مقدمة

دعونا نبدأ بقصة تخيُّلية قصيرة. تخيَّل أننا في عام ١٤٩١. المكان هو بقعة ما جنوب بحيرة أونتاريو، فيما يُعرف الآن بشمال ولاية نيويورك. عقد عشرات الساتشيم، زعماء القبائل، من اتحادٍ كبير لقبائل سكان أمريكا الأصليِّين، المعروف باسم الهودينوشوني، اجتماعًا للمجلس الكبير، وكان ثمة بند مُذهل على جدول أعمالهم.

لقد علموا من الشامانات (الكُهان) أن هناك ساريةً احتفالية ذات طولٍ قياسي تُلقي بظلال منتصف النهار التي تَختلِف في الطول اعتمادًا على ما إذا كانت تُقاس في قرية على الحافة الشمالية البعيدة من أراضي الاتحاد أو في قرية على الحافة الجنوبية البعيدة.

في كِلا الموقعَين، تُشير السارية باتجاهٍ مُستقيم إلى الأعلى، عموديًّا على الأرض. لا يمكن لهذا الفرق أن ينشأ، بحسب تفسير الشامانات، إلا إذا كان «الأعلى» مختلفًا قليلًا في كلِّ موقعٍ من الموقعَين على خطٍّ مُمتدٍّ من الشمال إلى الجنوب، ما يعني أن الساريتَين، في واقع الأمر، مُوجَّهتَين بزاويتَين مختلفتَين قليلًا إلى أشعة الشمس. وكانت النتيجة الحتمية هي أنَّ العالَم مُنحنٍ؛ أي عبارة عن كرة كبيرة جدًّا. (استخدم عالم الرياضيات الإغريقي إراتوستينس المنطق نفسه لحساب محيط الأرض في القرن الثالث قبل الميلاد.)1

تلك الكرة كبيرة جدًّا لدرجة تجعلها ممتدَّة حتمًا إلى ما بعد الأراضي المعروفة لدى الأمم الخمس وجيرانها بكثير. في الواقع، لاحظ بعض الشامانات، أن الكرة كبيرة بما يكفي لوجود أراضٍ جديدة تمامًا في أماكن أخرى عليها، تسكنها قبائل غير معروفة؛ قبائل قد تَرغب في التجارة مع الهودينوشوني أو محاربتهم.

يبدو الاستنتاج غير معقول للساتشيم المُتجمِّعين. لكن بعضهم قال إنه في حالة صحة هذا الاستنتاج، فقد يَجدُر بهم الاستعداد لوصول هؤلاء الأشخاص المُفترَضين من أراضٍ أخرى.

عارض ذلك آخرون. زعموا أنه إذا كانت هناك أراضٍ أخرى حقًّا، لكان سُكانها قد أتَوا بالفعل عبر المحيطات على متن القوارب لتقديم الهدايا أو للقتال. لكنهم لم يأتوا. وعليه فإن الهودينوشوني والقبائل المحيطة هم الشعوب الوحيدة في العالم بالتأكيد، ولا يُوجَد سبب للقلق.

هل ذكرت أن العام هو عام ١٤٩١؟2

أين الجميع؟

لنحكي الآن قصةً أخرى، وهي قصة أُعِيدَ سردُها كثيرًا بين علماء البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض حتى أصبحت تنتمي إلى عالَم الأساطير. إنه صيف عام ١٩٥٠. في لوس ألاموس، نيو مكسيكو — موقع صُنْعِ أول قُنبلة ذرية — يجتمع مجموعة من الفيزيائيين النوويين المرموقين، بمَن فيهم هانس بيثي، وإدوارد تيلر، وإميل كونوبينسكي، وإنريكو فيرمي، للعمل على سلاحٍ أكثر قوة بكثير؛ القنبلة الهيدروجينية.

