الفصل الثاني

تشارلز داروين: فقدان التصميم الرشيد

القرد والإنسان شكلان متماثلان تطوَّرَا على نحو متباين من الأصل نفسه. («الإنسان»، دير مينش (١٨٧٠۲)، ١٠٧؛ ترجمة المؤلف)

(١) داروين وكوبرنيكوس

يبدو داروين في نظري بمنزلة كوبرنيكوس العالم العضوي. (دوبوا ريمون، «داروين وكوبرنيكوس» (١٨٨٢-١٨٨٣)، ٥٥٧)

تحدثنا في الفصل الأول عن كوبرنيكوس، الذي وضع نظرية مركزية الشمس التي أدت إلى فقدان البشر للمركزية المادية، وقد سبب هذا تغيرًا خطيرًا في المنظور البشري حتى إنه ليس من المستغرب أن يُقارن بين داروين وكوبرنيكوس كثيرًا (هِيكِل ١٩٢٩، ٢٠٧؛ هَكسلي ١٨٦٠، ٧٩). فلقد سبَّبَ داروين هو الآخر تغييرًا في المنظور، حيث أزال فكرة التصميم، ووضع جميع أشكال الحياة العضوية، بما في ذلك البشر، تحت وطأة التفكير التطوري. بمجرد أن نشر داروين كتابه «أصل الأنواع» في ٢٤ نوفمبر ١٨٥٩، سرى شعور بالتأثير الهائل لنظريته بين معاصريه. كتب ألفريد راسل والاس — الذي شارك داروين في اكتشاف مبدأ الانتقاء الطبيعي — معترفًا بالإمكانيات الثورية لنظرية داروين:

لم تحدث — ربما قط — في تاريخ العلم أو الفلسفة كلِّه ثورةٌ في الفكر والرأي في عظم تلك التي حدثت في فترة الاثني عشر عامًا من ١٨٥٩ إلى ١٨٧١، وهما عاما نشر كتابَيِ السيد داروين «أصل الأنواع» و«أصل الإنسان» على الترتيب. (والاس ١٨٩١، ٤١٩؛ هِيكِل ١٨٨٢، ٥٣٤)

وبعد ما يقرب من ١٥٠ عامًا من نشر داروين لكتابَيه، لا يزال الباحثون في علم الأحياء متفقين على الثورة التي أحدثتها الداروينية في التفكير البشري. كتب جاك مونو في عام ١٩٧٤ أنه واثق تمامًا:

أنه لا توجد نظرية علمية أخرى كان لها من الآثار الفلسفية والأيديولوجية والسياسية الهائلة مثل ما لنظرية التطور. (مونو ١٩٧٤، ٣٨٩)

ويؤكد عالم الأحياء التطورية الشهير إرنست ماير أن نشر كتاب «أصل الأنواع» «ربما يُمثِّل أعظم ثورة فكرية شهدتها البشرية» (ماير ٢٠٠١، ٩؛ ماير ٢٠٠٠، ٦٧–٧١). وانعكاسًا للأهمية المتزايدة لعلم الأحياء في القرن الحادي والعشرين، يمنح ستيفن جاي جولد داروين تأثيرًا أكبر من كوبرنيكوس.

من بين أعظم ثورتين في الفكر العلمي، يتفوق داروين بالتأكيد على كوبرنيكوس في التأثير العاطفي الخام … (جولد ٢٠٠٢، ٤٦؛ بوشنر ١٨٦٨، ٢٦٧)

يهدف هذا الفصل إلى تقديم وصف موجز للداروينية؛ مبادئها ونتائجها. لن يكون من الممكن دراسة كمِّ المؤلفات الهائل الموضوع عن داروين والداروينية. ويتناول كثير من الأعمال المكتوبة عن الداروينية مبادئ علم الأحياء التطوري. يركز هذا الكتاب على تأثير الفكر العلمي في المسائل الفلسفية، ولذلك سنركز على الجوانب المهملة نسبيًّا من الداروينية؛ وهي نتائج تفكيره التطوري على الصور الذاتية للإنسان والمسائل الفلسفية. ومن أجل فهم الانقلاب في الفكر الإنساني، الذي سوف نَصِفه فيما بعد بأنه فقدان للتصميم الرشيد، فإننا بحاجة إلى دراسة وجهات النظر المختلفة للحياة قبل كتاب «أصل الأنواع» وبعده. ولكي نفهم تأثير الداروينية على مسألة أصل الإنسان، نحتاج إلى دراسة الأعمال التي تتناول العصور القديمة للبشرية وفكرة التحدر مع التعديل الجديدة. تسير هذه الخيوط معًا في كتاب داروين «أصل الإنسان» (١٨٧١). ومن خلال دراسة هذه المواد سوف نتبوأ موقعًا أفضل نعالج من خلاله المسائل الفلسفية التي تبزغ من بين ثنايا عمل داروين. وسيقودنا هذا إلى دراسة تاريخ الفرضيات الفلسفية في الداروينية وصولًا إلى أسئلة المنهج العلمي وفلسفة العقل والتفسير والتنبؤ.

(٢) نظريات الحياة العضوية

النقد العلمي للحياة «يعترف أن كل تفسيراتنا للحقيقة الطبيعية تقريبًا ناقصة ورمزية، وتوجه المتعلم الباحث عن الحقيقة نحو الأشياء وليس الكلمات.» (هَكسلي، «مقالات في العلوم والثقافة ومقالات أخرى» (١٨٨٨)، ١٥)

لنبدأ بتاريخ ما قبل الداروينية. سنتناول خليط التخمينات النظرية عن الحياة العضوية وظهور البيانات التجريبية التي خلقت الفضاء المفاهيمي الذي وجدت فيه نظرية التطور لداروين بيئة ملائمة. وسرعان ما قلَّصت نظرية داروين نفوذ النظريات المنافسة ورسخت نفسها في نهاية المطاف بوصفها النظرية السائدة.

(٢-١) الغائية

إذا كانت الثورة العلمية — بمعناها البسيط — إعادة ترتيب للشبكات المفاهيمية، إذن كانت الداروينية ثورة حقيقية في العلوم؛ فقد غيرت الداروينية نظرتنا للحياة العضوية، ويتعلق أبرز تغيير بزوال التفكير الغائي. يتضح ذلك جليًّا في الازدواجية التفسيرية لكانط. يطبق كانط معايير مختلفة في شرح الطبيعة العضوية وغير العضوية. في كتاب «نظرية السماء» (١٧٥٥) يقدِّم كانط نظرية ميكانيكية بحتة لأصل وتطور العالم غير العضوي. وأوضح تاريخه الكوني ظهور النظام من الفوضى الأصلية من خلال تطبيق أسباب ميكانيكية بحتة. يوجد في أعمال كانط توقُّع مبكر للغاية لنظرية الانفجار العظيم. في البداية توجد حالة من الفوضى، وفي الوقت الحاضر يوجد نظام. والنظام الأكثر وضوحًا هو نظام الأنظمة الكوكبية، ولكن الأنظمة الكوكبية تتجمع داخل مجرَّات، وتتجمع المجرَّات في عناقيد. كان كانط من أوائل مَن خمنوا أن نقاط الضوء في السماء ليلًا تُمثِّل في الواقع مجرَّات أخرى في الكون مُشَكَّلة بطرق مشابهة لمجرتنا درب التبانة. كيف ينشأ هذا النظام؟ لم يحتج كانط إلا لقوانين نيوتن لتفسير النظام الكوني. يكمن جمال فرضية كانط الكونية في أنها تُصوِّر الكون كله بمنزلة شبكة واسعة من النظم والنظم الفرعية، كلها تخضع للانتظام النيوتوني. ويؤكد كانط على أنه يمكن تفسير نشأة النظام الكوني اليوم من الفوضى الأصلية عن طريق اللجوء إلى القوانين «الميكانيكية» وحدها؛ فالتطور الكوني، كما صوَّره كانط، يفتقر إلى الهدف، والقوانين الميكانيكية لا تسعى لأي هدف. وينكر كانط فرضية الأهداف النهائية في تفسير التاريخ الكوني؛ فالطبيعة غير العضوية لا تسير وفق أي تصميم سابقِ الوجود.

ولكن الطبيعة العضوية مختلفة على نحو مذهل. يرى كانط أن الطبيعة العضوية لا يمكن تفسيرها من دون تصوُّر وجود تصميم. يأتي التصميم مصحوبًا بهدف، وتُصمَّم الأداة للقيام بهدف معين. وعلى نحو مشابه، لا يمكن تفسير الطبيعة العضوية دون تصميم؛ فاستخدام الأهداف الميكانيكية وحدها لتفسير نبات أو حشرة سيفشل في مرحلة مبكرة؛ فلتفسير الطبيعة العضوية نحتاج إلى أهداف نهائية. توقَّع كانط في ١٧٥٥ أنه من المرجح أن التفسير الميكانيكي لتشكيل «جميع» الكواكب ومداراتها وأصل البنية الكونية سيُكتشَف قبل «أن يمكن تفسير عشبة أو يرقة واحدة ميكانيكيًّا» (كانط ١٧٥٥، تمهيد، ٢٣٧). يستبعد تفسير كانط التطوري للتاريخ الكوني تطور الأنواع. وبعد ١٠٤ أعوام بالضبط، قدَّم داروين آليةً لتفسير أصل العشب واليرقات وغيرها من الكائنات. لم يدَّعِ كانط أن الهدف قابل للرصد في الطبيعة، ولكن الوصف الميكانيكي وحده لبنية طائر — مثلًا — من شأنه أن يترك انطباعًا بالصدفة البحتة. لا تستطيع الصدفة البحتة تفسير تعقيد العالم العضوي. ومن أجل تجنُّب التفسيرات من خلال الآليات العمياء، يجب أن يُحدَّد الهدف في الطبيعة كمبدأ تنظيمي. هذه هي فرضية الغائية (كانط ١٧٩٠). فيجب أن تُفَسَّر الآليات القابلة للرصد «كما لو» أنها كانت تعمل وفقًا لمخطط خفي (تصميم)، الهدف من هذا المخطط هو السماح بوجود تفسير معقول للنظام المعقد للكائنات الحية. يشير كانط إلى أن الآليات العمياء ليست كافية لتفسير طريقة بناء الكائنات العضوية؛ فعند دراسة مخلوق عضوي ما، من الممكن دائمًا أن نسأل: لماذا يوجد في هذا المكان؟ ما وظيفته؟ والتفسيرات الميكانيكية لا تقدِّم إجابة شافية. ثمة حاجة إلى الأهداف النهائية لتكملة التفسيرات الميكانيكية، وثمة حاجة أيضًا إلى هذه الأهداف النهائية لفهم الوجود الإنساني والأخلاقيات. لقد رأى البشر، قبل كانط وبعده، أنفسهم بمنزلة الهدف النهائي على الأرض.

كانت الازدواجية التفسيرية لكانط مفهومة في ذلك الوقت. فبحلول نهاية القرن الثامن عشر، كانت العلوم الفيزيائية قد قضت على التفكير الغائي، وقدَّم كانط نفسه تفسيرًا ميكانيكيًّا لتطور الكون، ولكن كان من الصعب أن نرى — كما توضح ازدواجية كانط التفسيرية — كيف يمكن لدراسة العالم العضوي أن تتخلى عن الهدف والتصميم.

في وقت وفاة كانط (١٨٠٤)، كان علم الأحياء أقل تطورًا بكثير من علم الفلك والفيزياء؛ فكان يفتقر إلى القوانين الأساسية والمشاهدات الدقيقة، كما كان يفتقر إلى البنية المؤكدة. بدا واضحًا لعلماء الفلك الإغريق على نحو بدهي أن الأرض ثابتة والكواكب تدور حول موقعها المركزي. وكان واضحًا لعلماء الأحياء في القرن الثامن عشر على نحو بدهي أن تعقيدات العالم العضوي كانت تكشف عن وجود نظام مبني على هدف وتصميم. وقبل داروين عكست عدة مخططات هذا الاعتقاد بالطبيعة التي تتضمن وجود هدف. سوف نتناول قريبًا «سلسلة الوجود العظمى» ونظريات لامارك التطورية، لكن يجب أن ندرك أن ثورة داروين لم تمحُ كل المعتقدات القديمة بشأن الطبيعة العضوية؛ إذ اتضح أن الغائية فرضية عنيدة؛ فقد عادت في ثمانينيات القرن التاسع عشر، ومرة أخرى في تسعينيات القرن العشرين تحت مسمى «التصميم الذكي». ويرجع انبعاث سيناريوهات التصميم كليًّا إلى الضعف المتصور لآلية الانتقاء الطبيعي لداروين. حتى بعض أشد مؤيدي داروين تشبث بقشَّة الغائية. لم يكن داروين ليتمنى مؤيدًا أكثر حماسًا من أوجست وايزمان (١٨٣٤–١٩١٤). توصل وايزمان إلى اكتشاف هائل؛ وهو أن الخلايا «الجنسية» فقط هي التي تنقل المعلومات الوراثية. وأوضح وايزمان — ضد رأي لامارك بشأن انتقال السمات المكتسبة — أن الخلايا «الجسدية» لا يمكن أن تنقل السمات من الآباء إلى الأبناء. وأوضح ألفريد والاس هذه النقطة:

لم يُزعم قط (…) أن أطفال الآباء البكم يواجهون أي صعوبة غير عادية في تعلُّم الكلام، كما كان ينبغي أن يحدث لو كانت آثار عدم استخدام أعضاء التحدث لدى الآباء تُورَّث. (نيتشر ٤٨، ١٨٩٣، ٢٦٧)

مع ذلك، وجد وايزمان صعوبة في التخلي عن النظريات الغائية، تمامًا مثل والاس. في شرحه الدارويني للنظرية الميكانيكية للطبيعة، يسأل: «ولكن كيف يمكن أن نقر بمبدأ غائي دون التخلي عن مفهوم ميكانيكي بحت للطبيعة؟» والجواب الكانطي الجوهري هو: من خلال افتراض «غائية جوهرية للكون». إن وايزمان — العالِم — يعتنق مفهومًا ميكانيكيًّا للطبيعة، أما وايزامن — الفيلسوف — فمرعوب من المادية الصرفة، ولذلك يحاول جمع مفهومٍ ميكانيكيٍّ مع مفهومٍ غائيٍّ للكون. وعلى غرار كثير من معاصريه، كان وايزمان يخشى أن التخلي عن الغائية سيؤدي إلى فقدان الثقافة والروحانية (وايزمان ١٨٨٢، ٧١٠–٧١٨). في نظر معارضي داروين، كان لنظرية التطور نتيجة فلسفية غير مرحَّب بها، وهي المادية. كانت نظرية التطور أكثر من مجرد أطروحة علمية أخرى؛ فقد هددت القناعات الفلسفية الراسخة. لم يتغير الدافع وراء السعي لإيجاد هدف وتصميم في الطبيعة منذ عصر وايزمان؛ فكما سنرى، لا يزال التعقد الشديد للنظم والوظائف البيولوجية يجعل المعارضين المعاصرين لنظرية التطور يخلُصون إلى وجود تصميم ذكي. ومن أجل التعرف على هذا التفكير، لنستعرض أولًا بعض وجهات النظر الغائية النموذجية للحياة العضوية في بداية القرن التاسع عشر.

(أ) سلسلة الوجود العظمى

(…) لا يمكننا أن نفهم كيف أن سمك السلمون المرقَّط في شمال جبال الألب يمكن أن ينتمي إلى نفس الأصل مثل أسماك السلمون المرقَّط في جنوب جبال الألب، رغم أن النوعين مفصولان على الدوام بجبال لا يمكن تخطِّيها (…). (فوكت، «محاضرات حول البشرية» (١٨٦٤)، المحاضرة الثامنة، ٢١٦)

ثمة فكرة تمثيلية لبنية الطبيعة العضوية تُسمى «سلسلة الوجود العظمى»، تعود هذه الفكرة إلى زمن الإغريق (لوفجوي ١٩٣٦). كان العالَم الطبيعي يُصوَّر في صورة سلَّمٍ تتراص على درجاته جميع أشكال الكائنات من ألمع الملائكة الناصعة إلى الدودة الوضيعة بترتيب تنازلي. جُسد الإله في أعلى شكل من أشكال الكمال، واحتل كل مخلوق درجة على هذا السلَّم الهرمي. استخدم شكسبير هذا التدرج في مسرحياته التاريخية (تيليارد ١٩٤٣). وبما أن البشر يمتلكون غرائز وأحاسيس جسدية وقدرات التفكير النظري، فإنهم يحتلُّون منزلة وسطًا بين عالم الحيوان (الذي تحكمه الغرائز) وعالم الملائكة (الذي يحكمه العقل الخالص). كان ينظر إلى السلسلة بأكملها على أنها «سلَّم متدرج للكمال». كانت السلسلة تامة ومستمرة ومتناغمة، ولا توجد بها صدوع أو ثغرات. وثمة عدد من السمات البارزة لهذه السلسلة:
  • لا تسمح بالتحولات التطورية؛ بل على العكس من ذلك تؤكد سلسلة الوجود في صورتها النقية على ثبات الأنواع. إن التدريج ثابت، وكل نوع — بما في ذلك البشر — موضوع في درجته الخاصة من السلَّم. لا يوجد مجال للتحدر مع التعديل.

  • يُعتقد أن السلسلة بأكملها أُنشئت بشكلها الحالي. لم يكن التشابه بين الإنسان والقرد مثيرًا لقلق الأشخاص في القرن الثامن عشر (كما سيكون بالنسبة للأشخاص في القرن التاسع عشر). وكان هذا التشابه مجرد تذكير لقرب الدرجتين اللتين يحتلهما القرود والبشر على التوالي. واستمرارية السلسلة لم تَشِ بشيء عن الأصول؛ فلا يوجد مكان للتطور في السلسلة، حيث كان يُعتقد أن عمر العالم بضعة آلاف سنة وحسب.

  • لا مجال لخلق الأنواع أو انقراضها؛ فقد كانت السلسلة كاملة.

كانت سلسلة الوجود العظمى رسمًا توضيحيًّا، وواجهت حكم الأدلة على غرار نظرية مركزية الأرض. في نهاية القرن الثامن عشر، عانت فكرة سلَّم الوجود من العديد من الصعوبات:

أولًا: استقل علم الجيولوجيا، وقد اكتشف هذا العلم الجديدُ العديدَ من الحفريات التي وثقت عمليات انقراض متعاقبة للأنواع. في كتابه «القاموس الفلسفي» (١٧٦٤)، عبر فولتير عن عدم رضاه عن ثبات سلسلة الوجود (انظر لينبيس ١٩٧٨، ٤٧؛ لوفجوي ١٩٣٦، ٢٥٢). فلاحظ أنه كان واضحًا وجود نباتات وحيوانات منقرضة، وأن البشر أوضحوا قدرتهم على القضاء على جميع أفراد مجموعة من الحيوانات، مثل الذئاب في إنجلترا. ثانيًا: كان من الواضح لفولتير وجود فجوات في السلسلة: «ألا يوجد على نحو واضح فجوة بين القرد والإنسان؟» وانكبَّ العلماء على العمل على عدم الاستمرارية والفجوات في عالم الحيوان. ومن أجل أغراضنا، كان الاختلاف والتشابه الأكثر إثارة للدهشة بين القرد والإنسان ذا أهمية خاصة (جليسبي ١٩٥٩، ١٧-١٨؛ آيزلي ١٩٥٩، ٥–١٠؛ جولد ١٩٨٨، ٦). ثالثًا: بدأ علماء مثل جيمس هوتون وتشارلز لايل في الشك في وجهة النظر التقليدية بأن عمر الأرض مجرد بضعة آلاف سنة. زادت الحسابات المبدئية عمر الأرض من آلاف إلى ملايين السنين، وبدأ يتضح للعلماء أن عمر الأرض كان أكبر بكثير مما كان متصورًا سابقًا. غالبًا ما يوصف هذا الاكتشاف بأنه اكتشاف «الزمن السحيق». وكان كانط قد خمن في كتابه «نظرية السماء» (١٧٥٥) بأن «ملايين السنين والقرون» قد مرت قبل أن يُرى الترتيب الحالي للكون. وخلال حياة داروين، قدَّر عالم الفيزياء جورج طومسون — الذي عُرف فيما بعد باسم اللورد كلفن — عمر الأرض بأنه حوالي ٩٨ مليون سنة (بارو/تِبلر ١٩٨٦، ١٦٠-١٦١؛ جولد ١٩٨٨؛ انظر المربع ٢-١).

المربع ٢-١: عمر الأرض ووجود الحياة

  • «عمر الأرض»: ٤٫٦ مليارات سنة.

  • «الكائنات المجهرية» في السجلات الحفرية الأولى: ٣٫٥ مليارات سنة.

  • «أقدم الحفريات الحيوانية»: ٧٠٠ مليون سنة.

  • «الفقاريات الأولى»: ٤٠٠ مليون سنة.

  • «الثدييات الأولى»: ٢٠٠ مليون سنة.

  • «الإنسان الماهر»: ١٫٨ مليون سنة.

  • «الإنسان المنتصب»: ٥٠٠ ألف–مليون سنة.

  • «الإنسان العاقل»: ٢٥ ألف سنة.

figure
جوتفريد فيلهلم لايبنتس (١٦٤٦–١٧١٦).
وفي مواجهة هذه الصعوبات، لم تعُد سلسلة الوجود وصفًا للكون كما كانت دائمًا، وخضعت السلسلة لمراجعة مفاهيمية. أصبحت السلسلة ترتيبًا زمنيًّا: فتحولت صورة مدرج التحدر إلى سلم تصاعدي (كرومبي ١٩٩٤، المجلد الثالث، ١٦٩٨؛ ليبنيز ١٩٧٨، ٥٢–٧٧). وأُعيد تفسير السلسلة على أنها عملية خلق تحدث على مدى فترات طويلة من الزمن. صاغ الفيلسوف الألماني وعالم الرياضيات جوتفريد فيلهلم لايبنتس تعبيرًا بليغًا لتفعيل التسلسل الزمني على سلسلة الوجود:

علاوة على ذلك، نحن ندرك أن ثمة تقدُّمًا دائمًا وأكثر حريةً للكون كله نحو تحقيق جمال وكمال عالمي لكائنات الله، بحيث تتقدم دائمًا نحو مزيد من التطور (…).

على الرغم من أن سلسلة الوجود قد تحوَّلت إلى سلَّم تصاعدي، فإنها احتفظت ببعض معالمها الأساسية. يتطور الكون نحو الكمال، وتقدُّمه هادف ويتبع خطة إلهية. لم تعُد السلسلة ثابتة، لكنها تواصل النمو على نحو غائي نحو هدف معين.

لمواجهة الاعتراض الذي ربما يُقدم ضد هذا الأمر بأن العالم كان سيصبح جنة منذ فترة طويلة، فإن الجواب في متناول اليد: على الرغم من أن كثيرًا من المواد قد أحرز كمالًا كبيرًا، فإنه نظرًا للانقسام اللانهائي لما هو مستمر، يظل دائمًا في لجة الأشياء أجزاء هامدة، وهذه الأجزاء تحتاج إلى التحفيز والحث لكي تكون شيئًا أكبر وأفضل؛ باختصار، لكي تصبح حالة متطورة أفضل؛ ومن ثَمَّ ليس لهذا التقدم نهاية أبدًا. (لايبنتس ١٦٩٧)

مع تفعيل التسلسل الزمني لسلسلة الوجود، ظهر حس بالتطور في التفكير البيولوجي. لم تمتد سلسلة الوجود على نحو ثابت كجسر من بداية الزمن حتى نهايته. بدلًا من ذلك، نبتت كشجرة حياة من جذور بسيطة في لحظة الخلق وتحولت إلى معجزات عضوية بعد فترة كافية من الزمن. مع ذلك، ظلت «فكرة أن خلق الحياة العضوية كان مسرحًا على نحو بارز لرصد العناية الإلهية وهي تعمل» قائمة كما هي (جليسبي ١٩٥٩، ١٩). كانت العناية الإلهية — الرعاية المفيدة من الرب لسكان الأرض — افتراضًا رئيسيًّا قبل داروين. كان يوجد تصور عام بأن الرب صانع ماهر أشرف شخصيًّا على خلق حتى أصغر الكائنات الحية في العالم الطبيعي. ولم يَحِدْ لايبنتس عن هذا المفهوم؛ فقد كان يتبع مبدأ الازدواجية التفسيرية مثل كانط، فكان يرى أن القوانين الميكانيكية كافية لتفسير سلاسة سير العالم غير العضوي. كانت قوانين الحركة التي تحكم جميع الأشياء التي تُرى بالعين المجردة دقيقة حتى إنه لا توجد حاجة لتدخُّل الربِّ في آليتها. كان الكون أشبه بساعة عملاقة. كان الكون آليًّا بالكامل. أما العالم العضوي فكان مختلفًا؛ فقد كان يتطلب تصميمًا وهدفًا وتطورًا غائيًّا. وسيتطلب الأمر جهودًا مفاهيمية جادة للتغلب على الإيمان بالتكشف التدريجي لتعقيد العالم العضوي. وفي محاولة لبناء نظرية للعالم العضوي في بداية القرن التاسع عشر، كان افتراض التطور التدريجي لبنة لا جدال فيها في النظرية. جعل لامارك التطور التدريجي ركنًا أساسيًّا من أركان نظريته. احتاج لامارك تصميمًا على غرار لايبنتس، ولكن الرب المصمِّم لعب دورًا متواضعًا في نظريتيهما. لدى لايبنتس وبويل، يقتصر دور الرب على تشغيل ساعة الكون. ويقبل لامارك في أحسن الأحوال أن الرب يضع خطة التصميم الأساسية. لقد خطا لامارك خطوات عملاقة نحو النظرة الحديثة للحياة العضوية، وكان صوتًا وحيدًا؛ إذ ظل النموذج المهيمن قائمًا على حجج التصميم.

(ب) حجج التصميم

وفقًا للغائية، كل كائن يشبه رصاصة بندقية أطلقت مباشرة نحو هدف، ووفقًا لداروين، الكائنات مثل طلقات الخرطوش يصيب أحدها ويطيش الباقي. (هَكسلي، «الانتقادات» (١٨٦٤)، ٨٤)

في مناقشات أوجه التناقض بين نظرية التطور وحجج التصميم، من المعتاد أن أشير إلى رئيس الشمامسة بيلي. كان وليام بيلي شخصية شهيرة ألف كتابًا بعنوان «اللاهوت الطبيعي، أو أدلة وجود الرب وصفاته مجموعة من الظواهر الطبيعية» (١٨٠٢). يقدِّم الكتاب «حجة صانع الساعة» الشهيرة: فمن وجود الساعة نستدل على وجود صانع الساعة. وقياسًا على ذلك، نستنتج وجود رب مصمم من نظام الطبيعة، لكن بيلي نفسه يحتل مكانًا في التراث الطويل للتفكير الغائي. وهذا النموذج التصميمي يستنتج من الترتيب والكمال الواضحَين في الطبيعة وجود رب مصمِّم، مهندس إلهي موهوب. حاول الأبيقوريون تفسير جمال وتناسق الطبيعة كنتيجة للصدفة البحتة. عادةً ما يرفض أنصار حجة التصميم مثل هذه المحاولات لأنها غير محتملة على نحو كبير؛ فهي تتناقض مع خبراتنا الحسية. لم يستطع الإغريق تصديق أن الأرض تدور حول الشمس. وبدا أن الأدلة الحسية تدعم مركزية الأرض. فلو كانت الأرض تدور، لحدثت عواصف عنيفة على الأرض. ولم تكن الأشياء لتقع في خط مستقيم. وبطريقة مماثلة تعتمد حجة التصميم على ما يبدو بدهيًّا للإدراك الحسي البشري. كانت نظرية مركزية الشمس لأرسطرخس رأي الأقلية، وكذلك كان تفسير الأبيقوريين. شكلت مركزية الأرض وحجة التصميم رأي الأغلبية، واعتمدت كلتاهما على المنطق الصرف وشهادة الحواس؛ فحواسنا تُخبرنا بأن الأرض تقبع ثابتة في مركز الكون. كما تقول لنا أيضًا إن النظام والتماثل في العالم العضوي لا بد أنه عملُ خالقٍ ذكي.

figure
وليام بيلي (١٧٤٣–١٨٠٥).
figure
روبرت بويل (١٦٢٧–١٦٩١).
شعر روبرت بويل بالاستفزاز من أبيقوريي القرن السابع عشر حتى إنه نشر دليلًا موسعًا على التصميم: «مقالة عن الأسباب النهائية للأشياء الطبيعية» (١٦٨٨). فتناول أولًا حجة التصميم من وجهة نظر الجمادات. انغمس معاصروه في الاعتقاد الدارج بأن النجوم والشمس أُنشئت بوجه خاص لإلقاء الضوء والدفء على سكان الأرض. على سبيل المثال، يقول كبلر عن القمر؛ «الكوكب الثانوي»:

خُصص هذا النجم للأرض كملكية خاصة لها، لكي يساعد في نمو الكائنات الأرضية ويُرصد عن طريق المخلوق المفكر على الأرض، وكي يبدأ به رصد النجوم. (كبلر ١٦١٨–١٦٢١، الكتاب الرابع، الجزء الأول)

كان هذا إفراطًا في التبسيط. أشار بويل إلى أن نظام العالم كان شديد التعقيد حتى إنه كان من الخطأ أن نستنتج هدفًا معينًا للبشر من انتظام حركات الكواكب. آمن بويل — على غرار لايبنتس — بكونٍ يعمل كالساعة. ولا حاجة لتدخلات تصحيحية من جانب الصانع. كان هذا رأي ميكانيكي أكثر راديكالية من رأي نيوتن، الذي كان يفترض أن الرب سيضطر إلى إجراء تعديلات أحيانًا على الكون الذي يعمل كالساعة، ولكن في مجال الحياة العضوية، لم يرَ بويل إمكانية تجنُّب الازدواجية التفسيرية على غرار لايبنتس وكانط. فحتى الشيء الشديد التعقيد كالساعة لا يمكن أن يضاهي تعقيد الكائنات الحية في العالم البيولوجي:

(…) ثمة آلية في عضلات الإنسان أكثر إثارة مما في (…) «أفلاك الأجرام السماوية»، وتنطوي عين الذبابة (…) على براعة أكثر إثارة للدهشة من براعة صنع جسم الشمس. (بويل ١٦٨٨، ٤٣-٤٤)

كان تعقيد وتصميم النباتات والحيوانات شديدًا حتى إن استنتاج غايات معينة كان مبررًا. وكان واضحًا لبويل أن المهندس الإلهي قد خلق العيون لتمد حاملها المحظوظ بالرؤية. وكان لهذا الصانع من الحكمة ما يكفي لتزويد كل حيوان بزوج من العيون، احترازًا لموقف أن تستسلم إحدى العينين للمرض. لا يستطيع البشر الاستدلال على وجه اليقين أن الرب خلق كل هذه العجائب الطبيعية لهدف وحيد هو خدمة البشر وإسعادهم، ومع ذلك، يمكنهم أن يكونوا على يقين من أن هذا أحد أهداف وجودها. وسيكون من ذروة اللاعقلانية أن نستنتج، من جمال الطبيعة وكمالها، أن الصدفة وحدها كانت هي الخالق.

ومع ذلك، رفض الفيلسوف الفرنسي بيير لويس مورو دي موبرتيوس (١٦٩٨–١٧٥٩) قصر تأثير حجة التصميم على نظام الكواكب أو البنية العضوية. ويشير في كتابه «بحث في علم الكونيات» (١٧٥٠) إلى أن الرياضيات يمكنها إثبات وجود الإله. إن الانتظام الصارم للكون نفسه يستند على مبدأ الفعل الأدنى العام. يشير موبرتيوس إلى وجود مبادئ الفعل الأدنى في الفيزياء، التي تُثبت أن الطبيعة تتصرف بالطريقة الأكثر اقتصادًا. في بداية القرن السابع عشر أثبت بيير فيرما أن أشعة الضوء تتحرك بين أي نقطتين بالطريقة التي تجعل مساراتها تستغرق أقل وقت. ربما لا يكون هذا المسار أقصر المسارات ولكنه المسار الذي يستغرق وقتًا أقل من أي مسار آخر. وينطبق الشيء نفسه على الجسيمات، التي تتحرك وفقًا لقوانين نيوتن للحركة. من بين عدد من المسارات الممكنة، التي يمكن للجسيمات اتخاذها في الفراغ، فإن المسار الحقيقي هو الذي تكون فيه كميةٌ تُسمى الفعل S في حدها الأدنى.١ لذا تعمق موبرتيوس أكثر في نظام الطبيعة، فوجد أن الاقتصاد الرياضي للطبيعة — المعبَّر عنه بمبدأ الفعل الأدنى — يشير إلى وجود مصمم إلهي؛ فالجمال الرياضي الذي يكشف عن نفسه في نظام الطبيعة لا بد أنه صنيعة يد ذكاء متفوق.
عندما طرح بويل وموبرتيوس حججهما المرتبطة بالتصميم، كانت النظرية الميكانيكية قد رسَّخت تفوُّقها في العلوم الفيزيائية. كان نيوتن لا يزال يعتقد أن الكون الذي يعمل كالساعة في حاجة إلى تدخُّلٍ من حين لآخر من الإله لمواصلة العمل بانتظام تام، ولكن رأى بويل ولايبنتس كلاهما أن الحاجة لأعمال إصلاح أحيانًا تشير إلى انتقاص من قدرة الخالق؛ فبمجرد تشغيل الكون الذي يعمل كالساعة عن طريق خالقه، تبقيه القوانين العامة في حركة منتظمة، ومع ذلك، في نظام الكواكب والمجرَّات لا يمكن رصد ما هو أكثر من نوايا التصميم العامة. قدَّم العالم العضوي أدلة ملموسة أكثر بكثير على الأعمال الإلهية. يقر بويل بأن الصدفة وحدها ربما تخلق الحجارة والمعادن، ولكنها لا تخلق الخضروات والحيوانات.

ثمة فن منقطع النظير في بنية قدم الكلب أكثر مما هو موجود في تلك الساعة الشهيرة في ستراسبورج. (بويل ١٦٨٨، ٤٧)

نجد في أعمال بيلي تفضيلًا مماثلًا لدى علم الأحياء نحو استخدام حجة التصميم. يقول بيلي إنه من الصحيح أن الساعة تكشف عن قدر كبير من التصميم، ولكن العالم العضوي يقدِّم الكثير من حالات التصميم الأكثر إثارة للدهشة. فنكتشف كثيرًا من الجمال والنظام والانتظام حتى إنه لا يمكن إنكار أن مصممًا ذكيًّا قد خلق العالم.٢

لا يمكن أن يوجد تصميم من دون مصمم، ولا اختراع من دون مخترع، ولا نظام من دون خيار. (مقتبس من جليسبي ١٩٥٩، ٣٦)

مع توجيه كثير من الاهتمام للنباتات والحيوانات، بدا أن كل نوع مخلوق لهدف معين. رثى بويل الميل القوي لدى معاصريه نحو تفسير كل الأحداث الكونية كما لو أنها تحدث خاصة لأهداف بشرية. كان هذا التحذير مفهومًا لأن حجج التصميم تؤكد على ميول البشر لقراءة نية الخالق في الطبيعة العضوية. رغم ذلك، يبدو أن العالم العضوي يقدِّم رخصة أكثر أمنًا للوصول لاستدلالات حول وجود مصمم. كان علم اللاهوت الطبيعي في مهمة إثبات «النية النهائية للخالق فيما يتعلق بكل بنية» (آيزلي ١٩٥٩، ١٧٨)، ومع ذلك، ينشغل اللاهوت الطبيعي بالظواهر. لقد وجدنا مركزية بشرية مماثلة في مركزية الأرض؛ فيبدو أن الظواهر تشير إلى أن الأرض تقع في مركز الكون. دمرت مركزية الشمس هذا الاعتقاد، والآن أكد اللاهوت الطبيعي مركزية الوجود البشري في العالم العضوي.

رغم أن فكرة سلسلة الوجود الثابتة خَبَت وتلاشت، فإن البحث عن التصميم استمر. أفادت اقتراحات في القرن الثامن عشر بأن عمر الأرض أكبر بكثير من اﻟ ٦٠٠٠ سنة المذكور في الكتاب المقدس. مع ذلك، كان الدليل المأخوذ من الصخور ما يزال ضعيفًا للغاية لدرجة تمنع أن ينفي القصة التوراتية؛ فبالنسبة لعقل المؤمنين، بدت الأدلة الجيولوجية تأكيدًا على ذلك: حدث طوفان عالمي ولا يمكن أن يكون الوجود الإنساني أقدم مما هو منصوص عليه في الكتاب المقدس. كانت هذه ميزات أساسية في القصة التوراتية للخلق؛ فكانت متوافقة جيدًا مع الاعتقاد الغائي السائد والتطور التدريجي (جليسبي ١٩٥٩، ١٠٧). وفي مثل هذه الحالات، عندما لا تستطيع الأدلة إثبات أحد النموذجين ونفي الآخر على نحو حاسم، يشير الفلاسفة إلى نقص الإثبات (انظر الفصل الأول، الجزء ٦-٤). فيبدو الدليل نفسه متوافقًا مع مفاهيم متنافسة، فيما يتعلق بعمر الأرض على سبيل المثال. في بداية القرن السادس عشر، تشبَّث كوبرنيكوس بتكافؤ الفرضيات البديلة. وفي بداية القرن التاسع عشر، ظهرت نماذج متنافسة لأصل الأنواع. ولقد تحدَّت هذه النماذج نموذج التصميم الحالي. ولكن مرت خمسون سنة أخرى قبل أن تتمكن الأدلة من تقييم النماذج المتنافسة على نحو تفريقي. بعبارات فلسفية، كانت حجة التصميم بمنزلة رخصة للاستدلالات المسموح بها. تأخذنا الاستدلالات من وجود النظام الواضح في العالم الطبيعي إلى التصميم، ومن التصميم إلى خالق معطاء. تعمل حجة التصميم على نحو أساسي من خلال قوة التمثيلات.

بدا أن كل نوع مصمم بدقة لهدف معين؛ فالعصفور له أجنحة من أجل أن يطير. والبشر لديهم عقول من أجل التفكير. بإجماع الآراء، يحتل البشر مكانة متفوقة في مخطط الخلق. وضمنيًّا، خُلق عالم الحيوان والنبات من أجل البشر، ولكن علينا أن نفكر هل كانت الاستدلالات «المباحة» أيضًا استنتاجات «مقبولة» أم لا. تأمَّل نقاشًا في بداية القرن التاسع عشر بين أحد المؤمنين بوجود إله وأحد معتنقي فكرة التطور. يعتمد المؤمن بالإله على حس العقل ومظهر النظام الطبيعي للاستدلال على وجود الإله. ويعتمد معتنق التطور على القوانين الطبيعية والتفسيرات الميكانيكية للاستدلال على الانتظام في الطبيعة، ويتجنب الاستدلالات التي تشير إلى عامل خارق. بالنسبة للمؤمن بالإله، الوظيفة تأتي أولًا، ثم يُخلَق العضو من أجلها. إذا كان الخالق يريد لمخلوق أن يرى، فإنه يمنحه عينين من أجل ذلك. ومن ثَمَّ فإنه لا معنى في هذا المخطط للسماح بحدوث تبديل وتغيير. تحتل الكائنات أماكن دائمة في ترتيب الأشياء؛ فثمَّة سُلَّمٌ متدرج.

بالنسبة لأنصار التطور، ينشأ العضو أولًا، ثم يُشكِّل وظيفته. وضع هذا المنظور المعاكس بين يدي هَكسلي نقضًا داروينيًّا لحجة التصميم:

مع ذلك، لنفترض أن أحدًا كان قادرًا على أن يبين أن الساعة لم تُصنع مباشرة ولم يصنعها أي شخص، ولكن ذلك كان نتيجة لتعديل ساعة أخرى كانت تدل على الوقت ولكن على نحو سيئ، وأن هذه الساعة نشأت من بنية يمكن بالكاد تسميتها ساعة؛ نظرًا لعدم وجود أي أرقام على قرصها، وأن عقاربها كانت بدائية، وأنه بالعودة إلى الوراء في الزمن نصل في الأخير إلى أسطوانة دوارة هي أقدم مادة بدائية يمكن تتبُّعها لهذه البنية بأكملها. وإذا تصورنا أيضًا أن من الممكن إيضاح أن كل هذه التغيرات نتجت؛ أولًا: عن ميل البنية إلى التغير بلا نهاية، وثانيًا: عن شيء في العالم المحيط ساعد على توجيه جميع التغيرات نحو اتجاه شيء يبين الوقت بدقة، واستبعد كل التغييرات في الاتجاهات الأخرى، حينئذٍ يصبح من الواضح أن قوة حجة بيلي قد تبددت؛ فلسوف يتبين أن الجهاز المتكيف جيدًا بدقة لهدف معين قد يكون ناتجًا لطريقة التجربة والخطأ التي اتبعتها قوى غير ذكية، مثلما قد يكون ناتجًا مباشرة من تطبيق الوسائل الملائمة لتحقيق هذه الغاية عن طريق قوة ذكية. (هَكسلي ١٨٦٤، ٨٣)

استفاد هَكسلي من اقتراح داروين لآلية يمكن من خلالها تفسير الوظائف سببيًّا. (انظر الجزء ٦-٧، ﺟ). كان يوجد قبل داروين تخمينات جامحة كثيرة بشأن الطريقة التي يمكن أن يتشكل بها العضو لأداء وظيفته. قدَّم لامارك محاولةً جريئة لتقديم شرح ميكانيكي. وكانت هذه الفرضيات الميكانيكية تُعلَن في بعض الأحيان وتُنتقَد بشدة. أشار بول ثيري دي هولباخ في كتابه «نظام الطبيعة» (١٧٧٠) إلى أن البشر نتاج للطبيعة، فيما يتعلق بنشأتهم وقدراتهم الأخلاقية والفكرية. تكيفت النباتات والحيوانات وفقًا لظروف مناخية محددة على الأرض؛ فكما يشير، لو تغيرت الظروف البيئية على الأرض «لتغيرت جميع منتجات الكرة الأرضية أيضًا.» من المعقول أن نشك أن جميع الأنواع عرضة للتغيير؛ فالطبيعة لا تعرف أشكالًا دائمة. والبشر ليسوا هم ذروة الخليقة؛ فكل هذه تكهنات غامضة؛ خيال فلسفي جامح، ومع ذلك، علينا ألا نقلل من قوة الأفكار؛ فالأفكار تفرض نظامًا على مشاهداتنا. وهي تجعل ما يبدو متفاوتًا متماسكًا، كما تخلق نماذج جديدة للواقع، ولكن عندما تكون الحقائق نادرة، تطوف الأفكار بحرِّية كبيرة في الفضاء المفاهيمي. كانت هذه قوة فرضية لامارك، التي أدت إلى دمارها.

