الفصل الرابع

حل مفارقة فيرمي

حسنًا، أين الجَميع؟ إن ما أسماه مايكل هارت «الحقيقة أ»؛ أي الغياب الواضح للكائنات غير الأرضية في عالَمنا أو في أيِّ عالمٍ قريب، لم تتزحزَح. بفضل علماء الأحياء الفلَكية، ومُستكشِفي الكواكب الخارجية، والباحثين عن ذكاءٍ خارج الأرض، أصبح لدَينا المزيد من البيانات للتفكير بناءً عليها أكثر ممَّا كان لدى دريك وأعضاء جماعة الدلافين الآخَرين في عام ١٩٦١، وأكثر بكثيرٍ ممَّا كان لدى فيرمي عام ١٩٥٠. إلا أنَّ تلك ثروة من البيانات لم تَجعل المشكلة الأصلية تَختفي. من نواحٍ كثيرة، لم تزدَد مُفارقة فيرمي سوى حدة.

ولمعرفة السبب، دعونا نعود بإيجاز لمعادَلة دريك الأصلية، التي تُعطينا طريقةً سريعة لفرز المعروفات المعروفة من المَجهولات المعروفة ونرى أين تظلَّ الفجوات الأكبر. (كان ذلك هو المقصد من المعادلة في الأساس. وقد انهال عليها بعض العلماء بالنَّقد مؤخرًا؛ قائلين إنها سطحية وغير علمية،1 ولكن نظرًا لفائدتها كأداة توجيهية وتفسيرية على مدى ما يقرُب من ستة عقود، يبدو أن هذا الانتقاد غير عادل بعض الشيء.) وإليك المعادلة مرة أخرى:
حيث هو عدد الحضارات المتقدِّمة في مجرَّة درب التبانة التي يُفترَض أن لدَيها القُدرة على التواصل معنا والاستعداد لذلك. إحدى الطرق الآن لحلِّ مُفارقة فيرمي هي التأكيد على أن الحقيقة أ لن تتزعزَع أبدًا وأننا — في الواقع — وحدَنا في المجرَّة. ويُعادل هذا قولنا إن .
ما مدى واقعية ذلك؟ حسنًا، مِن عملِ عُلماء الفلك الذين يَدرُسون التطور النجمي، نعلم أن ؛ أي مُعدَّل تكوُّن النجوم الجيدة التي يُمكنها أن تَدعم وجود حياة في مجرَّتنا، هو نحو ٧٫٥ نجوم سنويًّا.
وقد علِمنا من علم الكواكب الخارجية، الذي ظهَر في العقد أو العقدَين الماضيَين، أن مُعظَم النجوم الشبيهة بالشمس لديها كواكب وأنَّ للعديد منها أكثر من كوكبٍ واحد، لذا بوسعنا أن نقول إن .
ومن هذا البحث نفسه عن الكواكب الخارجية، يَعتقِد الباحثون أن . أي إنه من كل ١٠ كواكب لا بد أن يكون هناك ما يَقرُب من ثلاثة كواكب صالحة للحياة.
هنا على الأرض، ظهرت الحياة على الفور تقريبًا بمجرَّد توافُر الماء السائل لدعمها، وقد ثبت أنها قوية وقادرة على التكيُّف بشكلٍ مدهش. لا يزال هناك مجال كبير للنقاش حول ذلك، ولكننا لن نخرج عن السياق إذا قدَّرنا أن الحياة تنشأ على كوكبٍ واحد من بين كل أربعة كواكب صالحة للحياة: .

كل شيء يسير على ما يُرام حتى الآن. بالنسبة لهذه الحدود الأربعة الأولى، لن نكتفي بالتخمين بعد الآن؛ إذ إن لدَينا بعض الأدلة الفعلية، أو بعض المؤشرات القوية. وبالمناسبة، عندما شاركت في إلقاء ندوة حول مفارقة فيرمي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في عام ٢٠١٨، تحدَّيت أنا وزميلتي باولا ريبوسكو طلابَنا بالإتيان بأفضل تقديراتهم كمَجموعةٍ لكلِّ حدٍّ من حدود معادلة دريك. والقيَم التي أستخدمها هنا هي تلك التي استقرُّوا عليها.

ممَّا قيل حتى الآن، فإن حاصل ضرب الحُدود الأربعة الأولى، ، يُساوي (٧٫٥ × ١ × ٠٫٣ × ٠٫٢٥) = ٠٫٥٦. وإذا قبلت هذه التقديرات وكنتَ ترغب في جعل مُعادلة دريك تُعطي إجابة مِقدارها واحد بالضبط، فلا بد أن حاصل ضرب الحدود الثلاثة الأخرى، ، سيكون ١٫٧٩ (لأن ١٫٧٩ × ٠٫٥٦ = ١). وللتذكير، هو الكسر المُعبر عن عدد الكواكب التي تتطوَّر عليها الحياة البسيطة إلى حياة معقَّدة وذكية، و هو الكسر المعبر عن عدد الكواكب التي يُطوِّر عليها نوع ذكي واحد على الأقل تكنولوجيا للتواصُل فيما بين النجوم، و هو متوسِّط عمر الحضارة القادِرة على التواصُل.
عبر مثالٍ واحد يُمكننا الانطلاق منه — وهو الأرض — لا يسعنا سوى تخمين تلك الحدود الثلاثة. نظرًا لعدم وجود قيود صارمة، قرَّر طلابنا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن يكونوا متفائلين وأن يُخمِّنوا أن هو عمر طويل جدًّا، والفِكرة هي أنه بمجرَّد أن تتخطَّى الحضارات مرحلة المراهقة التكنولوجية، يكون لدَيها ما يكفي من المعرفة للبقاء على قَيدِ الحياة حتى تُصبح نجوم مَواطنها نجومًا عملاقة حمراء وتحرق كواكبها. في حالة شمسنا، سيحدث ذلك بعد مليار سنة من الآن. (ما يبدو أنه متَّسع من الوقت لابتكار خطة للفرار وإطالة بقائنا، لكننا سنُنَحِّي هذا التعقيد جانبًا في الوقت الراهن.) وبعد تعديلٍ طفيف لاحتمال وقوع أنواع أخرى من الكوارث الكونية، مثل انفجار أشعة جاما الذي من شأنه أن يَمحو كل أشكال الحياة على أي كوكب من الكواكب، قرَّر طلابنا أن الحضارة النموذجية العالية التقنية قد تستمرُّ نصف مليار سنة: من السنوات.
إذا كانت قيمة كبيرة بالفعل، فلتقليل قيمة إلى ١٫٧٩، لا بدَّ أن تكون قيمة صغيرة للغاية: تحديدًا ٣٫٥٨ × ١٠−٩. بعبارة أخرى، يجب أن يكون الكسر المُعبِّر عن الكواكب الصالحة للحياة حيث تتطوَّر الميكروبات إلى علماء في مجال الفلك الراديوي نحو ٣٫٥٨ لكلِّ مليار أو واحد كل ٢٧٩ مليونًا.

للتوضيح: لنَفترِض أنه يُمكنك إرجاع شريط تاريخ الأرض إلى زمن ما قبل الانفِجار الكامبري، أي قبل ٥٤٠ مليون سنة، ثم لتدعه يتقدَّم في الزمن مرةً أخرى. إذا فعلتَ ذلك ٢٧٩ مليون مرة، فإن حساباتنا حتى الآن تقول إنك لن تَحصل في النهاية على حضارة ذات تقنية عالية كحضارتنا سوى «مرة واحدة».

إذا قبلت هذه الاحتمالات، فلن تكون مُفارقة فيرمي مُفارقة لأنَّ فيرمي كان مُتفائلًا للغاية في حساباته التقريبية. وسيكون سبب عدم زيارة الكائنات الفضائية لنا هو أنها غير موجودة.

في الواقع، إذا قضيت أيَّ وقت في التفكير بهذه الطريقة، فستُدرك أن الكوبرنيكية الصارمة تنهار في سياق تطوُّري.

يبدو هذا وكأنه حلٌّ كئيب للمُفارَقة، ولكنه ليس مُستحيلًا. في الواقع، إذا قضيت أيَّ وقتٍ في التفكير بهذه الطريقة، فستُدرك أن الكوبرنيكية الصارمة تنهار في سياقٍ تطوُّري. قد لا يكون هناك شيءٌ مُميز في كوكب الأرض، وقد نكون نحن البشر مجرَّد فرعٍ صغير في شجرة تطوُّرية مُعقَّدة، ولكن هناك بالفعل شيء فريد فينا. خاضت الحياة القائمة على الحمض النووي الكثير من المُحاولات لبناء مخلوقاتٍ ذكية وبارعة، والبشر هم الوحيدون الذين تمكَّنوا من التسلُّل إلى ما وراء الغلاف الجوي للأرض. تخيَّل أنك وجدت كائنًا غرويًّا أوليًّا على كوكب «قنطور الأقرب بي»، ثم قدَّمت الزمن بضعة مليارات من السنين؛ سيكون من المُدهش للغاية أن تجد أن نوعًا صانعًا للأدوات قد نشأ في المرة الأولى. كتب ماثيو كوب عالم الحيوان وعالم الأحياء التطوُّري في جامعة مانشستر يقول: «هذه النظرة للحياة ليسَت نظرةً قاتمة؛ إنها ببساطة حقيقة الأشياء.» وتابع قائلًا:
إن حقيقة أننا وصَلنا إلى هذا الحد لا تَعني بالضرورة وجود كائنات فضائية تَرتحِل في الفضاء، أو أنه مُقدَّر لنا أن نصل بطريقةٍ ما إلى النجوم. إنَّ الحتمية الظاهرية لوجود الحضارة الإنسانية هي إحدى خدع المنظور الشخصي، فهي من باب اللغو الكوني؛ إذ إنَّنا لا يسعنا أن نتساءل عن مثل هذه الأمور سوى لأننا موجودون. لم تُوجِّه وجودَنا قوة خارقة للطبيعة، كما أن الأمر ليس مكتوبًا في جيناتنا. كل ما هنالك أننا كنَّا محظوظين إلى درجةٍ كبيرة جدًّا.2
من وجهة نظري الشخصية، أشعر حقًّا أنني محظوظ لكوني على قَيد الحياة ولكوني إنسانًا يعيش في هذا الزمان والمكان. يقول كارل ساجان: «نحن وسيلة ليعرف الكون نفسه.»3 وأن يكون للمرء دور في هذه المُغامَرة لهو امتياز لا يُمكن تصوُّره.
وعلى الرغم من ذلك، فإن أيَّ حلٍّ لمُفارقة فيرمي يعتمِد «كثيرًا جدًّا» على الحظ قد يكون عرضة للشك. ربما كانت هناك طريقة واحدة فقط من بين ٢٧٩ مليون طريقة للتطوُّر كي ينشأ الإنسان الحديث على الأرض. لكن قد يكون هناك العديد من المسارات الأخرى لظهور الذكاء والتكنولوجيا. كي تقبل فكرة أن ، عليك أن تَعتقِد أن «كل مسار آخر» على «كل كوكب آخر» قد فشل في «كل محاولة» على مدار تاريخ المجرة البالغ ١٣٫٥ مليار سنة. ويا له من مَطلبٍ كبير للغاية!

