الفصل الثاني

كل الأشياء الطيبة لا بد أن تنقضي

جلس بنجامين جومبيرتز في الحانة شاعرًا بالارتباك وعدم انتمائه للمكان. ارتشف قدحًا من الجعَّة وهو يحرك أصابعه بعصبية شديدة فوق إبزيم حزامه. على بُعد عدة أقدام منه تجلس مجموعة من البحَّارة المنهمكين في الحديث بصوت عالٍ أجش، وعلى طاولة قريبة يخفض رجل ممتلئ الجسم رأسه على الطاولة. يُظهر رداؤه أنه بنَّاءٌ للطوب، وكانت أصابعه الغليظة متشابكة بإحكام حول إبريقه حتى وهو نائم. لا يتعدى جومبيرتز الثامنة عشرة من عمره، لكن حوله فتية أصغر سنًّا تعتريهم حالات متباينة من الثمل. تقع هذه الحانة في قلب مدينة سبيتالفيلدز، متوارية وراء مناطق موانئ السفن في لندن وعلى مقربة من كنيسة وستمينستر بما يجعل أجراسها على مرمى السمع. والعام هو ١٧٩٩.

يجلس جومبيرتز منتظرًا شخصًا قابله لأول مرة في اليوم السابق؛ هو بائع للكتب المستعملة يشاركه الاهتمام الشديد بعلم الرياضيات. كان الرجل قد أخبره عن «جمعية سبيتالفيلدز للرياضيات»، وهي مجموعة من الأشخاص يجتمعون في الحانات المنتشرة في جميع أنحاء مركز المدينة الذي تشغله الطبقة العاملة. ويفِد الأعضاء إلى الحانة واحدًا تلو الآخر على نحو مستمر، وسرعان ما يجتمع اثنا عشر رجلًا شابًّا بجدية حول الطاولة ذات الحواف الخشنة وينخرطون في مناقشة حول علم الرياضيات. ثمة قاعدة واحدة فقط يخضعون لها، حسبما أوضحوا، وهي أن أي شخص يتلقَّى تعليمًا من الجمعية لا بد أن يوافق على أن يكون معلمًا أيضًا. وإن طرح أحد الزملاء سؤالًا، فلا بد أن يحاول زملاؤه البحث عن إجابة له وإيجادها وإلا فسيدفع بنسًا. هذه الغرامة التافهة تُوجِد روحًا تعاونية مذهلة وتبادلًا سريعًا للأفكار. كان جومبيرتز يهوديًّا؛ لذا لم يُسمح له بالالتحاق بالجامعة، لكنه صار هنا وسط المجال الملائم له ونجح فيه.

حين يبلغ جومبيرتز من العمر ٤٠ عامًا سيتغلب على أصوله المتواضعة ويُنتخَب عضوًا بالجمعية الملكية. وفي العام التالي سيقدم بحثًا يطبِّق الحساب التفاضلي على متوسط العمر المتوقع. سيتمكن بعد ذلك من حساب احتمالية وفاة الشخص، وفقًا لعمره. ستكون تلك هي المرة الأولى التي يجري فيها إخضاع التقلب الظاهري الذي يتسم به الموت للمنطق، ومن ثمَّ يصير الموت قابلًا للتنبؤ به. وفي وقت لاحق سوف تستخدم صناعة التأمين التي قوامها تريليون دولار قانون الفناء الذي وضعه جومبيرتز.

***

(١) منجل الحاصد

(١-١) اتقاء الموت

إن كان الجسد قلعةً، فإنها مخترقة من منتصفها بواسطة طريق عام مزدحم؛ إذ يجري استبدال خلايانا كل سبع سنوات. ومع تقدمنا في العمر يكون من الصعب العثور على جند جدد مفعمين بالنشاط؛ لذا تظهر على القلعة علامات التمزق والتهالك. وفي النهاية تبدأ أجزاؤنا المتحركة في التعطل، وتتعرض جدران الخلايا للانتهاك من خائنين يخربون الآلة الوراثية. لم ينعم أوائل البشر برفاهية القلق من النخر البطيء الذي تُحدِثه الشيخوخة، إذ كانوا يَلقون حتفهم بفعل العدوى أو المخاض أو التقاتل. فالحياة القصيرة تجعل التركيز ينصبُّ على العيش.

تضاعف متوسط العمر المتوقَّع عند الولادة على مدار التاريخ الإنساني لأكثر من ثلاثة أضعاف. لم يترك أسلافنا القدماء للغاية سوى عدد قليل من العظام المتناثرة التي يمكن دراستها، لكن من المحتمل أن يعود أول العوامل المحفزة لطول العمر إلى تسخير النار منذ حوالي ٥٠٠ ألف عام. لقد وفَّر لنا طهي اللحوم والأسماك الحماية من العديد من الطفيليات التي يمكن أن تقتل الإنسان أو تقلِّل عمره. ومن عصر إنسان نياندرتال والعصرين البرونزي والحديدي، اللذين انتهيا في العام الأول للميلاد، توجد أدلة على ذلك من القبور التي دفن فيها الموتى. يوضح تحليل الهياكل العظمية أن متوسط الأعمار كان ٣٠ عامًا، في حين بلغ أقصى معدل للأعمار ٤٥ عامًا. وعلى مدار العصور الوسطى نادرًا ما احتوت قبور عمال الحقول من الشعب الأنجلوساكسوني على بقايا أي شخص عاش أكثر من ٤٥ عامًا.

وحتى عصر النهضة، تراوح متوسط العمر المتوقع عند الولادة ما بين ٢٥ و٣٠ عامًا فحسب، مع انخفاض متوسط العمر بسبب معدلات وفيات الأطفال المرتفعة. وكما هو الحال في كل عصر، كان الثراء يعود بفائدة؛ فالحكَّام وأعضاء المحكمة الملكية الإنجليزية يقدمون صورة مستمرة لطول العمر بدءًا من عام ١٠٠٠ إلى عام ١٨٠٠. لقد ظل متوسط العمر المتوقع لهم ٥٠ عامًا على مدار ثمانية قرون. وإن استطاعوا اجتياز مرحلة الطفولة وقسوة الحرب كان متوسط العمر المتوقع بعد سن ٢١ عامًا هو ٦٥ عامًا؛ لذا عاش العديد من الأثرياء حتى العقد الثامن والتاسع من أعمارهم، وكان الأمر مماثلًا لدى عدد لا بأس به من الفقراء. لكن دعنا لا نشعر بالتفوق أكثر مما ينبغي؛ إذ عُثر على حوت مقوس الرأس عام ٢٠٠١ مغروس فيه طرف رمح صيد، وبتحليله إشعاعيًّا وُجد أنه يرجع إلى عام ١٧٩٠. لقد عاش الحوت أكثر بكثير من ٢٠٠ عام.

ثمة حقيقة مذهلة تحويها البيانات المتعلقة بطول العمر، فمع أن جميع أشكال الزيادة تقريبًا تحققت على مدار الأعوام المائتين الماضية، فقد نتجت في الغالب عن انخفاض معدل وفيات الأطفال. بعبارة أخرى، إنها لخرافة أن أسلافنا القدماء تحملوا الحياة التي وصفها الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز بأنها «بغيضة ووحشية وقصيرة». لقد كان الطب بدائيًّا في فترة ما قبل التاريخ، لكن العادات الشفهية وفَّرت إطار العمل اللازم لتصنيف سبل العلاج بالأعشاب. كان الوعي بها واستخدامها يتباين حسب الحياة النباتية المحلية المميزة للعصر، ومع هذا فسنندهش إذا أعددنا قائمة جزئية بها: إذ كانت الفطريات تُستخدم كمليِّن وكعلاج للطفيليات المعوية، وإكليل الجبل لتنظيم ضغط الدم، ومادة الكورار للاسترخاء العضلي، ونبات قفاز الثعلب للحد من التورم وكمادة منبهة، وكذلك كان عشب ذَنَب الأسد مستخدمًا لعلاج الربو. وكان الطمي يستخدم لتشكيل جبائر بسيطة لتثبيت العظام.

لا شك أن بعض سبل العلاج تجعلنا نقشعر خوفًا. استخدمت قبائل معينة في الأمريكتين النمل كبير الحجم لإعداد أول شكل من غُرَز الجروح. كانت النملة توضع على الجرح وتعض عليه، ثم يُفصل جسم النملة عن رأسها كي يظل فكها قابضًا على الجلد بإحكام. ومارست الثقافات في جميع أنحاء العالم نشر الجمجمة. في هذه العملية المثيرة للامتعاض، تُستخدم أدوات مصنوعة من الصوان في عمل ثقب قطره خمسة سنتيمترات في الجمجمة. كان نشر الجمجمة يستخدم فيما يبدو لعلاج مشكلات الصداع الحادة والصرع، أو ببساطة من أجل طرد الأرواح الشريرة. إن إعادة نمو الثقب وحقيقة أن الأشخاص احتفظوا برقعة الجمجمة معهم كتعويذة للحظ يوضِّحان أن معظم الناس استطاعوا البقاء على قيد الحياة بعد هذا الإجراء الذي كان يؤدَّى بالطبع دون الحصول على أي مخدر.