(ﺟ) جان باتيست لامارك

مما لا شك فيه أن أعظم خلل في عمل لامارك هو عدم كفاية المشاهدات والتجارب التي أوردها في دليل مبادئه العامة. (هِيكل، «الطبيعة» ٢٦ (١٨٨٢)، ٥٤٠)

figure
جان باتيست لامارك (١٧٤٤–١٨٢٩).
يرتبط اسم نيوتن في أذهان كثير من الناس بسقوط التفاحة وقانون الجاذبية. هذا ارتباط إيجابي لأنه يُعد دليلًا على عبقرية نيوتن. أما اسم جان باتيست لامارك فيثير رابطًا سلبيًّا؛ إذ يثير في الأذهان صورة الزرافة التي تمد عنقها للوصول إلى أوراق الأشجار العالية، ويزداد طول الرقبة وتنقل الزرافة طول العنق إلى الجيل التالي من الزرافات. هذا هو السبب في امتلاك الزرافات رقبة طويلة. ويمتلك البط أقدام مكففة لأنه يبسط أصابع قدميه ليدفع نفسه إلى الأمام في الماء. لقي لامارك سخرية كثيرة لأفكاره بشأن توريث الصفات المكتسبة بالاستخدام؛ بحيث تنتقل السمات التي اكتسبها أفراد الجيل الواقعين تحت ضغط شديد بأعجوبة لأبنائهم. لم يُعِرْ داروين إنجازاته أي احترام. مع ذلك، يضم عمل لامارك ما هو أكثر بكثير من «اكتشاف» وراثة الخصائص المكتسبة. كان لديه مستقبل مهني ناجح؛ فكان أستاذ علم الحيوان في متحف التاريخ الطبيعي في باريس، وعضوًا في «معهد فرنسا» والعديد من الجمعيات العلمية الأوروبية الأخرى. مع ذلك، كان تأثيره ضئيلًا. فلم يُفهم في عصره إلا قليلًا؛ إذ عاش في ظل الرجل الشهير جورج كوفييه (١٧٦٩–١٨٣٢)، وقد أفَلَت شمس أفكاره مع بزوغ شمس نظرية التطور لداروين، لكن لا ينبغي أن نسمح لتألُّق عمل داروين بأن ينسينا إنجازات لامارك. فقبل خمسين عامًا من نشر كتاب «أصل الأنواع» بالضبط، نشر لامارك كتابه «فلسفة علم الحيوان» (١٨٠٩)، الذي قدَّم فيه نظرية التحولية. يحتوي هذا الكتاب على مذهبه المعيب كثيرًا الخاص بالوراثة فوق الجينية، ولكن لنقارن أخطاءه بإنجازاته. طوَّر لامارك وسيلة لإضفاء التسلسل الزمني على «سلسلة الوجود العظمى». وبقيامه بذلك، تخلى لامارك عن فكرة ثبات الأنواع ونظرية الخلق الخاص. كان ثبات الأنواع عنصرًا أساسيًّا في تدرُّج الوجود وحجج التصميم. وظل هذا الثبات موجودًا من خلال أعمال كوفييه حتى نقضه داروين في نهاية الأمر. بدلًا من ثبات الأنواع، يقترح لامارك آلية «التعديل التدريجي». بل إن لامارك لم يفترض وجود فعل الخلق الإلهي في بداية الحياة العضوية؛ فتبدأ الحياة من خلال التوالد الذاتي. ومن خلال هذه العملية تُولد كائنات بسيطة جدًّا. ولو تُركت في هدوء، فإن تعقيد حجم الحياة سيتطور ببطء من خلال تعديلات تدريجية. ألن تختفي الكائنات الأكثر بساطة؟ لا، لأن التوالد الذاتي يعمل على نحو مستمر، ودائمًا ما يُجدَّد العالم. وستُحوِّل القوة الدافعة الداخلية الضرورية هذه الكائنات الأبسط إلى كائنات أكثر تعقيدًا. تحدث تعقيدات، وتُعطل التغيرات البيئية آلية التعديل التدريجي وتتحدى قدرة الكائنات على تكييف نفسها. وتؤدي الظروف البيئية المتغيرة إلى تغييرات في الكائنات الحية. سيُستخدَم بعض الأعضاء كثيرًا بينما يعاني بعضها من عدم الاستخدام. وتُورَّث الأعضاء المعززة من خلال توريث السمات المكتسبة. تتغير الكائنات في غضون بضعة أجيال، وينشأ تعقيد العالم العضوي ببطء. هذا تطور «خطي»، لأن فكرة التسلسل الهرمي باقية. بالنسبة للامارك، الإنسان نموذج للكمال، وتُقاس جميع الكائنات الأخرى في مقابل الإنسان. وعلى الرغم من أن لامارك أضفى التسلسل الزمني على «سلسلة الوجود العظمى» وتخلى عن فكرة ثبات الأنواع، فإنه لا يزال ملتزمًا بالغائية. وهذا يعني أن لامارك يعتقد أن تطوُّر سلم الوجود يتبع هدفًا ما محددًا مسبقًا. والهدف الأخير هو إنتاج البشر؛ فالطبيعة تتطور من كائنات أبسط إلى كائنات أكثر تعقيدًا بهدف الوصول إلى أكثر الكائنات كمالًا على الإطلاق: الإنسان العاقل، وقد أثبتت هذه الصورة أنها مُقنِعَة حتى إن نظرية التطور في الوقت الحالي غالبًا ما تقترن بالتعديل التدريجي؛ وهو الالتباس الذي يشهد عليه العديد من الوثائق المعاصرة. (شكل ٢-١)
fig22
شكل ٢-١: الأعمار السبعة للشخص الأكاديمي. إعلان في صحيفة الجارديان (٢٠٠٢/٤/٢٣)، يلفت الانتباه إلى الوظائف الأكاديمية الشاغرة في طبعات الثلاثاء (المصدر: صحيفة الجارديان. جميع الحقوق محفوظة جارديان نيوز آند ميديا ليمتد ٢٠٠٢).

كان لامارك أيضًا معتنقًا متشددًا لمبدأ المادية. والمادية لها العديد من الدلالات، وتُعبِّر في هذا السياق عن الاعتقاد بأن كل ظواهر الحياة العضوية يمكن تفسيرها باللجوء لأسباب ميكانيكية. وهذا يشمل القدرات العقلية العليا لدى البشر. لم يكن كانط معتنقًا للمادية، بل إنه شكك في أن اليرقة يمكن تفسيرها ميكانيكيًّا، لكن المذهب كان له باع طويل في فرنسا (دي هولباخ، هلفتيوس، لا متري)، وقد أدى إلى صورة الإنسان كآلة التي ذكرها في كتابه «الإنسان آلة»؛ فبالنسبة لمعتنق المادية، القدرات العقلية والوعي ليسا سوى تعبير عن حالات دماغية.

سنرى أن المادية كانت أحد الاعتراضات الفلسفية الرئيسية ضد نظرية داروين. وكما سيكتشف الداروينيون، فإن التحدي الأكبر أمام المادية هو تفسير ظواهر العقل والوعي.

من التأثيرات المؤسفة للثورات العلمية أن الأفكار المؤدية لها تتلقى فضلًا قليلًا للغاية من جيل ما بعد الثورة. مع ذلك، فإننا نتعلم من أخطائنا، كما أشار بوبر بإصرار. فحتى الأخطاء تساهم في التقدم العلمي. ألقت تحولية لامارك على ثبات الأنواع حملًا ثقيلًا من الشكوك. وكانت ماديته محاولةً أولى للتغلب على ثنائية كانط التفسيرية. مع ذلك، تبيَّن أن تحولية لامارك نموذج غير كافٍ؛ فالوراثة فوق الجينية لا وجود لها، ولا التعديل التدريجي. ظلت تحولية لامارك في حاجة إلى أسس تجريبية. وكما حدث في حالة مركزية الأرض، أنقذت التحولية الظواهر، كما واجهت مسألة الواقع. يحدث في العلم أن تبحث الحقائق عن نظرية. عندما تُوفي لامارك، كان لا يزال يوجد الكثير من الأفكار البيولوجية الباحثة عن دعم الأدلة. في إنجلترا، أعلن إراسموس داروين — جد تشارلز — والمؤلف المجهول لكتاب «الآثار الباقية للتاريخ الطبيعي للخلق» (١٨٤٤) روبرت تشامبرز أفكارهما التطورية. وفي فرنسا، استبق إيزيدور جوفري سانت هيلير اتحاد التجريبية والعقلانية في دراسة الطبيعة العضوية، التي تبنَّاها لاحقًا هِيكل. ودافع عن تحولية لامارك ضد إصرار كوفييه بشأن ثبات الأنواع، ولكنه صحح تركيز لامارك الشديد على التغير من خلال استخدام الأعضاء؛ فكان ينبغي وضع المناخ بعين الاعتبار (جوفري سانت هيلير ١٨٤٧؛ انظر جرين ١٩٨٠، ٣٠٠-٣٠١). وبينما اكتشف علم التشريح وعلم الأجنة والجيولوجيا وعلم الحفريات حقائق جديدة، بدأت هذه التكهنات النظرية تغرس جذورها في أرض صلبة.

(٣) اكتشافات الحفريات

عندما تتنافس مجموعة نماذج على تفسير الظواهر المرصودة، يحاول كل نموذج التوافق مع الحقائق المتاحة. ولا تأتي الحقائق مرتبطة على نحو جاهز بالنموذج التفسيري الصحيح؛ فالحقائق تحتاج إلى تأويل. وتعمل النماذج على وضعها في نظام متسق. وعندما تكون الحقائق قليلة ومتباعدة، يكون من السهل على النماذج المتنافسة ادعاء نجاح التوافق. كانت هذه هي الحال بين نظريتَي مركزية الأرض ومركزية الشمس لما يربو عن خمسين عامًا، ولكن في نهاية المطاف تظهر حقائق جديدة تتوافق مع أحد النماذج على نحو أفضل من غيره. وستمنح الحقائق القديمة والجديدة مزيدًا من المصداقية لأحد النماذج أكثر من غيره. ربما لا تكون هذه نهاية النموذج الذي فقد مصداقيته، لا سيما عندما تحدث تطورات نظرية جديدة. مع ذلك، يحظى النموذج المنتصر بكثير من الاهتمام لفترة من الوقت. لقد رأينا أن مركزية الأرض لم تمُتْ موتًا مفاجئًا، ولكن جعلت مشاهدات براهي وقوانين كبلر واكتشافات جاليليو حياتها غير مريحة على نحو أكبر. ونشهد في علم الأحياء التطوري صراعًا مشابهًا بين وجهة النظر الغائية القديمة ووجهة النظر الميكانيكية الناشئة. فلا يمكن أن يكون النظام الشمسي أرضي المركز وشمسي المَركز في الوقت نفسه، ولا يمكن أن تكون الحياة العضوية ناتجة عن تصميم معين وصدفة «عبثية» في الوقت نفسه. إذا كان النظام الكوكبي شمسي المَركز حقًّا، فإن النموذج الشمسي المَركز سيكون أكثر ملاءمة معرفيًّا من النموذج الأرضي المَركز. ولو كانت الطبيعة العضوية برمتها تشكلت في غياب التصميم، فإن النموذج الآلي سيكون أكثر ملاءمة معرفيًّا من النموذج الغائي. ولو كانت الكواكب تدور حول الشمس وتطورت الكائنات المعقدة، فلا بد من وجود حقائق تشهد على هذه السمات. وهذه الحقائق ستتوافق مع مخططٍ تفسيريٍّ ما بشكل أفضل من غيره. في خلال الخمسين عامًا بين صدور كتاب لامارك «فلسفة علم الحيوان» (١٨٠٩) وكتاب داروين «أصل الأنواع» (١٨٥٩) ظهرت اكتشافات جديدة في مختلف المجالات. في الجيولوجيا — على سبيل المثال — زِيد عمر الأرض تدريجيًّا من عمر ستة آلاف سنة القليل المذكور في الكتاب المقدس إلى ملايين وملايين السنين من التطور الكوني الذي ذكره كانط. فقد اكْتُشف أن الطبقات الصخرية تحتوي على تدرُّج زمني مخفي. وكلما كانت الطبقات أعمق، زاد عمر الصخور. في علم الحفريات، أضافت اكتشافات الحفريات إلى التسلسل الزمني للأرض. فحفريات الحيوانات المنقرضة وحفريات أشكال الحياة غير المعروفة كشفت عالم أحياء العصور القديمة. على سبيل المثال، أصبح الكائن القديم أركيوبتركس — الذي كان وسيطًا بين الديناصورات والطيور — موضع مناقشات مكثفة. اكتُشفت رتبة الزواحف تلك في أوائل القرن التاسع عشر، ولكن بدأ فهمها على نحو صحيح في ستينيات القرن التاسع عشر فقط. ولم يبدأ استخراج الهياكل العظمية لأنواع مختلفة من الديناصورات مثل إجوانودون إلا على يد أوثنيل تشارلز مارش في عام ١٨٨١. ونشرت مجلة نيتشر رسومًا توضيحية رائعة لأشكال الحياة القديمة تلك (شكل ٢-٢). وجدت اعتراضات فولتير على «سلسلة الوجود العظمى» في نهاية المطاف دعمًا من البيانات التجريبية الملموسة؛ إذ أظهر التشريح المقارن التشابه التشريحي الوثيق بين البشر والقِرَدة، وكشف علم الأجنة تشابهًا مثيرًا للدهشة بين أجنة الأنواع المختلفة في المراحل الأولى من النمو (شكل ٢-٣).
fig23
شكل ٢-٢: إجوانودون (المصدر: نيتشر ٥٥ (١٨٩)، ٤٦٣).
fig24
شكل ٢-٣: مقارنة الأجنة (من اليسار إلى اليمين). في الأعلى: الكلب (٤ أسابيع)؛ الإنسان (٤ أسابيع). في الأسفل: الكلب (٦ أسابيع)؛ الإنسان (٨ أسابيع). (المصدر: هِيكِل (١٨٧٦)، المجلد الأول، ٣٠٦-٣٠٧).

بما أننا مهتمون على نحو خاص بالنتائج الفلسفية للنظريات العلمية، سنركز على اكتشافات الحفريات البشرية وما تعنيه لعصور البشرية القديمة. حدث بعض هذه الاكتشافات قبل نشر داروين لكتابه «أصل الأنواع». ينبغي أن نلاحظ أن مسألة ظهور البشر مستقلة عن مسألة تحدُّر الإنسان من القِرَدة الشبيهة بالإنسان. إن النقاش حول العصور القديمة للبشرية متوافق مع نظرية الخلق الخاص؛ فمن الممكن إعادة تأويل التزام الكتاب المقدس بستة آلاف سنة من الوجود الإنساني بأنه أمر مجازي فحسب، ولكن نظرية تحدُّر الإنسان من القِرَدة الشبيهة بالإنسان تتنافى مع عقيدة الخلق الخاص للبشر. عندما يُجمع هذان السؤالان الخاصان بالعصور القديمة والأصل معًا، فإنهما يشكلان الخليط المتفجر الذي صدم العامة بعد وقت قصير من نشر كتاب داروين؛ إذ إن المزيج يجعل البشر عرضة للانتقاء الطبيعي كما هي حال الأعشاب واليرقات عند كانط. وبمجرد أن أصبحت صيغة التطور لداروين — المدعومة بالانتقاء الطبيعي — متاحةً كحل لمسألة الأنواع، صار لها منطق خاص بها. وسارع معاصرو داروين إلى بسط نموذج داروين التطوري من النباتات والحيوانات إلى عالم الإنسان.

(٣-١) العظام والهياكل العظمية

لا وجود لحفريات بشرية. (كوفييه، «وجهات نظر من عالم ما قبل التاريخ» (١٨٢٢)، ١٠١، مقتبسة في رول، «الإنسان» (١٨٧٠)، ٢٦٥)

كيف يمكنك تحديد العصور القديمة للبشرية في غياب تقنيات التأريخ الدقيقة؟ ستقوم باستدلالات. أعرب كاتب في مجلة نيتشر عن شكوك هائلة في أننا «لن نكتشف أبدًا مهد جنسنا الصحيح.» ومع ذلك، يمكن لفن الاستنتاج أن يقطع بنا شوطًا طويلًا. كان جون إيفانز — رئيس قسم الأنثروبولوجيا بالجمعية العلمية البريطانية (١٨٩٠) — واثقًا من:

أنه من وقت لآخر ربما نكتشف أغراضًا فنية بشرية، وفي ظل هذه الظروف والأحوال ربما نستنتج يقينًا أنه في مرحلة معينة في تاريخ العالم وُجِد البشر (…). (نيتشر ٤٢، ١٨٩٠، ٥٠٧؛ قارن رول ١٨٧٠، الفصل الثاني والسادس)

fig25
شكل ٢-٤: رسم للهيكل العظمي للماموث (المصدر: رول ١٨٧٠، ٢٨٦).
ربما لم يكن ممكنًا تحديد العمر الدقيق أو حتى التقريبي للهياكل العظمية في فترة ما قبل اكتشاف رذرفورد لقانون الاضمحلال الإشعاعي (١٩٠١)، لكن التقديرات النسبية يمكن على الأقل أن تقدِّم بعض استدلالات ذات احتمالية أكبر من غيرها؛ فقد عُثر على حفريات بشرية بين حفريات الحيوانات المنقرضة مثل دب الكهف والماموث والرنة والحصان البري (شكل ٢-٤)، كما عُثر أيضًا على أدوات وأسلحة مصنوعة من حجر الصوان. وهذا يشير إلى أن كائنات شبيهة بالبشر استوطنت مناطق أوروبا التي كانت سابقًا موطنًا لحيوانات انقرضت في الوقت الحالي، كما أشار أيضًا إلى أن العصرين البرونزي والحديدي لم يكونا قد حلَّا بعدُ؛ ومن ثم لا بد أن الجماعات البشرية عاشت في أوروبا خلال العصر الحجري. هذا استنتاج مرجَّح على نحو أكبر من رأي كوفييه بأنه لا يمكن أن توجد أي حفريات بشرية. وهو مرجح على نحو أكبر؛ لأنه أكثر توافقًا مع الحقائق. أقنعت عدة اكتشافات لبقايا بشرية العديدَ من علماء الحفريات أن البشر وُجدوا في وقت أبكر بكثير مما كان يُفترض حتى ذلك الوقت. استكشف فيليب تشارلز شميرلينج الكهوف الموجودة تحت الأرض بالقرب من مدينة لييج البلجيكية ووجد جماجم بشرية وعظام حيوانات منقرضة. كان شكل الجماجم البشرية مختلفًا نوعًا ما عن جمجمة الإنسان الحديث، لكن ظل هذا الدليل يُنظَر إليه على أنه غير مؤكد، ولكن في أربعينيات القرن التاسع عشر، اكتشف بوشيه دو بيرث أدوات حجرية بدائية قرب أميان في فرنسا بين بقايا حيوانات منقرضة. أثبت كوفييه وآخرون بالفعل على نحو مستقل أن هذه الحفريات الحيوانية تنتمي إلى ما يُسمى فترة الطوفان أو العصر الجليدي. ويشار اليوم إلى هذه الفترة على أنها العصر البليستوسيني (انظر جدول ٢-١). اكتُشف هيكل عظمي بشري في وادي نياندر بالقرب من دوسلدورف (ألمانيا)، واشتهر باسم إنسان نياندرتال (١٨٥٦). لم يُعثر على بقايا حيوانات منقرضة، ولكن الطبقات الجيولوجية (الطين) كانت تنتمي إلى فترة «الطوفان». وكان أكثر ما أصاب علماء الحفريات المعاصرين بالدهشة حينها هو شكل الجمجمة (شكل ٢-٥)؛ إذ بدا أنها تحمل مخًّا متخلفًا نوعًا ما يُظهر تشابهًا قويًّا مع مخاخ القِرَدة الشبيهة بالإنسان. (ولكن لاحظ أن إنسان نياندرتال لا يزال قيد التقييم حتى اليوم.) حدثت كل هذه الاكتشافات قبل نشر كتاب داروين. وحدث اكتشاف آخر مهم قرب نهاية القرن هو إنسان جاوة (١٨٩١ -١٨٩٢) وكان يُمثِّل «الإنسان المنتصب». كان إنسان جاوة مرشحًا ليمثل الحلقة المفقودة. لم يكن لفكرة الحلقة المفقودة معنًى قبل داروين؛ ففي المخططات القديمة كان البشر مخلوقين خلقًا خاصًّا أو كانوا ذروة التطور التدريجي. أدرج داروين سلالة البشر في شجرة الحياة. أصبح البشر عرضة لتحدُّر السلالة مع التعديل، ولذلك أصبح من الضروري التحقق من وجود أشباه البشر الأوائل. كان الباحثون يعرفون سلسلة النسب البشرية قبل داروين على نحو أفضل مما كانوا يعرفون عن وجود الديناصورات.
fig26
شكل ٢-٥: جمجمة إنسان نياندرتال (المصدر: رول (١٨٧٠)، ٣٠٩).

(٣-٢) بشر العصور القديمة

لا يمكن أن يكمن هدف الإنسانية في النهاية، ولكن يكمن فقط في أفضل نموذج لها. (نيتشه، «تأملات في غير أوانها» (١٨٧٣-١٨٧٤)، الجزء الثاني، مقتبسة في كوفمان (١٩٧٤)، ١٤٩)

جدول ٢-١: تطور أشباه البشر.*
الاسم الفترة الوقت السمات
أوسترالوبيثيكوس، رشيق وقوي (القرد الجنوبي) أواخر فترة الميوسين إلى أوائل فترة البليوسين منذ ٤–٢ مليون سنة سعة الجمجمة: ٤٣٠–٤٥٠سم٣، وضع منتصب.
الإنسان الماهر (هومو هابيليس) أوائل فترة البليستوسين منذ ٢–١٫٥ مليون سنة زيادة سعة الجمجمة (٦٤٠سم٣)، أنياب وأسنان طاحنة أصغر، يد قادرة على معالجة الأشياء على نحو دقيق، القدرة على تصنيع أدوات حجرية.
الإنسان المنتصب (هومو إريكتوس) (إنسان هايدلبيرج (هومو هايدلبيرج)، الإنسان العامل (هومو إرجاستر)، إلخ) أوائل إلى أواسط فترة البليستوسين منذ ١٫٥ مليون–٩٠٠ ألف سنة سعة الجمجمة ٨٨٣–١٠٤٣سم٣، السيطرة على النار، نقص في حجم الأسنان، أدوات حجرية؛ إنسان جاوة، إنسان بكين.
إنسان نياندرتال (هومو نياندرتال) أواخر فترة البليستوسين (العصر الحجري) منذ ٢٠٠–١٥ ألف سنة زيادة حجم الدماغ، وجه طويل كبير، الاحتفاظ بالنتوء عند منطقة الحاجبين، نتوء الأسنان والأنف وغياب الذقن الكامل، قواطع وأنياب كبيرة، أدوات حجرية بدائية، أول مَن دفن الموتى عمدًا، حل محله الإنسان الحديث منذ ٥٠ ألف–٣٠ ألف سنة.
الإنسان العاقل (هومو سيبيان) العصر الحجري متوسط سعة الجمجمة ١٣٥٠سم٣، الجبين العمودي، تقوس قاع الجمجمة، صغر حجم الأسنان الماضغة. القدرة على صنع الأدوات الازمة لصنع أدوات وقبضة قوية ودقيقة حقًّا ناتجة عن الإبهام الطويل.
أوائل العصر القديم ٤٠٠–٢٠٠ ألف سنة
أواخر العصر القديم ٢٠٠–١٠٠ ألف سنة
العصر الحديث ١٠٠ ألف–الحاضر
هذه البيانات معاد تجميعها من الموسوعة البريطانية ١٨ (١٩٩١)، ٨٠٣–٨٥٤ ومجلة ساينتيفيك أمريكان ١٣ (٢٠٠٣)، مع نصائح من الدكتور هولجر شوتكوفسكي، قسم الآثار في جامعة برادفورد.
كان واضحًا قبل داروين أن أصل البشرية جذوره ضاربة في العصور القديمة. مع ذلك، لا يوضح هذا أي شيء بشأن أصل الإنسان، ولكن متى عاش أجداد البشر هؤلاء؟ لم يكن لدى الباحثين أي مقاييس مُطلقة للعصور على الأرض، فقط تسلسل نسبي (جدول ٢-١). لم يكن واضحًا طول المدة التي استمر فيها العصر الجليدي على الأرض. ولكن كان يوجد ترتيب تنازلي في الماضي: من العصر الحديدي إلى العصر البرونزي إلى العصر الحجري، وقبل ذلك، فترة البليستوسين، وفترة البليوسين، وفترة الميوسين. ومرة أخرى لعبت الممارسات الاستدلالية دورًا رئيسيًّا. عندما عُثر مع الحفريات البشرية على أدوات وأسلحة حجرية بدائية، استُدِلَّ على أن البشر الأوائل كانوا مضطرين للتعامل مع مثل هذه الأدوات البدائية. وبالنسبة للمراحل اللاحقة، حلت الأدوات البرونزية والحديدية محل الأدوات الحجرية؛ لذا لا بد أن أشباه البشر المكتَشَفين مع أدوات حجرية أقدم من أشباه البشر المكتَشَفين مع أدوات أكثر تطورًا. حدد معظم الباحثين ظهور أشباه البشر في فترة البليستوسين (العصر الجليدي). لم يكن الكتَّاب في ستينيات القرن التاسع عشر متأكدين بشأن مدى امتداد العصور الجيولوجية في تاريخ الأرض، لكن أصول البشر أشارت إلى أنها تتخطى الحدود التوراتية (رول ١٨٧٠، ١٥٩). لم يكن تحديد عصور الأرض من خلال التأريخ بالنشاط الإشعاعي قد طُوِّر بعدُ. في عام ١٨٦٨ قدَّر طومسون (على نحو خطأ) عمر الأرض بأنه لا يزيد عن مائة مليون سنة. كان داروين فقط هو مَن انزعج بشدة من هذا التقدير. واعتنق هَكسلي ووالاس الرأي القائل بأن الجيولوجيا يجب أن تحدد عمر الأرض، وأن على علماء الأحياء وضع شجرة الحياة في المساحة المتوفرة. وبما أن تقدير طومسون كان إجماليًّا، فإنه لم يخبرنا بشيء بشأن العصور الجيولوجية للأرض وطول مدتها. أعلن فريدريش رول عن العثور على هيكل عظمي بشري في دلتا المسيسيبي (١٨٥٢-١٨٥٣)، وكان عمره يُقدَّر بسبعة وخمسين ألف سنة.

كان للجدال بشأن عصور البشر القديمة أهمية رئيسية قبل صياغة داروين نظريته للانتقاء الطبيعي. أظهر الإثبات التجريبي لعصور البشر القديمة أمرين؛ الأول: هو أن البشر كانوا أقدم بكثير من العمر المذكور في الكتاب المقدس المقدر بستة آلاف سنة. فقد وُجد أشباه البشر بالفعل خلال العصر الجليدي، كما كان يوجد أيضًا دليل على هجرة الجماعات البشرية في أوروبا. ألقى كل هذا شكوكًا خطيرة على مقولة كوفييه أنه لا وجود لحفريات بشرية، كما أشار أيضًا إلى أن الأنواع يمكن أن تنقرض وتفسح المجال لأنواع جديدة. (في عام ٢٠٠٣ اكتُشف على جزيرة نائية في إندونيسيا ما يعتبره البعض نوعًا بشريًّا جديدًا أُطلق عليه اسم «الهوبيت».) وأصبح التشابه الهيكلي بين البشر وآباء البشر والقرود موضوعًا علميًّا جادًّا. وتحدت كل هذه الاكتشافات نظرية ثبات الأنواع. أما الأمر الثاني: فهو أنه قوَّض فكرة التعديل التدريجي التي تستلزم ظهور أنواع معينة من الكائنات على الأرض قبل أن تظهر الكائنات الأكثر تعقيدًا. فلو أن البشر عاشوا على الأرض مع حيوانات انقرضت في الوقت الراهن، فإن التعديل التدريجي لا يمكن أن يكون تفسيرًا ملائمًا. تشير كل هذه الأمور بوضوح إلى أن ثورة داروين حدثت على خلفية الاكتشافات التجريبية المتاحة وعدد من التفسيرات النظرية المتنافسة، وقد حاولت جميعها تفسير المشاهدات والاكتشافات.

figure
صورة لتشارلز داروين (١٨٠٩–١٨٨٢).

(٤) ثورة داروين

(…) حوَّل داروين التطور من تكهنات إلى علم عملي (…). (جولد، «نظرية التطور» (٢٠٠٢)، ٢٣)

لم يكن داروين أبا نظرية التطور؛ فمحاولات استخدام التطور في تفسير تنوُّع الحياة تركت بالفعل بصماتها على المشهد الفكري في أوروبا. لم تكن نظرية لامارك مؤثرة ولكنها لم تدخل طي النسيان أيضًا. وكان داروين على علم بمَن سبقوه؛ ففي الطبعات اللاحقة من كتابه الذي صدر في عام ١٨٥٩، أضاف ملخصًا تاريخيًّا لنظريات أصل الأنواع من بدايات القرن التاسع عشر كتمهيد. وجد داروين ٣٤ مؤلفًا عبروا عن اعتقادهم في تعديل الأنواع، كما قدَّم داروين أيضًا مشاهداته المهمة بشأن تنوُّع الأنواع؛ فخلال رحلته على متن السفينة «بيجل»، اكتشف أصنافًا مثيرة للدهشة من العصافير وعظام الحفريات من ثدييات منقرضة كبيرة في الأرجنتين. وعندما ألَّف كتابه «أصل الإنسان» (١٨٧١)، استفاض في ذكر المواد التجريبية المتعلقة بعصور البشر القديمة. تمتد هذه المواد من ثلاثينيات القرن التاسع عشر إلى سبعينيات القرن التاسع عشر. كان داروين بمنزلة كبلر علم الأحياء أكثر من كونه كوبرنيكوس علم الأحياء. قبِل كبلر فرضية كوبرنيكوس لكنه رفض فكرة الحركة الدائرية المنتظمة. واستخدم البيانات التجريبية الخاصة ببراهي وبه لصياغة القوانين الرياضية لحركة الكواكب، ولكن كبلر لم يستطع أن يفسر على نحو صحيح سبب بقاء الكواكب في مداراتها. قَبِلَ داروين النظرية التطورية، لكنه رفض آلية لامارك بشأن وراثة السمات المكتسبة. بالنسبة لداروين، كانت الآلية هي الانتقاء الطبيعي؛ فهي تعمل على صلاحية السمات المتغايرة لدى الأفراد، لكن داروين لم يفهم الآلية الجينية للوراثة، التي جعلت تباين الأفراد ممكنًا. إن الكتاب الذي طرح فيه داروين نظريته كان بعنوان «أصل الأنواع»، ونُشر في ٢٤ نوفمبر ١٨٥٩. والعنوان الكامل للكتاب مُعبِّر تمامًا لأنه يُعبِّر باختصار عن جوهر أفكار داروين: «أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي، أو الحفاظ على التغايرات المواتية خلال الصراع لأجل الحياة.»

figure
ألفريد والاس (١٨٢٣–١٩١٣).

كملاحظة تاريخية بشأن الاكتشافات المتعددة، يجب أن يُضاف أن داروين دُفع إلى نشر عمل هذا. كان يقصد به فقط أن يكون ملخصًا لعمل أوفى حول التطور سوف يُكتَب لاحقًا. إن ما دفع داروين إلى نشر الكتاب هو ورود ورقة بحثية من شخص يُدعى ألفريد والاس قدَّم فيها مؤلفها أفكارًا حول التطور مشابهة للغاية لأفكار داروين. كان عنوان الورقة البحثية: «عن نزعة المتغايرات إلى الابتعاد إلى ما لا نهاية عن النمط الأصلي»، ونُشرت في عام ١٨٥٨. أثار هذا قلق داروين لأنه كان قد طوَّر نظريته الخاصة عن التطور بالفعل في عام ١٨٣٨، بعد رحلة لمدة خمس سنوات على متن السفينة «بيجل»، ولكنه لم ينشرها. لا أحد يحب أن يسبقه غيره في نشر أفكاره؛ ولذا رغم أن داروين كان أول من قدَّم آلية تطور قابلة للاختبار، فإن والاس وصل إلى نفس الأفكار على نحو مستقل، ولكن بعد ٢٠ عامًا. كان والاس قد نشر بالفعل في عام ١٨٥٥ مقالًا ربط فيه «الانقراض التدريجي وخلق الأنواع» بالتغيرات التدريجية في البيئة (والاس ١٨٥٥). حتى إنه أشار إلى أن الحواجز الجيولوجية، كما هي الحال في جزر جالاباجوس، من شأنها أن تؤدي إلى ظهور أنواع مختلفة. ولكي ينأى بنفسه عن أفكار لامارك، أشار والاس إلى أنه لا يقترح نظرية ارتقاء ولكن نظرية للتغير التدريجي. قدَّمت هذه الورقة الأولى نظريةً للتطور، ولكنها لم تقدِّم أي آلية تدفع التطور. كانت ورقته البحثية في ١٨٥٨ هي التي كررت كثيرًا من أفكار داروين العزيزة. أصر والاس في هذه الورقة البحثية اللاحقة على أهمية الصراع من أجل الحياة بوصفه «مؤشرًا قويًّا على الزيادة الكبيرة للأنواع.» وأشار إلى أن وفرة الأنواع أو ندرتها إنما تعتمد على مدى «التكيف المثالي مع ظروف الحياة.» تواجه الأنواع تحديًا ثلاثيًّا: الإمدادات الغذائية، والأعداء الطبيعيين، والظروف المناخية. وفي هذا الصراع، التعديلات المفيدة تميل إلى زيادة عدد الأفراد الذين يملكونها، بينما التعديلات عديمة الفائدة سوف تميل إلى تقليل أعدادهم. إذا كان ثمة فرق بين داروين ووالاس فإنه يكمن في موضع التركيز. أشار والاس صراحة إلى أنه لا يمكن القيام باستدلال مفيد من الحيوانات المستأنسة إلى الحيوانات البرية، بينما كان الاستدلال من الانتقاء المصطنع إلى الانتقاء الطبيعي واحدًا من أهم استدلالات داروين. كذلك كان والاس أكثر اهتمامًا بالأنواع من الأفراد، بينما شغل الأفراد ذهن داروين. وأخيرًا، استبعد والاس البشر من تأثير الانتقاء الطبيعي.

(٤-١) النظرة الداروينية للحياة

كان المفتاح الأساسي لاكتشاف الانتقاء الطبيعي هو إدراك أن المجموعات البيولوجية قد تُشكِّل جماعات أو وحدات تفاعل داخل الطبيعة. (جيسيلين، «انتصار المنهج الدارويني» (١٩٦٩)، ٥٦)

ثمة فكرة فظة وخاطئة للغاية بشأن نظرية التطور تقضي بأن التطور يعني البقاء للأصلح. ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ أن داروين لم يستخدم في الطبعة الأولى من كتاب «أصل الأنواع» مصطلحَي «التطور» ولا «البقاء للأصلح». كان الفيلسوف هربرت سبنسر هو مَن ربط التطور بالبقاء للأصلح. كان لداروين معارضون نافذون من مصلحتهم ربط التطور بشكل من أشكال التقدم الحتمي نحو صورة حياة أسمى. وهذا سوء فهم للداروينية، فلا يوجد أي تقدُّم حتمي، لكن التقدم الحتمي كان قاعدة يقينية قبل داروين. كان يقينًا خاصًّا بالغائية. كان عقيدة التصميم. وهذه العقيدة هي التي هاجمها داروين، ومع ذلك، من النادر لثورة علمية أن تقضي تمامًا على الأفكار الراسخة بضربة واحدة. حتى الأفكار الثورية لا تؤدي إلى تغيُّر حماسي، تحول جشطالتي مفاجئ. إليك على سبيل المثال واحدًا من المدافعين عن جورج كوفييه وألكسندر فون همبولت: لويس أجاسيز (١٨٠٧–١٨٧٣). ولد أجاسيز في سويسرا ولكنه هاجر إلى بوسطن في ١٨٤٦. وكأستاذ لعلم الحيوان في جامعة هارفرد، كان له تأثير هائل على التفكير البيولوجي في أمريكا وسمعة عالمية كباحث. كان يُعتبر فون همبولت أمريكا، كما نشر دراسات مهمة عن الأنهار الجليدية وكان أحد مكتشفي العصر الجليدي. كان أجاسيز أيضًا معارضًا لدودًا لنظرية التحدر.
أصر على أن الأنواع كانت «فئات فكرية تجسدت في صور حية فردية»، ويمثل التاريخ الطبيعي جوهريًّا «تحليل أفكار خالق الكون، كما تتجلى في المملكة الحيوانية والنباتية.»٣
figure
صورة لويس أجاسيز (١٨٠٧–١٨٧٣).

كان أجاسيز حريصًا على هدم فرضية «النشوء» التي رآها غير متوافقة مع «الحقائق العظيمة للأخلاق والدين السماوي.» واحتفى بنشر كتاب هيو ميلر «آثار الخالق» (١٨٤٩، ١٨٦١). وأشاد به «لمزيجه الناجح من المذاهب المسيحية والحقائق العلمية البحتة» (ميلر ١٨٦١، ١–٣٥، إليجارد ١٩٥٨، ٣٣٦-٣٣٧). أراد أجاسيز إعادة التصميم في مقابل مفهوم داروين الميكانيكي للطبيعة. لم يجد معاصرو داروين فكرة الانتقاء الطبيعي مقنعة، حتى إن أفكار لامارك بشأن وراثة السمات المكتسبة ظهرت من جديد. بل إن داروين ذاته راودته الشكوك؛ ففي كتاب «أصل الإنسان» (١٨٧١) أعرب عن بعض الأسف على رفضه التام السابق لأفكار لامارك بشأن الوراثة فوق الجينية. كان من الواضح أنه صُدم بسبب غياب الحماس حيال مبدأ الانتقاء الطبيعي.

لماذا تجنب داروين مصطلح «التطور»؟ كما رأينا بالفعل، كان لهذا المصطلح ارتباط قوي بالتعديل التدريجي للامارك؛ وهو يعني تقدُّم النمو من حالة بدائية إلى حالة ناضجة أو كاملة. وكان لهذا المصطلح أيضًا معنًى تقنيٌّ آخر في علم الأجنة. كان ألبرشت فون هالر — أستاذ الطب وعلم النبات — يُعَلِّم في منتصف القرن الثامن عشر أن الأجنة تنمو من إنسان ضئيل مُشَكَّل موجود في البويضة أو الحيوان المنوي.

يتحدث داروين عن تحدُّر السلالة مع التعديل. والقوة الدافعة لتحدر السلالة مع التعديل هي الانتقاء الطبيعي، وكان يقصد بهذا الحفاظ على التغايرات المواتية في الكائنات الفردية. إذا كانت التغايرات مواتية للبقاء على قيد الحياة في بيئة معينة، فإنه توجد نزعة للحفاظ عليها. لاحظ داروين أن سبنسر أعرب عن فكرة الحفاظ على التغايرات المواتية بمصطلح «البقاء للأصلح»، ولكنه دافع عن استخدام مصطلحه الخاص، رغم أنه يبدو متضمنًا لاختيار واعٍ، لأنه يجمع بين إنتاج الأعراق المستأنسة بواسطة قدرة البشر على الانتقاء، والمحافظة الطبيعية على النسخ والأنواع في حالة الطبيعة (انظر كرومبي ١٩٩٤، المجلد الثالث، ١٧٥١).

