الفصل الرابع

ما وراء الانتخاب الطبيعي

توقفت مخلوقات السكويبون عن حديثها، وراقبت بتأمل من بين قمم الأشجار عددًا من قوارض الشاجرات تمر أسفلها، وهي تتشمم الأرض بأنوفها. كانت القوارض الضخمة أعداءً شرسة ذات عضات سامة، لكن لا قِبل لها بجماعة مسلحة جيدًا من السكويبون. كان الهواء يمتلئ بأصوات عالية تصدرها الخنافس الطنانة التي تطوف بحثًا عن الطعام. مر توراتون بحافة الغابة باحثًا عن ثمار جديدة يأكلها، وكان وقع أقدامه يهز الأشجار ورأسه مرئي من فوق كل الأشجار عدا تلك الأعلى قممًا.

أهلًا بك في أرض المستقبل بعد ٢٠٠ مليون عام، حين تتسبب التقلبات المناخية والتطور في وجود فيالق من فائزين وخاسرين جدد. يخرج علينا الجيولوجي البريطاني دوجال ديكسون بهذه الصورة الخيالية لنظام عالمي لا وجود فيه للبشر. أما أرقى الكائنات تطورًا فهو هجين من الحبار الذي عاد إلى الأرض وإحدى سلالات القردة الصغيرة.

بالإضافة إلى الخنافس الطائرة التي تماثل قبضة اليد في حجمها والزواحف التي تماثل المنزل في حجمها، يتخيل ديكسون عالمًا يسكنه «أشباح المحيط»؛ قناديل بحر تماثل الشاحنات حجمًا، و«قناديل المستنقعات» التي تبرز من المستنقعات لكي تتغذى، و«الحبار الهائل»؛ حبار يزن عدة أطنان يعيش على اليابسة. ليست كل الكائنات ضخمة؛ إذ يمثل «فليش» مسارًا ناجحًا للتطور من السمك إلى الطيور.

يتخذ بيتر وارد، الجيولوجي بجامعة واشنطن، منهجًا أكثر واقعية تجاه علم الأحياء التنبئي؛ إذ يعتمد في تنبؤاته على الضغوط الحالية. إنه يعتقد أن الاحترار العالمي وفقد الأراضي العشبية سيسببان نهاية الثدييات الكبيرة كالأسود والنمور والدببة، أما الفائزون فهم الكائنات المندرجة في الفئة المعروفة باسم «التصنيفات الإضافية» التي تتنوع بسرعة ولها معدل انقراض منخفض نسبيًّا. سيحابي الضغط البيئي الثعابين والصراصير والطيور الطوافة، بالإضافة إلى الجرذان العملاقة؛ وفي هذا يتفق بيتر وارد مع ديكسون والعديد من علماء الأحياء التطورية.

هذه الأنواع الناجحة يدفع بعضها بعضًا إلى درجة أكبر من التنوع؛ فالثعابين تأكل القوارض لذا ستستجيب لأي قدرة جديدة أو تقدم يحدث للقوارض. يبدي وارد تفاؤلًا أكبر بشأن مستقبل البشر مقارنةً بديكسون، لكنه يقر بأن عملية التنبؤ ليست سهلة على الإطلاق. إنه يعتقد أن الجبروت الحالي الذي نتصف به، والذي نعبث به مع التطور، يمكن أن يكون له عواقب سيئة وغير مقصودة.

***

(١) نهايات التطور

(١-١) القادمون والذاهبون

الوقت مبكر جدًّا لأن نحدد هل الإنسان؛ ذلك القرد عديم الشعر ذو الألعاب الخطيرة، سيقصي نفسه من تجميعة الجينات. نأمل ألا يحدث ذلك، وإلا سنصير حينئذ جزءًا من الطبيعة، لا كائنات مميزة منفصلة عن الطبيعة. لا يزال نوعنا في مقتبل الحياة؛ إذ نبلغ من العمر ٢٠٠ ألف عام فقط. وقد عاش أسلافنا القدامى من سلالة «الإنسان المنتصب» لمدة ١٫٥ مليون عام. وبالتغاضي عن القصة التحذيرية لأبناء عمومتنا من سلالة إنسان نياندرتال، الذين انقرضوا بعد ١٠٠ ألف عام على وجودهم، نود أن نعتقد أننا لا نزال في نقطة البداية وحسب.

إن الطفرات والبيئة المتغيرة هما العاملان المحركان للتطور، لكن الأنواع الأكثر نجاحًا لديها قدرة رائعة على الصمود؛ فأسماك القرش والتماسيح ثابرت لعشرات الملايين من السنوات ولم تمر إلا بعدد قليل من التغيرات؛ لأنها تتمتع بقدرة رائعة على التكيف. بل سجلت بعض الكائنات الحية الأبسط أداءً أفضل؛ فالبكتيريا اللاهوائية كانت موجودة بوفرة في السنوات الأولى لكوكب الأرض، ولا تزال موجودة في البيئة المعاصرة. عاشت مستعمرات البكتيريا التي يطلق عليها اسم الرقائق الكلسية الطحلبية في النظم البيئية الساحلية ذات الشعب المرجانية طوال ٣٫٥ مليارات عام. ليس بالضرورة أن يكون التكيف مثاليًّا؛ إذ يجب أن يكون جيدًا بدرجة كافية. خير مثال على ذلك العين لدى الفقاريات ذات الشبكية المقلوبة والبقعة العمياء. إن الحياة محفوفة بالمخاطر، وإن شبهناها بإحدى ألعاب الورق فسنجد أن بعض الأنواع جمعت بعض الأوراق الجيدة وتجلس في صبر انتظارًا للخطوة التالية.

الأنواع تأتي وتذهب، وليس تتبعها بالأمر التافه. لقد جرى تحديد حوالي مليوني نوع وتصنيفها إلى فئات، وعلى أفضل التقديرات ما هذا إلا أقل من ١٠٪ من الإجمالي. يعد معدل الانقراض السريع الحالي مشكلةً إضافيةً؛ فحسبما ذكرت البيولوجية دافني فاوتين، عضو الفريق الدولي المسئول عن جمع قوائم بالأنواع الجديدة: «بينما نجد العديد من الأنواع الجديدة، يختفي عدد أكبر من الأنواع بأسرع مما يمكننا اكتشافه. العديد من الأنواع انقرضت تمامًا ولن نعرف أبدًا أنها كانت موجودة.»

إن أكثر من نصف الأنواع المعروفة حشرات، بما في ذلك ٣٥٠ ألف نوع من الخنافس. حين سئل عالم الوراثة البريطاني، جي بي إس هالدين، عما استنتجه من دراسته للطبيعة عن الخالق كانت إجابته: «إن كان موجودًا فهو مغرم بشدة بالخنافس.» ويشهد علم الحفريات الأكاديمي خلافًا بين من يصنفون الكائنات الحية إلى فئات عديدة أو قليلة، إضافة إلى من يعتقدون أن التطور يتقدم في دفعات مفاجئة، ومن يرون أنه يتسم بوتيرة سلسة انسيابية.

