وكان داروين نفسه يكاد يحفظ كتاب بايلي عن ظهر قلب. غير أنَّ هذه المدرسة قد دُحِضت حتى من قبل زمن بايلي. ففي عام ۱۷۷۹، نشر الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم كتاب «محاورات في الدين الطبيعي»، والذي هدم حُجة التصميم بأكملها. وضع هيوم حُجج اللاهوت الطبيعي الأساسية على لسان شخصية تُدعى كلينذس، واستخدم الحوارات بينه وبين أحد المشككين المسمَّى فيلو، ليهدم حجة التصميم في الطبيعة. يشير فيلو إلى أن تشبيه التصميم في الطبيعة خاطئ؛ لأننا لا نمتلك معيارًا نقارن به عالمنا، لذلك من الممكن أن نتخيل عالمًا مصمَّمًا بشكل أفضل بكثير من ذلك الذي نعيش فيه. حتى لو سلَّمنا بأن العالم يبدو مصممًا، فهذا لا يعني بالضرورة أنَّ المصمِّم إله اليهودية والمسيحية. من الممكن أن يكون إله دين آخر أو ثقافة أخرى، أو ربما لجنة من الآلهة، أو إلهًا شابًّا يرتكب الأخطاء. لقد افترض اليهود والمسيحيون ببساطة أنه إذا كان هناك مصمم، فلا بد أن يكون هو إلههم، لكن ذلك يفتقر لدليلٍ قويٍّ يُثبت أن هذا المصمم ليس إلهًا آخر.

على أية حال، بدت فكرةُ أن الطبيعة مصممة بشكل جميل مقنعةً للغاية. كُتِب العديد من الكتب والقصائد عن عجائب الطبيعة، لكن من المهم للعالِم أن ينظر إلى الصورة بأكملها. ومثلما أشار داروين في الاقتباس الوارد في بداية هذا الفصل، يمكن للطبيعة أيضًا أن تكون «خرقاء، مسرفة، متخبطة، وضيعة، وقاسية بشكل مريع». فعلى مدار قرون من الزمان، كان الكُتاب والفنانون والمتدينون ينظرون إلى جمال العالم، ويغضُّون الطرْف عن جانبه المظلم. ومن أعظم الرؤى التي أتى بها داروين أن الجمال والألم جزآن متساويان من القصة، ولا يمكن تفسيرهما إلا من خلال عملية سمحت لكليهما بالوجود. فليست الطبيعة عرضًا إلهيًّا للأعمال الجميلة لإله خَيِّر فحسب؛ بل هي عملية تعمل خارج إطار حكمنا البشري لما هو جميل وما هو قبيح، وتقوم بوظيفة محددة تؤديها بأي وسيلة متاحة لها (بقاء الكائنات الحية كي تتمكن من ترك ذرية للجيل القادم). وفي نهاية المطاف، نحن نعلم الآن أن الحياة تقوم بذلك منذ أكثر من ۳٫٥ مليارات سنة، وأنَّ البشر لم ينفقوا من وقتهم في التغزل في جمال الطبيعة إلا في بِضعة آلاف من السنين الماضية.

وسرعان ما تعلَّم علماء الأحياء أن يرَوا جانبَي هذه الصورة، وأن يدركوا أن الطبيعة ليست زهورًا جميلة أو أغنيات العصافير وحسب. فالحياة لم تُخلَق ببساطة للترفيه عنَّا، ولكل من الكائنات وظيفة محددة (لا تكون خيِّرة في بعض الأحيان). يُذهَل الشعراء والرسامون بالزهور الرائعة (ونحن أنفسنا نُفتَن بجاذبيتها)، لكن الزهرة لعالِم الأحياء هي عضو جنسي. تخدم بنيتُها ووظيفتها غرضًا رئيسيًّا واحدًا؛ نقل الحيوانات المنوية في حبوب اللقاح من زهرة ما للوصول إلى البويضات في زهرة أخرى؛ ومن ثَم الحفاظ على تجمُّعٍ جينيٍّ صحيٍّ به درجة أقل من التوالد الداخلي.