لم يفكر داروين أن تطور الحياة العضوية يمكن أن يُصوَّر على أنه تطور ضروري من الأشكال «الدنيا» إلى الأشكال «الأسمى». كان التطور يعني بالنسبة لداروين تكيف الكائنات على نحو أفضل مع بيئتها الطبيعية وحسب. وخلال هذه العملية يمكن أن يحدث تطور إلى أشكال أكثر تعقيدًا؛ فهناك ديدان وهناك الوُمْبَت (أو السحمور). يمكن تفسير ذلك من خلال عملية الانتقاء الطبيعي. أو هكذا أمل داروين. لا يتبع التطور أي خطط، وهو ليس موجهًا نحو هدف. مع ذلك، فإنه لا يحدث عن طريق الصدفة العمياء، بل يجب أن يحافظ على السمات المواتية. وهو يعمل عن طريق الانتقاء التراكمي. ووفق عبارة فرنسوا جاكوب اللبقة، التطور كالعامل الحرفي، وليس مهندسًا موهوبًا.٤ وعلى نحو متوقع، واجه الداروينيون أكبر تحدٍّ لهم عندما طبقوا فكرة الانتقاء الطبيعي على نشأة البشر؛ الكائنات المالكة لأعلى أشكال الوعي. وكما سنرى، كان الاعتراض هو أن الانتقاء الطبيعي لا يمكن أن يفسر الوظائف العقلية الأعلى لدى البشر. لم يتحدَّ الداروينيون قط المكانة العليا للبشر في تدرُّج الحياة العضوية. ولكن ما يصنع الفارق الجوهري هو هل كان هذا مفهومًا بمعنى مكاني، كما في «سلسلة الوجود العظمى»، أم بمعنًى زمني كما في نظرية التطور (ويندورف ١٩٨٥، ٤٠٣)؛ ومن ثم فإن نظرية التطور لها انعكاسات كبيرة على فلسفة العقل: كيف نفسر ظهور الوظائف العقلية العليا الخاصة بالأنشطة العصبية في المخ؟

(أ) مبادئ التطور

يتواصل التطور وكأنه عامل حرفي يعيد تغيير شكل أعماله على مدار ملايين السنين (…). (جاكوب، «لعبة الإمكانات» (١٩٨١)، ٦٦، ترجمه المؤلف)

قبل تناول داروين لأصل الإنسان، تعامل أولًا مع أصل الأنواع. إن عنوان كتاب داروين «أصل الأنواع» مضلل؛ فليس مقصد الكتاب تفسير أصل الحياة في فجر التاريخ ولكن تفسير كيفية ظهور الأنواع الجديدة. حاولت نظرية داروين تقديم تفسير طبيعي لبقاء الكائنات العضوية وما مرت به من تعديلات في الماضي القريب وفي الحاضر. فبدلًا من الإشارة — على غرار لامارك — إلى أن سلسلة الأنواع تميل نحو نوع من الكمال وتبلغ ذروتها في ظهور الجنس البشري، كانت فكرة داروين أن التغير العضوي يؤدي إلى تكيف محلي استجابة للبيئة المتغيرة. تؤدي الاستجابات التكيفية للظروف البيئية المتغيرة إلى التنوع، وقد تؤدي هذه العملية إلى تطور ضمن السلالة (التخلق التجددي) أو إلى تقسيم السلالة (التخلق اﻟﺘﻔﺮﻋﻲ). وتصبح بعض الكائنات أكثر تعقيدًا من غيرها. زادت سعة الجمجمة البشرية كثيرًا مع تطور الإنسان من «الإنسان الماهر» إلى «الإنسان العاقل»، ولكن ليس حتميًّا أن يكون هذا انتقالًا نحو الكمال. فربما يفقد كائن حي وظيفة البصر لو كان يتكيف مع ظروف المعيشة في الكهوف المظلمة؛ لذلك ليس الأصلح هو الأفضل بالمعنى المطلق. إنما تكتسب الكائنات ببساطة تكيفًا أنسب مع البيئة المحلية. يستشهد علماء الأحياء بالعديد من أمثلة تعديل أجزاء الجسم: من فقدان الآذان الداخلية والخارجية إلى فقدان الأطراف الأمامية لدى الثعابين، ومن تبسيط العيون لدى الثعابين (فقدان الجفون) إلى فقدان البصر لدى أسماك الكهف (راف ١٩٩٦، ٢٠٧–٢٠٩؛ جولد ٢٠٠٢، ٢٠٣-٢٠٤، ٢١٨-٢١٩).

لفهم الأفكار الرئيسية للتطور، تأمَّل ثلاثة مستويات: مستوى الأنواع، ومستوى الكائنات الفردية، ومستوى الجينات.

على مستوى الأنواع، قدَّم لامارك وجهة نظر «خطية» متدرجة للتطور. تولِّد الطبيعة سلسلة من أشكال الحياة متزايدة التعقيد، وتنتهي السلسلة بالبشر، ذروة الخليقة. رد الداروينيون بوجهة نظر «متفرعة» للتطور. يحتاج البقاء على قيد الحياة إلى دفع الكائنات إلى أنماط حياتية معينة. وهذه الأنماط الحياتية تفرض قيودًا على الكائنات على المستوى المورفولوجي والبنيوي. وتوفر الاستجابات التكيفية درع الحياة الواقي النابض بالحيوية.

كان تركيز والاس منصبًّا على نمو وتضاؤل الأنواع. وهذا ألهمه بالفعل في عام ١٨٥٥ بصياغة صورة مجازية جديدة: شجرة الحياة العضوية المتفرعة. من منظور عين الطائر، يعني تطور الأنواع التكيف المحلي مع الظروف البيئية المتغيرة. وتكون النتيجة تنوعًا كبيرًا في الأنواع. تحمل شجرة الحياة العديد من الفروع والأغصان. صور تي إتش هَكسلي — الرائد الأول لنشر العلم بين العامة — جوهر التغيير في صورة مجازية:

بدلًا من تخيُّل الكائنات الحية على أنها مرتبة مثل درجات السلم، تجبرنا الدراسات الحديثة على ترتيبها كما لو كانت أغصان وفروع شجرة. تُمثِّل نهاية الأغصان الأفراد، وتمثل أصغر المجموعات الأنواع، وتمثل المجموعات الأكبر الأجناس، ويمثل الفرع الرئيسي مخطط بنية مشترك. (هَكسلي ١٨٨٨، ٣٠٠)

كلما زاد تنوُّع الأنواع، زاد استغلالها لما يقدِّمه النمط الحياتي المحلي من حيث الموارد؛ إذ تعمل البيئة بمنزلة قيد. يُمثِّل دب الكوالا شكلًا متطرفًا من أشكال التنوع؛ إذ إنه يعتمد فقط على مصدر غذائي واحد. وتُسمى دراسة تنوُّع الأنواع تلك باسم «التطور الكبروي». يمتلك التطور على هذا المستوى اثنتين من الخصائص الأساسية؛ أولاهما هي الانتواع: بمعنى انقسام السلالة وتطور أنواع جديدة.٥ والثانية هي التباين المورفولوجي في السلالات: بمعنى تغيير الأنواع لمظهرها وبنيتها الداخلية حتى تصبح غير قادرة على التهاجن. وهذه هي العملية التي أطلق عليها داروين اسم «تحدُّر السلالة مع التعديل»، وهي موضوع مخطط الشجرة الوحيد الوارد في كتاب «أصل الأنواع». واتباعًا لهذا السبيل، قدَّم أحد أنصار داروين، الألماني إرنست هِيكل، أشجار الأنساب، لتمثيل تحدُّر السلالة مع التعديل (شكل ٢-٦).
fig30
شكل ٢-٦: شجرة أنساب الحياة. المصدر: إي هِيكل، «الكلمات الأخيرة في التطور» (لندن ١٩١٠)، ٣٢.
ولكن لنترك منظور عين الطائر ونهبط إلى «مستوى الكائن الفردي». كيف يبدو التطور من هذا المنظور؟ على هذا المستوى، يحتدم الصراع من أجل الحياة. ولتفسير هذا الصراع من أجل الحياة، يقدِّم داروين بعض المبادئ التفسيرية؛ في البداية، يُولد عدد كبير من الأفراد، أكثر ممن يمكنه البقاء على قيد الحياة.٦ وهي تختلف عن الآباء اختلافات طفيفة. هذا هو «مبدأ الوراثة، وتباين الصفات». فبين الذرية سوف يُولد بعض الأفراد وهم يمتلكون تغايرات مواتية، والبعض الآخر تغايرات ضارة. لا يمكن لأي بيئة معينة أن تدعم سوى عدد محدود من الأفراد من نوع معين. وهذا له تأثير ينتج عنه استمرار الصراع من أجل البقاء. في أي بيئة، يمتلك الأفراد ذوو الأفضلية الطفيفة مقارنة بالآخرين فرصةً أفضل للبقاء على قيد الحياة والمشاركة في إنجاب نوعهم. ويكون الأفراد ذوو التغايرات الأقل ضررًا أكثر احتمالًا للموت. هذا هو «مبدأ الانتقاء الطبيعي»: الحفاظ على التغايرات المواتية ورفض التغايرات الضارة. تتبَع معظم التغيرات الصراع من أجل الحياة: ليس فقط بقاء الفرد على قيد الحياة ولكن أيضًا النجاح في ترك ذرية. «لا يمكنك الحصول على تعقيد تكيفي من دون الانتقاء الطبيعي» (روس ٢٠٠٣، ٣٣٣).

لقد نزلنا حتى الآن من تطور الأنواع إلى بقاء الأفراد على قيد الحياة. إذا كان صحيحًا أن بعض الأفراد يُولدون بِسِمات مواتية وآخرين يُولدون بِسِمات غير مواتية، فمن الطبيعي أن نسأل: «ما الذي يسبب هذه التغايرات في الأفراد؟» الجواب الحديث هو: الطفرات الوراثية العشوائية. وهذا يسمح بتحديد مستوًى ثالث؛ «مستوى الجينات».

تُمثِّل هذه المستويات الثلاثة وحدات التطور والانتقاء والتغايرات. (شكل ٢-٧):
  • الأنواع هي وحدة التطور.

  • الكائنات الفردية هي وحدة الانتقاء.

  • الجينات هي وحدة التغايرات.

لم يقدِّم داروين سوى تكهنات فحسب بشأن وحدة التغايرات. وكثيرًا ما تحدث عن «جهلنا» بسبب كل تغاير معين (في الأفراد). لم يكن داروين يمتلك أدنى معرفة بقوانين مندل، لكنه شك في أن «الاضطرابات في الجهاز التناسلي» — على حد تعبيره — تسهم على نحو رئيسي في حالات التغايرات أو الاختلافات في النسل (داروين عام ١٨٥٩، ١٧٣).

وفقًا لداروين، عملية التطور عملية شديدة البطء تؤدي إلى تعديلات طفيفة غير محسوسة. وهذا غالبًا ما يُسمى «التدرج» (يناقش جولد (٢٠٠٢) وينتقد التزام داروين بالتدرج).

لا أستطيع أن أرى أي صعوبة في إنتاج الانتقاء الطبيعي للبنية الأكثر إتقانًا، إذا كان يمكن الوصول لهذه البنية من خلال «التدرج». (داروين ١٨٥٩، ٤٣٥، ١٥٣)

fig31
شكل ٢-٧: تُمثِّل هذه المستويات الثلاثة وحدات التطور والانتقاء والتغايرات.

يستطيع الانتقاء الطبيعي أيضًا منع التعديل البطيء للأنواع على مدى آلاف الأجيال. يقضي الانتقاء الطبيعي على «المنحرفين عن التطور المثالي الحالي» لسمات الكائنات الحية. على سبيل المثال، اكتشف هيرمان بامبوس في عام ١٨٩٩ أن العصافير التي اختلف متوسط أطوال أجنحتها عن الطبيعي قُتل منها في إحدى العواصف أعدادٌ أكبر من تلك التي تمتلك أجنحة عادية. ويطلق على ميزة وجود سمة عادية (طول الجناح، اللون) «تطبيع» أو «انتقاء تثبيتي» (ويليامز ١٩٩٦، ٣٢–٣٤).

(٤-٢) أصل الإنسان

الإنسان أكثر شبهًا بالغوريلا من شبه الغوريلا بالليمور. (هَكسلي، «المقالات المجمعة»، الجزء الثاني: الداروينية (١٩٠٧)، المقالة الثانية، ٦١)

ذكرنا سابقًا اكتشاف حفريات بشرية. وكان ذلك مرتبطًا بمسألة البشر في العصور القديمة. استبدل عمل داروين آلية الانتقاء الطبيعي بالحاجة القديمة للغائية. ثمة عبارة واحدة فقط في كتاب «أصل الأنواع» ذكر فيها داروين البشر: «سوف يُلقى الضوء على أصل الإنسان وتاريخه» (داروين ١٨٥٩، ٤٥٨). بعد اثني عشر عامًا من نشر كتاب «أصل الأنواع» تناول داروين أخيرًا مسألة أصل البشر في كتاب بعنوان «أصل الإنسان» (١٨٧١)، ولكن لم ينتظر معاصرو داروين كل هذا الوقت؛ فبمجرد أن نشر داروين فكرته الأصلية، التي قرنت فكرة التطور بآلية الانتقاء الطبيعي، أسرع معاصروه لاستخلاص استنتاجات بشأن أصل البشر؛ فخلال ستينيات القرن التاسع عشر قدَّمت مجموعة من الكتب المهمة ما اشتهر في أوساط الصحافة الشعبية بأنه نظرية القرود. وشهد عام ١٨٦٣ نشر كتاب توماس إس هَكسلي «الأدلة على مكانة الإنسان في الطبيعة» وكتاب تشارلز لايل «الأدلة الجيولوجية على عصور البشر القديمة». وتلاه كتاب إدوارد تايلر «أبحاث تاريخ البشرية القديم وتطور الحضارة» (١٨٦٥)، وبعد ذلك كتابه «البيئة البدائية» (١٨٧١) وكتاب «علم الإنسان» (١٨٨١). وفي القارة الأوروبية، نشر فريدريش رول «الإنسان، أصله وحضارته في ضوء نظرية داروين» (١٨٦٥، ١٨٧٠۲). قدَّم الكتاب سلسلة من اكتشافات الحفريات البشرية ودافع عن الرؤية الكونية الداروينية بشأن تحدُّر الجنس البشري من أشكال سابقة شبيهة بالإنسان. نشر كارل فوجت كتابه «محاضرات عن الإنسان» (١٨٦٣)، الذي تُرجم في عام (١٨٦٤). أوضح فوجت أصل الأجناس من خلال ربط أصلها بأسلاف مختلفين من أشباه البشر. رفض معظم الداروينيين نظريته متعددة الجينات تلك؛ فكانوا يرون أن جميع الأجناس تنحدر من السلف المشترك نفسه (براون ٢٠٠٣، «ساينتيفيك أمريكان» ٢٨٩، ٢٠٠٣، ٥٠–٥٧؛ ميناند، ٢٠٠١). نشر إرنست هِيكِل كتابه المكون من مجلدين «التشكل العام للكائنات» (١٨٦٦)، تلاه كتاب «التاريخ الطبيعي للخلق» (١٨٦٨). كان هِيكِل واحدًا من أكثر المدافعين عن الداروينية إصرارًا وحماسًا. فجمع الفطنة العلمية مع الرؤية الفلسفية، وحول الداروينية إلى رؤية كونية. كان المهم بشأن هذا الطوفان من الأعمال المنشورة عن مسألة أصل الإنسان هو استنادها جميعًا إلى النظرية الداروينية. وكما لاحظنا بالفعل، فإن التشكيك في التسلسل الزمني التوراتي لم يشكل خطرًا حقيقيًّا على الرؤية الكونية التقليدية. فلم تكن الستة آلاف سنة مهمة، حرفيًّا. فربما تكون مقياسًا زمنيًّا مجازيًّا. بل كان المهم هو الفرضيات الأساسية الموروثة من «سلسلة الوجود العظمى» وحجة التصميم. كان البشر مختلفين بوضوح عن الحيوانات الأخرى؛ فلا يمكن أن يكون لأصلهم الجذور نفسها، ولكن نظرية داروين عن الأصول فتحت فضاءً مفاهيميًّا يمكن أن تُربط فيه مسألة أصل الإنسان بآلية الانتقاء الطبيعي.
figure
جوليا بسترانا — «المرأة الغوريلا» — كانت من غرائب ستينيات القرن التاسع عشر. لم يعتبرها داروين دليلًا على تحدُّر البشر من القرود.
كانت مسألة أصل الإنسان حساسة للغاية، حيث كان العرف القديم يقضي بتفرد البشر. لم ترتبط هذه الفرضية بنموذج غير تطوري، بل كانت قائمة على الغائية. كان بالفعل من الصعب تصور أن المخ البشري تطور بالطريقة نفسها مثل «الأعضاء» الأخرى. بدا أن العقل البشري وظاهرة الوعي بعيدين تمامًا عن متناول التفسيرات الطبيعية. وتمامًا كما بدا طبيعيًّا للإغريق أن ينسبوا موضعًا فريدًا للأرض، بدا طبيعيًّا لمعظم علماء الأحياء قبل الداروينية أن ينسبوا مكانة فريدة للبشر في قصة الخلق. كان يوجد عزوف كبير عن قبول وجود ارتباط متواصل بين جميع الكائنات. انشغل المفكرون قبل الداروينية بإنقاذ الظواهر بقدر انشغال علماء الفلك الإغريق به، وقد تطلَّب الأمر تغييرًا في المنظور لكسر هذا السحر. أخبر كوبرنيكوس معاصريه المرتابين بالتفكر في حركة الكواكب والنجوم من منظور أرض متحركة، لا أرض ثابتة. ومن منظور تطوري، أوصى الداروينيون باعتبار المخ البشري عضوًا طبيعيًّا، كمقر للعقل البشري.٧ لا تنظر إلى الذكاء البشري من منظور إلهي، تصوره على أنه نتاج للتطور.

من الطبيعي الاعتراض بأن العقل البشري أسمى بكثير من أي «عضو» آخر، ومن ثَمَّ لا يمكن أن يكون نتيجة للتطور؛ فهو لم يتكيف بنفس طريقة تكيف «الأعضاء» أو «الكائنات الحية» الأخرى. عاتب والاس قرَّاءه بقوله: قارن فحسب اليد البشرية والعقل البشري. اعتنق والاس وجهة نظر ثنائية، تُذكِّرنا بتيكو براهي. لم يستطع براهي تقبُّل فقدان المركزية المادية للأرض، الذي ينتج عن الكوبرنيكية؛ فأبقى الأرض في موضعها الأرسطي المركزي وجعل القمر والشمس يدوران حول الأرض المركزية، ومع ذلك، تدور الكواكب الأخرى في مدارات حول الشمس. أخضع والاس الجسم البشري إلى آليات المبادئ التطورية، لكنه اشترط لخلق العقل البشري مصدرًا إلهيًّا. أراد الداروينيون التخلي عن هذا الرأي الثنائي بقدر رفض الكوبرنيكيين للكون ذي الفلكَيْن. فإذا كان لا بد أن يتتبع البشر أثر أصلهم إلى أشكال الحياة الحيوانية البدائية، فإن ظهور المخاخ والعقول يجب أن يذعن للتفسيرات التطورية. كان هذا مرة أخرى مسألة استدلال.

كان من الأسهل بالطبع البدء بالجسد البشري، وهذا هو المكان الذي بدأ منه الداروينيون. كان جيل سابق قد استنتج بالفعل أن الإنسان موجود على الأرض منذ زمن بعيد. كان التحدي الآن هو إيجاد رابط بين الهياكل الجسدية للإنسان والقِرَدة الشبيهة بالإنسان. بمجرد إيجاد هذا الرابط، يمكن محاولة إيجاد تفسير يعامل العقل البشري على أنه نتاج للمخ البشري. وهكذا انتقل الداروينيون من علم الأحياء إلى الفلسفة، من التطور إلى فلسفة العقل.

كانت الاستراتيجية العامة هي التأكيد على الرابط المتواصل بين عالَمَي الحيوان والبشر. في ذلك الوقت لم تكن توجد دراسات جينية متاحة تُعلمنا أن البشر والشمبانزي يتشاركون ٩٥ بالمائة من المادة الجينية. وبالنسبة للداروينيين، حمل علم الأجنة والتشريح وعلم الحفريات الرسالة نفسها. فكشفت دراسة أجنة الأنواع المختلفة أنه على الأقل خلال المرحلة الأولى من تطور الأجنة يكاد يكون من المستحيل التمييز بين البشر والدجاج (شكل ٢-٣). وأوضح التشريح للداروينيين أوجه التشابه في البنية الجسدية بين البشر والرئيسيات الأخرى؛ فمن الرأس إلى أخمص القدمين، أظهرت الهياكل العظمية للبشر والقِرَدة تشابهًا مثيرًا للدهشة. فأنماط تلافيف مخاخ البشر والقِرَدة الشبيهة بالإنسان هي نفسها، وكذلك ترتيب العضلات في القدم (شكل ٢-٨). وترتيب أعضاء البطن مشابه، كما يوجد تشابُه وثيقٌ في الأسنان الطاحنة.
fig33
شكل ٢-٨: مقارنة بين القدم واليد لدى الإنسان والشمبانزي. (المصدر: تايلر، «علم الإنسان» (١٨٨١)، صفحة ٤٢).
figure
صورة لتوماس هَكسلي (١٨٢٥–١٨٩٥).
كانت الدراسات التي تتناول مسألة إنسان العصور القديمة قد كشفت بالفعل عن حفريات مثل إنسان نياندرتال، الذي يختلف في الشكل عن الإنسان الحديث. تضع الداروينية الآن تركيزًا شديدًا على الروايات التاريخية. فوفقًا للنظرية التطورية لداروين، بما أن الكائنات الحية ترتبط من ناحية الأصل، فليس من المبالغة أن نستنتج من التشابه التشريحي وجود أصل مشترك. لقد كشفت دراسة الحياة في الماضي الجيولوجي عن حدوث التحدر مع التعديل. في كتاب «الأدلة على مكانة الإنسان في الطبيعة» (١٨٦٣)، أثبت هَكسلي هذه النقطة بوضوح عندما بيَّن العلاقة التشريحية بين مختلف الرئيسيات. قارن صور الهياكل العظمية لقرد جيبون وإنسان الغاب والشمبانزي والغوريلا والإنسان (شكل ٢-٩). كان هدف مثل هذه الدراسات التفصيلية هو العثور على أدلة تدعم نظرية التحدر. وكانت أيضًا وسيلة لدحض سيناريو الخلق. زعمت نظرية التحدر أنها تستطيع تفسير هذه الظواهر بمبدأ تفسيري واحد؛ فقد جلب مبدأ الانتقاء الطبيعي التوحيد. كان الداروينيون حريصين على التأكيد على أن قدرة الدماغ البشري لم تكن تختلف كثيرًا عن الحيوانات. كان الاختلاف في الدرجة وليس في النوع. وفي نهاية القرن التاسع عشر تناول العديد من الكتب مسألة ذكاء الحيوان. نشر لودر ليندساي كتاب «العقل عند الحيوانات الدنيا» (١٨٧٩)، ونشر جورج رومانز كتابه «التطور العقلي لدى الحيوانات» (١٨٨٣)، وعرض آر سي لويد مورجان وجهات نظره في كتاب «الحياة الحيوانية والذكاء الحيواني» (١٨٩٠-١٨٩١). وفتحت مجلة نيتشر صفحاتها أمام الحكايات المسلية التي تتناول ذكاء الحيوانات (نيتشر ٢٩ (١٨٨٣-١٨٨٤)، ٣٣٦؛ انظر المربع ٢-٢).
fig35
شكل ٢-٩: العلاقة التشريحية بين قرد جيبون وإنسان الغاب والشمبانزي والغوريلا والإنسان وفقًا لتي إتش هَكسلي (المصدر: تايلر، «علم الإنسان» (١٨٨١)، صفحة ٣٩).
كانت إحدى التهم المتكررة من جانب الداروينيين أن نظرية الخلق تتطلب حدوث عمليات خلق خاص متعددة لتفسير تنوُّع الحياة. وأعرب داروين عن رأيه في هذا قائلًا: «أنا لا أؤمن بعمليات خلق لا حصر لها.» تمتلك الكائنات الحية العديد من السمات بعضها ليس تكيفات ولا تعزز البقاء على قيد الحياة على نحو مباشر. وافترض داروين نوعًا آخر من الانتقاء — الانتقاء الجنسي — لا يعتمد على الصراع من أجل البقاء ولكن على الصراع من أجل حيازة الإناث (داروين ١٨٥٩، ١٣٦؛ داروين ١٨٧١، الفصل الثامن). وأوضح مصدر السمات التي بدت غير ذات أهمية أو ضارة في الصراع من أجل الوجود — قرون الغزلان، وريش الطاووس — كأدوات لزيادة النجاح في التزاوج:

عندما يكون لذكور وإناث الحيوانات عادات الحياة العامة نفسها، ولكن يختلف الجنسان في البنية الجسدية أو اللون أو الزخارف الجسدية، فإن هذه الاختلافات يسببها على نحو رئيسي الانتقاء الجنسي. (داروين ١٨٥٩، ١٣٧؛ جولد ١٩٨٧، ٤٦)

مربع ٢-٢: الذكاء الحيواني

قدَّم شخص ما يدعى إف جيه فاراداي من مانشستر الحكايات التالية لقراء مجلة نيتشر دليلًا على الذكاء الحيواني:

ثمة سمكة كانت غير قادرة على الحصول على قطعة من الطعام تقبع في الزاوية التي شكلها الزجاج الجانبي وزجاج قاع الحوض. رفعت نفسها بوضعية مائلة، بحيث يكون رأسها مائلًا لأعلى والسطح السفلي لجسمها نحو الطعام. ثم من خلال تحريك زعانفها صنعت تيارًا في الماء رفع الطعام مباشرة إلى فمها.

أُلقيت كعكة في بركة، وسقطت في زاوية بعيدة عن متناول دب. بدأ الحيوان عند ذلك تحريك المياه بكف يده، بحيث أنشأ تيارًا دورانيًّا أدى في النهاية إلى تحريك الكعكة حتى متناوله.

على الرغم من أن داروين كان يعتقد أن الانتقاء الجنسي عملية منفصلة عن الانتقاء الطبيعي، فإن كثيرًا من علماء الأحياء الحديثة يعتبرونه فئة خاصة من الانتقاء الخاص بالمكانة الاجتماعية، وهو نوع من الانتقاء الطبيعي (وليامز ١٩٩٦، ٢٨–٣١). كذلك آمن داروين أيضًا بأن الانتقاء الطبيعي هو الوسيلة الرئيسية وليس الوحيدة للتعديل (داروين ١٨٥٩، ٦٩). وتُظهر هذه الملاحظة أهميتها الحقيقية في التفسيرات الداروينية للمسائل العقلية.

وهكذا نرى أن الداروينيين انخرطوا في الوقت نفسه في العلم والفلسفة، في مسائل علم الأحياء ومسائل الفلسفة. فليس كافيًا للعالِم أن يجمع البيانات التجريبية، بل يجب أن تُوضع هذه البيانات في نظام متسق. وكما كان الداروينيون يدركون تمامًا، واجهت نظريتهم التطورية للحياة منافسة. لم تهيمن نظرية لامارك الخطية للتطور مع إصرارها على وراثة السمات المكتسبة. صحيح أنها رفضت ثبات الأنواع، ولكنها التزمت بالغائية، وهو ما تشاركت فيه مع سيناريوهات الخلق. رفضت نظريات الخلق فكرة تنوُّع الأنواع. ورغم أن فكرة التطور أصبحت مقبولة على نحو عام، فقد ظل مبدأ داروين للانتقاء الطبيعي خلافيًّا. في عام ١٨٥٩، دخل كتاب داروين مشهدًا مفاهيميًّا دعم عدة تصورات متنافسة لأصل الأنواع، كانت كلها تستند على أساس تجريبي واهٍ نوعًا ما. واحتاجت الداروينية دعمًا تجريبيًّا وفلسفيًّا على حد سواء. لننتقل إلى المسائل الفلسفية لتوضيح أن الداروينية ورثت عن المنهج الفلسفي بعض الفرضيات. وهذا أكسبها اتهامات بعدم احترام الأساليب العلمية الراسخة؛ اتهامات بالمادية واللاأخلاقية.

(٥) مسائل فلسفية

كل العلم الحقيقي هو فلسفة، وكل الفلسفة الحقيقية هي علم. وبهذا المعنى فإن كل العلم الحقيقي هو فلسفة طبيعية. (لامارك، «فلسفة علم الحيوان» (١٩٦٣)، الفصل الثاني، ٣٣؛ ترجمة المؤلف)

قال أينشتاين ذات مرة: إن العلم من دون فلسفة يكون مشوشًا، والفلسفة دون علم تكون نظامًا فارغًا. قد تبدو هذه العبارة للوهلة الأولى غريبة. تعودنا على التفكير في العلم والفلسفة كمجالين منفصلين. صحيح أن معظم ما نسميه علمًا اليوم كان يطلق عليه يومًا ما فلسفة طبيعية؛ فقد صار مصطلح «العلم» يُستخدَم استخدامه الحالي في وقت ثورة داروين تقريبًا. ومنذ ذلك الحين أدى التخصص المتزايد في جميع مجالات المعرفة إلى إقامة الحدود بين التخصصات. سعى الفلاسفة، وخاصة في الآونة الأخيرة، إلى التقارب مع العلوم وأنشئوا تخصصات مثل فلسفة العلوم وفلسفة الفيزياء وفلسفة البيولوجيا، ولكن الحقيقة هي أن العلماء كثيرًا ما كانوا مهتمين بالفلسفة، وهذا ينطبق خصوصًا على العلماء العظام الذين دفعتهم ابتكاراتهم إلى تأمُّل الآثار الفلسفية للاكتشافات العلمية. كان يوجد الكثير منهم حتى إننا قد نشك، ولنا الحق في ذلك، في أن «ولع» العالِم الفلسفي أكثر من مجرد هواية. لا بد أنه يوجد بُعدٌ ما في النشاط العلمي ذاته يُغري العلماء بالتفكير فلسفيًّا. والجواب العام — الذي ورد في الفصول الثلاثة لهذا الكتاب — هو أن العلوم لا تعمل مع تقنيات رياضية متخصصة وحسب، ولكنها تلتجئ أيضًا إلى مفاهيم أساسية تمامًا، تساعد على بناء نظرية متسقة متماسكة لعالَمٍ خاصٍّ من الظواهر. ربما تتخذ هذه المفاهيم شكل افتراضات غير معلنة بشأن طبيعة الواقع أو طبيعة النظريات، ولكن في كثير من الأحيان يجعل العلماء فرضياتهم الفلسفية علنية. علاوة على ذلك، تكون هذه الفرضيات عامة للغاية لدرجة إمكانية تطبيقها على العديد من التخصصات؛ ولذلك من الممكن أن تجد مسائل فلسفية مثل الفرصة والضرورة، والمادية والآلية، والكينونة والصيرورة، والزمن والمكان في مناقشات علماء الفيزياء والأحياء والاجتماع على حد سواء. عادةً ما تكون هذه المسائل أيضًا مثار اهتمام كبير لدى الفيلسوف. وفي محاولةٍ لتوضيح هذه المفاهيم الأساسية، يتلاقى الفيلسوف والعالِم على أرضية مشتركة. وكما سنرى في الأجزاء التالية، وُضعت فرضيات فلسفية أساسية في عالَم التفكير التطوري. كان من نتائج نظرية داروين الجديدة للحياة العضوية أن هذه الفرضيات الفلسفية وقعت في بعض الأحيان من التجريد الفلسفي الواهي على أرض العلم التجريبي الصلبة. تؤدي الثورة في الفكر في كثير من الأحيان إلى التشكيك في الفرضيات الفلسفية، وهذا ما قصده أينشتاين. يتشوش العلم إذا ظل غامضًا حيال التزاماته الفلسفية تجاه الواقعية والمنهج العلمي. وتحتاج الفلسفة من العلم أن يلقي مرساة تجعلها على اتصال دائم بالعالم الحقيقي؛ فالفلسفة تحتاج إلى تبنِّي نتائج العلم لكيلا تشيد بناءها على أساس واهٍ (فاينرت ٢٠٠٤).

(٥-١) فرضيات فلسفية: وجهة النظر الميكانيكية والحتمية والمادية

من جانبي أود أن أكون من نسل هذا القرد الصغير البطل، الذي تحدى عدوه اللعين من أجل إنقاذ حياة حارسه، أو من هذا البابون العجوز، الذي حمل رفيقه الشاب أثناء هبوطه من الجبال بانتصار وسط حشد من الكلاب المشدوهة؛ أفضل من أن أكون من نسل وحش يسعد بتعذيب أعدائه، ويقدم ذبائح دموية، ويَئِد دون ندم، ويعامل زوجاته كالعبيد، ولا يعرف أخلاقًا، ويكون مسكونًا بأفظع الخرافات. (داروين، «أصل الإنسان» (١٨٧١)، الجزء الثاني، الفصل الحادي والعشرون، ٤٠٤-٤٠٥)

رأينا أن نظرية التطور لداروين دخلت حيزًا تجريبيًّا أخبرتنا فيه الحفريات قصة منقحة عن عصور البشر القديمة. لتوضيح عصور البشر القديمة والأصل المشترك، اعتمد الباحثون على أدلة من علم الأجنة والتشريح المقارن وعلم الحفريات. أضاف داروين خلال رحلته على متن السفينة «بيجل» قدرًا كبيرًا من المشاهدات المتعلقة بالتوزيع الجيولوجي وتنوع الأنواع. كانت المواد الواقعية لا تزال ضعيفة بما فيه الكفاية للسماح بتعايش عدة مخططات مفاهيمية في الوقت نفسه؛ فقد كانت سيناريوهات الخلق التي تؤمن بثبات الأنواع لا تزال موجودة (كوفييه، أجاسيز).

مربع ٢-٣: لغز الطفرات الوراثية

تتمثل إحدى الأفكار الرئيسية للداروينية، كما أشار إرنست ماير مرارًا وتكرارًا، في «فكر الجماعات». لا ينبغي النظر للأنواع على أنها أنواع مثالية وإنما بوصفها مجموعة من الأفراد (انظر ماير ٢٠٠١؛ جيزلين ١٩٦٩، ٥٦؛ بوشنر ١٨٦٨، المحاضرة الأولى). هؤلاء الأفراد يختلف أحدهم عن الآخر قليلًا، ويختلف الآباء عن ذريتهم. وهذا يتيح لبعض أفراد الذرية أن يكونوا أفضل في السمات من غيرهم. ثمة كثير من القصص في الدراسات السابقة عن جراتيو كيليا؛ المالطي الذي وُلد بستة أصابع في اليد وستة أصابع في القدم (انظر تي إتش هَكسلي، «المقالات المجمعة ٢» (١٩٠٧)، ٣٧، ٤٠٦؛ إف رول ١٨٧٠٢، ٨٢–٨٤، ١٠٢-١٠٣). تزوج جراتيو بامرأة عدد أصابع يديها وقدميها طبيعي. رُزق الزوجان بأربعة أطفال، فوُلد الطفل الأول بستة أصابع في القدم وستة أصابع في اليد مثل والده. وكان الطفل الثالث طبيعيًّا مثل أمه. وكان الطفلان الآخران لهما خمسة أصابع في اليد وخمسة في القدم ولكن كانت أطرافهما مشوهة قليلًا. وعندما أصبح هؤلاء الأطفال بالغين وتزوجوا، فإنهم أنجبوا مرة أخرى أطفالًا بعضهم لديه ستة أصابع في اليد وستة في القدم والبعض الآخر لديهم خمسة أصابع على نحو طبيعي.

ويناقش داروين (نيتشر ٢٤، (١٨٨١)، ٢٥٧) حالة السيد الأميركي الذي بدأ يتحول لون شعره إلى الرمادي في سن العشرين. وعندما تزوج أنجب أربع بنات، بدأ شعر اثنتين منهن أيضًا يتحول إلى الرمادي في نفس العمر مثل والدهما، في حين احتفظت الأخريان بشعر أمهما الداكن.

كان يوجد أيضًا العديد من المؤلفات عن التطور (لامارك، سانت-هيلير، «بقايا التاريخ الطبيعي للخلق»)، التي كان عنصرها الأكثر تقدمًا هو تنوُّع الأنواع، لكنها وجدت صعوبة في تقديم آلية موثوقة يمكن أن تفسِّر اختلافات الأنواع.

تقدَّم داروين خطوةً مهمة في الاتجاه الصحيح عن طريق مُقترح الانتقاء الطبيعي، ولكن ظل سبب الاختلاف الوراثي لغزًا، وقد جذبت الطفرات العفوية الكثير من الاهتمام في دراسات التطور (انظر مربع ٢-٣).

وقعت هذه الاستراتيجيات التجريبية والمفاهيمية المختلفة على خلفية لوحة فلسفية رسمها عصر التنوير؛ لذلك ليس من المستغرب أن نجد العصر الفيكتوري مشبعًا بثلاثة التزامات فلسفية؛ الأول: هو «وجهة النظر الميكانيكية»، والثاني: هو «الحتمية»، والثالث: هو «المادية». لا حاجة بنا للبحث عن قنوات خفية تربط علم العصر الفيكتوري بفلسفة العصر الفيكتوري؛ فالفرضيات الفلسفية مدمجة في كتابات العلماء الفيكتوريين. فقد ورثوها من المنهج الفلسفي.
  • (١)

    أطلق توماس كارلايل في عام ١٨٢٩ على القرن التاسع عشر اسم عصر الآلات (كارلايل، مقالة «لافتات العصور» (١٨٢٩)، مقتبسة في باشمان ١٩٩٥، ١١). ضرب هذا اللقب وترًا حساسًا حيث إنه في نهاية القرن عارض هِيكِل لقب «قرن الأنثروبولوجيا» السابق وأطلق على القرن لقب «القرن الطبيعي». منحت المحركات البخارية والكهرباء للقرن التاسع عشر «ختمًا ميكانيكيًّا» (هِيكل ١٩٢٩، ٢٧٩، ٣٠٧). وُرِثَ الالتزام ﺑ «وجهة النظر الميكانيكية» من الثورة العلمية وعصر التنوير؛ فوفقًا للآباء المؤسسين للعلوم، يتكون العالم المادي من المادة والحركة. أطلق روبرت بويل عليها اسم وجهة النظر الجُسَيْمِيَّة. وفسَّرت هذه النظرة جميع الظواهر الطبيعية بالرجوع إلى قوانين الحركة التي تنطبق على أصغر وحدات المادة؛ الذرات أو الجسيمات (انظر الفصل الأول، ٥).

    figure
    إرنست هِيكل (١٨٣٤–١٩١٩).
  • (٢)
    نبع الالتزام ﺑ «الحتمية» أيضًا من الثورة العلمية. في الأعمال الفلسفية، غالبًا ما تتسم الحتمية بأنها اعتقاد بالقدرة على التنبؤ المباشر بالظواهر الطبيعية من خلال معرفة القوانين القطعية والظروف الأولية. وصورتها الدائمة هي «شيطان لابلاس»، الذي يكشف نظره للتاريخ الكوني الحالة الديناميكية لجميع الأحداث، في الماضي والمستقبل، وكأنها خرز في سلسلة لا تنتهي. وتُظهر الدراسة الأكثر دقة أن شيطان لابلاس يعتنق أيضًا فكرة أنطولوجية للحتمية. فشيطان لابلاس يستطيع معرفة التاريخ الكوني والتنبؤ به، لأن الأحداث الكونية مربوطة في سلسلة فريدة من الأسباب المسبقة والآثار اللاحقة. فلا تقع أي أحداث بالصدفة. فالأحداث السببية التي وقعت يوم أمس تؤدي إلى آثار اليوم، والتي تصبح سببًا لآثار الغد (فاينرت ٢٠٠٤، الفصل الخامس). وينعكس هذا الالتزام بالحتمية الأنطولوجية في كتابات الفيزيائيين والممارسين الطبيين، وكذلك في كتابات علماء الأحياء. ووفقًا لإرنست هِيكل:

    أوضح علم التطور أن القوانين الثابتة الأبدية نفسها التي تحكم العالم غير العضوي تنطبق أيضًا على العالم العضوي والأخلاقي. (هِيكل ١٩٢٩، ٢٨٥؛ ١٨٦٦، الفصل الرابع؛ ١٨٧٨، ٥٠٩)

    كانت هذه وجهة نظر هَكسلي أيضًا.٨
    ينبغي أن نلاحظ في هذا الصدد أن داروين شارك في الالتزام بالمادية، ولكنه لم يلتزم بالحتمية الصارمة. التطور عملية عشوائية، حيث تكون الصدفة هي السمة الأهم وليس الضرورة. يعمل مبدأ الانتقاء الطبيعي على الاختلاف المتناحي؛ فهو يميل إلى انتقاء الاختلافات المواتية والتخلص من الاختلافات غير المواتية. ولا ينبغي أن يُساء فهم ذلك على أنه مصادفة عمياء عشوائية. إذ يجب أن يحافظ التطور على الاختلافات المواتية وأن يراكمها، ولكن مصير الكائن الحي دائمًا ما يكون تحت رحمة الطفرات الجينية العشوائية والقيود البيئية. يعمل التطور في سياق محلي على نحو صارم، تشكله بيئة متغيرة. ترك داروين قُرَّاءه في شك قليل حيال احتمالات التطور:

    لا أؤمن بأي قانون ثابت للتطور (…). إن تنوُّع كل نوع مستقل تمامًا عن كل الأنواع الأخرى. وإمكانية أن يستفيد الانتقاء الطبيعي من هذا التنوع أم لا، وهل كانت الاختلافات تتراكم على نحو أكبر أو أقل (…)، تعتمد على العديد من الاحتمالات المعقدة … (داروين ١٨٥٩، ٣١٨؛ دينيت ١٩٩٥، الفصل العاشر)

  • (٣)
    وهكذا فإن الداروينيين ملتزمون ﺑ «المادية»، التي تُمثِّل مرة أخرى تراثًا من الثورة العلمية، وقد أصبح هذا الالتزام واضحًا على نحو خاص عندما طُبق نموذج داروين التطوري على ظهور البشر على الأرض. وجد معاصرو داروين أنه من الصعب على نحو خاص قبول التحدر الأرضي المشترك للبشر. وقد اعتُقد أن نظرية داروين للتغير مبنية على حقائق «وهمية»، والأسوأ من ذلك أنها اعْتُبرت هرطقة ضد المسيحية وخلود الروح. كان عمل داروين خطرًا لأنه ألغى الحاجة إلى التصميم الخاص.٩ لماذا شعروا بالنفور عندما أصبحت المادية موضوعًا بارزًا بين فلاسفة التنوير؟ (لامتري ١٧٤٧؛ هلفيتيوس ١٧٥٨).
كان لامارك، أيضًا، ماديًّا؛ ففي كتابه «فلسفة علم الحيوان» يقول:

جميع القدرات من دون استثناء بدنية بحتة؛ أي إن كل واحدة منها تظهر أساسًا بسبب أنشطة التنظيم، من أبسط الغرائز إلى القدرات الفكرية.

