تمهيد

نحن نَعيش في خِضمِّ قصةٍ كبرى غير مُكتملة؛ حكاية ظهور البشر كنوعٍ يُهيمن على الكوكب ولكنه مُقيَّد داخله، وإمكانية تحوُّلنا إلى نوعٍ يرتحل في الفضاء مُستوطنًا عدة كواكب.

إننا نعرف كيف بدأت القصة؛ حين ترَكنا السكن فوق أعالي الأشجار، وانتشَرنا عبر القارات، وطوَّرنا اللغة والزراعة والثقافة المكتوبة، والعلم في نهاية المطاف.

ونحن نعرف كذلك أين وصَلَت القصة اليوم. في القرن الحالي، سنكون مشغولِين بمواجهة التحدِّيات الوجودية المُتعدِّدة التي أوجدناها لأنفسنا. ولكن إذا استطعنا أن نُتقِن قوى السياسة على نطاقٍ عالَمي والتكنولوجيا على نطاقٍ صناعي، وإذا استطعنا تحمُّل مسئوليتنا بإدارة مناخ الأرض وأنظمتها البيئية، وإذا استطعنا تنظيم استكشافنا للكواكب الأخرى — وهي جميعًا افتراضات كبرى تَكتنفُها الشكوك بكل تأكيد — فحينها لن يُوجَد شيءٌ آخر يَمنعنا من التوسُّع خارج الكوكب في أنحاء المجرة.

أما ما لا نعرفه فهو الاتجاه الذي ستَسير فيه القصة بعد ذلك. يُوجَد احتمالان لا ثالثَ لهما. إما أننا سنبقى وحدَنا في جهودنا الاستكشافية، أو سنجد أن هناك من يُشاركنا فيها.

من الوارد أن نكون أول الكائنات الذكية في المجرَّة على الإطلاق التي تُفكر في مغادرة كوكبها الأصلي. وفي هذه الحالة، سنَعلم أن بقية مجرَّة درب التبانة هي موطن للميكروبات وبعض الكائنات الأخرى. في كلِّ مكانٍ نَذهب إليه، سنجد مساحاتٍ خاويةً وغير مأهولة، في انتظار استعمارنا لها، بأنفسنا أو عن طريق آلات الذكاء الاصطناعي التي ابتكرناها.

أو ربما سنُصادِف أشخاصًا آخرين أثناء رحلتنا، كما كان يَحدُث دائمًا في الماضي. ربما تُوجَد مجموعة مُتحدة كاملة وناشطة من الكواكب المُمتدة عبر المجرَّة في انتظار استقبالنا، أو ربما عدد قليل من الحضارات المُبعثَرة ولكن يُمكننا مُخالطتها بأُلفة ومودَّة.

وفي حالِ تمكَّنَّا مِن التواصُل مع ثقافاتٍ أخرى، فالأرجح أنها ستكون أقدمَ من ثقافتنا بكثير، ومن المُحتمَل أن يُؤدي التواصُل معها إلى تعرُّضنا لتحوُّلات من الصعب تصوُّرها الآن. يعتقد عالم الفلك بول ديفيز، الذي يترأَّس مجموعة المهام ما بعد الاستكشافية للبحث عن ذكاء خارج الأرض، أن التواصُل مع الكائنات غير الأرضية سيكون له «تأثير على الإنسانية أكبر من اكتشافات كوبرنيكوس، وداروين، وأينشتاين مجتمِعين.»1

لكنَّ التشويق في هذا الأمر قد يستمرُّ طويلًا. فإذا لم نكن أول مُستكشفي المجرة، فقد نعرف ذلك غدًا أو بعد مائة عامٍ أو ألف عام. وإذا بدَت المجرة خاويةً، فسنُضطرُّ إلى أن نعيش في وحدتنا إلى الأبد، دون أن نَعرف ما إذا كنا الأوائل (أو الأواخر) أو ما إذا كانت هناك أنواع أخرى، ولكنها بعيدة إلى درجةٍ لا يُمكننا معها اكتشافها.

ما يُثير اهتمامي هو أننا نَضِجنا كنوعٍ بما يكفي لنعرف كيف «نطرح» السؤال «هل نحن وحدَنا في الكون؟» ولكنَّنا لم نَنضَج بما يكفي لنَعرف كيف نُجيب عنه.