إنه مطلبٌ كبير في الواقع لدرجة تُجبرنا على النظر في المزيد من الحلول لتلك المُفارقة. يُشير كل شيءٍ نتعلمه من علم الأحياء الفلَكية أنه سيتضح لنا أن الحياة في صورتها البسيطة أمر شائع في الكون؛ ما يوفر مليارات نقاط الانطلاق المُنفرِدة لعملية تطوُّر الذكاء. ومن ذلك المنظور، لا تبقى مفارقة فيرمي قائمة فحسب، ولكنها أيضًا أكثر مناسبةً للمقام من أي وقتٍ مضى.

وكما أدركنا على مرِّ الزمن، فإن أكبر المجهولات في الجدال حول وجود الكائنات غير الأرضية هو نشوء الحياة وتطورها من شكلها الميكروبي البسيط إلى أنواع ذكية، وطويلة العمر، ومتطورة تكنولوجيًّا، وهذا ما يُمثله الجزء من معادلة دريك. وفي هذا الفصل، سنأخُذ جولةً سريعة للتعرُّف على الحلول المُقترحة لمُفارقة فيرمي، والمُرَتَّبة حسب طريقة تعامُلها مع هذه المجهُولات الأربعة. سيُهيِّئنا هذا للمناقشة النهائية في الفصل الخامس حول الحلول التي تبدُو أكثر قابليةً للتحقُّق والأكثر إقناعًا والطرق المُمكنة للمُضيِّ قدمًا في البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض وعن أنواع الكائنات الأرضية الغريبة.

ثمَّة مُؤلَّفات علمية كبيرة حول مفارقة فيرمي، ولستُ أول مَن حاوَلَ فهرسة وتقييم جميع الإجابات التي اقترحها العلماء. سيَرغب القُراء شديدو الفضول في الرجوع إلى كتاب «إذا كان الكون حافلًا بالكائنات غير الأرضية … فأين الجميع؟» لستيفن ويب، وكتاب «الصمت العظيم: العلم والفلسفة وراء مفارقة فيرمي» لميلان تشيركوفيتش. وكلاهما كان مصدرًا رئيسيًّا في كتابة هذا الفصل.

غير أنني أُنظِّم قائمتي بطريقة مُختلفة تهدف لإظهار كيف تزداد قيمة الحلول المُحتملة لمُعادلة دريك، منتقِلة من العوامل الفيزيائية العجماء إلى العوامل البيولوجية والاجتماعية الأكثر تعقيدًا. لم يعُد أحد يقول بأن قيم أو أو هي قيم صغيرة؛ فقد أظهر العلم الحديث أنها ليست كذلك. لذا فإن الحُجج المتبقِّية حول كون قيمة قيمةً شديدة الصغر تَعتمِد على الحدود ، و ، و ، و . ومن الواضح أنه بينما نُطوِّر القُدرة على اكتشاف البصمات الحيوية في الأغلفة الجوية للكواكب الخارجية، سيكون الحد هو العامل التالي الذي سيَنتقِل من قائمة «المجهولات المعروفة» إلى قائمة «المعروفات المعروفة». سيترك لنا هذا الأسئلة الأصعب بلا إجابة، وهي الأسئلة حول ماهية الذكاء الحقيقية، وكيف ينشأ، وكيف تُطوِّر الأنواع الذكية التكنولوجيا، وما الذي تَفعلُه بها حين تمتلكها. تُعَدُّ جميع وجهات النظَر حول هذه الأسئلة قيِّمة؛ لأنَّنا بحاجةٍ لفهمها جيدًا كي نَعرف عمَّ نبحث. لكني أُرجِّح أنَّنا لن نحصل على إجاباتٍ محدَّدة حتى نلتقي فعليًّا ببعض الكائنات غير الأرضية.
خلال هذه المناقشة، ضع في اعتبارك أننا أثناء محاولتنا لحلِّ مفارقة فيرمي، فإننا نبحث في الواقع عن طُرق لإبطال أيٍّ من مُقدِّماتها؛ وذلك كي يختفي التعارُض المنطقي وتبدو الأمور منطقيةً مرة أخرى. في هذه الحالة، فإن المقدمات التي تبدو سليمة هي:
  • (١)

    مما نعرفه عن الفيزياء الفلكية وعلم الأحياء، لا بد أنَّ هناك الكثير من الحضارات خارج كوكب الأرض في مجرتنا.

  • (٢)

    حتى الآن، لا بدَّ أن هذه الحضارات كان أمامها الكثير من الوقت للتوسُّع في جميع أنحاء مجرَّتنا، وزيارة كل نظامٍ كوكبي أو التواصُل معه.

  • (٣)

    لا شيء مما رأينا حتى الآن مُؤهَّل بثِقَة أن يُعَدَّ إشارة أو أثرًا من أصل ذكي خارج كوكب الأرض.

لا بد أن تكون مُقدمة أو أكثر من هذه المُقدمات خاطئة، نحن على يقينٍ من ذلك. لذا دعونا نُلقِ نظرة على المحاوَلات المُتنوِّعة لاكتشاف ثغراتها.

ندرة الحياة ( قيمة صغيرة)

لفترة طويلة، كانت إحدى الطرق المعقولة لحلِّ مُفارقة فيرمي تُرجِّح عدم شيوع الكواكب المناسبة للحياة، لا سيما الكواكب الصغيرة، والصخرية، والغنية بالمعادن مثل كوكب الأرض في شبابه. ولكن بفضل البيانات الواردة من تلسكوب كيبلر والتلسكوبات الأخرى، نعلم الآن أن هذا ليس صحيحًا. لقد تمكَّنا من قياس نصف قُطر ما يَقرُب من ثلاثة آلاف كوكب من الكواكب الخارجية المعروفة البالغ عددها أربعة آلاف، ووجدنا أن نحو ثُلثِها يُمثل عوالم صخرية بنِصف قُطر أقل من ضعف نصف قطر الأرض.4
وماذا عن المياه؟ عالم صخري مِن دُون مياه لن يكون مكانًا رائعًا للحياة. لم يكن علماء الجيولوجيا مُتأكِّدين لفترةٍ طويلة من مصدر مياه الأرض وممَّا إذا كانت العمَلية التي جلبتها هنا فريدة من نوعها أم أنه يُمكن تكرارها بسهولةٍ في أنظمةٍ أخرى. والآن هم مُتأكِّدون تمامًا من أن مياه الأرض جاءت من الكُويكبات والكواكب المُصغَّرة التي كانت موجودة في النظام الشمسي المبكر أو ربما من المذنَّبات الناشئة في حزام كايبر، وهو عبارة عن حلقة مُنتشرة من الكويكبات خارج مدار نبتون. وقد اكتُشفَت هياكل مشابهة لحزام كايبر حول العديد من النجوم الأخرى. لذا فإن فكرة أن الكواكب الداخلية الصَّخرية تكون جافة عادة ليست طريقةً جيدة لحلِّ المفارقة.5
السؤال التالي هو كم عدد الكواكب التي تدور في المناطق الصالحة للعيش حول نجومها؛ أي تلك البُقَع اللطيفة حيث يُذوِّب إشعاع النجم أي جليد مائي ولكنَّه لا يَتسبَّب في وصول المياه إلى درجة الغليان. كلما اتسعَت هذه المنطقة، كان ذلك أنسب للحياة، خاصَّة لأنَّ المنطقة تتحرَّك للخارج عندما تتقدَّم أعمار النجوم وتُصبح أكثر سخونةً وإشراقًا. أشارت نماذج حاسوبية طُوِّرت في سبعينيات القرن العشرين إلى أن هذه المناطق ضيقة جدًّا وأنه بالنِّسبة للعديد من أنواع النجوم، لا يُمكن «لأي كوكب» أن يبقى داخل المنطقة لفترةٍ كافية لتطوُّر الحياة عليه.6 لكن في عام ٢٠١٣، أكَّد الباحثون الذين يستخدمون بيانات تلسكوب كيبلر أن ٢٢ بالمائة من النجوم الشبيهة بالشمس لها كواكب في حجم الأرض في مناطقها الصالحة للعيش.7 وكما يُوضِّح النظام «ترابيست-١»، فإنَّه حتى المناطق الضيقة الصالحة للعيش يُمكن أن تضمَّ عدة كواكب. لذا فمِن المُحتمل أن تكون مليارات الكواكب في مجرَّتنا في مناطق نجومها الصالحة للعيش باستمرار.

إذن فحتى الآن، يبدو نظامنا الشمسي عاديًّا جدًّا، ولا يُوجَد ما يفسر سبب كون الحياة المُعقدة استثناءً على الأرض. هنا يأتي دور عالم الجيولوجيا بيتر وارد والفلكي دونالد براونلي، الأستاذَين بجامعة واشنطن في سياتل. أحدثَ الكتاب الذي نشراه عام ٢٠٠٠ بعنوان «الأرض النادرة: لماذا لا تشيع الحياة المعقدة في الكون» موجات صدمة في مجتمعَي عِلم الأحياء الفلكية والبحث عن ذكاء خارج الأرض. صاغ الكتاب حُجة مُتقَنة، وموثوقة، ومُقنِعة بأننا نحن البشر ما كنا لنُصبح هنا لولا وجود مجموعة استثنائية — ربما لا تتكرَّر — من الظروف.

إذن فحتى الآن، يبدو نظامنا الشمسي عاديًّا جدًّا، ولا يُوجَد ما يُفسر سبب كون الحياة المعقَّدة استثناءً على الأرض.