في كل صباحٍ قبل الفجر خلال فصلَي الربيع والصيف، أسمع الطيور المحاكية تغني باستمرارٍ لساعات بتنويعات لا تصدَّق من نداءات الطيور، بعضها أصيل لها، وبعضها منقول من طيور أخرى. للمستمع الساذج، سيبدو تغريد الطيور على الأشجار لحنًا غراميًّا جميلًا ليستمتع به البشر. لكن عالم الأحياء يدرك أن وظيفة تغريد الطائر لهذه العبارات مرارًا وتكرارًا، هي إصدار تحذيرٍ معادٍ للطيور الأخرى من نفس نوعه: «هذه منطقتي. ابقَوا بعيدًا!» فالهدف من هذا الترنيم هو إبعاد غيره من ذكور الطيور المحاكية، وجذب أنثى إلى منطقته للتزاوج معه. أخرجت منظاري وركَّزته على طائر مُحاكٍ يقف على قمة أطول شجرة، يُنفِق جُل طاقته طوال اليوم (ومعظم الليل أيضًا) في التغريد، فيكاد لا يتبقَّى له أي وقتٍ تقريبًا للبحث عن الطعام أو إراحة صوته. أمشي في الشارع لمسافة عدة بنايات، وأسمع ذكرًا مختلفًا على قمة شجرة طويلة أخرى، أو عمود هاتف يفعل نفس الشيء في منطقته. هذه الطيور التي تغنِّي عاليًا فوق رءوسنا لا تغني لنا، إنما هي تتحدَّى الجميع من فوق مَجثَمها المرتفع، محذِّرةً غيرها من ذكور الطيور المحاكية، أن تبتعد عن أرضها. إن هذه الأفكار وغيرها، من أول ما يُدرَّس الآن في علم الأحياء. أما في زمن داروين، فقد أدت هذه الاكتشافات إلى زعزعة نظرة البشر للعالم؛ إذ كانوا يعتقدون أن الزهور وغناء الطيور لم يُخلَقا إلا لإمتاعنا.

في عام ۱۸٢۹، ترك إيرل بريدجووتر وصية قدرها ۸٠٠٠ جنيه إسترليني؛ لدعم سلسلة من الكتب تتحدَّث عن «قوة الرب وحكمته وخيريته، كما تتجلَّى لنا في الخليقة». وكان القس ويليام باكلاند في جامعة أكسفورد أول من قَبِل تفويضًا بكتابة إحدى أطروحات بريدجووتر. لم يكن باكلاند رجل دين أنجليكانيًّا فحسب (أصبح لاحقًا عميد وستمنستر)، لكنه كان أيضًا أول عالم جيولوجيا أكاديمي رسمي في إنجلترا. كان هو أول من نشر وصفًا لديناصور، وهو مَن قام بتسميته ميجالوصور. كان باكلاند يحب الحيوانات كثيرًا، حتى إنه كان يفتخر هو وعائلته بأنهم يأكلون جميع أنواع الحيوانات التي يمكنهم الحصول عليها.

في كتابه «الجيولوجيا وعلم المعادن في إطار اللاهوت الطبيعي» الصادر عام ١٨٣٦، شرع باكلاند في محاولة تقديم تفسير لاهوتي «لمعضلة الألم» في الطبيعة. لماذا يترك الإله الخيِّر مخلوقاته تعاني الموت والهلاك؟ لمَ تحمل الطبيعة قدرًا كبيرًا من القسوة التي لا معنى لها، سواء أجاءت في صورة قطة تلهو بفأر قبل أن تأكله، أو آكل لحوم كبير يأكل فريسته بينما هي لا تزال على قيد الحياة وتعاني؟ كانت إجابة باكلاند عن هذه المعضلة هي أن الحيوانات آكلة اللحوم تزيد في الواقع من «المتعة الكلية للحيوانات»، و«تقلل من ألمها الكلي». إذا ماتت فريسة بسرعة حين يفترسها أسد، فإن هذه الفريسة لن تعاني من آلام الخَرَف والمرض والشيخوخة. كما أن المجموعات الحيوانية لن تزداد بأعداد كبيرة للغاية بحيث تستنفد إمداداتها الغذائية؛ ومن ثَم تعاني من آلام الجوع، والموت جوعًا في نهاية المطاف. وقد عبَّر باكلاند عن ذلك في كتابه على النحو التالي:

يبدو إذن أنَّ الموت بفعل آكلات اللحوم باعتباره النهاية الاعتيادية لوجود الحيوان؛ شِرعةٌ من شِرَع الخير، إنه يقتطع الكثير من المجموع الكُلي للألم الشامل للموت، ومن خلال هذا الخُلق الوحشي، يختصر بؤس المرض والإصابات العرَضية والتدهور البطيء، بل يكاد يقضي على ذلك كله، مما يؤدي إلى فرض تقييد صحي على الزيادة المفرطة في الأعداد، بحيث تظل نسبة عرض الغذاء متوازنة دائمًا مع الطلب عليه. والنتيجة هي أنه، بما أن سطح الأرض وأعماق المياه مزدحمان على الدوام بعدد لا يُحصَى من الكائنات الحية، فإن ملذات حياتها تتماشى مع أمد بقائها، وتحيا طوال أمد بقائها الصغير بمسرَّة ورغد بالوظائف التي خُلقت من أجلها.

ربما برر هذا الرأي القائل بأن المفترسين هم مجرد جلَّادي الرب الرحماء، تفسير اللاهوت الطبيعي لمعضلة الألم، لكنه لم يسهم في معضلة الطفيليات بالتأكيد. إن البشر يشمئزون تلقائيًّا حين يدركون أننا جميعًا لدينا الآلاف من البكتيريا والعثِّ والديدان الصغيرة التي تعيش في أجزاء مختلفة من أجسادنا؛ بعضها يفيدنا، لكن الكثير منها لا يقدم أية فائدة. إننا نشعر بالتقزز حتى من فكرة وجود ديدان شريطية ضخمة في أمعائنا تستنزف قوتنا، أو العديد من الطفيليات الأخرى التي يمكن أن تشلنا أو تعمينا أو حتى تقتلنا. وهذا الشعور بالتقزز من أسباب النجاح الكبير الذي حققه فيلم «آلين»؛ فقد كانت رؤية المخلوق الطفيلي الفضائي الغريب وهو يندفع خارجًا من معدة رائد فضاء (قام بدوره جون هيرت) كابوسيةً بحق، ورهيبة بالنسبة لمعظمنا. لقد حاول العديد من الباحثين في اللاهوت الطبيعي تبرير وجود الطفيليات، لكنهم لم ينجحوا في ذلك. وبالنسبة لباكلاند، فقد تجنب الموضوع تمامًا؛ لأنه كان يقوِّض حجته بأكملها بشأن كون الموت في الطبيعة أمرًا جيدًا.