لم تكن الحضارة هي الترياق الشافي لجميع أسقام البشر كما يتخيل معظم الناس؛ فالشروح الإثنولوجية لسكان مجتمعات الصيد وجمع الطعام الحديثة والسجل التاريخي الأثري للقبائل البائدة توضِّح أنهم كانوا يحصلون على حصص أعلى من السعرات الحرارية ويتمتعون بنظم غذائية أكثر توازنًا مقارنة بالمواطنين المعاصرين لدول العالم الثالث أو فقراء المدن في البلدان الصناعية. إن السمات الأساسية للنظام الغذائي لهؤلاء الأشخاص المعتمدين على الصيد وجمع الطعام — الوجبات المشبِعة والدهون القليلة ونسبة البوتاسيوم المرتفعة والصوديوم المنخفضة والسعرات الحرارية المنخفضة بالنسبة للعناصر الغذائية الأخرى — كانت تعمل بدورها على حمايتهم من الإصابة بمرض السكر ومشكلات الجهاز الدوري والمرض التنكُّسي والسكتات الدماغية التي تصيب الشعوب القليلة الحركة. وأظهر البدو مستويات أقل من الطفيليات مقارنة بسكان المدن، كما لم تجد الأمراض المنتشرة مثل السل والملاريا والطاعون الدبلي بيئة غنية لها بين مجموعات السكان الصغيرة والمنعزلة. وأخيرًا، عانت الحضارات الثابتة عجزًا فاجعًا في الموارد مثلما عانت هجرة السكان حتى وقت قريب جدًّا. لقد بولغ في تقدير أهمية التحضر.

(١-٢) الطب يهب للإنقاذ

يبدأ قَسَم أبقراط بما يلي: «أُقسم بأبولو الطبيب وأسقلبيوس وهيجيا وبانكيا وجميع الأرباب والربات، وأُشهدهم بأنْ أبرَّ بهذا القسم بقدر ما تسمح به قواي وقدراتي.» كانت بانكيا الربة التي عبدها المرضى الذين كانوا يأملون في الشفاء، وهيجيا الربة التي عبدها الأصحاء الذين أرادوا البقاء على هذا الحال. ومع حلول العلم محل خرافة عمرها ٢٤٠٠ عام، تحقَّق الهدف النبيل من القسم.١
كانت الزيادة التي تحققت في عصر الطب الحديث في متوسط العمر المتوقع ضخمة، فبعد قرون تأرجح فيها متوسط طول العمر ما بين ٣٠ و٤٠ عامًا (مع انخفاض كبير أثناء وباء الموت الأسود)، بدأ هذا المتوسط يزيد باطراد في العالم الغربي في منتصف القرن التاسع عشر (الشكل ٢-١). ذهبت النظرية الجرثومية إلى أن الكائنات الحية الدقيقة التي تنتقل ما بين الخلايا هي سبب العديد من الأمراض. فنَّد لوي باستير فكرة التولُّد التلقائي البديلة، وقدَّم روبرت كوخ — الطبيب الألماني الذي حاز جائزة نوبل — دليلًا مقنعًا على النظرية الجرثومية، لكن استغرقت ترجمة أفكاره إلى ممارسات طبية عملية عدة عقود.
fig7
شكل ٢-١: متوسط العمر المتوقع عند الولادة لملَّاك الأراضي من الذكور في إنجلترا ما بين عامي ١٢٠٠ و١٤٥٠م ولكلا النوعين في إنجلترا وويلز ما بين عامي ١٥٤١ و١٩٩٨. لم يكن متوسط العمر، البالغ ٣٥ عامًا لمعظم الناس خلال أغلب تلك الفترة، أكبر منه أثناء العصور الرومانية. ويرجع تضاعف متوسط العمر المتوقع أثناء القرن الماضي غالبًا إلى انخفاض معدل وفيات الأطفال، ويرجع حديثًا إلى النجاح في مكافحة بعض أمراض الشيخوخة. (Bjorn Lomborg, Aarhus University, and Cambridge University Press)

لحسن الحظ، حتى قبل تلك الأفكار الثاقبة، خمَّن طبيب أطفال مجري يدعى إجناز سيملويس أن الحمَّى التي أودت بحياة سيدة من بين كل ثلاث سيدات أثناء ولادتهن بالمستشفى قد انتقلت عبر الأطباء الذين كثيرًا ما كانوا يذهبون بعد تشريح إحدى الجثث إلى توليد إحدى السيدات دون غسل أيديهم. قلَّلت الإجراءات الطبية المحسَّنة بالمستشفيات من هذه الوفيات غير الضرورية للأمهات، لكنها لم تقللها عن نسبة الواحد بالمائة المعتادة في حالة ولادة الأطفال على يد قابلات ذوات خبرة.

دفع التحسُّن المستمر في مستوى المعيشة والنظام الغذائي والممارسة الطبية متوسط العمر المتوقع بقوة أكبر على مدار القرن العشرين٢ ففي عام ١٩٠٠ لم تنجح نسبة ١٠٪ من الأطفال الرضَّع في البقاء على قيد الحياة بعد عامهم الأول، ولم تنجح نسبة ٢٠٪ في البقاء على قيد الحياة بعد سن الخامسة. أما بحلول عام ٢٠٠٠ فقد بلغت النسبتان ٠٫٧ و٠٫٨٪ على التوالي. حملت سبل الرعاية الطبية المتطورة أخبارًا طيبة أيضًا للأمهات؛ إذ انخفض معدل وفاة الأمهات إثر عمليات الولادة من نسبة ١٪ إلى نسبة ٠٫٠١٪؛ أي بمعدل سيدة واحدة فقط من كل ١٠ آلاف سيدة.

كان يمكن لمن وُلدوا عام ١٩٠٠ أن يتوقعوا أن يعيشوا حتى سن الخمسين، في حين يُتوقع للطفل الذي وُلد عام ٢٠٠٠ أن يعيش حتى سن الثمانين. أدى أمران إلى الوصول لهذا الحال؛ أولهما هو النجاح الهائل في مكافحة الأمراض المعدية القابلة للانتقال. لقد تسبَّب السُّل في وفاة ٢٠٠ من كل ١٠٠ ألف شخص عام ١٩٠٠، لكنه لم يعد أحد أسباب الوفاة الرئيسية بحلول منتصف القرن. وتسبب الالتهاب الرئوي والأنفلونزا معًا في وفاة أعداد مماثلة عام ١٩٠٠، لكن انخفضت أعداد الضحايا عشرة أضعاف بحلول نهاية القرن. لم يعد أحد يسمع الآن بوجود مرض الكوليرا والجدري في الولايات المتحدة أو في بقية دول العالم الصناعية. قد تبدو القيادة أمرًا محفوفًا بالمخاطر، لكنها بالفعل أكثر أمانًا مما كانت عليه. ففي عام ١٩٣٠، سجَّل معدل الوفاة جراء حوادث الطرق وفاة ٢٥ شخصًا من كل ١٠٠ ألف شخص، في حين يسجل الآن أرقامًا أقل بنسبة ٤٠٪، على الرغم من زيادة عدد السيارات في الطرق عشرة أضعاف ما كانت عليه.

العامل الثاني هو اختلاف طرق وقوع المرض. قابَل انخفاض معدلات الوفاة جراء الأمراض المعدية في منتصف القرن العشرين زيادة في معدلات الوفاة جراء الأمراض المزمنة. والأسباب الرئيسية للوفاة بين الأمريكيين الآن هي أمراض القلب والسرطان، التي تسجِّل معدل وفاة حوالي ٣٠٠ و٢٠٠ شخص على التوالي من كل ١٠٠ ألف شخص.٣ كانت الأمراض القاتلة القديمة غير مرئية، لكن على الأقل كان هناك عامل مسبب واحد، أما الأمراض القاتلة الجديدة فلها شبكة معقدة من الأسباب وعوامل الخطر.
لقد أصبحنا ضحايا لنجاحنا في مكافحة الأمراض سهلة العلاج نسبيًّا، لقد تباطأ معدل زيادة طول العمر. ففي حين زاد متوسط العمر المتوقع عند الولادة بمقدار ١٨ عامًا من عام ١٩٠٠ إلى ١٩٥٠، لم يزدد إلا بمقدار ٨ سنوات من عام ١٩٥٠ إلى ٢٠٠٠. وارتفعت معدلات الوفاة بين الأمريكيين بسبب السرطان من ٦٥ شخصًا من كل ١٠٠ ألف شخص عام ١٩٠٠ إلى ٢٠٠ شخص من كل ١٠٠ ألف شخص عام ٢٠٠٠، فيما ظلت معدلات الوفاة جراء أمراض القلب والأوعية الدموية ثابتة عند نحو ٣٤٠ شخصًا من كل ١٠٠ ألف شخص (الشكل ٢-٢).
fig8
شكل ٢-٢: شهدت الأسباب الرئيسية للوفاة في الولايات المتحدة تغيرات هائلة بين عامي ١٩٠٠ و١٩٩٧ نتيجةً لدحر الأمراض التقليدية المعدية والقابلة للانتقال وظهور أمراض قاتلة أكثر مكرًا كمرض القلب والسرطان، التي لها شبكة معقدة من الأسباب. يمكن نسب جزء من التغيير ببساطة إلى ازدياد معدل طول العمر. ولا يزال معدل الوفاة جراء الحوادث ثابتًا؛ على الأقل لم نزدد إهمالًا. (Centers for Disease Control and Prevention, National Center for Health Statistics)

مع ذلك، تخفي الأرقام الأولية لمعدلات الوفاة نجاحًا تحقَّق بكفاح شديد. إن معدلات الوفاة جراء الأمراض المزمنة في سن الثمانين أعلى بألف مرة عنها في سن العشرين؛ إذ إنه مع زيادة الأعمار يموت عدد أكبر من الأشخاص جراء هذه الأمراض. وفي الولايات المتحدة انخفضت معدلات الوفاة المعدلة حسب الأعمار والناتجة عن أمراض القلب في الولايات المتحدة منذ ستينيات القرن العشرين بسبب الوعي بأخطار التدخين وفوائد التمرينات الرياضية والنظام الغذائي الملائم، وبلغت معدلات الوفاة المعدلة حسب الأعمار والناتجة عن السرطان ذروتها في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، وهي تنخفض ببطء منذ ذلك الحين. يبدو أن هناك بالفعل تأثيرًا لتريليونات الدولارات التي أُنفقت على العلاج والوقاية.