الأرض لها صفائح تكتونية: درسٌ سريع في الجيولوجيا: يُرسِل الحِمل الحراري في الوشاح العلوي، الذي يشغله الجزء الداخلي المُشِع من الكوكب، صهارة إلى مراكز الانتشار في قشرة المحيط، ما يدفع صفائح المحيط للخارج باستمرار. ترتفع حواف الصفائح القارية الأخف وزنًا فوق هذه الأحزمة الناقلة العملاقة فيما تتراجَع الحواف الأمامية للصفائح المُحيطية لتغوص في الوشاح. تتكوَّن مناطق الاندساس الغنية بالبراكين عند التداخُلات. تُشكِّل الصفائح التكتونية أهمية للحياة؛ لأنها تعمل بشكلٍ غير مباشر كمُنظِّم حرارة (ثيرموستات) للغلاف الجوي. تساعد تجوية الصخور، حيث يتَّحد الكالسيوم مع ثاني أكسيد الكربون الحابس للحَرارة في الهواء لتكوين كربونات الكالسيوم، لضمان عدم وصول الغلاف الجوي لدرجات حرارة عالية للغاية أبدًا. بينما يأخُذ النشاط البركاني في مناطق الاندساس كربونات الكالسيوم القديم في قاع البحر ويُعيد تدويره، مما ينتج عنه إطلاق صخور سطحية غنية بالكالسيوم وكذلك ثاني أكسيد الكربون، وهو ما يضمن عدم وصول الغلاف الجوي لدرجات حرارة مُنخفِضة للغاية أبدًا. رجَّح وارد وبراونلي أنه على كوكبٍ ليس به صفائح تكتونية، سيكون من الأصعب بكثيرٍ الحفاظ على مناخ مُستقِر نسبيًّا كالذي ساعد في نشأة حياة معقَّدة على الأرض.8
الأرض لها قمر كبير وقريب: يَعمل القمر على استقرار ميل دوَران الأرض بالنِّسبة إلى مستوى النظام الشَّمسي عن طريق مُوازَنة قوة سحب الجاذبية من الشمس والمشتري. وبدون التأثير المُلطف للقمر، من المُحتمل أن يتغيَّر ميل الأرض تغيرًا كبيرًا على مقياسٍ زمني يُقدَّر بمئات آلاف السنين إلى ملايين السنين (كما يحدُث مع ميل كوكب المريخ)، ممَّا يتسبَّب في اضطرابات مناخية هائلة بصورة مُنتظمة، وهو ما يجعل نشأة حياة معقَّدة، مرةً أخرى، احتمالًا صعبًا للغاية.
الأرض يَحميها المُشتري: ربما ساعدت جاذبية هذا الكوكب العملاق، الواقع على الحدود بين النظام الشمسي الداخلي والخارجي، في تخليص المنطقة الداخلية من مُعظم الكويكبات والكواكب الصغيرة التي كانت تدور في أرجائها في النظام الشمسي المبكر. إننا نعلم مقدار الضرر الذي سببه كويكب واحد عندما تسبَّب في نشأة فوهة تشيكشولوب البالغ عرضها ١٥ كيلومترًا قبل ٦٥ مليون سنة؛ فقد كان يومًا سيئًا للديناصورات. من شأن أي كوكب صخري داخلي يواجِه هجمات مستمرة من مثل هذه الأجرام أن يكون مكانًا غير مُلائم لنشأة حياة مُتقدِّمة.
الأرض يجاورها المريخ: أصبح الكوكب المُجاور لنا مباشرة ملائمًا للحياة قبل الأرض بفَضل مياهه السائلة والحماية التي يُوفِّرها غلافه الجويُّ السميك. (وللأسف لم يبقَ على هذا النحو.) ونحن نعلم أن التأثيرات الكبيرة تُثير في بعض الأحيان حطام المريخ، والذي يَهبط بعضه في نهاية المطاف على الأرض. من الوارد أن تكون الحياة الميكروبية قد بدأت على المريخ ثم انتقلت إلى هنا أو حتى إنه كانت ثمة صلة عادية بين الأرض والمريخ عملت بمثابة قارب نجاة لميكروبات الأرض في فترة أو أكثر من تاريخ نظامنا الشمسي.9
بناءً على كل هذه العوامل مُجتمعة، يبدو أن الحياة المعقَّدة قد ظهَرَت على الأرض بفضل «مجموعة من الظروف السعيدة للغاية التي لا يُمكن توقُّع شُيوعها على كواكب أخرى»، بحسب تعبير وارد وبراونلي قبل ٢٠ عامًا.10 وقد توقعا أننا في رحلاتنا المستقبلية في أرجاء المجرة قد نجد العديد من العوالم التي تُئوي الميكروبات، ولكنَّنا لن نجد أيًّا منها يُئوي حيوانات، ناهيك عن أن يُئوي علماء في مجال الفلك الراديوي. لم يَشرع وارد وبراونلي في حلِّ مُفارقة فيرمي، غير أنهما كانا يواجهان عن قصد بالفعل أحد المبادئ التقليدية في مجال البحث عن ذكاء خارج الأرض، والقائل بأنه بمُجرد ظهور الحياة على كوكب من الكواكب، فإنها تتطوَّر تطورًا شبه حتمي نحو شكلٍ أكثر تعقيدًا. يقول المؤلِّفان: «إذا كانت فرضية الأرض النادِرة صحيحة، فمن الواضح إذن أن [البحث عن ذكاء خارج الأرض] هو جهد لا طائلَ من ورائه.»11

أثار كتاب وارد وبراونلي نقاشًا عنيفًا ومزدهرًا داخل مجتمعَي علم الأحياء الفلكية والبحث عن ذكاء خارج الأرض. تنقسم الحُجَج المُتعارضة إلى مجموعتَين رئيسيتَين. تُعارض المجموعة الأولى التفاصيل العِلمية الخاصة التي تُسهم في الفرضية. على سبيل المثال، لسنا مُتأكِّدين من كيفية بدء تكوُّن الصفائح التكتونية على الأرض؛ ومن ثمَّ لا يُمكننا تحديد مدى شيوع الظاهرة أو عدم شيوعها على الكواكب الخارجية. قد لا يكون النشاط البركاني في مناطق الاندساس الآلية الوحيدة للحفاظ على مستويات غازات الدفيئة تحت السيطرة. كما تُشير عمليات المُحاكاة الحاسوبية الحديثة إلى أن كوكب المشتري لا يُمثل درعًا جيدةً للغاية؛ فقد يُرسِل إلينا في الواقع «المزيد» من الكويكبات والمذنَّبات. وغير ذلك من التفاصيل العلمية.

أما الحُجَج المضادة للمجموعة الأخرى فهي أكثر فلسفية. يُمكن النظر إلى تفسير الأرض النادرة — الذي يقول بأننا لن نحصل على حياة معقَّدة كالتي على الأرض سوى عندما تكون الظروف مُماثلة تمامًا لتلك التي على الأرض — باعتباره حالةً من حالات الاستدلال الدائري أو على أقل تقدير الذي لا يُمكن تصوره. حذَّر تقرير المجلس القومي الأمريكي للبحوث المذكور في الفصل الثالث ممَّا أسماه «التمحور حول الأرض» وحث الباحثين على «بذل جهد واعٍ لتوسيع أفكارنا حول الأماكن التي يُمكن أن تُوجَد بها الحياة والأشكال التي قد تتَّخِذها».12 رجَّح عالم الفلك ديفيد جيه دارلينج في عام ٢٠٠١ أنَّ وارد وبراونلي كانا في واقع الأمر يَرويان قصة عن عالَمِنا «نحن»، ولا يُقدمان فرضية عن عوالم «أخرى». كتب دارلينج: «ليس المُهم هو ما إذا كان هناك أي شيءٍ مُميز في الأرض أم لا؛ فسيتَّضح أن ثمة شيئًا فريدًا لكلِّ كوكب في الفضاء. وإنَّما المُهم هو ما إذا كانت أيٌّ من ظروف الأرض ليست مُميزة فحسب، ولكنها أيضًا ضرورية لنشأة حياةٍ معقَّدة. لم نرَ شيئًا حتى الآن يُشير إلى ذلك.»13
أم أنَّنا قد رأينا بالفعل؟ من السهل انتقاد تفاصيل فكرة الأرض النادرة، غير أنَّ هناك وجهات نظر أخرى قد تُرجع المرء إلى استنتاج أن قيمة صغيرة أو — على نحوٍ يدعو للإحباط بالقَدر نفسه — أنه بمجرَّد أن تبدأ الحياة في مكان مُعين، فإنها لا تستمرُّ طويلًا بما يكفي لتطوُّرها إلى أشكالٍ معقَّدة. نحن نعلم، على سبيل المثال، أن الحياة ظهرت على الأرض بمجرَّد أن سمحت الظروف بذلك، قبل ما لا يقلُّ عن ٣٫٨ مليار سنة. لدَينا فَهم مُتزايد لآلية عمل الحياة، ولكننا ما زلنا لا نستطيع تحديد كيف بدأت. ويَبدو أن هذا قد حدث مرةً واحدةً فقط؛ فلم نجد أيَّ دليلٍ على وجود «مُحيط حيوي خفي» لحياةٍ غير قائمة على الحمض النووي على الأرض. ولكي نتمكَّن من الهندسة العكسية للعملية من نقطة الصفر، سنظلُّ نَفتقِر إلى طريقة الحكم على احتمالية أو عدم احتمالية وجود مثل تلك الحياة على كواكب أخرى. لذا يُحتمَل أن يكون التولُّد التلقائي هنا على الأرض مجرد صدفةٍ خارقة، وأنه لن يكون أيُّ كوكبٍ آخر محظوظًا بهذا القدر.
وثمَّة المزيد من العقبات على الطريق من إلى . كانت الأرض لما يُقدَّر بنحو مليارَي سنة بعد التولد التلقائي تسودُها الكائنات الحية المجهرية الوحيدة الخلية (بدائيات النوى). نشأت الكائنات الحية المتعدِّدة الخلايا (حقيقيات النوى) في مكانٍ ما قبل نحو ١٫٢ إلى ١٫٦ مليار سنة. ثم «سبحت» في كل مكان لمدة مليار سنة أخرى مُؤدِّيةً عمليات حقيقيات النوى البسيطة، من تناول بدائيات النوى، وتناول بعضها بعضًا، وإنتاج الأكسجين. وأخيرًا، قبل ٥٤٠ مليون سنة كان هناك ما يكفي من الأكسجين في الماء والهواء لإمداد الحيوانات بأشكال أجسامٍ أكبر وأكثر تعقيدًا. حدَثَت تقريبًا كل الأشياء المُثيرة للاهتمام في عملية التطور (دون التقليل من قيمة علماء البكتيريا المَعنيين) في ذلك الثُّمن الأخير من تاريخ الكوكب.
إذن، أحد الحلول المُمكنة لمفارقة فيرمي هو أن القفزة التي حدثت من بدائيات النوى إلى حقيقيات النوى كانت صعبة للغاية لدرجة أنها لا تَحدُث على معظم الكواكب. هذا أحد السيناريوهات التي تندرج تحت ما يُسمَّى بفرضية المرشِح العظيم المُبكِّر، التي تعني أنه يمكن لإحدى خطوات التطور — على الرغم من أننا لا نعرفها تحديدًا — أن تكون غير مُحتملة إلى حدٍّ كبير.14
ويرتبط بهذا فكرة أن نظامنا الشمسي يتميَّز بنوع خاص من محركات التطوُّر، والذي حافظ على استمرار الأنواع أو حتى قام بتحفيزه في لحظاتٍ حاسمة مُعينة. في عام ١٩٨٦، أطلق الفيزيائي جون كريمر على هذه الظاهرة اسم «مضخَّة التطور». كان يستمدُّ أفكاره من الأفكار الجديدة آنذاك، التي تقول بما يلي (١) يبدو أن التطور يستمرُّ على فترات متقطعة، يتخلَّلها فترات طويلة من الركود — نظرية «التوازن النقطي» الأكثر ارتباطًا بعالم الحفريات القديمة ستيفن جاي جولد — و(٢) أن كوارث مثل ارتطامات الكويكبات يُمكنها أن تتسبَّب في انقراضات جماعية، مما يفتح مجالًا بيئيًّا مُلائمًا لأنواع جديدة. تكهَّن كريمر أنه ربما يؤدي توازٍ دوريٌّ للكواكب في مداراتها إلى إخراج أجرام من حزام الكويكبات وإرسالها في وابلٍ على الأرض. لا يَحدُث هذا كثيرًا لدرجة أنه يَقضي على أنواعٍ واعدة، ولكنَّه لا يحدُث أيضًا على فتراتٍ شديدة التباعُد لدرجةٍ تجعل التطوُّر يعود إلى وتيرتِه البطيئة المُعتادة. كتب كريمر يقول: «ذلك هو تفسيري للصمت العظيم: لم يتواصَل معنا جنس أقدم لأننا بالفعل الجنس الأقدم. لقد تصادَفَ أننا تطوَّرنا على كوكبٍ يُحفز التطوُّر للتقدُّم أسرع من أي مكانٍ آخر في الكون تقريبًا.»15

ندرة الذكاء ( قيمة صغيرة)

اعتمد كريمر على الكويكبات وغيرها من الأجرام القاتلة الآتية من الفضاء باعتبارها طريقةً لتفسير السبب وراء أن التطوُّر أدَّى إلى ظهور الذكاء على الأرض. وعلى النقيض من ذلك، اعتمد علماء آخرون على الكوارث لتفسير السبب في أن التطور لم يُؤدِّ إلى ظهور الذكاء في أماكن أخرى.

