الفصل السابع

العيش في مجموعة شمسية

ليس في هذه الصخرة ما يغري بالنظر إليها؛ فهي تكوين رسوبي حُبيبي الملمس ذو لون رمادي باهت، ولا تزيد في حجمها عن ثمرة البطاطس. هي واحدة من آلاف الصخور التي تتحرر من نطاق الجاذبية الضعيف لكوكب المريخ حين يصطدم أحد الأحجار النيزكية بالبحر المالح لسهل مريدياني بلانوم. تحتوي هذه الصخرة على عينات من الحصائر الميكروبية الكثيفة التي تغطي سطح البحر الضحل، شأنها في ذلك شأن العديد من الصخور التي قذف بها الاصطدام. سرعان ما يتناثر الحطام في الفضاء بين الكواكب بعد تشكل المجموعة الشمسية وتصير الاصطدامات شائعة.

يمر الوقت، وتنطلق معظم الصخور التي قذفها المريخ في الفضاء العميق بلا حدود. هذه الصخرة مميزة؛ لأن مسارها تقاطع في الزمان والمكان المناسبين مع كوكب الأرض بعد أن دار في مداره مليون مرة. تسقط الصخرة من سماء زرقاء على كوكب مجدب. لقد عمَّ الدمار كوكب الأرض بفعل سلسلة الارتطامات الهائلة التي أدت إلى تبخر المحيطات وذوبان السطح الصخري؛ مما أدى إلى فناء الميكروبات البدائية التي تشكلت في دهر الهاديان الذي مر به الكوكب.

ترتفع حرارة الصخرة مع دخولها الغلاف الجوي السميك، لكن مركزها يظل باردًا. بعد مرور سنوات على هبوطها، يؤدي تعرضها للتجمد وذوبان الجليد على نحو متناوب إلى تفتتها، ويذيب المطر بعض مكوناتها الداخلية ويرسب مادتها في بركة ضحلة، حينئذ تزوَّد الميكروبات بالمياه، وتعود إلى الحياة مرة أخرى. ومع أن المواد الكيميائية للموطن الجديد المحيط تشكل بيئة مثيرة للتحدي لتلك الميكروبات، فبعد آلاف الأجيال من التكيف تزدهر هذه الميكروبات وتنتشر في العديد من المكامن البيئية الجديدة.

يتباين مسارا الكوكب الأم والكوكب المتبني للصخرة، فكوكب المريخ ليس ذا جاذبية كافية تتيح له الاحتفاظ بغلاف جوي سميك أو تحريك التكتونيات؛ لذا يتعرض الكوكب للجفاف ويصير صحراء قارصة البرودة. أما كوكب الأرض فله غلاف جوي سميك يموج بنتاج عملية التمثيل الضوئي، ومع الوقت، تبزغ شجرة الحياة ذات التنوع البيولوجي شديد التعقيد.

بعد أن تجتاز الأرض مدارها مرات ومرات عديدة، تنطلق أربعة من الكائنات الحية كبيرة الحجم لكوكب الأرض في الفضاء. هي لا تنتقل في صخرة، بل في حاوية معدنية تحوي عالمًا مصغرًا يماثل الغلاف الجوي للكوكب. وفي حين تطل هذه الكائنات بناظريها بشغف عبر نافذة صغيرة، يلوح المريخ في الأفق. وفيما بعد، وعلى سطح المريخ، تعمل هذه الكائنات متسلحة بهدف، وتتحرك بيسر في الجاذبية الرقيقة. إنها بعيدة للغاية عن الوطن، لكنها عادت إلى الوطن أيضًا.

***

(١) نقاط زرقاء باهتة

(١-١) كوكب الأرض النادر

تطرقنا حتى الآن للنهايات في إطار سياق ثلاثة عوالم مألوفة ومتداخلة: الكائن البشري، والأنواع البشرية، والمحيط الحيوي الذي يضم كل البشر. الآن نخطو خارج عالم المألوف لننتقل إلى العالم الكوني غير المألوف.

ثمة سبب يدفعنا لتدبر الكيفية التي ستنتهي عليها حياتنا، وهي وفاة مليارات الأشخاص على مر التاريخ، وعلى نحو مماثل ثمة سبب يدفعنا لتدبر الكيفية التي سينتهي عليها نوعنا؛ أن كل الأنواع قد تعرضت لآلية الانتخاب الطبيعي. لكن في حالة المحيط الحيوي وكوكب الأرض نحن نواجه مشكلة تتمثل في وجود مثال واحد فقط يمكننا دراسته والتعلم منه. وللاهتداء إلى الكيفية التي سينتهي بها العالم، نحتاج إلى إيجاد أمثلة أخرى لكواكب حية تماثل كوكب الأرض. ودون توافر معلومات إضافية، ثمة طريقتان مختلفتان لتفسير حقيقة أننا كائنات ذكية تعيش على كوكب معمر يستضيف حياة وافرة.

ربما يكون كوكب الأرض حالة نادرة. أثار بيتر وارد ودون براونلي، من جامعة واشنطن، بكتابهما الشهير الذي طُرح عام ٢٠٠٠ بعنوان «الأرض النادرة» مناقشات حامية في الدوائر الأكاديمية وما وراءها. يتفق المؤلفان مع معظم العلماء على أن نطاق كائنات البيئات القاسية على كوكب الأرض يشير ضمنيًّا إلى أن الحياة الميكروبية قد تكون شائعةً إلى حدٍّ ما على الكواكب الأرضية خارج المجموعة الشمسية، لكنهما يميزان بشدة بين الحياة من أي نوع والحياة «المعقدة»؛ التي يمكن تعريفها على أنها مخلوقات كبيرة تتمتع بالذكاء. ليس من الضروري أن تتسلح هذه الكائنات بالتكنولوجيا، وليس من الضروري أن تكون بشرًا أو رئيسيات، لكنها مخلوقات كبيرة معقدة متعددة الخلايا تحوي عقولًا أو شيئًا مماثلًا.

يرى وارد وبراونلي أن تطور الحياة المعقدة يحتاج إلى بيئة مستقرة معمرة ومجموعة من الظروف الخاصة إلى حد ما. هذه الظروف تشمل وجود مدار مستدير تقريبًا حول نجم معمر كالشمس، وبيئة «هادئة» مواتية في مجرة درب التبانة، وكوكب عملاق كالمشتري لتوفير الحماية ضد الارتطامات، وقمر كبير لتحقيق استقرار المدار، وقدر كافٍ من الماء، وتكتونيات الصفائح. من العسير للغاية تحقيق كل هذه الشروط، وترتكز حجة «الأرض النادرة» على افتراض أن هذه العوامل تتسم بصفتين متناقضتين؛ أنها غير محتملة الوجود، وأنها ضرورية لتطور حياة معقدة.

خلال العقد الماضي تبين لنا أن الكثير من هذه الشروط ليس ضروريًّا. على سبيل المثال، تُظهر عمليات المحاكاة أن توافر الماء ووجود تكتونيات الصفائح سيكونان من السمات الطبيعية للكواكب الصخرية التي تبعد عن نجومها مسافات تماثل المسافة بين الأرض والشمس. أيضًا تُظهر هذه العمليات أن وجود كوكب ضخم كالمشتري يمكن أن يتسبب في عدد كبير من الارتطامات الهائلة بقدر ما يحول دونها. والأهم من ذلك أنه لم يثبت بعد — وربما من المستحيل أن يثبت — أن أيًّا من هذه السمات «ضروري» لتطور حياة معقدة. لقد رأينا بالفعل أن الحياة والبيئة يوجدان على نحو تكافلي؛ لذا سيكون استخدام صفات البيئة المادية للزعم بعدم احتمالية نتيجة معينة منطقًا مغلوطًا. كل ذلك يوجهنا إلى الاتجاه المعاكس.

قد لا تكون الأرض نادرةً. لقد عمل علم الفلك بنجاح في ضوء مبدأ كوبرنيكوس، أو «مبدأ عدم التميز»، طيلة السنوات الأربعمائة الماضية. لكن هذا المبدأ أشبه بتخمين قائم على الاستكشاف أو على بعض المعلومات منه بنظرية رسمية. فمع كل لحظة، ومع اكتسابنا لمزيد من المعارف عن الكون، نجد أننا لسنا متميزين أو متفردين. ما من شيء فريد أو مميز بشأن مجرة درب التبانة وموقعنا داخلها والنجم الذي ندور حوله. لقد خُلِّقت المكونات الأساسية للحياة — الكربون والماء — ووزعت في كل الأماكن بلا استثناء. ويجري اكتشاف الكواكب خارج المجموعة الشمسية بصورة أسبوعية تقريبًا؛ إذ يسجل التعداد الحالي ٤٠٠ كوكب تقريبًا، وسرعان ما سنكتشف كواكب مماثلة للأرض.١

فكر في الكواكب على أنها حبيبات من الرمل. في رقعة من الشاطئ تبلغ مساحتها مترًا مربعًا، وبافتراض أن الرمل يمتد فيها بعمق متر واحد، يصل عدد حبيبات الرمل إلى حوالي ١٠ مليار حبة رمل. لو تجاهلنا الكواكب العملاقة الغازية وأقمارها، يكون ذلك التقييم مقبولًا ظاهريًّا لعدد الكواكب الأرضية في مجرة درب التبانة. الآن لنتخيل أننا سنفحص كل حبة رمل في ذلك المتر المكعب. في ضوء سيناريو كوكب الأرض النادر، قد يكون من غير المرجح للغاية أن تقابل أي حبة رمل يمكن العيش عليها كما هو ممكن على حبة رملنا. لكن إذا لم يكن هناك شيء مميز بشأننا، فقد تحتوي المساحة البالغة مترًا مكعبًا على آلاف أو حتى ملايين الكواكب المماثلة لكوكب الأرض.