وكما يعترف لامارك، تواجه المادية الاعتراض القائل بأن العلاقة بين المخ والعقل لا يمكن فهمها.

ما العقل؟ هو مجرد اختراع لغرض حل الصعوبات التي تنبع من عدم كفاية المعرفة بقوانين الطبيعة. المادية والأخلاقية لهما أصل مشترك؛ فالأفكار والفكر والخيال ما هي إلا ظواهر طبيعية. (لامارك ١٨٠٩، الجزء الثاني، مقدمة؛ لانج ١٨٧٣، الجزء الثالث)

ذهب الماديون الفرنسيون أبعد من ديكارت؛ ففي كتابه «الإنسان» (١٦٦٤)، كان ديكارت قد درس الجسم البشري وكأنه آلة أرضية، ولكن بدا هذا تقليلًا لتفوق العقل البشري. وكان حل ديكارت هو ثنائية الجوهر؛ إذ كان الجسم جوهرًا ماديًّا ممتدًّا، بينما كان العقل جوهرًا غير مادي، متصلًا بجسم الإنسان من خلال الغدة الصنوبرية. يتدفق الدم في الأوردة، وعندما يصل إلى المخ، فإنه يتحول إلى أرواح حيوانية. والأرواح الحيوانية قادرة على تحريك الأطراف. يسكن العقل والجسم عالمين منفصلين، ويتصلان من خلال سوائل غامضة. لم يرضَ ورثة ديكارت الفلسفيون عن حله الثنائي. ينبغي أن تخضع الظواهر العقلية أيضًا لتفسير ميكانيكي، وقد بذل الماديون الفرنسيون قصارى جهدهم لتفسير جميع العمليات العقلية كمظاهر للعمليات البدنية.

يتمثل التحدي الأكبر للمادية في تفسير ظاهرتَي العقل والوعي. هل العقل والمخ متطابقان؟ هل العقل مجرد ظاهرة ثانوية؟ هل تظهر العمليات الذهنية من العمليات المخية؟ تُعَدُّ هذه الأسئلة الفلسفية نتيجة مباشرة للالتزام بالمادية، التي أيدها معظم الداروينيين. بمجرد أن قبلوا آلية الانتقاء الطبيعي، التي وحدت العديد من الظواهر المتنوعة، فإنهم كرهوا إعادة استخدام حل ثنائي من أجل حل لغز العقل. يمكن أن يُعزى ظهور الجسم البشري إلى آلية الانتقاء الطبيعي، وإذا استُثني العقل من مجال التفسيرات التطورية، فسيعود التصميم والغائية للظهور. كان الداروينيون ملتزمين للغاية بالمادية لدرجة لا تسمح بترك ثغرة لثنائية العقل والجسم. ومن خلال تبنِّي نظرية مادية للعقل، كانوا مضطرين للانتقال من علم الأحياء التطوري إلى فلسفة العقل.

(٥-٢) من علم الأحياء إلى فلسفة العقل

لا يزال الإنسان يحمل في إطار جسده الدليل غير القابل للمحو على أصله البسيط. (داروين، «أصل الإنسان» (١٨٧١)، الجزء الثاني، الفصل الحادي والعشرون، ٤٠٥)

مع نشر كتاب داروين «أصل الأنواع»، اكتسبت مسألة أصل وطبيعة البشرية فجأة إطارًا نظريًّا جديدًا. تناول عدد من الباحثين على الفور وعد داروين الشهير بإلقاء الضوء على أصل الإنسان، وحاول هؤلاء تقديم إجابة في سياق الانتقاء الطبيعي.١٠ عندما نشر داروين أخيرًا كتاب «أصل الإنسان» (١٨٧١) لم يكن قد دخل في نطاق مجهول، كما رأينا بالفعل، أوضح هِيكل وهَكسلي وليل ورول وتايلر وفوجت بالفعل دروس تطبيق الانتقاء الطبيعي على ظهور البشر على الأرض. ويعاني أي تطبيق لنظرية الانتقاء الطبيعي على أصل البشر على الأقل من مسألتين؛ أولًا: ثمة تحدٍّ «تجريبي» في وضع أصل البشر في نطاق النظام العضوي. ثانيًا: ثمة تحدٍّ «فلسفي» أمام استيعاب القدرات العقلية والأخلاقية العليا للبشر داخل الإطار التطوري. وحتى نشر كتاب داروين «أصل الإنسان»، كانت هذه المحاولات تتم دون تغيير كبير في الفرضيات الفلسفية الأساسية الخاصة بالحتمية والمادية والآلية.

(أ) التجريبية

تكمن الحجة «التجريبية» الأكثر أهمية لصالح وضع أصل الإنسان في عالم الحيوان في أوجه التشابه البنيوية. في ستينيات القرن التاسع عشر كانت حجة التشابه تعتمد على علم الأجنة، وعلم التشريح المقارن، وعلم الحفريات. أجرى الباحثون مقارنات تشريحية مضنية، وخاصة بين الهياكل العظمية لقرود وبشر العالم القديم. أطلق فريدريش يوهان بلومنباخ (١٧٥٢–١٨٤٠) على القرود اسم «كوادرومانا»، أي كائنات رباعية الأيدي، والبشر «بيمانا»، أي كائنات ثنائية الأيدي. كان هذا التمييز شائعًا حتى أظهر هَكسلي أنه غير كافٍ، ولكن التشابهات بين مخطط الجسم والأطراف والجماجم كانت واضحة للعين المجردة (انظر الشكلين ٢-٨ و٢-٩).
كان قِدَم البشر وتشابههم البنيوي الوثيق مع القِرَدة واضحًا. وبمجرد أن أصبح مبدأ الانتقاء الطبيعي متاحًا، كانت فرضية تحدُّر الإنسان من القرد نتيجة طبيعية. ولكن ما الشكل الذي اتخذه هذا التحدر؟ كان لامارك قد قدَّم بالفعل نظريته عن التعديل التدريجي، التي عرَّفت الإنسان بأنه ذروة التطور الخطي؛ ولذلك، بدا الإنسان أكثر أشكال الحياة تعقيدًا وأعلاها. ثم مضى لامارك وقارن بين كمال البشر والنقائص المتدرجة للأشكال العضوية الأقل، ومع ذلك، فإن الحفريات لم تدعم التعديل التدريجي. على الرغم من أن هَكسلي وهِيكل رفضا نظرية لامارك للتعديل التدريجي من خلال توريث الصفات المكتسبة بالاستخدام، فإنهما اعتقدا بوجود شكل من أشكال التحدر المباشرة للبشر من أشكال عضوية أدنى. وفقًا لهَكسلي، من المعقول أن الإنسان قد نشأ من خلال التعديل التدريجي لقرد شبيه بالبشر:
ولكن لو لم يفصل البشر عن الحيوان بأي حاجز بنيوي أكبر من ذلك الذي يفصل الحيوانات بعضها عن بعض، فيبدو أن ذلك يستتبع أنه إذا اكتُشفت أي عملية من السببية المادية نتجت من خلالها أجناس ورتب الحيوانات العادية، فإن عملية السببية هذه كافية على نحو كبير لتفسير أصل الإنسان.١١
في خطاب إلى الأكاديمية الفرنسية للعلوم (١٨٧٨)، أنهى هِيكل سوء الفهم الشائع الذي نبع من ربط الداروينية ﺑ «نظرية القرد»: الاعتقاد بتحدر الإنسان مباشرة من قرود حالية شبيهة بالبشر. كانت الصورة الأكثر دقة هي أن «البشر والقِرَدة من العالم القديم والجديد ينحدرون من سلف مشترك» (هِيكل ١٨٧٨، ٥٠٩؛ انظر شكل ٢-٩). ولكن في تعميم فلسفته — الواحدية — قدَّم هِيكل ادعاءً أكثر ثورية، وهو «حقيقة تاريخية لا جدال فيها»:

أن الإنسان ينحدر مباشرة من القرد، وثانويًّا من سلسلة طويلة من الفقاريات الدنيا. (هِيكل ١٩٢٩، ٦٩)

ونجد لدى هَكسلي تذبذبًا مماثلًا؛ ففي عبارة أكثر حذرًا أشار إلى أن:

الإنسان ربما نشأ (…) كشعبة من السلالة البدائية نفسها مثل تلك القرود. (هَكسلي ١٨٦٣أ، ١٢٥)

كان الفكر الرصين الذي يقضي بأن الإنسان ربما ينحدر مباشرة من القرود مفيدًا لأصدقاء داروين وأعدائه. كره العديدون الحوارات المحتدمة في ذلك الوقت التي تغذت على افتراض «التخلق التجددي» الخاطئ: تطور البشر من القرود الحالية. استخدم هِيكل هذا الافتراض ليصدم جمهوره ويدفعهم نحو التواضع. وحتى في الوقت الراهن تستغل صورة غوريلا ضخمة تحدق بغضب من ملصق وتحمل العنوان البلاغي: «هل هذا جدك؟» العلاقة الخطية من أجل السخرية من الرؤية الكونية الداروينية الخاصة بالأصل (انظر أيضًا شكل ٢-١).
بأسلوبه الأكثر ثورية، عزا هِيكل إلى داروين وهَكسلي نظرية تحدُّر الإنسان مباشرة من القرود، ولكن داروين كان حذرًا كهَكسلي؛ ففي كتابه «أصل الإنسان» (١٨٧١) تردد حيال صورة الاشتراك في الأصل. وفي غضون عدد قليل من الصفحات في هذا الكتاب الطويل، تحدَّث عن «تحدُّر» الإنسان من شكل أدنى (١٨٧١، الجزء الأول، القسم السادس، ١٨٥)، وكذلك «الاشتراك في الأصل» مع ثدييات أخرى من شكل غير معروف أو أدنى (١٨٧١، ١٨٦)، وكذلك «التشعب» من قرود العالم القديم (١٨٧١، ١٩٩، ٢٠١). ثم، أخيرًا اقترح صورة «التفرع» (شكل ٢-١٠).
ثم تفرعت القرود القديمة إلى فرعين كبيرين: قرود العالم الجديد وقرود العالم القديم. ومن الفرع الثاني، في فترة نائية، نشأ الإنسان، أعجوبة الكون ومفخرته.١٢
fig37
شكل ٢-١٠: شجرة نسب الإنسان لهِيكل (١٨٧٤) توضح فكرة التطور «التفرعي». (المصدر: ويكيميديا).

ولكن حتى إذا قبلنا فكرة التفرع — وليس فكرة أن البشر ينحدرون مباشرة من القرود ولكن يشترك كلاهما في سلف واحد — فسيظل حجرُ عثرة هائلٌ موجودًا. فحتى أكثر الماديين تعصبًا للمادية لا يمكنه أن ينكر وجود فجوة فكرية بين الإنسان والحيوانات؛ فالقدرات العقلية والأخلاقية للبشر أعلى بكثير من القرود؛ لذلك لا يمكن أن ينحدر البشر من القرود. لقد أصبح شرح ظهور القدرات العقلية والأخلاقية في حدود الانتقاء الطبيعي والمادية تحديًا كبيرًا أمام داعمي داروين.

(ب) فلسفة العقل

البقاء للأصلح أدى إلى البقاء للأذكى. (نوزيك، «الثوابت» (٢٠٠١)، ٢٩٦)

واجه العديد من الماديين قبل الداروينية هذا التحدي «الفلسفي»؛ فرفضوا الثنائية الديكارتية، وعلى غرار لامارك قبلوا المادية التامة. واتباعًا لمنهج قديم في الفلسفة الفرنسية، عامل بول تيري دولباك الإنسان كآلة. واستنتج من هذا الافتراض أن القدرات الفكرية والسمات الأخلاقية للبشر يجب أن تستمد من الأسباب المادية نفسها التي تؤثر أيضًا على جسم الإنسان (دولباك ١٧٧٠، ١٩٧٨، ١١٠). اعتنق دولباك نتائج ماديته اعتناقًا كاملًا. فلا يمتلك البشر أسبابًا لاعتبار أنفسهم كائنات متميزة في النظام الطبيعي (١٧٧٠، ٨١)، وليس الإنسان الهدف النهائي للخلق (١٧٧٠، ٤٥٢). لم يستطع آخرون حمل أنفسهم على قبول مثل هذا الاستنتاج المتطرف. شعر ألفريد والاس، المشارك في اكتشاف مبدأ الانتقاء الطبيعي، بعدم رضا متزايد حيال قدرة هذا المبدأ على تفسير جوهر البشرية، فقد كان يميل لحجج التصميم. فقَبِلَ الحقيقة الواقعة للعصور القديمة للبشر، ورأى أن جسم الإنسان قد نشأ من سلف بدائي، لكنه لم يستطيع أن يقبل أن العقل البشري تطور نتيجة للانتقاء الطبيعي. رصد والاس في الوعي البشري والنزاهة الأخلاقية دليلًا على التصميم. وأضاف سريعًا جلد الإنسان الذي لا يغطيه الشعر ويداه وقدماه وصوته كمظهر آخر للتصميم الذكي. وفي بعض كتاباته الأخيرة ادعى أن «الحياة على الأرض تُتوَّج بالبشر» وأن «وجوده كان هدف الكون» (والاس ١٩٠٣؛ ١٨٩١). يعود والاس هنا إلى ثنائية العقل والجسم الديكارتية؛ ففي حالته الشبيهة بالقرود، كان الإنسان معرَّضًا لقوى الانتقاء الطبيعي، ولكن بعد ذلك، حدثت ثورة في الماضي البعيد؛ فجلبت مخلوقًا ذا عقل ينعم بهبة الوعي. توقف التطور الجسدي للإنسان، وتركَّز ارتقاؤه من وقتها على ازدهار قدراته العقلية. وتحوَّل الانتقاء الطبيعي إلى انتقاء ثقافي، تحل فيه الأعراق الأسمى محل الأعراق الأدنى. وتجاوزت القدرات العقلية للبشر ما كان مفيدًا لبقائه على قيد الحياة بكثير.

لم يكن في مقدور الانتقاء الطبيعي إلا أن يهب الإنسان الهمجيَّ مخًّا أعلى ببضع درجات من القرد، في حين أنه يملك في الواقع مخًّا أقل قليلًا للغاية من مخ فيلسوف. (والاس ١٨٧٠، ٢٠٢، قارن ١٨٩١، ٤٧٤)

إذن، خلص والاس إلى أنه لا بد أن كائنًا أسمى وجه «تطور الإنسان في اتجاه محدد» (والاس ١٨٧٠، ٢٠٤).

ولكن التفسير المادي للوظائف العقلية لا يمكن أن يشمل أسبابًا خارقة للطبيعة. فهي ستشكل خرقًا للحتمية، التي قدَّم علماء القرن التاسع عشر جميعهم تقريبًا لها سلسلة فريدة من الأحداث الفيزيائية تمتد من الماضي إلى المستقبل، كما أنها ستشكل أيضًا خرقًا للمادية، لأنها تتعارض مع اختزال القدرات العقلية إلى قدرات بدنية. وعلى أساس هذه الفرضيات، يجب على متبع المادية أن يسعى إلى تفسير معقول للوظائف العقلية، دون أن يخرج عن نطاق حدود المجموعة. كان الماديون حريصين على تجنب الازدواجية. وعكست صفحات مجلة نيتشر مرة أخرى التفكير التقدمي لهذه الفترة. نشر جورج هنري لويس كتاب «الأساس المادي للعقل» (١٨٧٧)، الذي اقترح فيه وجهة نظر مفادها أن العمليات العقلية والعصبية تُمثِّل ببساطة جوانب مختلفة من الواقع «نفسه»، لكن الماديين الداروينيين فقدوا بعض ثقتهم في أسلافهم الفرنسيين. كان التركيز منصبًّا على العقل والمادة؛ أي اعتماد الوعي على التنظيم العصبي. وافترض هَكسلي أن «التغير الجزيئي في الجهاز العصبي يسبب حالة من الوعي.» ولكن — كما واصل حديثه — لا تزال «طريقة ارتباط الوعي والكائن المادي» تُمثِّل لغزًا (هَكسلي ١٨٧٤، ٣٦٥؛ قارن نيتشر ١٥، ١٨٧٦-١٨٧٧، ٧٨-٧٩). كيف ينبغي التعامل مع هذا اللغز؟ تحمل أوجه الشبه بين الإنسان والكائنات الحية الأدنى — كما هو ثابت من خلال دراسات علم الأجنة والتشريح المقارن وعلم الحفريات — الكثير من الثقل الإثباتي. يشير التشابه البنيوي إلى نشأة البشر من أشكال الحياة الأدنى، من سلف شبيه بالقِرَدة، ومع ذلك، لا يمكن إنكار الفجوة الفكرية بين الإنسان والحيوانات. يجب على متبعي المادية إيجاد جسر بينهما: قبول الفجوة ولكن تفسيرها من مستويات أدنى، وقدَّم هَكسلي مرة أخرى تشبيه الساعة. جميع القدرات تعتمد على البنية؛ فالعضو يشكل الوظيفة، ولكنَّ اختلافًا معينًا في البنية لا يُقابل باختلاف خطي في الوظيفة؛ فالوظيفة تعبير عن الترتيبات الجزيئية. والتغيير البسيط في البنية يمكن أن يؤدي إلى تغيير كبير في الوظيفة. إن أصغر حبة رمال ستؤثر سلبًا على عمل آلية الساعة. وعلى نفس المنوال، أدت الاختلافات في بنية جسم الإنسان — الوقفة المنتصبة وتحرير اليدين وزيادة حجم الدماغ — إلى اختلافات وظيفية كبيرة بين البشر والقِرَدة: ظهور الوظائف العقلية وتطور اللغة والأشكال الرمزية الأخرى (انظر داروين ١٨٧١، الجزء الأول، الفصل الثاني؛ هَكسلي ١٨٦٣أ، ١١٢–١٢٥؛ ١٨٦٣ب، ٤٧٠–٤٧٥؛ ١٩٠٩، ٥١؛ دينيت ١٩٩٥، ١١٧، ٢٨٧). في كتابه «أصل الإنسان»، يرى داروين أنه لا يوجد فرق أساسي في النوع بين الوظائف العقلية للبشر والكائنات الحية الأعلى؛ فالحيوانات المعقدة تشعر بعواطف وتظهر علامات الذكاء. ووفقًا لداروين، فإن مبدأ الانتقاء الطبيعي قادر على تفسير تطور القدرات العقلية والأخلاقية. فبِلُغة اليوم، المخ هو عضو العقل، ولكن العقل البشري عضو متطور ومعقد بحيث إنه من غير المعقول أن تكون كل وظيفة من وظائفه جرى انتقاؤها على نحو خاص. بالنسبة إلى داروين، لم يكن الانتقاء الطبيعي الوسيلة الوحيدة للتعديل (داروين ١٨٥٩، ١٣٦). لقد ذكرنا بالفعل أنه قدَّم مبدأ الانتقاء الجنسي لشرح أصل السمات، مثل قرون الغزلان، التي تبدو ضارة لاحتمالات البقاء على قيد الحياة للفرد. يقول داروين: إن القدرات العقلية والأخلاقية، على الأرجح، «صُقلت عن طريق الانتقاء الطبيعي»، مضيفًا «إما مباشرة أو على نحو غير مباشر، وهي الصورة الأكثر شيوعًا» (داروين ١٨٧١، الجزء الأول، الفصل الثاني، ٨٠). ويستطيع الداروينيون تفسير التعديلات غير التكيفية من خلال تقديم وجهتَي نظر:
  • (١)
    «تُمثِّل الكائنات الحية أنظمة متكاملة والتغيير التكيُّفي في جزء واحد يمكن أن يؤدي إلى تعديلات غير تكيفية للسمات الأخرى» (جولد ١٩٨٧، ٤٥). يطلق داروين على هذا «مبدأ ارتباط النمو» (داروين ١٨٥٩، ١٨٢؛ ١٨٧١، الجزء الأول، الفصل الثاني). تؤدي الاختلافات الطفيفة في بنية جسم الإنسان إلى تغيرات موازية في أماكن أخرى من النظام. وهذا يمكن أن يفسر تضاعف حجم الجمجمة في الدماغ البشري (انظر جدول ٢-١).
  • (٢)

    «العضو الذي بُني تحت تأثير الاختيار لدور معين ربما يكون قادرًا على أداء العديد من الوظائف الأخرى غير المختارة أيضًا نتيجة لبنيته» (جولد ١٩٨٧، ٥٠). وهذا يمكن أن يفسر تطور القدرات العقلية. ربما يكون مُخُّنا الكبير نشأ «من أجل» مجموعة من المهارات اللازمة في عملية جمع الغذاء والتفاعل الاجتماعي وما إلى ذلك، ولكن هذه المهارات لم تصل إلى حدود ما يمكن لهذا العضو المعقد تحقيقه (داروين ١٨٥٩، الفصل الخامس؛ ١٨٧١، الجزء الأول، الفصل الخامس؛ أيالا ١٩٨٧؛ كرومبي ١٩٩٤، المجلد الثالث، ١٧٥٩). «يجعل الانتقاءُ الطبيعي المخَّ البشري كبيرًا، ولكن معظم السمات والقدرات العقلية قد تكون «سمات ثانوية»؛ أي نتائج ثانوية جانبية لا تكيفية لبناء عضو بهذا التعقيد البنيوي» (جولد ٢٠٠١، ١٠٤).

ومن ثم فإن البشر بالنسبة لداروين نتاج التطور مثل أي كائن حي آخر. رفض الداروينيون بشدة الالتجاء إلى «قوًى إبداعية جديدة» لتفسير المخ البشري، وبهذا اتبعوا مبدأ التوحيد الذي يشير إلى أن الظاهرة نفسها يجب أن تفسرها المبادئ نفسها.

(ﺟ) العقول الناشئة

ما المادة؟ لا يهم. ما العقل؟ لا يهم. (جولد، «بنية نظرية التطور» (٢٠٠٢)، ٩٧)

يأمل الماديون في تفسير كيف أنتج المخ العقل. كان هذا في عصر داروين خطة بحثية أكثر من كونه برنامجًا مفصلًا. وحتى اليوم لا يزال واحدًا من الأسرار الكبيرة، ونقطة تركيز لأبحاث مكثفة. قدَّمت فلسفات العقل والعلوم المعرفية معًا عددًا من الإجابات الممكنة، وكلها لا تزال غير مثبتة بدقة بالأدلة. ولا يسعنا مراجعة هذه النماذج هنا (انظر بلاكمور/جرينفيلد ١٩٨٧؛ ليونز ٢٠٠١؛ بلاكمور ٢٠٠٣؛ سيرل ٢٠٠٤)، ومع ذلك، يمكننا أن نتساءل عن الموقف الحديث الذي تتسق معه هذه التأملات الداروينية بشأن العقل على نحو أكبر.

وفق الرؤية الداروينية، الحالات العقلية هي سمات مخية «ناشئة». و«السمة الناشئة» لا يمكن اختزالها إلى الأساس الذي ظهرت منه، فهي تُشكِّل ظاهرة جديدة نوعيًّا تتطلب مستويات جديدة من الأوصاف وربما قوانين فيزيائية جديدة. امزج الدقيق والزبد والبيض والسكر، وضع الخليط في الفرن، وستحصل على كعكة كظاهرة ناشئة. إذا كان هذا حقيقيًّا بالنسبة للكعكة، فربما يكون حقيقيًّا بالنسبة للعقل. والعمليات العقلية الذاتية — التخطيط الواعي، والتفكير، وحل المشكلات — تُشكِّل ظواهر جديدة. ويمثل المخ نظامًا ذاتي التنظيم يُنتج عمليات عقلية جديدة أسمى. العمليات العقلية هي السمات الناشئة لتفاعل شبكات الخلايا العصبية. وعلى هذا النحو، تُوزع الوظائف العقلية عبر المخ. وتنتمي السمات الناشئة إلى النظام بأكمله وليس لمكوناته. طبق الداروينيون مبدأ ارتباط النمو على المخ، وأشاروا إلى أن المخ ربما يكتسب وظائف ذهنية لم يحدث أي انتقاء مباشر لها؛ وهذا قد يؤدي بالفعل إلى تأثير كرة الثلج (بانج ١٩٧٧؛ ١٩٨٠؛ سبيري ١٩٨٣؛ تشالمرز ١٩٩٦؛ كلارك ١٩٩٧؛ داماسيو ١٩٩٩؛ إديلمان ١٩٩٢؛ همفريس ١٩٩٧؛ سيبرايت ١٩٨٧؛ «سينتيفيك أمريكان» ٢٠٠٤) كان هَكسلي قد أشار بالفعل إلى أن التغيرات الصغيرة في المخ ربما تؤدي إلى تغييرات كبيرة في العقل. ربما تؤدي الزيادات الصغيرة في التشابكات العصبية — التي استفاد منها البشر في ماضيهم التطوري — أولًا إلى اختراع أدوات ثقافية جديدة مثل اللغة الرمزية. وبمجرد توافر هذه الأدوات، فإن استغلالها السريع في التفاعل مع العالم المادي منح البشر ميزة تطورية رئيسية. والتجليات الموضوعية للعمليات الذهنية الذاتية — الثقافة، واللغة الرمزية، والعلوم — تتخطى منشئيها الأصليين، ويتضمن النشوء حقيقة السمات العقلية. علاوة على ذلك، تُغلَّف السمات الناشئة بحلقات سببية، كما يتضح في ظاهرة سلوك المجموعة.

يمكن للمجموعة أن تؤثر على طريقة تصرُّف أفرادها. وكما سنرى في الفصل الثالث، ذهب دوركايم إلى وجود شمولية ناشئة فيما يتعلق بوجود الفئات الاجتماعية والمجتمع. يعزو فرويد أيضًا في عمله في مجال علم النفس الجماعي قوًى سببية إلى الحشود، وهذه القوى لا يمكن اختزالها إلى مجموع الأفراد الذين يشكلون الحشد. ووفقًا لهذا الرأي، فإن التفاعل بين الأفراد يؤدي إلى ظواهر أسمى، مثل العلاقات الاجتماعية. إذا كانت الظاهرة العقلية ظاهرة ناشئة أسمى من حالات المخ التي نشأت منها، فمن المفترض أن نكون قادرين على إيجاد مثل هذه الحلقات السببية في العمليات العقلية. تعتمد العمليات العقلية اعتمادًا كبيرًا على الوسائل الرمزية، سواء على المستوى الشخصي أو على المستوى المجتمعي؛ فنحن نتحدث مع أنفسنا والآخرين بلغة عامة. والحياة الاجتماعية مدعومة بأطر مؤسسية؛ فعلى سبيل المثال، الأموال وسيلة رمزية تسمح بتبادل السلع. إذا كان العقل قادرًا على إنتاج أهداف شخصية ومنتجات ثقافية، بدورها يمكن أن تؤثِّر على السلوك الفردي والجماعي، فلا يمكن أن يكون العقل مجرد ظاهرة ثانوية. لا بد أن توجد سببية عقلية؛ فكما أصر فرويد، الاضطرابات العقلية تؤدي إلى أفراد مضطربين. وعادةً ما يتسبب القرار العقلي في القيام بعمل مادي. وتكشف لنا الآثار التي تطرحها الأفكار الموضوعية على وجهات نظرنا العامة وأعمالنا الاجتماعية ما يكافئ ذلك؛ فبلا شك، لم يعد البشر يتصرفون وكأنهم مركز الكون، وذروة الخلق. إن الأفكار المتجسدة في الكوبرنيكية والداروينية وجهت توجهاتنا الذهنية العملية نحو العالم الطبيعي والاجتماعي في اتجاهات جديدة؛ فقد غيرت الفرضيات الفلسفية. وتمثل المؤسسات العامة (التعليم، والعدالة، والسياسة، والسوق) أيضًا كيانات رمزية تؤثر بشدة على سلوك الجماعة التي تبنتها. ويختلف سلوك العناصر الاقتصادية الفردية اختلافًا كبيرًا تبعًا لما إذا كانت تعمل ضمن إطار مؤسسي لسوق حرة أو سوق موجَّهة.

إذا كانت السببية العقلية حقيقية، فلا بد أن تُصوَّر في أي نموذج للعقل البشري. ويبدو أن السمات الناشئة تفي بهذا الشرط؛ فهي تتيح وجود الحلقات السببية. يمكن للسمات الناشئة أن تتداخل مع العناصر التي نشأت منها، ويمكن للعمليات العقلية أن تؤثر على العمليات العقلية الأخرى، وكذلك أيضًا على العمليات المخية والعمليات البدنية، وقد تولِّد الفكرة الجيدة أفكارًا جيدة أخرى. ويؤثر الإجهاد العاطفي على الحالات الفسيولوجية للفرد، بينما يدفع الاكتئاب بعض الأشخاص إلى الانتحار. ومن بين الأفكار المهمة في العلوم الاجتماعية فكرة أن الأفكار والمؤسسات يمكن أن توجِّه العمل الاجتماعي (فيبر ١٩٤٨، ٢٨٠).

على الرغم من أن الماديين الداروينيين لم يكن لديهم مفاهيم النشوء والعقل المتجسد، ففي مناقشاتهم وصفوا العقل بأنه سمة ناشئة، واعتبروا العقل قوة مهمة في الطبيعة والمجتمع. يمكن للعقل تطوير وظائف جديدة، مثل اللغة الرمزية، التي تعطي أي كائن حي ميزة كبيرة في الصراع من أجل الوجود. ويصنع العقل أيضًا أفكارًا أخلاقية — على سبيل المثال — تنظم العلاقات الاجتماعية. وبهذه الطريقة، خفف التطور الثقافي القوة القاسية للانتقاء الطبيعي.

ولكن لا يزال العديد من تلك الأسئلة القديمة دون إجابة حتى اليوم. لنفترض أن الحالات العقلية «تنشأ» من نشاط الخلايا العصبية. كيف يفسر العلم التجريبي نشأة العقول الواعية؟ اكتشف علم الأعصاب الشبكات العصبية في المخ، وهي مرتبطة بالوظائف العقلية. ويمكن تحديد موقع للترابط. على سبيل المثال، يبدو أن الكلام يقع في منطقة بروكا. وترتبط مناطق أخرى في قشرة الدماغ بالحركة والرؤية. أطلقت الداروينية برنامجًا بحثيًّا، وجرى التخلي عن ثنائية الجوهر الديكارتية، وصار يُنظر إلى المخ على أنه عضو بيولوجي، وهو مقر العقل. يشجع تركيز الداروينية على تساؤلات بشأن نمو الوظائف العقلية الجديدة والميزة التطورية الخاصة بالوعي (بارلو ١٩٨٧؛ نوزيك ٢٠٠١). (سوف نتناول في القسم الخامس من الفصل الثالث تطور علم النفس التطوري؛ وهو محاولةٌ لتفسير الوظائف العقلية من خلال تطبيق المبادئ التطورية على العقل.) وللداروينية أيضًا انعكاس على صورة الذات لدى البشر؛ فقد تسببت في فقدان التصميم الرشيد.

(٥-٣) فقدان التصميم الرشيد

دراسة مستقبل الجنس البشري أكثر إرضاءً لغرورنا من دراسة الماضي. (بوشنر ١٨٦٨، ٢٥٦؛ ترجمة المؤلف)

يشكل التفسير الطبيعي الدارويني لظهور البشر فقدانًا تامًّا للتصميم الرشيد؛ فلم يحدث تدخُّل من قوًى خارقة مهَّد الساحة لميلاد البشرية. رفض الماديون الداروينيون موقف والاس الوسطي؛ فإذا كان الانتقاء الطبيعي يستطيع تفسير ظهور جسم الإنسان، فلا بد أن يفسر أيضًا ظهور العقل البشري؛ فالبشر، «بالمعنى الحرفي»، ليسوا ذروة الخلق. ورفض الداروينيون حل لامارك بتصوير البشر هدفًا للتطور التدريجي؛ فالتطور التدريجي كآلية ليس موجودًا؛ فلم تصل العملية التطورية إلى ذروتها مع ظهور البشر. إن البشر لا يمثلون ذروة الكمال، التي يُقارَن بها جميع الكائنات الأخرى على نحو غير ملائم؛ ففي نماذج التصميم والتطور الخطي، كان البشر إضافات متأخرة نسبيًّا إلى حُلَّة الطبيعة. فينبغي إعداد الأساس المناسب لتعقيد البشر؛ ولذلك سُخِّرت الحيوانات والنباتات من أجل الهدف النهائي للخلق، وهو البشر المعقدون. ومن ثَمَّ، يمكن للبشر أن ينظروا إلى النباتات والحيوانات على أنهم مُذلَّلون من أجل احتياجاتهم. كان ذلك يشبه مركزية الأرض ولكن في عالم الأحياء. قضى كل من كوبرنيكوس وداروين على هذه المركزية البيولوجية الوقحة. فُقِدَ التصميم الرشيد، واحتلت القوى المادية مكانه. كانت المشكلة، كما أشار كارل فوجت، أن:

الغرور المتأصل في الطبيعة البشرية عارض فكرة أن سيد الكائنات ينبغي أن يُعامل مثل أي مخلوق طبيعي آخر. (فوجت ١٨٦٤، المحاضرة الأولى، ١٠)

فهل يمكن على الأقل اعتبار البشر ذروة الخلق بالمعنى «المجازي»؟ حتى بين الماديين، اختلفت ردود الفعل حيال فقدان التصميم الرشيد كثيرًا. كان إرنست هِيكل الأكثر تشاؤمًا؛ فقد ساوى فقدان التصميم الرشيد بانعدام الأهمية الكونية للبشر، ورفَضَ منْح البشر أي راحة، حتى بالمعنى المجازي. بل على العكس من ذلك، شهد اكتشاف أصل الإنسان المتواضع سقوط البشر من درجة السلم العالية في سلم الخلق:

إن «طبيعتنا البشرية» — التي مجدت نفسها في صورة رب في وهمها الأنثروبي — تنحط إلى مستوى الثدييات المشيمية، التي لا قيمة لها في الكون عمومًا أكثر من قيمة النمل أو ذبابة الصيف أو النُّقاعِيَّات المجهرية أو أصغر العُصَيَّات. (هِيكل ١٩٢٩، ١٩٩-٢٠٠)

على النقيض من ذلك، لم يرَ كل الداروينيين عدم أهمية كونية في أصل الإنسان المتواضع. رفض هَكسلي نسخة المادية الخام واعتبر العقل قوة ثالثة من قوى الطبيعة. وكثيرًا ما ذُكر أن هَكسلي يتبع مذهب الظاهراتية المُصاحبة الذي يرى أن الوعي عاجز على مستوى السببية (هوندريش ١٩٨٧؛ تشالمرز ١٩٩٦؛ بلاكمور ٢٠٠٣)، ومع ذلك، إذا كانت الحالات الواعية تُمثِّل فئة فرعية من الحالات الذهنية، فإن هَكسلي لم يكن متبعًا لمذهب الظاهراتية المُصاحبة فيما يتعلق بالحالات الذهنية. يؤكد هَكسلي أن الحالات الذهنية تنتج الأفكار، التي يمكن أن تُغيِّر العالم (هَكسلي ١٨٧٤؛ ١٨٨٦؛ ١٨٩٣). ويضم تطور الحضارة الانحراف التدريجي لقوى الانتقاء الطبيعي؛ فالحياة الاجتماعية في المجتمعات المتحضرة معزولة عن عملية الطبيعة الكونية التي يسود فيها الصراع الوحشي من أجل الوجود؛ فالحياة المتحضرة تشبه عملية البستنة التي يُقضى فيها على الصراع من أجل الوجود إلى حد بعيد. وعلى غرار البستاني الجيد، عدَّل البشر ظروف الوجود لتتناسب مع احتياجاتهم. وتعد الداروينية الاجتماعية امتدادًا زائفًا للتطور إلى المجال البشري.

كما لو أن الطبيعة نفسها أدركت غطرسة الإنسان، وبكل قسوة قضت بأن قدراته العقلية — بكل ما حققته من انتصارات — يجب أن تُبرز مظهره الضعيف، مذكرة إياه بأنه ليس سوى تراب. (هَكسلي ١٨٦٣أ، ١٢٥)

وافق داروين على هذه الآراء. ولم يرَ تحدُّر الإنسان من أشباه البشر اكتشافًا مهينًا. وبينما سعى المناهضون للداروينية لزيادة الفجوة بين القرد والإنسان بأقصى قدر، كان الداروينيون حريصين على تضييقها؛ فلم يروا سوى اختلافات نوعية؛ فقد كانت الحيوانات تمتلك ذكاءً وإحساسًا، ولم يكن من المهين اعتبارهم أسلافنا.

حول الداروينيون الأكثر تفاؤلًا انتباههم من النشأة إلى الارتقاء. تنشأ الحالات الذهنية من الحالات المخية؛ وهذا يؤدي إلى اللغة الرمزية وإلى الثقافة وإلى القيم. وتبقى حجة أن القيم الإنسانية، حتى لو كانت جذورها تكمن في الغرائز الاجتماعية، تمتلك حياة وديناميكية خاصة بها مفتوحتين للماديين. توجه القيم الحياة الاجتماعية في اتجاه معاكس للصراع من أجل الوجود. رأى داروين الأهمية الكونية للبشر في ارتقائهم من البدايات المتواضعة إلى قمة السلم العضوي، من خلال التطور الثقافي.

تمتلك سلسلة الوجود العظمى في شكلها المضاف إليه التسلسل الزمني ديناميات مدمجة تدفع التطور نحو أعلى مستوى من الكمال، وهي جزء أصيل من تكوين الجنس البشري. وهكذا يصبح الإنسان حرفيًّا «ذروة الخلق». رفض داروين والداروينيون الغائية، التي تُعَدُّ أساسية للتعديل التدريجي. لا يشكل ظهور البشر ذروة التعديل التدريجي، فالبشر تشعُّب ناتج عن التفرُّع التطوري؛ فكان يمكن أن تنمو شجرة الحياة دون أن تُنبت فرع البشر؛ فالصدفة هي التي مهدت الساحة للبشر وليست الضرورة. ويجب أن يتغير تقييم مكانة البشر في الكون بالضرورة. فلا ينبغي أن يكون الأمر كئيبًا كرأي هِيكل؛ فكما أكد كثير من الداروينيين، كرامة البشر مستمدة من تطوُّرِهم الثقافي:

إن احترامنا لنُبل البشرية لن يقل بسبب معرفة أن الإنسان — من حيث المضمون والبنية — أحد الحيوانات. (هَكسلي ١٨٦٣أ، ١٣٢)

رغم الأهمية التي حظي بها — ولا يزال يحظى بها — الصراع من أجل الوجود، عندما يتعلق الأمر بأسمى جزء من الطبيعة البشرية، توجد عوامل أخرى أكثر أهمية؛ فالصفات الأخلاقية تطورت (…) من خلال تأثيرات العادة، وقدرات التفكير، والتعليم، والدين وما إلى ذلك، أكثر بكثير من تطورها عن طريق الانتقاء الطبيعي. (داروين ١٨٧١، الجزء الثالث، الفصل الحادي والعشرين، ٦٨٨-٦٨٩)

اتفق الداروينيون مع المركزية العقلانية التي أشار إليها كوبرنيكوس. بالنسبة لمعاصريهم الأكثر اتسامًا بالفكر العلمي، أدت ثورة داروين في العلم إلى فقدان التصميم الرشيد. فشلت حجج التصميم القديمة في التعامل مع المهمة التفسيرية الخاصة بتقديم تفسير متماسك لتنوع شجرة الحياة. والتفسيرات التابعة لنظرية الخلق المتبعة لأسلوب الكتاب المقدس شديدة الخصوصية حتى إنها غير قادرة على ادعاء مصداقية كبيرة. تأمَّل، على سبيل المثال، عمر الأرض. ثمة أدلة مستقلة على أن الأرض تشكلت قبل نحو ٤٫٥ مليارات سنة. ولن يكون مقبولًا الزعم بأن الأرض تشكلت حقًّا من ٦٠٠٠ سنة فقط، كما يقول الكتاب المقدس. يتطلب التشبث بهذه العقيدة وجود خالق مخادع زرع على نحو خفي الأدلة الجيولوجية لجعل الأرض تبدو كما لو كانت أقدم بكثير. إن التعصب الديني لا ينجح عندما تكون النظرية العلمية منافسًا جادًّا له.

وحتى خلال عصر داروين، ابتعد بعض خصومه عن سيناريوهات الخلق الواردة في الكتاب المقدس؛ فقد أخذوا العلم على محمل الجد، واستدلوا من الاستنتاجات العلمية على التصميم، وليس المصمم. دُعمت سيناريوهات التصميم الذكي كنماذج منافسة لإصرار داروين على الانتقاء الطبيعي. يجب ألا ننسى أن الانتقاء الطبيعي أصبح موضع شك كبير خلال سبعينيات القرن التاسع عشر. حتى إن تي إتش هَكسلي أبدى بعض الشكوك بشأن القدرة التفسيرية للانتقاء الطبيعي. وبالنظر إلى جلد الإنسان الأملس، ويديه وقدميه، وصوته، ناهيك عن قدراته الفكرية، شك والاس في عمل التصميم الذكي. وأشار كتاب ميلر المناهض للداروينية «آثار الخالق» (١٨٦١) إلى أنه يمكن استخلاص مؤشرات التصميم المتناغم والعناية الإلهية الأبدية من الحقائق الجيولوجية. واتفق المناهضون للداروينية على أن الأدلة لم تدعم الانتقاء الطبيعي على نحو كافٍ. فلا يمكن أن تكون سببًا ماديًّا حقيقيًّا، كما أنها فشلت في تفسير دليل التعقيد على نحو مناسب. وأكد معارضو الداروينية، مثل دوق أرجيل وهيلر ميلر وسانت جورج ميفارت، أنه يلزم وجود الكثير من التنسيق في نمو الكائنات الحية، وبهذا لا يمكن أن يُنسب إلى عمل الصدفة «العمياء». كان رفض الانتقاء الطبيعي، وإن لم يكن رفضًا للتطور، طعنةً في الفلسفة الميكانيكية.١٣ ولكن إذا أخفق الانتقاء الطبيعي والفلسفة الميكانيكية، فإن اللجوء إلى التصميم يستعيد بعضًا من المكانة. لا بد أن خطة ذكية تكمن في جذور التعقيد العضوي؛ فالتطور العضوي كله يجب أن يتضمن اتجاهية كامنة فيه.