إنَّ الكون مكان خطير؛ هذا أمر لا جدال فيه. يجب أن تتصارَع الحياة مع كوارث على نطاق كوكبي مثل ارتطامات الكويكبات، والاندلاعات البركانية الهائلة، والعُصور الجليدية العالَمية، وجموح تأثير الاحتباس الحراري، كما حدَث على كوكب الزهرة. وعلى رأس هذه المِحَن الكوكبية، ثمة مخاطر فيما بين النجوم مثل المُستعرات العُظمى، وانفجارات أشعة جاما، والثقوب السوداء المتناثرة. تقول إحدى المدارس الفكرية إن النوع الأخير من الكوارث أكثر تواترًا في المجرة مما نُدرك تمام الإدراك نحن الأرضيِّين الذين لطالَما فررنا أو نجونا منها حتى يومنا هذا. واقتباسًا من مُلخَّص ميلان تشيركوفيتش لهذا الموقف: «إن السلسلة التطورية المؤدية إلى ظهور كائنات ذكية تَنقطِع بانتظام، ولا تنشأ أنواع مُتقدِّمة تكنولوجيًّا سوى من خلال استثناء غريب.»16

لا تُوجد طريقة تستند إلى الدليل لدحض مثل هذه الحُجَج. وللحُكم على ما إذا كانت تفسيرًا جيدًا لمُفارقة فيرمي، سيكون علينا أن نُراقب السماء وأن نُدخل التحسينات على تقديراتنا للمخاطر الحقيقية لأحداث نهاية العالم، مثل انفجارات أشعة جاما. (يُعَد انفجار أشعة جاما حدثًا مُرعبًا حقًّا تَنثر فيه مُستعرات عُظمى داخلية الانفجار أشعةً مُعَقِّمة في الأنظمة المحيطة؛ ويُعتقد أن أحد تلك الانفجارات قد يكون السبب وراء الانقراض الأوردفيشي قبل ٤٥٠ مليون سنة. وإذا كانت مُتكرِّرة إلى حدٍّ ما، فربما تفسر سبب كونِنا وحدَنا وتجعلنا نخاف على مستقبلنا). ومِن وجهة نظري الشخصية، فإنَّ الشيء الوحيد المُريب بعض الشيء في الحُلول التي تَعتمِد على الكوارث هو «أننا نكون دائمًا الناجين الوحيدِين على نحوٍ استثنائي». ومرة أخرى، كي نقبل هذه التفسيرات علينا أن نقبل بوجود شيءٍ شديد التميز أو شديد الحظ يتعلَّق بالأرض. وبالنسبة إلى شخص غارق في الكوبرنيكية، لا يبدو هذا صحيحًا.

ومرة أخرى، من المُحتمل أن يُعزى هذا الشعور إلى شكلٍ مختلف من مركزية الإنسان التي يُطلِق عليها العلماء «التأثير الانتقائي للراصد». هذا ما يَحدُث عندما تدَع طريقة تقييمك للأدلَّة تتأثر بحقيقة «وجودك» عند جمع الأدلة. على سبيل المثال، لا يعني مجرد أن البشرية قد وصلت إلى هذا الحدِّ الذي وصلت إليه أنه يُمكننا الاستدلال على أن مخاطر أي كارثة كوكبية أو مجرِّية لا بد أنها ستكون خفيفة. وبالمِثل، لا يُمكننا لمجرَّد كوننا أذكياء أن نستنتج أن الذكاء بالضرورة أمر شائع في كون.

يُعَد التأثير الانتقائي للراصد شكلًا مُهمًّا من أشكال التحيُّز المعرفي، وسيأتي مرةً أخرى في هذا الفصل. ولكنه قد يكون سيفًا ذا حدَّين. أفترض أنه يصعب الاعتماد عليه في فرضية الأرض النادرة، على سبيل المثال، حيث تُعتبر الأرض النموذج الأوَّلي لجميع الكواكب التي تسكُنها الحيوانات. لذلك بينما نَمضي قُدُمًا في المزيد من التفسيرات للصمت العظيم، سنحتاج إلى أن نبقى على حذَر من جميع أشكال التفكير المُتمركز حول الإنسان، سواء أكنَّا ننظُر إلى نصف الكوب الفارغ أو نصف الكوب المُمتلئ.

من التسرُّع في الواقع افتراض أن الذكاء أمر واسع الانتشار في الكون في حين أنه ليست لدينا فكرة كبيرة عن ماهيته أو تحديدًا عن سبب امتلاكنا لقَدرٍ كبيرٍ منه. عاشت أنواع أخرى، مثل ديدان الأرض والبكتيريا الخضراء المُزرقة، لفتراتٍ أطول بكثير من البشر وانتشرت بالقدر نفسه في جميع أنحاء الكوكب دون أن تتعلَّم إجراء العمليات الرياضية أو كتابة المسرحيات. وهذا دون أن نتطرَّق حتَّى إلى الوعي، الذي يبدو أنه سمةٌ مُنبثقة من الأدمغة المعقَّدة، ولكننا لم نستطِعْ تفسيرَه بعدُ أو محاكاته، والذي له علاقة غير واضحة بالذكاء وربما كان بمثابة تتويجٍ له. (لقد قيل إن الوعي ليس شرطًا أساسيًّا للبقاء على قيد الحياة، وأنه حتى الكائنات الحية المعقَّدة يُمكنها التحرُّك «بذكاء» في محيطاتها دون أن تكون واعية).

هذا هو السبب وراء وجود فئةٍ كاملة من التفسيرات لمفارقة فيرمي التي تقول بأن الذكاء والوعي مجرد حظ، أو أن هناك نوعًا من الانتقاء الذي يَمنع الكائنات الحية من التطوُّر إلى ما يتجاوز مستوًى مُعينًا من الذكاء. قد تكون أقوى حُجَّة لوجهة النظر هذه هي أنه حتى خلال السنوات البالِغ عددها ٥٤٠ مليون سنة من التَّجارِب البرية لمُختلف الحيوانات، لم يُنتِج التطوُّر على الأرض إلا نوعًا واحدًا يُمكنه أن يطرح سؤال: «هل نحن وحدَنا في الكون؟». (بالطبع، كانت هناك أنواع أخرى من جنس «الهومو» (الإنسان) التي ربما طرَحَت السؤال، مثل «الهومو نياندرتال» و«الهومو دينيسوفا»، ولكن يبدو أن «الهومو سابينس» (الإنسان العاقل) قد قضى عليها بالمنافسة والتهجين بين الأنواع). ربما من السهل الوصول إلى مُستوى ذكاء الكلاب أو حتى القِرَدة، غير أن تعلُّم كيفية التحدث، ومن ثمَّ نَقل التعلُّم والثقافة في مجموعاتٍ هي خطوة يَستعصي بلوغها. أو ربما يكون الذكاء سمةً سريعةَ الزوال؛ أي إنَّ الأنواع تَمتلكه ما دام يُوفر قيمةً تكيفية، ولكنه يصبح بعد ذلك غير ضروري أو حتى غير قادر على التكيف.17

أو ربما تُصبح العديد من الأنواع ذكيةً وتُطوِّر لغةً، ولكنَّها لا تستمر في تطوُّرها ولا تخترع أبدًا علمًا، أي طريقة منهجية تَكفُل لها تقليل الخطأ فيما تَعتقِده بشأن العالَم. تبدو الثورة العِلمية التي أشعلها مُفكرون شجعان مثل كوبرنيكوس خطوة معقولة ومفيدة بداهةً عند النظر إلى الوراء، ولكنها كانت بعيدةً كل البُعد عن كونها أمرًا حتميًّا. يقترح ستيفن جرينبلات في كتابه «الانعطاف» أنها لم تكن لتحدُث على الإطلاق إن لم يكن بوجيو براتشيوليني قد استعاد مخطوطة لوكريتيوس «عن طبيعة الأشياء». تلك نظرية مَرِحة، ولكنها تُذكِّرنا بأن التاريخ البشري مليء بالمصادفات العجيبة. من منظور التقويم الكوني — وهو أداة لحكاية قصة الكون أشاعها كارل ساجان تضغط عُمر الكون البالغ ١٣٫٨ مليار سنة ماضية في ٣٦٥ يومًا — فإن عمر العلم بأكمله منذ جاليليو يأتي في اللحظة الأخيرة من يوم ٣١ ديسمبر. لذا قد يكون من عدم الحكمة أن نَفترِض أن الأنواع الواعية على الكواكب الأخرى ستكون قد قضت زمانها بالطريقة نفسها.

ندرة التكنولوجيا ( قيمة صغيرة)

تبني العديد من الأنواع الأرضية أشياءَ (النحل، الدبابير، النمل الأبيض، طيور التعريشة، القنادس) أو تستخدِم الأشياء الموجودة في بيئاتها كأدوات (ثعالب الماء، الشمبانزي). شاهَدَ الباحثون الغربان وهي تُشكِّل العصيَّ في صورة خطافات، وحتى إنها تُجمِّع عدة أجزاء منها لتصنَع أداة.18 غير أن البشر وحدَهم هم مَن يَتعاونون لتحسين الأدوات بمرور الوقت.

في وقتٍ ما من القرن التاسع عشر، توصَّلنا إلى صيغةٍ لفِعل ذلك بمعدلٍ مُتسارع، ويبدو اليوم أن التقدُّم التكنولوجي المُتسارع يكاد يكون طبيعيًّا. لكنه بالطبع من الناحية التاريخية بعيد كلَّ البُعد عن كونه طبيعيًّا. استخدم النياندرتال مجموعة الأدوات الأساسية نفسها من الشفَرات الحجرية والمطارق لمدة ١٢٠ ألف سنة مع القليل من الابتكار طوال ذلك الوقت. لذلك مِن المُمكن بالتأكيد أن نتخيَّل وجود كواكب يَصنع سُكانها الواعون الأدوات، ولكنَّهم لا يُصبحون أبدًا مُهندسين مُتحمِّسين، أو حيث يكون التحسُّن بطيئًا جدًّا لدرجةٍ لا تُؤدي أبدًا إلى اختراع الطاقة البخارية، ناهيك عن سفن الفضاء أو الاتصالات الراديوية.