من المرجح أننا اكتشفنا معظم الثدييات والطيور، لكننا لا نلم إلا بالقليل من المعلومات عن المجموعات الأخرى كالديدان الأسطوانية. وحين يتعلق الأمر بالأنواع الصغيرة للغاية يمكن القول إننا لا نزال في بداية الطريق. في إحدى الدراسات عُثر على ١٠ آلاف نوع بكتيري في جرام واحد من التربة بولاية مينسوتا، وهو ما يقارب ربع كل ما جرى استنباته أو تصنيفه من أنواع، وذلك تفنيد مثالي لرأي من يدعون أنه ليس هناك الكثير من الحياة في مينسوتا؛ المسماة ﺑ «أرض العشرة آلاف بحيرة».

يرجع تعقيد مهمة تصنيف التنوع الحيوي إلى ارتباط جزء كبير منها بالأماكن النائية أو الغريبة؛ فنسبة ٧٠٪ من الأنواع المعروفة تعيش في ١٢ دولة: أستراليا والبرازيل والصين وكولومبيا والإكوادور والهند وإندونيسيا والمكسيك ومدغشقر وبيرو وزائير وكوستاريكا. إنه ليس بعمل سهل لعلماء الطبيعة. لقد أرسل العالم كارل لينيوس، رائد علم التصنيف الذي عاش في القرن الثامن عشر، العديد من طلابه من السويد مزودًا إياهم بتعليمات للبحث بحماس عن أنواع جديدة. مات ثلثهم أثناء رحلاتهم، لكن تمثلت المكافأة في استخدام نظامه في تسمية أي كائن جديد.

ما المشكلة في تحديد اسم؟ أيًّا كان الاسم الذي نطلقه على الوردة فهي ستبعث برائحة عذبة. إن حدث أن اكتشفت حيوانًا أو نباتًا أو معدنًا فقد جرت العادة على أن تحصل على ميزة تسميته. عادةً ما يتم هذا الأمر بحصافة وعلى نحو لائق، لكن قد لا يكون الحال هكذا دومًا.

استهل لينيوس التدني في مستوى التسمية حين سمى أحد الأعشاب القبيحة باسم أحد نقاده. كتب ريتشارد فورتي، أحد كبار علماء الحفريات في متحف التاريخ الطبيعي في نيويورك، يحكي عن زميل له أنه كان يكره الشيوعيين، ولذا أطلق على دودة كان قد اكتشفها اسم «خروشوفيا ريديكيولا»، لكنه كان يحب البغاء، لذا أطلق على اثنين من ثلاثيات الفصوص اسم «سيد فيشيوسي» و«جوني روتيني». وأطلق كوينتين ويلر على الخنافس التي تأكل الفطر المخاطي اسم جورج دابليو بوش وأعضاء مجلسه الوزاري، لكنه أقسم أنه كان جمهوريًّا طيلة حياته، وأن هذا الفعل كان على سبيل المجاملة. لكن كان الاسكتلندي جي دابليو كيركالدي أكثر رومانسية؛ إذ أطلق على مجموعة من الجراثيم اللاحقة اليونانية نفسها، بحيث أصبحت تبدو كقائمة لغرامياته على النحو التالي: فلوريشيزمي، وماريشيزمي، وبيجيشيزمي، وما إلى ذلك.١
أحيانًا تكون هناك قصة طويلة وراء إحدى التسميات، لكن في أحيان أخرى يكون السبب واضحًا إلى حد ما. تدبَّر مثلًا بعض الأسماء الجديدة الموضوعة في العقدين الماضيين؛ على غرار نوعي الخنافس اللذين أُطلق عليهما اسم «أجرا فيشن» و«أجرا فوبيا»، وشجرة الصنوبر التي أطلق عليها اسم «بينوس ريجيدوس»، والكائن الرخوي الذي أطلق عليه اسم «أبرا كادابرا»، وفأر الكنغر المنقرض الذي أطلق عليه اسم «واكي واكي»، ونوع العناكب الذي أطلق عليه اسم «أورسون ويلز»، ونوع الحلزونات «ليتيبيتيوم» الذي يصغر في الحجم عن النوع «بيتيوم». ليس من الضروري أن تكون عالم طبيعة كي تعبث بالأسماء. في عام ٢٠٠٥ دفع أحد مواقع الويب المتخصصة في المقامرة مبلغ ٦٥٠ ألف دولار مقابل تسمية قرد من بوليفيا، وعام ٢٠٠٧ أقامت إحدى فرق المحافظة على البيئة مزادًا على حقوق تسمية ١٠ أنواع من السمك مع تخصيص المال من أجل الحفاظ على مواطنها. ودعا ستيفن كولبير أحد علماء البيولوجيا إلى برنامجه التليفزيوني وأقنع هذا العالم بتسمية أحد العناكب باسمه.٢

إن تسمية الأشياء أمر مطمئن، لكنَّ تتبع مسارها من وإلى تجميعة الجينات أصعب بكثير، فالعينات غير المكتملة التي لا تعطينا نظرة كاملة عن التنوع الحيوي تعني أننا قد نعلن عن انقراض أحد الأنواع في حين أنه لم ينقرض: أفضل مثال على هذا التأثير، المسمى بتأثير لازاروس، هو سمك كولاكانت الذي أعيد اكتشافه عام ١٩٣٨، بعد أن ظُنَّ أنه انقرض منذ ٨٠ مليون عام. أحيانًا يكون أحد الأنواع قاب قوسين أو أدنى من الزوال لكنه يتمكن من البقاء.

(١-٢) التعلق بخيط

بعددهم البالغ ٦٫٨ مليارات نسمة، يكون البشر أبعد ما يكونون عن خطر الانقراض. لكن لم يكن الحال هكذا دومًا؛ فقصة أسلافنا يرويها دنا الميتوكوندريا والكروموسوم Y، وهما جزءا الجينوم اللذان لم يتغيرا بفعل التطور من جيل إلى آخر. لقد أشار نموذج «وارد من أفريقيا حديثًا» إلى أننا جميعًا ورثنا الحمض النووي من ميتوكوندريا أنثى عاشت في أفريقيا منذ حوالي ١٦٠ ألف عام، وأن جميع الرجال ورثوا كروموسومات Y من رجل أفريقي عاش منذ ٦٠ ألف عام. وبعد ظهور نوعنا مباشرة انقسم إلى مجموعة جنوبية؛ صارت أفراد قبائل البوشمان المعاصرين، ومجموعة شرقية تضم كل البشر الآخرين، بمن فيهم نحن.

عانت أفريقيا من الجفاف بين ٩٠ و١٣٥ ألف عام مضت، وتوضح أدلة الحمض النووي أن السكان مروا ﺑ «عنق زجاجة» شديد الضيق، ربما أدى إلى انخفاض عدد السكان إلى عدد قليل وصل إلى ألفي فرد. وبعد انقضاء فترات الجفاف، تعافى السكان وصارت هناك حوالي ٤٠ مجموعة من البشر منتشرة في أنحاء أفريقيا. حدث إجهاد بيئي إضافي بسبب انفجار بركان هائل الحجم يدعى توبا في جزيرة سومطرة منذ ٧٤ ألف عام؛ مما أدى إلى عملية تبريد شديد استمرت لعدة سنوات. ومنذ حوالي ٦٠ ألف عام بدأت مجموعتان — ربما قوام كل منهما عدة مئات من الأفراد — في الهجرة الملحمية التي ملأت العالم بالسكان. انتشر البشر إلى آسيا أولًا ثم أستراليا منذ ٥٠ ألف عام، وأوروبا منذ ٣٥ ألف عام، والأمريكتين منذ ١٥ ألف عام.