ثمة تفاوت كبير في متوسط العمر المتوقع على مستوى العالم، وهو يرجع إلى عدم المساواة في توزيع الثروة وفرص التمتع برعاية طبية وتغذية جيدة.٤ يتسبب الفقر ومرض الإيدز في الإبقاء على متوسط العمر المتوقع للمرء في بوتسوانا وسوازيلاند ما بين ٣٣ و٣٤ عامًا. على الجانب الآخر المعاكس تمامًا، تعد دولتا أندورا وسان مارينو الصغيرتان أفضل الأماكن التي يمكن العيش فيها؛ إذ يعيش الناس هناك حتى سن ٨٢ إلى ٨٣ عامًا. وفي روسيا يسجل الرجال المرتبة رقم ١٦٦ في جدول الترتيب العمري على مستوى العالم؛ إذ لا تتجاوز أعمارهم ٥٩ عامًا، وهو معدل يقل ١٤ عامًا عن المرأة الروسية. أحيانًا يكون التباين شديدًا داخل الدولة نفسها؛ فمتوسط العمر المتوقع للرجال في حي كالتون الفقير بمدينة جلاسكو يبلغ ٥٤ عامًا، وهو ما يقل بثمانية وعشرين عامًا عنه في مدينة لينزي الصغيرة ذات الموارد الوفيرة التي لا تبعد عنه إلا خمسة أميال. ثمة شيء رديء للغاية لا بد أنه وجد سبيله إلى غذاء الفقراء الاسكتلنديين.

(١-٣) المحتوم

إن احتمالات وفاتي أنا وأنت هي … لنرى … خذ الرقم ٥ وحدد الجذر التربيعي له، ثم ارفعه إلى الأساس ٢ … حسنًا … دعك من هذا السخف … ستكون النتيجة في النهاية: ١٠٠٪. لا مفر من الموت، لكن ما يتباين هو الطريقة التي سنموت بها؛ لذا من المجدي أن ننظر إلى أكثر وأقل مسببات الموت ترجيحًا.

على مستوى العالم، يقضي مرض القلب على حوالي نصف البشر، في حين تقضي الأمراض المعدية وأمراض الجهاز التنفسي على نحو ٣٠٪ منهم، فيما يقضي السرطان على ١٢٪، وتقضي الإصابات على نسبة ٦٪، أما بقية العوامل فمسئولة عن وفاة نسبة أقل من ٥٪. لكن تلك الإحصائيات تخفي حقيقة أن هناك «عالمين». في البلدان الصناعية يعد السرطان ومرض القلب السببين المهيمنين للوفاة، وفي عالم البلدان النامية يعد الإيدز أكبر الأمراض القاتلة، يليه عدوى الجهاز التنفسي السفلي ثم مرض القلب. وعلى نحو لا يُصدق، يقتل الإسهال من الأشخاص في العالم الثالث — وأغلبهم من الأطفال — عددًا أكبر مما يقتله السرطان في الغرب. وجميع الأسباب الرئيسية للوفاة في البلدان الفقيرة تقريبًا إما كُبح زمامها أو قضي عليها في البلدان الغنية.

على مستوى الدولة الواحدة تكون التباينات مذهلة، وكثيرًا ما تكشف عن معلومات مهمة؛ فعدد الأشخاص الذين يموتون جراء مرض القلب في غرب أوروبا، نسبة إلى عدد السكان، يقل مرتين إلى ثلاث مرات عنه في شمال أوروبا؛ وهذا يمكن أن يعزى إلى النظام الغذائي لدول البحر المتوسط. تسجل معدلات الوفاة بالسرطان قيمًا عالية في الدنمارك، لكنها منخفضة في فنلندا القريبة منها. إن كنت تريد أن تكون محاطًا بسكان ذوي أكباد صحيحة اذهب إلى هولندا أو النرويج أو نيوزيلندا. تعد القيادة أكثر خطورة في البرتغال وروسيا، وتكون أكثر أمانًا في السويد وإنجلترا. عليك بالابتعاد عن الشعب الروسي والمجري؛ الذين يقتلون أنفسهم بمعدلات تزيد غالبًا بسبع مرات عنها لدى الشعبين الإسباني والبرتغالي المبتهجين.٥
من المسلم به أن الخوف أمر غير عقلاني، لكن يبدو أننا عكسنا كل منطقه؛ فالقيادة إلى حد بعيد هي أكثر الأفعال التي نقوم بها يوميًّا خطورةً، لكن قليلًا من الأشخاص هم من يدركون هذا التهديد. القيادة هي السبب الرئيسي للوفاة بين المراهقين الأمريكيين. على الجانب العكسي، يرهب الكثيرون الطيران، لكن احتمال الوفاة بسببه هي شخص واحد من كل ١٩ ألف شخص، وبهذا سيكون عليك الطيران أسبوعيًّا طوال حياتك حتى تقترب تلك النسبة من خطر الوفاة بالسرطان. إن الخوف من الهجمات الإرهابية أمر سخيف جدًّا٦ ففي مقابل كل أمريكي يُقتل على يد إرهابي يموت ١٠ آلاف أمريكي على يد غير الإرهابيين، ومعظم أولئك الأشخاص غير الإرهابيين هم أشخاص نعرفهم، وعادةً ما يكونون من أقربائنا.
ثمة بعض الحقائق القاسية المؤكدة: فالبرودة أخطر من السخونة، وأعواد الأسنان أخطر من البرق، والسير مشيًا على الأقدام أخطر من النار، والأسرَّة أخطر من السلالم، والثعابين أخطر من الإرهابيين، وملابس النوم القابلة للاشتعال أخطر من لدغة النحل، وجوز الهند أخطر من سمك القرش.٧

إليك نصيحة عملية تعتمد على هذا المزيج المختلط من الإحصائيات: كشفت الجمعية الطبية الأمريكية أن معظم حالات الوفيات في الولايات المتحدة تنتج عن سلوكيات يمكن تعديلها، وإذا تناول الجميع غذاءً جيدًا ومارسوا التمرينات الرياضية وتجنبوا التدخين فسينخفض معدل الوفيات بمقدار الثلث.

تلك النصيحة بسيطة، لكنها غير واضحة قليلًا؛ لذا دعنا ندرس القائمة بعمق أكبر قليلًا ونرى ما قد تضعه في اعتبارك من تغييرات أخرى في أسلوب حياتك. تؤدي الإصابات العارضة إلى وفاة شخص واحد من كل ٣٦ شخصًا، ويعد السقوط خطِرًا إلى حد ما؛ لذا بمجرد أن تنتهي من تمريناتك الرياضية ابقَ داخل المنزل هادئًا واجلس على مقعد. العامل التالي في الخطورة هو أنت؛ إذ يحميك التفكير في أفكار سعيدة من الانتحار، ويمكنك تفادي مجموعة من الأخطار الطبيعية عن طريق اختيار المكان الملائم للعيش فيه؛ فمكان جيد مثل مدينة منسي بولاية إنديانا سيحميك من أخطار الزوابع والأعاصير والزلازل وأمواج تسونامي والغرق. وتكاليف السكن هناك قليلة أيضًا. صحيح أن احتمالات وفاتك بسبب حكم بالإعدام هي ١ من كل ٦٠ ألف شخص، لكنها ستنخفض عن ذلك كثيرًا لو اتبعت السلوك القويم.

من شأن التعمق أكثر من هذا في أسباب الوفاة أن يجعلنا مهووسين بالأمر، لكن لا يهم. إن خطر المياه يتناسب عكسيًّا مع مقدارها؛ لذا تعد أحواض الاستحمام أخطر من حمامات السباحة، والأخيرة أخطر من المحيط. قد يجدر بك الحذر من كوب الشاي أو القهوة! وارتدِ لباسًا مدرعًا من الأسبستوس غير الموصل للحرارة أو الكهرباء للتعامل مع مواقف على غرار هجمات الكلاب والعضات السامة والصدمات الكهربائية أو الطعن. قد تشكل المقامرة مشكلة أيضًا؛ فقد أشارت شبكة الإذاعة الوطنية العامة إلى أن احتمالات وفاة سكان مدينة نيويورك جراء العبور إلى نيوجيرسي لشراء تذكرة لجائزة يانصيب كبرى في تلك الولاية تزيد ١٧ مرة عن احتمالات فوزهم بتلك الجائزة. هذا سبب آخر يدعوك للاكتفاء بالجلوس في مقعدك.