تشمل فرضية كوكب الأرض النادر عامل الوقت؛ إذ استغرق انتقال الكائنات من المادة البدائية اللزجة إلى الحضارة ٤ مليارات عام على هذا الكوكب (الشكل ٧-١). ليست فترات التطور المتواصل الطويلة أمرًا ممكنًا في العديد من المناطق في المجرة وحول العديد من النجوم الهائلة. كيف يمكننا أن نقرر أن الوقت الذي استغرقه تطور حياة معقدة على سطح الأرض يجعل تطورها في أي مكان آخر أمرًا مرجحًا أو غير مرجح؟
fig34
شكل ٧-١: في تسلسل زمني لتاريخ كوكب الأرض، يتصف موقعنا ككائنات ذكية بأنه حديث للغاية. يمكن تقديم حجج إحصائية تحدد عمر الإنسانية بناءً على حقيقة أن موقعنا في التاريخ ليس مميزًا. على الجانب الآخر، ليس لدينا نظرية عامة لتطور الذكاء. (John Valley, University of Madison-Wisconsin)

يرى ريتشارد جوت، عالم الفيزياء الفلكية بجامعة برنستون، أن حجة مبدأ كوبرنيكوس يمكن تطبيقها على المواقف التي لا يتاح لديك فيها سوى عينة واحدة، ما دام ليس هناك أي سبب للاعتقاد بأنك ترصد الموقف في وقت خاص. والمنطق هنا شديد البساطة، لدرجة قد تستعصي على التصديق؛ فاحتمالية رصد الشيء في منتصف فترة وجوده أكبر من احتمالية رصده عند بدايته أو نهايته. ونسبة احتمالية رصد الشيء في منتصف فترة وجوده تبلغ ٥٠٪ في حين تبلغ احتمالية رصده في الفترة الممتدة ما بين انقضاء ٢٫٥٪ من عمره وقبل ٢٫٥٪ من نهايته ٩٥٪، وهذا ينطبق على أي موقف رصد.

طبق جوت هذا التفكير على قادة العالم وعلى الكلاب وعلى المسرحيات الموسيقية المعروضة في برودواي، لكن دعنا نستخدم مثاله عن البشرية. نحن موجودون منذ حوالي ٢٠٠ ألف عام. ووفق الحجة الزمنية لمبدأ كوبرنيكوس، من غير المحتمل أن يمثل عدد الأعوام البالغ ٢٠٠ ألف عام نسبتي اﻟ ٢٫٥٪ الأولى أو الأخيرة من نطاق الوجود الكامل للبشرية. وفي ظل نسبة احتمالية تبلغ ٩٥٪ سيظل الجنس البشري باقيًا لمدة تزيد عن ٥١٠٠ عام وتقل عن ٧٫٨ ملايين عامًا، وهو ما قد نتوقعه بالنظر للأنواع الأخرى من الثدييات.٢

يمكن تطبيق مبدأ كوبرنيكوس من أجل تحديد وقت النشوء بدلًا من طول البقاء. افترض أن ثمة حياة معقدة موجودة في مكان آخر في الكون، وأن الوقت الذي استغرقته الحياة للنشوء على كوكب الأرض ليس مميزًا بأي شكل، بل هو نموذج للتوزيع الإجمالي. لقد استغرق تطور الحياة المعقدة على الأرض ٤ مليارات عام. لذا بوسعنا أن نقول في ثقة تبلغ نسبتها ٩٥٪ إن تطور الحياة المعقدة في أي مكان آخر يجب أن يستغرق ما بين ١٠٠ مليون عام و٨٠٠ مليار عام. هذا نطاق شاسع للغاية، لكنه يعلمنا بالكثير، فعند النهاية العظمى، لا يمكن إلا للنجوم الأقل كتلة أن تستضيف الحياة، وستكون المناطق الصالحة لاستضافة الحياة حولها قليلة للغاية. أما عند النهاية الصغرى، يسلم بيتر وارد بأن تطور الحياة المعقدة لن يستغرق سوى ١٠٠ مليون عام، وهذا سيفسح المجال لمشاركة النجوم عالية الكتلة ذات الأعمار الأقصر بكثير من الشمس.

(١-٢) العثور على البلية المثالية

حين كنتَ طفلًا أعطاك أحدهم بلية. كان ذلك منذ وقت طويل للغاية حتى إنك لا تتذكر تمامًا من أعطاك إياها أو متى كان ذلك. هذه البلية جميلة الشكل، بها خطوط من اللون الأزرق والأخضر على خلفية بيضاء. صرت تحملها معك في كل مكان وترتبط بها إلى حد بعيد. هذه البلية هي ملكية أثيرة لديك.

لنقل إن هذه البلية هي كوكب أرضي يحوي حياةً معقدةً؛ عالم مثل كوكب الأرض. إن كانت هذه البلية هي الوحيدة التي رأيناها أو عرفناها على الإطلاق، ما الذي ستنبئنا به هذه البلية بشأن خصائص كرات البلي الأخرى أو الكواكب الأخرى؟ ربما ليس قدرًا كبيرًا، وقد لا تنبئنا بشيء على الإطلاق. ومع ذلك يحاول العلماء، سواء المتقبلون تمامًا لفرضية كوكب الأرض النادر أو الرافضون لها، أن يثبتوا أن هذه البلية إما استثنائية أو شائعة الوجود!

إننا عالقون في شباك مشكلة مرتبطة بالاستقراء؛ أي الوصول إلى أحكام عامة من عينة واحدة. ذلك الأمر محفوف بالمخاطر من الناحية المنطقية، وقد نتوصل إلى استنتاج خاطئ إن لم تتوافر «نظرية عامة للبلي». افترض أن هناك كيسًا كبيرًا مخمليًّا أسود اللون يحوي عددًا من كرات البلي التي تمثل كل الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية. يُسمح لنا بأخذ بلية واحدة من الكيس، وحين نفعل، نجد بين يدينا بلية جميلة؛ بلية بيضاء تتخللها دوائر خضراء وزرقاء اللون. بم سينبئنا هذا بشأن كرات البلي الأخرى الموجودة في الكيس؟ قد نخمن أن جميعها تماثل الأولى، أو أن هذا هو الحال مع بعضها أو عدد قليل للغاية منها، لكن في الحقيقة لا يمكننا سوى أن نقول إن الكيس به بلية واحدة بيضاء ذات دوائر زرقاء وخضراء على الأقل، وأننا كنا محظوظين في اختيارنا الأول.

الآن افترض أن الكيس يحمل ثلاثة أنواع من كرات البلي. ثمة كرات بلي كبيرة سوداء تمثل كواكب كالمشتري، وهي الكواكب العملاقة الغازية التي لا تحمل أي حياة على سطحها. ثمة كرات بلي بيضاء صغيرة تمثل الكواكب الأرضية كالأرض، وهي تحمل اللون الأبيض الذي يشير إلى وجود حياة ميكروبية. أيضًا ثمة كرات بلي بيضاء تحوي ألوانًا إضافية كالبلية الأولى التي حظينا بها، وهي تمثل الكواكب الأرضية المماثلة لكوكب الأرض التي طورت حياة معقدة على سطحها. على هذا النحو، افترضنا أن جميع الكواكب الأرضية الشبيهة بالأرض تحوي حياةً من نوع ما، لكننا لم نذكر شيئًا عن أعدادها النسبية. وقد يكون كل نوع من أنواع البلي شائعًا أو نادرًا.

إن أخذنا بلية واحدة من الكيس؛ من النوع الأبيض الذي يحوي اللونين الأزرق والأخضر، فلن ينبئنا هذا بشيء إضافي. لكن لو كانت كرات البلي الثلاث الأولى التي التقطناها متماثلة، فقد نبدأ في الشك بأن هذا النوع شائع، وإن كانت كرات البلي العشر الأولى متماثلة فستزداد ثقتنا بشأن هذا الأمر. على الجانب الآخر، إن كانت بلية واحدة من كرات البلي العشر الأولى بيضاء وتحوي اللونين الأزرق والأخضر في حين هناك ثماني كرات تحمل لونًا أبيض خالصًا وواحدة أخرى كبيرة وسوداء، فقد نستنتج على نحو مبدئي أن الكواكب الأرضية شائعة، لكن الحياة المعقدة نادرة إلى حد ما.