سيكون من المعقول أن نَفترض، في الوقت الحالي، أننا وحدنا في الكون حقًّا. فلا يُوجد أي دليل مادي على أن كائناتٍ غريبةً قد زارت نظامَنا الشمسيَّ.2 إننا نُحاول رصد إشارات راديو ذات أصلٍ ذكي قادمة من خارج الكوكب منذ ٦٠ عامًا، ولم يَصلنا شيءٌ من كائنات كتلك. قد يكون الفضائيون مُختبئين، أو شديدي البُعد عنا، أو ربما يَتواصلُون بطرقٍ لا يُمكننا اكتشافها بعدُ، غير أن الافتراض الأحوَط الآن هو القول بعدم وجودها.

لكن يظلُّ هذا مجرَّد تخمين. فنحن لا نعرف كيف تنشأ الحياة أو عدد العوالم التي تَصلُح لها بالضبط. ولا نعرف الوتيرة التي تتطوَّر بها الكائنات البسيطة بالكامل لتصِل إلى مرحلة الوعي الأوَّلي وصناعة الأدوات. ولا نَعرف الطرق التي ربما تُحاول الثقافات الأخرى التواصُل معنا بها. لقد اخترنا حتى الآن البحث عن إشاراتِ تَواصُلِها في موجات الراديو والتردُّدات البصرية، لكن استخدام تلك الطُّرق على وجه الخصوص هو أيضًا مجرَّد تخمين. قد يكون بحثُنا محكومًا عليه بالفشل، أو ربما نكون قد بدأنا للتو.

إن مسألة وجود كائناتٍ خارج كوكب الأرض ليست مجرد أحدِ أكثر الألغاز إلحاحًا في تاريخ العلم؛ بل هي الفراغ الأكبر في مسار قِصَّتنا نحن النوع البشري. وعدم حسمها أمرٌ عجيب ومُحير.

ذلك ما يتناوله هذا الكتاب: السؤال نفسه، ولماذا يظلُّ بلا إجابة، وكيف يُحاول العلماء الإجابة عنه.

•••

لطالما كان هذا السؤال يُؤرِّق عقلي منذ بداية وعيي. لقد وُلدتُ في أواخر ستينيَّات القرن العشرين. نهلتُ من الأعمال الفنية الشعبية، مثل فيلم المخرج ستانلي كوبريك «٢٠٠١: ملحمة الفضاء» («٢٠٠١: إيه سبيس أوديسي») (١٩٦٨)، وفيلم المخرج ستيفن سبيلبرج «لقاءات قريبة بالنوع الثالث» («كلوز إينكونترز أوف ذا ثرد كايند») (١٩٧٧)، و«إي تي: الكائن غير الأرضي» («إي تي: ذا إكسترا تريستيريال») (١٩٨٢). صارت فكرة «احتمالية» وجود كائنات فضائية غريبة، وأنه ربما يكون من المُقدَّر لنا أن نَلتقي بها جزءًا من روح العصر منذ فترة طويلة.

وكما سنرى في الفصل الأول، فإنَّ الفِكرة تعود إلى الإغريق القدماء، وقد دخَلَت بقوةٍ في الثقافة الشعبية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بفضل علماء مثل عالِم الفلك المهووس بالمرِّيخ بيرسيفال لويل، وكُتَّاب الخيال العلمي مثل إتش جي ويلز.

لكن بالنسبة إليَّ، كان عمل الفلَكي المشهور، والمُحاور العِلمي، والشخصية التليفزيونية كارل ساجان هو ما أدخل الفكرة إلى بُؤرة تركيزي. كان ساجان جزءًا من مجموعة صغيرة من الباحثين الذين كانوا يعملون منذ أوائل الستينيات على جعل البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض، أو ما يُعرف اختصارًا ﺑ SETI، مجالًا علميًّا يَحظى بالتقدير. كتب ساجان بإسهاب عن الحياة خارج الأرض في كتابه «الرابط الكوني» (١٩٧٣)،3 ثم قاد إنتاج «تسجيل فوياجر إنترستيلار». أُرسِلَ التسجيل المُشفَّر بالصوت والصور إلى الفضاء السحيق في عام ١٩٧٧ على متن مسبارَي مركبتَي الفضاء «فوياجر ١» و«فوياجر ٢» كما لو كانت رسالةً طامحةً وُضِعت في زجاجة. لكن ربما كان أهمَّ ما في الأمر هو أنَّ ساجان قد أثار حماسة جِيلي بأكمله من مهووسي العلوم من النشء ببرنامجه التليفزيوني الشهير «الكون: رحلة شخصية» (١٩٨٠).