وأخيرًا — وليست هذه بنصيحة نظرًا لأنه ليس لك حيلة بشأنها — من الأفضل لك أن تكون امرأة؛ فالنساء يعشن أطول من الرجال، وفيما يتعلق بالتهديد الرئيسي الذي يتعرضن له — وهو خطر الوفاة أثناء الولادة — فقد تحسنت معدلاته بفضل توفر رعاية طبية أفضل، علاوة على أنهن يتجنبن خطر الموت أثناء الحروب. الرجال هم أسوأ أعدائهن، لكن الرجال يتفوقون عليهن في معدلات تناول المشروبات الكحولية والتدخين وتعاطي المخدرات والموت خلف عجلة القيادة وقتل بعضهم بعضًا وقتل أنفسهم. نتيجة لذلك ظلت الفجوة العمرية بين الرجال والنساء في تزايد.

(٢) النجاح بالرغم من الصعاب

(٢-١) إيقاف الموت

جاهد البشر طيلة قرون عدة لتفهم جوانب الحياة التي يغيب عنها اليقين؛ ومن بينها توقيت الوفاة. كانت المؤسسات الخيرية موجودة دومًا كشبكة أمان، لكنها كانت غير مثالية وتشوبها العلل. ابتدع اليونانيون القدماء فكرة المعاشات، وأنشأ الرومان الجمعيات لسداد نفقات الجنائز، وبحلول العصور الوسطى كان يمكنك أن تدفع مبلغًا كبيرًا لأحد الأديرة وتعيش هناك بقية حياتك إن كنت تستطيع تحمل العزلة والصلاة المستمرة.

بدأ علم الموت عام ١٦٦٢ مع اكتشاف جون جونت — تاجر الأقمشة الذي عاش في لندن — لانتظام أنماط الوفاة بين مجموعات البشر على الرغم من انعدام اليقين الشديد بشأن الحياة المستقبلية لأي شخص بعينه. هذا يعيدنا مرة أخرى إلى قصة بنجامين جومبيرتز الذي سبق الإشارة إليه في بداية الفصل. استخلص جومبيرتز نظامًا حسابيًّا من تقلبات الموت، وقد اعتمد في عمله على عمل زملائه من أبناء لندن: إدموند هالي، الذي كان مغرمًا برصد المذنبات، واللاجئ الفرنسي أبراهام دي موافر، الذي لاحظ مع تقدمه في العمر أنه ينام لوقت أطول قليلًا كل يوم، واستطاع أن يتنبأ بتاريخ وفاته بدقة. توصل جومبيرتز إلى أن ما أطلق عليه اسم «قوة الموت» يتضاعف كل سبع سنوات بعد سن العشرين. هذه الصيغة الدقيقة جعلته أول خبير بشئون التأمين على الحياة على مستوى العالم (الشكل ٢-٣).
fig9
شكل ٢-٣: كان بنجامين جومبيرتز (١٧٧٩–١٨٦٥) أول خبير بشئون التأمين على الحياة في العالم. كان قانون الفناء الذي توصل إليه، والذي استخدمته شركات التأمين في جميع أنحاء العالم، شكلًا محسنًا من نموذج ديموغرافي وضعه توماس مالتوس. علَّم بنجامين نفسه بنفسه؛ لأنه حُرم من الالتحاق بالجامعة لأنه يهودي. (T. O’Donnell, History of Life Insurance in Its Early Years (1916))
إن التفكير بشأن حقيقة موتك أو الطريقة التي ستموت بها شيء ضار بالصحة، وهذا من قبيل المفارقة. قضى تولستوي سنوات عمره الأخيرة في قبضة الخوف الوجودي بالغة القوة، ومن الواضح أنها عجلت بنهاية هذا الروائي، ومع ذلك تسير الأمور في صالح الأشخاص الذين يحسبون تواريخ الوفاة. أشارت صحيفة وول ستريت جورنال منذ عدة سنوات إلى أن خبراء التأمين يندرجون ضمن أفضل الوظائف التي تتمتع بأقل معدلات التوتر وأعلى الرواتب وبيئة العمل الهادئة.٨ وعلى الجانب الآخر نجد الحطابين والصيادين؛ لذا إن كان يمكنك الاختيار فاعمل دومًا مع الأرقام وليس مع الطبيعة. وقد تجاوز جومبيرتز التوقعات الإحصائية؛ إذ عاش حتى سن ٨٦ عامًا.

لا يطيل خبراء التأمين التفكير في الموت؛ إذ تكمن مهارتهم في حساب المخاطر في العديد من المواقف، وهم معتادون على سماع الدعابات القاسية؛ على غرار القول إن خبير التأمين هو شخص أراد أن يكون محاسبًا لكنه لم يتمتع بدرجة كافية من الحضور الشخصي. يجسد فيلم «عن شميت» الذي عرض عام ٢٠٠٢ شخصية — لعب دورها جاك نيكلسون — لخبير تأمين مشاكس فقد لتوه زوجته. غضبت جمعية خبراء التأمين لدرجة دفعتها لنشر رد فعلها الرسمي التالي للفيلم على موقعها الإلكتروني: «إن تجسيد خبراء التأمين كأفراد ثائري الشعر ومهووسين بالرياضيات ومنعدمي العلاقات الاجتماعية هو تجسيد غير صحيح بنسبة ٩٧٫٢٨٨٩٢٪.» قد يأتي علماء الفلك خلف خبراء التأمين في الترتيب الأبجدي للمهن، لكنهم يفوقونهم بريقًا على الشاشة الفضية، ونستحضر هنا داريل هانا («روكسان»، ١٩٨٧) وجودي فوستر («كونتاكت»، ١٩٩٧) كنماذج حديثة.

(٢-٢) الشيخوخة لا ترحم أحدًا

التقدم في العمر يثير الضيق، وما يزيد تلك الحقيقة قسوةً هو الشك في أن فترة الشباب ضاعت هدرًا. على الأقل يكون معدل الضعف طفيفًا في مرحلة منتصف العمر، حتى إنني أستطيع تجاهل الفقد البطيء لمرونة الجسد والتآكل التدريجي لحدة حواسي (أو ربما لا أستطيع التذكر …) كانت المكاسب المتعلقة بطول العمر في القرن الماضي مبهرةً، لكن ثمة تراجعًا في المكاسب؛ إذ تزداد معدلات الوفاة بسبب المرض التنكسي والسرطان. وكما ذكر ييتس: «تتداعى الأشياء، ويعجز المركز عن السيطرة على الأطراف.» لقد صُدمنا جميعًا مما آل إليه حال تيثنوس على يد زيوس حين مُنح الخلود، لكنه لم يُمنح الشباب الدائم؛ نتيجة ذلك صار واهنًا خَرِفًا. فالشيخوخة تشبه الطريق الصخري الذي ينتهي بجدار، يمكننا تحريك الجدار للوراء قليلًا لكننا لا نستطع هدمه (إلا إذا كنت من مؤيدي الثنائية المتعصبين).

الشيخوخة عملية غامضة؛ فلم يتوصل أحد بعد لعملية بيولوجية أساسية تتحكم فيها، وتعقد كيمياء الخلايا والوراثة السكانية يجعلان من تحديد الأسباب الكامنة وراءها أمرًا صعبًا للغاية. ربما تتمثل المعضلة الكبرى في الفصل بين السبب والمسبب. على سبيل المثال، ليس هناك دليل واضح يؤيد الافتراض المغري للغاية الذي يذهب إلى أن المرض هو ما يسبب الشيخوخة والوفاة.

تندرج نظريات الشيخوخة ضمن فئتين: إما كسِمَة أو عِلَّة. في نظر المذهب الذي ينظر إلى الشيخوخة بوصفها علة أو «عيبًا» تحدث الشيخوخة نتيجة تدهور لا سبيل لتغييره على المستوى الخلوي؛ فالجسم نظام ميكانيكي كالسيارة، وفيه يسبب الخلل أو التأكسد أو أنواع أخرى من تلف الجزيئات تداعي أجزائه. يمكننا علاج صور المرض الفردية كالتهاب المفاصل والمياه البيضاء ومرض القلب — كما نصلح المحرك أو الفرامل أو نغطي طلاء السيارة بطلاء جديد — لكن يظل السبب غير قابل للعلاج. ومن وجهة النظر هذه يكون إجراء الأبحاث عن سبل مقاومة الشيخوخة أمرًا مضللًا؛ لأن التدهور أمر لا مفر منه.

تذهب نظرية الجذور الحرة إلى أن الشيخوخة تنتج عن الذرات والجزيئات التي تحمل إلكترونات منفردة. تنشأ العوامل المؤكسدة عن التفاعلات الأيضية بالخلية، وهي موجودة في البيئة، لكنها أيضًا غير مستقرة وشديدة التفاعل؛ لذا هي تؤدي إلى ضرر كيميائي بالغ داخل الخلايا. من المفترض أن تكون الشيخوخة هي التأثير التراكمي لتلف الجزيئات على آلية الخلية؛ بمعنى أن أجسادنا «تصدأ» من الداخل. من المؤكد أن الكثيرين مقتنعون بذلك؛ فمبيعات سوق المكملات الغذائية المضادة للأكسدة كفيتامين ج وفيتامين ﻫ بلغت ٣ مليارات دولار عام ٢٠٠٧، لكن بينما تلعب الجذور الحرة دورًا في أمراض معينة ذات صلة بالسن كالمياه البيضاء، قدمت التجارب ذات الشواهد التي أجريت باستخدام مضادات الأكسدة على الفئران نتائج غامضة، وليس هناك دليل على أن الجذور الحرة تسبب الشيخوخة بصورة عامة.