لسوء الحظ، صار الموقف مختلفًا إلى حدٍّ ما في هذه المرحلة من البحث عن الكواكب خارج المجموعة الشمسية. تخيل أنك لا تستطيع مد يدك داخل الكيس، بل عليك أن تختار الكواكب مستخدمًا حلقة متصلة بمقبض طويل. تلتقط الحلقة كرات البلي السوداء الكبيرة لكن الكرات البيضاء الصغيرة تنسل منها بسهولة. تمسك الحلقة ببلية سوداء كبيرة واحدة تلو الأخرى. وحتى إن كنت مقتنعًا بوجود كرات بلي أصغر حجمًا في الكيس، فأنت لا تستطيع الإمساك بها (الشكل ٧-٢). يكتشف علماء الفلك بسهولة الكواكب المشابهة للمشتري وأورانوس، لكنهم يعجزون عن اكتشاف الكواكب المشابهة للأرض والمريخ على نحو منتظم. وكل التخمين بشأن وفرة كرات البلي البيضاء من أي نوع هو تخمين غير مؤكد بدرجة كبيرة. لكن توزيع الكتل المتزايد في سرعة تجاه حدود الملاحظات الحالية يشير ضمنيًّا إلى وجود «جبل جليدي» من الكواكب الأقل كتلة تنتظر اكتشافها.
fig35
شكل ٧-٢: توزيع كتلة أكثر من ثلثي الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية التي اكتُشفت حتى الآن على مسافة ٢٠٠ فرسخ نجمي أو ٦٥٠ سنة ضوئية. تؤثر درجة انحراف النظام على نسبة تأثير دوبلر المرصودة، ودرجة الانحراف تلك غير معروفة عادةً؛ لذا يكون المحور السيني هو حاصل ضرب الكتلة وجيب زاوية الانحراف (بعبارة أخرى، الحد الأدنى للكتلة). يزيد التوزيع بسرعة قرب كتلة المشتري التي كانت حتى وقت متأخر الحد المطبق في معظم الدراسات. هذا يشير ضمنيًّا إلى وجود عدد كبير من الكواكب ذات الكتلة الأقل غير المكتشفة بالقرب من الحافة اليسرى من الرسم البياني؛ النظرة الحالية «مقيدة» بواقع حدود الاكتشاف. (Geoff Marcy, UC Berkeley, and the California and Carnegie Planet Search)

(١-٣) تميزنا

عند مناقشة فرضية «كوكب الأرض النادر» من الشائع أن تندمج فكرتا الندرة والتميز، لذا فلنحاول الفصل بينهما، فالكواكب المماثلة للأرض قد تكون نادرةً وقد لا تكون كذلك، وهو ما يمكن لعمليات الرصد أن تحدده في الوقت المناسب.

أما التساؤل عما إذا كانت الكواكب المماثلة للأرض هي الكواكب الوحيدة التي يمكن أن تشهد تطور الحياة المعقدة فهو أمر مختلف تمامًا. إن كانت أفكارنا عن الحياة المعقدة وكيفية تطورها شديدة التمركز حول كوكب الأرض فربما يكون كل ما فعلناه هو نسج قصة تفسر السبب وراء ضرورة أن يكون العالم من حولنا على النحو الذي هو عليه كي يوجد البشر. إننا لا نزال في مرحلة الصراع من أجل اكتشاف كواكب مماثلة للأرض، أما تحديد خصائص الكواكب بما يكفي لأن نحدد إذا كانت صالحةً للحياة أو هي مأهولة بالفعل فهو أمر يبعد عنا بعدد قليل من الأعوام، أما التحقق فعليًّا من علامات وجود حياة على كواكب الأرض البعيدة فربما يبعد عنا بعدد من الأعوام يتراوح من ١٠ إلى ٢٠ عامًا.

ديفيد جرينسبون هو أحد العلماء المتخصصين في علم الكواكب، وأيضًا هو عازف جيتار غير متفرغ بفرقة روك. إنه عالم يعتمد على المشاركة النشطة، وهو يرضى بالتعلم من المسبارات الفضائية، لكنه يتوق لأن يهيم على سطح العوالم الغريبة بنفسه. وهو يملك وجهة نظر غير مألوفة بشأن النتيجة غير العادية؛ إذ يقول: «تحولت سلالة قطي ووكي من قطط أزقة تكاد تتضور جوعًا إلى قطط منزلية محبوبة عبر سلسلة غير محتملة من الحوادث … ثقوا بي، ففي ضوء كل الأحداث الاستثنائية التي تحتم مرور سلالته بها على نحو ما سارت عليه تمامًا، من المرجح بشدة أنه ما من قط آخر مثل ووكي. لا أقصد من كلامي هذا أنه لا وجود لأي قطط أخرى («فرضية القطة النادرة»)، كل ما هنالك أنه لا توجد قطط أخرى تماثل ووكي تمامًا.»٣

قد لا يكون مفهوم «التميز» مفيدًا، فنحن لا نعرف سوى أحد المسارات التي تطورت من خلالها الحياة لتصير ذكية. ربما يكون المسار الوحيد، لكن لا يوجد ما يدعونا للاعتقاد بذلك. الأرجح أن تفكيرنا أو تطورنا مقيد بالبيئة التي نعيش فيها وأنه يفتقر إلى الخيال. لقد ألف جاك كوهين وإيان ستيوارت كتابًا عنوانه «كيف يبدو المريخيون؟» هدف في جزء منه إلى دحض مفهوم كوكب الأرض النادر.

مثلما تصمد كائنات البيئات القاسية في ظروف مادية متنوعة — تعد طبيعيةً وغير استثنائية بالنسبة لها، لكنها شديدة الصعوبة لنا — من الممكن أن يكون باستطاعة أكثر صور الحياة تطورًا أو تعقيدًا أن تصمد في ظروف غير مألوفة. ومع ذلك، فقد يكون قضاء يوم على الشاطئ أمرًا مروعًا لمثل تلك الكائنات، أو حسبما وصفه كوهين وستيوارت: «يتدفق في جميع أرجاء المكان إشعاع كهرومغناطيسي منهمر كالأمطار، وغلاف جوي متآكل من الأكسجين، وتلك المادة المذيبة الشديدة المسماة بأول أكسيد الهيدروجين.»

لنعُد إلى حجة مبدأ كوبرنيكوس التي ذهبت إلى أن لحظة وجودنا في التاريخ ليست مميزة. قدم عالم الفيزياء الأسترالي براندون كارتر أول شكل من الحجة التي قَدَّمها في وقت لاحق بقدر هائل من التفصيل ريتشارد جوت، عالم الفيزياء الفلكية بجامعة برنستون. افترض فحسب أننا لا نعيش بين أوائل أفراد نوعنا القليلين أو أواخرهم؛ أي إن مكاننا على «القائمة البشرية» ليس فريدًا أو مميزًا. يبلغ عدد جميع البشر الذين عاشوا على الأرض حوالي ١٠٠ مليار إنسان، وذلك تقدير جيد للمكان الذي نحتله على القائمة.٤
الآن تفكر في سيناريوهين للمستقبل: وجهة النظر التشاؤمية هي أن البشر لن يصمدوا على قيد الحياة إلا لقرنين، ومن ثم يكون إجمالي عدد البشر الذين عاشوا على الأرض هو ١٢٠ مليار شخص. أما وجهة النظر التفاؤلية فتقضي ببقاء البشرية لآلاف عديدة من الأعوام، وربما يصل الأمر إلى الخروج من كوكب الأرض والتميز بالخصوبة وتضاعف الأعداد، ومن ثم يُقدر لأعداد هائلة من البشر، تصل إلى عدة تريليونات، أن تولد في المستقبل. طبقًا لما ذهب إليه كارتر، يدعونا «مبدأ عدم التميز» إلى تصديق السيناريو المتشائم؛ لأن مكاننا على قائمة البشرية يأتي بعد انقضاء نسبة ٨٠٪ منها، وهو ما يعد أمرًا نموذجيًّا وغير مفاجئ، في حين يعني السيناريو المتفائل أننا نوجد في بداية القائمة. دعونا لا نفرط في التفاؤل بشأن مصيرنا.٥

(٢) الحياة فيما وراء الأرض

(٢-١) الزهرة والمريخ ملائمان

يقابل المسافرون مجموعة شمسية بها ثلاثة كواكب أرضية، أحد هذه الكواكب بمنزلة توأم مماثل لكوكب الأرض، لكن غلافه الجوي يحتوي على النيتروجين، ويخلو من الأكسجين، وبه قدر قليل من ثاني أكسيد الكربون، وقارته العظمى الوحيدة محاطة ببحر مالح غني بالمعادن. أما الكوكب الثاني فله غلاف جوي سميك كثيف به ثاني أكسيد الكربون، ويحوي براكين نشطة وعددًا هائلًا من ينابيع المياه الحارة التي تتفجر إلى أنهار دافئة في المرتفعات. الكوكب الثالث هو الأصغر، وله غلاف جوي رقيق، ويحوي بحيرات ضحلة تظهر كالنقاط على سطحه. ويسبب ذوبان القلنسوات الجليدية القطبية شبكة متفرعة من المجاري المائية. وثمة حياة ميكروبية وفيرة على سطح كل كوكب من هذه الكواكب.