كانت الحلقة قبل الأخيرة من البرنامج بالكامل عن البحث عن ذكاء خارج الأرض، وقد كانت بعنوان «الموسوعة المجرِّية». وأوضحت أن مسألة الحياة خارج كوكب الأرض كانت مسألةً يمكن للعلماء، وليس فقط مُؤلِّفي الخيال العلمي، البحث فيها. وعندما التحقتُ بكلية هارفارد في خريف عام ١٩٨٥، لم أُشارك ساجان في حماسه لوجوب وجود كائنات خارج كوكب الأرض فحسب، بل أصبحتُ أتُوق أن أُصبح ساجانًا آخر بامتياز، فاخترتُ التخصُّص في علم الفلك، وعملتُ أثناء الدراسة في مركز هارفارد-سميثسون للفيزياء الفلَكية، حيث عملَ ساجان ذات يوم.

لك أن تتخيَّل سعادتي حينها عندما ظهر ساجان بنفسِه في الحرم الجامعي. كان هناك للمُشاركة في ندوة لتدشين فحص للحياة خارج الأرض عبر عددٍ هائل من القنوات، وهو أحد مشروعات البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض عبر تردُّدات الراديو يتزعَّمه عالِم الفيزياء بجامعة هارفارد بول هورويتز. حضرتُ الندوة وتواصلتُ مع الدكتور ساجان بعد ذلك لمُشاركته كلَّ ما عندي من حماسٍ شابٍّ من مُعجبِيه. وقد كان كريمًا ومُتعاونًا بالقَدر الذي كنتُ أتمنَّاه.

في الوقت نفسه، كنتُ أُحاول الكتابة في قسم الأخبار لصحيفة الحرم الجامعي الأسبوعية، «هارفارد إندبندنت». وبفضل النَّدوة، كان لديَّ مقالة للنشر. ظهرت المقالة التي تناوَلَت مشروع «هورويتز»، الذي لم يكن ليُدشَّن لولا هدية بقيمة ١٠٠ ألف دولار، والتي لم تكن لتأتي سوى من ستيفن سبيلبرج (قال سبيلبرج في الندوة:4 «اعتقدتُ أن الوقت قد حان للمشاركة في القليل من الواقع العِلمي»)، منشورة في الأسبوع التالي. كانت أولَ مقالة أنشُرُها على الإطلاق، وقد جعلتُ لي شغفًا بالكتابة عن العلم والتكنولوجيا لم يتوقَّف قط.

وفي غضون عامَين، تغلَّب اهتمامي بالصحافة وتاريخ العلم على اهتمامي بالفلك. واصلتُ دراستي للحصول على درجة الدكتوراه من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في التاريخ والدراسة الاجتماعية للعلوم والتكنولوجيا، وقضيتُ سنوات رشدي في العمل صحفيًّا تكنولوجيًّا في الصحف المطبوعة، والإنترنت، ووسائل الإعلام الصوتية.

لكنَّني شعرتُ لفترة طويلة أنني مَدين بمسيرتي المهنية، نوعًا ما، لكلٍّ من سبيلبرج وهورويتز وساجان، ومجال البحث عن ذكاء خارج الأرض. الطريف في الأمر هو أنَّني بعد تلك المقالة الأولى لصحيفة «هارفارد إندبندنت»، لم أَعُد قطُّ إلى الكتابة عن الموضوع، حتى دعَتْني مؤسسة «إم آي تي بريس» للمُساهمة بهذا الكتاب.

قدَّم لي هذا المشروع إذن أملًا لإكمال دورة حياةٍ مُهمَّة وفُرصة يُحتفَى بها لأنغمس، بعد أكثر من ٣٠ عامًا من نَدوة هارفارد، في التفكير التاريخي والحالي في مسألة البحث عن حياةٍ خارج كوكب الأرض وحضارات الفضائيِّين.