ما من مثال حيَّر اللاهوتيين الطبيعيين وأعياهم أكثر من حالة «النمسيات» (وهي في الواقع فصيلة كاملة من حوالي ۱٥٠ ألف نوع من الدبابير، وهو عدد أكثر من جميع الفقاريات مجتمعة). على غرار معظم الدبابير، تعيش النمسيات بحُرية وهي بالغة، ولكن لديها طريقة فريدة للتكاثر. عندما تكون أنثى دبُّور النمس جاهزة لوضع بيضها، فإنها تجد فريسة لها، كحشرة أخرى أو عنكبوت، لكنها تختار يسروعًا في الغالب. تنقضُّ الأنثى على الضحية البائسة، وتثقب جسدها ﺑ «إبرة اللدغ» الطويلة البارزة من ذيلها (وهي في الواقع مسرأ؛ أي عضو لوضع البيض)، وتحقنه بسم يشل الضحية، لكنه يتركها على قيد الحياة (الشكل ٨-١(أ)). تضع الأم بيضها داخل جسد الضحية، وعندما يفقس البيض، تبدأ اليرقات في أكل العائل من الداخل وهو لا يزال على قيد الحياة، بدءًا من الأعضاء الأقل أهمية مثل الجهاز الهضمي والأجسام الدهنية. وبعد ذلك، تلتهم يرقات الدبابير الجهاز العصبي والدورة الدموية في نهاية المطاف، مما يؤدي أخيرًا إلى قتل العائل. وبهذه الطريقة يظل طعامها حيًّا وطازجًا دائمًا حتى النهاية، بدلًا من أن يموت ويتحلل قبل أن تنتهي اليرقات منه. يتحول اليسروع إلى صَدَفة مجوَّفة، وكأنه محفظة واقية ليرقات الدبابير، إلى أن تندفع اليرقات خارجةً من جلد الضحية تحلِّق وهي مكتملة النمو. في بعض الأنواع، تضع الأنثى بيضها فوق الضحية (الشكل ٨-١(ب))، وعندما يفقس البيض، تحفر الدبابير الصغيرة داخل الجسد وتأكله حيًّا.
fig34
شكل ٨-١: دبابير النمس: (أ) أنثى دبور تشل حشرة المن وتضع بيضها داخلها. (ب) يرقات دبابير النمس تتطفل على الجزء الخارجي من اليسروعات. (إهداء من «ويكيميديا كومنز»)

وضع عالم الحشرات الفرنسي جان هنري فابر مؤلَّفات كاملة عن هذا الموضوع، واصفًا فيها العديد من الأمثلة على تطفل يرقات الدبابير وحشرات أخرى على ضحاياها. في أحد الأنواع، قد لا يكون مضيفها مشلولًا تمامًا؛ لذلك ترتبط اليرقات بحبل حريري من سقف الجحر، ويمكنها أن تتقهقر إذا تخبَّطت ضحيتها كثيرًا. وكما كتب فابر عام ١٩١٦ في كتابه «دبابير الصيد»:

اليرقة الآن تتناول العشاء؛ رأسها لأسفل، إنها تحفر في البطن الرخو لأحد اليساريع … عند أدنى علامة على وجود خطر في كومة اليساريع، تتراجع اليرقة … وتتسلق عائدة إلى السقف، حيث لا يمكن للحشد الهائج الوصول إليها. ولدى استعادة السِّلم، تنزلق اليرقة [على حبلها الحريري] وتعود إلى الطاولة، يتدلى رأسها فوق الطعام الشهي ومؤخرتها مقلوبة، جاهزةً للانسحاب إذا استلزم الأمر. (۱٥)

ووصف فابر الدبابير التي تتطفل على الصراصير:

يمكن للمرء أن يرى الصرصور قد لُدِغ سريعًا، وعبثًا يحرك قرونه الاستشعارية ومراود بطنه، وهو يفتح ويغلق فكَّيه الفارغين، بل ربما يحرك قدمًا، لكن اليرقة صارت آمنة، وتبحث عن عناصرها الحيوية وهي مُحصَّنة. يا له من كابوس مروِّع للصرصور المشلول! (۱٦)

علاوةً على ذلك، أجرى فابر تجارب قدَّم فيها الماء المُحلَّى بالسكر إلى اليعسوب المستهلَك جزئيًّا، وقد حرك أجزاء فمه وحاول أن يأكل، مما دل على أنه كان لا يزال حيًّا، وأنه قد شلَّ جزئيًّا فقط؛ على الرغم من أن يرقات الدبابير كانت قد أكلت بالفعل معظم ما بداخله، بما في ذلك الجهاز الهضمي.