تظهر سيناريوهات الخلق المتَّبِعة لأسلوب الكتاب المقدس من وقت لآخر، ولكن التحدي الموثوق للداروينية يجب أن يأخذ الأساليب العلمية والحقائق على محمل الجد. في تسعينيات القرن العشرين ظهرت نظرية حديثة للتصميم الذكي، وهي تهدف إلى أن تُثبت علميًّا أن الانتقاء الطبيعي لا يمكن أن يقوم بالعمل التفسيري الذي يدَّعي القيام به. من وجهة النظر الفلسفية، تُعد نظرية التصميم الذكي مثيرة للاهتمام؛ لأن الحجج تُصاغ في صورة أسئلة تُثار عن الاستدلالات المسموح بها. ولقد رأينا بالفعل أن الاستدلالات تلعب دورًا رئيسيًّا في التاريخ الدارويني.

(٥-٤) التصميم الذكي

كل ثورة في العلوم الطبيعية أنتجت قضايا فلسفية جديدة. (روزنبرج، «فلسفة العلوم الاجتماعية» (١٩٩٥)، ٢١٢)

استنتجت حجج التصميم القديمة من النظام المرئي وجود تصميم، ومن الكمال الظاهري وجود مصمم إلهي. وأكد داروين أنه يوجد نظام في الطبيعة، ولكن لا يوجد كمال. وتستنتج حجج التصميم الجديدة، من التعقيد العضوي وعدم الاحتمالية، وجود تصميم ذكي. ويُعتَبر استدلال بيلي الإضافي من التصميم، الذي يقضي بوجود مصمم، استدلالًا غير ضروري. إن التعقيد ناتج عن الدراسات العلمية، وليس التأمل الديني. وتأخذ نظرية التصميم الذكي — على غرار سابقاتها من القرن التاسع عشر — العلم على محمل الجد. فتعتمد على وجه التحديد على الاكتشافات العلمية للبيولوجيا الجزيئية والنتائج الرياضية لنظرية الاحتمالات. وهكذا نُقلت المعركة إلى أرض التطوريين. كانت تتفق مع الداروينيين في عدم تسامحها المطلق مع دعاة نظرية الخلق. وكانت توافق على أن عمر الأرض حوالي ٤٫٥ مليارات سنة، وتوافق على أن الانتقاء الطبيعي يلعب دورًا في التطور، ولا ترى حاجة للالتجاء إلى وجود مصمم؛ فهي تعامل التصميم الذكي باعتباره فرضية «الذكاء غير المتطور» (ديمبسكي/روس ٢٠٠٤، ٣) أو حتى كاستدلال لأفضل تفسير (مينوج ٢٠٠٤، ٣٢؛ ماير ٢٠٠٤، ٣٧١-٣٧٢). ومن وجهة نظر منطقية، يبدو أنها تستخدم ممارسات استدلالية تمامًا مثل الداروينيين.

من أجل التبسيط، لنفترض وجود تفسيرين: القصة الدراوينية (الجديدة) المألوفة وتفسير التصميم الذكي، ولكن علماء الأحياء التطورية لم يعودوا يعتمدون على التشريح وعلم الأجنة وعلم الحفريات؛ فقد اتسع نطاق الأدلة إلى العالم الجيني والجزيئي. يركز منظِّرو التصميم المعاصرون تحديدًا على: (أ) التعقيد على المستوى الجزيئي. (ب) الانتقال من الحياة غير العضوية إلى الحياة العضوية وظهور تصميمات أجسام حيوانية جديدة. (ﺟ) الاحتمالات الرياضية الداعمة للتصميم الذكي. لنتناول هذه الحجج بإيجاز ثم نلقِ نظرة على بعض الانتقادات الموجهة لنظريات التصميم الذكي الحديثة.

  • (أ)

    حجة التعقيد غير القابل للاختزال (بيهي ١٩٩٦؛ ٢٠٠٤): وفقًا لبيهي، أثبتت البيولوجيا الجزيئية الحديثة وجود تعقيد غير قابل للاختزال في النظم الموجودة داخل الخلية. وتشير أمثلة بيهي العلمية الواقعية إلى تخثر الدم، والكيمياء الحيوية للرؤية، وما يُسمى السياط البكتيرية كجزء من كيمياء الخلية (وهو محرِّك دوار يعمل بالطاقة الأيونية، بحسب ميلر (٢٠٠٤، ٨٢)، وهو «متصل بالأغشية المحيطة بالخلية البكتيرية»). ويعني التعقيد غير القابل للاختزال أن «إزالة أي من الأجزاء المتفاعلة يؤدي إلى توقف النظام عن العمل» (بيهي ٢٠٠٤، ٣٥٣). ووفقًا لبيهي، تتمثل النقطة المتعلقة بالتعقيد غير القابل للاختزال في أنه لا يمكن تفسيره بعملية التعديل التدريجي الداروينية. وإذا أخفق الانتقاء الطبيعي والتدرُّجية في تفسير التعقيد، فإنه يبدو من المعقول بالنسبة لبيهي استنتاج التصميم الذكي لتفسير هذا النوع من التعقيد الجزيئي. يكشف التعقيد عن التصميم الذكي. من وجهة النظر الفلسفية، من المدهش أن منظِّري التصميم الذكي — أمثال بيهي — على استعداد للانتقال من مسألة الاستدلالات المقبولة التي يوافق عليها جميع الأطراف إلى مسألة الاستدلالات المسموح بها. وهكذا، يعلن بيهي أن «عملية التصميم ربما لا تنتهك أي قوانين طبيعية على الإطلاق» (بيهي ٢٠٠٤، ٣٥٧).

  • (ب)
    حجة ظهور الحياة وتصميمات الأجسام الجديدة: حاول علماء الأحياء تفسير التحول غير المحتمل من الحياة غير العضوية إلى الحياة العضوية. كانت المشكلة هي أن الجزيئات الأولى كانت معقدة جدًّا بالفعل، ويحتاج أصل هذا التعقيد إلى تفسير. ووفقًا لمنظِّري التصميم الذكي، اللجوء إلى الصدفة والقوانين الطبيعية غير كافٍ. «يبدو أن أصل الحياة هو المثال الأقوى للتعقيد غير القابل للاختزال» والمثال «الأكثر إقناعًا بالحاجة إلى التصميم الذكي في الطبيعة» (برادلي ٢٠٠٤، ٣٥٠). لاحظ مرة أخرى الشكل الذي تتخذه الحجة: «تفشل» التفسيرات التقليدية؛ ومن ثم يبدو أن استدلال التصميم الذكي يفرض نفسه. وفي تطورٍ آخر للحجة، لم يُقدَّم التصميم الذكي كحل مناسب لمسألة «أصل الحياة» وحسب، ولكن أيضًا لظهور تصميمات الأجسام الحيوانية الجديدة في فترة انفجار العصر الكامبري (ماير ٢٠٠٤، ٣٧٢). يقبل منظِّرو التصميم الذكي أن «الآلية الداروينية يمكنها تفسير التكيف التطوري الصغير»، مثل مجموعة المناقير المتنوعة لدى عصفور الدوري التي ذكرها داروين. ما يعارضونه هو أن التطور يستطيع أن يفسر «ظهور معلومات محددة معقدة في الكائنات الحية» (ماير ٢٠٠٤، ٣٨٦؛ ولكن قارن ذلك مع جولد ١٩٩١؛ ٢٠٠١ من أجل التفسير التطوري). نلاحظ مرة أخرى الاستعداد للانتقال من الاستدلالات المقبولة إلى الاستدلالات المسموح بها:

    إن تحديد التفسير الأفضل بين مجموعة من التفسيرات المحتملة المتنافسة يعتمد على أحكام الكفاية السببية أو «القوى السببية» للكيانات التفسيرية المتنافسة. (…) وتمتلك العوامل الذكية قوًى سببية كافية لإنتاج زيادات في المعلومات المحددة المعقدة، إما في صورة خطوط تسلسل محددة للكود أو النظم المرتبة هرميًّا للأجزاء. (ماير ٢٠٠٤، ٣٨٦-٣٨٧)

    لا يلجأ ماير فقط إلى استنتاج أفضل تفسير؛ فمن السهل نسبيًّا ادعاء أن نظرية المرء المفضلة هي أفضل تفسير لبعض الأدلة المتاحة. يشير ماير إلى استنتاج أفضل تفسير «مقارن». في هذا النوع من الاستنتاج، تقدِّم الأدلة دعمًا تجريبيًّا لواحدة من عدة فرضيات متنافسة. فتُثبت إحدى الفرضيات وتشكك في منافسيها.

  • (جـ)

    حجة التعقيد المتخصص: إن حجة التعقيد غير القابل للاختزال ليست سوى «حالة خاصة من المعلومات المحددة المعقدة» (مينوج ٢٠٠٤، ٤٧). تتميز المعلومات المحددة المعقدة بأنها معلومات ذات قيمة احتمال منخفضة ووجود نمط مستقل، وهي قادرة على القضاء على الصدفة (انظر ديمبسكي ١٩٩٨، الفصل الثاني؛ ٢٠٠٤). يرى دمبسكي التعقيد المتخصص كمعيار إحصائي يساعد على تحديد آثار الذكاء. للتوضيح، تخيَّل سفرك إلى الخارج مع صديق لا تعرف شيئا عن قدراته اللغوية. وعندما تصل إلى البلد المقصود، تلاحظ أن صديقك يجيد لغة البلد المضيف. من الواضح أن احتمالية أن صديقك تعلَّم هذه اللغة الأجنبية في يوم وصولك تقترب من الصفر. إن الفرضية الوحيدة المعقولة هي أن صديقك كان يتحدث لغة ذلك البلد بطلاقة قبل وصولك. في هذا المثال لدينا نمط محدد؛ القدرة على التحدث بلغة أجنبية «ل» التي تفسر طلاقة صديقك في اللغة أفضل بكثير من فرضية أنه تعلَّمها عن طريق الصدفة في يوم وصولك «و». وإتقان صديقك غير المتوقع للغة الأجنبية «ل» منفصل — أي مستقل — عن الحدث المحدد «و»، على الرغم من أن «و» بالطبع يُمثِّل نمطًا أو تصميمًا.

    التخصيصات هي تلك الأنماط التي تضمَن — بالإضافة إلى احتمالية قليلة — القضاء على الصدفة. (ديمبسكي ١٩٩٨، ١٣٦)

بمجرد استبعاد الصدفة والانتظام من التفسيرات الممكنة لحدث تظهر عليه جميع الصفات التي تجعله يبدو «كما لو» كان مُصمَّمًا، بدا أن استنتاج التصميم هو الخيار الوحيد الباقي. طُبقت فكرة التعقيد المحدد تلك على علم الأحياء التطوري بعد ذلك؛ فالأنظمة الجزيئية، مثل السوط، غير محتملة، حتى إن الآليات الداروينية فشلت في تفسير ظهورها. إذا فشل الانتقاء التراكمي، فإن الانتقاء العشوائي غير مرجح على نحو أكبر، نظرًا للاحتمالات المعنية. ولجأ ديمبسكي إلى إجراء الاستقراء الإقصائي (ديمبسكي ٢٠٠٤): حيثما تفشل التفسيرات الميكانيكية المتنافسة في إثبات الدليل «د»، حينها يُؤخذ هذا الدليل نفسه لدعم التفسير، الذي يبدو أنه يفسره.

ثمة كمية هائلة من الأدلة الوراثية والجزيئية. هل تؤيد هذه الأدلة التفسير الدارويني أم أنها تدعم التصميم الذكي؟ يتجلى هذا في مسألة الاستدلالات «المقبولة»، وليس مجرد الاستدلالات المسموح بها. يتفق المعسكران على أن الأدلة تكشف عن نظام وانتظام. فهل الانتقاء الطبيعي يكفي لتفسير التعقيد؟ الجواب الدارويني هو «نعم»؛ فالانتقاء الطبيعي، كنظرية، ضروري وكافٍ على حد سواء لتفسير نسيج الحياة الغني (دوكينز ١٩٨٨؛ دينيت ١٩٩٥؛ ريدلي ١٩٩٧؛ جونز ١٩٩٩؛ ماير ٢٠٠١؛ جولد ٢٠٠٢؛ أيالا ٢٠٠٤). لم يوافق منظِّرو التصميم الذكي على هذا الجواب.

مَن على صواب؟ هل ينبغي أن نختار استدلالًا تصميميًّا أم تطوريًّا؟ يجب أن يحدد العلم التجريبي طبيعة تعقيد النظم العضوية (على سبيل المثال، تخثر الدم، وكيمياء الخلايا، والكيمياء الحيوية للرؤية. انظر ميلر ٢٠٠٤؛ كوفمان ٢٠٠٤؛ فيبر/ديبيو ٢٠٠٤)، ولكن هذا ليس مجرد مسألة تجريبية. يعكس تفضيل نوع معين من الاستدلال توجهًا ذهنيًّا فلسفيًّا تجاه العلم أيضًا. سوف يجادل التطوريون الحديثون بأن الاستدلال على التصميم الذكي، رغم أنه مسموح به، فإنه يعود بنا إلى تفسيرات خارقة للطبيعة. أما الداروينية فتهدف دائمًا إلى التوحيد والتفسير الطبيعي للظواهر البيولوجية. وحتى لو كان الانتقاء الطبيعي لا يستطيع تقديم تفسير كامل للظواهر التطورية، فإن النهج الطبيعي لا يزال أفضل من الاستدلال على التصميم (بينوك ٢٠٠٤)؛ فالتصميم يقع خارج نطاق الاختبار.

قابلية الاختبار فكرة مقارنة؛ فنحن نستخدم الأدلة نفسها لتقييم القيم الخاصة بنظيرتَيْن متنافستين (انظر صوبر ١٩٩٩، ٢٠٠٢، ٢٠٠٤). وفي هذه الحالة، النظريتان المتنافستان هما التصميم الذكي والداروينية. وتصبح مسألة قابلية الاختبار سؤالًا هل كانت قوة الأدلة تدعم فرضيتي التصميم الذكي والتطور على نحو تفاضلي.

في نظر الداروينيين الحديثين، يتجاهل الإصرار على التعقيد الأصلي للنظم البيولوجية رؤية نيتشه. رأي نيتشه أنه لا يمكننا أن نستدل من طبيعة الوظيفة الحالية للعضو على طبيعة وظيفته السابقة. فثمة فرق بين «أصل أو ظهور الشيء وفائدته النهائية» (نيتشه ١٨٨٧، القسم الثاني عشر؛ دينيت ١٩٩٥، ٤٧٠؛ جولد ٢٠٠٢، ١٢١٦)، ولكن علماء الأحياء التطورية يصرون على أن الأعضاء الأولية — مثل الأجنحة البدائية أو الخلايا الحساسة للضوء — كانت تقدِّم بعض المزايا التطورية للكائن الحي في الماضي. كما أنهم وجدوا في البيولوجيا الجزيئية دعمًا للتفسيرات التطورية. فدراسة التطور الجزيئي تكشف عن معلومات قيمة، وغالبًا ما تكون قابلة للقياس، حول معدل ونطاق التغيرات التطورية. ويمكن بناء الأشجار التطورية للجينات والأنواع من خلال التحليل الدقيق للتسلسلات الجزيئية.

هذه ليست مجرد مسائل تجريبية، فالبيانات التجريبية تتطلب فهمًا. كيف يمكن دمجها في نظرية علمية متسقة؟ على هذا المستوى، تظهر الأسئلة الفلسفية الخاصة بالطريقة. فمن بين الاستدلالات المسموح بها، ما الاستدلالات المقبولة؟

(٦) مسألة المنهجية

نحن العقبات الحقيقية في طريق الطبيعة. (لامتري، «الإنسان آلة» (١٧٤٧)، ٧٩؛ ترجمة المؤلف)

لاحظنا أن الداروينيين يعملون في فضاء مفاهيمي تتنافس فيه وجهات النظر المختلفة الخاصة بالحياة العضوية على خلفية اكتشافات تجريبية وفرضيات فلسفية. كما رأينا أيضًا أن الثورة الداروينية لها تبعات كبيرة على مكانة البشر في الطبيعة العضوية؛ فقدان التصميم الرشيد. تنبع المعارضة الشائعة للداروينية جزئيًّا من الرابط السطحي بين نظرية التحدر ونظرية القرد. كان يُدَّعَى أن المادية ستؤدي إلى اللاأخلاقية. أما المعارضة الدينية للداروينية فكانت أكثر اهتمامًا بمنطق الحجة الداروينية؛ فعلى سبيل المثال، شكك سانت جورج ميفارت ووالاس في كون آلية الانتقاء الطبيعي كافية لشرح تعقيد البشر. ربما كانت معتقداتهما الدينية هي الدافع وراء شكوكهما، غير أنه كان يتعين أن تتحول الدوافع إلى حجج مضادة من أجل النقاش العلمي. فلا يكاد يوجد هجوم أكثر فعالية على النتيجة العلمية من التشكيك في المنهج العلمي الذي نتجت عنه. مثَّل الأسقف ويلبرفورس مخاوف المعسكر المناهض للداروينية عندما اتهم الداروينيين بعدم الولاء للاستقراء البيكوني (كوهين ١٩٨٥ب؛ إليجارد ١٩٥٨، الفصل التاسع). ويتهم أنصار التصميم الذكي في الوقت الراهن الداروينيين باستقاء استنتاجات خاطئة من التعقيد الجزيئي.

إن هدفنا هو استكشاف النتائج الفلسفية للنظريات العلمية؛ ومن ثم فإن علينا أن نتحرى مسألة المنهج. ما المناهج العلمية التي استخدمها الداروينيون؟ هل حادوا عن المسار الحقيقي للمنهج البيكوني؟ ما الاستقراء البيكوني؟ كيف يُقارن الاستقراء البيكوني مع قابلية الاختبار لبوبر؟

(٦-١) الاستنتاجات الداروينية

في حين أن طرح الأسئلة العامة أدى إلى إجابات محدودة، فإن طرح أسئلة محدودة تَبيَّن أنه يقدِّم مزيدًا من الإجابات العامة. (جاكوب، «التطور والإصلاح» (١٩٧٧)، ١١٦٢)

رأينا بالفعل عددًا من الاستنتاجات العاملة؛ فمن خلال وجود اكتشافات حفريات الأنواع المنقرضة والعظام البشرية والأدوات القديمة، استنتج الباحثون في أربعينيات القرن التاسع عشر العصور القديمة للإنسان. قدَّم داروين استنتاجات مماثلة، فمن خلال التأكيد على القوة المعروفة للانتقاء الاصطناعي بين مربي الحيوانات، استنتج مبدأ الانتقاء الطبيعي؛ فكان يرى أنه يستطيع تفسير تنوُّع الأنواع. ويُعَدُّ مبدأ الانتقاء الطبيعي مبدأً تفسيريًّا، كما يمكن تقسيمه إلى عدد من المبادئ الفرعية:
  • مبدأ الاختلاف (الطفرات العشوائية).

  • مبدأ الاختلاف في القدرات البدنية (التعديلات المواتية/غير المواتية).

  • مبدأ الصراع من أجل الوجود.

  • المبدأ القوي الخاص بالتوريث (كيتشر ١٩٩٣، ١٩).

وبفضل تلك المبادئ، استطاع داروين توحيد مجالات البحث المتنوعة، التي كانت حتى هذا الوقت متفرقة. إن «التوحيد» مبدأ منهجي قوي في البحث العلمي. ولقد قابلناه بالفعل في الانتقال من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس؛ فاختفاء الكون ذي الفلكَيْن وفرضياته الأساسية ونظرية الحركة الأرسطية أتاح توحيد الفيزياء الأرضية والسماوية. قدَّمت مبادئ داروين تقنيات قوية للتفسير البيولوجي، وتسمح لنا باستنتاج تاريخ التحدر من ظواهر بيولوجية عديدة.١٤ تأمَّل ثلاث ظواهر منها:
  • (١)

    دُهش داروين بالتوزيع البيولوجي الجغرافي للأنواع وأصنافها في جزر جالاباجوس. كيف كان من الممكن أن يتسم نفس النوع من عصافير الدوري بخصائص مختلفة قليلًا من جزيرة إلى جزيرة؟ كان الرأي السائد قبل داروين هو نظرية الخلق الخاص. كان جواب داروين هو التعامل مع تعديلات كل مجموعة «ج» من الكائنات الحية عن أسلافها كرد فعل للكائنات الحية تجاه التغيرات في البيئة. ويمكن توسيع نطاق هذا الأمر ليوضح مثلًا الاختلافات المرصودة بين جماجم إنسان نياندرتال وجماجم الإنسان الحديث.

  • (٢)

    ترسخ أصل الإنسان من خلال أبحاث في التشريح المقارن. وكما أكد هَكسلي، لم يوجد سوى اختلافات تشريحية بسيطة بين البشر والقِرَدة. فإذا كان البشر والقِرَدة — الذين ينتمون إلى أنواع مختلفة — يتشاركون في خصائص عامة في بنية عظام الأطراف، فكيف يُفسَّر ذلك؟

    من أجل معالجة مثل هذه الأسئلة، فرَّق الداروينيون بين «التنادد» و«التناظر». «التنادد» هو وجود نفس الجهاز في كائنات مختلفة بمجموعة متنوعة من الأشكال والوظائف، مثل أجنحة الطيور وذراعَي البشر. يرجع التنادد إلى التحدر مع التعديل. ويمكن الاستدلال على وجود التنادد في الكائنات الحية المختلفة من خلال تاريخ التحدر من سلف مشترك. أما «التناظر» فهو وجود أعضاء متشابهة ذات وظائف متشابهة لدى حيوانات غير مرتبطة بعضها ببعض، مثل أجنحة الطيور والحشرات. ويُعزى التناظر إلى التطور المُقارِب، أي نتيجةً لضغوطات بيئية مماثلة. ويمكن تفسير وجوده عن طريق تتبُّع تاريخ ظهور السمة التناظرية على مدار سلسلة النسب المختلفة للأنواع المختلفة. فليس لديها أصل تطوري مشترك حديث. ورغم أن هذا التمييز واضح من الناحية النظرية، فقد يكون من الصعب إثباته عمليًّا (داروين ١٨٥٩؛ رول ١٨٧٠، ١٥١-١٥٢؛ كرومبي ١٩٩٤، المجلد الثاني، ١٢٩١؛ دينيت ١٩٩٥، ٣٥٧؛ راف ١٩٩٦، ٣٤–٣٦؛ دي بير ١٩٩٧، ٢١٣–٢٢١).

  • (٣)
    وأخيرًا ثمة أسئلة تخص التكيُّف: لماذا تُظهِر الكائنات الحية التي تعيش في بيئات معينة خصائص معينة، تسهم في صلاحيتها لهذه البيئة تحديدًا. يمكن الإجابة على هذه الأسئلة أيضًا عن طريق إعادة إنشاء العملية التاريخية التي حدثت خلالها عملية التكيف. تحل هذه الإجابات محل حجة التصميم القديمة، كما أنها ترفض الإصرار على الكمال المطلق. وكما يؤكد داروين، التكيف مسألة تتعلق بالدرجة بالأساس:

    يميل الانتقاء الطبيعي فقط لجعل كل كائن عضوي كاملًا، أو أكثر كمالًا بقليل من السكان الآخرين في المكان نفسه الذين يتصارع معهم من أجل الوجود. (داروين ١٨٥٩، ٢٢٩)

تسبب آلية التحدر مع التعديل الكمال النسبي الخاص بتكيف الكائنات العضوية مع بيئتهم المادية، ولكن الكائنات الأخرى، التي تدخل معها هذه الكائنات في المنافسة، تسكن أيضًا بيئتها المادية. ثمة صراع عنيف حول الغذاء والمأوى، ولتجنب الإصابات والموت. وللصراع من أجل الوجود «نتيجة طبيعية ذات أهمية قصوى»؛ إذ ترتبط بنية كل كائن على نحو أساسي «بكل الكائنات العضوية الأخرى» (داروين ١٨٥٩، ١٢٧).

كان من الواضح بالفعل لمعاصري داروين أن نظرية التحدر مع التعديل تتمحور حول استقاء استنتاجات مقبولة. السؤال الحقيقي ليس ببساطة: ما الاستنتاجات «المسموح بها»؟ ولكن ما الاستنتاجات «المقبولة» في ضوء الأدلة المتاحة؟ ينعكس هذا التأكيد في الفرق بين الحلول الممكنة والفعلية. بالنسبة لأصدقاء داروين وخصومه، يتلخص الأمر في بديل بسيط: هل أدلة التكيف الرائع تسوغ الاستدلال على وجود مصمم خارق أم عملية الانتقاء الطبيعي؟ (انظر نيتشر ٢٧ (١٨٨٢-١٨٨٣)، ٣٦٢–٣٦٤، ٥٢٨-٥٢٩). بالنسبة للداروينيين، الاستدلال الكامن وراء حجة التصميم — من نظام الطبيعة إلى الرب المصمم — غير مقبول؛ لأنه لا ينتمي إلى عالم العلوم الطبيعية، ولكن كما توضح نظرية التصميم الذكي، لا توجد عقبة من الناحية المنطقية تمنع استنتاج التصميم على الأقل. ويتفق مؤيدوها مع الداروينيين على أن الأمر يتلخص في مسألة الدعم. أي فرضية من الفرضيتين — التصميم أم الانتقاء الطبيعي — تتلقى دعمًا أفضل من الأدلة؟ لم يدعِ الداروينيون قط أن فرضية الانتقاء الطبيعي صحيحة تمامًا وأن فرضية التصميم خاطئة تمامًا. العديد من الاستنتاجات مسموح بها منطقيًّا، ولكن هل هي مقبولة؟ الاستنتاجات المقبولة تُمثِّل مسألة دعم بالأدلة. وسنميز عما قريب بين الأدلة «الإيجابية» و«الداعمة». وهنا يكفي أن نميز الدليل الداعم كدليل يُثبت فرضية واحدة على حساب الأخرى. وبالنظر إلى الأدلة، من المقبول استنتاج معقولية نموذج تفسيري واحد على حساب النماذج المنافسة له. هذه هي الطريقة التي جادل بها الداروينيون. في بعض الحالات تمنح الأدلة دعمًا لفرضية واحدة وتُضعف منافستها. لم يجادل داروين في سياق فكرة التصميم المثالي الغامضة نوعًا ما؛ فقد درس التوزيع البيولوجي الجغرافي للأنواع، وأصنافها وأوجه التشابه بينها والتكيفات، وقال إن هذه المجموعة من الأدلة يمكن تفسيرها من خلال اللجوء للانتقاء الطبيعي. فإذا كان يوجد تشابه تشريحي بين القرود والبشر، فإن نشأتهما من سلف مشترك أكثر ترجيحًا من نشأتهما على نحو منفصل (داروين ١٨٥٩، الفصل الثالث عشر، الرابع عشر). إذا كانت السجلات الحفرية تكشف عن العصور القديمة للإنسان، فمن المعقول أن نستنتج أن البشرية أقدم من التأريخ الزمني الذي يقدمه الكتاب المقدس. لاحظ أن هذا يجعل المحاولات التفسيرية من جانب المؤمنين بنظرية الخلق قديمي الطراز أكثر صعوبة، ولكن ليست مستحيلة. فيمكن للمؤمن بنظرية الخلق أن يجادل دائمًا بقوله إن الرب زرع المكتشفات الحفرية منذ حوالي ٦٠٠٠ سنة. ويضطر المؤمن بنظرية الخلق إلى خوض هذه المناورات؛ لأن عمر المكتشفات الحفرية يتعارض من النظرة الأولى مع الأدلة. ويتجنب منظِّرو التصميم الذكي مثل هذه المناورات؛ فهم يفضلون استنتاج التصميم. تشير نظرية الانتقاء الطبيعي إلى أسباب مادية، وتعتمد حجج التصميم على قوة خارقة للطبيعة. تسمي حجج التصميم المتعصبة هذه القوة، أما حجج التصميم الحديثة فتتركها دون تسمية. ويتفق منظِّرو التصميم الحديث مع الداروينيين على الحاجة إلى توافر أدلة داعمة. ولا يوجد منطقيًّا أي خطأ في الانتقال من الأدلة إلى التصميم، ولكن ذلك يتطلب كسرًا لسلسلة التفسير الطبيعي. فيُطلب منا أن نقفز قفزة واسعة من الاستدلالات المقبولة إلى الاستدلالات المسموح بها.

دخلت الداروينية فضاءً مفاهيميًّا مزدحمًا بالنماذج التفسيرية المتنافسة. كان الداروينيون دائمًا يشاركون في تفسيرات معارضة (انظر مربع ٢-٤). نظرًا لنتائج وايزمان السلبية بشأن وراثة الخصائص المكتسبة، أصبح من الأقل احتمالًا أن يحظى تفسير لامارك بدعم كبير من الأدلة. وعلى النقيض من ذلك، كان الانتقاء الطبيعي يعمل على الأنماط الظاهرية للاختلافات الجينية العشوائية. فقط لو أن الخلايا الوراثية تُنقَل، فإن هذا يتوافق مع اعتقاد داروين بالاختلاف المتناحي. ونظرًا لعدم وجود تكيفات مثالية وترتيب متناغم في الطبيعة، تضاءلت قوة حجة التصميم. عانت النظرية الداروينية نفسها من صعوبات متنوعة؛ فكانت هناك حجة «الحلقة المفقودة»، التي عزاها داروين — في هذه الحالة وحدها — إلى فقر سجل الحفريات. ثم جاءت حسابات طومسون لعمر الأرض. لم تكن تسعون مليون سنة كافيةً لأداء عملية التطور التدريجي البطيء الخفية التي تخيَّلها داروين. وكانت ثمة شكوك حول القيمية التفسيرية للانتقاء الطبيعي نفسه. ورغم أن الداروينيين اعترفوا بالصعوبات، فإنهم ظلوا يعتبرون النموذج الدارويني متفوقًا على نظرية الخلق الخاص.

أما منتقدو داروين فقد اتهموه بإهمال مخجل للمبادئ البيكونية؛ فكانوا يرون أن الطريقة الصحيحة هي رصد الطبيعة والتعميم من مشاهدات بعض الحالات على جميع الحالات. وانغمس داروين في تخمينات جامحة. رد هَكسلي بأنه قد كُتب الكثير من «الرياء الزائف علميًّا» عن الفلسفة البيكونية (هَكسلي ١٩٠٧، ٣٦٤-٣٦٥؛ هِيكل ١٨٦٦، الفصل الرابع؛ جرين ١٩٨٠، ٣١٤). أصبح هَكسلي وهِيكل على بينة من أهمية تأكيد مصداقية الأساليب الداروينية. ورأى كلاهما أن ذلك يتطلب مزيجًا من الاستقراء والاستنباط النقدي. ونسبَا الفضل في اكتشاف هذا المزيج إلى جون ستيوارت ميل.

مربع ٢-٤: الاستدلال على أفضل تفسير أو الإقصاء

إذا كان الاستدلال على أفضل تفسير يعني فحسب أننا نستنتج من الأدلة المتاحة تفسيرًا نعتبره أفضل تفسير لهذه الأدلة، فإنه لا ينبغي الخلط بين الاستدلال على أفضل تفسير والاستقراء الإقصائي. سوف نرى في الفصل الثالث أن فرويد استدل من الظواهر المرصودة، مثل السلوك العصبي والأحلام، على تفسير بشأن اللاوعي الديناميكي، ومع ذلك، لا يمكن أن يقدِّم هذا تفسيرًا كافيًا ما لم نقارنه مع عدد من التفسيرات المتنافسة (ليبتون ٢٠٠٤٢)؛ فنحن بحاجة إلى الاستدلال على أفضل تفسير «معارِض»، بحيث يمكن للأدلة تقديم قيمة احتمالية للتفسيرات المتناقضة. وفي هذه النقطة على وجه التحديد يُعد إجراء فرويد معيبًا على نحو حزين؛ فهو يستخدم الأدلة الهزيلة لتأكيد نموذج اللاوعي، دون تقييم احتمالية التفسيرات المنافسة.
ادعى داروين أنه وصل استقرائيًّا إلى مبدأ الانتقاء الطبيعي، ولكن هذا لا يثبت أنه نظرية صالحة. قدَّم داروين عددًا من المشاهدات التي أوحت إليه أن تنوُّع الأنواع وتكيُّفها مع البيئة الطبيعية يمكن تفسيره من خلال الآلية المادية للانتقاء الطبيعي. ولكن مثل هذه التعميمات من عينة صغيرة نسبيًّا قد تكون مضللة على نحو خطير. استدل الأوروبيون عادةً من ملاحظتهم للبجعات البيضاء أن جميع البجعات كانت بيضاء، وقد دُحض هذا التعميم الاستقرائي تمامًا عندما اكتشف المستوطنون بجعات سوداء عند وصولهم إلى أستراليا. وفي الحقيقة فإن فرانسيس بيكون — الذي هاجم منتقدو داروين أسلوب داروين «الهش» على خلفية منهجه — وصف:

الاستقراء، الذي يتبع إحصاءً بسيطًا (…) بأنه طفولي؛ استنتاجاته غير مستقرة، ومُعرَّض لخطر حالة من التناقض، كما أنه يُحدَّد عمومًا وفق عدد قليل للغاية من الوقائع، وعلى الحقائق الوحيدة المتاحة. (بيكون ١٦٢٠، الكتاب الأول)

سنرى في الجزء التالي أن فرانسيس بيكون وجون ستيوارت ميل اقترحا كلاهما طريقة أكثر تعقيدًا من الاستقراء بالإحصاء، وأطلقا عليه الاستقراء الإقصائي.

(٦-٢) التجريبية الفلسفية

ولكن دعونا نُكمل أولًا الخطوات التي دافع بها هِيكل وهَكسلي عن طريقة داروين. ربما نصل إلى نموذج، مثل الانتقاء الطبيعي أو مركزية الشمس، من خلال خطوة استقرائية من عدد معين من المشاهدات، بمساعدة من مبدأ نظري معين، ولكنها تظل مجرد تخمينات أو فرضيات. وبمجرد توافر هذه النماذج تصبح خاضعة للاختبارات، وهنا يبدأ دور الجزء الاستنباطي. وفقًا للمعرفة القياسية، فإننا نستمد من النموذج تنبؤات معينة، يجب اختبارها. يمكن الوفاء بهذه المطالبات في الكوبرنيكية ولكن لا يمكن ذلك في الداروينية. لم تكن الداروينية قادرة على تقديم تنبؤات رقمية دقيقة عن السلوك المستقبلي للكائنات البيولوجية. وكان داروين قادرًا على تضمين الحقائق المعروفة حينها، التي ظلت محيرة في نظر النظريات المنافسة. على سبيل المثال، فإن التشابه التشريحي الكبير لدى القِرَدة والبشر — وجود أعضاء بدائية — وجد تفسيرًا طبيعيًّا في الفرضيات الداروينية. ظل هذا التشابه محيرًا في نظرية الخلق الخاص. قدَّمت نظرية التطور إطارًا يمكن استخدامه لاستخلاص الحقائق المستوعبة. ثمة ما هو أكثر من ذلك؛ غالبًا ما تميز المناقشات الحديثة بين الأدلة أو فبمجرد توافر الإطار النظري، يمكن استخدامه للاستدلال على النتائج الاستنباطية أو الاستقرائية. وكانت الحقيقة الأكثر إثارة التي استخلصها الداروينيون من نظرية التحدر هي احتمالية نشأة الإنسان الحديث من البشر الأوائل، وفي النهاية من القرود الشبيهة بالبشر من خلال التفرع. أنشأت الداروينية رابطًا جديدًا بين عصور البشر القديمة ومسار التحدر. لا يمكن التعامل مع هذا الاستنتاج كتنبؤ جديد، لأنه يُدرج حقيقة معروفة على نحو مستقل في النظرية الجديدة. ركَّز عالم الأحياء الألماني فريتز مولر على التاريخ التطوري للقشريات. وجد العديد من التفاصيل الفسيولوجية — التي وصفها بتفصيل شديد — تفسيرًا طبيعيًّا في نظرية التحدر، ولكنها أضفت سرعة تصديق على نظرية الخلق الخاص. وجد مولر في التفاصيل الفسيولوجية المعقدة للقشريات أدلة قليلة على «خطة الخالق الثابتة». وأشار إلى أن التفاصيل التشريحية للقشريات يمكن أن تُستمد من وجهة نظر داروين. تُشكِّل هذه العواقب الاستقرائية دليلًا داعمًا للداروينية (مولر ١٨٦٤). كان داروين معجبًا للغاية بعمل مولر — واصفًا له بأنه «إثبات رائع» لعقيدته — حتى إنه رتب لترجمة إنجليزية نُشرت في عام ١٨٦٩ (براون ٢٠٠٣، ٢٥٩-٢٦٠).

figure
فرانسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦).
يطلق هِيكل على هذا التفاعل بين الاستقراء والاستنباط «التجريبية الفلسفية». إنه تفاعل بين الخبرة والعقل، توليفة من التجريبية والعقلانية، ولكن كما أشار العديد من العلماء في ذلك الوقت أيضًا، لا توجد مشاهدات جيدة من دون نظرية سابقة. وكما رأينا، عمل كوبرنيكوس وداروين على خلفية من التفسيرات المنافسة. ينبغي أن نضيف شرطًا مهمًّا آخر في هذا التفاعل؛ أي نظرية جيدة تكسب قبولًا — إما عن طريق تأكيد التنبؤ الجديد أو عن طريق التلاؤم الناجح — يجب أن تنفي النظرية المنافسة. إن الطريقة البيكونية أو الميلية (نسبة إلى ميل) الحقيقية هي طرق للإقصاء، كما أشار ميل:

يؤمن معظم الناس باستنتاجاتهم بدرجة من الراحة تتناسب مع حجم الخبرة التي يبدو أنهم يستريحون معه، ولا يدركون أنه عبر إضافة حالات إلى حالات، كلها من النوع نفسه (…) فإنه لا شيء يُضاف إلى دليل الاستنتاج؛ فمن شأن حالة واحدة أن تُقْصِيَ بعض الحالات السابقة، التي كانت موجودة على نحو شائع، أن تكون أكثر قيمة من العدد الأكبر من الحالات. (ميل ١٨٤٣، الكتاب الثالث، الفصل العاشر)

على سبيل المثال، استمتع عشرون شخصًا بوجبة في مطعم ولكن ثمانية منهم أصيبوا بتسمم غذائي. وبالتحقيق وجدنا أن هؤلاء الثمانية تناولوا طبق الدجاج، في حين أن الاثني عشر شخصًا المتبقِّين تناولوا أطباقًا أخرى مختلفة، وتناول العشرون جميعًا حلويات مختلفة. يحق لنا أن نستنتج أن طبق الدجاج، ربما، يكون السبب. لقد أقصينا الأطباق الأخرى لأنه لا أحد من الاثني عشر شخصًا شعر بالمرض. وهذه هي طريقة ميل المسماة «منهج الاتفاق». كان جميع الضحايا سيئو الحظ مشتركين في شيء واحد؛ أنهم أكلوا طبق الدجاج. يقدِّم ميل عددًا من أساليب الإقصاء، بما في ذلك «منهج الافتراق». إن المبادئ «البيكونية» الحقيقية تعمل عن طريق الإقصاء كما أقر هِيكل وهَكسلي وميل؛ فقد كان منتقدو داروين مخطئين. لنتناول قوة الإقصاء.

