مقدمة
دعونا نبدأ بقصة تخيُّلية قصيرة. تخيَّل أننا في عام ١٤٩١. المكان هو بقعة ما جنوب بحيرة أونتاريو، فيما يُعرف الآن بشمال ولاية نيويورك. عقد عشرات الساتشيم، زعماء القبائل، من اتحادٍ كبير لقبائل سكان أمريكا الأصليِّين، المعروف باسم الهودينوشوني، اجتماعًا للمجلس الكبير، وكان ثمة بند مُذهل على جدول أعمالهم.
لقد علموا من الشامانات (الكُهان) أن هناك ساريةً احتفالية ذات طولٍ قياسي تُلقي بظلال منتصف النهار التي تَختلِف في الطول اعتمادًا على ما إذا كانت تُقاس في قرية على الحافة الشمالية البعيدة من أراضي الاتحاد أو في قرية على الحافة الجنوبية البعيدة.
تلك الكرة كبيرة جدًّا لدرجة تجعلها ممتدَّة حتمًا إلى ما بعد الأراضي المعروفة لدى الأمم الخمس وجيرانها بكثير. في الواقع، لاحظ بعض الشامانات، أن الكرة كبيرة بما يكفي لوجود أراضٍ جديدة تمامًا في أماكن أخرى عليها، تسكنها قبائل غير معروفة؛ قبائل قد تَرغب في التجارة مع الهودينوشوني أو محاربتهم.
يبدو الاستنتاج غير معقول للساتشيم المُتجمِّعين. لكن بعضهم قال إنه في حالة صحة هذا الاستنتاج، فقد يَجدُر بهم الاستعداد لوصول هؤلاء الأشخاص المُفترَضين من أراضٍ أخرى.
عارض ذلك آخرون. زعموا أنه إذا كانت هناك أراضٍ أخرى حقًّا، لكان سُكانها قد أتَوا بالفعل عبر المحيطات على متن القوارب لتقديم الهدايا أو للقتال. لكنهم لم يأتوا. وعليه فإن الهودينوشوني والقبائل المحيطة هم الشعوب الوحيدة في العالم بالتأكيد، ولا يُوجَد سبب للقلق.
أين الجميع؟
لنحكي الآن قصةً أخرى، وهي قصة أُعِيدَ سردُها كثيرًا بين علماء البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض حتى أصبحت تنتمي إلى عالَم الأساطير. إنه صيف عام ١٩٥٠. في لوس ألاموس، نيو مكسيكو — موقع صُنْعِ أول قُنبلة ذرية — يجتمع مجموعة من الفيزيائيين النوويين المرموقين، بمَن فيهم هانس بيثي، وإدوارد تيلر، وإميل كونوبينسكي، وإنريكو فيرمي، للعمل على سلاحٍ أكثر قوة بكثير؛ القنبلة الهيدروجينية.
يَمتلك فيرمي عقلًا بارعًا ومرحًا، ويَستمتِع بطرح أسئلة شِبه بلاغية يُمكن الإجابة عنها من خلال التقدير التقريبي والعمليات الحسابية التقريبية السريعة. إنها عادةٌ بالنِّسبة إليه، حتى إن ألغازَه العقلية — مثل «كم عدد ضابطي البيانو في شيكاجو؟» — ستُعرَف فيما بعدُ باسم مسائل فيرمي أو أسئلة فيرمي. (الإجابة على لغز شيكاجو هي بضع مئات.)
بمُجرد جلوس يورك، اندفع فيرمي قائلًا: «ألا تتساءل مُطلقًا أين الجميع؟» يفهم جميع الجالِسين إلى الطاولة أن فيرمي يتحدَّث عن الكائنات غير الأرضية.
من السهل بمكانٍ على العلماء أن يَضحكُوا على الفِكرة الشائعة القائلة بأنَّ الأطباق الطائرة هي مركبات فضائية قادمة من أنظمةٍ نجمية أخرى، وتقودُها كائنات غريبة حقيقية. لكن هذا يطرح سؤالًا أكبر، وهو إذا لم تكن الأطباق الطائرة حقيقية ولم يُسافر أحدٌ عبر الفضاء بين النجوم لزيارتنا، فلِمَ لا؟
يُومئ رفاق الغداء برءوسهم ويُوافقُون على أن السؤال عميق ومُهم. لكنَّهم لا يتمكنون من حلِّه في هذا اليوم. ويعودون بعد الغداء لتصميم قنبلتهم.
قوة المفارقة
المغزى من هاتين القصتين — واحدة خيالية والأخرى حقيقية — هو أننا لا نَعرف ما الذي لا نعرفه.
لآلاف السنين، كان سكان الأمريكتَين الأصليِّون آمنِين في عُزلتهم. كان من الطبيعي ألا يعبئوا بالخوف من الغُزاة الجَشِعين المُستعبِدين وحاملي الأمراض حتى لحظة وصل كولومبوس.