يوجد العديد أيضًا من أنماط التطفل الأخرى. في عام ۱۹۸٢، وصف ستيفن جاي جولد مجموعة متنوعة من أنماط تطفل الدبابير على كائنات عائلة مختلفة قائلًا:

إننا نعرف مهارات الدبابير في اصطياد كائناتٍ عائلةٍ غالبًا ما تكون أكبر حجمًا من الدبابير نفسها. ربما تكون اليساريع صيدًا سهلًا، لكن دبابير الساموكاريد تُفضِّل العناكب. ولا بد لها من إدخال مسرئها في مكان آمن ودقيق. وبعضها يترك عنكبوتًا مشلولًا في جحره. على سبيل المثال، تتطفل دبابير بلانيسبس هيرسوتوس على عنكبوت الباب المسحور الكاليفورني. فهي تبحث عن أنفاق العنكبوت على الكثبان الرملية، ثم تحفر في الرمال القريبة كي تخرب بيت العنكبوت لتدفعه خارجًا. عندما يظهر العنكبوت، يهاجمه الدبُّور، فيشل ضحيته، ويسحبه مرة أخرى إلى نفقه الخاص، ويغلق الباب المسحور ويثبته، ويضع بيضة واحدة على بطن العنكبوت. تقوم بعض الأنواع الأخرى من دبابير ساموكاريد بجرِّ عنكبوت ثقيل إلى مجموعة من الزنازين الطينية المُعَدة مسبقًا. وتقوم دبابير أخرى ببتر أرجل العنكبوت لتسهيل المرور. وتطير أخرى فوق الماء وهي تجرُّ عنكبوتًا طافيًا على طول السطح.

يتعين على بعض الدبابير أن تتقاتل مع طفيليات أخرى على جسد العائل. يمكن لدبابير رايسيلا كرفايبس أن تكتشف وجود يرقات دبابير الخشب في أعماق خشب الآلدر، وأن تحفر إلى الأسفل باستخدام المسرأ الحاد المسنَّن لتجد الضحية المحتمَلة. أما دبابير سودوريسا ألبيسترس، وهي دبابير طفيلية قريبة من دبابير رايسيلا، فلا تستطيع الحفر مباشرة في الخشب؛ نظرًا لأن مسرأها النحيف لا يحمل سوى أسنة قطع بدائية. ولهذا فهي تحدد الثقوب التي أحدثتها دبابير رايسيلا، وتُدخِل مسرأها الخاص بها، وتضع بيضة على العائل (الذي أصابته بالفعل دبابير رايسيلا بالشلل) بجوار البيضة التي وضعتها قريبتها. تفقس البيضتان في نفس الوقت تقريبًا، لكن يرقة دبور سودوريسا لها رأس أكبر به فكوك أكبر بكثير. تستولي يرقة سودوريسا على يرقات رايسيلا الأصغر وتدمرها؛ ومن ثَم تشرع في تناول وليمة على مأدبة مُعَدة جيدًا بالفعل.

إن مدح كفاءة الدبابير الأم يستدعي أيضًا ذكر خصائص التبكير، والسرعة، والكثرة. إن العديد من دبابير النمسيات لا تنتظر حتى ينمو عائلها إلى يرقات، بل تتطفل على البيضة مباشرة (قد تقوم يرقات الدبابير بعد ذلك إما بتصريف البيضة نفسها أو دخول يرقة العائل النامية). وتعتمد بعض الدبابير الأم الأخرى على السرعة. فيمكن لدبابير أبانتيليس أن تضع ما يصل إلى ٧٢ بيضة في الثانية الواحدة. وهناك دبابير أخرى تتسم بإصرار شديد. تنتج إناث دبابير أفيديوس جوميزي ما يصل إلى ۱٥٠٠ بيضة، ويمكن أن تتطفل على ما يصل إلى ٦٠٠ حشرة منٍّ في يوم واحد من العمل. في تطور غريب ﻟ «الكثرة»، تنغمس بعض الدبابير في تعدد الأجنة، الذي هو نوع من التزاوج المفرط المتكرر. تنقسم البيضة الواحدة إلى خلايا تتجمع إلى ما يصل إلى ٥٠٠ فرد. ونظرًا لأن بعض الدبابير المتعددة الأجنة تتطفل على يساريع أكبر منها بكثير، وقد تضع ما يصل إلى ست بيضات في كلٍّ منها، فقد ينمو ما يصل إلى ۳٠٠٠ يرقة داخل العائل الواحد، وتتغذَّى جميعها عليه. هذه الدبابير طفيليات داخلية لا تشل ضحاياها. تتلوى اليساريع ذهابًا وإيابًا، ليس من الألم (وإن كنا لا نعرف على وجه اليقين)، بل استجابةً للاضطراب الناجم عن وجود الآلاف من يرقات الدبابير التي تتغذى في الداخل. (۱۹-٢٠)

طَوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تصارع العلماء ورجال الدين مع الأفكار المروعة التي استحضرتها قصص التطفل الداخلي، وحاولوا إيجاد تفسير لها أو إنكارها؛ إذ كانت تتعارض بشدة مع مفهومهم بأن إلهًا خيِّرًا قد خلق الكون وهو مَن يدبِّر شئونه. بالرغم من ذلك، لم يتمكن معظمهم من إيجاد تفسير مناسب؛ إذ لم يخطر ببالهم قط أن الطبيعة غير ملزَمة بالأخلاق الإنسانية في المقام الأول. لقد ناقش الجيولوجي الرائد تشارلز لايل دبابير النمس في كتابه البارز «مبادئ الجيولوجيا» (۱۸۳٠–۱۸۳۳). وصحيحٌ أن الدبابير موضوع بعيد تمامًا عن الجيولوجيا، لكنه استنتج أن الدبابير الطفيلية مفيدة للطبيعة؛ إذ كانت اليساريع ستدمر كل شيء لولاها، خاصة الزراعة البشرية. وفي عام ۱۸۳٥، كتب عالم الحشرات القس ويليام كيربي أطروحة بريدجووتر السابعة. وكان هو أيضًا يرى أن اليساريع لا تستحق الإنقاذ، لكنه ركز على فضائل الحب الأمومي الذي تُظهِره الدبابير:

إن هدف الأنثى الأعظم هو إيجاد عش مناسب لبيضها. وهي تظل في حركة مستمرة بحثًا عن هذا العش. أيكون يسروع فراشة ما أو عثَّة هو الغذاء المناسب لصغارها؟ تراها تترجَّل لتحط على النباتات التي تقابلها في المعتاد، وتركض عليها بسرعة، وتفحص كل ورقة بعناية، وبعد أن تكون قد عثرت على الكائن التعيس الحظ، تولج إبرتها اللادغة في لحمه، واضعةً بيضة هناك … إنَّ النمسيات النشطة تتحدى كل خطر، وهي لا تكفُّ حتى تؤمِّن بشجاعتها وبراعتها ما يكفي من الموارد لذرِّيتها المستقبلية.

وقد تعاطف كيربي أيضًا مع الدبابير الأم التي لا تتمكن أبدًا من رؤية أطفالها أحياء:

إن نسبة كبيرة منها محكوم عليها بالموت قبل أن يولد صغارها. غير أنَّ شغفها لا يخمد … عندما ترى الرعاية المفرطة التي تقدمها الدبابير، من أجل أمن ذريتها المستقبلية وإعالتها، لا يمكنك إنكار حبها لأبناء ليس مقدَّرًا لها أن تراهم أبدًا.