وبصفتي صحفيًّا تكنولوجيًّا يعتقد أن اختراعاتنا لديها إجمالًا تأثير قوي دائم، أميل إلى الاعتقاد بأن الذكاء، واللغة، والعِلم، والهندسة حزمة شاملة؛ كلٌّ منها يُسهِّل اكتساب ما يَليها، وبمُجرَّد أن تبدأ في هذا التسلسل، تُصبح في طريقك إلى النجوم.

لكنني أعتنق هذا الرأي فقط لأنَّني نشأتُ في عصرٍ من الانتصارات التكنولوجية المُذهلة. إنه التأثير الانتقائي للراصد في تطبيقِه العمَلي. علينا أن نقبل احتمال أنه لا تُوجَد أنواع في المجرَّة حقَّقت تقدمًا أكثر ممَّا حقَّقنا أو حتى نَقبل أننا وصلنا إلى الدرجة العُليا في سُلَّم تطوُّرنا، وأنَّنا لن نُصبح أبدًا ثقافة ترتحِل بين النجوم.

من هذا المُنطلَق يقلب التفسير التالي لمفارقة فيرمي قواعد اللعبة. إنه يفترض أن قيَمَ و و كبيرة، وأن الحضارات التكنولوجية يُمكنها أن تنشأ، وقد نشأت بالفعل ولكن عقبات أخرى تضع سقفًا لتطوُّرها.

من المحزن أن أقول إننا ابتكَرنا في عصر ما بعد الحرب الباردة المزيد من الطرق للقَضاء على أنفسنا؛ أو على أقل تقدير إرجاع أنفسنا إلى الوراء لبضعة قرون.

انتهاء‏ الحضارات التكنولوجية ( عمر قصير)

عندما جلس دريك وساجان وباقي أعضاء جماعة الدلافين لمُناقشة القِيَم التي ينبغي تعيينها للحدود على سبورة دريك، كان ذلك عام ١٩٦١، بالقُرب من ذروة الحرب الباردة. كان غزو خليج الخنازير قد فشل قبل بضعة أشهر. وكانت أزمة الصواريخ الكوبية قد اندلعَت قبلَ ما يقلُّ عن عام. وعندما وصلوا إلى الحد ، وهو عمر الحضارة القادِرة على التواصُل، تحوَّلت أفكارهم بطبيعة الحال إلى الإبادة النووية. إن أيَّ نوع حقَّق تقدُّمًا بما يَكفي لاكتشاف موجات الراديو سيكون قد اكتشف أيضًا بالتأكيد مقدار الطاقة الكامنة في النوى الذَّرِّية وكيفية إطلاقها عبر سلسلة من تفاعُلات الانشطار أو الاندماج.
لا عجب أنه عندما مثَّل ساجان في وقتٍ لاحق مُعادلة دريك بالرسم في كتابه «الكون»، استخدم سحابة فِطرٍ كي يَرمُز للحد . إليك كيف فكر في المسألة:
يصعب استبعاد احتمال أن نُدمِّر أنفسنا غدًا. إذا افترضنا أنَّ هذه حالة نموذجية، وأن التدمير كان كليًّا لدرجةٍ لا يُحتمَل معها أن تظهَرَ حضارة تكنولوجية أخرى — من البشر أو من أيِّ نوع آخر — خلال السنوات البالغة خمسة مليارات سنة أو نحو ذلك المُتبقية قبل موت الشمس. إذن ، وفي أي وقتٍ مُحدَّد لن يكون هناك سوى عددٍ قليل مُتناثر، حفنة يُرثى لها من الحضارات التكنولوجية في المجرة. … من شأن الحضارات أن تستغرِق مليارات السنين في تطوُّر مُتَعَرِّج لتنهض، ثم تُهلك نفسها في لحظة إهمال لا يُغتفَر.19

من المحزن أن أقول إننا ابتكرنا في عصر ما بعد الحرب الباردة المزيد من الطرق للقضاء على أنفسنا؛ أو على أقلِّ تقدير إرجاع أنفسنا إلى الوراء لبِضعة قرون. فبالإضافة إلى التهديد الذي لا يَزال قائمًا للحرب النووية، ثمَّة خطر الأوبئة الخارجة عن السيطرة، الذي يُسهِّله السفر بالطائرات النفاثة والحركات المناهضة للقاحات، وخطر الإرهاب البيولوجي المُتعمَّد أو الحرب البيولوجية، وما نجلبه لأنفسنا من أضرارِ تغيُّر المناخ التراكمية، بما في ذلك الجفاف وحرائق الغابات والعواصف العنيفة وارتفاع مُستوى البحر. وعلى الجانب الأكثر غرابة، يشعر بعض المُفكِّرين بالقلق من أن تُدمرنا الآلات الفائقة الذكاء أو من فقدان السيطرة على تكنولوجيا النانو أو إحدى تَجارِب فيزياء الجسيمات التي قد تتسبَّب في إحداث فجوةٍ في الفضاء.

وتلك هي فقط التهديدات التي يُمكن أن نتخيَّلها في مُستقبلنا القريب. ماذا قد يحدُث للحضارات بمجرد أن تبدأ في المجازفة بالسفر عبر المجرَّة؟ يقول أحد الحلول لمفارقة فيرمي إن المجتمعات المَجَرِّية تنهار دائمًا لأنه لا يُمكنها العثور على مناطق جديدة أو موارد جديدة بسرعةٍ تكفي لاستمرار مواكبة النمو السكاني.20 يقول حلٌّ آخر إنها محاصرة بالمرض أو الحالات الطبية التنكسية وأن الحال ينتهي بها إلى استخدام جميع مواردها في الرعاية الصحية.21 كما يقول حلٌّ آخَر إنها تموت من الملل بعد استنفادها كلَّ جديد يُمكن استكشافه.22 ويفترض حلٌّ آخر أنها تَبني مَسابر روبوتية ذاتية التكرار للمساعدة في الاستكشاف والاستعمار، ولكن هذه المسابر يُصيبها الخلل وتقضي على صانعيها وعلى الجميع.23
كل هذه الأفكار من شأنها أن تُصبح قصصًا مُسلية لروايات الخيال العلمي، ولكن بالنسبة إليَّ، فإنها تعكس مخاوفنا الحالية بشكلٍ أكبر من أيِّ قوانين متوقَّعة لبناء إمبراطورية مَجَرِّية. ثمَّة حل واحد يبدو أكثر إقناعًا، وهو حلٌّ بيئي؛ وهو فكرة أن «مناخ» درب التبانة يتطوَّر بمرور الوقت، مثله مثل مناخ أي كوكب. في التاريخ المبكر للمجرة، وفقًا لهذه الفكرة، ربما كانت انفجارات أشعة جاما وغيرها من الأحداث الكارثية الأخرى أكثر شيوعًا مما هي عليه اليوم، وهو ما يُؤدي إلى القضاء بانتظام على أشكال الحياة الناشئة عبر العديد من الأنظمة النجمية. لم تدخل المجرة في حالةٍ من الهدوء سوى في عصرنا الحالي، مما يعني أننا نشهد عددًا أقل من الكوارث وعددًا أقل من عمليات إعادة البدء. لا نرى حضارات أخرى حتى الآن؛ لأنها لا تزال في بداية الطريق (وكذلك نحن). وبفضل الحظ، سيكون لدينا الوقت الكافي لاكتشاف كيفية حماية أنفسنا قبل وقوع الانفجار التالي.24
في جامعة أكسفورد بإنجلترا، هناك منظَّمة بأكملها — وهي معهد مُستقبل الإنسانية — مُكرَّسة لدراسة هذه الأنواع من المخاطر الوجودية. أسَّسها الفيلسوف نيك بوستروم، الذي ليس فقط من أنصار أن البارزين، ولكنه أيضًا نشر كتابًا كاملًا عن التأثير الانتقائي للراصد.25 كتب بوستروم أنه يأمُل ألا نَكتشِف ميكروباتٍ أبدًا على المريخ أو على أي كوكب آخر. فمثل هذا الاكتشاف سيكون معناه بالنسبة له أن الحياة أمر شائع، ولكن لأنه يبدو أن الحضارات ليست شائعة، فلا بد أن نستنتج أن مُعظم الحضارات تُدمِّر نفسها أو تُدمِّرها عوامل خارجية.26
تُعد حجة بوستروم، بدورها، نسخة من فكرة تُسمَّى «المرشح العظيم»، التي كان أول مَن اقترحها هو الاقتصادي روبن هانسون في عام ١٩٩٨. كتب هانسون أنه لأنَّ الفضاء يبدو فارغًا وميتًا، فلا بد أن يُوجَد «مُرشح عظيم بين الموت والحياة المتوسِّعة المستمرة»؛ أي لحظة شديدة الخطورة يجب أن يمرَّ خلالها أي نوع مُتقدم. بالنسبة للبشرية، فإن السؤال المُهم هو ما إذا كنا قد تجاوزنا هذا المرشح بأمانٍ في تاريخنا التطوري أم أنه لا يزال يلوح في الأفق. من منظور المرشح العظيم، سيكون من السيئ للغاية العثور على أي دليلٍ على وجود حياة خارج كوكب الأرض؛ لأن ذلك سيكون علامة على أن التطوُّر سهَّل الحدوث (بعبارة أخرى، أن قيم و و كبيرة) وأن أكبر تحدياتنا الوجودية لا تزال تَنتظرنا (أي إنَّ أقصر مما قد نرغب في أن يكون). لخَّص هانسون الأمر قائلًا: «كلما كان من الأسهل أن تتطور الحياة إلى مرحلتنا الحالية، كانت فُرَصُنا المستقبلية أكثر قتامةً على الأرجح.»27
إنها حُجة مُثيرة للاهتمام، لكنَّها، في نظري، لا تتسم بالنضج ومفرطة في التشاؤم. أولًا، لكي تؤمن بسيناريو المرشح العظيم، عليك أن تَقبل أن الفضاء ميت وفارغ حقًّا؛ أي إن الكائنات غير الأرضية ليست فقط تبدو غير موجودة، بل إنها غير موجودة بالفعل أو نادرة الوجود للغاية. لكننا لا نستطيع أن نقول ذلك حتى الآن. هناك الكثير من المجهولات المعروفة والمجهولات المجهولة. وعليك أيضًا أن تَعتقِد أن المرشح العظيم أمر فظيع لدرجة أنه لا يُمكن لأي حضارة التنبؤ بقدومه والتغلب عليه. تلك فكرة مُحبِطَة وانهزامية. أنا أؤيد الفيزيائي ديفيد دويتش، الذي يقول: «يكاد لا يُبدع أحد في المجالات التي يتبنَّى فيها وجهة نظر تشاؤمية.»28 والآن وقد أصبح لدينا العلم — أي طريقة موثوقة لطرح أسئلة أفضل، وجمع المزيد من المعرفة، وبناء تفسيرات أفضل، وابتكار طرق أكثر تأثيرًا للسيطرة على العالم — أصبح من المعقول الاعتقاد بأننا في مسار تصاعُدي لا يُمكن إيقافه، ولتذهب انفجارات أشعة جاما والمرشحات العُظمى إلى الجحيم.