حين يتقلص التنوع الجيني في عنق زجاجة سكاني يمكن أن يتسبب في الانقراض؛ لأن الناجين ربما لا يستطيعون التكيف مع الضغوط الانتخابية الجديدة. إننا نتعلق بخيط رفيع، لكن القصة انتهت على نحو طيب في حالة البشر. وحسبما ذكر سبنسر ويلز، مدير المشروع الجينوغرافي والمستكشف المقيم في الجمعية الجغرافية الوطنية: «توضح هذه الدراسة الجديدة قوة علم الوراثة الاستثنائية في الكشف عن الرؤى المتعلقة ببعض الأحداث الرئيسية في تاريخ أنواعنا، فقد عادت مجموعات صغيرة من أوائل البشر الذين أجبرهم الضغط البيئي القاسي على الانفصال من حافة الانقراض لتتحد وتملأ العالم بالسكان. إنها حقًّا دراما ملحمية مكتوبة في حمضنا النووي.»٣
تلعب الصعاب المؤدية إلى عنق الزجاجة السكاني دورًا مزدوجًا في البقاء التالي عليه؛ فالبيئة مختلفة، ومن ثم لا بد من تطوير سلوكيات واستراتيجيات جديدة بسرعة. الأمر أشبه بإتقان لعب التنس طيلة حياتك وفجأة صار عليك ممارسة سباق التزلق الجماعي. لكن الأنواع التي تطور سلوكيات جديدة تتمتع بمزايا فارقة في الصراع على الموارد. من منظور علم الوراثة تعد ظواهر عنق الزجاجة أخبارًا سيئة، فالجنوح الجيني يزداد لكن تجميعة الجينات تتقلص؛ لذا تبقى الجينات سيئة التكيف وتنتشر؛ لأنها لا تخضع للاستبعاد على نحو فعال في مجتمع يتناقص عدده تدريجيًّا. وقد توصل الباحثون إلى أن البشر والشمبانزي جمعا نحو ١٤٠ ألف طفرة لا فائدة لها بالحمض النووي منذ أن انفصل النوعان أحدهما عن الآخر. وفي الفئران والجرذان المنتمية للفترة الفاصلة نفسها والمتميزة بتركيب جيني متشابه إلى حد بعيد، تراكمت طفرات جينية أقل بصورة ملحوظة. ذلك يجعلنا أكثر عرضة من القوارض للأمراض الوراثية كالسرطان (الشكل ٤-١).

إلى أي مدى سيضعف الخيط قبل أن ينقطع؟ في علم البيئة ثمة حد أدنى لعدد أفراد المجتمع القابل للحياة تتنبأ النماذج فيه باحتمالية بقاء تتراوح من ٩٠ إلى ٩٥٪ لعدد من الأجيال المستقبلية يتراوح بين ٤٠ إلى ٤٥ جيلًا، وعند الثدييات الكبيرة، هذا العدد هو حوالي ٥٠ فردًا.

fig18
شكل ٤-١: ينتج عنق الزجاجة السكاني عن مرض خبيث أو كارثة بيئية. حين ينخفض عدد السكان إلى حد بعيد يمكن أن يتبعه انقراض أو تعافٍ بطيء. تتسبب تجميعة الجينات المتقلصة في جنوح جيني، وهو ما يعد حافزًا للتطور، لكن يمكن أيضًا أن يتسبب في التزاوج الداخلي وقابلية الإصابة بالمرض. (TedE, Wikipedia GNU License and Creative Commons License)

(١-٣) عن الميكروبات والبشر

في سباق التسلح التطوري بين الميكروبات والبشر تتقدم الجراثيم بمسافات طويلة. وأنت تقرأ هذه المعلومة يزيد عدد البكتيريا عشرة أضعاف عن عدد الخلايا الموجودة في جسدك البالغ ١٠ تريليون خلية؛ هذه البكتيريا تنتمي لألف نوع مختلف تقريبًا، أغلبها لا يمكن استنباته في المعمل. أغلب الكتلة الحيوية الميكروبية موجودة تحت الأرض أو في المحيطات، حيث لا تكون مرئية بسهولة، ومع أن كل واحدة منها لا تزيد في الوزن عن واحد على الكدريليون من الجرام، فإنها تزن إجمالًا مليار طن، ويبلغ عددها قرابة ٦ × ١٠٣٠ خلية.
معظم هذه الكائنات الدقيقة حميد، لكن أبناء عمومتها الخبثاء — الفيروسات والبريونات — يتطلعون للتسبب في مشكلات لنا، وأبوابنا ونوافذنا المجازية مفتوحة على مصاريعها. ليس الأمر أننا نعيش في عالم ميكروبي بدرجة هائلة وحسب، بل إن البكتيريا التي تقطن أجسادنا تسهم في المادة الوراثية بقدر أكبر مما تسهم به أجسادنا نفسها. علاوةً على ذلك، يعد مفهوم «هم» و«نحن» مضللًا؛ فالبكتيريا تشاركنا في غذائنا، لكنها تتفاعل مع أجسادنا والبيئة بطرق معقدة، حتى إنه من الأفضل التفكير في البشر على أنهم هجين من البكتيريا والإنسان، فالبكتيريا هي الخيوط التي ينسج منها القماش البشري (الشكل ٤-٢).
fig19
شكل ٤-٢: الدودة المسماة ﺑ «الربداء الرشيقة»، التي يقدر طولها بملليمتر واحد وتزيد في حجمها كثيرًا عن الجرثومة، قد تحمل تفسيرًا لوجود الطفيليات في جسم الإنسان. «الربداء الرشيقة» هي واحدة من عشرات الآلاف من أنواع الديدان الأسطوانية الموجودة في جميع النظم البيئية على وجه الأرض. تتعايش الديدان الأسطوانية مع الخنافس الآسيوية في الولايات المتحدة واليابان، وتستطيع أن تأكل البكتيريا والفطر الذي يعيش على هياكل الخنافس. والديدان الأسطوانية الطفيلية كهذه تصيب مليارَيْ شخص في العالم وتتسبب في إمراض ٣٠٠ مليون شخص على نحو خطير. (National Institutes of Health)

إن التعايش مع نظام بيئي ميكروبي معقد أمر مربك، لكن المعدلات النسبية للتطور هي التي تجعلنا في وضع غير مواتٍ. ففي خلال ١٠ سنوات تنتج البكتيريا ٢٠٠ ألف جيل، وهو العدد نفسه الذي أنتجته سلالة البشر منذ انفصالها عن سلالة الشمبانزي. وفي وقت أقل مما يستغرقه جيل واحد من البشر شهدنا ظهور عشرات من البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية وعدد كبير من الأمراض الجديدة المدمرة كالإيدز؛ إذ يُنتَج ١٠ مليارات جسيم فيروسي جديد كل يوم في كل شخص مصاب بفيروس نقص المناعة البشرية. وحين تتعرض البكتيريا لمضادات حيوية فهي إما تقاومها أو تموت. وكل من الفيروسات والبكتيريا تزيد من سرعة عملية التطور عن طريق نقل كتل كبيرة من الحمض النووي في عملية يطلق عليها اسم النقل الأفقي للجينات. إن البشر يواجهون مأزقًا تطوريًّا مماثلًا لذلك الذي صاغته الملكة الحمراء في رواية «عبر المرآة» للروائي لويس كارول؛ حيث «يتطلب الأمر كل الركض الذي تستطيع أن تركضه فقط كي تبقى في المكان نفسه».