ورأى كيربي في اليرقات نموذجًا للكفاءة والاستخدام الحكيم للموارد؛ إذ تأكل فرائسها بشكلٍ انتقائيٍّ حتى تظل طازجة:

في هذه العملية التي تبدو غريبة وقاسية، ثمة حالة جديرة حقًّا بالملاحظة. إن يرقة النمسيات، على الرغم من أنها تلتهم الأعضاء الداخلية لليسروع كل يوم، وربما يستمر ذلك لعدة أشهر، وعلى الرغم من أنها تكون قد الْتهمت جميع أجزائه تقريبًا في النهاية، باستثناء الجلد والأمعاء، فإنها تتجنب إلحاق الضرر بالأعضاء الحيوية، وكأنها تُدرك أن وجودها يعتمد على وجود الحشرة التي تفترسها! … فأيُّ انطباعٍ قد يتركه لدينا مثال مماثل بين جنس من ذوات الأربع؟ إذا وجدنا، على سبيل المثال، حيوانًا … يتغذَّى على الأعضاء الداخلية لكلب، لكنه لا يلتهم سوى تلك الأجزاء غير الضرورية للحياة، بينما يحرص على ترك القلب والشرايين والرئتين والأمعاء سليمة دون إصابتها بأذًى؛ ألا يجب أن نعتبر ذلك آيةً مثالية بصفتها مثالًا على الصبر الغريزي الذي يكاد يكون إعجازيًّا؟

ربما نجد في هذه الفقرات التي تعود إلى أوائل القرن التاسع عشر غرابة صادمة، وليس ذلك بسبب ما تنطوي عليه من افتراضات دينية بشأن الإله الخيِّر، بل بسبب نبرتها أيضًا التي تتَّسم بالمبالغة في إضفاء الصفات البشرية، وفي مركزية الإنسان. فالأمر لا يقتصر على استخدام لغة الأفكار والمشاعر البشرية لوصف الحشرات التي تحرِّكها غريزة محضة، بل ثمة افتراض أيضًا بأن كل شيءٍ في الطبيعة قد وُجد لصالح الإنسان بطريقةٍ أو بأخرى. والحق أنَّ الجهاز التناسلي لدبابير النمس موجودٌ على الأرجح منذ ملايين السنين، ربما منذ العصر البرمي (منذ أكثر من ٢٥٠ مليون سنة) عندما تطورت الدبابير لأول مرة، وذلك قبل ظهور البشر بملايين السنين بالطبع. تُظهِر الأبحاث الحديثة عن شجرة عائلة الغشائيات الأجنحةِ (الدبابير والنحل والنمل) أن سلف الغشائيات الأجنحة كان كائنًا يشبه الدبور، وأن التطفل الداخلي هو سمة عامة للرُّتبة بأكملها. فمعظم مجموعات الدبابير التي تعيش اليوم أيضًا لها يرقات طفيلية. وبعض من أحفادها فقط، بما في ذلك الدبابير الزُّنبورية الأكثر شهرة، بالإضافة إلى النمل والنحل والنمل الأبيض؛ هي التي فقدت هذا الأسلوب في التكاثر.

والأهم من ذلك، أنَّ هذه الفقرات توضح المغالطة في استقراء معنًى أخلاقي من الطبيعة. الطبيعة هي ما هي عليه، وليست أمجادها وأهوالها بمرشد لقراراتنا الأخلاقية بأي شكل من الأشكال. لقد كان ذلك مصدر إزعاج لداروين نفسه، مثلما يتضح من رسالة كتبها إلى آسا جراي عام ۱۸٦٠:

أعترف أنني لا أستطيع أن أرى، كما يرى الآخرون، وكما كنت أتمنى أن أرى أنا أيضًا؛ دليلًا على وجود التصميم والإحسان في جميع جوانب الحياة. إنما يبدو لي أن العالم مليء بقدر كبير من الشقاء. لا أستطيع أن أقنع نفسي بأن ربًّا خيِّرًا كليَّ القدرة كان سيتعمد تصميم دبابير النمس بأن يجعلها تتغذى على أجساد اليساريع الحية من الداخل، أو يَجبُل القط على اللعب بالفئران.