وقبل أن أبدأ في مُشاركة ما تعلَّمتُه، أودُّ أن أشكر سوزان باكلي، مُحرِّرتي في مؤسسة «إم آي تي بريس»، وفي كتابي السابق لمُقتطَفات من الخيال العلمي الصعب «اثنا عشر غدًا» (٢٠١٨). لقد تقدَّمتْ باقتراح هذا الكتاب، وكانت مُستشارةً مُبدعةً وصبورة.

وفي خريف ٢٠١٨، بينما كنتُ أُجري بحثي لتأليف هذا الكتاب، تشرَّفت أيضًا بالمشاركة في إلقاء ندوةٍ حول البحث عن ذكاء خارج الأرض لمجموعة الدراسة التجريبية التابعة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وقد جعلَت صديقتي والمُعلِّمة المشارِكة لي، عالمة الفيزياء الفلَكية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا باولا ريبوسكو، هذه التجربة مُمتعة، وألهمَتْني بأفكارها الإبداعية في التدريس. أولَتْني باولا أيضًا وقتَها لمراجعة مخطوطة هذا الكتاب. في السنوات الأولى لندوة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، طرح كلٌّ من أناليزا بروسكي، وجوليانا دروزد، وراكيل جارسيا، وسارة لينكولن، وجوشوا رودريجيز، وإيلينا روماشكوفا، وتاليا سبيتز أسئلةً صعبةً ساعدَتْني أيضًا في شحذِ جميع الأفكار الواردة في هذا الكتاب. أتقدَّم بالشكر العميق لباولا وجميع الطلاب. كما أنَّني مُمتنٌّ لضُيوفنا المتحدِّثين، خاصة بول هورويتز، الذي تذكَّر مقالتي وقضَى ساعتَين سخيَّتَين في مناقشة الآفاق الحديثة للبحث عن ذكاءٍ خارج الأرض مع طلابنا.

إضافةً إلى ذلك، أودُّ أن أشكُر مُديرة مجموعة الدراسة التجريبية، لي رودين، والمدير المساعد جراهام رامزي لتقبُّلهما لفكرة الندوة في المقام الأول. كذلك أتاحت «لي» لي التعيين كشريك بحثٍ في قسم علوم الأرض والغلاف الجوي والكواكب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الأمر الذي جاءت معه فائدة جوهرية، وهي إمكانية استخدام مكتبة المعهد.

أشكر أيضًا مارك بيلوفسكي على قراءته للمخطوطة وأصدقائي وزملائي في مجموعة «هاب آند سبوك» الصوتية على دَعمِهم وتشجيعهم.

في أكتوبر ٢٠١٨، أخذت أنا وباولا طلابنا في ندوة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى معهد رادكليف بجامعة هارفارد لحُضور ندوة «غير المُكتَشَف»، وهي ندوة استغرَقَت يومًا واحدًا نظَّمتها صديقتي عالمة الفلك بجامعة هارفارد أليسا جودمان. اختُتِم الحدث بحديثٍ لعالمة الفلَك جيل تارتر، الشريكة المؤسِّسة المُتقاعِدة لمعهد البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض في كاليفورنيا. الدكتورة تارتر هي واحدة من الروَّاد الذائعي الصيت في مجال البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض، وكانت المرجع لشخصية إيلي أرواي في رواية «اتصال» (١٩٨٥)5 لكارل ساجان. (جسَّدت جودي فوستر دورها في الفيلم المُستوحى من الرواية عام ١٩٩٧، وهو العام التالي لوفاة ساجان.) سحَرَنا حديث الدكتورة تارتر، وفي إعادةٍ رائعة لتجربتي في أكتوبر ١٩٨٥، تمكَّنتُ من التحدُّث إليها بعد ذلك وإخبارها عن هذا الكتاب. وقد كانت كريمةً ومُتعاونة بقدْر ما كنتُ أتمنَّى.

لذا فإن هذا الكتاب مُهدًى لجيل تارتر، وبول هورويتز، وكارل ساجان، وأمثالهم من العلماء من أصحاب الكرم والتفرُّد والرؤية الذين علَّمونا كيف نبحَث عن حياةٍ خارج كوكب الأرض، وكيف يربطنا البحث نفسه بالكون.

كامبريدج، ماساتشوستس
صيف ٢٠١٩

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