الفكرة البديلة هي أن الشيخوخة سمة جوهرية من سمات التطور؛ أي إنها عملية منظمة أو مبرمجة وراثيًّا. لقد ثبت أنه من الصعب تحديد الجينات المسئولة عن الشيخوخة، ومع ذلك فإن النمو والتكاثر والشيخوخة تعد مراحل ثابتة لدى العديد من الثدييات، وهو ما يشير إلى أن الشيخوخة هي نتيجة للبرنامج الوراثي الذي يتحكم في التطور. ثمة اضطرابات نادرة يتسبب فيها جين مارق واحد في زيادة معدل الشيخوخة لدى البشر، وهو ما يؤدي في بعض الحالات إلى الإصابة بأمراض قلبية حادة لدى المراهقين، وفي حالات أخرى يمكن لوقف نشاط جين واحد في الديدان والفئران أن يزيد من عمرها ستة أضعاف (الشكل ٢-٤).

يبدو أن التقدم في العمر يعارض نظرية التطور لداروين. لماذا قد يفضل التطور عملية تزيد من معدل الوفاة وتقلل من القدرة التناسلية؟ أحد الاحتمالات هو أنه يمكن اختيار الجينات التي لها عواقب سيئة في وقت لاحق من العمر ما دام لها مزايا في وقت مبكر من العمر. الاحتمال الآخر يطلق عليه اسم «الجسد المستغنى عنه»؛ إذ يكون من الأفضل تخصيص الموارد للتكاثر أكثر من الإصلاح في العالم المليء بالأخطار الخارجية. ومع أنه قد يكون مهمًّا أن نشرح القاعدة العامة القائلة إن الكائنات الحية تفقد لياقتها مع التقدم في العمر، فيمكننا أن نتعلم الكثير من الكائنات التي تتحدى تلك القاعدة.

(٢-٣) الاقتراب من الخلود

ليست الشيخوخة أمرًا حتميًّا أو شاملًا، وكمثال على تعقد الأمر، تدبَّر «حد هايفليك»؛ هذا الاكتشاف، الذي سمي باسم أحد باحثي علم الوراثة، يقول إن الخلية العادية في أحد المستنبتات تنقسم حوالي ٥٠ مرة قبل موتها، وهذا الحد يظهر لأن الكروموسومات جميعها تنتهي بجزء متكرر من الحمض النووي يطلق عليه اسم تيلومير. والتيلوميرات هي مستودعات من المعلومات قابلة للاستنفاد، وحين تنفد لن يعود في استطاعة الخلية أن تتكاثر، وهو ما يبدو أنه يدعم فكرة أن الموت على مستوى الخلايا أمر مبرمج مسبقًا. لكن التيلوميرات مفيدة أيضًا؛ لأنها تمنع الكروموسومات من الاندماج وإعادة ترتيب نفسها، وهو سبب رئيسي للسرطان، بدلًا من مجرد تكرار نفسها.٩
fig10
شكل ٢-٤: يوضح الشكل التداخل المعقد للعوامل المساهمة في الشيخوخة؛ إذ تظهر به كل من الآثار السلبية والإيجابية على اللياقة، التي تتجسد على صورة بقاء أطول ونجاح في التكاثر. من الصعب التحكم في تلك العوامل أو حتى فهمها في نوع واحد، لكن حين يتعلق الأمر بأكثر من نوع واحد يصير تباين البيئة عاملًا مهمًّا. (Carol Vleck, Iowa State University, and Springer)

يتسم النمط الظاهري للشيخوخة لدى البشر بفشل أي جهاز أو نسيج أو عضو، وحين تفشل «أضعف حلقة» للخلايا يكون الموت هو النتيجة. ينطبق هذا الأمر على المئويين أيضًا؛ فما من شخص يموت ببساطة جراء «الشيخوخة». فحين نتقدم في العمر نصير أكثر عرضة لأمراض معينة، لكن الشيخوخة ذاتها ليست مجرد مجموعة من الأمراض. والتركيز على أمراض بعينها يمكن أيضًا أن يشتت انتباه الباحثين عن الآليات العامة للشيخوخة التي تشمل جميع الأمراض.

بعض الأنواع لا يبدو عليها أنها تتقدم في العمر؛ فلدى طائر النوء ليتش — وهو طائر بحري صغير يعيش في المحيطات الشمالية — تيلوميرات تزداد طولًا مع التقدم في العمر، ومن ثم تعد خلاياه خالدة في جوهرها. أيضًا من المتعذر تمييز كبد ورئتي وكليَتَي سلحفاة مئوية عن أعضاء أخرى في منتصف العمر. وللسلاحف القدرة على التحكم في سرعة عملية الأيض لديها، ولو لم تقع فريسة لمرض أو لكائن مفترس فقد لا تشيخ. على نحو مماثل يهزم السمك الصخري وسمك الحفش وسرطان البحر الزمن؛ فالسمك الأكبر سنًّا ليس أضعف أو أقل رشاقة أو أكثر عرضة للمرض أو أقل لياقة على أي نحو من نظيره الأصغر سنًّا، وجميع تلك الأنواع تواصل النمو وتصبح أكثر خصوبة مع تقدمها في العمر. والمدى العمري لنوع واحد من السمك الصخري يتراوح من اثني عشر عامًا إلى ٢٠٠ عام، مع أن جميعها يعيش في البيئة نفسها.

كمثال حقيقي على الخلود، سنتحول إلى أحد أنواع قناديل البحر؛ عرضه حوالي ستة ملليمترات، وله معدة حمراء اللون على نحو زاهٍ، ومجسات يتراوح عددها من ٨٠ إلى ٩٠ مجسًّا. يعيش قنديل التيولا (اختصارًا لتيورتبسيس نيوتراكولا) في جميع أرجاء محيطات العالم. ويرجع سبب تفرده بين أفراد المملكة الحيوانية إلى تمتعه بدورة حياة منعكسة بعد الوصول لمرحلة النضج الجنسي؛ بحيث يعود بعدها إلى حالته البسيطة الأولى، وبمقدوره تكرار دورة الحياة هذه إلى ما لا نهاية، وبذلك لا يموت.

كيف تفعل هذه الحيوانات هذا الأمر؟ وما الميزة الانتخابية للتمتع بطول العمر؟ يستخدم سرطان البحر إنزيمًا خاصًّا يمنع تحلل التيلوميرات، ويمكنه تجنب الإصابة بالسرطان بطريقة ما. لقد أوجد السمك الصخري مضادات أكسدة خاصة به. السبب وراء ذلك غير معروف في كثير من الأحيان، لكن الآليات الانتخابية الطبيعية لطول العمر مفهومة. فكل من سمك بطلينوس الذي يعيش في المياه القطبية الشمالية وأشجار الصنوبر مخروطية الشكل يعيشان في ظروف مزدحمة، لكنها مستقرة يندر فيها وجود فرص جديدة للنضج. ومن المفيد للكائن من هذا النوع أن يُعمر أكثر من جيرانه؛ بما يتيح لنبتاته الصغيرة أو يرقاته أن تجد مكانًا للنمو، وهذا يوجد سباقًا للتسلح ضد الشيخوخة.

ما من حل بسيط للاختلاف بين وجهتي النظر اللتين تنظران للشيخوخة كعلة أو كسمة بيولوجية، فلو أن الشيخوخة تحدث نتيجة التلف التراكمي على مستوى الجزيئات، فلماذا يتلف جسد الفأر أسرع بمئات المرات من جسد الإنسان؟ قد تكمن الإجابة في وجود آليات إصلاح أفضل لدى الإنسان لم يتم التوصل إليها بعد. على الجانب الآخر يمكن لأحد الجينات أن يجعل من حامله أكثر قوة وذكاءً وأكثر مقاومة للمرض، لكنه لا يستطيع القضاء على جميع الأسباب الخارجية للتلف والتآكل في البيئة. لكن وجود الحيوانات دائمة الشباب والجينات القابلة للتحديد التي تنظم عملية التقدم في العمر يجعل الباحثين متفائلين بحذر بشأن قدرتنا في يوم من الأيام على أن نوقف تقدم عجلة الزمن، وأن نزيد نطاق عمر الإنسان عن مستوياته الحالية.

(٣) من التراب إلى التراب

(٣-١) الموت والاعتلال الجسدي

إن البدايات والنهايات جزء من نسيج الحياة وإيقاع الكون، لكن الزمن نفسه غامض على نحو بالغ. ينشأ إحساسنا اليقيني بسهم الزمن من العمليات الفيزيائية الأساسية. ليس للذرات المفردة عدادات زمنية، ويمكن لتفاعلات الجسيمات أن تحدث مع اتجاه الزمن أو على نحو معاكس له، إلا أن الصفة الطبيعية لمجموعات الذرات هي التقدم إلى الأمام بالتوافق مع مسار الزمن. يمكننا أن نتخيل أكوانًا بديلة — وهو افتراض بعيد لكنه مقبول من منظور الفيزياء — لا يتدفق فيها الزمن إلى الأمام، وفي هذا الصدد يتصادف أن كوننا لديه قصة يحكيها.