تدبر التعليق التالي الذي ورد عام ٢٠٠٠ في مجلة «ساينس» على لسان جوشوا ليدربرج الحائز على جائزة نوبل عن عمله في مجال التركيب الوراثي للبكتيريا: «إن ما يجعل التطور الميكروبي مثيرًا للاهتمام والقلق الشديد هو ما تتسم به تلك المجتمعات الميكروبية من ضخامة مهولة وتقلب شديد. إنها صيغة مثالية للتطور السريع للغاية. ربما تشهد المجتمعات الميكروبية تقلبًا بمعامل يصل إلى ١٠ مليارات ضعف في اليوم الواحد أثناء تنقلها بين الأجسام العائلة، أو أثناء مواجهتها للمضادات الحيوية أو الأجسام المضادة أو الأخطار الطبيعية الأخرى. وتشير مقارنة بسيطة لسرعة التطور بين الميكروبات والأجسام العائلة لها ذات الخلايا المتعددة إلى تفوق قدره مليون أو مليار ضعف في مصلحة الميكروبات، فعام واحد من حياة البكتيريا يطابق بسهولة نطاق التطور لدى الثدييات بأسره! وفي ضوء ذلك القياس يبدو أننا لا نزال في بدايات تطورنا.»٤

مع أنه يصعب على الطبيب لاري بريليانت أن يكون على مستوى معنى اسمه الأخير (الذي يعني بالإنجليزية «الألمعي»)، فإنه حاول ذلك. لقد اتخذ مسارًا نادرًا لكي يشتهر كفاعل خير وعالمًا شهيرًا على المستوى الدولي في مجال علم الأوبئة. هذا المسار شمل عمله طبيبًا للأمريكيين الأصليين حين سيطروا على جزيرة ألكاتراز عام ١٩٦٩، وعمله ممثلًا ثانويًّا في أفلام بهوليوود، وتأسيس واحد من أول المجتمعات الإلكترونية على شبكة الإنترنت عام ١٩٨٥، والمساعدة في إنقاذ بصر مليوني شخص في البلدان النامية. وربما يتمثل أكبر إنجازاته كطبيب شاب في أنه جزء من الفريق الذي قضى على مرض الجدري.

اختير بريليانت مديرًا تنفيذيًّا لمؤسسة جوجل دوت أورج (google.org) عام ٢٠٠٦. هذه المؤسسة هي الذراع الخيرية لشركة البحث العملاقة جوجل، ونال عمله الدعم بفضل الالتزام الذي أبداه مؤسسو جوجل بتخصيص نسبة ١٪ من أسهم الشركة بالإضافة إلى ١٪ من الأرباح لأعمال الخير. يريد بريليانت تحويل شبكة الإنترنت إلى حارس يحذر العالم من أي وباء وشيك، سواء أكان إنفلونزا الطيور أم شكلًا جديدًا من فيروس نقص المناعة البشرية. يقول: «نأمل في تطوير علم جديد تمامًا للأوبئة ومراقبة الأمراض الموجودة بالفعل واكتشاف الأمراض الناشئة مبكرًا … وأيضًا استخدام مناورات التدريب على طاولة الخرائط والمجسمات الميدانية مع الاستعانة بأساليب شن الحروب للوصول إلى استجابة أفضل للأوبئة.»
كيف سيجري الأمر؟ ستعالج أدوات وبرمجيات تقارير شبكة الويب بحثًا عن ظهور الأعراض مثل الحمى أو مشكلات الجهاز التنفسي، وسيُستخدم برنامج جوجل إيرث في البحث عن أنماط المرض أو الانتشار الجغرافي له، وكل هذا سيجتمع مع المعلومات الوراثية عن الكائنات الممرضة المحتملة والموجودة بالفعل.٥ يقول بريليانت: «لو كنا موجودين في اللحظة التي شهدت ميلاد فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) لاستطعنا الحيلولة دون هذا الوباء الرهيب.»
في عام ٢٠٠٨، ترك بريليانت جوجل ليرأس صندوق التهديدات العاجلة لمؤسسة سكول. من السهل أن نرى مدى قلقه بشأن الأوبئة؛ فبخلاف الانتشار المتزايد للبكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، ثمة ظهور متزايد للأمراض التي تخترق حاجز النوع بحيث تنتقل من الحيوانات إلى الإنسان، ومنها إنفلونزا الطيور وداء الكلب وسارس وفيروس التهاب الدماغ الياباني وفيروس حمى الضنك وفيروس غرب النيل وحمى لاسا (الشكل ٤-٣). ربما تعد الحمى الفيروسية الأكثر إثارة للذعر؛ لأنها فتاكة على الأغلب، علاوة على أنه ليس لها علاج. ففي الفترة بين عامي ٢٠٠٠ و٢٠٠٥، أصيب ٥٠ مليون شخص بأمراض من الحيوانات، مات من بينهم ١٠٠ ألف شخص. وسنحتاج إلى خط دفاعي ذكي لصد هذا المد الرهيب.
fig20
شكل ٤-٣: خرائط توضح انتشار فيروس غرب النيل في الولايات المتحدة من عام ١٩٩٩ إلى ٢٠٠٣. ينتشر العامل البيولوجي بسرعة عبر المراكز السكانية ثم يملأ الأماكن جغرافيًّا حتى يصير متغلغلًا. وكثيرًا ما تتبع الأوبئة هذا النمط. (U.S. Geological Survey, Department of the Interior)

(١-٤) نحن والمستقبل

إذا عرَّفنا الانتخاب الطبيعي على أنه «البقاء للأقوى» فسنواجه مشكلة عويصة؛ فمعدل السمنة حوالي ٣٠٪ في معظم البلدان الصناعية، والشخص البالغ العادي يتنفس بصعوبة بعد صعوده عدة درجات من السلم، و٥٠٪ من الأمريكيين تقريبًا يحتاجون إلى تصحيح الإبصار، و٣٠٪ من المواليد يولدون ولادة قيصرية بدلًا من الولادة الطبيعية. ويتسبب الوصف المبالغ فيه للعقاقير والتخوف الزائد من الجراثيم في ضعف الأجهزة المناعية لدى العديد من البالغين، مع ضعف القدرة على التعافي. فإن جردنا البشر من التكنولوجيا ودفعنا بهم إلى مواقف الصيد وجمع الطعام التي كانت غالبة منذ ١٠ آلاف عام، فلن يبقى أغلبهم على قيد الحياة لمدة شهر.