المجموعة الشمسية التي وصفناها للتو هي مجموعتنا الشمسية منذ ٣ مليارات عام. الكوكب الأول هو الأرض، والثاني هو الزهرة، والثالث هو المريخ. التكهن الوحيد في الأمر يتعلق بالجملة الأخيرة؛ كوكبا الزهرة والمريخ كانا أكثر ملاءمة للحياة منذ ٣ مليارات عام، على نحو يفوق ما هما عليه الآن، لكننا لا نعرف إن كانا استضافا الحياة فعلًا أم لا (الشكل ٧-٣).

تشير الأدلة الحديثة إلى أن الزهرة اتسم بكونه ملائمًا للحياة أكثر من المريخ في بعض النقاط من تاريخه. إن المريخ الآن كوكب جاف وبارد، وقد دحضت المركبة «مارس ريكونيسانس أوربيتر» الأدلة المثيرة التي أشارت إلى حدوث جريان سطحي حديث وقيعان بحر ضحلة رسوبية. على الجانب الآخر تشير نماذج لكوكب الزهرة إلى أنه احتفظ بمحيطات من الماء السائل مدة مليار عام بعد تشكله، وهو ما يوفر قدرًا هائلًا من الوقت كي تتشكل الحياة بعد نهاية حقبة القصف الشديد. إن ديفيد جرينسبون متحمس للغاية حيال إرسال مركبة تهبط على سطح كوكب الزهرة للبحث عن آثار للحياة السابقة في الأجزاء الصغيرة من سطحه التي لم يُعِد النشاط البركاني تشكيلها. لكن قد تكون المهمة صعبة للغاية في ضوء الظروف الطبيعية الوعرة. ويصل الأمر به إلى حد اعتقاد أن الحياة ربما انتقلت إلى مكمن بيئي في الطبقات الكثيفة للسحب بعد تبخر المحيطات. وهو يشير إلى إمكانية وجود سكان لكوكب الزهرة مثلما يُعتقد بوجود سكان لكوكب المريخ.

fig36
شكل ٧-٣: مخطط يوضح صور التطور المختلفة لثلاثة كواكب أرضية في المجموعة الشمسية من المحتمل أنها كانت صالحة للحياة منذ ٣ مليارات عام. وقع كوكب الزهرة ضحية لاحتباس حراري متواصل، فيما جف كوكب المريخ وفقد معظم غلافه الجوي. أما كوكب الأرض فهو الكوكب الوحيد الذي ظل صالحًا للحياة. (Nick Strobel, UC Bakersfield, and Astronomy Notes)
ليست الظروف مثالية تمامًا على كوكب الأرض؛ إذ إنه يستضيف الحياة بالكاد. وتكشف عمليات محاكاة الكواكب الأرضية التي تتراوح كتلتها من ١ / ٢ إلى ١٠ أضعاف كتلة الأرض عن حقيقة أن تكتونيات الصفائح تعجز عن القيام بعملها حين يكون الكوكب أصغر بكثير من كوكبنا. هذه التكتونيات هي مكون أولي — وربما رئيسي — للحياة؛ نظرًا لأنها تتيح العمليات الكيميائية المعقدة وإعادة تدوير ثاني أكسيد الكربون؛ هذا يمنح الكوكب غطاءً واقيًا دافئًا. وقد اكتشف علماء الفلك أكثر من اثني عشر «كوكبًا ضخمًا مماثلًا للأرض»، وهذا مسمى يطلق على الكواكب التي تزيد في حجمها مرتين عن حجم كوكبنا وتفوق كتلة كوكبنا بما يعادل ١٠ مرات. من المحتمل أن تكون هذه الكواكب نشطة على نحو صاخب، وتحوي ألواحًا متصادمة وينابيع ساخنة متفجرة ودورة شديدة العنف للكربون. هذه الكواكب الضخمة المماثلة للأرض تسير على طريق الحياة في سرعة شديدة، ومن غير الواضح ما إذا كانت أكبر أشكال الحياة حجمًا يمكنها التعامل مع هذا الأمر أم لا.٦

إن صلاحية الكوكب للحياة تتطور مع تطور الكوكب نفسه. ليس مصير الكواكب محددًا على نحو قاطع، بل يتغير تبعًا للظروف. والعمليات الجيولوجية والكيميائية تعمل على تآكل الكواكب كافة، عدا متناهية الصغر. وبصرف النظر عن النجم الذي يدور حوله الكوكب كبير الحجم، فإن كل كوكب كبير الحجم يحتفظ بمصدر طاقة في الانحلال الإشعاعي للعناصر الثقيلة التي تكمن بعمق في مركزه. وبفضل دفعة الطاقة هذه تحتفظ الكواكب ﺑ «حيوات» خاصة بها. إن بدأت الحياة البيولوجية على سطح الكوكب فإنها تبدأ على الفور في تغيير بيئته. لقد بدأت مجموعتنا الشمسية بثلاثة كواكب أرضية صالحة للحياة، اثنان منها عانيا من تغيرات مناخية خاطفة تركتهما قاحلين، أما الثالث فقد أعاد تشكيل ذاته لكي يظل صالحًا للحياة.

(٢-٢) الحياة على الأقمار

من الطبيعي أن تثير الكواكب الأرضية الاهتمام عند البحث عن عوالم حية أخرى، لكن أقمار الكواكب العملاقة الغازية كشفت عن إشارات طفيفة لصلاحيتها للحياة منذ أن مسحتها مسبارات المركبة «فوياجر»، فعلى الرغم من أن الكواكب العملاقة الغازية تقع خارج النطاق الذي يمكن أن يوجد به الماء في حالته السائلة على سطح أحد الأقمار، فثمة مصادر محلية للطاقة؛ كالحرارة الناتجة عن الإشعاع المنبعث من الصخور الداخلية والمد الحراري الوارد من الكوكب الغازي العملاق.

في أواخر عام ٢٠٠٨ عدَّد علماء الفلك ١٧٢ قمرًا في المجموعة الشمسية. يملك كل من المشتري وزحل قرابة ٦٠ قمرًا، ويملك أورانوس ٢٧ قمرًا، ونبتون والكواكب القزمة لها ١٦ قمرًا. أكبر سبعة أقمار هي: جانيميد وتيتان (وكلاهما أكبر حجمًا من عطارد) وكاليستو ويو وقمر الكرة الأرضية ويوروبا وتريتون. يدور تيتان حول زحل ويدور تريتون حول نبتون الذي يملك ١٣ قمرًا، أما الأقمار الأربعة الأخرى بخلاف قمر الأرض فهي الأقمار التي اكتشف جاليليو دورانها حول المشتري منذ ٤٠٠ عام.٧ تناهز الأقمار الكبيرة الكواكب الصغيرة في الحجم والكتلة، واثنان منها يتمتعان بحالة جيولوجية نشطة وأغلفة جوية قوية.
يعد القمر يوروبا عالمًا غريبًا؛ فسطحه أشبه بأحجية صور مقطعة من طبقات جليدية مجعدة تقبع أسفل غلاف جوي رقيق من الأكسجين. على هذا البعد عن الشمس تكون طبقات الجليد على سطحه صلبة كالجرانيت. لكن المد الحراري الوارد من كوكب المشتري القريب يوفر طاقة كافية للإبقاء على محيط من المياه المالحة بحالته السائلة تحت الجليد عند عمق يبلغ ١٠٠ كيلومتر. ليست البيئة على سطح هذا القمر أشد من بحيرة فوستوك القابعة تحت الجليد في القارة القطبية الجنوبية، وهو ما يثير احتمالية وجود حياة ميكروبية في محيط القمر يوروبا. تسببت ميزانية وكالة ناسا المثقلة في وقف إحدى المهام التي كان من المقرر أن تهبط على الجليد وتشق طريقها عبره وتدرس المحيط بواسطة قمرة مائية. يتحدث بوب بابالاردو على الأرجح نيابةً عن غالبية العلماء المتخصصين في علم الكواكب حين أعرب عن شعوره بالإحباط تجاه هذا الموقف قائلًا: «لقد بذلنا قدرًا كبيرًا من الوقت والجهد في محاولة فهم هل كان المريخ صالحًا للحياة فيما مضى. لكن من المحتمل أن يملك القمر يوروبا جميع العناصر اللازمة للحياة … ليس فقط منذ أربعة مليارات عام … بل اليوم.»٨

القمر تيتان هو ثاني قمر مثير للاهتمام في النطاق الخارجي للمجموعة الشمسية. وقد كشفت المركبة «كاسيني» والمسبار «هويجنز» عن مشهد مألوف لبحار ودلتا أنهار وأطواف جليدية وسحب، لكن على نحو مختلف. يعتمد الطقس النشط للقمر تيتان على الإيثان والميثان والأمونيا والأسيتيلين. تقذف البراكين بمزيج من الأمونيا والماء، كما تُرى بحيرات الهيدروكربونات عند دوائر العرض الشمالية. والغلاف الجوي للقمر تيتان أكثر سمكًا من نظيره في كوكب الأرض، ويكاد يتشكل كلية من النيتروجين. يعد قمر تيتان مختبرًا مبشرًا على نحو مذهل لكيمياء الحياة البدائية، وربما يكون المكان الذي سنجد فيه حياة مختلفة إلى حدٍّ كبير عن أشكال الحياة المألوفة على الأرض.