لكن القصة قد تكون عقيمة إن لم يكن هناك آذان تصغي إليها. إن الحياة واحدة من أروع سمات الكون. والفضاء هو حيز من الفراغ يكاد يكون مفتقرًا إلى نبض الحياة بصورة قاطعة. وليست العمليات البيولوجية ممكنةً بقدر ما نعلم إلا على سطح أحد الكواكب أو الأقمار الموجود على قرب مناسب من نجم ملائم. تمر الحياة مرورًا عابرًا، وما حياتنا نحن البشر إلى عمر الكون إلا كطرفة عين.

يمكن وصف تطور الكون بأنه عملية تقدم تدريجية إلى درجة أعلى من الأنتروبيا. والأنتروبيا مصطلح يضم في ثناياه كلًّا من الاضطراب والفوضى والعشوائية وفقد المعلومات. ظاهريًّا، يبدو أن العمليات البيولوجية تنتهك هذا التدرج؛ فحين يتحول شيء غير حي إلى آخر حي فهو يصير أكثر انتظامًا وذا بنية أكبر وقادرًا على ترميز المزيد من المعلومات، لكن الخلية أو الكائن الحي ليس النظام بأكمله. وللتحدث كما ينبغي عن الأنتروبيا والحياة البيولوجية لا بد من وضع تدفق الطاقة إلى الحياة ومنها في الاعتبار.

تستطيع الكائنات الحية أن تبقي على معدل الأنتروبيا لديها منخفضًا؛ لأنها تحصل على الطاقة في صورة غذاء. والنظام الذي تتمتع به مكتسب على حساب الاضطراب في العناصر الغذائية التي تستهلكها. في التمثيل الضوئي ينبع تنظيم الجزيئات الحيوية من الطاقة العشوائية لضوء الشمس. بدلًا من النظر إلى الأنتروبيا على أنها اضطراب، من المفيد بدرجة أكبر أن يُنظر إليها على أنها حرارة، وهي أكثر أشكال الطاقة عشوائية.١٠ في التمثيل الضوئي يحفز ضوء الشمس تفاعلًا كيميائيًّا دوريًّا، وتُنتَج الحرارة بالإضافة إلى سكر الجلوكوز. نحن والحيوانات الأخرى نشع الحرارة في البيئة، وهو الأمر الناتج عن زيادة معدل الأنتروبيا بالطاقة التي نستخدمها في العيش والنمو.
تعجُّ الأرض بالحياة، ومع أن الشمس قد لا تبدو بالشيء المهم لسكان المدينة، فإنها أساس هرم الحياة. فالمحيط الحيوي يحظى بطاقته من ضوء الشمس، وبهذا تُعدُّ الحياة على الأرض محطة حرارية وسيطة بين الطاقة المشعة الساخنة المركزة المنبعثة من سطح الشمس والمسار البارد المشتت للفوتونات المنخفضة الطاقة في الفضاء القائم بين المجرات (الشكل ٢-٥).
fig11
شكل ٢-٥: يبدو أن الوجود المستمر للمحيط الحيوي يعد استثناء للميل الكوني لزيادة الاضطراب. إن مصدر الأنتروبيا السلبية للحياة على الأرض هو الطاقة المنظمة والموجهة للضوء القادم من الشمس. فالفوتونات تنحل في المحيط الحيوي عند درجة حرارة وسيطة، وتتحرر في الفضاء كإشعاع حراري ذي درجة حرارة أقل، ومن ثم، تتحول فوتونات «المصدر»، بحرارتها البالغة ٥٨٠٠ درجة كلفنية، إلى فوتونات «خامدة» حرارتها ٣ درجات كلفنية. أيضًا يُوجَّه ضوء الشمس ولا يعترض المحيط الحيوي سوى واحد في المليار منه، لكن الكوكب يشع الحرارة في كل الاتجاهات مما يزيد من الأنتروبيا. (Marek Rowland-Mieszkowski, Digital Recordings)

تمدنا الأنتروبيا بإطار عمل مجهري يمكننا من فهم مرور الزمن؛ فثمة فقد عشوائي في دقة التفاعلات الجزيئية، وهو يتراكم ليفوق بصورة ثابتة نظم الإصلاح والصيانة. يعد مرض ألزهايمر مثالًا مؤسفًا على ذلك. يتجسد ازدياد الأنتروبيا في تلك الحالة في صورة شبكة من التغيرات التفاعلية المرتبطة بالعمر التي تطرأ على المخ وتولد تدهورًا عصبيًّا ومعرفيًّا لدى المسنين. ويمكن لنموذج بسيط لتولد الأنتروبيا في عملية الأيض لدينا أن يتنبأ بدقة بالمدى العمري للذكور والإناث.

لا مهرب من الأنتروبيا، لكن إن كانت الأنتروبيا سجانًا فنحن سجناء يتمتعون بأماكن معيشية مريحة وقدر كبير من الحرية. فالبيئة تحوي طاقة حرة وفيرة لإنشاء بُنى جديدة، ويمكن للكائنات الحية أن تحتاط مسبقًا ضد التحلل والموت لوقت طويل عن طريق آليات التكيف والإصلاح الجيدة. حاول فحسب أن تتجاهل أجزاء جسدك الواهنة.

(٣-٢) تجميد في الزمن

أكتب هذه الكلمات وأنا أبلغ من العمر ٥٣ عامًا. أنا أمارس التمرينات الرياضية، وأتناول طعامًا طيبًا على نحو معقول، ومنهمك بشدة في نسيج الحياة بما لا يتيح لي التفكير في الكيفية التي قد تنتهي بها، ومع أن لديَّ خيالًا قويًّا، فإنه ليس جيدًا بما يكفي لفك لغز ما سيحل بي بعد فنائي. يتحدث أشخاص ممن أعرفهم عن دخول الجنة ودورات الميلاد والوفاة والاستمرارية ككيان أثيري غير ملموس. وأنا أصغي إليهم باهتمام مهذب، لكنني كشخص لاأَدْرِيٍّ، لا أجد الأساس الذي يجعلني إما أؤمن بهذه الأفكار أو أنكرها.

إن حالفني الحظ فسأسخر من الأنتروبيا لمدة ٣٠ عامًا أخرى أو أكثر، لكن بمرور كل عام يموت حوالي ٦٠ مليون شخص ويبدو الأمر خسارة كبيرة. ماذا لو أمكنهم البقاء مع عائلاتهم، والاستمتاع بالموسيقى وسكون الفجر، ومواصلة العمل والإنتاجية؟ على الجانب الآخر، لو كان كل ما تفعله التكنولوجيا الطبية هو إضافة سنوات عجاف من التدهور إلى نهاية حياتنا، ربما ينبغي علينا استغلال الطاقة التي نبذلها في تجنب المحتوم واستثمارها في عيش الوقت الذي نتمتع فيه بقدراتنا على نحو مفعم بالنشاط. الموت شيء سيئ، لكن إطالة المحتوم قد تكون أسوأ.

من منظور مؤيدي منهج تجميد الجثث قد يبدو هذا الحديث انهزاميًّا. حتى سبعينيات القرن العشرين، كان ثمة خياران متاحان للمرء عندما يموت: التحلل في الأرض أو الاحتراق في النار. الآن صار هناك خيار ثالث: أن تُجمد جثمانك وتأمل في أن يزيل آخرون طبقات الثلج عنك مستعينين بتكنولوجيا مستقبلية. بإمكانك تجميد جثمانك في درجة حرارة النيتروجين السائل التي تبلغ −١٩٦ مئوية (−٣٢١ فهرنهايت) مقابل ١٥٠ ألف دولار، ويمكنك تجميد الرأس وحسب لقاء نصف هذه التكلفة. قد يبدو هذا الخيار شنيعًا، لكنه منطقي؛ لأن تجميد الجثث يقوم على فكرة أن الذاكرة والهوية مخزنان في أنسجة المخ، وفي المستقبل سيتمكنون بالتأكيد من تشكيل جسد رائع لك.

لاقى تجميد الجثث اهتمامًا لا يتناسب مع عدد الأشخاص الذين أقدموا عليه؛ فأقل من ٢٠٠ شخص — بعضهم بلا رءوس وبعضهم برفقة حيواناتهم الأليفة — مجمدون في منشأتين عاليتي التقنية؛ إحداهما تديرها مؤسسة «ألكور» لإطالة الحياة في مدينة سكوتسديل بولاية أريزونا، والأخرى يديرها معهد تجميد الإنسان في مقاطعة كلينتون بولاية ميشيجن، وتحتفظ كل مؤسسة منهما بقائمة «انتظار» بها حوالي ألف شخص. كان تجميد الجثث قد عانى تراجعًا عام ١٩٧٩ حين تسبب نقص التمويل في «ذوبان» تسع جثث. يا للهول! يبدو أن من ينضمون إلى قائمة التجميد لديهم إيمان مفرط باستمرارية شركات الخدمات. تدعي كلتا الشركتين المهتمتين بتجميد الجثث أنهما تمكنتا من حل مشكلة تلف الخلايا الناتج عن تشكل بلورات الثلج أثناء التبريد.

إلى الآن يُحتفظ بالموتى في مستودعات كئيبة خارج الضواحي. ويعتزم المهندس المعماري الشهير ستيفن فالنتين — مصمم متحف الهولوكوست في واشنطن ومحطة قطار لونج آيلاند في نيويورك — تغيير ذلك؛ سيرتفع مبنى «سفينة الزمن» الذي صممه على شكل كاتدرائية معاصرة ممتدة على مساحة أربعة وعشرين ألف متر ذات مناظر طبيعية ويضم خمسين ألف جثمان مجمد. سيمر الضباب الرقيق فوق ساحته المركزية وستعكس مراياه المائلة عند محيطه الخارجي السماء من فوقه. يقول عنه: «إنه قلعة فورت نوكس للمواد البيولوجية، وقد يكون سفينة نوح للمرور إلى المستقبل.»