(٦-٣) بعض مبادئ الإقصاء

هل كَدَّسَ داروين حقيقة فوق حقيقة، أم أنها كانت حقيقة فوق نظرية؟ (جيزلين، «انتصار الطريقة الداروينية» (١٩٦٩)، ٢٣٢)

ادعى داروين في سيرته الذاتية أنه قام بعمله وفق مبادئ استقرائية حقيقية: «يبدو أن عقلي قد أصبح نوعًا من آلات استخلاص القوانين العامة من مجموعات الحقائق الكبيرة (…)» (داروين ١٩٥٨، ٥٤؛ هَكسلي ١٩٠٧، الفصل العاشر، ٢٨٤). في الواقع، اتبع داروين مبادئ «بيكونية» حقيقية. لم يكن الاستقراء يعني بالنسبة لبيكون ولا لميل فعليًّا استقراءً بسيطًا بالإحصاء؛ فالاستقراء مسألة ذات حدَّين: ففي حين أنه يدعم نموذجًا ما، فإنه ينفي في الوقت نفسه نموذجًا منافسًا. وهذا يُسمى «الاستقراء الإقصائي» (نورتون ١٩٩٤، ١٩٩٥؛ فاينرت ٢٠٠٠). توجد لدينا ظاهرة «ظ». في كثير من الأحيان في تاريخ العلوم تقدِّم نماذج التفسير المتنافسة تفسيراتٍ لهذه الظاهرة. ما النموذج الصحيح؟ لنفترض أن «ظ» هي وقوع جريمة وحشية، كما هي الحال في رواية لي هاربر «أن تقتل طائرًا بريئًا». قبل أن يجمع المحققون الأدلة حول «ظ»، فإن أي إنسان حي على الأرض يمكن منطقيًّا أن يكون الجاني، ولكن سرعان ما تبدأ الأدلة في إقصاء أعداد هائلة من المشتبه بهم المحتملين. حدثت «ظ» في مكان معين، «ك١»، وفي وقت معين «ق١». تستبعد الحقائق الأولية الغالبية العظمى من الجناة المحتملين؛ ففي «ق١» كان معظمهم في موقع آخر «ك٢». وتزداد الأدلة دقة. وبعد مرور فترة قصيرة، لا يتبقى في القائمة سوى أسماء قليلة. لنفترض أن اثنين من المشتبه بهم، «ش١» و«ش٢»، لا يزالان في القائمة. سيحاول المحققون جعل الأدلة دقيقة بحيث تشير على نحو مؤكد إلى «ش١» أو «ش٢». ولنفترض أن أدلة الحمض النووي ربطت المشتبه به «ش١» بالجريمة. يجعل هذا «ش١» المشتبه به الرئيسي ويقلل من احتمال أن يكون «ش٢» ارتكب الجريمة. إن إجراءات العلماء لا تختلف كثيرًا عن عمل المحققين؛ فالعالِم مثل المحقق الذي يرغب في ربط الأدلة المتاحة — على نحو مفضل — بنموذج واحد من النماذج التفسيرية. يجب أن تحدد قيمة الأدلة احتمالية التفسير. ويمكننا أن نستنتج مصداقية النموذج التفسيري من مدى قوة إشارة الأدلة إليه.
من أين تأتي الأدلة؟ تأتي من المشاهدات، كما هي الحال لدى كوبرنيكوس وداروين، وقد تأتي من التجارب المعملية. وربما تقدِّم المبادئ الفيزيائية أيضًا أدلة. تخبرنا الفيزياء أنه لا يمكن أن توجد «حركة أبدية»، وأنه لا يمكن لأي مادة أن تتحرك بسرعة أكبر من سرعة الضوء. من أين تأتي هذه النماذج؟ ربما جرى التوصل إليها من خلال خطوات استقرائية بسيطة؛ من خلال فرضية أو تخمين. وبمجرد توافر النماذج، فإننا نحتاج إلى أدلة لها القدرة على دعم أحد النماذج أكثر من منافسيه. كان بيكون على دراية تامة بإجراءات الإقصاء تلك. فبعد أن رفض الاستقراء بالإحصاء ووصفه بأنه «طفولي»، شرع في تحديد تفسير أكثر إيجابية:

ولكن الاستقراء، الذي ينبغي أن يكون متاحًا لاستكشافات العلوم والفنون وإثباتها، يجب أن يحلل الطبيعة من خلال الرفض والاستثناء المناسبَين؛ ثم بعد عدد كافٍ من النتائج السلبية، يتوصل إلى استنتاج بشأن الحالات الإيجابية … (بيكون ١٦٢٠، الكتاب الأول)

ويذكرنا ميل بأنه يجب علينا تكرار التجارب والمشاهدات لاستبعاد أخطاء الرصد أو القياس. ويجب أن تكون نتائجنا التجريبية والرصدية موثوقة، ولكن بمجرد فعل ذلك،

فإن تكرار الحالات، الذي لا يستبعد أي ظروف أخرى، لا طائل منه تمامًا … (ميل ١٨٤٣، الكتاب الثالث، الفصل العاشر)

ولكن الرفض والإقصاء وحدهما لن يحققا ذلك؛ فنحن مهتمون ببعض النماذج العاملة، التي يمكنها التوافق على نحو كافٍ مع الأدلة. إذا قوضت مصداقية أحد النماذج التفسيرية، يجب أن تُثبت الأدلة نفسها النموذج المنافس. ماذا يعني القول إن نموذجًا يمكنه أن «يتوافق» مع الأدلة؟

يجب أن نناقش أربع سمات أساسية للاستقراء الإقصائي: (١) التمييز بين الأدلة الإيجابية والداعمة، و(٢) استكشاف فضاء الاحتمالات، و(٣) التمييز بين النماذج البديلة والمنافسة، و(٤) ملاءمة الحقائق المعروفة مقابل التنبؤ بالحقائق الجديدة.

(٦-٤) السمات الأساسية للاستقراء الإقصائي

  • (١)

    غالبًا ما تميز المناقشات الحديثة بين الأدلة أو الحالات «الإيجابية» و«الداعمة». الأدلة «الإيجابية» هي نتيجة استقرائية لبعض النماذج التفسيرية المتنافسة. وتنبع الحالات الإيجابية استقرائيًّا من مبادئ نظرية ما. وعلى العكس من ذلك، تأتي الأدلة «الداعمة» على نحو مثالي في شكل تنبؤات جديدة، تتفق مع نموذج واحد فقط من النماذج المتنافسة. تُشكِّل الحالات الداعمة اختبارات للنظريات المتنافسة. ربما تتخذ أيضًا شكل التوفيق الناجح للحقائق المعروفة في إطار عمل أحد النماذج، بينما تقاوم هذا الاندماج في النموذج الآخر. واحتكم بيكون للتجارب الحاسمة التي تقف عند مفترق الطرق بين أي تفسيرين متعارضين (بيكون ١٦٢٠، الكتاب الثاني). فهذه التجارب تمتلك القدرة على التأثير في الحجة لصالح أحد التفسيرين على حساب التفسير الآخر. طبق بيكون هذا على الفرضية الكوبرنيكة؛ هل كان دوران الأرض حقيقيًّا أم ظاهريًّا. فاقترح نتائج تجريبية عديدة قابلة للاختبار، يمكن أن تقر — على سبيل المثال — بمركزية الأرض أو بمركزية الشمس. تدبر بعض الأمثلة:

    الحالات الإيجابية لكل من مركزية الأرض ومركزية الشمس هي الحركة المنتظمة للكواكب وسلوك الأجسام على الأرض. أما الحالات الإيجابية لكل من اللاهوت الطبيعي والداروينية فهي تنوُّع الأنواع وبعض السجلات الحفرية. وتتوافق الحالات الإيجابية مع الإطار المنطقي للنماذج المتنافسة؛ فهي لا توزع قيم الاحتمال على نحو غير متساوٍ على هذه النماذج، وهذا يخلق صعوبة تفسيرية شديدة. فلو كان يوجد نماذج متنافسة تدعي تفسير الظواهر، رغم الأدلة المتاحة، فلن يكون لدينا أي تفسير على الإطلاق. إذا كان يمكن تفسير جميع الظواهر الأرضية من خلال مركزية الأرض أو مركزية الشمس على حد سواء، وإذا كان يمكن تفسير جميع الظواهر البيولوجية على نحو متساوٍ باستخدام نظرية الخلق الخاص ومبدأ الانتقاء الطبيعي، فلن يكون لدينا حقًّا أي تفسير نقدمه؛ فالنظام الشمسي لا يمكن أن يكون أرضي المَركز وشمسي المَركز في الوقت نفسه، ولا يمكن أن تكون الأنواع ناتجة عن الخلق والتطور في الوقت ذاته. إننا نعلم على وجه اليقين أن النظام الشمسي شمسي المَركز، وهذا يجعل مركزية الأرض غير متفقة مع الحقائق. ومعظم علماء الأحياء واثقون إلى حدٍّ ما من أن الأنواع قد تطورت، وهذا يجعل نظرية الخلق غير قابلة للتصديق؛ فعلى غرار المحقق تمامًا، يحتاج العالِم إلى أدلة تشير نحو نموذج واحد وتنأى به عن منافسيه.

    تلعب الأدلة الداعمة دورًا مزدوجًا يتمثل في التأكيد والدحض. وكما أكد بيكون، فإن التجارب الحاسمة يمكن أن تزيد من مصداقية نموذج ما على حساب النموذج المنافس له. ويمكن أن يلعب رصد الحقائق الجديدة دورًا مماثلًا. في تاريخ مركزية الشمس، كانت هذه الأدلة الداعمة تدعم بشدة الفرضية الكوبرنيكية؛ فقد كان رصد براهي للمذنَّبات والمستعرات العظمى، ورصد جاليليو لأقمار المشتري، والتنبؤ المشترك بين آدامز وليفيريه بوجود نبتون (١٨٤٦) يتفق مع الكوبرنيكية وليس مع مركزية الأرض. كما أيدت الأدلة الداعمة نظرية داروين للانتخاب الطبيعي ضد التفسيرات المنافسة؛ مثل اكتشاف الأنواع البشرية والحيوانية المنقرضة في السجل الحفري، والتشابهات التشريحية بين القِرَدة الشبيهة بالبشر والإنسان، والتشابه في التطور الجنيني، وتنوع الأنواع في توزيعها البيولوجي الجغرافي.

    من المهم إدراك أن النموذج الباقي على قيد الحياة هو النموذج الأنسب المتاح فيما يتعلق بالأدلة المتاحة. لا يلزم أن يكون النموذج الصحيح. ومهما كانت ما تعنيه الصحة، من الصعب جدًّا على النظريات العلمية تجنب التجريدات والمثاليات. وليس من الممكن الوصول إلى نظريات علمية معقدة عن طريق استقراء بالإحصاء بسيط. فجميع النظريات تخمينية، ومن وجهة نظر منطقية، ربما يوجد عدد لا حصر له من النظريات. يجب أن نكون دائمًا على دراية بفضاء الاحتمالات؛ أي فضاء النماذج الممكنة والفعلية، التي يمكن — على نحو متساوٍ — أن تفسر الأدلة. من ناحية أخرى، في تاريخ العلم لم تُتح نماذج متنافسة في الوقت ذاته إلا بعدد قليل. واجهت مركزية الشمس مركزية الأرض وبعض التنويعات الأخرى. وواجهت الداروينية نماذج التصميم، وبعض النماذج التطورية البديلة. كيف يمكننا أن نفسر ندرة النماذج في الممارسة العملية؟

  • (٢)
    لنتصور «فضاءً من الاحتمالات». يشكل هذا الفضاء من الاحتمالات فضاءً منطقيًّا أو مقيِّدًا؛ لأنه يحتضن نماذج فعلية وغير فعلية. تخيَّل الفضاء المقيد كشبكة مجرَّدة تتضمن خلايا تنتظم في صفوف وأعمدة. يمكن اعتبار المخططات الملونة من مصنع الدهانات فضاءات منطقية. يوجد، على سبيل المثال، العديد من الخلايا الملونة بدرجات اللون الأصفر. ربما لا تكون هذه الدرجات هي جميع الدرجات الصفراء التي يمكن تصنيعها. وفي الواقع تُقدَّم درجات جديدة في كل موسم. يحتوي المخطط الأصفر على مساحة للعديد من درجات اللون الأصفر، ولكنه يستبعد جميع درجات الألوان الأخرى؛ فهي تنتمي إلى فضاء منطقي مختلف. يُسمح بدخول بعض العناصر لأحد الفضاءات المقيدة ولكن لا تدخلها كلها. إن اللوحة الكبيرة ذات الثقوب المثلثة والمستطيلة تسمح بمرور المثلثات والمستطيلات الأصغر من فتحاتها. وسوف تُحْظَر جميع الأشكال الأخرى التي يتجاوز حجمها حجمًا معينًا. يمكن أن نفكر في «القيود» على أنها تحدد هذه الفضاءات المنطقية. انظر للقيود مرة أخرى على أنها شروط تقييدية من النوع التجريبي والنظري. إنها تؤدي دور «حراس المرمى». تسمح القيود لبعض العوامل المتغيرة بالدخول إلى النطاق مع استبعاد العوامل الأخرى. ويوضح إجراء اختيار بسيط في مدينة الملاهي قوة القيود. إذا لم يكن طولك يصل لارتفاع معين h، فإنك صغير لدرجة تمنعك دخول اللعبة. هذا قيد تجريبي. وثمة قيود نظرية أيضًا؛ فإذا لم تتمكن من حل المعادلات التفاضلية، فإن حياتك المهنية كفيزيائي سوف تكون قصيرة. تخيَّل القيود كرسم حدود حول الفضاءات المقيدة (انظر الفصل الأول، القسم ٦-٤، ب).
  • (٣)

    يمكننا أن نستخدم القيود للقيام بتمييز ضروري في فضاء النماذج المقيد. تحدثنا حتى الآن بحرية عن النماذج المتنافسة، دون تحديد هل كانت «بدائل» أم «منافسة». في مجال مفاهيمي ما ستكون بعض النماذج ليست إلا بدائل، وفي مجالات أخرى ستكون منافسة حقيقية. و«النماذج البديلة» متنافسة ولكنها متوافقة منطقيًّا؛ لأنها تشترك في قيود متماثلة. وغالبًا ما تفي «التفسيرات المتنافسة» بقيود متباينة ولا تشترك إلا في بعض الفرضيات المتداخلة. على سبيل المثال، جميع نماذج مركزية الشمس منافسة لنماذج مركزية الأرض. جميع نماذج التطور غير الغائية منافسة لنظريات التطور الغائية. وجميعها تنتمي إلى فضاءات مقيدة مختلفة. وتضع القيود، التي تحدد هذه الفضاءات، معايير مختلفة للعضوية فيها. والتفكير في الموقف في سياق التنافس له ميزة مباشرة. فوجود مجموعة معينة من القيود لا يُقصي نظرية تفسيرية واحدة فحسب، بل فئة كاملة من النظريات التفسيرية المتنافسة بضربة واحدة. على سبيل المثال، التأكيد على مركزية الشمس يلغي جميع نظريات مركزية الأرض؛ فالبنية الجبرية الطوبولوجية لمركزية الشمس غير متوافقة مع البنية الجبرية الطوبولوجية لمركزية الأرض. بعبارة أخرى، إذا كان نظام الكواكب الشمسي المَركز وتحكمه قوانين نيوتن، فإنه لا يمكن لنظرية أرضية المَركز أن تفي بالقيود التي يفرضها نظام كوكبي شمسي المَركز. ونظريات التطور الداروينية تلغي جميع النظريات الغائية، سواء كانت في شكل حجج التصميم أو التطور التدريجي؛ فالبنية الجبرية الطوبولوجية للتاريخ الدارويني لا تتوافق مع النظريات الغائية. تكمن البنية الطوبولوجية في نموذج التطور التفرُّعي، والبنية الجبرية في آلية الانتقاء الطبيعي. وهذا يعني أنه إذا كان التطور مدفوعًا بالانتقاء الطبيعي، فإن هذا لا يمكن توفيقه مع أي فكرة للتصميم أو التطور التدريجي؛ فالنماذج المتنافسة غير متوافقة منطقيًّا، وهي غير متوافقة لأنها تقع في فضاءات مقيدة مختلفة.

    قلنا إنه اعتمادًا على القيود العاملة، فإنها تُشكِّل فضاءات مقيدة مختلفة. ويمكننا استخدام الكوبرنيكية والداروينية لتقديم توضيحات للفضاءات المقيدة والنماذج المتنافسة والبديلة. تتفق اللاماركية والداروينية على عدم ثبات الأنواع، ولكنهما تختلفان بشأن الطبيعة الغائية للتطور وآلية الانتقاء. ويتفق كبلر وكوبرنيكوس على الموضع المركزي للشمس ولكن يختلفان بشأن شكل مدارات الكواكب. ويمكن اعتبار الدائرة — بعد تجريدها من أغلفتها الميتافيزيقية — بمنزلة إصباغ للمثالية الرياضية على المدار الإهليجي. إن النماذج الكوبرنيكية نماذج «بديلة». والنماذج الكوبرنيكية الناضجة تتعارض جذريًّا مع النموذج البطلمي؛ لأنها لا تشترك معها في البنية الجبرية والطوبولوجية نفسها، ومن ثَمَّ ليست لها القيود نفسها. إنها نماذج متنافسة، وليست نماذج بديلة. أما نموذج لامارك التطوري فهو منافس «بديل» لنموذج داروين التطوري؛ لأنهما يتفقان على تنوُّع الأنواع، ولكن النماذج التطورية تختلف جذريًّا عن نماذج التصميم الغائي؛ وهي متنافسة، وليست بدائل.١٥

    ثمة معيار مفيد لتحديد هل كان النموذجان بديلين أم متنافسين، وهو يكمن في درجة التغيير المسموح به. يمكن تعديل النظام اللاماركي والنماذج الكوبرنيكية. وما عُدِّل في كلتا الحالتين كان البنية الجبرية: من الوراثة فوق الجينية إلى الانتقاء الطبيعي، ومن المدارات الدائرية إلى الإهليجية. في حالة النماذج الكوبرنيكية، لم يؤثر هذا التغيير على البنية الطوبولوجية الشمسية المركز، ولكنه كان يعني تحويل الدائرة من أداة ميتافيزيقية إلى أداة رياضية. وفي حالة النماذج اللاماركية، أدى التغيير في البنية الجبرية إلى تغيير في البنية الطوبولوجية، من التطور الخطي إلى التطور التفرُّعي، ولكن لا يمكن تعديل نماذج التصميم ومركزية الأرض بهذه الطريقة؛ فكلتا بنيتيها الطوبولوجية والجبرية تتعارضان مع تبنِّي الانتقاء الطبيعي والمدارات الإهليجية على الترتيب، رغم الأدلة المتاحة.

    عندما نفكر في فضاء الاحتمال، يجبرنا المنطق على اعتباره لا ينضب؛ فيمكننا دائمًا إجراء تغييرات على النماذج الحالية لإنشاء نماذج محتملة جديدة. عمليًّا، يعمل العلم دائمًا مع مجموعة محدودة من النماذج المتاحة. وعندما ننخرط في استقراء إقصائي، فإننا نستخدم البيانات التجريبية، والنتائج الفيزيائية الرياضية، والفرضيات الميتافيزيقية، والمعتقدات المنهجية كقيود لتوجيه اختيارنا. لقد رأينا كيف يضع استدلال التصميم أو نماذج التطور أمامنا خيارًا فلسفيًّا؛ وهو أن نضع ثقتنا في نظرية التطور أو نماذج التصميم. ويعني وضع الثقة في نظرية التطور اعتناق مذهب الطبيعانية. ويشمل هذا التعبير عن الثقة والأمل في أن تُحَل المشكلات المعلقة في المستقبل. وتعني الثقة في نماذج التصميم إعلان أن الانتقاء الطبيعي غير قادر على تفسير التعقيد وعدم احتمالية البنى. الأمل هو أن استدلال التصميم من النظام سوف ينال الاحترام على المستوى العلمي. وبينما نستبعد نموذجًا واحدًا لصالح نموذج منافس له — لنفترض أننا نستبعد سلسلة الوجود الكبرى لصالح التحدر مع التعديل — فإننا نستبعد فئة كاملة من النماذج المنافسة، مثلًا كل تلك النماذج التي تفترض ثبات الأنواع. إننا نستبعد فئة، وليس نماذج فردية منافسة وحسب؛ لأن جميع النماذج في هذه الفئة (المحتملة والفعلية) تخالف القيود الموضوعة. وهذا يترك لنا فئة من النماذج البديلة، ولكنها ليست مُهدِّدَة على نحو خاص؛ لأنها تتشارك في عدد كبير من القيود. وفي كثير من الأحيان يمكن فرزها وفق مقياس من المعقولية مع اكتشاف أدلة جديدة.

  • (٤)

    تُمثِّل «الملاءمة» إحدى المشكلات المقلقة. غالبًا ما يوافق الفلاسفة على أن التنبؤات الجديدة تُشكِّل أنقى أنواع الاختبارات التي يمكن أن تتعرض لها النماذج التفسيرية. وكثيرًا ما يُنظر للملاءمة بعين الشك. يُخشى أن تُبنى النماذج مع وضع الحقائق المعروفة في الاعتبار، مما يعرضها إلى نقيصة الظرفية (سيلوس ١٩٩٩، الفصل الخامس؛ هوسون/وورباخ ١٩٩٣، ١٤٧–١٦٠). على سبيل المثال، عندما واجه داروين حجة الرابط المفقود، أجاب بادعاء أن السجل الحفري كان فقيرًا جدًّا. في عصر داروين كان هذا الدفاع ملائمًا لهذا الوقت وحسب، وقد حمى نموذج داروين من الاعتراضات الخطيرة. لحسن حظ داروين، تحسَّن السجل الحفري، وأزال حجة الرابط المفقود، ومع ذلك، فإن ملاءمة النماذج مع الأدلة الموجودة والمعروفة دائمًا ما يسبب مشكلات خاصة، كما سيوضح تحليلنا للفرويدية لاحقًا. ومع هذا، ثمة أمثلة مشهورة للملاءمة في تاريخ العلم. كان تقدُّم الحضيض الشمسي لعطارد معروفًا بالنسبة للفيزياء الكلاسيكية ولكن لا يمكن تفسيره في النموذج النيوتوني. الحضيض الشمسي هو أقرب نقطة في مدار الكوكب إلى الشمس. في حالة عطارد، تتقدم هذه النقطة على مدى فترة من الزمن؛ فبدلًا من عودة الحضيض دائمًا إلى نفس النقطة بعد المدار السنوي، يشكل مدار عطارد نمطًا يشبه الوردة. تمكن أينشتاين من استيعاب هذه المشكلة داخل نظريته النسبية العامة (١٩١٦). وعندما بنى نيلز بور نموذجه الشهير لذرة الهيدروجين (١٩١٣)، بناه بحيث يتلاءم مع العديد من الظواهر الذرية المعروفة في ذلك الوقت: تجارب التشتت، وتمايز الأطياف الذرية. لم يقدِّم كوبرنيكوس تنبؤًا واحدًا جديدًا، ولا داروين. كان عملهما هو تحقيق التوافق مع عدد ضخم من المشاهدات؛ فوفَّرَا إطارًا متسقًا تكون فيه المشاهدات منطقية. ومثل هذه الحالات من الملاءمة لا تسبب المشكلات لسببين: (١) في جميع هذه الحالات قُدمت النماذج الجديدة على خلفية النظريات المنافسة. فإذا كان النموذج يفسر حقيقة معروفة، تهدد اتساق نموذج منافس، فإن الملاءمة لا تُشكِّل خطرًا جسيمًا. لقد واجهنا عدة أمثلة؛ فالكوبرنيكية تفسر على نحو طبيعي الحركة القهقرية، التي أجبرت مركزية الأرض على تبنِّي حل غير طبيعي. والداروينية تفسر بأناقة تنوُّع الأنواع، الذي أجبر حجج التصميم على تبنِّي العديد من أعمال الخلق. (٢) كان لهذه النظريات نتائج قابلة للاختبار، حتى لو كانت تعاني قصورًا في التنبؤات الجديدة. بمجرد أن توفر النظرية إطارًا متسقًا للحقائق المعروفة، تتبعها النتائج الاستنتاجية والاستقرائية. إنها لا تمتلك تأثير التنبؤات الجديدة، ولكنها، رغم ذلك، ربما تعزز الدعم التجريبي للنظرية. تستطيع الكوبرنيكية تفسير تعاقُب فصول السنة، كنتيجة استنتاجية لبنيتها. وينتج تفسير عصور الإنسان القديمة على نحو طبيعي من التحدر مع التعديل.

ميزنا بين أربع سمات أساسية للاستقراء الإقصائي. كان النموذج الكوبرنيكي والدارويني جيدًّا للغاية في هذا الصدد. وتستطيع النظرية الكوبرنيكية، من بين أمور أخرى، تقديم تقدير دقيق للترتيب النسبي للكواكب من الشمس. ويمكن للنظرية الداروينية، من بين أمور أخرى، تفسير تكيف الأنواع مع بيئاتها المحلية. هذه النتائج الاستنتاجية والاستقرائية تعزز التوحيد، وينبغي اعتبارها دليلًا داعمًا. استكشف كوبرنيكوس وداروين كلاهما النماذج المنافسة لنموذجيهما، لكنهما رأيَا أن فضاء الاحتمالات استنفده المنافسون. سعى كوبرنيكوس إلى دحض مركزية الأرض، وكان داروين مشغولًا في الغالب باستكشاف نقاط ضعف نظرية الخلق المنفصل. بالنظر إلى السمات الجبرية والطوبولوجية لمركزية الشمس ومركزية الأرض، من السهل تمامًا التمييز بين النماذج المنافسة والنماذج البديلة. وبالنظر إلى العملية الجبرية للانتقاء الطبيعي في الداروينية، مقابل الانتقاء الإلهي في اللاهوت الطبيعي، من السهل مرة أخرى التمييز بين المنافسين والبدائل. واقترحنا، كمعيار، درجة التغيير المقبول في نموذج ما في ضوء الأدلة. لقد كان الكوبرنيكيون والداروينيون منشغلين بملاءمة الحقائق المعروفة على نحو أكبر بكثير من انشغالهم بتقديم تنبؤات جديدة.

(٦-٥) قابلية الدحض أم قابلية الاختبار؟

قَبِلَ بوبر تمامًا انتقاد هيوم للاستقراء البسيط؛ الاستقراء بالإحصاء. لا يوجد دليل منطقي على أنه يحق لنا أن نستنتج من رصد بعض حالات «ص» العبارة العامة «جميع ص» كما أنه لا يوجد دليل تجريبي. ولا يمكننا أن نستنتج من نجاح ممارساتنا الاستقرائية في الماضي نجاحها في المستقبل؛ لأن هذا يفترض مسبقًا نفس مبدأ الاستقراء، الذي نهدف إلى إثباته. وخلص بوبر من هذه الحالة إلى أنه من المستحيل إثبات حقيقة نظرية علمية عامة على أساس عدد محدود من المشاهدات. فلا يمكن استخلاص النظريات العامة في العلم من خلال الاستدلال الاستقرائي. قَلَب بوبر هذه الحالة. فلا يمكننا التحقق من حقيقة نظرية عامة عن طريق المشاهدات أو التجربة، ولكن يمكننا أن نظهر على الأقل أن نظرية ما خاطئة. فإذا طُرحت نظرية عامة في صورة قد تتناقض مع بعض المشاهدات، التي استُخلصت منها، فإننا عندئذٍ لدينا سبب للاعتقاد بأن النظرية خاطئة. هذا هو الاختلاف بين الإثبات والدحض. فلا يمكن إثبات النظرية العلمية ولكن يمكن دحضها؛ فالنظرية تُدحَض عندما تتعارض إحدى نتائجها الاستنتاجية مع اكتشافاتنا التجريبية بشأن العالم (بوبر ١٩٥٩؛ ١٩٦٣؛ ١٩٧٣). يُعد قانون كبلر الأول للمدارات الكوكبية الإهليجية اكتشافًا يدحض فرضية المدارات الدائرية في نظرية مركزية الأرض ونظرية مركزية الشمس الكوبرنيكية. وفي الوقت نفسه يشكل رفضًا لمركزية الأرض وتعديلًا لمركزية الشمس؛ لأن المدارات الإهليجية تضع الشمس كنقطة محورية. وتتناقض اكتشافات الحفريات في القرن التاسع عشر مع ثبات الأنواع في النظريات غير التطورية. وفي الوقت نفسه تُمثِّل رفضًا ﻟ «سلسلة الوجود الكبرى» وتعديلًا للنظريات التطورية السابقة لأنها ظلت ملتزمة بالغائية.

ادعى بوبر أنه استبعد الممارسات الاستقرائية في العلم نهائيًّا، وقد خلق تأثير بوبر الشديد على فلسفة العلوم في القرن العشرين انطباعًا بأن الممارسات الاستقرائية أحداث غير مهمة في تاريخ العلم، في حين أن الممارسات الاستدلالية هي القاعدة. كان بوبر معجبًا للغاية بالنظرية النسبية لأينشتاين؛ فقد كانت تخمينًا جيدًا مبتكرًا بحرِّية أدى إلى ثلاثة تنبؤات دقيقة قابلة للاختبار (تقدَّم الحضيض الشمسي لعطارد، وانزياح الضوء نحو الأحمر في مجالات الجاذبية، وانحناء الضوء بالقرب من الأجسام الجاذبة)، ولكن دراستنا للكوبرنيكية والداروينية أقنعتنا بأن الممارسات الاستقرائية منتشرة في العلوم، ولكنها تتخذ صورة الاستقراء الإقصائي بدلًا من الاستقراء بالإحصاء. وردَّ الفيزيائي ستيفن واينبرج على هيمنة الدحض بطريقته الخاصة؛ فلم يجد حالة واحدة من الدحض «خلال المائة سنة الماضية» (واينبرج ١٩٩٣، ١٠٢). وإنصافًا لبوبر، ينبغي أن نتذكر أنه يتطلب قابلية دحض النظريات وليس دحضها الفعلي.

هل يجب أن نقرأ معيار بوبر بأنه قابلية للدحض أم قابلية للاختبار؟ فإذا أخذنا كلام بوبر حرفيًّا للغاية — فالإصرار على أن النظريات تكون علمية فقط إذا كانت قابلة للدحض — فسيقودنا هذا إلى استنتاجات غير متناسقة. فلا يمكن دحض العبارات العلمية المحترمة تمامًا بشأن استحالة وجود آلات دائمة الحركة. ولا يمكن دحض الأبحاث الكونية عن وجود المادة المظلمة. يستبعد معيار القابلية للدحض البحث بشأن الوجود الإيجابي لبعض الكيانات أو القوى، كما يجعل النظريات التي يعتبرها تاريخ العلوم علمية غير علمية. أراد علم الفلك البطلمي إنقاذ الظواهر من خلال البنى الهندسية الرائعة. ولم يكن يوجد التزام بحقيقة الأدوات الهندسية، ولا تنبؤات جديدة. فشل علم الفلك البطلمي كنظرية علمية وفق بوبر، ومع ذلك، فإنه يصنف كمنافس جاد ضمن نماذج الفلك الإغريقية؛ فقد تنبأ بالظواهر المعروفة ونظمها، ولم يصبح قابلًا للاختبار إلا على المدى الطويل. ما رَأْيُنا في نظريات مثل التنجيم والتحليل النفسي الفرويدي، التي يمكن أن تكون لها نتائج قابلة للدحض؟ إذا كان التنجيم ونظرية فرويد قابلَين للدحض من حيث المبدأ، من خلال تقديم تنبؤات يثبُت خطؤها، هل يجب أن نعتبرهما علميَّين؟ وماذا نفعل بشأن النظريات المعتمدة على النماذج، مثل ميكانيكا نيوتن، التي تواجه شذوذًا، مثل تقدُّم الحضيض الشمسي لعطارد؟ وقع تقدُّم الحضيض الشمسي لعطارد ضمن مجال نظرية نيوتن، ولكن لم يكن من الممكن تفسيره، ولم تُرفَض نظرية نيوتن بسبب هذا الفشل.

يفرض بوبر بعض القيود الصارمة على النظريات الجديدة التي تحل محل النظريات القديمة. يجب أن تقدِّم النظرية الجديدة تأكيدات أكثر دقة من النظرية القديمة؛ فيجب أن تفسر حقائق أكثر من النظرية القديمة ويجب أن تفسرها بمزيد من التفصيل، كما يجب أن تتخطى النظرية الجديدة الاختبارات التي فشلت فيها النظرية القديمة، ويجب أن تتخطى اختبارات جديدة، وكذلك يجب أن توحد النظرية الجديدة أيضًا الظواهر غير المرتبطة بعضها ببعض حتى لحظة تقديمها (بوبر ١٩٦٣، الفصل العاشر). وبوجه خاص، يجب أن تحدد النظرية العوامل التي تقيم العلاقات بينها. ويجب أن تكون العوامل والعلاقات قابلة للقياس الكمي. وكما رأينا، فإن هذه العلاقات القابلة للقياس الكمي بين العوامل غالبًا ما تُشكِّل أساس قوانين العلم. يتعذر على علم التنجيم الوفاء بهذا الشرط؛ إذ يمكن تحديد مواضع النجوم في السماء بدقة عددية، ولكن لا ينطبق الأمر نفسه على صفات الشخصية. ويجعل هذا الإخلال من الصعب قياس أي ارتباط مفترض بين صفات الشخصية ومواضع النجوم.

يمكننا تلخيص هذا المعيار تحت مسمى «قابلية الاختبار». يمكننا طرح قابلية الاختبار كوسيلة للإقصاء أو كنشاط «مقارِن» (انظر صوبر ١٩٩٩) فرغم كل شيء، تستند معايير بوبر على مقارنة بين النظرية القديمة والنظرية الجديدة. تحدث أسهل حالة عندما تقدِّم النظرية القديمة التنبؤ الأول وتقدم النظرية الجديدة تنبؤًا ثانيًا مختلفًا. وفق نظام بوبر، إذا لم يحدث التنبؤ الثاني، تُعتبر النظرية الجديدة مُدْحَضة، وتُؤكَّد النظرية القديمة لو رُصد التنبؤ الأول، لكن ماذا يحدث لو قدَّمت النظرية القديمة والنظرية الجديدة التنبؤ نفسه — مثلًا تنبؤ يتعلق بحركة المريخ — وكانت النظرية القديمة والنظرية الجديدة تستندان إلى مبادئ مختلفة على الترتيب؟ وفقًا للاستقراء الإقصائي، تُعتبر هذه التأكيدات إيجابية ولكن ليست دليلًا داعمًا؛ فعلينا انتظار دليل داعم يميز بين النظريتين. إن نموذج بوبر التطوري للنمو المنطقي للمعرفة العلمية يملأ فضاء الاحتمالات بعدد من التفسيرات البديلة والمتنافسة؛ إذ يسمح بتنافس عدد من الحلول المؤقتة المعنية بمشكلة معينة، حتى تقصي عملية إزالة الأخطاء بعض الحلول المؤقتة، وتترك عددًا من الحلول المؤقتة الأكثر تعقيدًا التي تعالج في هذه اللحظة مشكلة أكثر دقة. في نقده لقابلية الدحض، أكد كون أيضًا على الحاجة إلى عدد من النظريات المنافسة يُختار بينها وفقًا لمعايير معينة (هوينينج-هين ١٩٩٣). وتخبرنا طريقة الاستقراء الإقصائي عن النماذج التي ينبغي أن نعتبرها الأفضل من حيث القوة التفسيرية وفي ضوء الأدلة المتاحة. فنتوقع أن النموذج الباقي لن يصف الظاهرة وحسب، ولكن يفسرها أيضًا. وينبغي أن يسمح لنا باستخلاص ظواهر جديدة أو ملاءمة حقائق معروفة. وبمجرد أن تختار طريقة الاستقراء الإقصائي نموذجًا كأفضل مرشح للتعامل مع الأدلة المتاحة، يُطرح هذا السؤال: كيف يفسر النموذج الدليل؟ ما التفسير العلمي؟ يمكننا الإجابة على هذا السؤال بأفضل طريقة من خلال دراسة بعض نماذج التفسير.

(٦-٦) التفسير والتنبؤ

تُفسَّر الظاهرة عندما يتبين أنها إحدى حالات قانون عام للطبيعة (…). (هَكسلي، «أصل الأنواع» (١٨٦٠)، ٥٧)

هل أنت راصد صبور؟ تخيَّل أنك تعيش بجانب البحر ويُثار فضولك بشأن نمط المد والجزر، فتقرر أن تضع جداول تُدخِل فيها أوقات انحسار وارتفاع المياه. بعد فترة من الوقت سوف تميز بلا شك النمط وتقدم تنبؤات بشأن المد العالي المقبل. ربما لا تكون توقعاتك دقيقة لدرجة تحديد الدقيقة والثانية، ولكنك ستكون قادرًا على التنبؤ بالمد والجزر بدقة كافية لا يصل هامش الخطأ فيها إلى ساعات. تشعر بالتشجيع بسبب نجاحك، فتحول انتباهك إلى القمر. ترصد مراحل القمر، وترسم أفضل ما تستطيع من رسومات. تلاحظ أن الأمر يستغرق حوالي ٢٨ يومًا بين البدرين. وخلال فترة قصيرة، تكون قادرًا على التنبؤ بمراحل القمر مع هامش خطأ مقبول.

يمكنك التنبؤ بمراحل القمر والمد والجزر. هل هذا يعني أنه يمكنك تفسيرها؟ بالتأكيد لا! كونك قادرًا على التنبؤ لا يعني كونك قادرًا على التفسير، وكونك قادرًا على التفسير لا يعني بالضرورة أن تكون قادرًا على التنبؤ.

تسمح لك النتائج المجدولة لمراحل القمر والمد والجزر بتقديم تنبؤات دقيقة إلى حد ما. ربما لا يكون لديك أي فكرة عن كيفية نشأة هذه الظواهر الطبيعية. لست وحدك في هذا الأمر. لقد تنبأ الإغريق القدماء بحركات الكواكب بدقة تبلغ نحو ٥ بالمائة من القيم الحديثة. كان لدى الإغريق نموذج «تفسيري» استندت إليه توقعاتهم، ولكن نموذجهم — نموذج مركزية الأرض — كان خاطئًا. فليس العالم المادي أرضي المَركز. كان الإغريق قادرين على تقديم تنبؤات جيدة ولكن كان لديهم تفسير خاطئ تمامًا. ومن خلال نموذج مركزية الشمس، اقترب التنبؤ والتفسير أحدهما من الآخر. تُعد مركزية الشمس الكوبرنيكية تقريبًا جيدًا للبنية الطوبولوجية للنظام الكوكبي، ولكن البنية الجبرية خاطئة. وظل كوبرنيكوس يعمل ضمن نموذج الحركة الدائرية المثالية الإغريقي، ومع ذلك، فإن النموذج الكوبرنيكي استوفى بعض القيود المفروضة على الفضاء المنطقي الذي يقبع فيه. وفي هذا الفضاء المقيِّد، شهد عددًا من التحسينات المهمة التي ارتبطت بكلٍّ من كبلر وجاليليو ونيوتن. ومن خلال هذه الخطوات العملاقة، تحسنت البنية التفسيرية لنموذج مركزية الشمس على نحو كبير. وأظهر النموذج النيوتوني للنظام الشمسي بنية جبرية وطوبولوجية تتناسب مع بنية النظام المادي على نحو أفضل. وبهذا فقد قدَّم النموذج النيوتوني تفسيرًا جيدًا للنظام الكوكبي. وأدى ذلك إلى تحسين دقة التنبؤات بهذا النموذج الكوبرنيكي المتطور، وقد تُوِّج هذا النجاح بالتنبؤ بوجود كوكب جديد؛ وهو نبتون. حسب جون سي آدامز وجيه جيه لوفيرييه (١٨١١–١٨٧٧) من خلال الميكانيكا النيوتونية أن الاضطرابات الملحوظة في مدار أورانوس لا بد أن تعود إلى وجود كوكب آخر. وشرع يوهان جال (١٨١٢–١٩١٠) في برلين في البحث عن الجرم الجديد واكتشف كوكب نبتون في عام ١٨٤٦، ولكن استعصى تقدُّم الحضيض الشمسي لعطارد على أي تفسير نيوتوني له.

figure
صورة لجون سي آدامز (١٨١٩–١٨٩٢).

يميل المرء إلى الاعتقاد بأن الكفاية التفسيرية للنظرية سوف تؤدي إلى القدرة على التنبؤ، ولكن مثال علم الفلك يمكن أن يقودنا إلى اتجاه خاطئ. عندما يكون العالم معقدًا للغاية فإن توافر مبادئ تفسيرية جيدة لا يضمن استقاء تنبؤات جيدة. فإذا كنت راصدًا جيدًا لمراحل القمر والمد والجزر، ربما تكون راصدًا جيدًا للحالات المزاجية البشرية. ثمة زميل لك يتمتع بود غامر لا يقل عن أدبه الجمِّ، ولكنه تجاهلك بينما عبرت أمامه في الحرم الجامعي. وعلمت لاحقًا من صديق أن زميلك عانى نوبةً من الأخبار السيئة في ذلك اليوم بالذات. فقمت بوضع تفسير: كان في هذا المزاج السيئ حتى إنه لم يرغب في النظر إلى أي شخص، ناهيك عن التحدث مع أي شخص. هذا أمر مفهوم! لقد عزوت جفاء زميلك غير العادي إلى انزعاجه الشديد في ذلك اليوم. يمكنك التعاطف معه، كما يمكنك تفسير ذلك. هل يعني هذا أن بإمكانك التنبؤ بأن زميلك سيظهر الجفاء مرة أخرى إذا وصلته أخبار سيئة مرة أخرى؟ مستحيل! البشر معقدون للغاية حتى إنه يستحيل تقديم هذه الاستدلالات السهلة. ربما يكون زميلك في المرة التالية ودودًا للغاية عندما تعبر أمامه مرة أخرى وذلك لتوقه إلى نسيان الأخبار السيئة؛ لذلك من الممكن أن تفسر دون أن تكون قادرًا على التنبؤ.

بصورة ما، هذا هو موقف نظرية التطور الداروينية؛ فالتطور بالمعنى الدارويني هو نظرية إحصائية. وتتحدث نظرية الانتقاء الطبيعي عن «ميل» السمات المواتية إلى البقاء والسمات غير المواتية إلى الاختفاء. إن نجاح الأنواع — أي مجموعة من الأفراد — لا يعتمد وحسب على سماتها المواتية؛ فالسمات المواتية تعتمد على نوعية البيئة التي تنتمي إليها الكائنات. إن صلاحية الأنواع ناتجة عن البيئة التي تحاول الأنواع البقاء فيها على قيد الحياة والتكاثر؛ ولذلك من المستحيل التنبؤ بدقة كبيرة بمسار الأنواع خلال إحدى مراحل الحياة، ولكن بما أن النظرية التطورية نظرية إحصائية، فإنها قادرة على إصدار تنبؤات إحصائية. تشير التنبؤات الإحصائية إلى السلوك المستقبلي لمجموعات الأفراد وليس إلى أفراد المجموعة. وبمعنًى معين، من الصحيح أن نقول إن نظرية التطور يمكن أن تفسر ولكنها لا تتنبأ، ولكن بعد ذلك نطبق فكرة القدرة على التنبؤ الدقيق، وهي مستمدة من علم الفلك، حيث يمكن التنبؤ بمدار الأجرام الفردية بدقة كبيرة. يستطيع علم الفلك التنبؤ بالمستقبل والتنبؤ بالماضي، ولكن ينبغي ألا ننسى أن التنبؤات الإحصائية مصدر ثمين للمعلومات. يضع الاقتصاديون تنبؤات بشأن الأداء الاقتصادي لبلدان كاملة على مدى فترات محددة. ويضع علماء الاجتماع تنبؤات عن تأثير الظروف الاجتماعية على المعايير الصحية أو الأداء التعليمي لبعض الفئات العمرية. ويتنبأ متخصصو علم الإجرام بحدوث ارتفاعات في الجرائم الجنائية على الأقل خلال فترة زمنية محددة.