بخلاف هذين القمرين اللذين يثيران الاهتمام الشديد، تشير النماذج التي أعدها آدم شومان الذي يعمل في «مختبر الأقمار والكواكب» إلى وجود أعداد إضافية من الأقمار تتراوح من ٨ إلى ١٠ أقمار في النطاق الخارجي للمجموعة الشمسية التي ربما يظل فيها الماء في حالته السائلة بفعل الضغط الموجود أسفل قشرة جليدية أو صخرية؛ من ثم لا يمكن استبعاد وجود حياة ميكروبية على سطحها. حتى القمر إنسيلادوس متناهي الصغر — بقطره البالغ ٥٠٠ كيلومتر فقط — كشفت المركبة «كاسيني» حين مرت بجواره عام ٢٠٠٥ عن انفجارات للمياه القابعة تحت سطحه.٩ يقودنا هذا بصورة طبيعية إلى التفكير بشأن الأقمار الصالحة للحياة في الفضاء الشاسع خارج المجموعة الشمسية. في فيلم «عودة الجيداي» يتعقب جنس «الإيوكس» أتباع «دارث فيدر» في «غابة إندور القمرية»، ذات البيئة الشبيهة بالأرض، في حين يدور القمر حول كوكب عملاق غازي كالمشتري. ربما لا يكون الخيال العلمي غريبًا كما نظن.

تمخض البحث عن الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية عن عدد كبير من الكواكب المماثلة للمشتري وأخرى أكبر منه حجمًا، بالإضافة إلى عدد أصغر من الكواكب المماثلة لكوكبي أورانوس ونبتون في الحجم. إن العملية التي تشكلت الأقمار وفقها حول كواكبنا العملاقة الغازية من المفترض أن تجري في المجموعات الشمسية البعيدة؛ لذا يعمل علماء الفلك على تقدير عدد الكواكب البعيدة التي قد تستضيف أقمارًا صالحة للحياة. هناك عدة متطلبات لهذا الأمر؛ إذ يجب أن تساوي كتلة القمر نسبة ٧٪ أو أكبر من كتلة الأرض حتى يكون له غلاف جوي. وإن كانت كتلة القمر أقل من ٢٥٪ من كتلة الأرض فسيحتاج إلى مد حراري كي يكون نشطًا من الناحية الجيولوجية. يجب ألا تشتمل الأقمار على مدارات شديدة الانحراف عن المسارات الدائرية، أو ألا تشهد «فترات نهار» طويلة للغاية تتسبب في وجود درجات حرارة متطرفة. وثمة العديد من البيئات تفي بهذه المعايير.

على الرغم من أن العثور على كواكب تماثل الأرض أمر يصعب على عمليات مسح الكواكب كبيرة الحجم تحقيقه، فثمة احتمال أن تكون هذه العمليات قادرة على التحقق من وجود أقمار حول الكواكب الغازية العملاقة تماثل كوكب الأرض في حجمها. إن حوالي نسبة ١٠٪ من الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية التي عثر عليها حتى الآن تدور في نطاق المنطقة الصالحة للحياة في النجم المستضيف لها. ومع العثور على المزيد من تلك الكواكب يزيد احتمال عبور بعضها من أمام النجم على نحو يمكننا من رؤيته. إن التذبذب في حركة الكوكب الناتج عن وجود قمر كبير الحجم يجعل الكوكب يتباين في موقعه وسرعته، وتلك علامة مميزة تظهر في وقت الكسوف. ثمة حافز كبير وراء عمليات الرصد الصعبة هذه لأن الأقمار يمكن أن تكون أكثر ملاءمة للحياة من الكواكب الموجودة في المكان نفسه.

(٢-٣) حساب عدد العوالم الصالحة للحياة

أولًا؛ ثمة تحذير: تعد عملية حساب عدد العوالم الصالحة للحياة بمنزلة إساءة استخدام للاستقراء، فنحن لم نجمع بعد معلومات كافية لتحديد هل الكواكب الأرضية والأقمار العملاقة في مجموعتنا الشمسية صالحةً للحياة أم لا. والتقدير الاستقرائي بناءً على المعلومات المجزأة المتاحة عن الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية وعبر المجرة الشاسعة هو فعل جريء ومتهور. والآن فلنبدأ.

fig37
شكل ٧-٤: تشير التعريفات التقليدية للمنطقة الصالحة للحياة إلى غلاف من الفضاء يقع حول أحد النجوم، وفيه يتحدد القطر الداخلي والخارجي بنقطتي غليان وتجمد الماء على الترتيب. الشعرى اليمانية (أ) هو نجم ساطع مضيء يضم منطقة واسعة صالحة للحياة، أما النجوم الثلاثة الموجودة إلى اليمين فجميعها موجود في نظام ثلاثي شديد القرب من مجموعتنا الشمسية. وتعادل المنطقة الصالحة للحياة حول القزم الأحمر المسمى بروكسيما سنتوري ثلث حجم النقطة الموجودة فوق حرف (i) في اللغة الإنجليزية. (Justin Cantrell, Todd Henry, Georgia State University, and the RECONS Survey)
إن المادة الخام المتاحة لأي عملية حسابية هي النجوم البالغ عددها ٤٠٠ مليار نجم في مجرة درب التبانة. هذا العدد يخضع لهيمنة الأقزام الحمراء منخفضة الكتلة، التي ربما تشكل ٩٠٪ من إجمالي عدد النجوم، ومن ثم تعد قدرتها على إيواء الحياة أمرًا جوهريًّا. وعام ٢٠٠٥ عقد معهد «سيتي» ورشة عمل تتناول على وجه التحديد مدى صلاحية النجوم القزمة للحياة. تمثلت المخاوف الأساسية في أن الكوكب سيتعين عليه أن يكون قريبًا للغاية من نجم كهذا كي يظل دافئًا، وعلى تلك المسافة سيرتبط مدار الكوكب بمدار النجم على نحو مدي، بحيث يظل أحد جوانبه مواجهًا على الدوام للنجم. لكن الكواكب المماثلة للأرض في حجمها سيكون بها أغلفة جوية سميكة بدرجة كافية لأن تعادل التدفق الحراري. أما القضية الأخرى فهي أن المنطقة الصالحة للحياة حول هذا النجم القزم ستكون ضيقة للغاية مقارنة بنجم كالشمس. لكن يوجد عدد كبير للغاية من النجوم القزمة التي تساهم في مجملها بمساحة كبيرة صالحة للحياة تعادل في حجمها تقريبًا المساحة التي توفرها النجوم المماثلة للشمس (الشكل ٧-٤). إن كانت الكواكب ضخمة وتحظى بالتدفئة من الداخل فستكون المسافة التي تبعدها عن النجم القزم أو أي نجم غير مهمة، وسوف تستضيف النجوم القزمة المهيمنة عددًا أكبر من الكواكب الصالحة للحياة.

ذهب بعض الباحثين إلى وجود منطقة صالحة للحياة في المجرة بالإضافة إلى المنطقة الصالحة للحياة حول النجوم. يقوم افتراضهم على أن المناطق شديدة القرب من مركز المجرة تعاني تهديدات أكبر بسبب التفاعلات النجمية أو انفجارات المستعرات العظمى (السوبرنوفا) في حين تفتقر المناطق الموجودة عند الحد الخارجي بشدة إلى العناصر الثقيلة اللازمة لتشكل الكواكب. لكن اتضح أن النجوم تتنقل فعليًّا داخل المجرة، وذلك على مدار مليارات الأعوام؛ لذا يمكن ألا تكون المنطقة الصالحة للحياة في المجرة قيدًا ثابتًا.

تستبعد الحسابات التقليدية نسبة ٥٠٪ من جميع النجوم الموجودة في النظم الثنائية، لكن عمليات المحاكاة توضح أن معظم هذه النظم شديدة الاتساع بما لا يسبب الاضطراب للكواكب الأرضية. بعد ذلك هناك الكواكب الأرضية التي لم يُحصَ عددها الموجودة في النظم النجمية البعيدة. إننا مضطرون للاعتماد على عمليات المحاكاة الحاسوبية لمعرفة كيفية تشكل هذه النظم، وفي كل من هذه العمليات نرى عددًا من الكواكب يتراوح من اثنين إلى أربعة كواكب، في إطار معامل قدره ٢ من كتلة الأرض، ومعظم هذه الكواكب بها كمية كبيرة من المياه؛ تزيد بما يتراوح من ١ / ١٠ و١٠٠ مرة عن محتويات محيطاتنا. ولكي نضيف مزيدًا من الأقمار الصالحة للحياة، علينا أن نستخدم المجموعة الشمسية كدليل. وهنا يكون نطاق الأقمار الصالحة للحياة يتراوح من قمرين إلى أربعة أقمار؛ إذ يمثل الرقم الأقل كل من يوروبا وتيتان فحسب، في حين يضيف الرقم الأعلى القمرين اللذين اكتشفهما جاليليو؛ كاليستو وجانيميد.