بدلًا من ذلك اختار البشر أن يقصوا أنفسهم من اللعبة؛ فالأدوات والتكنولوجيا يبدو أنها أعفت البشر من الهرج والمرج المصاحبَين للمشهد الطبيعي القاسي الذي صوَّره داروين. نحن نكيِّف أنفسنا، عمدًا، على الأشياء التي نقوم بها معظم الوقت؛ كالقيادة ومشاهدة التليفزيون والجلوس بترهل إلى المكتب والتحديق في شاشة جهاز كمبيوتر.

من المتعارف عليه أن التطور البشري صار بطيئًا، وربما حتى قد توقف، وفي هذا الصدد قال عالم الوراثة البريطاني ستيف جونز: «يمكن للمجتمعات الصغيرة المعزولة أن تتطور عشوائيًّا؛ إذ تُفقَد الجينات عن غير قصد. لكن صارت كل المجتمعات في جميع أنحاء العالم متصلة بعضها ببعض وتضاءلت معها فرصة التغير العشوائي. التاريخ يُصنع في السرير، لكن صارت الأسرَّة قريبة بعضها من بعض. إننا نمتزج معًا في كتلة عالمية، والمستقبل مظلم.»٦

يشير جونز أيضًا إلى التغيرات التي طرأت على أنماط التكاثر؛ فانخفاض عدد الآباء كبار السن في جميع أنحاء العالم له تأثير على معدل التطافر؛ إذ تزداد الانقسامات الخلوية مع التقدم في العمر، ومع كل انقسام ثمة احتمالية بوقوع خطأ أو طفرة. وبين الحيوان المنوي الذي أنتج شخصًا عمره ٢٩ عامًا وذلك الذي يفرزه الشخص نفسه عدد من الانقسامات يبلغ ٣٠٠ انقسام. وفي حالة الأب الذي عمره ٥٠ عامًا يزيد عدد الانقسامات عن الألف. يعتقد جونز أيضًا أن نمو مجتمعنا يشير ضمنيًّا إلى أن قوة الانتخاب الطبيعي تزداد ضعفًا. وعن ذلك يقول: «في الأزمنة القديمة، كان نصف عدد أطفالنا يموت عن عمر يناهز العشرين عامًا. أما الآن، وفي عالمنا الغربي، فنسبة ٩٨٪ منهم يبقون على قيد الحياة حتى سن الحادية والعشرين.» ويجادل جونز بأن هناك ثلاثة مكونات رئيسية للتطور مختزلة في البشر، وهي: الانتخاب الطبيعي والتطافر والتغير العشوائي.

يقبل أوليفر كاري — المنظِّر التطوري بكلية لندن لعلم الاقتصاد — هذه الصورة الكلية، لكنه يضيف التنبؤ بتشعب الجنس البشري إلى نوعين بعد ألوف قليلة من الأعوام؛ فمع ازدياد الثروة ومعدلات السفر ستقل الاختلافات الثقافية. ستنشأ صفوة من الأشخاص الأذكياء طوال القامة ذوي البشرة بنية اللون، لكن الاصطفاء الجنسي سيحتم عليهم الانحراف عن أغلب البشر، الذين سيكونون بسبب الاعتماد المفرط على التكنولوجيا أشخاصًا قصار القامة يتصفون بالقصر والقبح والغباء ويشبهون العفاريت في ملامحهم. من وجهة نظر كاري تكون النتيجة صنفين من البشر؛ «أقوياء» و«نحلاء»، كجنسي الإيلوي والمورلوك في رواية «آلة الزمن» للكاتب إتش جي ويلز. لنأمل ألا يحدث هذا السيناريو المظلم أبدًا.

مع ذلك، بينما نتعرف على المزيد من المعلومات عن التفاصيل الأساسية لمادتنا الوراثية، تتراكم الأدلة على أن التطور البشري أكثر نشاطًا من ذي قبل؛ فعلى مدار الستة ملايين عام التي انقضت منذ انفصال البشر عن الشمبانزي، تغير حمضنا النووي بسرعة تزيد سبع مرات عن تلك لدى الشمبانزي. وفي حين يحول التمازج الحالي للبشر دون انحراف أي مجموعة فرعية، فإن النمو السكاني يضمن تزايد التنوع الداخلي ضمن تجميعة الجينات البشرية، ويعمل التزاوج متعدد الأعراق على مستوى الدول على إعادة توحيد جيناتنا بمعدلات غير مسبوقة.

في عام ٢٠٠٥ حدد بروس لان، عالم الوراثة بجامعة شيكاجو، اثنين من الجينات المهمة في تطور المخ انتشرا بسرعة بين الناس؛ وهما جين ميكروسيفالين الذي ظهر منذ ٤٠ ألف عام تقريبًا، ويحمله ٧٠٪ من الناس، وشكل مختلف من جين إيه إس بي إم البروتيني منذ حوالي ١٠ آلاف عام تقريبًا، ويحمله ٢٥٪ من الناس. لا أحد يعرف ما يفعله هذان الجينان، لكن ثمة أمثلة أخرى مهمة للغاية من أجل النجاح والبقاء.

يسمح إنزيم اللاكتيز للناس بتناول اللبن طوال حياتهم، وقد ظهر بعد تدجين الأبقار. ثمة مجموعة أخرى من الجينات بدأت في الظهور منذ ١٠ آلاف عام حين استقر الناس في مجموعات أكبر وصاروا يتعرضون للأوبئة. والآن يُنسب إلى هذه الجينات جزء من مقاومة السكان للملاريا والجدري بل حتى الإيدز.

قاس عالم الأنثروبولوجيا جون هوكس «الحركة التطورية المضطربة» عن طريق البحث عن الأليلات التي تختلف على مستوى قاعدة نيتروجينية واحدة في نسختين فرديتين من الجينوم. ركز جون على مواضع في الجينوم تظهر فيها الاختلافات الوراثية أكثر مما يمكن تفسيره في ضوء الصدفة، وذلك لأنه عادة ما تعطي تلك التغيرات ميزة انتخابية. وجد فريق الأبحاث أدلة على انتخاب حديث في ١٨٠٠ جين؛ أي نسبة ٧٪ من الجينوم.

لقد حدث الانتخاب الإيجابي عبر الأعوام الخمسة آلاف الماضية — وهي فترة امتداد الحضارة — بسرعة أكبر ١٠٠ مرة عنها في أي فترة أخرى من التطور البشري. وقد قال هوكس: «من الناحية الوراثية، نحن نختلف عن الأشخاص الذين عاشوا منذ ٥ آلاف عام بأكثر مما يختلفون هم عن إنسان نياندرتال.» وسيكون من المثير للاهتمام أن نعود بالزمن ٥٠ ألف عام ونرى ما صرنا عليه.