الحضارات التكنولوجية تنمو ببطء

لكن ربما لا يكون التوسُّع حتميًّا. تتعامل الفئات الثلاث التالية من الحلول المُمكنة لمفارقة فيرمي مع المسألة بطريقةٍ مختلفة تمامًا. إنها لا تضع أية شروط لحدود معادلة دريك. وبدلًا من ذلك، فإنها تفترض أننا «لسنا» وحدنا، وتسعى لتوضيح السبب وراء أن جيراننا المُفترَضين لا يزالون غير مُكتشَفين.

تتمثَّل إحدى الطرُق في التشكيك في إحدى مُقدمات فيرمي الرئيسية، وهي فكرة أن المجرَّة كانت موجودةً لفترة طويلة بما فيه الكفاية لاستعمار حضارةٍ واحدة على الأقل لها بالكامل. عندما تُفكر في الأمر، تجد أن بناء الإمبراطوريات سمة إنسانية بالأحرى. وقد يكون هناك أنواع عديدة من الأسباب التي لا تجعل للمُجتمعات خارج كوكب الأرض دافعًا نَهِمًا للتوسُّع.

قد يكُونون نُسَّاكًا ولا يَرغبون في مُغادَرة كواكبهم أو التواصُل مع كائناتٍ ذكية أخرى.29 ربما يكون كوكبهم، مثل كوكب الزُّهرة، غائمًا دائمًا؛ ومن ثمَّ لم يُطوِّروا عِلم الفلك أو السفر عبر الفضاء.30 ربما يحسبون مُسبقًا أن النمو الدائم سيكون مُكلِّفًا للغاية أو غير مُستدام.31 أو ربما قد يُحاولون بالفِعل عبور المجرَّة، ولكنَّهم يَكتشفُون أنهم لا يملكُون الموارد أو قوة الإرادة للاستمرار.32 (ملاحظة: أمرُّ بإيجاز على كل هذه التفسيرات، غير أنَّ كلًّا منها قد اقترَحه باحثون جادُّون ووُصِفَ بإسهابٍ في المجلات التي تخضع لمراجعة الأقران.)
لمفهوم التوسُّع البطيء بعض الصور المُختلفة المثيرة للاهتمام. ربما يَبني كل جنس خارج كوكب الأرض مصفوفة للواقع الافتراضي ويَنغمسون فيها لدرجةٍ لا تجعل لدَيهم رغبةً في استكشاف العالم الحقيقي.33 ربما هم سعداء بتلسكوباتهم، وقرَّروا أنهم يستطيعون اكتشاف كل ما يُريدون معرفته عن الكون من دون السفر إلى الفضاء.34 ربما تنزلق مجتمعاتهم دائمًا في الشمولية، ويَفقدون الدافع الإبداعي أو الرأسمالي اللازم للتوسع.35 ربما لا تزال المجرة تحتوي على تجاويف أو فجوات لم تخترقها الكائنات غير الأرضية، وربما تصادَفَ أن يكون نظامُنا الشمسي واحدًا منها.36 تُشير عمليات المحاكاة الرياضية الحديثة إلى أن المجرَّة يمكن أن تكون مُستوطَنة بالكامل بشكلٍ أو بآخَر، غير أنها لا تزال تتناثر فيها مناطق لم تُكتَشَف لملايين السنين.37

أو ربما — كي نعود إلى الفكرة التي اقترَحها فيرمي بنفسِه لحلِّ المُفارقة — ثمة عدد لا بأس به من الحضارات في المجرة، ولكن كلُّ ما هُنالك أنها بعيدة لدرجة تجعل السفر إليها أو التواصُل معها أمرًا لا يستحق العناء.

قد تتساءل أين أخفق طلاب معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في تمرين معادلة دريك الذي ذكرتُه في بداية هذا الفصل. كما ذكرت، لقد خمَّنوا أنَّ ، وأن ، وأن ، وأن . وقد ذهبوا إلى تقدير أن (أي إن الذكاء يظهر على كوكب واحد من بين كل ألف كوكب مأهول)، وأن (ستة من كل ١٠ أنواع ذكية تُطوِّر تكنولوجيا متقدمة)، وأن مليون سنة. وبإدخال كل هذه القيم، كان تقديرُهم النهائي لقيمة هي ١٦٨٧٥ حضارة قادرة على التواصُل في درب التبانة.

إذا كان هذا هو العدد التقريبي الصحيح، فقد يُساعد في توضيح سبب عدم تواصُلنا حتى الآن مع كائنات غير أرضية على الرغم من نشرنا عن غير قصد ما يُعَدُّ بطاقات اتصال — إشارات الراديو والتليفزيون الأرضية التي تتسرَّب إلى الفضاء — لأكثر من ٨٠ عامًا.

افترض أن المجرة عبارة عن أسطوانة مسطحة جدًّا نصف قُطرها ٥٠ ألف سنة ضوئية وارتفاعها ألف سنة ضوئية. سيكون حَجمُها تقريبًا ٧٫٨٥ × ١٠١٢ سنة ضوئية مكعبة. لو كان هناك ١٦٨٧٥ حضارة قادرة على التواصُل داخل ذلك الحجم، وإذا كانت موزَّعة بالتساوي (وهو على سبيل التبسيط المُفرط لأنَّ مركز المجرَّة ربما يكون غير مُلائم للحياة)، فإن مُتوسِّط المسافة بين أيِّ حضارتَين قادرتَين على التواصُل هو ٨٧٠ سنة ضوئية.38
نحن نعلم بوجود كوكب خارجي ضخم يُشبه الأرض يَبعُد عنا تلك المسافة بالضبط في كوكبة الدجاجة. يُسمَّى الكوكب «كيبلر-١٢٢٩ بي»، وهو عبارة عن عالَم صخري يَزيد نصفُ قُطره على نصف قُطر الأرض بنحو ١٫٤، ويدور داخل المنطقة الصالحة للعيش لنَجمِه، الذي هو قزم أحمر.39 فإذا كانت هناك حضارة على «كيبلر-١٢٢٩ بي»، وإذا كانت تلك الحضارة تَمتلِك تلسكوبًا يُمكنه تتبع الأحداث على الأرض، فإنه في هذه اللحظة من عام ٢٠٢٠ سيكون سُكَّانه يَنظُرون إلينا في عام ١١٥٠ عندهم، أي مُباشرةً بعد انتهاء الحملة الصليبية الثانية بالفشل الذريع والإذلال لملوك أوروبا المسيحيِّين. ولن تصلَ أقدم إشاراتنا التليفزيونية إليهم قبل عام ٢٨٠٦، وحتى لو استجابوا على الفور، فلن نَسمع ردَّهم قبل عام ٣٦٧٦.
وبعبارة أخرى، «الفضاء كبير»، واقتباسًا من دوجلاس آدامز: «كبير باتِّساع وضخامة وعلى نحو يذهل العقل».40 ما لم يكن عدد الحَضارات القادرة على التواصُل في المجرَّة بعشرات الآلاف، أو تكون قد أعدَّت محطات استماع آلية، فقد لا يكون هناك ما يكفي من الوقت لوصول إشاراتنا إليها. إن ما يُسميه علماء الفيزياء «مخروطنا الضوئي المستقبلي» ببساطة لم يمتدَّ بعيدًا جدًّا. وفي مجرة مُنخفِضة الكثافة، لن تعرف هذه الحضارات الأخرى أننا هنا أو أننا مشغولون ببناء أجهزة الراديو والصواريخ والتساؤل عن الكائنات الفَضائية.

(بالطبع لا يحدُّ حجم المخروط الضوئي المُستقبَلي للأرض من الإشارات «الواردة». لا يعتمد ما إذا كان بإمكاننا الْتقاط الإشارات الراديوية أو الضوئية من الحضارات الأخرى سوى على مدى بُعدها وزمن بدء إرسالها. فعلى سبيل المثال، إذا كان هناك نظامٌ نجميٌّ مأهول يَبعُد ثلاثة آلاف سنة ضوئية، لكن الحضارات في ذلك النظام لم تبدأ في البثِّ سوى قبل ألفَي عام، فلن تكون رسائلها قد وصلَت لنا حتَّى الآن).

الحضارات التكنولوجية غير راغبة في التواصُل

من الطرق الأخرى للخروج من المُفارقة افتراض أن عدد الحضارات القادِرة على التواصُل معنا كبير ولكن العدد الذي «يختار» التواصُل معنا صغير.

ما لم يكن عدد الحضارات القادِرة على التواصُل في المجرَّة بعشرات الآلاف، أو تكون قد أعدَّت محطات استماع آلية، فقد لا يكون هناك ما يكفي من الوقت لوصول إشاراتنا إليها.

على سبيل المثال، ربما هناك الكثير من الكائنات الفضائية، غير أنها جميعها قد تركت أنظمتها النجمية الأصلية داخل المجرة للتسكُّع في مكانٍ أكثر أمانًا وسلامًا، مثل حافة المجرة. أو ربما يكونون من البدو الرحَّل يُسافِرُون في أنحاء الفضاء بسفنٍ عالَمية يُزوِّدُونها بالوقود باستخدام سُحب الغاز الموجودة بين النجوم؛ فإذا لم يكن لديهم حاجة للكواكب، لما كانوا ليهتمُّوا بأمرنا.41
وإحدى أكثر الأفكار إثارةً للقلق في هذه السيناريوهات هي أن تَبقى معظم الحضارات صامتةً لعلمها بوجود قُوى خبيثة تعمل في المجرة، ولذلك لا تجرؤ على لفت الانتباه إليها.42 يُولي العلماء انتباهًا أكبر لهذا الاحتمال الآن بفَضلِ موجة جديدة من المُقترحات لإرسال رسائل إلى الفضاء لإعاقة عمل البحث عن ذكاء خارج الأرض وحث الكائنات الفضائية على الاستجابة. (كما ذكرت في الفصل الثاني، تُسمَّى هذه العملية METI، مُراسَلة ذكاء خارج الأرض. يُطلِق عليها أحيانًا «البحث النشط عن ذكاء خارج الأرض»).
بالنسبة إلى مُعارضي هذه العملية، قد يكون الصمت العظيم بمَثابة علامةٍ على أن الرعب يسود المجرة. ومن باب الحيطة، كما يقولون، ربما يجب أن نتجنَّب الإفصاح عن وجودنا. كتب مارك بوكانان، أحد كتَّاب الأعمدة في مجلة «نيتشر فيزيكس»، عام ٢٠١٦ يقول: «يُمكن أن تكون العواقب وخيمة، لأنَّ أي حضارة ستَكتشِف وجودنا من المرجح أن تكون متقدمةً للغاية من الناحية التكنولوجية، وقد لا تميل للتعامل معنا بلطف.»43 في الواقع، يخشى بعض العلماء من أن أيَّ شكلٍ من أشكال التواصُل مع كائنات غير أرضية من شأنه أن يعود علينا بالسوء سريعًا. حذَّر عالم الكونيات الراحل ستيفن هوكينج في أحد الأفلام الوثائقية عام ٢٠١٠، قائلًا: «إذا زارتنا الكائنات الفضائية، ستكون النتيجة مثلما حدث عندما نزل كولومبوس على أرض أمريكا، لم يكن الأمر جيدًا لسكان أمريكا الأصليين.»44