ما الإحصاء الإجمالي للمناطق الصالحة للحياة؟ في ضوء وجهات النظر التقليدية بشأن المناطق الصالحة للحياة رأينا من قبل تقديرًا يشير إلى وجود ١٠٠ مليون عالم صالح للحياة. إن سلمنا بأمر معظم الأقزام الحمراء والنجوم الثنائية، وقبلنا معامل انخفاض قيمته ١٠ من أجل المنطقة الصالحة للحياة في المجرة، يكون العدد الأولي هو ٢٠ مليار نجم يعيش كل منها مدة مليارَيْ عام أو أطول، وهو قدر كبير من الوقت يتيح نشأة الحياة. وفي ظل وجود ٦ عوالم تقريبًا صالحة للحياة في كل مجموعة شمسية، يصل عدد العوالم المحتملة الصالحة للحياة في المجرة إلى رقم مذهل قدره ١٠٠ مليار عالَم.

يعتمد آخر معاملين على التخمين التام. افترض أن نسبة ١٠٪ فحسب من العوالم الصالحة للحياة تتسم فعلًا بتطور الحياة عليها، وأن الحياة لا تتطور إلى كائنات معقدة متعددة الخلايا إلا في نسبة ١٪ من العوالم سابقة الذكر.١٠ حينئذ ربما تحتوي مجرة درب التبانة على ١٠٠ مليون عالم يستضيف حياة متقدمة غير معروفة الشكل والوظيفة. إن انتهاء الحياة في المجموعة الشمسية لن يمثل سوى تراجع طفيف في مجرة عامرة بالحياة. ولن تفتقدنا مجرة درب التبانة ذات النشاط الصاخب إلا قليلًا.

(٣) تهديدات من خارج المجموعة الشمسية

(٣-١) مشكلة في الجوار

تدور الأرض حول الشمس في مدار يشبه حلبة إطلاق النار. وكما رأينا تنطلق الكويكبات والمذنبات في عشوائية نحونا من حين لآخر. ومعظم الاصطدامات الكبرى ترد من الكويكبات؛ إذ يرتطم كويكب يبلغ قطره كيلومترًا واحدًا بالأرض مرة كل نصف مليون عام تقريبًا، في حين لا يصطدم مذنب موجود منذ فترة طويلة وذو حجم مماثل بالأرض إلا مرة كل ٣٠ مليون عام. المذنبات مهلكة؛ لأنها تنتقل بسرعة أكبر بكثير من الكويكبات، وبهذا تحشد قوة أكبر. أيضًا هي تصل من أي اتجاه؛ لذا هي أصعب في تحديد مواضعها مقارنة بالكويكبات التي يُعثر عليها بالقرب من مستوى مدار الأرض حول الشمس. وأخيرًا، هناك مستودع هائل من المذنبات التي من المحتمل أن تزور الأرض.

fig38
شكل ٧-٥: سحابة أورت هي مستودع للمذنبات يمتد مسافة أكبر بحوالي ٥٠ أو ١٠٠ ألف مرة من المسافة بين الأرض والشمس، وهذه المسافة تمثل نسبة كبيرة من المسافة إلى أقرب النجوم. حين تقترب النجوم من سحابة أورت أو تخترقها يمكن لاضطراب الجاذبية أن يدفع العديد من المذنبات الإضافية إلى داخل المجموعة الشمسية نحو مدارات قد تتقاطع مع كوكب الأرض. (Don Yeomans, NASA/Jet Propulsion Laboratory)
مستودع المذنبات هو هالة قليلة الكثافة كروية الشكل يطلق عليها اسم «سحابة أورت». تحيط سحابة أورت الافتراضية بالمجموعة الشمسية، وتمتد مسافة أكبر ١٠٠٠ مرة من المسافة بين نبتون والشمس. هي افتراضية لأنه جرى الاستدلال عليها من مدارات المذنبات (الشكل ٧-٥)، وبموجب قانون كبلر الثاني تتحرك المذنبات في بطء في مدارات بيضاوية شديدة التقارب حين تكون بعيدة عن الشمس، ثم تتحرك بسرعة داخل النطاق الداخلي من المجموعة الشمسية. تنشط المذنبات عندما تكون قريبةً من الشمس، وتكون ضعيفةً للغاية بقية الوقت. يُعتقد بوجود تريليون مذنب في سحابة أورت، ومع أن ذلك العدد لا يساوي في مجمله سوى خمسة أضعاف كتلة الأرض، فإنه قدر كبير من الذخيرة في حلبة إطلاق النار.

يعتقد ريتش مولر، الفيزيائي بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، أن الشمس ضحية لقوة جامحة لأخ أصغر. ففي أوائل ثمانينيات القرن العشرين، لاحظ ريتش أن الانقراضات الجماعية التي وقعت في الخمسمائة مليون عام الأخيرة جرت على نحو دوري. عادة ما يكون للانقراضات العشوائية عدة أسباب ممكنة، لكن الانقراضات التي تحدث على نحو منتظم يكون لها تفسير فلكي. افترض مولر أن ثمة نجمًا قزمًا يرافق الشمس ويتحرك في مدار بطيء لكنه يقترب على نحو كافٍ كل ٢٦ مليون عام بحيث يسبب اضطراب حركة المذنبات عند حافة المجموعة الشمسية، ومن ثم يرسل بعض المذنبات المتعاقبة نحونا. أطلق ريتش على هذا النجم اسم نيميسيس.

يقول ريتش: «أعطوني مليون دولار وسأجده.» لم يقبل أحد هذا العرض، لكن على الرغم من أنه متقاعد الآن فهو يقضي أغلب وقت فراغه في البحث عن النجم الأحمر الباهت الذي يظن أنه الرفيق المفقود للشمس. لاقى النجم نيميسيس هجومًا لأنه «حل فجائي وغير متوقع لمشكلة غير قابلة للحل»، وقد ظهر في كتاب عنوانه «تسع أفكار مجنونة في العلم: قد يكون بعضها صحيحًّا» للمؤلف روبرت إيرليتش، إلى جوار أفكار مثل «توزيع البنادق يحد من الجريمة» و«التعرض للإشعاع أمر مفيد لك». أهم المشكلات التي واجهت الفكرة هي عدم وجود اتفاق على أن الانقراضات دورية، وحقيقة أن الانقراض الوحيد المؤكد ارتباطه بمصدر من خارج الأرض هو انقراض العصر الطباشيري الثلاثي. وحتى لو كان نيميسيس غير موجود، فهناك جيران آخرون يمكنهم إحداث متاعب.

سحابة أورت سحابة حساسة وغير مستقرة، وفي أي وقت تتأثر فيه بجاذبية أي جرم قريب تهتز بعنف، ومن المحتمل أن ترسل المذنبات إلى مدارات تتقاطع مع الأرض. هذا لا يحدث على حين غرة؛ إذ يحدث بعد ٢ إلى ٣ ملايين عام من وقوع الحدث المحفز. وقد استخدم الباحثون المسارات التي حددها القمر الصناعي «هيباركوس» لحركة النجوم القريبة كي يتنبئوا بمدى «ملامسة» النجوم لسحابة أورت، وقد توصلوا إلى مرور أربع نجوم في المتوسط عبر مساحة قدرها ثلاث سنوات ضوئية، وذلك كل مليون عام. والتأثير الذي يخلفه ذلك على سحابة المذنبات يتوقف على السرعة وكذلك المسافة، وكثيرًا ما ينسب التأثير الأكبر للنجم المتطفل الأسرع وليس الأقرب.

«جلييزا ٧١٠» هو نجم قزم أحمر في كوكبة الحواء، وهو باهت للغاية، حتى إنك قد تحتاج إلى منظار مكبر لتحديد موضعه، لكن البيانات التي جاء بها القمر الصناعي «هيباركوس» تُظهر أنه يتجه مباشرةً نحونا بسرعة ٢٥ كيلومترًا في الثانية (٥٥ ألف ميل في الساعة) وأنه سيصل بعد ١٫٥ مليون عام، حينئذٍ سيتوهج في السماء ليماثل في سطوعه حزام الجبار في كوكبة الجبار. من المتوقع أن يمر على بعد سنة ضوئية واحدة فحسب من الشمس، ويلامس برفق عدة ملايين من المذنبات في مدارات ستتقاطع مع مدارات الأرض. يبدو ذلك هائلًا، لكنه لا يمثل سوى زيادة قدرها ٥٠٪ عن العدد الطبيعي. وعلى مدار الامتداد الزمني نفسه ستصير ثمانية نجوم أكثر قربًا لنا من جارنا الأقرب حاليًّا؛ بروكسيما سنتوري. وسيقرع النجم برنارد الباب في غضون ١٠ آلاف عام فحسب.

من المتوقع أن تخترق النجوم سحابة أورت كل عشرة ملايين عام، وباستطاعتها أن تنثر المذنبات كقوارير البولينج الخشبية، وتسبب خطرًا حقيقيًّا على الأرض. ومع أن الخطر حقيقي، فالأبحاث التي أجريت حديثًا تشير إلى أن تصادمات المذنبات لا تشهد زيادات حادة مفاجئة.١١ وقد توصلت المحاكاة التي أجريت لمليون مذنب جرت متابعتها على مدار عمر المجموعة الشمسية إلى أن جاذبية مجرة درب التبانة تعمل على التخلص من تأثيرات النجوم المارة، وهو ما يبقي معدل تدفق المذنبات ثابتًا نسبيًّا.