وحتى في يومِنا هذا، لا تُوجَد طريقة لدحض استنتاج فيرمي بأنَّنا آمِنون في عزلتنا على الأرض. ربما كان مُحقًّا في قوله إنَّ المسافات الشاسعة بين النجوم ستمنعُنا للأبد من مقابلة كائناتٍ تعيش خارج الأرض. لكن فيرمي كان يفكر في الاتصال «الجسدي» فقط. من شأن استنتاجه أن يُصبح محل نظر لو كنَّا قد اكتشفنا إشارةً كهرومغناطيسية من أصل ذكي خارج كوكب الأرض أو لاحَظْنا بعض العلامات الواضحة على هندسةٍ ما في مكانٍ آخَر من المجرَّة.
اختمر سؤال فيرمي «أين الجميع؟» على مرِّ السنين ليُصبح مُعضلة فكرية أكبر لدرجةِ أنَّ طلاب البحث عن ذكاء خارج الأرض أطلقُوا عليه مُفارقة فيرمي. المشكلة في الواقع ليست في سرعة الضوء أو فيما إذا كانت شدَّة الكسل أو القصر الشديد في العمر الذي تتميَّز به الكائنات الغريبة يحول بينها وبين زيارتنا. يمكن صياغة الأمر بهذه الطريقة: كل ما نَعرفه عن تكوُّن الكواكب وكيفية نشوء الحياة يُشير إلى حتمية أنَّ الحضارة البشرية على الأرض ليست فريدةً من نوعِها. وفي الواقع، إن مجرَّتنا من القِدم بمكانٍ لتُستعمَر بالكامل، ربما عدة مرات. ومن ثم كان ينبغي أن نرى أدلةً وفيرة على نشاطٍ لكائنات خارج كوكب الأرض. لكنَّنا لا نرى أي شيء، ولا حتى إشارات راديو، وبالتأكيد لا نرى مركباتٍ فضائية مهجورة أو آثارًا لحَضارات زائلة. لا يجب أن نكون وحدَنا، ولكن يبدو أننا كذلك. كيف يُمكن ذلك إذن؟
يُمكن النظر إلى المُفارقات باعتبارها مُزعجات مفيدة. فهي تُلِحُّ لحلِّها. بيت القصيد في التعريف هو «مقدمات تبدو سليمة». عندما تنشأ مُفارقةٌ ما، فإن ثمة إشارة غالبًا إلى أن المُقدِّمات لا تبدو كما هو مُفترَض أو إلى وجود شيءٍ خاطئ في تسلسل التفكير المنطقي.
لا يجب أن نكون وحدَنا، ولكن يبدو أننا كذلك. كيف يمكن ذلك إذن؟
إذن ما الحقيقة الخفيَّة وراء مُفارَقة فيرمي؟ أيُّ افتراضٍ خاطئ يجب إزالته لحلِّها؟ ما الذي يغيب عنا؟
وثمَّة احتمال آخر، وهو أن ثمَّة كائنات ذكية بالفعل تعيش خارج كوكب الأرض، ولكنَّنا لم نَلتقِ بها بعدُ. هذه هي الإجابة التي قدَّمها كارل ساجان في كلٍّ من رواية وفيلم «اتصال» («كونتاكت»). في معالجة ساجان الخيالية، تصل إشارات تليفزيونية من جهاز كشفٍ غريب بالقُرب من نجم النَّسر الوَاقِع الذي يبعد ٢٥ سنة ضوئية. يحفز هذا استجابة مشفَّرة ومعقَّدة تشتمِل على مخططات لنوعٍ من بوابات النجوم؛ ويأتي مُعظم التشويق في النسخة السينمائية من ترقُّب مَن الذي سيعبُر من خلالها. ترقى القصة إلى مستوى الجدلية في مسألة أنَّنا لسنا وحدَنا وأنه ربما ثمة علامات على وجود حياةٍ ذكية خارج نطاق إحاطتنا. وعلينا أن نستمرَّ في البحث عنها لأنه إذا نجحنا في العثور عليها، فإن ما سنكتشِفُه من شأنه أن يُغيِّر كل شيء.
وهذا الكتاب يهدف لأن يكون مقدمةً عامة للنقاش حول فكرة وجود كائنات ذكية خارج كوكب الأرض، وسنَتناول في الصفحات القادمة العديد من الأفكار حول كيفية حلِّ مفارقة فيرمي في نهاية المطاف. في الفصل الرابع، أُلخِّص الحلول المُحتمَلة في فئاتٍ عامة — أعدُكم أنها ستكون أقل من ٧٥ — وأستعرض الحجج المؤيدة والمعارِضة لكلٍّ منها. يَعتقِد وارد وبراونلي أنه «يبدو» أننا وحدنا لأننا وحدَنا بالفعل. بينما يشعر آخرون، بمَن فيهم أنا، أنه من السابق لأوانه كثيرًا أن نَخلُص إلى هذا الاستنتاج. ففي هذه المرحلة، ما زلنا نُصنِّف ما أسماه وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفيلد — في سياق مختلف للغاية — ﺑ «المعروفات المعروفة»، و«المجهولات المعروفة»، و«المجهولات المجهولة».