يجتمع العلماء يوميًّا لتناول الغداء في فولر لودج، وهو المبنى الرئيسي لمدرسة البنين القَديمة التي اشتراها الجيش الأمريكي في عام ١٩٤٣ لإفساح مكانٍ لمُختبر القنابل. ينضمُّ ذات يوم هربرت يورك، وهو زائر من قسم الفيزياء في بيركلي، إلى طاولة في النزل حيث يَجري كونوبينسكي وتيلر وفيرمي محادثة.3

يَمتلك فيرمي عقلًا بارعًا ومرحًا، ويَستمتِع بطرح أسئلة شِبه بلاغية يُمكن الإجابة عنها من خلال التقدير التقريبي والعمليات الحسابية التقريبية السريعة. إنها عادةٌ بالنِّسبة إليه، حتى إن ألغازَه العقلية — مثل «كم عدد ضابطي البيانو في شيكاجو؟» — ستُعرَف فيما بعدُ باسم مسائل فيرمي أو أسئلة فيرمي. (الإجابة على لغز شيكاجو هي بضع مئات.)

في هذا اليوم تحديدًا، لم يكن الموضوع هو البيانو، وإنما الأطباق الطائرة. ابتداءً من عام ١٩٤٧‎‎ كانت هناك سلسلة مِن المُشاهَدات التي حظِيَت بتغطيةٍ إعلامية كبيرة لهذه الأجسام غير المُحددة الهوية. خلَّفت التغطية الصحفية الكثير من الضجة الهزلية لدرجة ألهمَت ظهور رسم كاريكاتوري في صحيفة «نيويوركر» لكائناتٍ غريبة عائدة إلى كوكبها الأصليِّ وهي تَحمل صناديق قمامة سرقتْها من إدارة النظافة في نيويورك. (كان الكاريكاتير حلًّا ساخرًا للُغزَين في آنٍ واحد؛ الأجسام الطائرة غير المحدَّدة الهوية (UFOs) والعدد المُتزايد لصناديق القمامة المفقودة في نيويورك.) وفي وقتٍ مُبكِّر من اليوم، لاحظ كونوبينسكي هذا الكاريكاتير وذكره لفيرمي، وهو ما بدأ المُحادثة.

بمُجرد جلوس يورك، اندفع فيرمي قائلًا: «ألا تتساءل مُطلقًا أين الجميع؟» يفهم جميع الجالِسين إلى الطاولة أن فيرمي يتحدَّث عن الكائنات غير الأرضية.

من السهل بمكانٍ على العلماء أن يَضحكُوا على الفِكرة الشائعة القائلة بأنَّ الأطباق الطائرة هي مركبات فضائية قادمة من أنظمةٍ نجمية أخرى، وتقودُها كائنات غريبة حقيقية. لكن هذا يطرح سؤالًا أكبر، وهو إذا لم تكن الأطباق الطائرة حقيقية ولم يُسافر أحدٌ عبر الفضاء بين النجوم لزيارتنا، فلِمَ لا؟

يُجري فيرمي بعض العمليات الحسابية السريعة لتقدير الكميات، مثل عمر مجرة درب التبانة وحجمها، وعدد النجوم والكواكب التي تحتويها، واحتمالات تطوُّر حياة ذكية على كل كوكب. يُظهِر حسابه أن مجرَّتنا لا بد أنها حافلة بالحضارات. ويَستنتِج فيرمي أنه إذا لم يكن أحد قد زارنا، فإن ذلك ربما ليس لأنه لا يُوجَد أحد؛ بل مِن المرجَّح لأنَّ الحد الأقصى للسرعة في الكون لأينشتاين — سرعة الضوء، ٣ × ١٠٨‎ متر/ثانية — يجعل السَّفر بين النجوم صعبًا أو مُستحيلًا.

يُومئ رفاق الغداء برءوسهم ويُوافقُون على أن السؤال عميق ومُهم. لكنَّهم لا يتمكنون من حلِّه في هذا اليوم. ويعودون بعد الغداء لتصميم قنبلتهم.

قوة المفارقة

المغزى من هاتين القصتين — واحدة خيالية والأخرى حقيقية — هو أننا لا نَعرف ما الذي لا نعرفه.

لآلاف السنين، كان سكان الأمريكتَين الأصليِّون آمنِين في عُزلتهم. كان من الطبيعي ألا يعبئوا بالخوف من الغُزاة الجَشِعين المُستعبِدين وحاملي الأمراض حتى لحظة وصل كولومبوس.