(٣-٢) عندما تموت النجوم الضخمة

المجموعة الشمسية جزء من بيئة مَجَرِّيَّة أكبر، فنحن نقع على بعد ٢٦ ألف سنة ضوئية من مركز مجرة درب التبانة، ونتحرك على سطح القرص المجري في مدار متمهل يكتمل كل ٢٢٠ مليون عام. ومع أن الشمس وجيرانها يتشاركون في مدارات دائرية فإن النجوم القريبة تقترب منا وتتراجع، ونمر خلال سحب جزيئية تتشكل فيها نجوم جديدة، وندخل إلى الأذرع اللولبية لدرب التبانة ونخرج منها. ونقطع سطح المجرة كل ٣٠ مليون عام، وهو مقياس زمني يتصادف تقاربه مع المقياس الزمني المزعوم للانقراضات الدورية.

بعد اللقاءات النجمية يأتي أكبر تهديد للحياة على سطح الأرض حين يموت نجم ضخم على نحو عنيف كمستعر أعظم. المستعرات العظمى تجلب الحياة، لكن لو كنت على مقربة شديدة منها فستجلب لك الموت. بفضل العناصر الثقيلة التي تقذف بها المستعرات العظمى إلى البيئة النجمية المحيطة بها، تحوي النجوم الجديدة ما يكفي من السليكون والألومنيوم والحديد كي تشكل الكواكب وما يكفي من الكربون والنيتروجين والأكسجين كي تشكل الحياة. وفي الواقع، ربما نتج السديم الشمسي الذي أتى بنا إلى الوجود عن انهيار نجم قريب.

عندما يستنزف نجم ضخم وقوده النووي لا يكفي الضغط لدعم الوزن الهائل للغاز، لذا ينهار مركز النجم على نفسه. بعد ذلك يرتد المركز بعنف مطلقًا موجة انفجارية تبلغ حرارتها مليارات الدرجات، ويحرر سيلًا من النيوترينوات وأشعة جاما والأشعة الكونية. ينطلق عدد هائل من النيوترينوات يبلغ ١٠٥٨ نيوترينو بسرعة الضوء، ويزداد السطوع مليارات الأضعاف؛ وبهذا ينافس النجم الهالك المجرة بأسرها سطوعًا.

ينفجر مستعر أعظم في مكان ما في درب التبانة كل ٥٠ عامًا، لكن المجرة مكان كبير؛ لذا تكون احتمالية أن يقع أحد هذه الانفجارات في مكان ما بالقرب منا منخفضة للغاية. هل يمكن أن تكون المستعرات العظمى القديمة هي التي تسببت في الانقراضات؟ تنبأ علماء الفلك بأن البصمة التي يخلفها مثل هذا الحدث ستكون على صورة ترسيب للنظائر المشعة التي لا تأتي إلا من نجم هالك فقط. وللأسف، من العسير العثور على مستعر أعظم انفجر حديثًا. فبعد آلاف السنوات يتلاشى الغاز الساطع الذي يخلفه المستعر الأعظم، ويتلقى النجم النابض الذي يتخلف عنه ضربة قوية تبعده مسافة كبيرة عن موقع الانفجار الأصلي.

fig39
شكل ٧-٦: يتزامن انقراض طفيف للحيوانات البحرية منذ حوالي ٢ إلى ٣ ملايين عام مع ذروة في ترسيبات نظائر الحديد المشعة التي تُنتَج في انفجارات المستعرات العظمى ثم تُقذَف في الفضاء. يوضح الرسم البياني الوفرة النسبية للحديد المشع بالنسبة إلى الحديد الطبيعي، وذلك قياسًا للوقت السابق على وقتنا الحالي بملايين الأعوام. ما من أثر آخر لوفاة النجم يمكن أن يكون مرئيًّا بعد هذا الوقت الطويل، لكن هذا النوع من الأدلة يربط التغير الكوني العنيف بكارثة أرضية. (Klaus Knie and Gunther Korshinek, Munich Technical University)
في أواخر تسعينيات القرن العشرين اختبرت مجموعة من ألمانيا الأمر عن طريق قياس نظير الحديد −٦٠ المشع في الصخور الموجودة بأعماق المحيطات. وفي عام ٢٠٠٤، في ضوء بيانات أفضل، توصلوا إلى دليل واضح على وجود قدر زائد من الحديد −٦٠ في طبقة ترجع إلى ٢٫٨ مليون عام.١٢ أظهرت حفريات الحيوانات البحرية انقراضًا طفيفًا في ذلك الوقت (الشكل ٧-٦). ربما وقع انفجار المستعر الأعظم في مكان ما يتراوح من ٣٠ إلى ٣٠٠ سنة ضوئية. إنه لأمر مذهل أن يتمكن الباحثون من استخدام الرواسب الموجودة في أعماق المحيطات كتليسكوب لمشاهدة الحرائق النووية للنجوم التي ماتت منذ أمد بعيد!

كان ذلك في الماضي، لكن ماذا عن المستقبل؟ يحاول الكثيرون من الأشخاص إخافتنا (ومن بينهم أنا)، لذا من الطيب أن نستبعد واحدًا من مؤرقاتنا الكثيرة. في عام ٢٠٠٣ أظهرت الحسابات المنقحة لتأثير أشعة جاما على طبقة الأوزون لكوكب الأرض أن انفجار المستعر الأعظم لا بد أن يقع في نطاق ٢٥ سنة ضوئية كي يزعزع استقرار غلافنا الحيوي، وأن ذلك يجعل معدل حدوثه مرة واحدة كل ٧٠٠ مليون عام. ونظرًا لأن لدينا إحصاء جيدًا للنجوم في حدود تلك المسافة، ولأنه لا يوجد نجم ضخم بدرجة كافية لأن يموت كمستعر أعظم، يمكننا أن نتنفس الصعداء ونستبعد هذا الخطر.

ونحن نتناول موضوع مسببات الخوف الشديد، تثير الثقوب السوداء عصبية العديد من الأشخاص. يغذي كتاب عنوانه «الموت على يد ثقب أسود» للمؤلف نيل تايسون شعور القلق هذا، على الرغم من أنه لم تتطرق سوى مقالة واحدة فقط من مقالاته إلى الثقوب السوداء. حين يموت نجم ضخم كمستعر أعظم يخلف وراءه مركزًا منهارًا لا يمكن أن يفر منه أي شيء. هل ينبغي للظلام اللانهائي للثقب الأسود أن يطير النوم من جفوننا لليالٍ لا نهاية لها؟

على الأرجح لا، فعلى عكس المفهوم الشائع، ليست الثقوب السوداء مكانس كهربائية كونية تمتص كل شيء في طريقها وتشفط من يمرون بجوارها. لا يتعرض الزمان والمكان لتشويه إلا في المنطقة المجاورة لأفق الحدث مباشرة. وباستثناء مسافة عشرات الآلاف من الأميال حول الثقب مباشرة، لن تختلف الجاذبية عما هي عليه حول أي نجم يملك الكتلة نفسها. في ضوء اتساع الفضاء لن تكون عرضة للخطر، إلا إن جازفت بالاقتراب متعمدًا ذلك. على سبيل المثال، قد تموت بسبب السقوط في راقود للحديد المصهور، لكن لن يحدث ذلك إلا إذا حددت مكان مصنع صهر المعادن في منطقتك، وقدت سيارتك إلى هناك، واجتزت كل الموانع الأمنية، وتسلقت سياج الممر الضيق فوق الراقود، بعد أن تكون قد أفرطت كثيرًا في شرب الكحوليات.

ينبغي على المسافرين عبر الفضاء في المستقبل أن يتجنبوها أيضًا. إنها نادرة؛ لأن نسبة بسيطة فقط من النجوم تموت كمستعرات عظمى. سيتطلب الأمر قطع مليارات الرحلات المباشرة عبر مجرة درب التبانة كي تحظى بفرصة مصادفة أحد الثقوب السوداء. إن حدث ذلك، فقد لا تكون النتيجة جيدةً؛ فقوى المد القوية قد تفقدك السيطرة. وقبل أن تصل إلى أفق الحدث بوقت طويل سينضغط جسدك كمعجون الأسنان المنبثق من أنبوبه وسيستطيل جسدك كالشريط المطاطي. ستكون رحلة إلى الجحيم.

في الوقت الحالي يذكي الفيزيائيون المثيرون للحنق مخاوفنا عن طريق محاولة إعداد ثقوب سوداء بواسطة المعجلات، أليس هذا صحيحًا؟ في الواقع، لا. ما يذكي الخوف هو الإعلام الشعبي المنشغل بالفكرة على نحو غير عقلاني، الذي يجذب أنظار المشاهدين ويثير دهشتهم بعناوين على غرار «آلة الهلاك تدمر العالم». فوفق بعض نظريات المادة، لا كلها، يستطيع «مصادم الهادرونات الكبير» إنشاء ثقوب سوداء متناهية الصغر، لكنها من الصغر بحيث تتبخر في ثوانٍ. حتى وإن استطاعت أن تهرب من المصادم وسقطت إلى مركز الأرض، فإن المادة الإضافية التي اكتسبتها لن تؤجل تبخرها إلا ثواني معدودة.١٣

(٣-٣) الطامة الكبرى

أحيانًا يكون الكون مذهلًا للغاية، حتى إنه يصعب على العلماء الماهرين أن يتخيلوا كيف يمكن للطبيعة أن تُوجد الظاهرة التي يرصدونها. تدبر هذا: نجم محتضر يطلق من الطاقة ما تطلقه ألف شمس عبر حياتها بأسرها. وعلى مدار ثوانٍ قليلة يغمر الكون بأشعة جاما، ويطلق موجة انفجارية شديدة السطوع، حتى إنه من الممكن رؤية هذه النجوم المنفردة على بعد ١٣ مليار سنة ضوئية، في زمان لا يبعد كثيرًا عن الانفجار العظيم وفي مكان بعيد يمتد إلى أبعد المجرات. ذلك هو مفجر أشعة جاما.