وبما أن التفكير في التجمعات السكانية هو النموذج السائد في علم الأحياء التطوري في الوقت الراهن، فمن المتوقع فقط أن يؤدي إلى تنبؤات إحصائية. تأمَّل نسبة هاردي-واينبرج (التي تنص على أنَّ تواترات الألائل وتواترات النمط الجيني تبقى ثابتة في التجمع): p2: 2pq: q2، حيث p وq تمثلان اثنتين من ألائل أحد الجينات في تجمع سكاني. ستبقى هذه النسبة بين السكان من جيل إلى جيل إذا لم يحدث تدخُّل من بعض العوامل. وربما تتمثل هذه التدخلات في فقدان جينات موجودة أو وصول جينات جديدة. فإذا حدث هذا فسوف تضطرب النسبة وقد يحدث التطور (انظر ماير ٢٠٠١، ٩٦-٩٧؛ فيشر ١٩٣٠، ٢٢؛ ويليامز ١٩٧٣؛ رايس/هوستيرت ١٩٩٣). على سبيل المثال، تأمَّل التأثير القابل للتنبؤ به الخاص بإدخال سناجب رمادية على مجموعة من السناجب الحمراء. سيكون تأثير الانتقاء الطبيعي أن يكون من المرجح أن تنخفض أعداد السناجب الحمراء. وستحدث تغيرات مماثلة في أعداد التجمع السكاني إذا حدثت تدخلات اصطناعية أو طبيعية في السلسلة الغذائية لأحد الأنواع. وتتعلق التنبؤات الأخرى بعملية الانتواع. لماذا تتشعب التجمعات السكانية وتتطور إلى سلالات مختلفة؟ يتنبأ أحد النماذج المُقْنِعَة بأن العزلة الجغرافية التي تقسم التجمع السكاني إلى مجموعتين فرعيتين يمكن أن يؤدي إلى تقسيم السلالة. ومن التبعات التنَبُّئية للانتواع التبايني وجود بعض الأشكال الانتقالية. وينبع وجود الأشكال الانتقالية من منطق حجة داروين. وكما ذكرنا سابقًا، وجد الباحثون في ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر بقايا لأشباه البشر، اختلفت قليلًا عن الإنسان الحديث. وتدعم هذه الأشكال الانتقالية المتماثلة فرضية التحدر مع التعديل، التي تُفهم هنا على أنها الانتواع التبايني. وأظهر اكتشاف البقايا الحفرية للطيور البدائية مثل «الأركيوبتركس» و«هيسبيرورنيس ريجاليس» مزيدًا من الأشكال الانتقالية، وقد كانت تشبه الزواحف في أحد الجوانب المهمة؛ إذ كان لديها أسنان قوية (هَكسلي ١٨٧٦، ٩٤–١١٣؛ ماير ٢٠٠١، ١٤، ٦٧؛ الشكل ٢-١١أ و٢-١١ب).

يؤدي نقاشنا إلى استنتاج أنه يوجد اختلاف معين بين التنبؤ والتفسير. من الناحية المثالية، تسمح لنا مبادئنا التفسيرية بوضع تنبؤات دقيقة، ولكن ثمة العديد من مجالات المعرفة البشرية لا توجد فيها هذه الحالة المثالية. فلا يمكننا أن نتنبأ دائمًا رغم قدرتنا على التفسير. ولا يمكننا التفسير دائمًا رغم قدرتنا على التنبؤ.

(٦-٧) بعض نماذج التفسير العلمي

تنعكس بعض نماذج التفسير العلمي الأكثر أهمية في النهج الكوبرنيكي والدارويني والفرويدي.

fig40
شكل ٢-١١: (أ) يبلغ طول «هيسبيرورنيس ريجاليس» خمس وست أقدام ويشبه الزواحف في الأسنان الناتئة (المصدر: تي إتش هَكسلي، «المقالات المجمعة»، المجلد الرابع (١٨٩٨)، ٩٦)؛ (ب) مقطع جانبي وعلوي لنصف الفك السفلي ﻟ «هيسبيرورنيس ريجاليس»، وكذلك صور للفقرة وسنة منفردة. (المصدر: تي إتش هَكسلي، «المقالات المجمعة»، المجلد الرابع (١٨٩٨)، ٩٧).

(أ) نماذج هيمبل

ما التفسير العلمي؟ يشتهر كارل هيمبل بنموذجَيْه للتفسير. قدَّم هيمبل النموذج الاستدلالي الطبيعي والنموذج الاستقرائي الإحصائي (هيمبل ١٩٦٥). وفقًا لهيمبل، يتمثل تفسير الظاهرة P في إدراجها تحت الحالة القياسية R. على نحو أكثر دقة، تتمثل فكرة هيمبل العامة في أننا نقدم تفسيرًا لحدث ما E، إذا كنا نستطيع إيضاح أنه يتبع قوانين عامة وشروطًا أولية إما استنتاجيًّا (استدلالي طبيعي) أو باحتمالية كبيرة (استقرائي إحصائي). يتكون أي مخطط تفسير من عنصرَيْن؛ الظاهرة التي ينبغي تفسيرها (أو «المُفَسَّر»)، والمبادئ التي تقدِّم التفسير (أو «الأسباب»). ويتألف التفسير نفسه من جزءَيْن: القوانين العامة والشروط الأولية. ويُعبَّر عن القوانين العامة بأشكال رمزية عامة (على سبيل المثال، قانون نيوتن الثاني F = ma). ومن أجل استخلاص المُفسَّر، نحتاج إلى إدراج قيم معينة في الصورة العامة. وتنبع هذه القيم المعينة من الشروط الأولية (على سبيل المثال، قيمة الكتلة والتسارع). ثم ينتج التفسير إما كنتيجة منطقية من السبب (النموذج الاستدلالي الطبيعي) أو باحتمال كبير (النموذج الاستقرائي الإحصائي). لنفترض أن P هي فترة دوران عطارد حول الشمس. P هي المُفسَّر. وفقًا للنموذج الاستدلالي الطبيعي لهيمبل، نفسر P من خلال إظهار أنها تقع تحت الأسباب. وفي هذه الحالة، تتكون الأسباب من قانون كبلر الثالث A3P2 (A هي متوسط المسافة بين الكوكب والشمس، وP هي فترة الكوكب، التي تُمثِّل المُفسَّر) والشروط الأولية المعينة (متوسط المسافة بين عطارد والشمس). تنبع قيمة P من الأسباب. ولنفترض أن R تُمثِّل تعافي شخص معين من العدوى بعد العلاج بالبنسلين. يمكننا تفسير هذا التعافي (المُفسَّر) من خلال معرفة (أ) أن ٩٥ بالمائة من المرضى الذين يعانون الالتهابات يستجيبون جيدًا للبنسلين، و(ب) يعاني مريضنا المذكور من عدوى يمكن معالجتها بالبنسلين (تُشكِّل (أ) و(ب) الأسباب). على النموذج الاستقرائي الإحصائي، كما هو مذكور في المخطط، من المرجح أن يتعافى المريض. وهذا هو تفسير إحصائي لسبب تحسن صحة المريض. ومن المفيد أن نفكر في العوامل المتغيرة المادية والقوانين العامة، التي تدخل المخططات التفسيرية، على أنها قابلة للقياس. القوانين هي حالة قياسية (دقيقة أو إحصائية) بشأن العالم الطبيعي. تحمل قوانين العلوم رموزًا للمعلومات البنيوية الخاصة بالعالم الطبيعي. اقتنع هيمبل بأن التفسير والتنبؤ متماثلان في ظل ظروف معينة. وبمجرد توافر القوانين العامة، تصبح أطروحة التماثل بين التفسير والتنبؤ مغرية؛ فنحن «نفسر» ظاهرة موجودة من خلال إظهار أن وقوعها الحالي يقع تحت القانون، و«نتنبأ» بظاهرة لا وجود لها حتى الآن من خلال اشتقاق حدوثها في المستقبل من القانون. و«نتنبأ» بماضي ظاهرة سبق أن حدثت من خلال اشتقاق حدوثها «الماضي» من القانون.

تعرضت نماذج هيمبل للانتقاد بشأن عدد من القضايا الخاصة، مثل التناظر بين التفسير والتنبؤ (أشينشتاين ١٩٨٥، ١٦٩–١٨١)، وافتراض أن الاحتمالية الكبيرة ضرورية وكافية للتفسير الإحصائي، والفكرة العامة التي مفادها أن إدراج الظاهرة تحت قانون ما يفسر هذه الظاهرة (انظر كيتشر/سالمون ١٩٨٩).

يمكن تقديم تفسيرات علمية لأحداث «معينة»، مثل ظهور المذنَّب هالي في ١٧٥٩ أو طفرة جين معين. وفي كثير من الأحيان يحاول العلم تفسير سمات «عامة» للعالم الطبيعي، مثل المدارات شبه البيضاوية للكواكب أو «أصل الأنواع». وتشير التفسيرات الأكثر عمومية إلى أن العلم لا يهتم حقًّا باستنباط أو استدلال أحداث معينة من القوانين العامة، كما يشير نموذج هيمبل، كما نستطيع أن نرى من الكوبرنيكية والداروينية، مهمة العلم هي تحديد البنيات الأكثر عمومية في العالم المادي: بنية النظام الكوكبي، وبنية العالم العضوي. تؤدي القوانين دورًا مهمًّا في تحديد مثل هذه البنيات. والنظم المادية هي مظاهر لهذه البنيات، وهي تتكون من عناصر، مثل كواكب النظام الشمسي، وعلاقاتها. وتُصوَّر الطريقة التي ترتبط بها المكونات معًا عن طريق قوانين العلم، مثل قوانين كبلر للكواكب. أبدى داروين تقديره لأهمية بنية النظم الطبيعية عندما قال: «بنية كل كائن عضوي ترتبط (…) بكافة الكائنات العضوية الأخرى» (داروين ١٨٥٩، ١٢٧؛ فاينرت ٢٠٠٤، الفصل ٢-٥، ١).

بما أن التفسير في العلوم الطبيعية والاجتماعية ينطوي على أنواع مختلفة من الظواهر، فإنها قد تتطلب أنواعًا مختلفة من التفسير. لا يوجد نماذج مختلفة للتفسير وحسب، بل يمكن تفسير الظاهرة نفسها عبر وجهات نظر تفسيرية مختلفة.

(ب) النماذج الوظيفية

تتكيف الكائنات الحية على نحو رائع مع بيئاتها المحلية، ما يجعل التصميم المتعمد يبدو أنه التفسير الوحيد الممكن. وتفترض النماذج الغائية — سواء أكانت قائمة على التصميم أم التطور التدريجي — أن الأغراض النهائية موجودة في الطبيعة. والوظيفة تسبق البنية. فبنية العضو تُستمَد من الوظيفة التي يجب أن يؤديها. أراد الصانع أن يدور الدم في أجسام الكائنات، ووظيفة القلب هي تدوير الدم، ولذلك خلق الصانع القلب. وأراد الخالق العظيم أن تَرى الكائنات، ولذلك خلق العيون. لم يلتزم لامارك بالتصميم الإبداعي. مع ذلك، استخدام العضو يحدد البنية (لامارك ١٨٠٩، ١١٣؛ جولد ٢٠٠٢، ١٧٧). تتمثل إحدى الصعوبات التي تكتنف هذا التفكير الغائي في أن العيون بنيات متناظرة، تطورت على نحو مستقل ٤٠ مرة في تاريخ الحياة. وهذا يقلل من احتمالية أن الوظيفة تأتي أولًا. يعكس التطوريون سلسلة التفكير تلك؛ فالوظيفة نتيجة العضو، وليست السبب في وجوده. يتطور العضو وبنيته قبل الوظيفة. يقول هَكسلي (١٨٦٣أ، ١١٥–١٢٣) إن كل الاختلافات الوظيفية تنبع من اختلاف البنية. بعدها يتكيف العضو مع الحالة الجديدة، بل إنه ربما يكتسب وظائف لم يُختَر من أجلها أصلًا. هذا هو التفسير الدارويني لظهور العقول الواعية. تفسر نظرية داروين التطورية تكيُّف وتنوُّع الكائنات الحية من خلال نظرية التحدر مع التعديل؛ لذلك، غالبًا ما يُنظر إلى الداروينية على أنها نظرية وظيفية، «مؤدية إلى تكيف محلي تقترحه البيئة وينظمه الانتقاء الطبيعي» (جولد ٢٠٠٢، ٣١؛ دينيت ١٩٩٥، ٢٢٨؛ روز ٢٠٠٣، ٢٦٤–٢٧٠). إن صلاحية الكائنات الحية تنتج عن خصائصها المورفولوجية والظروف البيئية، وليس عن تصميم مقدر على نحو مسبق.

يصبح من الممكن مع الاستدلالات الداروينية النزول من الارتفاعات المسببة للدوار الخاصة بالوظائف المحددة مسبقًا إلى مستوى الوظائف المكتسبة المنخفض. في التصور الغائي، تحتاج الوظيفة الموجودة مسبقًا إلى عضو، أما في التصور التطوري فالعضو هو الذي يكتسب الوظيفة. على سبيل المثال، كانت القدرة على المشي منتصبًا ميزة انتقائية لأشباه البشر الأوائل الذين خرجوا من الغابات لاحتلال السافانا. يُعد اختيار السمات المواتية استجابة من الكائن الحي نحو الظروف البيئية. وتُعد الوظائف استجابات للضغوط الانتقائية. يمكن تفسير الوظيفة سببيًّا، وليس غائيًّا. ثمة مجموعة من العوامل المسببة — منها الصلاحية التفاضلية للكائنات وبنية البيئة — تجعل التأثير محتملًا: القدرة على الطيران (وظيفة الأجنحة)، الرؤية (وظيفة العينين)، التنفس (وظيفة الرئتين)، التفكير (وظيفة العقل البشري). من أجل تجنب التفسيرات في سياق الأغراض النهائية، يتوجه عالم الأحياء إلى الاستدلالات الداروينية. تعرض الاستدلالات الداروينية مجموعة من الظروف السببية، التي من المرجح أن تكون قد أنتجت التأثير المرصود. لا يدَّعي عالم التطور الدارويني أن مجموعة معينة من الظروف ستحدد التأثير الناتج. فنظرية التطور ليست علم الفلك النيوتوني. فلا يمكن تحديد التطور المستقبلي للأنواع من خلال الظروف السابقة والحالية للنسل بدقة تضاهي الدقة الفلكية؛ فالاستدلالات الداروينية تعيد مناقشة الماضي. يمكن — على نحو كافٍ — تفسير تنوُّع الحياة، وتكيف الكائنات الحية في بيئاتها من خلال ربط هذه الآثار الملحوظة ببعض الظروف السببية السابقة. ومن غير المرجح أن تشمل هذه المجموعة السابقة رابطًا سببيًّا يمكن تتبُّعه. توجد الظروف السببية السابقة على مسار النسل الذي ينتمي إليه كل نوع. إن الوظائف ليست غامضة؛ فهي تحظى بتفسير طبيعي شامل (أيالا ١٩٩٥). بل يمكن في الواقع اختزالها إلى تفسيرات سببية.

(ﺟ) النماذج السببية

عند دخول المنزل، تُشغِّل الإضاءة. يسبب الضغط على الزر — كما يبدو — توهج المصباح الكهربائي. لا يمكنك أن ترى طريقة جعل التيار الكهربائي المصباح يتوهج. ولكن من الممكن دائمًا إنشاء دائرة في المختبر توضح طريقة إغلاق مفتاح الإضاءة للدائرة الكهربائية، والسماح للإلكترونات بالتدفق من خلاله ومقابلة المقاومة في السلك، الذي يبدأ بالتوهج. الشيء الجيد بشأن دائرة المختبر هو أن المجرِّب يستطيع السيطرة على جميع العوامل التي تدخل الموقف المادي. وهذه السيطرة تجعل من غير المحتمل كثيرًا — وإن لم يكن مستحيلًا منطقيًّا — أن تكون ثمة عوامل أخرى مسئولة عن الظاهرة المرصودة.

السببية قضية مهمة في الشئون الإنسانية بسبب آثارها العملية؛ فالسببية هي الغراء الذي يربط الأحداث معًا. من المهم في الشئون الطبيعية والاجتماعية فهم سبب حدوث بعض الأحداث؛ فهذا يتيح لنا معالجة العلل الطبية والاجتماعية التي تحيق بنا، كما يساعدنا على السيطرة على البيئة والتأثير فيها. ومن المفهوم أن الفلاسفة كانوا مهتمين بتطوير بعض النماذج المفاهيمية التي تساعد على تفسير هذه المسألة. وكما هي الحال مع النماذج العقلية، فإننا سوف نقصر اهتمامنا على نماذج السببية، التي تُعد ذات أهمية في المشكلات التي تواجهنا في الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية بعد ذلك (انظر بسيلوس (٢٠٠٢) لقراءة مناقشة حول النظريات الفلسفية للسببية).

تمثلت رؤية هيوم في أن السببية كانت مسألة تسلسل منتظم للأحداث: نتيجة تتبَع سببًا على نحو منتظم. كان السبب موجودًا دائمًا قبل النتيجة، وكان السبب والنتيجة متقاربين مكانيًّا. من الواضح أن مثل هذه التوصيفات غير كافية، وذلك لعدة أسباب: (١) ليس من الصحيح أن كل نتيجة تنبع بانتظام من حدثٍ ما — سبب — يمكن اعتبارها نتيجة للحدث السابق مباشرة؛ فالنهار يتبع الليل بانتظام، والجَزْر يتبع المد بانتظام، ومع ذلك ليس الليل سببًا للنهار والمد ليس سببًا للجذر. (٢) بعض النتائج تتبَع سببها فقط بتواتر إحصائي معين، قد يكون منخفضًا للغاية. تأمَّل الحالة التي تُسمى «تدلِّي الجفون». تصيب حالة تدلِّي الجفون كبار السن ولكن بتواتر منخفض. وفي حين أنه من الحقائق الإحصائية أن تدلِّي الجفون هو نتيجة للشيخوخة، فإنه ليس من الصحيح أن الشيخوخة هي السبب الدائم لتدلِّي الجفون.

أدت رؤية هيوم الأصلية إلى تعديلات أو بدائل، كما هي الحال في نظرية ماكي «للأسباب الضرورية غير الكافية» (ماكي ١٩٨٠)، وكما هي الحال في تحليل لويس المناقض للواقع (لويس ١٩٨٦). سنتناول أولًا النهج المناقض للواقع، الذي لا يعتمد على مفهوم لويس للعوالم الممكنة ولكن على فكرة وودوارد للتدخلات الافتراضية. ثم نعمم نظرية ماكي بحيث تصير نظرية مشروطة للسببية؛ وذلك لأسباب تتعلق بمدى قابلية تطبيق السببية على الحالات المطروحة.

نظرية التدخلات المناقضة للواقع

يؤكد وودوارد (٢٠٠٣) — وهو محق في ذلك — على أن النماذج السببية يجب أن تكون عملية؛ بمعنى أنها يجب أن تعكس ممارساتنا السببية. نحن نواجه السببية في الحوادث عندما تكون الحالة السببية خارجة عن إرادتنا، ولكن في محاولات الإنسان للتعلم من الحوادث ومنعها في المستقبل، تبرز سمة رئيسية للسببية. هذه السمة الرئيسية هي أننا نحلل المواقف السببية بعبارات مناقضة للواقع. تجيب التفسيرات السببية على أسئلة «ماذا لو كانت الأمور مختلفة» (وودوارد ٢٠٠٣، ١٢). وفقًا لوودوارد، فإننا نتخيَّل تجارب أو تدخلات افتراضية، نجيب من خلالها على الأسئلة المناقضة للواقع: (١) «ماذا كان سيحدث للطائرة «لو» لم تشتعل محركاتها؟» (٢) «ماذا كان سيحدث للكويكب «لو» كان مداره إهليجي الشكل على نحو أكبر؟» (٣) «ماذا كان سيحدث لمجموعة السناجب الحمراء في بريطانيا «لو» لم يُقحَم السنجاب الرمادي بينها؟» وأخيرًا، (٤) «ماذا كان سيحدث للحياة البرية في بريطانيا «لو» لم تحدث إبادة للذئاب في هذا البلد؟» في وجهة النظر السببية المناقضة للواقع، سنكون قد استوعبنا الظروف السببية لوضع فعلي، إذا كان التغيير المُتخيَّل في العوامل المختارة — بسبب التدخل الافتراضي — يبين لنا «كيفية ومدى» اختلاف الحالة السببية عن طريقة حدوثها الفعلية. وفيما يتعلق بأول سؤالين للمنهج المناقض للواقع: لو أن محركات الطائرة لم تشتعل فيها النيران، ولو كان مدار الكويكب إهليجيًّا على نحو أكبر، لم تكن الطائرة ستتحطم فوق الجبل ولم يكن الكويكب سيصطدم بكوكب المشتري. يستطيع علماء الفلك حساب مدى الاختلاف الذي يجب أن يكون عليه المدار الافتراضي للكويكب عن المدار الفعلي بحيث يصطدم مع المشتري. يمكن الإجابة على السؤال الثالث من خلال دراسة الدول القارية: لم تكن فصيلة السنجاب الأحمر في بريطانيا ستهلك لو لم يُضَفِ السنجاب الرمادي إليها، في ظل بقاء جميع الظروف الأخرى كما هي. يستطيع علماء الأحياء في بعض الأحيان حساب تأثير إدخال مفترس في بيئة جديدة إذا كان يمكن إجراء تجارب خاضعة للسيطرة.١٦ ويشمل تقييم الأسئلة الأربعة المناقضة للواقع النظام البيئي برمته. إن العلاقات متنوعة الأنواع، بين سكان النظام الإيكولوجي والطبيعة الإحصائية لمبدأ الانتقاء الطبيعي، تجعل من الصعب للغاية الإجابة على هذا السؤال المناقض للواقع.

إذًا تتلخص النظرية المناقضة للواقع في وجهة النظر القائلة بأن شرطًا معينًا يصير العامل السببي «ع»، وله تأثير معين «ر»، إذا كان يوجد اختلاف افتراضي محدد في العامل السببي يُبيِّن أنه من دونه لن يحدث التأثير أو كان سيحدث على نحو مختلف. يجب أن يكون هذا الاختلاف كبيرًا بما فيه الكفاية وثابتًا ليكون له تأثير على الوضع المناقض للواقع. إن التغيير البسيط، مثلًا في الظروف البيئية، قد لا يهدد حياة الأنواع. حتى الحدث المناخي غير العادي، مثل ثوران بركان نادر، قد لا يقضي على نوع من الكائنات الحية. وفق نظرية وودوارد، السببية هي مسألة تبعية مناقضة للواقع بين ظروف سابقة ونتائج لاحقة، ومع ذلك، لا يمكن للعالِم أن يسأل: «ماذا لو كانت الأمور مختلفة؟» قبل أن تتوفر إجابات معقولة عن الأسئلة السببية الفعلية. وما دامت لم تُعرَف أي حالات قياسية قوية، فستظل الأجوبة على الأسئلة المناقضة للواقع مجرد تكهنات؛ ومن ثم ينبغي أن يسأل العالِم عن ماهية العالَم الفعلي قبل أن يتمكن من أن يستنتج مما هو معروف عن العالم الفعلي عالمًا افتراضيًّا؛ فالحالات القياسية الفعلية تنطوي على حالات مناقضة للواقع.

كيف نقيِّم — على سبيل المثال — الأسئلة المناقضة للواقع في العلوم الاجتماعية؟ هل كان فرويد سيستطيع الإجابة على سؤال: «ماذا كان سيحدث لمريضي لو لم يمر بهذا الحدث المحفِّز عصبيًّا في طفولته؟» قال فرويد ذات مرة:

نجد أكثر ردود الفعل اختلافًا لدى الأفراد المختلفين، ونجد لدى الفرد نفسه توجهات ذهنية موجودة جنبًا إلى جنب مع عكسها. (فرويد ١٩٣١، ٢٣٣)

لم يمنع هذا الاعتراف فرويد من الزعم بأن التحليل النفسي علم قادر على تقديم عبارات عامة عن الطبيعة البشرية. إذا كانت الحال هكذا، فكيف — على سبيل المثال — سيقيِّم المؤرخون الأسئلة المناقضة للواقع بشأن المواقف التاريخية؟ «هل كانت ستندلع الحرب العالمية الثانية لو قُتل هتلر في مسيرة في ٩ نوفمبر ١٩٢٤؟» ما دامت لا توجد حالات قياسية، فمن الصعب تقييم هذه الأسئلة بدرجة من الثقة. سنشير في الفصل التالي إلى أن العلوم الاجتماعية يمكن أن تعتمد على أنماط الحالة القياسية في العالم الاجتماعي، ولكن من وجهة نظر فلسفية، فإن هذه الأنماط لها منزلة «النزعات» وليس منزلة القوانين، ومع ذلك، ما دام يوجد أنماط سلوك موثوقة نسبيًّا في العالم الاجتماعي، فسيصبح ممكنًا إجراء بعض التقييم النوعي للأسئلة المناقضة للواقع على الأقل. وبالنظر إلى أنماط السلوك البشري والأدلة حول الأحداث التاريخية، فسيكون من الممكن للمؤرخين تقييم المواقف المناقضة للواقع، ولكن يختلف هذا التقييم عن المواقف الافتراضية التي يضعها وودوارد في الاعتبار.

يشير انشغال عالِم الطبيعة وعالِم الاجتماع بالحالات السببية الفعلية إلى وجود نهج مختلف إزاء موضوع السببية. إن ما سنطلق عليه نظرية السببية المشروطة يُمثِّل تعميمًا وتعديلًا لنظرية ماكي «للأسباب الضرورية غير الكافية» (ماكي ١٩٨٠).

نموذج السببية المشروط

لنبدأ بالنموذج السببي الميكانيكي، الذي — وفقًا له — يجب أن يُوجَد رابط قابل للتتبع بين السبب والنتيجة، وهو الأكثر إشباعًا لحس التفسير لدينا. فنستبدل بفكرة هيوم، الخاصة بالتتابع المنتظم بين السبب والنتيجة، فكرة وجود علاقة سببية قابلة للتتبع بين سبب ما، مثل الضغط على مفتاح الإضاءة، وما يترتب عليه من نتيجة، إضاءة المصباح. إنه النموذج الأكثر إشباعًا ولكنه أيضًا النموذج الأكثر تقييدًا (سالمون ١٩٨٤؛ ١٩٩٨؛ داو ٢٠٠٠؛ قارن وودوارد ٢٠٠٣، الفصل ٨.١–٨.٥). وبالمثل بالنسبة لنظرية هيوم، تُفرَض ثلاثة شروط على الحالة السببية: أن يكون السبب «ع» سابقًا للنتيجة «ر» مؤقتًا، وأن يكون السبب «ع» قريبًا مكانيًّا من النتيجة «ر»، وأن يوجد آلية قابلة للتتبع تربط السبب «ع» بالنتيجة «ر». تُبيِّن التحقيقات العرضية أن هذه الشروط تُستوفَى في كثير من الأحيان، ولكن ثمة أيضًا العديد من الحالات الواقعية التي لا يمكن فيها إيجاد رابط قابل للتتبع. بينما تستلقي على شاطئ بحر في الصيف الحار، هل ترى كيف تهاجم الأشعة فوق البنفسجية خلايا جلدك؟ هل يرى علماء الأحياء كيفية انقسام السلالات؟ هل يمكن لعلم الأعصاب تفسير كيفية ظهور الوعي من العمليات المخية؟ هل رأى نيوتن كيف أن الجمع بين القانون الأول وقانون الجاذبية يُبقي الكواكب في مدارها؟ الجواب هو «لا»، ولكن في كل هذه الحالات نشعر براحة بينما نتحدث عن حالة سببية. لماذا؟ لأننا قادرون على تحديد مجموعة من الظروف والشروط السببية الفعلية، التي يمكن اعتبارها كافية على نحو مشترك للتسبب في النتيجة، على الأقل بدرجة مقبولة من الاحتمالية؛ بمعنى أنه بالنظر إلى النتيجة، فإن احتمالية ألا تكون هذه الظروف والشروط مسئولة سببيًّا عن النتيجة احتماليةٌ ضئيلة للغاية. في الحالات التجريبية في العلوم الطبيعية، يمكن في كثير من الأحيان استبعاد أي تأثيرات خارجية بدرجة يكاد ينعدم معها تأثيرها. ويمكن أيضًا حساب التأثير المحتمل للعامل المُستبعَد. على سبيل المثال، إذا أُطلقَت نواة ذرة على ذرة أخرى، فإن «الانحرافات» المرصودة لن تكون ناجمة عن وجود الإلكترونات، بسبب الطاقات الموجودة في العملية. وفي البيئة الطبيعية، ربما يكون تأثير بعض الظروف على النتيجة المرصودة أيضًا أمرًا مستبعدًا للغاية؛ فمن غير المرجح للغاية أن قهوتك الصباحية ستسهم في إصابتك بسفعة شمس. ويمكن بسهولة اختبار هذا الأمر؛ تناول القهوة في الصباح وابقَ بعيدًا عن الشمس. لن تصاب بسفعة شمس. على النقيض من ذلك، فإن التعرض للأشعة فوق البنفسجية من المرجح كثيرًا أن يسبب سفعة الشمس.

إن أي حالة — قد تكون نتيجة لظروف سابقة معينة — مغروسة ضمن عدد كبير من الظروف. وليست كل هذه الظروف ذات صلة سببية بها. تسمح ظروف الخلفية بحدوث الأشياء على نحو عادي؛ فالطيور تطير، والنباتات تنمو، والأنهار تتدفق. تحدث هذه العمليات وفقًا لأنماط منتظمة، ولا نسأل عادةً «لماذا؟» ولكن الطائرات تتحطم والنباتات تذبل والأنهار تفيض عن ضفافها. هذه الأحداث تتداخل مع الحدوث العادي للأشياء. وعادةً ما نسأل عن أسباب حدوث هذا الاضطراب. ومن بين ظروف الخلفية العادية، نختار مجموعة من الظروف السببية (الضرورية والكافية).

يُمثِّل النموذج الشرطي للسببية تعميمًا لنموذج ماكي من حيث الظروف الضرورية والكافية١٧ (فاينرت ٢٠٠٤؛ ٢٠٠٧). ويتضمن هذه النموذج ثلاث سمات رئيسية؛ أولًا: يدَّعي أن العلاقات السببية يمكن أن توجد بين بعض الظروف السابقة وبعض الظروف المترتبة عليها حتى عندما نفتقر إلى آلية سببية قابلة للتتبع، تسمح لنا بالانتقال من السبب إلى النتيجة والعكس. وربما نفتقر أيضًا إلى ميزة التتابع المنتظم، حيث يعني التتابع المنتظم وجود قانون طبيعي (انظر الفصل الأول، القسم ٦-٥، ج). وكما سنرى في الفصل الثالث، يمكن أن تنشأ العلاقات السببية بين الأحداث الاجتماعية في العلوم الاجتماعية، رغم عدم وجود «قوانين» اجتماعية وآليات قابلة للتتبع إلا في بعض الأحيان. وثانيًا: يهتم النموذج الشرطي بالظروف السببية الفعلية، التي يُحْصَل عليها في المواقف السببية، لا المواقف المناقضة للواقع. وكما ذكرنا سابقًا، فإن السيناريوهات المناقضة للواقع تُمثِّل إسقاطات من الحالات القياسية الشرعية. ويبدو أن العلوم الطبيعية والاجتماعية تهتم في الغالب بالظروف السببية «الفعلية». وثالثًا: يرى النموذج الشرطي العلاقات السببية على أنها أسئلة بشأن التبعية «الشرطية» بين الظروف السابقة والتالية.

وفي حالة عدم وجود آلية قابلة للتتبع ووجود تتابع منتظم، ربما نكون قادرين رغم ذلك على تحديد التبعية الشرطية بالتركيز على مجموعة الشروط (الضرورية والكافية) التي تكفي معًا لتفسير النتيجة. يمكننا تسمية السبب الشرط السالف (أو السابق) والنتيجة الشرط التالي (أو اللاحق). وسوف نتناول بعض الأمثلة من عالَم الفلك وعلم الأحياء، وسيحلل القسم الرابع في الفصل الثالث أمثلة من العالم الاجتماعي.

  • (١)
    «حركة الكواكب»: سيكون من الصعب علينا أن نَصِف النموذج الكوبرنيكي بأنه تفسير سببي. لم يقدِّم كوبرنيكوس نظرية ديناميكية لمدارات الكواكب. ظل النموذج الكوبرنيكي وصفًا حركيًّا حتى قدَّم نيوتن نظرية ديناميكية لحركة الكواكب. ويمكن إلى حدٍّ ما اعتبار هذه النظرية تفسيرًا سببيًّا. فبطريقة ما، تُفسَّر مدارات الكواكب عن طريق الحصول على حاصل ضرب القوتين الموجهتين في قانون نيوتن للقصور الذاتي وقانون الجاذبية. أشار نيوتن إلى أنه في عالم من دون قوى الجاذبية، فإن الكواكب ستتحرك بحركة مستقيمة ثابتة. يجعل تأثير سحب الجاذبية الكواكب تسقط باستمرار نحو الشمس. ويصنع مزيج الحركة المستقيمة والسقوط نحو الشمس المدارات الإهليجية للكواكب، ولكن الجاذبية ليست آلية سببية تسمح لنا بتتبع آثار الجاذبية الشمسية على الكوكب. اعتبر نيوتن الجاذبية قوة، لكنه كان متحيرًا بشأن كيفية تأثير الشمس على كوكب بعيد. فسيكون عليها أن «تبسط» تأثيرها لمسافات هائلة في الفضاء الفارغ. وعلى الرغم من أن الجاذبية تفتقر إلى آلية سببية قابلة للتتبع، فإن التأثير المشترك لقانون القصور الذاتي وقانون الجاذبية أفسح المجال أمام تفسير السبب في تحرُّك الكواكب في مدارات إهليجية حول الشمس (شكل ٢-١٢)، ولكن رسخ هذا التفسير «اعتمادًا مشروطًا» للظروف التالية على الظروف السببية السابقة. ويمكن تقسيم الظروف السببية في هذا المثال على نحو أكبر إلى ظروف ضرورية وظروف كافية. تتمثل «الظروف الكافية» في الأجسام الجاذبة، وليس بالضرورة أن تكون كواكب؛ لأن الأقمار الصناعية تقع أيضًا تحت تفسير نيوتن. وتوجد الظروف «الضرورية» في الحالة القياسية الشرعية التي تحكم الظواهر ذات الصلة.
    fig41
    شكل ٢-١٢: حالة كلاسيكية للتفسير السببي؛ مدارات الكواكب المثالية.
  • (٢)

    هل يمكن أن يُصاغ تاريخ الداروينية، الذي قدمناه كاستنتاجات لمسار تحدُّر الكائن الحي من حالته الراهنة، بلغة الاعتماد المشروط؟ ربما توجد مشكلة، وهذه المشكلة سيكون حضورها قويًّا للغاية في العلوم الاجتماعية. ربما لا يكون ممكنًا تحديد مجموعة محددة من هذه الظروف السببية السابقة. يستند التطور الدارويني على مبدأ إحصائي، مما يؤدي إلى تواريخ احتمالية. والظروف الضرورية للتكيف والتنوع هي وجود الأكسجين والموارد الغذائية للحياة القائمة على الكربون. ويبدو أن هذه الشروط الضرورية تافهة إلى حدٍّ ما، ولكن من الممكن أحيانًا أن تكون أكثر تحديدًا. على سبيل المثال، هل العزلة الجغرافية شرط ضروري لتقسيم السلالة، كما يعتقد داروين؟ إذا رُصد حدوث انتواع تماثلي (بواسطة تفضيلات التزاوج)، فلا يمكن أن تكون العزلة الجغرافية شرطًا ضروريًّا للانتواع. هل التدرج شرط ضروري للتطور؟ لا تزال الأهمية الحقيقية للتدرج أمرًا خلافيًّا حتى اليوم. وعلى الرغم من أن ذلك جزء لا يتجزأ من الداروينية المتعصبة، فإن وضعها الخلافي في نظرية التطور يمنع اعتبارها ببساطة شرطًا ضروريًّا. تُشكِّل هذه الظروف تحديات للبحوث المستقبلية في علم الأحياء التطوري. ماذا عن الظروف الكافية؟ يوضح الداروينيون أنه في ظل وجود عدد من الظروف البيئية والكائنات العضوية، فإن تكيُّف الكائن الحي يُمثِّل نتيجة محتملة. إن لمعرفة هذه الظروف الكافية أهمية كبيرة في المواقف التي يريد فيها البشر التدخل في النظام البيئي للأنواع. فقد أُوقف انقراض نوع ما مثل ثعلب الماء؛ لأن شروط التناسل التفاضلي — النظرة الحديثة للانتقاء الطبيعي — معروفة على نحو كافٍ.

في سياق توافر مجموعة من الظروف الضرورية والكافية، فإن الداروينية في وضع مماثل لوضع عالِم اجتماع أو مؤرخ تاريخ سياسي. وكما سنرى، يمكن للمؤرخ تحديد مجموعة من الظروف الاجتماعية والسياسية التي «من المرجح» أنها سببت حربًا في بلد ما، ولكن من الصعب للغاية على عالم الاجتماع أن يحدد مجموعة من الشروط الضرورية والكافية التي يمكن اعتبارها ضرورية وكافية معًا لحدوث حدث تاريخي أو اجتماعي معين، ومع ذلك، توجد تفسيرات سببية في العلوم الاجتماعية، كما سنرى. ولشرحها نحتاج إلى نموذج فلسفي معدل للسببية يتوافق مع العلاقات الاجتماعية. طوَّر ماكس فيبر تفسيرًا لما سماه «السببية الكافية». يُمثِّل هذا التفسير نسخة من النموذج الشرطي، الذي تناولناه في هذا الجزء. ويُعَدُّ كافيًا للعلوم الاجتماعية لأنه يخلو من أي فكرة للتتابع المنتظم أو العلاقات السببية بين حدثين اجتماعيين. ويبين أن وظيفة عالِم الاجتماع هي بناء نماذج سببية من البيانات الاجتماعية الموجودة بحيث يمكن موضوعيًّا اعتبار مجموعة من الشروط المسبقة ظروفًا أكثر احتمالًا لإحداث التأثير في العالَم الاجتماعي.

على غرار بعض تفسيرات العلوم الاجتماعية، التواريخ الداروينية تفسيرية. ربما تفتقر إلى آلية سببية قابلة للتتبع بالمعنى الدقيق للكلمة؛ ففي ظل الظروف المختبرية، يمكن رصد حدوث الطفرات الجينية في الفيروسات — مثل فيروس الإيدز — على نحو مباشر، ولكن خارج المختبر، لا يمكن رصد عمل الانتقاء الطبيعي إلا على نحو غير مباشر، كما هي الحال مثلًا في حالة اسوداد الجلد الصناعي (اسوداد العث في المناطق شديدة التلوث في بريطانيا في القرن التاسع عشر). ويرجع هذا الافتقاد للرد «المباشر» إلى الفترات الزمنية التي تنطوي على التغيرات التطورية. تفشل معظم المسارات الداروينية في تحديد مجموعة محددة من الشروط الضرورية والكافية التي تحدد معًا وقوع بعض الأحداث التطورية، ومع ذلك، فإن الاستدلالات الداروينية تُعتبر بحق تفسيرية. ما نوع النموذج التفسيري الذي تستوفيه التواريخ الداروينية؟ لِنَقُلْ إن الداروينيين يعتبرونها نماذج سببية مشروطة، لأن مجموعة الشروط الضرورية والكافية تشير إلى تفسير كافٍ للأحداث التطورية.

ولكن يمكن أيضًا النظر إلى تفسيرات مركزية الشمس والتفسيرات التطورية من وجهة نظر «نماذج التفسير البنيوية»، التي ستُعامل هنا كشكل من أشكال التوحيد.

(د) التفسيرات البنيوية

في البحث العلمي، يُسمح بابتكار أي فرضية، وإذا كانت الفرضية تفسر فئات متعددة كبيرة ومستقلة من الحقائق، فإنها ترقى إلى رتبة نظرية ذات أساس راسخ. (داروين، «تغاير الحيوانات والنباتات بتأثير تدجينها»، مقتبسة في سمولين، «حياة الكون» (١٩٩٧)، ١٦١)

لا يوجد نظرية تفسيرية تتميز بشيء متفرد. وسيتعين على مجالات واسعة من البحث العلمي أن تعمل من دون تحديد الآليات السببية. وبينما نقترب من العلوم التاريخية، فإننا نفقد القدرة على تحديد مجموعة محددة من الظروف الضرورية والكافية، ومع ذلك، فإن التوحيد المعزَّز يُمثِّل سمة من سمات العلوم راسخة القواعد، مثل علم الفلك والفيزياء وعلم الأحياء. ويحدث التوحيد عندما تندرج الظواهر التي تبدو غير مرتبطة — مثل سقوط تفاحة ومدارات الكواكب أو الأوضاع البيئية المناسبة والتوزيع البيولوجي الجغرافي للأنواع — تحت مجموعة من المبادئ المؤكدة على نحو جيد. ومن خلال تتبُّع تاريخ التنادد إلى التحدر مع التعديل، مدفوعًا بالانتقاء الطبيعي، تحقق التفسيرات الداروينية التوحيد. ويُعزَّز التوحيد أيضًا عن طريق تتبُّع تاريخ التناظرات الخاصة بالتطور المُقارِب. لقد تَقدم النموذج الكوبرنيكي خطوة نحو توحيد الظواهر الأرضية والسماوية عن طريق إسناد بنية شمسية المركز إلى المشاهدات واعتناق نظرية الحركة المرتبطة بالزخم. ويمكن وصف التوحيد في سياق الدمج (فريدمان ١٩٨١؛ كيتشر ١٩٨٩)؛ حيث تُدمَج الظواهر المرصودة في بنية نظرية أكبر مجردة نسبيًّا؛ فنحن نفسر الحركات الأرضية والسماوية من خلال دمجها في الميكانيكا النيوتونية. ونفسر الظواهر البيولوجية المختلفة عن طريق دمجها في نظرية التطور الداروينية. تمتلك هذه البنيات النظرية قوة موحِّدة كبيرة.