وحتى في يومِنا هذا، لا تُوجَد طريقة لدحض استنتاج فيرمي بأنَّنا آمِنون في عزلتنا على الأرض. ربما كان مُحقًّا في قوله إنَّ المسافات الشاسعة بين النجوم ستمنعُنا للأبد من مقابلة كائناتٍ تعيش خارج الأرض. لكن فيرمي كان يفكر في الاتصال «الجسدي» فقط. من شأن استنتاجه أن يُصبح محل نظر لو كنَّا قد اكتشفنا إشارةً كهرومغناطيسية من أصل ذكي خارج كوكب الأرض أو لاحَظْنا بعض العلامات الواضحة على هندسةٍ ما في مكانٍ آخَر من المجرَّة.

اختمر سؤال فيرمي «أين الجميع؟» على مرِّ السنين ليُصبح مُعضلة فكرية أكبر لدرجةِ أنَّ طلاب البحث عن ذكاء خارج الأرض أطلقُوا عليه مُفارقة فيرمي. المشكلة في الواقع ليست في سرعة الضوء أو فيما إذا كانت شدَّة الكسل أو القصر الشديد في العمر الذي تتميَّز به الكائنات الغريبة يحول بينها وبين زيارتنا. يمكن صياغة الأمر بهذه الطريقة: كل ما نَعرفه عن تكوُّن الكواكب وكيفية نشوء الحياة يُشير إلى حتمية أنَّ الحضارة البشرية على الأرض ليست فريدةً من نوعِها. وفي الواقع، إن مجرَّتنا من القِدم بمكانٍ لتُستعمَر بالكامل، ربما عدة مرات. ومن ثم كان ينبغي أن نرى أدلةً وفيرة على نشاطٍ لكائنات خارج كوكب الأرض. لكنَّنا لا نرى أي شيء، ولا حتى إشارات راديو، وبالتأكيد لا نرى مركباتٍ فضائية مهجورة أو آثارًا لحَضارات زائلة. لا يجب أن نكون وحدَنا، ولكن يبدو أننا كذلك. كيف يُمكن ذلك إذن؟

ظلَّ هذا السؤال محلَّ جدلٍ وتكهُّنات طيلة عقود، ومؤخَّرًا صار محلَّ بعض البحث العلمي الفِعلي. كتب ميلان سيركوفيتش في كتابه «الصمت العظيم» — وهو كتاب رائع جديد يُظهِر مدى عُمق المسألة في الواقع — يقول:4 «من الصعب تصوُّر مسألة علمية أكثر ثراءً وأغنى في المعنى والصِّلة ﺑ «الأسئلة الكُبرى» الأخرى للعِلم على مرِّ العصور.»
جزء مما يجعل المشكلة شديدة العُمق هو أنها بالفعل مُفارقة منهجية. يعود أصل الكلمة الإنجليزية للمُفارقة paradox إلى المُصطلح اليوناني paradoxon، والذي يعني «رأي مُتناقض». وتشير الكلمة في العادة إلى «اقتراح يَنطلِق من مُقدمات تبدو سليمةً إلى استنتاج لا معنى له أو غير منطقي».

يُمكن النظر إلى المُفارقات باعتبارها مُزعجات مفيدة. فهي تُلِحُّ لحلِّها. بيت القصيد في التعريف هو «مقدمات تبدو سليمة». عندما تنشأ مُفارقةٌ ما، فإن ثمة إشارة غالبًا إلى أن المُقدِّمات لا تبدو كما هو مُفترَض أو إلى وجود شيءٍ خاطئ في تسلسل التفكير المنطقي.

لا يجب أن نكون وحدَنا، ولكن يبدو أننا كذلك. كيف يمكن ذلك إذن؟

إذن ما الحقيقة الخفيَّة وراء مُفارَقة فيرمي؟ أيُّ افتراضٍ خاطئ يجب إزالته لحلِّها؟ ما الذي يغيب عنا؟

أحد الاحتمالات هو أن الحياة، وخاصة الحياة الذكية، أقل شيوعًا مما توصَّلَت إليه حسابات فيرمي الأصلية. تلك هي الفِكرة التي يُفضلها بيتر وارد ودونالد براونلي مؤلِّفا كتاب «الأرض النادرة: لماذا يندر وجود الحياة المعقَّدة في الكون».5 أقرَّ المؤلِّفان أننا قد نجد حياةً ميكروبية على العديد من الكواكب. ولكنهما ارتأيا أنه لا يُمكننا العثور على حياةٍ متقدمة مُتعددة الخلايا سوى في حالة وجود كوكب يتمتَّع بمزيجٍ غير عادي من المزايا، مثل وجود كوكبٍ قريب منه بحَجم كوكب المُشتري (لتخليص المساحة المُحيطة من المُخلَّفات الفضائية)، وقمر كبير، وصفائح تكتونية، ومجال مغناطيسي.