مَن هؤلاء المبشرون الحالمون؟ معظمهم يفضلون البقاء مجهولي الهوية، لكن أولئك الذين لا يفضلون ذلك هم في الغالب رجال من رواد الأعمال والخبراء التقنيين. يقال إن جسد والت ديزني خضع للتجميد عام ١٩٦٦، ودُفن أسفل متحف شمع قراصنة الكاريبي، لكن الحقيقة هي أن جسده قد أُحرق، وتوجد بقاياه في مقبرة فورست لون. يُحتفظ بجسد ديك جونز، أحد مؤلفي المسلسل التليفزيوني «كارول بيرنيت شو»، في مؤسسة «ألكور» التي تحتفظ له بجائزة إيمي التي فاز بها مسلسله حتى يمكنه أن يستعيدها فور استيقاظه. وأبرز المشاهير الذين خضعوا للتجميد تيد ويليامز، آخر رجل سجَّل معدل ضربات قدره ٠٫٤٠٠ في دوري البيسبول. لقد حُفظ تيد ويليامز — «محطم المضارب الرائع» — في وضع مقلوب في مدينة سكوتسديل. وكان نائب رئيس سابق لمؤسسة «ألكور» قد اقترح — ليس على سبيل الدعابة تمامًا — أربعة أسباب تدعو الناس للقدوم إلى المنشأة: أنهم يرهبون الموت بشدة، حتى إنهم سيجربون أي شيء، ويتصفون بالنرجسية الشديدة، وليس بيدهم ما يفعلونه لدرء الموت، ويستمتعون بأنهم جزء من أقلية محل سخرية.

إن مخ الشخص البالغ هو شبكة كهروكيميائية مكونة من ١٠٠ مليار خلية عصبية و٦٠ تريليون تشابك عصبي. ومن العسير للغاية أن نتخيل أنه يمكن إعادة هذا المخ إلى الحياة عن طريق أي تكنولوجيا مستقبلية. وفي حين يعد البقاء الشخصي محل شك، فليس بقاء الإنسانية كذلك؛ لأنه يمكن تجميد البويضات والحيوانات المنوية دون أي آثار عكسية.١١ جرت بنجاح عمليات حمل من أجنة جرى تجميدها لمدة تسع سنوات، ولا يُظْهِر الأطفال الذين وُلدوا من تلك الأجنة — والذين يطلق عليهم اسم «المتجمدين» — أي زيادة في العيوب الخلقية التطورية أو الشذوذ. يعترف مؤيدو فكرة تجميد الجثث بأنه فعل غير متوقع العواقب، لكنهم يذهبون إلى أنه فيما عدا التكلفة ليس له عيوب كثيرة؛ فما دمت ميتًا بالفعل، فما أسوأ شيء قد يحدث لك؟

(٣-٣) لم يمت بعد

قد يكون أساس فكرة التجميد خاطئًا، لكن الفكرة نفسها مرتبطة بنقاش متواصل عن تعريف الموت. كنا قد تطرقنا في الفصل السابق لفكرة البقاء فيما وراء نطاق الجسد، لكن النقطة التي يستسلم فيها الجسد هي أيضًا محل اهتمام. كان ديفيد إيتنجر، ابن مؤسس الحركة، قد قال: «إن الموت هو مجرد النقطة التي يستسلم فيها الطبيب في إطار التكنولوجيا الحالية. وهذا تعريف قانوني وليس طبيًّا.» ومنذ عام ١٩٦٨ تبنَّت معظم البلدان المتطورة تعريفًا للموت يقوم على خمود نشاط المخ، وليس القلب أو أي عضو آخر.١٢

القلب هو المحرك الذي يبقي على المخ زاخرًا بالأكسجين، وعندما يتوقف القلب يعتبر المخ ميتًا بعد مرور خمس دقائق بدون نبضات كهربائية، ومع ذلك، فقد دفع ازدياد الطلب على عمليات زراعة الأعضاء الأطباءَ إلى تغيير إجراءاتهم من أجل الحصول على الأعضاء وهي لا تزال «طازجة»، وكثيرًا ما ينتظرون حتى تتوقف نبضات قلب المريض المتوفى، لكن بدلًا من انتظار مرور تلك الدقائق القليلة حتى يموت المخ أيضًا، يتوقعون المحتوم ويعلنون وفاة المريض على الفور كي يمكنهم حصد الأعضاء. فالموت هنا متوقف على القرار بعدم إجراء الإنعاش وليس «استحالة» الإنعاش.

إن كان ذلك يُشعرك بعدم الارتياح، فثمة ما هو أسوأ؛ إن الممارسة الطبية القياسية المتبعة عقب السكتة القلبية قد تعجِّل فعلًا بوفاة المرضى الذين يحاول الأطباء إنقاذ حياتهم. تحدث حوالي ٢٥٠ ألف حالة سكتة قلبية سنويًّا في الولايات المتحدة، والبقاء حيًّا هي مسألة حظ في المقام الأول، وتعتمد على الاستجابة لنداء الطوارئ ومدى توافر سبل الإنعاش القلبي الرئوي. إن وقع هذا الأمر لك، فاحتمالية أن تموت هي ٩٥٪. وكما رأينا في الفصل السابق فبعض الباحثين يتشككون في أن الموت محتوم بنسبة ١٠٠٪، لكن دعنا نفترض أنه شيء ينبغي تجنبه مهما كلف الثمن، وذلك على سبيل النقاش فحسب.

إنْ توقف قلبك عن الخفقان فسوف تستنفد الخلايا العصبية في المخ البالغ عددها مائة مليار خلية الأكسجينَ المتبقي بها في غضون ٢٠ ثانية، وسيتوقف جميع النشاط الكهربي. إن ذهبت إلى إحدى المستشفيات فسيحاول الأطباء إنعاش قلبك باستخدام أحد الأجهزة المزيلة للرجفان، وإن نجح الأمر (وحتى إن لم ينجح) فسيوصلونك بأجهزة ضخ الأكسجين. ومع ذلك توضح الأبحاث التي أجريت حديثًا أن موت الخلايا عملية طويلة ومعقدة؛ فكلٌّ من الخلايا العصبية وخلايا القلب يمكنها البقاء دون وصول الدم إليها لساعات، وربما يمتد ذلك إلى يوم كامل، لكن بعد مرور أكثر من خمس دقائق دون تزويدها بالأكسجين تموت الخلايا حين «يُستأنف» تزويدها بالأكسجين. من الواضح أن تشبُّع الخلايا المفاجئ بالأكسجين أثناء مرورها بحالة توقف يحفز آلية التدمير الذاتي التي عادةً تحميها ضد السرطان.

إليك ما يعتقد الباحثون أنه يحدث: إن الطلب النهم للقلب والمخ على الأكسجين يعني أن الافتقار إلى الأكسجين هو أمر مهلك حقًّا، لكن الموت على المستوى الخلوي أمر معقد ويستغرق ساعات، وربما أيامًا حتى يكتمل. يعتقد باحثون أمثال لانس بيكر، الذي يعمل بمركز علم الإنعاش بجامعة بنسلفانيا، أن الإجابات عن ذلك تكمن في الميتوكندريا، وهي البُنى الأنبوبية الموجودة داخل الخلايا التي يتحد فيها الأكسجين بالجلوكوز لإمداد أجسامنا بالطاقة التي تحتاجها كي تؤدي وظائفها. تبدأ عملية موت الخلايا بالميتوكندريا التي تتحكم في الاستماتة، وهي آلية التدمير الذاتي للخلايا التالفة أو تلك التي لا حاجة لها. تنتشر خلايا السرطان عن طريق إيقاف الميتوكندريا عن العمل، بحيث تتعطل آلية التدمير الذاتي، ويبحث المتخصصون في أمراض السرطان عن سبل لإعادة تشغيل الميتوكندريا. يحاول الأطباء أمثال لانس بيكر أن يقوموا بالنقيض عن طريق الحيلولة دون الانتحار الذاتي للخلايا التي تَلِفت بسبب نقص الأكسجين، لكن ليس تلك الخلايا التي لا سبيل لإصلاحها.

يبدو أن ثمة إجراءً أفضل في حالة السكتة القلبية، وهو الاستخدام المتأخر والتدريجي للأكسجين، لكن مع التبريد الفوري والشديد للمريض. كان معروفًا لوقت طويل أن الأشخاص الذين يقعون من فتحات جليدية يمكنهم البقاء على قيد الحياة على نحو غير متوقع بعد الانغمار الطويل في الماء المثلج. وقد لاحظ الجراح العام للإمبراطور نابليون أن الجنود المصابين الذين بقوا على الأرض الجليدية سجلوا معدلات أعلى للبقاء على قيد الحياة مقارنةً بأولئك الذين كانوا يحتشدون بالقرب من النيران. ما من أحد يعلم كيف يحدث ذلك، لكن إبطاء عملية الأيض عن طريق خفض درجة حرارة الجسم وتجنب انتحار الخلايا بسبب تلقيها لكمية زائدة من الأكسجين يوفر قدرًا كافيًا من الوقت يسمح للعديد من ضحايا الأزمات القلبية بالتعافي.١٣

إن الأمل ليس استراتيجية، أمَّا منع أغلب حالات الوفاة جراء الأزمات القلبية وإتاحة عقد إضافي من الزمن أو ما يقارب ذلك للأفراد من أجل تطوير حلول لعيوب طريقة تجميد الجثث، وهو ما سيعبر بنا إلى المستقبل الأطول أمدًا حين يتم انتشالنا من الجليد لتعود إلينا الحياة من جديد على نحو مشابه لما كنا عليه حين أتينا إلى العالم؛ فيبدو خطة مقبولة.