من الصعب تحديد الجانب المُذنِب أكثر بشأن الاستسلام للتحيزات، والمخاوف، والآمال البشرية؛ أولئك الذين يَفترضون أن الكائنات الفضائية ستكون وحوشًا إمبريالية شرِّيرة (شاهد الأفلام «حرب العوالم» («ذا وور أوف ذا ورلدز») [١٩٥٣]، «فضائي» («إليان») [١٩٧٩]، «يوم الاستقلال» («إندبندانس داي») [١٩٩٦])، أم أولئك الذين يَفترضون أنها ستُظهِر إحسانًا إلهيًّا («٢٠٠١: ملحمة الفضاء» («٢٠٠١: سبيس أوديسي»)، «لقاءات قريبة مع النوع الثالث» («كلوز إينكونترز أوف ذا ثرد كايند»)، «اتصال» («كونتاكت»)). وبدلًا من محاولة التحليل النفسي للكائنات التي لم نلتقِ بها بعدُ، علينا أن نُجري مناقشةً هادئة وعقلانية حول مزايا مراسلة ذكاء خارج الأرض مع الاستمرار في برامج الاستماع الحالية، وهو نشاطٌ يحتاج الآن إلى ما يُعرَف بالمصطلح المُركَّب نقليًّا «البحث السلبي عن ذكاء خارج الأرض».

وفي الوقت نفسه، هناك تفسيرات ذات صِلة للصمت العظيم لا تَنطوي على القدْر نفسه من التوقُّع. ربما تعرف الحضارات خارج كوكب الأرض بوجودنا، وكل ما هنالك أنها ليست مُهتمة بالقَدرِ الذي يجعلها تتواصَل معنا. في نهاية المطاف، إذا اكتشفت وجودنا، فمن المُحتمَل أن تكون مُتقدمة للغاية من الناحية التكنولوجية، فما الذي يُمكننا أن نُقدِّمه لها؟ قد تُعجبها الأديبة سيلفيا بلاث، والمُغني برنس، وطبق الباذنجان بجبن البارميزان، لكن ليس من المُحتمَل أن تحتاج إلى ألواح الأسقف أو الدراجات الكهربائية.

ثم هناك فرضية حديقة الحيوان، التي تُسمَّى أحيانًا فرضية الحظر. إنها أحد أقدم الحلول لمفارقة فيرمي وأشهرها، وقد كان أول مَن وضعها بالتفصيل العِلمي عالِم الفلك الراديوي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا جون بول في عام ١٩٧٣. إنها حُجة بالمناظرة. كتب بول يقول: «نحن لا نَبذُل دائمًا الطاقة التي نمتلكها. أحيانًا نُخصِّص مناطق برية، أو محميات، أو حدائق حيوان يُسمح فيها للأنواع الأخرى بالتطوُّر بشكل طبيعي.» إذا شعرت الكائنات خارج الأرض أننا — الأرضيين — بحاجة إلى المزيد من الوقت «للتطوُّر» قبل أن نكون مُستعدِّين للدخول في علاقاتٍ ذات مغزًى معها، فربما ستُطوقنا تمامًا قدْر الإمكان لأنه، كما قال بول: «حديقة الحيوان المثالية … هي تلك التي لا تتفاعَل فيها المجموعات الحيوانية مع حراس الحديقة، أو تُدرك وجودهم».45

طرح مؤلِّفو الخيال العِلمي أفكارًا مُماثلة قبل وقتٍ كبير مِن ظهور ورقة بول البحثية. تخيل فيلم «٢٠٠١: ملحمة الفضاء»، المُقتَبَس من رواية آرثر سي كلارك بعنوان «الحارس» (١٩٥١)، أن للأرض حراس حديقة حيوانٍ ترَكوا مفتاح البوابة الأمامية في شكل عمود مونوليث مدفون على القمر. يقول «المدير الرئيسي» — الذي ذُكِر لأول مرة في إحدى حلقات مسلسل «ستار تريك» في عام ١٩٦٦ — إنه لا يُمكن لأفراد منظَّمة «ستارفليت» التدخُّل في التطور الاجتماعي للثقافات الأقل تقدمًا (إلى أن يتطوَّروا هم أنفسهم، وإلا فسيصعب التكهُّن بالعواقب).

إنها فكرة مريحة. فهي تقول إن الصمت العظيم شديد الهدوء لأنه مُصمَّم ليكون على هذا الحال. بل إنها فكرة مُغرية كذلك، على نحوٍ ما؛ لأنها تقول إنَّ الحضارة المتقدمة تعتقد أننا نستحق الحفاظ علينا بشكلنا الأصلي غير المُلوَّث. وفي نهاية المطاف، نحن نفعل الشيء نفسه عندما نحاول عزل القبائل المنقطعة عن العالم في منطقة الأمازون الكولومبية أو شمال جزيرة سينتينل.

لكن مصدر الراحة في الفِكرة هو أيضًا موطنُ ضَعفها. إذا كانت الكائنات غير الأرضية المزعومة عازمة على الاختباء منَّا، فلن نتمكَّن أبدًا من إثبات الفرضية أو دحضها إلى أن تأتي لحظة خروجنا من حديقة الحيوان. هذه أخبار سيئة للعلم الحديث الذي يتبنَّى على نطاقٍ واسع مبدأ «قابلية الدحض»، الذي قدَّمه الفيلسوف كارل بوبر في عام ١٩٥٩. يقول المبدأ إنه لكَي تُوصَف نظرية ما بأنها نظرية علمية، يجب أن تتضمَّن في ذاتها طريقة تُظهِر أنها ربما تكون خاطئة. عادةً ما يتم تجنُّب الفرضيات غير القابلة للدحض؛ لأنه لا تُوجد طريقة لتصميم تجارب لاختبارها. (على الرغم من ذلك، هناك أفكار، مثل نظرية الأوتار، تَحظى بشعبيةٍ عِلمية كبيرة على الرغم من كونها غير قابلة للاختبار بالسُّبل التكنولوجية الحالية.)

علاوة على مُشكلة قابلية الدحض، تتطلَّب فرضية حديقة الحيوان أن يتعاون «كل» مجتمع و«كل» فردٍ في «نادي المجرة» المُفترَض للحفاظ على الحجر الصحي قائمًا. إنها مشقَّة كبيرة يتعيَّن عليهم المُضي فيها، نظرًا لضخامة مخروطنا الضوئي الماضي. تخلُّ أفكار كهذه بمبدأ عدَم الحصرية، الذي يقول إنه ينبغي علينا التشكُّك تجاه السيناريوهات التي تتطلَّب مستوًى عاليًا من التوافُق للعمل عندما يكون التنوع هو القاعدة المُعتادة في الطبيعة.46 (تنطبق الانتقادات نفسها على العديد من التفسيرات الموضحة حتى الآن.)

حلول جامحة

جميع حلول مُفارقة فيرمي التي ذكرتُها حتى الآن لها جوانبها الإيجابية والسلبية. وفي الفصل القادم والأخير، أعرض فئةً من الحلول الأكثر إقناعًا لي من بقية الحلول. (أجل، إنَّني أحتفظ بالأفضل للنهاية). ولكن قبل المُضيِّ قدمًا، أودُّ أن أذكر المزيد من الأفكار العشوائية بهدف إكمال الطرح. جميعها قُدِّمَت كتفسيراتٍ مُحتمَلة للمفارقة، ولكنِّي أرى أنها أفكار غريبة، أو جامحة، أو غير مُرجَّحة، أو غير مُرجَّحة إلى حدٍّ كبير، أو مجرَّد غباء تام. لك الحكم عزيزي القارئ.

الأطباق الطائرة: يقول هذا الحل بخطأ مُقدمة فرضية فيرمي القائلة بأن الكائنات الفضائية لم تَزُر كوكبنا. فإن كانوا هنا بالفِعل ويذهبون ويجيئون في أنحاء الكوكب بواسطة الأجسام الطائرة غير المُحدَّدة الهوية (التي نادرًا ما يتمُّ رصدها)، فإنه لا تُوجَد مفارقة. ونظرًا إلى أنه يبدو من المستحيل الكتابة عن البحث عن ذكاء خارج الأرض دون التطرُّق لهذه المسألة، دعوني أقولها للعلن: مجرد وجود جسم مجهول الهوية لا يعني أن مَن يقوده كائنات فضائية. لا يُوجَد مثال واحد على رؤية جسم طائر غير محدَّد الهوية أو زيارة مزعومة أو حادث اختطاف من قِبَل كائنات فضائية يُمكن لعالِم موضوعي أن يستند إليه كي يصِل إلى تفسيرٍ غير أرضي قبل أن يلجأ إلى التفسيرات الأرضية أو النفسية.

لا يوجَد مثال واحد على رؤية جسم طائر غير محدَّد الهوية أو زيارة مزعومة أو حادث اختطاف من قِبَل كائنات فضائية يُمكن لعالِم موضوعي أن يستند إليه كي يصل إلى تفسيرٍ غير أرضي قبل أن يلجأ إلى التفسيرات الأرضية أو النفسية.