الطبيعة ليست جيدة ولا سيئة، بل هي ما نجده فحسب. لا يمكننا أن نتعلم دروسًا أخلاقية من عالم غير أخلاقي، ولا ينبغي لنا أن نفرض أخلاقياتنا عليه. إن محاولة تأطير معنى الطبيعة «بمصطلحاتنا» محاولةٌ في غير محلها؛ لأن الطبيعة لم تُصنَع لنا. فما يحكم الطبيعةَ ويسيِّرها قوانينُ موضوعية للفيزياء والكيمياء والأحياء، بما في ذلك الانتخاب الطبيعي. وهذه القوانين لا تهتم بالألم أو القسوة أو الفرح أو الجمال، بل هي موجَّهة نحو الكائنات الحية التي تترك أحفادها بنجاح في الجيل القادم.

في كتابه «التطور: التوليفة الحديثة»، الصادر عام ۱۹٤۳، وصف عالم الأحياء جوليان هكسلي، حفيد أقوى مؤيدي داروين، توماس هنري هكسلي، هذه المسألة على النحو التالي:

على الرغم من أن الانتخاب الطبيعي يشبه في الواقع طواحين الرب وهي تطحن ببطء لتنتج فُتاتًا صغيرًا، فليس للانتخاب الطبيعي سوى القليل من الصفات الأخرى التي يمكن أن يصفها دين متحضر بأنها إلهية … فقد تكون منتَجات الانتخاب الطبيعي مقزِّزة لنا جماليًّا أو أخلاقيًّا أو فكريًّا بقدر ما قد تكون جذابة. وسوف تدرك ذلك إذا تذكرت قبح الساكولينا أو دودة المثانة، أو بلاهة وحيد القرن أو الستيجوصور، أو هول أنثى السرعوف وهي تلتهم زوجها، أو فقس بيض دبابير النمس وهو يتغذى ببطء على يسروع. (٤۸٥)

ومثلما كتب ستيفن جاي جولد عام ١٩٨٢ في كتاب «طبيعة لا أخلاقية»:

إن العالَم الطبيعي لم يُصنَع لنا ولا نحن من نحكمه. ذلك هو ما يحدث فحسب. إنها استراتيجية ناجحة لدبابير النمس، وقد حفرها الانتخاب الطبيعي في ذخيرتها السلوكية. واليساريع لا تعاني لتعلِّمنا شيئًا، كل ما في الأمر أنها هُزِمت في الوقت الحالي في اللعبة التطورية. ربما ستُطوِّر دفاعًا مناسبًا في وقت ما في المستقبل لتقضي بذلك على دبابير النمس. وربما لا تفعل ذلك، وهو الأرجح. (٢۱)

قراءات إضافية

  • Branstetter, Michael G., Bryan N. Danforth, James P. Pitts, Brant C. Faircloth, Philip S. Ward, Matthew L. Buffington, Michael W. Gates, Robert R. Kula, and Seán G. Brady, “Phylogenomic Insights into the Evolution of Stinging Wasps and the Origins of Ants and Bees,” Current Biology 27, no. 7 (2017): 1019–1025.
  • Fabre, Jean-Henri, The Hunting Wasps, London: Hodder and Stoughton, 1916.
  • Gould, Stephen Jay, “Nonmoral Nature,” Natural History 91 (1982): 19–26.
  • Kirby, William, On the Power Wisdom and Goodness of God As Manifested in the Creation of Animals and in their History, Habits and Instincts, London: W. Pickering, 1835.
  • Peters, Ralph S., Lars Krogmann, Christoph Mayer, Alexander Donath, Simon Gunkel, Karen Meusemann, Alexey Kozlov, Lars Podsiadlowski, Malte Petersen, Robert Lanfear, Patricia A. Diez, John Heraty, Karl M. Kjer, Seraina Klopfstein, Rudolf Meier, Carlo Polidori, Thomas Schmitt, Shanlin Liu, Xin Zhou, Torsten Wappler, Jes Rust, Bernhard Misof, and Oliver Niehuis, “Evolutionary History of the Hymenoptera,” Current Biology 27, no. 7 (2017): 1013–1018.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