(٢) ما وراء الحياة البيولوجية

(٢-١) أكثر من مجرد إنسان

في اللوح العاشر يتأقلم جلجامش مع وفاة صديقه إنكيدو، ولأنه ملك قوي دائم الحركة؛ نصف إنسان ونصف إله، بدأ جلجامش رحلة خطيرة لزيارة الشخصين الوحيدين اللذين منحتهما الآلهة الخلود، آملًا أن يستطيع هو الآخر الحصول على الخلود. سافر ليلًا عبر اليابسة حيث يحرس البشر العقارب الشمس، وقتل جلجامش العمالقة الحجريين الذين صاحبوا المراكبي ليكتشف بعدها أنها كانت الكائنات الوحيدة التي يمكنها عبور مياه الموت التي لا يمكن لمسها. لذا قطع ٣٠٠ شجرة إلى مجاديف بحيث يمكنه التخلص من كل واحد منها بعد إدخاله في الماء. وأخيرًا وصل إلى جزيرة أوتنابشتيم هو وزوجته وطلب عون الخالدين، فوبخاه قائلين إن محاربة مصير البشر أمر غير ذي جدوى ويفسد بهجة الحياة.

تعد «ملحمة جلجامش» — التي أطلق عليها في الأصل «مَن رأى الأعماق» — من أقدم الأعمال الروائية الأدبية. هي قصيدة ملحمية من بلاد الرافدين القديمة، وهي متأثرة بشدة بالأوديسا التي نظمها هوميروس والقصص التي أدرجت فيما بعد في الإنجيل. ربما كان جلجامش شخصية تاريخية حقيقية؛ إذ كان خامس ملوك أسرة أوروك الأولى في الألفية الثالثة قبل الميلاد، وتخاطبنا قصته عبر القرون لأنها تدور حول القلق بشأن الفقدان والموت. كان الجانب الإلهي من جلجامش يجعله يتذوق مزايا القوة وطول العمر، لكنه لم يستطع الوصول إلى الخلود (الشكل ٤-٤).
fig21
شكل ٤-٤: كان جلجامش — المنحوتة صورته على نقش بارز في العاصمة الآشورية خورسباد — بطلًا أسطوريًّا يبحث عن الخلود. تتنبأ القصة بالعديد من الموضوعات والأفكار المهيمنة في الأديان التالية، وفي اشتياق جلجامش للحصول على ما هو بعيد المنال يستثير ذلك الرجل، نصف الإنسان ونصف الإله، التعاطف. (Samantha, and Wikipedia Creative Commons)

يخطط راي كرزويل لما هو أفضل؛ فهو يتناول ٢٥٠ مكملًا غذائيًّا يوميًّا ولا يشرب سوى المياه القلوية بالإضافة إلى كميات كبيرة للغاية من الشاي الأخضر، ويتجنب الأنشطة عالية المخاطر. لديه مبرر للشعور بالقلق؛ فكل من والده وجده توفيا إثر مرض بالقلب. يعاني كرزويل النوع الثاني من مرض السكر، لكنه يسيطر عليه عن طريق نظامه الغذائي دون تناول الأنسولين.

يبدو كرزويل كشخص غريب الأطوار، لكن له تاريخًا مشرفًا كعالم في التكنولوجيا، ومختص باستشراف المستقبل، ففي سن الثامنة أنشأ مسرحًا مصغرًا كان فيه جهاز آلي يحرك المشاهد، وفي سن السادسة عشرة فاز بجائزة ليميلسون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهي كبرى الجوائز المقدمة للمخترعين، وحاز القلادة الوطنية للتكنولوجيا. ترتبط رسالته الجوهرية بالتقدم المتسارع الحالي للحوسبة وتكنولوجيا النانو والهندسة الوراثية، وهو يعتقد أن هذه التطورات السريعة ستجتمع معًا في وقت من الأوقات بحيث يكون بمقدور البشر السمو فوق الظواهر والعمليات البيولوجية والعيش للأبد. هذا ليس سيناريو خيال علمي غامضًا؛ إذ يعتقد كرزويل أن «التفرد» — حسبما يسميه — سيتحقق في غضون ٣٠ عامًا تقريبًا.٧

نحن بالفعل نخطو بسلاسة على هذا الطريق، والتكنولوجيا تسير بسرعة أكبر من قدرتنا على السيطرة عليها أو استيعاب تأثيراتها الاجتماعية. ألَّف ويل جارو كتابه «التطور الثوري» لجذب انتباه نطاق أوسع من الجماهير إلى التطور الوراثي. وما الفياجرا والبوتوكس والاستيرويدات ومثبطات استرداد السيروتونين لعلاج الاكتئاب سوى أولى التجسيدات البسيطة للطرق التي سيمكننا بها تغيير أنفسنا باستخدام العلاج الجيني. سيظهر البشر المعدَّلون أولًا في الملاعب الرياضية وساحات القتال، لكن هندسة الجينوم نفسها ستصل إلى جمهور أوسع مع انخفاض تكلفتها. على الرغم من ذلك فالقلق يساور جارو بشأن الضغوط الاجتماعية الناتجة عن وجود مجموعة من الأفراد يُطلق عليهم «المعزَّزون»؛ القادرون على العيش لفترات أطول، الذين سيصيرون أكثر ذكاءً وجاذبية، و«الطبيعيون»؛ الذين يمتنعون عن التحسين الوراثي لأسباب فلسفية أو دينية. ثمة مجموعة ثالثة وكبرى؛ وهم الأفراد المستبعدون من هذا التطور لأسباب مالية، الذين سيشعرون بغضب له ما يبرره.

من وجهة نظر كرزويل ستتحد الحوسبة والتكنولوجيا الطبية بحيث تتمكنان من إصلاح أجزاء أجسامنا من الداخل واستبدالها. وهو ينادى بأن فكرة العداء بين الإنسان والآلة التي يروِّج لها الخيال العلمي ليست صحيحة. بدلًا من ذلك سنتحد نحن البشر مع التكنولوجيا و«نصبح» نحن الآلة. سيكون لدينا ملايين عديدة من الروبوتات المماثلة في حجمها لخلايا الدم أو جسيمات النانو التي ستملأ أجسادنا وتنهض بدوريات حماية ضد الكائنات الممرضة، وتُصلح عظامنا وعضلاتنا وشراييننا وخلايا مخنا. يقول كرزويل: «إن الموت مأساة.» وهؤلاء العمال الذين لا يعرفون التعب والمعنيون بإصلاح الأجساد سيدمرون المرض ويعيدون بناء الأعضاء ويزيلون القيود الطبيعية التي تحدُّ من ذكائنا. وسيجري تنزيل التحسينات الجينية من شبكة الإنترنت. إنها رؤية خيالية مثالية.