قِطَع أثرية فضائية: تُشبه هذه فكرة الأطباق الطائرة، باستثناء أنها تقول بزيارة الكائنات الفضائية لكوكبنا قبل آلاف السنين وأنها ساهمت في بناء الأهرامات أو في نقش خطوط نازكا في بيرو. من بين العديد من أوجُهِ القصور الأخرى، تُعدُّ هذه الفكرة إهانة لأسلافنا ولمهاراتهم الفنية والمعمارية. ولكني أُوافق على أنه يجب أن نظلَّ في حالة بحثٍ عن أجسام من أصلٍ خارج النظام الشمسي في أماكن أخرى من النظام الشمسي.
المبدأ الأنثروبي القوي: الفِكرة هنا هي أن الكون قد وجِدَ لنا وحدنا. ليس من قبل إله، بالطبع، بل بالأحرى يبدو أن جميع المعايير والثوابت المهمَّة في الفيزياء قد ضُبِطت جيدًا للسماح بظهور البشر أو، في الواقع، لاستلزام ظهورهم بصفتهم مُراقِبين واعين. هذا المبدأ في جوهره هو مبدأ التأثير الانتقائي للراصد — والذي عادةً ما يكون فخًّا — وقد تمَّ تعديله وصياغة تفسير منه.
فرضية القبة السماوية: تقول هذه الصورة المختلفة على نحوٍ خبيث من فرضية حديقة الحيوان إن المجرة تعجُّ بنشاطٍ فضائي مرئي، ولكننا غير مُدركين لذلك؛ لأن الكون الذي نراه هو عبارة عن تجسيدٍ أو وهم صُمِّمَ ليُبقينا في الظلام. ليس من الواضح ما إذا كان صاحب هذه الفكرة — وهو الإنجليزي مؤلِّف الخيال العلمي ستيفن باكستر — كان يعني ذلك بجديةٍ أم لا. فحتى هو يتَّفق على أن هذا الوهم لا يُمكن أن يبقى لفترةٍ طويلة بمجرَّد أن يشرع البشر بجدية في السفر عبر الفضاء؛ لأن «المحاكاة المثالية المطلوبة ستَتجاوز قُدرات أي صانع للواقع الافتراضي يُمكن تصوره.»47
فرضية المحاكاة: ماذا لو لم تكن السماء هي المحاكاة، ماذا لو كنا «نحن» المحاكاة؟ فكرة أن واقعنا بأكمله هو محاكاة لواقع افتراضي صنعَتْه كائنات غير أرضية فائقة الذكاء قدَّمها نيك بوستروم وآخرون، وقد روَّجَت لها مؤخرًا شخصيات مثل إيلون ماسك.48 وفي رأيي أن هذه الفرضية هي مُنتَج آخر لهوسنا وقلقنا المُعاصِرَين، ومثال على توغل استعارات الخيال العلمي في الحياة اليومية. أثَّر في مواليد ثلاثينيات القرن العشرين فيلم «حرب العوالم» («ذا وور أوف ذا ورلدز»)، بينما أثَّر في مواليد جيلنا فيلم «المصفوفة» («ذا ميتريكس») (١٩٩٩).
حُجة يوم القيامة: في عام ١٩٩٣، نشر عالِم الفيزياء الفلَكية في جامعة برينستون، جيه ريتشارد جوت، ورقةً بحثية في مجلة «نيتشر» مُعلنًا بثقةٍ بنسبة ٩٥ بالمائة أن الجنس البشري سوف يَنقرِض في وقتٍ ما بعدما يَتراوح بين خمسة آلاف سنة إلى ثمانية ملايين سنة من الآن.49 لم يكن يَملِك بلورة سحرية تُوفر له أيَّ رؤيةٍ خاصة على تطوُّر الأمور. لقد استند في تنبُّؤه إلى الفكرة التي هي على ما يبدو فكرة كوبرنيكية والقائلة بأنه إذا رأيت شيئًا ما في لحظةٍ عشوائية من الزمن، فمن غير المُحتمَل أن تكون رؤيتك له في بداية عُمره أو نهايته. في الواقع، يُمكنك بسهولة حساب ذلك؛ لأنك ربما لم تظهر في الربع الأول أو الأخير من عمر الشيء؛ فهناك فرصة نسبتها ٥٠ بالمائة أن يستمر الشيء في الوجود زمنًا يُعادل ثلث إلى ثلاثة أمثال عمره الحالي. أتاح هذا الحساب لجوت التنبؤ في عام ١٩٦٩ بأنَّ ثمَّة احتمالية بنسبة ٥٠ بالمائة لتهدُّم جدار برلين بحلول عام ١٩٩٣، وفي الواقع، كما نعلم، فقد سقط الجدار في عام ١٩٨٩. تقول الحسابات نفسها إن هناك احتمالًا بنسبة ٩٥ بالمائة أن يستمر الشيء المرصود (الإنسانية، في حالة ورقة مجلة «نيتشر» البحثية) من واحد على ٣٩ إلى ٣٩ مرة أخرى من عمره الحالي، ومن هنا جاء تقديره بين خمسة آلاف إلى ثمانية ملايين سنة. وبتطبيق المنطق نفسه على البحث عن ذكاء خارج الأرض وجماعات الكائنات الفَضائية، خلص جوت إلى أنه لا يُمكن أن تُوجَد أي حَضارات تُغطي المجرة بأكملها أو حتى العديد من الحضارات بعدد سكانٍ أكبر من حضارتنا؛ لأنه إذا كان هناك حضارات كهذه، فالأرجح أنك أنت نفسك (الراصد العشوائي) ستكون فردًا من أفراد تلك الحضارات. كانت حساباته بسيطة ويصعب دحضها، ولكن من الصعب أيضًا تقبُّلها. وأحد الأسباب وراء ذلك هو أننا لا نَعرف ما إذا كنَّا في موضع الراصد العشوائي أم لا.50
العيش في فقاعتنا الصغيرة: تنشأ هذه الفكرة من نظرية التضخُّم في عِلم الكونيات التي تتنبَّأ بأن الرُّقعة الزمكانية التي نَعيش فيها عبارة عن «كون فقاعي» نشأ كتقلُّب صغير في الفراغ وأن هناك عددًا لا نهائيًّا من الأكوان الفقاعية الأخرى التي يتعذَّر الوصول إليها من كوننا. إذا كانت فكرة «تعدُّد الأكوان» هذه صحيحة، فسيكون هناك عدد لا حصر له من الأكوان التي يُوجَد في كل منها حضارة واحدة مُتقدمة فقط، وعدد لا نهائي ولكنه أقل من الأكوان التي يُوجَد في كلٍّ منها حضارتان أو أكثر من الحضارات المتقدمة، وعدد لا نهائي ولكنه أكبر بكثير من الأكوان التي لا يُوجَد بها أيُّ حضارات مُتقدمة. من منظور تعدُّد الأكوان، فإن احتمال وجودنا في أحد الأكوان الفقاعية التي بها أكثر من حضارة متقدِّمة واحدة هو صفر في الأساس؛ فالأرجح كثيرًا أنَّنا في كون ليس به سوى حضارة واحدة (نحن). هل هذا مزيد من خداع الرياضيات؟ ربما.51
التَبَذُّر الشَّامِل أو البانسبيرميا: لقد ذكرت بالفِعل فكرة أن الحياة الموجودة على كوكب الأرض قد بدأت في الأساس على كوكب المريخ. هذه الفِكرة هي صيغة محدودة من فكرة التَّبَذر الشَّامِل، وهي النَّظرية القائلة بأن التولُّد التلقائي حدث في مكانٍ ما غير الأرض وأن الحياة وصلَت إلى هنا بعد السفر عبر الفضاء، ربما برعاية سلالة قديمة من ناثِري بذور الكواكب. إنه حلٌّ بديهي لمفارقة فيرمي من حيث إنه يقول «إنَّ الكائنات الفضائية موجودة، وهي نحن». لكنه لا يقول أيَّ شيءٍ عن فُرَص وجود كائنات في عوالم أخرى. حتى إنه لا يُجيب عن سؤال كيف بدأت الحياة؛ كل ما هنالك أنه يدفعه خطوة للخلف.
الثقوب السوداء: في هذا السيناريو، لا نرى أي حَضارات خارج الأرض؛ لأنها جميعًا تعيش بالقُرب من ثقوبٍ سوداء أو حتى داخلها. في هذه المناطق، يكون كلٌّ من المكان والزمان والطاقة والمادة مضغوطة، ما يجعل الحساب وغيرها من العمَليات أسرع وأسهل من الناحية النظرية.52
التسامي: يقول هذا الحلُّ إننا لا نرى كائنات غير أرضية لأنها تطوَّرت إلى شكلٍ لا يُمكننا أن نُدركه أو نفهمه. قد تكون ذات طبيعة ما بعدَ بيولوجية، وقد حمَّلت عقولها على أجهزة كمبيوتر، بأسلوب التفرُّد. في الواقع، سيكونون كالآلهة. إنه مفهوم كامن في التصوُّف. ربما تكون الكائنات الفضائية التي تقدَّمت غير مُهتمة بنا وغير مفهومة «لنا»، لذلك لست متأكدًا من أنه علينا تضمينها في مجموعة الكائنات التي نُحاول اكتشافها. إلى جوار التسامي، يُوجَد اقتراح عملاق الخيال العلمي البولندي ستانيسواف لِم القائل بأن الحضارات القديمة جدًّا تَمتزِج في الخلفية، بالمعنى الحرفي. إذ تُصبح تكنولوجياتها غير قابلةٍ للتمييز عن الطبيعة، و«نعتبرها عملياتٍ لقوانين الفيزياء»،53 على حدِّ تعبير تشيركوفيتش. إنها فكرة تُذهِل العقل، لكني لا أعرف كيف يُمكننا اختبارها، ما لم نُصادف بعض العلامات الواضحة لأمور اصطناعية داخل الواقع، مثل رسمٍ تخطيطي لدائرة كاملة مُدمجة في أرقام العدد باي (وهي فكرة تظهر في نهاية رواية «اتصال»).

•••

على أقل تقدير، تُمثل مجموعة الأفكار الواردة في هذا الفصل عرضًا للخيال البشَري. يُمكننا التفكير في عدة طرق تُؤدي لنتيجة مفادها أننا وحدَنا في هذا الكون.

تستمر جهود البحث عن ذكاء خارج الأرض في العودة خالية الوفاض، وربما يَظهر أن أحدَ هذه التفسيرات في النهاية هو التفسير الأقوى. أو قد يتَّحد عدد قليل منها؛ فقد يكون وجود الذكاء نادرًا كما اعتقَدَ فيرمي، «إضافة إلى» أن التوسُّع بين النَّجمي قد يكون أمرًا صعبًا كما اعتقد.

الطريقة الوحيدة السهلة للخُروج من المفارقة هي التقاط إشارة من خارج كوكب الأرض أو الكشف عن أثرٍ من مصدر خارجه. حينها سنُواجه مجموعةً مختلفة من الأسئلة، حول ما إذا كنا سنُنشئ منظومة تَواصُلٍ ثُنائية الاتجاه وحول كيفية فعل ذلك. لكن على الأقل ستَنتهي عُزلتنا.

آمُل أن يكون قد اتَّضح في هذه المرحلة من الكتاب أن أكبر الشُّكوك حول وجود كائنات غير أرضية لم تَعُد الشكوك الفيزيائية بشأن ما إذا كان هناك ما يَكفي من الأماكن الصالحة للعيش لتطور كائنات ذكية أخرى أم لا، أو ما إذا كانت الحياة تتَّسم بالصلابة والإبداع الكافيين لانتشارها في أنحاء الكون. ملأ علماء الفلك وعلماء الأحياء الفلَكية أجزاءً كبيرة من تلك الصورة في العقدَين إلى الثلاثة عقود الماضية. وقد يكون من السابق لأوانه رفْض فرضية الأرض النادِرة، لكن جميع المؤشِّرات تدعو إلى التفاؤل. تتمحوَر التفسيرات المُتبقية للصمت العظيم حول مسائل أسهل مثل كيفية تطوُّر الإدراك، وما يستلزِمه الأمر كي يُصبح أحد الأنواع متطلعًا لما هو خارج كوكبه ويمكنه العمل على تحقيق أحلامه للسفر بين النجوم، وما هي الحواجز السياسية، أو الاقتصادية، أو البيئية، التي قد تقف في طريق نموِّ المجتمع على المدى الطويل للغاية، وكيف يُحتمَل أن نتواصَل مع كائنات مختلفة عنَّا تمامًا.

إذا امتدَّ خيالنا إلى التفكير في الطريقة التي ربما تتعامل بها المجتمعات المتقدمة مع هذه المسائل؛ فذلك لأننا لم نحلَّها نحن البشر أنفسنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