وثمَّة احتمال آخر، وهو أن ثمَّة كائنات ذكية بالفعل تعيش خارج كوكب الأرض، ولكنَّنا لم نَلتقِ بها بعدُ. هذه هي الإجابة التي قدَّمها كارل ساجان في كلٍّ من رواية وفيلم «اتصال» («كونتاكت»). في معالجة ساجان الخيالية، تصل إشارات تليفزيونية من جهاز كشفٍ غريب بالقُرب من نجم النَّسر الوَاقِع الذي يبعد ٢٥ سنة ضوئية. يحفز هذا استجابة مشفَّرة ومعقَّدة تشتمِل على مخططات لنوعٍ من بوابات النجوم؛ ويأتي مُعظم التشويق في النسخة السينمائية من ترقُّب مَن الذي سيعبُر من خلالها. ترقى القصة إلى مستوى الجدلية في مسألة أنَّنا لسنا وحدَنا وأنه ربما ثمة علامات على وجود حياةٍ ذكية خارج نطاق إحاطتنا. وعلينا أن نستمرَّ في البحث عنها لأنه إذا نجحنا في العثور عليها، فإن ما سنكتشِفُه من شأنه أن يُغيِّر كل شيء.

هذا هو الحل لمُفارقة فيرمي الذي ما زال مُعظَم مُناصِري البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض يؤمنون به حتى اليوم. غير أن هناك العديد والعديد من الردود المُحتمَلة الأخرى. في الواقع، من أحد الكتب العظيمة الفائدة في هذا المجال كتاب بعنوان «إذا كان الكون حافلًا بالكائنات غير الأرضية … فأين الجميع؟ ٧٥ حلًّا لمُفارقة فيرمي ومسألة الحياة خارج كوكب الأرض.»6

وهذا الكتاب يهدف لأن يكون مقدمةً عامة للنقاش حول فكرة وجود كائنات ذكية خارج كوكب الأرض، وسنَتناول في الصفحات القادمة العديد من الأفكار حول كيفية حلِّ مفارقة فيرمي في نهاية المطاف. في الفصل الرابع، أُلخِّص الحلول المُحتمَلة في فئاتٍ عامة — أعدُكم أنها ستكون أقل من ٧٥ — وأستعرض الحجج المؤيدة والمعارِضة لكلٍّ منها. يَعتقِد وارد وبراونلي أنه «يبدو» أننا وحدنا لأننا وحدَنا بالفعل. بينما يشعر آخرون، بمَن فيهم أنا، أنه من السابق لأوانه كثيرًا أن نَخلُص إلى هذا الاستنتاج. ففي هذه المرحلة، ما زلنا نُصنِّف ما أسماه وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفيلد — في سياق مختلف للغاية — ﺑ «المعروفات المعروفة»، و«المجهولات المعروفة»، و«المجهولات المجهولة».

مجال علم الأحياء الفلَكية بأكمله، على سبيل المثال، مُكرَّس لمعرفة الكيفية التي ربما تنشأ بها الحياة في بيئاتٍ غير أرضية مُشابهة. عندما نشأ هذا التخصُّص قبل عدة عقود، لم يكن لدى العلماء سوى فكرة ضئيلة عن نطاق البيئات التي قد تزدهِر فيها الحياة، حتى هنا على الأرض، ناهيك عن أي مكانٍ آخر في نظامنا الشمسي أو في أيِّ مكانٍ آخر في المجرَّة. ولكن على مدار الأربعين عامًا الماضية، شهد المجال تقدمًا جوهريًّا. فمن ناحية، اكتشفنا أنواعًا عديدة من كائنات «مُحبة للظروف القاسية» تزدهر حول فتحات حرارية تحت سطح البحر وفي أماكن أخرى قاسية لم يكُن أحد ليتصوَّر أن يجد حياةً فيها حتى اللحظة التي عثرنا فيها على تلك الكائنات. علاوةً على ذلك، يواصل علماء الفلك إضافاتهم إلى فهرس الكواكب خارج المجموعة الشمسية، أو الكواكب الخارجية. حتى وقت كتابة هذه السطور، اكتُشف ٤٠٢٥ كوكبًا منها.7 وحتى الآن لا يتماثَل أيٌّ منها مع الأرض، ولكن يبدو أن الكثير منها يدور داخل المناطق الصالحة للعيش في أنظمتها النجمية.