(٢-٢) إلى النعيم أم إلى الجحيم

لهذه الرؤية وجه آخر؛ إن كانت التكنولوجيا تستطيع هزيمة التقدم في العمر وبإمكاننا التطور إلى مخلوقات بشرية آلية، فالخلود أمر مغرٍ، لكن بعيدًا عن القضية الأخلاقية الكبرى التي يستثيرها هذا الأمر، أيجدر بنا ذلك؟ إليك السؤال العملي: ماذا لو لم تَسِر الأمور على ما يرام؟

بيل جوي أبرز مناصري سيناريو الديستوبيا (أو اليوتوبيا المعكوسة) الكئيب، وهو يملك إمكانات مثيرة للإعجاب تماثل تلك التي يملكها كرزويل. جوي هو المنشئ الرئيسي لنظام التشغيل يونكس، ومطور بارز للغة البرمجة جافا، وأسس شركة «صن ميكروسيستمز» عام ١٩٨٢. مدفوعًا بمحادثة دارت بينه وبين كرزويل في إحدى الحانات كتب جوي مقالة قصيرة مؤثرة في مجلة «وايرد» بعنوان «لمَ لا يحتاج المستقبل إلينا؟» يعتقد جوي أن أخطار هذه التقنيات هائلة للغاية، حتى إنه ينبغي علينا أن نوقف نشاط الأبحاث في بعض المجالات وندع الساسة وعلماء الاجتماع يدركون الأخطار والتهديدات التي تحملها. مثاله المفضل هو ذلك الذي يتعلق بالباحثين الأستراليين الذين كانوا يبحثون عن عقار مانع للحمل للفئران وبدءوا يتلاعبون بفيروس جدري الفئران. ليس هذا الفيروس ضارًّا للبشر، لكنه وثيق الصلة بالجدري المهلك للبشر. بإجراء تغيير صغير في التركيب الوراثي لهذا الفيروس صار مهلكًا للفئران بنسبة ١٠٠٪، وهي نتيجة صادمة لمعظم علماء الوراثة.

ثمة كم هائل من المعلومات متاح عن الهندسة الوراثية على الويب، وصارت أساليبها سهلة التطبيق، حتى إن جوي يعتقد أن كارثة ستقع لا محالة. وهو يسأل: «إن أعطيتُ لكل شخص من مليون شخص قنبلة ذرية خاصة به، هل تفترض أن واحدًا منهم قد يتصف بالجنون بدرجة كافية لاستخدامها؟» هو قلق من أننا نملك فرصة إبادة الجنس البشري خلال الأعوام الخمسة والعشرين القادمة. في هذا الصدد يحذر جوي قائلًا: «إنَّ فشلَنَا في استيعاب عواقب اختراعاتنا ونحن لا نزال مغمورين بنشوة الاكتشاف والابتكار يبدو خطأً عامًّا يرتكبه العلماء وخبراء التكنولوجيا؛ إذ ظللنا منساقين لوقت طويل وراء رغبتنا الطموحة لدرجة أعمتنا عن تبين الطبيعة الحقيقية للعلم، ودون أن نتوقف لنلاحظ أن التقدم نحو تقنيات أحدث وأقوى يمكن أن يصير هدفًا في حد ذاته.»٨

يبرز جوي معلومة بسيطة موضحًا أن القنبلة لا يمكن استخدامها سوى مرة واحدة، في حين يمكن للروبوتات والكائنات الحية المعدلة وراثيًّا وجسيمات النانو أن تتكاثر من تلقاء نفسها في المستقبل القريب. ومن وجهة نظر مصمم الروبوتات هانز مورافيك، ليس هذا بالشيء السيئ. هو يعتقد أننا يجب أن نعمل بفخر على تصنيع الروبوتات التي ستحل محل البشر كجنس أعلى مكانة على الأرض. ويشير إلى أنها تعد بمنزلة أبناء لنا، وعلينا أن نتنحى جانبًا وهي تشق طريقها في الحياة.

الكثيرون يشعرون بعدم ارتياح حقيقي حيال وجهات نظر كتلك، ولحسن الحظ لا تتقدم التكنولوجيا خارج حدود المحيط الاجتماعي. على مدار تاريخ الأسلحة النووية والطاقة النووية — وهكذا الحال الآن فيما يتعلق بالخلايا الجذعية والاستنساخ — كان هناك دومًا جدال قوي بشأن المخاطر التي تطرحها كل تقنية من هذه التقنيات، وعمل المجتمع عادةً على فرض القوانين التنظيمية والضوابط. ما من سبب يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذا لن يحدث أيضًا مع تكنولوجيا النانو والمعالجة الجينية.

حتى المتشككون بشأن التكنولوجيا قد يشعرون بقوة جذب الرؤية المستقبلية كما يناصرها كلٌّ من جريجوري بول وإيرل كوكس في كتابهما الذي حمل عنوان «ما وراء الإنسانية»: «إننا نمر بحلم يقظة غريب؛ فترة فاصلة موجزة حتمية بين الزمن الطويل للإنسانية المتخلفة تكنولوجيًّا من ناحية، وزمن تفوُّق البشر … سنجد موضعنا الملائم على كوكب الأرض المزدحم بكائن حي أفضل وأكثر تنافسًا. ومع ذلك فهذه ليست نهاية الإنسانية، بل مجرد نهاية لوجودها المادي كشكل من أشكال الحياة البيولوجية.» لكننا قردة جامحة للغاية وليست الحكمة أقوى أسلحتنا، لذا لن تتحقق تلك السيناريوهات بنجاح إلا إذا انتبهنا للأمر انتباهًا شديدًا.

(٢-٣) الرفقة الكونية

إن مستقبل البشرية غامض، وأيًّا كان ما سيحمله المستقبل لنا فثمة احتمال بوجود كواكب مماثلة لكوكبنا في الكون. كل ما علينا فعله هو الافتراض بأن الأحداث التي أدت إلى وجود نوع ذكي يملك التكنولوجيا على هذا الكوكب لم تقع بمحض الصدفة.

لقد رأينا أن المكونات اللازمة للحياة موجودة في كل مكان؛ فالكون البالغ من العمر ١٣٫٧ مليار عام أوجد أيضًا عدة أماكن ملائمة للحياة على الجمرات الصخرية التي تتخلف على المحيط الخارجي البارد عند تشكُّل أحد النجوم. أفضل تقدير حالي هو وجود حوالي ١٠٠ مليون كوكب صالح للحياة في مجرة درب التبانة، التي هي مجرة واحدة من بين ٥٠ مليار مجرة. هذه مساحة كبيرة متاحة للعمليات والظواهر البيولوجية المحتملة. السؤال الآن هو: كم عدد الحضارات الذكية التي يمكن الاتصال بها في المجرة؟ بعبارة أخرى كم عدد أصدقاء المراسلة الذين قد نحظى بهم من الكائنات الفضائية؟

صاغ عالم الفلك فرانك دريك المعادلة الرئيسية في مجال البحث عن كائنات فضائية عاقلة في عام ١٩٦١. هو يدرك أنها تجسيد لجهلنا أكثر من كونها أداة يمكننا إدراج أرقام دقيقة بها للوصول إلى إجابة صحيحة ومحددة. بداية، نحن لا نعلم بعدُ أين تلك الملايين من الكواكب الصالحة للحياة، وفي الحقيقة، إن الكواكب التي نعلم بوجودها خارج المجموعة الشمسية، البالغ عددها ٤٠٠ كوكب تقريبًا، هي كواكب غازية عملاقة غير قابلة للحياة، مع ذلك فإن نماذج المحاكاة الحاسوبية تجعل علماء الفلك على ثقة من وجود كواكب أرضية (غير غازية) تنتظر اكتشافها؛ إذ إننا على بداية الطريق نحو امتلاك الأدوات القوية بالدرجة الكافية كي تمكننا من العثور عليها. علاوة على ذلك، لا بد أن نفترض أن «الآخرين» سيستخدمون تقنياتهم في الاتصال بنا أو إرسال الإشارات إلينا عبر الفضاء دون أن يقتصروا على استخدامها في تحسين حياتهم على كوكبهم الأم.