بيت القصيد هو أننا كلَّما اكتشفنا المزيد من الكائنات المُحبة للظروف القاسية والكواكب الخارجية، زادَت المساحة المتاحة لاكتشافات علماء الفلك وعلماء الأحياء الفلَكية وزادت المجهولات المجهولة التي تتحوَّل إلى مجهولات معروفة. وبالعمل الجاد، والتمويل، وقليل من الحظ، قد نتمكَّن من تحويل بعضٍ منها إلى معروفات معروفة. تَغمُرني مُتابعة هذه العملية بالدهشة والأمل.
تنظيم جهلنا
يواصل هذا الكتاب بتلك الرُّوح نفسها، في محاولة لتصنيف المعروفات المعروفة، والمجهولات المعروفة، والمجهولات المجهولة. اكتسب النقاش حول الكائنات غير الأرضية ومفارقة فيرمي سمةً تخمينية بعض الشيء بطبيعة الحال. لن أُخفي آرائي، وسأُحاول توضيحها عندما نتجاوَز حدَّ المنطق القائم على الدليل إلى التخمينات المُستنِدة إلى معلومات؛ لكني لن أترك ذلك يُبطِّئ من وتيرتنا.
يُشبه الحديث عن البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض نوعًا ما طهي حساءٍ من الحجر. نحن مُجبرون على البدء بعددٍ قليل للغاية من الأفكار. لكنَّنا إذا استعرنا قليلًا من مرَق الحساء من الفلاسفة الذين ناقشوا مدى معقولية وجود حياةٍ خارج كوكب الأرض، وبعض الجَزَر من علماء المُحيطات الذين يدرسون الكائنات المُحبة للظروف القاسية، وبعض التوابل من علماء الفلك الباحثين عن المزيد من الكواكب الخارجية، سيُمكننا على الأرجح أن نصنع شيئًا مُغذِّيًا فكريًّا.
ها هي قائمة المكوِّنات الخاصة بي. في الفصل الأول، سأستعرِض التاريخ الطويل المُثير للدهشة للتكهُّنات حول الكائنات غير الأرضية. عندما قال أرسطو إن الطبيعة تمقت الفراغ، لم يكن مُحقًّا؛ فمعظم الكون شِبه فارغ. ولكن يبدو أن البشر يَمقُتون بالفعل فكرة أننا ربما نكون وحدَنا، ولا نزال نُناقش الفكرة منذ آلاف السنين.
أدرك العلماء في النهاية أنه يُمكنهم الذهاب إلى أبعد من مجرد النقاش. يتناول الفصل الثاني نشأة البحث عن ذكاء خارج الأرض باعتباره تخصُّصًا جادًّا في ستينيَّات القرن العشرين. وسنعرف كيف تحوَّل العلماء إلى التقنيات الراديوية والبصرية لبدء البحث العملي عن إشاراتٍ من حَضارات خارج كوكب الأرض وكيف تطوَّر هذا البحث على مدار الستِّين عامًا الماضية.
ويدور الفصل الثالث حول الثورات في عِلم الأحياء الفلَكية والبحث عن الكواكب الخارجية منذ عام ١٩٧٧ وكذلك كيف غيَّر التقدُّم السريع بشكلٍ غير مُتوقَّع في هذَين المجالَين طريقة تفكير العلماء في إمكانية وجود حياة خارج كوكب الأرض.
وأعود في الفصل الرابع إلى مفارقة فيرمي بعد التزوُّد بكل هذه المعلومات الإضافية. لقد اقتُرِح العديد من الحلول المُثيرة للاهتمام لهذه المُفارقة، وما أفعلُه في هذا الفصل هو أنَّني أُراجعها وأُقيِّم معقوليتها.
وأخيرًا، في الفصل الخامس، أُركِّز على الحلول المفضَّلة لديَّ وألقي نظرةً على بعض الأفكار الجديدة لإعادة تركيز أعمال البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض من أجل زيادة فُرَص حلِّ المفارقة والعثور على كائناتٍ خارج كوكب الأرض.
وفي النهاية، آمُل أن تُوافِقوني الرأي في أن البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض هو أحد مجالات البحث الأكثر إثارة، والتي من المُحتمَل أن تُغير العالَم في زماننا الحالي، وأن تشعروا بالإلهام لمواصَلة استكشاف الموضوع بأنفسكم. يُمكنك فعل ذلك بمساعدة المصادر المذكورة في الملاحظات، ومسرد المصطلحات، وقائمة القراءات الإضافية في نهاية الكتاب.
بالمناسبة، سأفترض أنه لم تُكتشَف كائنات غير أرضية بعدُ في تلك اللحظة التي تقرءون فيها هذه الكلمات. ولكن إذا كان الأمر خلاف ذلك، فقد أصبح هذا الكتاب الآن قطعةً أثرية عديمةَ الفائدة ترجِع إلى عصر ما قبل الاتصال. لن يُسعِدَني شيءٌ أكثر من ذلك، لكنَّني لستُ متفائلًا إلى هذا الحد. لذلك تبقى المفارقة، وتظلُّ تطلُب الحل.