بيت القصيد هو أننا كلَّما اكتشفنا المزيد من الكائنات المُحبة للظروف القاسية والكواكب الخارجية، زادَت المساحة المتاحة لاكتشافات علماء الفلك وعلماء الأحياء الفلَكية وزادت المجهولات المجهولة التي تتحوَّل إلى مجهولات معروفة. وبالعمل الجاد، والتمويل، وقليل من الحظ، قد نتمكَّن من تحويل بعضٍ منها إلى معروفات معروفة. تَغمُرني مُتابعة هذه العملية بالدهشة والأمل.

تنظيم جهلنا

على الرغم من هذه الاكتشافات، يظلُّ البحث عن ذكاء خارج الأرض جانبًا غير مُعتاد من جوانب العلم، فهو جانب فجَواتُه أكثر خواءً من المعتاد. المعلومة الثابتة الوحيدة التي لدَينا هي أنَّ الصمت يسُود الفضاء، حتى الآن. في عام ١٩٧٥، أطلَقَ عالم الفلَك مايكل هارت على هذا الصمت في مقالٍ مُشكِّك شهير حول البحث عن ذكاء خارج الأرض اسم «الحقيقة أ».8 وتلك هي الملاحظة التي تؤدِّي إلى مُفارقة فيرمي، وأي حُجة جادة تؤيد البحث عن ذكاء خارج الأرض لا بد أن تُواجِه هذه الملاحظة.
ولإعادة صياغة المفارقة: نحن لا نرى كائنات غير أرضية، ولكنَّنا «يجب أن نراها» بناءً على بضع افتراضات تبدو معقُولة. ما هي تلك الافتراضات؟ في الصفحات القادمة، سنأتي على ذكر معادلة دريك، التي اقترحها أول مرة عالم الفلك الراديوي فرانك دريك في عام ١٩٦٠ كطريقة لتقدير ، أي عدد الحضارات المُتطوِّرة تكنولوجيًّا والقادِرة على التواصُل التي لا بد أنها موجودة في مجرَّة درب التبانة. تُساعد المعادَلة على قياس كمية المُدخَلات التي تُؤدي إلى مفارقة فيرمي، وقد استخدم فيرمي في الواقع النهج نفسه في حساباته التقريبية أثناء تناوُل الغداء في لوس ألاموس. في الشَّكل الكلاسيكي لمعادلة دريك، هو ناتج سبعة عوامل، مثل عدد النجوم في المجرَّة، والكسر المُتمثل في النجوم التي تدور حولها كواكب، واحتمالية أن تتطوَّر حياة بسيطة على أحد الكواكب إلى حياة ذكية. وكما سنرى في الفُصول القادمة، فقد علمنا الكثير عن العوامل الأربعة الأولى في المعادلة، لكنَّنا ما زلنا نجهل الكثير عن العوامل الثلاثة الأخيرة. يُمكن أن تكون قيمة المتغيِّر هي العدد واحد بالضبط (بالتأكيد لا يُمكنها أن تكون أقل من ذلك لأننا موجودون)، أو يُمكن أن تكون أكبر بكثير. ليس لدينا أدنى فكرة.
إن معادلة دريك ليست معادلة علمية تقليدية، بمعنى كونها صيغة تُعبر عن العلاقة بين الخصائص الفيزيائية، مثل . لكنها كانت مفيدة لدريك وأوائل نُظرائه في مجال البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض كخريطة طريق، أي طريقة للبدء في مناقشة المجهولات المعروفة. في الواقع، لقد وصفت رائدة البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض جيل تارتر المعادَلة بأنها «طريقة رائعة لتنظيم جهلنا».9

يواصل هذا الكتاب بتلك الرُّوح نفسها، في محاولة لتصنيف المعروفات المعروفة، والمجهولات المعروفة، والمجهولات المجهولة. اكتسب النقاش حول الكائنات غير الأرضية ومفارقة فيرمي سمةً تخمينية بعض الشيء بطبيعة الحال. لن أُخفي آرائي، وسأُحاول توضيحها عندما نتجاوَز حدَّ المنطق القائم على الدليل إلى التخمينات المُستنِدة إلى معلومات؛ لكني لن أترك ذلك يُبطِّئ من وتيرتنا.