في ضوء كل ما قيل، ولكي نجد القيمة المقابلة للمعامل (ن) في معادلة دريك؛ الذي يمثل عدد الحضارات الأخرى، سنأخذ حاصل ضرب عدد النجوم المماثلة للشمس التي تولد سنويًّا، ونسبة النجوم التي تحوي كواكب، وعدد الكواكب المماثلة للأرض أو الصالحة للحياة في كل نظام، ونسبة الكواكب التي تأوي حياةً بالفعل، ونسبة الكواكب التي تستمر بحيث تطور حياة ذكية، ونسبة الأنواع الذكية التي تتعلم كيفية الاتصال عبر الفضاء، ومتوسط طول عمر الأنواع التي لها حضارات تكنولوجية قادرة على التواصل (الشكل ٤-٥).
fig22
شكل ٤-٥: تبدأ معادلة دريك بعدد النجوم المماثلة للشمس الموجودة في مجرة درب التبانة، ثم تنقح العدد بواسطة عدد من العوامل المتعاقبة تمثل النجوم التي لها كواكب، والكواكب التي تحمل حياة على سطحها، وأشكال الحياة الذكية، وأشكال الحياة الذكية التي يمكنها الاتصال عبر الفضاء. (Adapted from an original concept by Frank Drake, UC Santa Cruz)
هذا قدر كبير من انعدام اليقين.٩ العوامل القليلة الأولى في معادلة دريك يمكن تحديدها على نحو أفضل بكثير من العوامل القليلة الأخيرة؛ فلو افترضنا أن ثمة خمسة نجوم جديدة مماثلة للشمس تتشكَّل سنويًّا، وأن نسبة ٥٠٪ من هذه النجوم لها كواكب، وكذلك احتواء كل نظام على كوكبين مماثلين للأرض، بالإضافة إلى أن جميعها تتطور الحياة على سطحه، لكن نسبة ٢٠٪ منها فقط تصل إلى الذكاء والتكنولوجيا، فهذا سيبسط المعادلة على صورة ن = ط؛ بمعنى أن إجمالي عدد أصدقاء المراسلة الفضائيين يعتمد على متوسط طول عمر حضاراتهم. كان فرانك دريك منبهرًا للغاية بالصيغة الرائعة التي توصل إليها، حتى إن لوحة أرقام سيارته حملت الحروف الأولى منها.

كانت مجرة درب التبانة موجودة منذ أكثر من ١٢ مليار عام. والنجوم تولد وتموت طوال الوقت. في بعض الأماكن بدأت الحياة البيولوجية لتوها على كوكب تشكَّل حديثًا، وتطورت الحياة في كواكب أخرى لملايين عديدة من السنوات، وتخمد الحياة في كواكب أخرى بفعل موت النجم الذي تدور حوله. وفي عدد أكبر بكثير من المواقع يكون الكوكب موجودًا، لكنه لا يستضيف على سطحه حياة من أي نوع. وتؤكد معادلة دريك في صورتها المبسطة على هذه الاحتمالات المتنوعة. إنها مرآة نحملها كي نرى انعكاساتنا في النجوم.

إن ما يهم ليس الوقت الذي يتصف فيه النوع بالذكاء، وإنما ذلك الذي يجمع فيه بين الذكاء والتكنولوجيا بدرجة كافية لإرسال الإشارات في الفضاء أو الاستماع إلى الإشارات المرسلة من حضارات مماثلة. لاحظ أن معادلة دريك تركز انتباهنا بوجه خاص على الأنواع التي تحقق القفزة من الوعي بالذات إلى التكنولوجيا. وفي ذلك توصيف مبالغ فيه؛ فنحن نتقاسم كوكب الأرض مع أنواع ذات وظيفة معرفية عالية وتبصُّر بالذات، لكنها لا تملك إخضاع الطبيعة لإرادتها؛ مثل الفيل والأخطبوط والحوت القاتل. في تنبئنا بالاحتمالات الرائعة للتطور البيولوجي في الفضاء، هل نحن مهتمون حقًّا باستخدام أجهزة الطاقة أكثر من اهتمامنا بنظم الشعر؟

إن كان الذكاء ملمحًا دائمًا في تطور الكائن، وتشكُّل التكنولوجيا مرحلة مؤقتة منه، فعندئذ ستعطي معادلة دريك تقييمًا متشائمًا لإمكانية وجود رفقة كونية، وهو ما يرجع للفارق في الحجم. دعنا نتجاهل مؤقتًا الأنواع التي تظل حبيسة لأفكارها.

فكِّر في احتمالين. من الواضح أننا نقترب من منتصف ليل ساعة يوم القيامة. افترض أننا وصلنا إلى التفرد الذي تناوله كرزويل، وأن عدم استقرار هذه التكنولوجيا يدمرنا. إن حدث ذلك في غضون ٥٠ عامًا فسنكون قد بدأنا في إرسال إشارات الراديو وسفن الفضاء في الفضاء منذ ١٠٠ عام، إذن (ط) = ١٠٠ عام و(ن) = ١٠٠. مع تناثر مائة حضارة في أرجاء الفضاء ستكون المجرة مكانًا مهجورًا للغاية. وسيبلغ متوسط المسافة بين أصدقائنا بالمراسلة حوالي ١٠ آلاف سنة ضوئية. والأسوأ من ذلك أنهم لا يعيشون سوى ١٠٠ عام في حالة قابلة لنقل الإشارات، بحيث لا يمكن تبادل أي إشارات قبل أن تُدمِّر أيٌّ من الحضارتين نفسها.

تفترض عملية حسابية أكثر تفاؤلًا أننا سنبقى طيلة فترة البقاء النموذجية لأحد الأنواع ونحن بحالتنا المتقدمة حاليًّا، وذلك يعطينا مليون عام؛ عندئذ سيكون (ط) = مليون عام و(ن) = مليونًا. في هذه الحالة تكون المجرة حافلة بالحضارات، ومتوسط المسافة بينها هو ١٠٠ سنة ضوئية فقط. لقد قصرنا انتباهنا فقط على النجوم القليلة الموجودة في درب التبانة والبالغ عددها مائة مليار نجم. لا بد من ضرب عدد الكائنات الفضائية الذكية الموجودة في مجرتنا في عدد المجرات الموجودة بالكون التي يبلغ عددها ٥٠ مليار مجرة. معظم هذه المجرات يقع على مسافات شاسعة، لكن إن استمرت بعض الحضارات لعشرات أو مئات الملايين من الأعوام يمكنها التحاور عبر المجرات.١٠

إن كانت تلك الأنواع موجودة فقد تخطَّت درجة التفرد كثيرًا، وستبدو لنا خالدة كالآلهة. قد لا تكون الرفقة الكونية، أو وعد الخلاص على يد كيان أكثر سموًّا، تحفيزًا كافيًا لنا لاجتياز طفولتنا التكنولوجية المحفوفة بالمشكلات، لكن إن استطعنا ذلك يمكننا أن نحتل مكاننا بين أبناء النجوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