قد تحمل النجوم الدمار للكون والبشر؛ ففي ستينيات القرن العشرين رصدت الأقمار الصناعية التي كانت تراقب أي انتهاكات لمعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية وميضًا غير متوقع لأشعة جاما في السماء. يمكننا أن نتخيل ما مررنا به من أوقات عصيبة عندما عصفت بنا الشكوك والمخاوف من أن الروس يختبرون الأسلحة في الفضاء، لكن اتضح أن أشعة جاما ترجع إلى أصل كوني. كان وميضها خاطفًا للغاية، وكان لا بد من تحديد مكانها بدقة في السماء، حتى إن حل اللغز استغرق ٣٠ عامًا، مع أننا لم نستوعب بعد بالكامل هذه الكوارث الغريبة.١٤

ينطلق انفجار لأشعة جاما في مكان ما في الكون حوالي مرة واحدة يوميًّا، وتستطيع الأقمار الصناعية الحديثة أن ترصد أشعة جاما في ثوانٍ قليلة، وتوجه التليسكوبات الأرضية لإجراء متابعة سريعة قبل أن تختفي الكرة النارية. ثمة نوعان من أشعة جاما: يُعتقد أن تلك التي تبقى أقل من ثانيتين تنتج عن تصادم اثنين من النجوم النيوترونية، أما تلك التي تدوم فترة أطول فيعتقد أنها نماذج لمستعرات عظمى شديدة العنف تسمى المستعرات العظمى الفائقة (هايبرنوفا)، وهي صرخة تعبر عن نجم يلفظ آخر أنفاسه، وثقب أسود يولد.

عندما يموت نجم يدور على نحو سريع وتزداد كتلته عن كتلة الشمس بعشرين ضِعفًا، ينهار مركزه ويصير مستعرًا أعظم، ويخلف وراءه ثقبًا أسود ذا سحر إضافي. تتسبب الكتلة ودرجة الحرارة العاليتين مقارنة بالمستعر الأعظم العادي في تدفق أشعة جاما مع الموجة الانفجارية الناتجة، ويتسبب الدوران السريع للنجم في اندفاع الإشعاع والغاز الساخن على طول محور دوران الثقب الأسود، ليشقا طريقهما في الطبقات العليا من النجم المحتضر ويطلقان انفجارين نفاثين في أرجاء الكون بسرعة تصل إلى ٩٩٫٩٩٥٪ من سرعة الضوء، ولا نرى انفجارات أشعة جاما إلا عندما يشير أحد الانفجارين إلينا، وهو ما يعني أن ما لا نراه يزيد عما نراه بمئات الأضعاف.

يبلغ معدل انفجارات أشعة جاما انفجارًا واحدًا بالمجرة كل ١٠٠ ألف عام، لذا هي أقل تكرارًا من المستعرات العظمى بما يعادل آلاف المرات، لكن الطاقة، ومن ثم الخطر المحتمل، يكونان أعظم على نحو متماثل. ماذا سيحدث إن وجدنا أنفسنا في طريق حزمة أشعة انطلقت من مسافة ألف سنة ضوئية؟ فلنُحكِم ربط أحزمة المقعد.

ستضيء الكرة النارية على نحو مماثل لسطوع الشمس في السماء، بعد لحظات سيصطدم فيضان من الإشعاع عالي الطاقة بالغلاف الجوي مشعلًا فيه النيران. ستحترق الغابات وتغلي البحيرات والأنهار ويصير جانب الأرض المواجه للانفجار مجدبًا. سترسل موجة الاصطدام جدارًا من ألسنة اللهب حول الكوكب ارتفاعه ميل، وبهذا قد تنجو بعض كائنات المحيطات على الجانب البعيد. ستدمر أشعة جاما الكثيفة والأشعة فوق البنفسجية طبقة الأوزون في جميع أنحاء العالم. من غير المحتمل أن ينجو شيء من هذا الهجوم الضار.

الخبر الطيب عن انفجارات أشعة جاما هو أن ضراوة هذه الانفجارات تتركز في حزمة الأشعة الضيقة، ولن يقع مثل هذا الحدث في مجرة درب التبانة ويتجه نحونا إلا مرة كل ١٠٠ مليون عام أو نحو ذلك. هذا يتوافق على نحو غامض مع متوسط الوقت بين الانقراضات الكبرى، ففي عام ٢٠٠٣ اقترح آدريان ميلوت، من جامعة كانساس، ومعاونوه أن انفجار أشعة جاما ربما كان السبب في الانقراض الأوردوفيشي منذ ٤٥٠ مليون عام.١٥ لم يكن لديهم أي دليل مادي يربط بين الفكرتين؛ لذا كان ما قدموه أقرب إلى الرأي المقبول من كونه فرضية مدعومة بالدليل. ويشير عامل التوقيت ضمنيًّا إلى أن مثل هذا الحدث لا بد أنه أثَّر على كوكب الأرض عدة مرات في تاريخه.

حين أعدت مجلة «ديسكفر» قائمة تضم أبرز ٢٠ تهديدًا للحياة على كوكب الأرض جاءت انفجارات أشعة جاما في المرتبة الثانية، مباشرة بعد الكويكبات. وقدم فيل بلايت — الذي اشتهر بفضل مدونته عن «الأحداث الفلكية المشئومة» — خدمة للبشرية حين قدم قائمة مرتبة بالتهديدات في كتابه الذي صدر حديثًا بعنوان «الموت من السماوات: هذه هي الطرق التي سينتهي بها العالم». وقد ذكر أن احتمالية هلاك المرء على مدار حياته إثر التعرض لانفجار أشعة جاما هي ١ إلى ١٤ مليون؛ هذا المعدل يقل ٢٠ مرة عنه بالنسبة لاصطدام الكويكبات.

لننظر إلى مستوى هذا الخطر؛ إن النجوم الضخمة بما يكفي كي تنفجر كمستعرات عظمى فائقة نادرة للغاية، لكننا بحاجة إلى إحصاء كامل للنجوم حتى مسافة ألف سنة ضوئية، علاوة على أن معرفتنا بمجرة درب التبانة ليست مفصلة بدرجة كافية لأن نكون متيقنين من انعدام وجودها على هذه المسافة. يأتي النجم «إيتا كارينا» على قائمة الأخطار. هو مرئي للعين المجردة، ويبعد عن الأرض بمسافة ٨ آلاف سنة ضوئية، وهو أيضًا النجم الأسطع في المجرة؛ إذ يطلق من الطاقة في غضون خمس ثوانٍ قدرًا هائلًا يماثل ما تطلقه الشمس في عام كامل. وقد رأينا سطوعه يتضاعف منذ ١٠ سنوات فحسب؛ لذا هو ليس مستقرًّا، علاوةً على أن كتلته تزيد ١٠٠ مرة عن كتلة الشمس؛ فمن المحتمل أن يفجر أشعة جاما عند موته. ولحسن الحظ، لا يبدو أن محور دورانه يشير نحونا.

ثمة نجم آخر يدعى «دابليو آر ١٠٤»، وهو أكثر إثارة للمخاوف. يقع هذا النجم على بعد مسافة مماثلة، لكن محور دورانه يتجه نحونا.١٦ وعن هذا يقول بيتر توتهيل، أول باحث يحدد الخطر: «لا يسعني إلا أن أشعر بأن الأمر يماثل التحديق في ماسورة بندقية. ربما أمامنا مئات الآلاف من السنوات قبل أن ينفجر، وهو قدر هائل من الوقت للوصول إلى بعض الإجابات.» هذا كل ما سنحصل عليه من طمأنة؛ فانفجار أشعة جاما لا يقدم إنذارًا مسبقًا بالوصول؛ لذا لا مغزى حقًّا من الشعور بالقلق.

أقوى النهايات هي تلك التي تأتي على نحو سريع وبلا ألم وبصورة درامية. وإن فني البشر بفعل انفجار لأشعة جاما، فسيكون ذلك أكبر حفل وداع تقيمه الطبيعة لنا؛ إذ سيكون مرئيًّا على مستوى الكون. ليس في يدنا ما نفعله إن وقعنا على مسار مثل هذه الظاهرة العنيفة، فالأمر يماثل إلى حدٍّ بعيد موقف الأرض في مسلسل الخيال العلمي الكوميدي «دليل المسافر إلى المجرة» للمؤلف دوجلاس آدامز حين وجدت نفسها على مسار أحد مشروعات البناء في المجرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