(٣-٤) إعادة سداد القرض

من المنظور الشامل للمحيط الحيوي، ما مولدنا ووفاتنا إلا معاملات تجارية صغيرة في الاقتصاد العالمي للمحيط الحيوي. إن الطبيعة شديدة البخل، ومعظم مكونات أي كائن حي كانت في وقت من الأوقات جزءًا من مجموعة متنوعة من كائنات حية ماتت منذ وقت طويل وسيعاد في نهاية المطاف استخدامها، وربما يحدث ذلك في أنواع ليست موجودة بعد. فكِّر في ذراتك على أنها ذرات مستعملة من قبل.

كما رأينا، أنت لست في العمر المدون في شهادة ميلادك. منذ سنوات قليلة اكتشف العلماء كيفية تمييز الحمض النووي بذرات الكربون ١٤. تتدفق الجزيئات من وإلى الخلية، لكن ذلك ليس هو الحال مع الحمض النووي؛ لذا يمكن استخدام التخصيب بالكربون المشع لتحديد عمر إحدى الخلايا. إن المكون الأساسي للحياة هو الماء، وتحتوي جميع الخلايا على الماء مع أن النسبة تتراوح من ٥٪ في البذور الخاملة إلى ٩٥٪ في قناديل البحر والنباتات الصغيرة. يشكل الماء حوالي ٦٠٪ من وزن الإنسان، ويتخذ جزيء الماء النموذجي دوراته في جسمك في أيام قليلة. ومع ذلك، لاحظ أن تقليل حصة الماء ليس باستراتيجية واعية لتقليل الوزن؛ فالجسم الجاف يتوق بشدة فعلًا إلى الغذاء، ودون إعادة إمداد الجسم بالماء سيموت خلال ١٠ أيام أو أقل؛ إذ يحتاج أي شخص بالغ سليم لتناول ٢٫٥ لتر من الماء يوميًّا.

أما المكون الأساسي الآخر للحياة فهو الكربون، الذي يشكل ما يصل إلى ١٨٪ من وزن الإنسان. شأن الماء، يوجد الكربون بكميات كبيرة في جميع المكونات الأساسية لغذاء الإنسان؛ كالدهون والكربوهيدرات والبروتينات والفيتامينات. تعد ذرات الكربون خالدة، لكن ما مسارها خلال قصة الحياة؟

ثمة ثلاثة مقاييس زمنية شديدة الاختلاف لدوران الكربون: أطولها يبلغ مائة مليون عام أو نحو ذلك، حتى إن ذرة الكربون قد تظل حبيسة القشرة الأرضية قبل أن تتحرر في الغلاف الجوي بفعل النشاط التكتوني أو القوة البركانية. ثمة كمية من الكربون أقل ألفي مرة مدفونة في أعماق المحيطات لمدة تصل إلى ١٠٠ ألف عام، وثمة كمية أصغر من الكربون — قدرها ٠٫٠٠١٪ من المخزون الاحتياطي من الكربون الموجود في القشرة الأرضية — تعد جزءًا من التبادل ثلاثي الاتجاه بين الغلاف الجوي والنباتات والحيوانات على الأرض والميكروبات في الطبقات السطحية من المحيطات. هذه المعاملات النشطة مسئولة عن الطبقة سريعة الزوال من المحيط الحيوي، حيث تغير ذرة الكربون موضعها كل فترة تتراوح من عام إلى ١٠٠ عام (الشكل ٢-٦).
fig12
شكل ٢-٦: دورة الكربون، موضحة رسوميًّا على هيئة تدفقات للكربون، ومقدرة بوحدات تبلغ مليارات الأطنان المترية. توجد كميات كبيرة من المخزون الاحتياطي للكربون في المحيط واليابسة والغلاف الجوي والهواء، وتظهر أسرع التبادلات في المحيط الحيوي. وكما عرفنا حديثًا، يمكن للتغيرات الصغيرة في معدل تبادل الكربون في الغلاف الجوي أن يكون لها تأثيرات كبيرة على المناخ العالمي. (National Oceanographic and Atmospheric Administration Earth System Research Lab and the Intergovernmental Panel for Climate Change)

هناك ٨٠ مليار طن متري من الكربون ممثلة في مجموع كل البشر الموجودين على الكوكب. هذا يمثل بالكاد نسبة ٠٫٠١٪ من الكربون الموجود في الكائنات الحية وجزءًا ضئيلًا للغاية من الكربون المتاح في المحيط الحيوي. إننا نشعر بالضآلة في ضوء هذه الأرقام، لكن يمكننا أن نرى فيها تأكيدًا على قدرة كوكبنا الاستثنائية على تكوين مخلوقات مثلنا.

المستوى الثاني من القصة هو مستوى كوني؛ فنحن نقترض ذراتنا من المحيط الحيوي لمدة قصيرة وفي النهاية نعيدها؛ سواء أكان ذلك بدفننا أم بحرقنا. الكربون هو أساس الحياة، والكربون الذي تقوم عليه حياتنا تَشكَّل في مراكز النجوم شديدة الحرارة وأُطلق في الفضاء منذ وقت بعيد للغاية. إن عمر الكون ١٣٫٧ مليار عام، وبعض ذراتنا من الكربون قد ترجع إلى الأجيال الأولى من النجوم الهائلة التي تتجاوز أعمارها ١٣ مليار عام، لكن الغالبية العظمى من ذراتنا من الكربون تتراوح في عمرها من ٢ إلى ٨ مليارات عام. ذرات الكربون تتشكل في النجوم ذات الهيليوم في مراكزها إن بلغت درجة الحرارة ١٠٠ مليون درجة مئوية (١٨٠ مليون درجة فهرنهايت) أو أكثر. ثمة ضرورة لوجود «أتون» استثنائي من أجل طهي المكونات الأساسية للحياة.

العديد من ذرات الكربون تظل مدفونة إلى الأبد في مراكز النجوم الضخمة حين تموت، لكن جزءًا منها يندفع إلى الخارج بفعل نوبات الاشتداد التي تمر بها هذه النجوم في وقت متأخر من حياتها. يعج الفضاء ﺑ «ضباب دخاني» من الذرات والجزيئات والجسيمات الصغيرة الغنية بالكربون، وهو مخزون يضم أول أكسيد الكربون (CO) وثاني أكسيد الكربون (CO2) والميثان (CH4) والفورمالدهايد (H2CO) والسيانوجين (CN) وأحادي كبريت الكربون (CS) والكربورندوم (SiC) والأسيتيلين (C2H2) والميثانول (CH3OH) والبنزين (C6H6) بل يضم جزيئات أكبر تصل إلى جزيئات الكربون الكروية (C60). وحين يتشكل نجم جديد يدخل هذا الكربون في المادة التي تشكل الأتربة والغبار والصخور والكواكب وأخيرًا نحن.

هناك تكمن نهاية القصة، ما لم تختر الدفن في الفضاء. فبعد إحراق جثة شخص بالغ يزن ٧٠ كيلوجرامًا تتحول هذه الجثة إلى حوالي ٥ كيلوجرامات من الرماد الغني بالكربون. ومقابل ٢٥٠٠ دولار ستجمع مؤسسة «سيليستس» بمدينة هيوستن جرامًا وحيدًا من بقاياك في أنبوب بحجم قلم الشفاه ثم تطلقها في مدار حول الأرض. ومع ذلك، سيتسبب السحب من بقايا الغلاف الجوي عند ذلك الارتفاع في النهاية في عودة الرماد إلى الأرض. إن كنت تريد حقًّا أن تغادر تأثير جاذبية الشمس تعتزم مؤسسة «سيليستس» تقديم خدمة بداية من عام ٢٠١١ تمكنك من المشاركة المحتملة في حياة جديدة بتكلفة تبدأ من ١٢٥٠٠ دولار. وحتى الآن الشخص الوحيد الذي حظي بهذا المصير الخاص هو كلايد تومبو الذي سيزور كوكب بلوتو (الذي خرج من زمرة الكواكب) الذي اكتشفه على متن مركبة الفضاء «نيو هورايزونز» التابعة لوكالة ناسا عام ٢٠١٥، ثم سيواصل رحلته في أعماق الفضاء.

أما بقيتنا فعليهم أن يعيدوا ذراتهم المستعارة، ومع ذلك يمكننا التفكير في رحلتها الاستثنائية. فكل منا يستضيف ٤ × ١٠٢٧ ذرة كربون. توجد الذرات في مجموعات، ومن ثم فإن عدد الأزمنة التاريخية التي أدت إلى كونها جزءًا من أجسادنا قد يكون أقل بصورة ملحوظة، لكنه لا يزال عددًا كبيرًا. يمكن لكل واحد منا أن يحاول تصور المسارات المتنوعة في المكان والزمان التي أدت بهذه الذرات إلى أن تكون جزءًا من ذلك الكائن القادر على التنفس والتفكير والذي يتساءل عن أصله ومصيره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