يُشبه الحديث عن البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض نوعًا ما طهي حساءٍ من الحجر. نحن مُجبرون على البدء بعددٍ قليل للغاية من الأفكار. لكنَّنا إذا استعرنا قليلًا من مرَق الحساء من الفلاسفة الذين ناقشوا مدى معقولية وجود حياةٍ خارج كوكب الأرض، وبعض الجَزَر من علماء المُحيطات الذين يدرسون الكائنات المُحبة للظروف القاسية، وبعض التوابل من علماء الفلك الباحثين عن المزيد من الكواكب الخارجية، سيُمكننا على الأرجح أن نصنع شيئًا مُغذِّيًا فكريًّا.

ها هي قائمة المكوِّنات الخاصة بي. في الفصل الأول، سأستعرِض التاريخ الطويل المُثير للدهشة للتكهُّنات حول الكائنات غير الأرضية. عندما قال أرسطو إن الطبيعة تمقت الفراغ، لم يكن مُحقًّا؛ فمعظم الكون شِبه فارغ. ولكن يبدو أن البشر يَمقُتون بالفعل فكرة أننا ربما نكون وحدَنا، ولا نزال نُناقش الفكرة منذ آلاف السنين.

أدرك العلماء في النهاية أنه يُمكنهم الذهاب إلى أبعد من مجرد النقاش. يتناول الفصل الثاني نشأة البحث عن ذكاء خارج الأرض باعتباره تخصُّصًا جادًّا في ستينيَّات القرن العشرين. وسنعرف كيف تحوَّل العلماء إلى التقنيات الراديوية والبصرية لبدء البحث العملي عن إشاراتٍ من حَضارات خارج كوكب الأرض وكيف تطوَّر هذا البحث على مدار الستِّين عامًا الماضية.

ويدور الفصل الثالث حول الثورات في عِلم الأحياء الفلَكية والبحث عن الكواكب الخارجية منذ عام ١٩٧٧ وكذلك كيف غيَّر التقدُّم السريع بشكلٍ غير مُتوقَّع في هذَين المجالَين طريقة تفكير العلماء في إمكانية وجود حياة خارج كوكب الأرض.

وأعود في الفصل الرابع إلى مفارقة فيرمي بعد التزوُّد بكل هذه المعلومات الإضافية. لقد اقتُرِح العديد من الحلول المُثيرة للاهتمام لهذه المُفارقة، وما أفعلُه في هذا الفصل هو أنَّني أُراجعها وأُقيِّم معقوليتها.

وأخيرًا، في الفصل الخامس، أُركِّز على الحلول المفضَّلة لديَّ وألقي نظرةً على بعض الأفكار الجديدة لإعادة تركيز أعمال البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض من أجل زيادة فُرَص حلِّ المفارقة والعثور على كائناتٍ خارج كوكب الأرض.

وفي النهاية، آمُل أن تُوافِقوني الرأي في أن البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض هو أحد مجالات البحث الأكثر إثارة، والتي من المُحتمَل أن تُغير العالَم في زماننا الحالي، وأن تشعروا بالإلهام لمواصَلة استكشاف الموضوع بأنفسكم. يُمكنك فعل ذلك بمساعدة المصادر المذكورة في الملاحظات، ومسرد المصطلحات، وقائمة القراءات الإضافية في نهاية الكتاب.

بالمناسبة، سأفترض أنه لم تُكتشَف كائنات غير أرضية بعدُ في تلك اللحظة التي تقرءون فيها هذه الكلمات. ولكن إذا كان الأمر خلاف ذلك، فقد أصبح هذا الكتاب الآن قطعةً أثرية عديمةَ الفائدة ترجِع إلى عصر ما قبل الاتصال. لن يُسعِدَني شيءٌ أكثر من ذلك، لكنَّني لستُ متفائلًا إلى هذا الحد. لذلك تبقى المفارقة، وتظلُّ تطلُب الحل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