يُعدُّ التفسير البنيوي شكلًا من أشكال التوحيد. وتشدد النماذج البنيوية على السمات البنيوية للتفسير. بالمعنى الأساسي، يحدث التفسير البنيوي عندما يمكن نمذجة خصائص أو سلوك نظام معقد؛ أي يمكننا بناء نموذج يُمثِّل بنية النظام. فنحدد بنية أساسية للظواهر المرصودة (ماكمولين ١٩٨٥؛ هيوز ١٩٨٩، ٢٥٦–٢٥٨). والقول هنا أسهل بكثير من الفعل؛ فغالبًا ما يكون لدينا مجموعة من المشاهدات، وينبغي وضعها في بنية متسقة لكي تكون منطقية. يمتلك النظام الشمسي بنية، وكذلك جزيء الحمض النووي. وتمثل النظم المادية عمومًا تجسيدًا للبنية. وتتكون البنية من مجموعة من العناصر والعلاقات المنتظمة بينها. يتكون النظام الشمسي من تسعة كواكب وشمس مركزية، وهذه العناصر في حد ذاتها لم تُشكِّل بعدُ بنية؛ فبمجرد جمع هذه العناصر، فإن السؤال الذي يطرح نفسه يتعلق بكيفية ترتيبها. رتب الإغريق الكواكب في نظام أرضي المَركز، ورتبها الكوبرنيكيون في نظام شمسي المَركز. للوصول إلى بنية، يجب الإجابة على السؤال: كيف تُرتَّب هذه العناصر بعضها نسبة إلى البعض الآخر؟ يُعبَّر عن العلاقات بين الكواكب والشمس بقوانين كبلر. وعادةً ما نبحث عن علاقات قابلة للقياس الكمي. وفي النموذج الدارويني، العناصر هي الكائنات الحية وترتبط بعضها مع بعض عن طريق مسارات التحدر. وبمجرد أن نحدد عناصر البنية والعلاقات المنتظمة بين هذه العناصر، نكون قد حددنا بنية النظام. وتتمثل وظيفة نموذج في تمثيل بعض جوانب بنية النظام المادي. وكما رأينا في الفصل الأول، فإن هذه الملاحظة تثير تساؤلات عن الواقعية البنيوية والتمثيل العلمي. وعلاوة على ذلك، ميزنا بين البنية «الطوبولوجية» والبنية «الجبرية» للنماذج. وربما يكون التركيز في البداية منصبًّا على البنية الطوبولوجية، أي الترتيب المكاني للعناصر. دائمًا ما تثير النماذج مسألة كيفية ارتباط العناصر بعضها ببعض. واختيارنا للبنية الطوبولوجية له عواقب على الترتيب الجبري للعناصر.

fig42
شكل ٢-١٣: النموذج الكوبرنيكي المبسط للنظام الشمسي: يركز النموذج على البنية الطوبولوجية، ولكنه يتضمن بعض العناصر الجبرية بسبب إدراج طول الفترات المدارية.
تضع البنية الجبرية مزيدًا من التركيز على العلاقات الرياضية بين عناصر البنية. ويمكن ملاحظة هذا الانتقال من البنية الطوبولوجية إلى البنية الجبرية في الكوبرنيكية (الشكلان ٢-١٢ و٢-١٤) والداروينية (الشكلان ٢-٩ و٢-١١). إن نموذج مركزية الشمس ونموذج التطور التفرُّعي للحياة من النماذج الطوبولوجية. وهما يضعان تركيزًا قويًّا على الترتيب الهندسي للعناصر (الأشكال ٢-١٣ و٢-٦ و٢-١٠).
fig43
شكل ٢-١٤: قانون المساحات لكبلر. المنطقتان «أ» و«ب» لهما نفس المساحة. يقطع الكوكب في مداره حول الشمس مساحات متساوية خلال أزمنة متساوية. وكلما اقترب الكوكب من الشمس، تحرك بسرعة أكبر من سرعته وهو أبعد عنها.

ويمكن تعزيز البنيات الطوبولوجية من خلال قوانين الكواكب والمسارات الجينية، على الترتيب؛ فهي أكثر تفصيلًا على المستوى الرياضي وتضيف بنية جبرية للنموذج. ويتضمن التفسير البنيوي تخصيص بنية نموذج لنظام في العالم الحقيقي. وكما هي الحال بالنسبة للتوحيد، فإن مجرد تخصيص بنية لا يكفي للوصول إلى مستويات تفسيرية حقيقية. فيجب أن تتلاءم بنية النموذج مع بنية النظام الحقيقي. فلا بد أن يفشل النموذج أرضي المَركز؛ لأن البنية التي يخصصها للعالم الحقيقي لا تتناسب مع البنية الحقيقية لنظام الكواكب. وتفشل نماذج التصميم أيضًا لأن البنيات الهرمية الغائية التي تخصصها للعالم العضوي لا تتوافق مع الحقائق. ويستند الشرط القائل بأن بنية النموذج يجب أن تُمثِّل بنية النظام الخاضع للنمذجة إلى الافتراض الواقعي الذي يقضي بأن النماذج العلمية يجب أن تتضمن تشابهًا بنيويًّا معينًا مع جزء من العالم الحقيقي. ماذا يعني أن النموذج يتلاءم مع العالم؟ يمكننا تناول هذا السؤال في سياق مفهومنا للقيود. يجب أن تفي بنية النموذج بالقيود في سياق المشاهدات والنظرية الرياضية والمبادئ النظرية. ويفي نموذج مركزية الشمس ونموذج التطور بالقيود على نحو أكثر تلاؤمًا من النماذج المنافسة لهما. ويُعد النموذج أفضل تمثيلًا للمجال التجريبي إذا كان يفي بقيود أكثر من النماذج المنافسة له و«إذا» كانت القيود مبررة.

تُمثِّل النماذج البنيوية إجابات نموذجية للأسئلة البنيوية. وتمثل النماذج السببية إجابات نموذجية ﻟ «أسئلة لماذا». في الحالة المثالية، يمكننا تتبُّع آلية سببية. وعندما نفشل في ذلك، فربما نظل قادرين على تحديد مجموعة من الظروف السببية. إن النماذج السببية والبنيوية متوافقة تمامًا بعضها مع بعض. يمكننا أن نسأل: لماذا توجد أنظمة كواكب؟ يبدو هذا السؤال وكأنه طلب للحصول على تفسير سببي. وعلى الرغم من أن النموذج النيوتوني غير قادر على تقديم آلية سببية قابلة للتتبع، فإن إجابته تأتي في سياق مجموعة من الظروف، تشمل قانون نيوتن للقصور الذاتي وقانون الجاذبية. لماذا تتكيف الأنواع؟ يبدو هذا أيضًا طلبًا للحصول على تفسير سببي. مرة أخرى لا توجد آلية سببية قابلة للتتبع. ولا يزال بالإمكان استخلاص إجابة من النموذج الدارويني. فإذا حدث تغيُّر في البيئة لا يهدد الظروف الحياتية للأنواع، واستُوفيَت شروط الاختلاف المتناحي، فإن الانتقاء الطبيعي يقدِّم إجابة سببية على هذا السؤال.

ربما لا نهتم بعلاقات السبب والنتيجة. ربما يكون تركيزنا على فهم بنية النظام. وهذا هو طلب التفسير البنيوي. سأل كوبرنيكوس: ما بنية النظام الشمسي؟ وبعد مائتي سنة سأل كانط: ما بنية المجرَّات؟ وما بنية الكون؟ يمكن للنموذج الكوبرنيكي النيوتوني أن يقدِّم تفسيرات بنيوية. سأل لامارك: ما بنية التطور؟ وأجاب — من منظور بنيوي — بنموذجه للتطور التدريجي، الذي يتضمن وراثة السمات المكتسبة. وأراد داروين أيضًا أن يعرف ماهية البنية وراء تنوُّع الحياة. قدَّمت نظريته للتحدر مع التعديل تفسيرًا بنيويًّا. وبمجرد أن تصل النماذج البنيوية إلى مستوًى مُرْضٍ من الملاءمة، فإنها توفر التوحيد.

ليس من المستغرب أن نماذج التفسير تعيدنا دائمًا إلى المسألة الفلسفية المرتبطة بالواقعية؛ فالعلم يتمحور حول العالم الحقيقي. وأي اشتراط، لبنيةٍ ما وآلية سببية وتوحيد، إنما يطرح مسألة التلاؤم بين البنية المشترطة وبنية النظم في العالم الطبيعي. علينا أن نعود في إيجاز إلى مسألة الواقعية.

(٦-٨) عودة قصيرة إلى الواقعية

كثيرًا ما أضفيت سماتٌ بشرية على كلمة الطبيعة؛ لأنني وجدت صعوبة في تجنُّب هذا الالتباس، ولكنني أعني بالطبيعة فقط العمل والناتج الكلي للعديد من القوانين الطبيعية، وأعني بالقوانين فقط النتائج المؤكَّدة للأحداث. (داروين، مقتبسة في كرومبي ١٩٩٤، المجلد الثالث، ١٧٥١؛ لمزيد من المراجع انظر إليجارد ١٩٥٨، ١٨١)

لقد تحدثنا عن القيم التفسيرية للداروينية، وهي تقبع في مقترح بنية توحد العديد من الظواهر التي لم تكن مترابطة حتى هذه الفترة. وكذلك قدَّمت نظرية داروين أيضًا تفسيرًا سببيًّا، في سياق الظروف الضرورية والكافية؛ فمن خلال الطفرات العشوائية والحفاظ على التعديلات المواتية، يمكن تفسير وجود السلالات والقدرة على تكيف الأنواع مع بيئاتها، ولكن تعاود الظهور الآن مسألة الواقعية والذرائعية المتعلقة بهذه الآلية.

كان داروين نفسه حذرًا؛ فلم يكن ممكنًا اختبار نظرية الانتقاء الطبيعي عن طريق الاستدلال المباشر من الأدلة (داروين ١٨٥٩، مقدمة المحرر، ١٥؛ لويد ١٩٨٣). لم يكن داروين في وضع يمكِّنه من إثبات أن التطور حدث على نحو قاطع؛ فحاول أن يثبت أن هذا هو التفسير الأنسب الذي يتلاءم مع الحقائق على نحو أفضل من النظريات المنافسة. كان الاستدلال المقبول الوحيد وفق قوة الأدلة المتاحة هو التحدر مع التعديل، ولكن عندما تعلَّق الأمر بالتفاصيل، لم يتمكن من إظهار كيفية حدوث الطفرات العشوائية، والسبب في تغيُّر بعض الأنواع في حين لم تتغير أنواع أخرى، والمدى الدقيق لعملية الانتقاء الطبيعي. أضاف داروين الانتقاء الجنسي كمبدأ إضافي لتفسير التغير غير التكيفي الظاهر. بل إنه بدأ يتحدث عن وراثة السمات المكتسبة، معتقدًا أنه بالغَ في التركيز على دور الانتقاء الطبيعي (داروين ١٨٧١، الجزء الأول، الفصل الثاني، ٨١).

في بدايات القرن الحادي والعشرين، زال العديد من الصعوبات الأصلية التي قابلت داروين، كما اتسع نطاق النظرية لتفسير ظواهر متنوعة مثل التكاثر الجنسي واللاجنسي، ومشكلة النسبة بين الجنسين (لماذا توجد أعداد متساوية تقريبًا من الذكور والإناث)، والميزة التطورية للإيثار. ويرى علم النفس التطوري نطاقًا أكبر للنظرية، لأنه يريد أن يفسر الحقائق الذهنية بالرجوع إلى المبادئ التطورية (انظر الفصل الثالث، القسم ٥-٢).

كان نموذج الانتقاء الطبيعي في عصر داروين يمتلك «صلاحية تجريبية» وحسب؛ إذ يمكن استخلاص مجموعة نماذج من النظرية، وهذه النماذج تشترك في البنية الأساسية نفسها، وتوجد جميعها في الفضاء المقيَّد نفسه. تسمح هذه النماذج للاستدلالات الداروينية بمعالجة مشكلات محددة، مثل التوزيع البيولوجي الجغرافي للأنواع وأصنافها. تعطي النماذج نتائج تتفق مع البيانات التجريبية، وتقدم نظرية التطور توافقًا جيدًا بين نماذجها والبيانات. والنظرية صحيحة من الناحية التجريبية؛ لأن بنياتها الأساسية تقدِّم تفسيرًا معقولًا وتنفي التفسيرات المنافسة، ومع ذلك، نريد أكثر من توافُق نماذجها مع البيانات التجريبية. ويُظهِر تاريخ الكوبرنيكية والداروينية أن العلماء كانوا يرغبون في معرفة هل كانت المبادئ الأساسية — البنيات الجبرية — صالحة أم لا. كانوا يطمحون إلى «الصلاحية النظرية». لا بد أن يوجد تمثيل دقيق لبنية النموذج مع بنية المجال التجريبي، ولكن في نهاية القرن التاسع عشر كان من الصعب الادعاء بأن النظرية كانت صحيحة من الناحية النظرية أيضًا. فلم يكن قد ترسخ بعدُ أن الآلية والبنية المخصصتين للبيانات تمثلان أيضًا الآلية والبنية المنطبقتين في الطبيعة. تذكَّر أن آلية داروين الأساسية — الانتقاء الطبيعي — كانت موضع شك؛ فكان مصدر التغاير الوراثي العشوائي والإطار الزمني اللازم لحدوث التطور التدريجي في موضع الشك. ولتحسين القيمة التفسيرية للنظرية، وللانتقال من الصلاحية التجريبية إلى الصلاحية النظرية، يجب أن تتوفر اختبارات مستقلة لكل من فرضيات النموذج (الاستقراء الخارجي، والتدرج، والتغير المتناحي) والآلية المفترضة كشرط سببي كافٍ. ولحسن الحظ بالنسبة إلى الداروينية، أكدت تقنيات التأريخ الجديدة سريعًا أن عمر الأرض مليارات السنين، وقد أتاح اسوداد الجلد الصناعي — تكيف العث في إنجلترا في القرن التاسع عشر مع سواد لحاء الأشجار في المناطق الصناعية الملوثة بشدة — مؤشرات أولية على أن الانتقاء الطبيعي نشط في الطبيعة. واليوم، تُعد الطفرات المرصودة لفيروس نقص المناعة المكتسبة — في ظل ظروف مختبرية — من أقوى الأدلة على أن الانتقاء الطبيعي يعمل في الطبيعة (جونز ١٩٩٩). وللأسف بالنسبة للداروينية، فإن كل افتراضاتها النموذجية تعرَّضت للتحدي، سواء من قِبل أولئك الذين يتبعون النهج الدارويني (جولد ٢٠٠٢؛ كوفمان ٢٠٠٤) أم أولئك الذين رفضوا استنتاجاتها ووصفوها بأنها غير ملائمة (بيهي ١٩٩٦؛ ديمبسكي ١٩٩٨). كانت الداروينية — على غرار الكوبرنيكية — في البداية متوافقة مع الذرائعية، وقد قُبِلَ التطور كحقيقة طبيعية، ولكن الانتقاء الطبيعي كآلية سببية حصرية وقع تحت سحابة من الشكوك، ومع ذلك، بدأت الداروينية ببطء في التخلص من شراك الذرائعية؛ فقد وفر اندماج علم الوراثة والداروينية وتطور البيولوجيا الجزيئية دفعات إضافية دفعت نظرية التطور نحو تفسير واقعي.

(٦-٩) داروين والثورات العلمية

عندما تُقبَل وجهات النظر الموجودة في هذا الكتاب عن أصل الأنواع، أو عندما تُقبَل وجهات النظر المماثلة عمومًا، يمكننا أن نتوقع على نحو مبهم حدوث ثورة كبيرة في التاريخ الطبيعي. (داروين، «أصل الأنواع» (١٨٥٩)، ٤٥٥)

ثمة اتفاق بالإجماع على أن داروين كان سببًا في حدوث ثورة كبيرة في العلوم؛ إذ يستوفي داروين معايير الثورية العلمية:

«أولًا»: غيَّر داروين المنظور؛ فهو لم يفسِّر الظواهر البيولوجية المرصودة من منظور المصمِّم الذكي، بل فسَّرها من منظور مذهب الطبيعانية. وأدى تغيير المنظور إلى تغيرات هائلة في الشبكة المفاهيمية؛ منها رفض التصميم وثبات الأنواع، والتركيز الشديد على تأثير البيئة على مسار الأنواع، وأهمية الطفرات العشوائية والتأثير المفيد للانتقاء التراكمي. ولكي يُنظَر إليه بوصفه أحدث ثورة، فهناك حاجة إلى ما هو أكثر من مجرد تغيير المنظور، وما يصاحب ذلك من إعادة تنظيم الروابط المفاهيمية في النظرية الكامنة؛ فرغم كل شيء، غيَّر لامارك أيضًا المنظور فيما يتعلق بحجة التصميم. يكمن الفرق بين لامارك وداروين في قابلية الآلية الطبيعية المقترحة للاختبار؛ فقد قدَّم داروين الانتقاء الطبيعي كآلية قابلة للاختبار.

«ثانيًا»: يجب أن تكون النظرية الجديدة أيضًا تفسيرية؛ إذ يجب أن تحل بعض المشكلات المعلقة. وهي تفعل ذلك من خلال تبنِّي أساليب وتقنيات جديدة. بالتأكيد، قدَّم داروين حلًّا كافيًا للمشكلة الأساسية في عصره: تنوُّع الأنواع، كما قدَّمت نظريته أيضًا تفسيرًا ممتازًا للسجل الحفري لأشباه البشر. فشل لامارك في حل هذه المشكلات؛ لأن آليته المقترحة لم تستطع الحصول على مصداقية كبيرة. ربما لا يحصل النموذج الجديد في البداية على ما هو أكثر من الملاءمة التجريبية؛ أي إنه ربما يكون واحدًا من بين عدد من التفسيرات النظرية التي يمكن أن تتوافق مع الأدلة، ولكن قابلية الاختبار تتطلب أن تكون بنية النموذج صالحة تجريبيًّا ونظريًّا على حد سواء؛ وهذا يعني أن النظرية تتناسب مع الأدلة، وأنها تخطت اختبارات مستقلة لمبادئها، واكتسبت هذه المصداقية عن طريق دحض نموذج منافس. غالبًا ما يكون الالتزام بطرق بديلة للتفسير نتيجة لتغير النظرية. استخدم الداروينيون الاستدلالات التاريخية بكثرة، ومارسوا الاستقراء البيكوني، وذلك بمعناه الصحيح كاستقراء إقصائي. ليست الداروينية مثالًا جيدًا للاستنباطية الافتراضية؛ فليس صحيحًا أن جميع العلوم المهمة يجب أن تتقدم عن طريق قابلية الدحض التي أشار إليها بوبر. هل نطلب أن تكون القوة التنَبُّئية عنصرًا ضروريًّا للتغيير الثوري في العلم؟ سيكون هذا أمرًا شديد التقييد؛ لأنه سيستبعد ثورة داروين، ولكن ينبغي علينا أن نطلب ملاءمة الحقائق المعروفة بالفعل. يجب أن تلائم النظرية الجديدة بعض الحقائق المعروفة على نحو مستقل، ويجب أن يكون لها بعض النتائج الاستنباطية الجديدة، حتى لو فشلت في وضع تنبؤات دقيقة. استوفت الداروينية معيار الكمال هذا؛ فالملائمة يجب أن تنجح في الحالة التقييدية التي مفادها أن أي نماذج منافسة ستفشل في استيعاب الحقائق المعروفة.

«ثالثًا»: تظهر نظرية جديدة من خلال عملية تسلسل الاستدلال. بدأ داروين بالتأكيد تسلسل الاستدلال هذا، الذي أدى في نهاية المطاف إلى الداروينية الجديدة، ولكن «رابعًا»: لم يحظَ المنهج التطوري بعدُ بالإجماع. كانت تجري مناقشة نماذج أخرى في علم الأحياء في القرن التاسع عشر، هذه النماذج شكلت تطورات موازية (نظام «فلسفة الطبيعة» الألماني لبوفون). ترك تركيز «فلسفة الطبيعة» الألمانية (جوته، أوكِن) على الشكل، وليس الوظيفة — «الشكل يصوغ الوظيفة» — أصداءً في المناهج البنيوية الحديثة للتطور، وعارض نهج التصميم الذكي النهجَ الدارويني، وداخل هذا النهج لا يوجد توافُق في الآراء حول جميع عناصر القالب المبحثي. ثمة عدد من النماذج المتنافسة، ولكن لا يوجد سوى عدد قليل من البدائل. في البداية، اتفق الجميع على التطور التفرُّعي وعدم ثبات الأنواع، ولكن الآلية الرئيسية — الانتقاء الطبيعي — إما أنها لم تكن مقبولة تمامًا أو تم التشكيك في مداها. وبالقرب من مطلع القرن، فضَّل بعض الداروينيين (هَكسلي، دي فريس) «التطور القافز» على تدرُّج داروين. واليوم يقترح بعض الداروينيين أن يحل مفهوم «التوازن النقطي» محل فكرة التغيرات التدريجية غير المحسوسة (جولد ٢٠٠٢)، كما لم يوجد اتفاق على وحدة الانتقاء الطبيعي. عادةً ما يعتبر الداروينيون الكائن الحي هو وحدة الانتقاء، ولكن اقتُرح المزيد من المرشحين: الجين (دوكينز ١٩٧٦؛ ١٩٨٨) وانتقاء الأنواع (جولد ٢٠٠٢؛ انظر ماير ٢٠٠١). أيضًا لا يوجد توافق عام في الآراء بين الداروينيين فيما يتعلق بمدى التكيُّف. لاحظنا بالفعل أن داروين قَبِلَ التغييرات غير التكيفية، خاصة في وجهات نظره حيال الطبيعة البشرية، ولكن كان بعض الداروينيين أكثر ثورية وتصوروا بدائل مثل البنيوية والقيود الداخلية. تقاوم هذه المناهج محاوَلةَ الداروينية المتعصبة تفسير أكبر عدد ممكن من الميزات قدر الإمكان؛ فيؤكدون بدلًا من ذلك أن التكيُّفية ينبغي أن تعترف بوجود قيود، في شكل حدود مادية، على قدرة الكائنات على التكيف مع الضغوط البيئية الجديدة؛ فعلى سبيل المثال، ثمة حد مادي يقيد الطول الذي يمكن أن تصل إليه الكائنات الثنائية الأرجل والرباعية الأرجل (انظر جولد (٢٠٠٢) للحصول على لمحة عامة). إذن، لا يوجد عمومًا اتفاق حتى الآن بشأن تفاصيل النهج الدارويني كما هو الحال مع نموذج النظام الشمسي الكوبرنيكي-النيوتوني.

ليس بالضرورة أن تنجح الثورة من خلال شكل جديد للعلوم العادية، كما ادعى كون، وينبغي أن نلاحظ هذا الاختلاف مع الثورة الكوبرنيكية. وعلى الرغم من أن الداروينية تستوعب عددًا من النماذج البديلة في فضاء قيود مشترك، فإنه لا يزال بالإمكان اعتبار عمل داروين ثورة حقيقية في العلم.

ولكن ثورة داروين لا تُناسب صورة كون حقًّا (جرين ١٩٨٠). لا يوجد كثير من الأدلة في الثورة الداروينية على «تحوُّلٍ جشطالتيٍّ» أو انقطاع في التواصل أو حتى فترة من العلم العادي. ركز داروين كثيرًا من اهتمامه النقدي على نظرية الخلق الخاص، وبدرجة أقل على تطور لامارك التدريجي. درس داروين النماذج المنافِسة بعناية ووجد أنها غير كافية، على أسس تجريبية ونظرية. كان لنموذج داروين خصومه ومؤيدوه، وقد تجادل بعضهم مع بعض، وخاض أصدقاء داروين مناقشات مع منتقدي داروين. ومن جانبهم، تداول المعارضون والمؤيدون إيجابيات النظرية وسلبياتها. وكما هي الحال في تاريخ الكوبرنيكية، ثمة توافُق متفاوت بشأن المبادئ الأساسية والتحولات الاستدلالية (شابير ١٩٦٦، ١٩٨٩؛ كوهين ١٩٨٥أ؛ تشن/باركر ٢٠٠٠).

أعاد هذا الفصل بناء تسلسل الاستدلال الذي يؤدي من مرحلة ما قبل الثورة إلى مرحلة ما بعد الثورة. إذا اعتبرنا عناصر النموذج وحدات، ترتبط في بنية من خلال علاقات محددة، يمكننا أن نتصور ممارسة الألعاب مع بنية النموذج. أضف بعض العناصر وارفض البعض الآخر، وانقل عناصر أخرى إلى مواقع مختلفة، وستغير البنية الجبرية والطوبولوجية للنموذج. إذا كنا على استعداد لتخطي قيود الفضاءات المنطقية، يمكننا التوجه للخلف من نموذج مركزية الشمس إلى نموذج مركزية الأرض، من نموذج التطور إلى نموذج التصميم. تؤكد هذه اللعبة المفاهيمية نقطة مفاهيمية: الثورات في العلوم هي أشبه بتحولات في تسلسل الاستدلال منها إلى الهدم وإعادة البناء؛ فتسمح لنا تحولات تسلسل الاستدلال بين فترتي ما قبل الثورة وما بعدها بتتبع التغيرات التي تربط بين القديم والجديد، وتستند التغييرات إلى حجج تؤدي إلى تعديلات في المناهج القديمة. يؤدي هذا الإجراء إلى خطوط قابلة للتتبع تربط بين النظريات والنماذج، وستشتمل هذه العمليات على عمليات إضافة وحذف واستبدال في الشبكة المفاهيمية. وتُظهِر تحولات تسلسل الاستدلال خطوط استمرارية وانقطاع خلال فترات الثورات العلمية، كما تهتم بإعادة بناء الموقف الإشكالي الراهن، وكذلك تُقيِّم الحلول في ضوء المشكلة المقبولة.

(أ) النتائج الفلسفية

ما النتائج الفلسفية للثورة الداروينية؟١٨ (ديوي ١٩٠٩؛ هِيكل ١٨٦٦، الفصل الرابع؛ دينيت ١٩٩٥، ٢٠١-٢٠٢) تتمثل النتائج الفلسفية عمومًا في «فقدان التصميم الرشيد». استبدل داروين الطبيعانية بالغائية؛ الانتقاء الطبيعي بالتصميم. لم يعتبر داروين الأنواع مواد أساسية، بل كانوا تجمعات سكانية من أفراد ذوي تغايرات طفيفة. يمكن أن تكون التغايرات مفيدة أو ضارة، ولا يمكن أن يحدث التطور إلا في إطار هذا الافتراض الأساسي للاختلاف المتناحي. حرر داروين علم الأحياء من عقيدة الجوهرية وأحل محلها التفكير في التجمعات السكانية. كانت المادية نتيجة أخرى من الداروينية، وإن لم تكن بالمعنى الصريح؛ فشدد داروين على أهمية الأدلة التجريبية في التفسيرات البيولوجية، ولم يشارك في الاعتقاد بالحتمية التي أقسم كل من هَكسلي وهيكل بالولاء لها. تؤدي المادية واللاحتمية البيولوجية إلى رؤية سلسة للعالَم البيولوجي. من المؤكد أن الداروينيين يعتقدون أن عالم الكائنات الحية في حالة من التغير.

كان للثورة الداروينية أيضًا تأثير على فلسفة العقل. وبما أن الداروينيين ضمَّنوا البشر في عالم الطبيعة، فقد اضطرهم منطق حجتهم إلى تفسير التفوق الواضح للمخ البشري، وشمل ذلك تفسيرًا طبيعانيًّا لوجود الظواهر العقلية.

ومن ثم، كان للداروينية تأثير كبير على علم النفس؛ لأنها تفسر ظواهر العقل بوصفها حقائق طبيعية (داروين ١٨٥٩، ٤٥٨؛ مجلة نيتشر ٢٦، ١٨٨٢). كان فرويد حريصًا طوال حياته المهنية على تقديم التحليل النفسي كمجال علمي؛ فكان يرى أنه يستحق المصداقية العلمية نفسها مثل الفيزياء. في بعض الأحيان، يُزعَم أن داروين أتم «المرحلة النهائية من الثورة الكوبرنيكية التي بدأت في القرنين السادس عشر والسابع عشر تحت قيادة رجال مثل كوبرنيكوس وجاليليو ونيوتن» (الموسوعة البريطانية، المجلد ١٨، ١٩٩١، ٨٥٦). اختلف فرويد مع هذا الادعاء؛ فكان يعتقد أن اكتشافه لما أطلق عليه «فقدان الوضوح» فتح مرحلة ثالثة من الثورة الكوبرنيكية، التي سننتقل إليها الآن، وكان يرى فيها هجومًا آخر على نُبل الجنس البشري.

أسئلة مقالية

  • (١)

    اشرح الاختلافات الرئيسية بين نظريتَي «لامارك» و«داروين». ما الطريقة التي تجعل النظرية الداروينية تُمثِّل تقدمًا عن نظرية لامارك؟

  • (٢)

    اشرح وقيِّم الفرق بين «حجج التصميم» و«حجج التطور».

  • (٣)

    ناقش «الفرضيات» الفلسفية المتأصلة في الداروينية. ما الدور الذي تقوم به هذه الفرضيات؟

  • (٤)

    اشرح الفرق بين «التطور التدريجي» و«التطور التفرُّعي».

  • (٥)

    لماذا شكلت «الثغرات» في «السجل الحفري» مشكلة لنظرية داروين؟

  • (٦)

    ما الطريقة التي شكلت بها «العصور القديمة للإنسان» مشكلة للمؤمنين بنظرية الخلق؟

  • (٧)

    كيف تغيرت فكرة ظهور «الأنواع» تحت تأثير الداروينية؟

  • (٨)

    اشرح ما يعنيه: أن «داروين» أنتج بنيات تفسيرية، ووضح ما حققته.

  • (٩)

    ما الخطأ في الرأي الواسع الانتشار القائل إننا «ننحدر من القِرَدة»؟ ما «الرأي الدارويني» الصحيح؟

  • (١٠)

    ما بنية «الداروينية» و«التفسيرات الداروينية»؟ وتناول الفرق بين التفسير والتنبؤ.

  • (١١)

    اشرح الإنجازات الرئيسية ﻟ «الثورة الداروينية».

  • (١٢)

    ما الذي نفهمه من مصطلح «ثورة علمية»؟ وهل كانت الكوبرنيكية والداروينية ثورتين علميتين؟

  • (١٣)

    ناقش على نحوٍ نقدي قابلية تطبيق «نموذج كون الإرشادي» للثورات العلمية في سياق النموذج الدارويني.

  • (١٤)

    كيف يمكن أن تستخدم الداروينية لدعم «الذرائعية» و«الواقعية»، على الترتيب؟

  • (١٥)

    اشرح كيف أدى كتاب «أصل الأنواع» إلى كتاب «أصل الإنسان». ما جوانب التطور ذات الأهمية الخاصة؟

  • (١٦)

    ماذا يعني الداروينيون ﺑ «تفسير مادي» للقدرات العقلية والأخلاقية للبشر؟

  • (١٧)

    هل يمكن اعتبار الداروينية داعمة لنظرية «انبثاقية» للعقل؟

  • (١٨)

    هل التمييز مُبرَّر بين «قابلية الدحض» و«قابلية الاختبار» في سياق الداروينية؟

  • (١٩)

    هل يجب أن تُوصف نظرية داروين بأنها تتْبع منهج «الاستقراء الإقصائي» أم منهج «الاستدلال الافتراضي»؟

  • (٢٠)

    كيف تعتبر النظرية الداروينية «تفسيرًا بنيويًّا» للعالم الطبيعي؟

  • (٢١)

    كيف تعتبر النظرية الداروينية «تفسيرًا سببيًّا» للعالم الطبيعي؟

  • (٢٢)

    هل يُعد مفهوم «المسارات الداروينية» مفهومًا منطقيًّا؟

  • (٢٣)

    ما «الاستدلالات الداروينية»؟

  • (٢٤)

    ما الحجج التي يستخدمها داروين ضد المؤمنين بنظرية «الخلق»؟

  • (٢٥)

    هل «التصميم الذكي» منافس جاد للداروينية؟

  • (٢٦)

    اشرح التركيز في «علم النفس التطوري» على الجوانب الخاصة والعامة للعقل البشري.

  • (٢٧)

    كيف تفسر «الداروينية» نشأة العقل من المخ؟

  • (٢٨)

    كيف يطبق الداروينيون «الانتقاء الطبيعي» على الطبيعة البشرية؟

  • (٢٩)

    ماذا كان يعني داروين عندما كتب أن «علم النفس سوف يقوم على أساس جديد»؟

  • (٣٠)

    إذا كانت «النماذج» هي طرق تمثيل العالم الطبيعي والاجتماعي، فكيف يتحقق هذا التمثيل؟

  • (٣١)

    يفترض النموذج الاستدلالي الطبيعي «تناظر التفسير والتنبؤ». استخدم أمثلة من علم الأحياء لتقييم مدى ملاءمة هذا الافتراض.

قراءت إضافية

  • Achinstein, P. [1985]: The Nature of Explanation. Oxford: Oxford University Press.
  • Ayala, F. [1987]: “The Biological Roots of Morality,” Biology and Philosophy 2, 235–52.
  • Ayala, F. [1995]: “The Distinctness of Biology,” in F. Weinert ed. [1995], 268–85.
  • Ayala, F. [2004]: “Design without a Designer,” in W. A. Dembski/M. Ruse eds. [2004], 56–73.
  • Argyll, Duke of [1867]: The Reign of Law. London: Strahan.
  • Argyll, Duke of [1886]: “Organic Evolution,” Nature 34, 335-6.
  • Bachmann, G. [1995]: “Mechanische und Organische Denkformen im viktorianischen Zeitalter,” in Die Mechanische und die Organische Natur. Konzepte SFB 230 Heft 45 (März 1995), 9–32.
  • Bacon, F. [1620]: Novum Organum. L. Jardine/M. Silverstone eds. Cambridge: Cambridge University Press 2000.
  • Barlow, H. [1987]: “The Biological Role of Consciousness,” in C. Blakemore/S. Greenfield eds. [1987], 361–74.
  • Barrow, J. D./F. J. Tipler [1986]: The Anthropic Cosmological Principle. Oxford: Oxford University Press.
  • Behe, M. J. [1996]: Darwin’s Black Box. New York: The Free Press.
  • Behe, M. J. [2004]: “Irreducible Complexity,” in W. A. Dembski/M. Ruse eds. [2004], 351–78.
  • Blackmore, S. [2003]: Consciousness. London: Hodder & Stoughton.
  • Blakemore, C./S. Greenfield eds. [1987]: Mindwaves. London: Blackwell.
  • Boyle, R. [1688]: A Disquisition about the Final Causes of Natural Things. London: John Taylor.
  • Braubach, W. [1869]: Religion, Moral und Philosophie der Darwin’schen Artlehre nach ihrer Natur und ihrem Charakter. Leipzig: Neuwied.
  • Browne, J. [2003]: Charles Darwin—The Power of Place. London: Pimlico.
  • Bradley, W. L. [2004]: “Information, Entropy and the Origin of Life,” in W. A. Dembski/M. Ruse eds. [2004], 331–50.
  • Büchner, L. [1868]: Sechs Vorlesungen über die Darwin’sche Theorie von der Verwandlung der Arten. Leipzig: Theodor Thomas.
  • Bunge, M. [1977]: “Emergence and the Mind,” Neuroscience 2, 501–9.
  • Bunge, M. [1980]: The Mind-Body Problem. Oxford: Pergamon.
  • Chalmers, D. [1996]: The Conscious Mind. Oxford: Oxford University Press.
  • Chen, X./P. Barker [2000]: “Continuity through Revolutions,” Philosophy of Science 67, S208–S233.
  • Cohen, I. B. [1985a]: Revolution in Science. Cambridge, MA: The Belknap Press.
  • Cohen, I. B. [1985b]: “Three Notes on the Reception of Darwin’s Ideas on Natural Selection,” in D. Kohn ed. [1985], The Darwinian Heritage. Princeton, NJ: Princeton University Press [1985], 589–607.
  • Clark, A. [1997]: Being There. Cambridge, MA: MIT Press.
  • Crombie, A. C [1994]: Styles of Scientific Thinking in the European Tradition London: Duckworth, Vol. III.
  • Damasio, A. [1999]: “How the Brain creates the Mind,” Scientific American (December), 74–9.
  • Darwin, Ch. [1859]: The Origin of Species. J. W. Burrow ed. London: Pelican Classics [1968].
  • Darwin, Ch. [1871]: The Descent of Man. Introduction by James Moore and Adrian Desmond. London: Penguin [2004].
  • Darwin, Ch. [1876]: “Sexual Selection in Relation to Monkeys,” Nature 15, 18-9.
  • Darwin, Ch. [1878-79]: “Fritz Müller on a Frog having Eggs on its Back,” Nature 19, 462-3.
  • Darwin, Ch. [1881]: “Inheritance,” Nature 24, 257.
  • Darwin, Ch. [1954/1892]: The Autobiography of Charles Darwin and Selected Letters. Francis Darwin ed. New York: Dover.
  • Dawkins, R. [1976/21989]: The Selfish Gene. Oxford: Oxford University Press.
  • Dawkins, R. [1988]: The Blind Watchmaker. London: Penguin.
  • De Beer, G. [1971]: “Homology: an unsolved problem,” in M. Ridley ed. [1997], 213–21.
  • De Vries, H. [1907]: “Evolution and Mutation,” The Monist 17, 6–22.
  • Dembski, W. A. [1998]: The Design Inference. Cambridge: Cambridge University Press.
  • Dembski, W. A./M. Ruse eds. [2004]: Debating Design. Cambridge: Cambridge University Press.
  • Dennett, D. [1995]: Darwin’s Dangerous Idea. London: Penguin.
  • Descartes, R. [1664]: Traité de l’Homme, in Œuvre et Lettres. Paris: Gallimard [1953], 807–73.
  • Dewey, J. [1909]: “The Influence of Darwin on Philosophy,” in The Influence of Darwin on Philosophy. Bloomington: Indiana University Press [1965], 1–19.
  • D’Holbach, P. Thiry [1770]: Système de la Nature [English translation: The System of Nature, London, 1817; German translation: System der Natur. Frankfurt a./M.: Suhrkamp, 1978].
  • Dowe, Ph. [2000]: Physical Causation. Cambridge: Cambridge University Press du Bois-Reymond, E. [1882-83]: “Darwin and Copernicus,” Nature 27, 557-8.
  • Eiseley, L. [1959]: Darwin’s Century. London: Gollancz.
  • Edelman, G. [1992]: Bright Air, Brilliant Fire. London: Penguin.
  • Ellegård, A. [1958]: Darwin and the General Reader. Göteburg: Acta Universitatis Gothoburgensis.
  • Evans, J. [1890]: “Anthropology,” Nature 42, 507–10.
  • Fisher, R. A. [1930]: “The Nature of Inheritance,” in M. Ridley ed. [1997], 22–32.
  • Flower, W. H. [1883]: “The Evolutionary Position,” Nature 28, 573–5.
  • Friedman, M. [1981]: “Theoretical Explanation,” in R. Healey ed. [1981] Reduction, Time and Reality. Cambridge: Cambridge University Press, 1–16.
  • Freud, S. [1905]: Three Essays on Sexuality, in The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud. James Strachley ed. London: The Hogarth Press, Vol. VII [1953], 130–243.
  • Freud, S. [1931]: “Female Sexuality,” in The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud. James Strachley ed. London: The Hogarth Press, Vol. XXI [1927–31], 221–43.
  • Geoffroy Saint-Hilaire, M. Isodore [1847]: Vie, Travaux et Doctrine Scientifique d’Étienne Geoffroy Saint-Hilaire. Paris: P. Bertrand, 1968.
  • Ghiselin, M. T. [1969]: The Triumph of Darwinian Method. Berkeley, CA: University of Press.
  • Gillispie, C. G. [1958]: “Lamarck and Darwin in the History of Science,” American Scientist XLVI, 388–409.
  • Gillispie, C. G. [1959]: Genesis and Geology. New York: Harper & Row.
  • Gould, S. J. [1980]: Even Since Darwin. London: Pelican.
  • Gould, S. J. [1987]: The Panda’s Thumb. London: Penguin.
  • Gould, S. J. [1988]: Time’s Arrow,Time’s Cycle. London: Penguin.
  • Gould, S. J. [1991]: Wonderful Life. London: Penguin.
  • Gould, S. J. [2001]: “More Things in Heaven and Earth,” in H. Rose/St. Rose eds. [2001], Alas Poor Darwin. London: Vintage, 85–105.
  • Gould, S. J. [2002]: The Structure of Evolutionary Theory. Cambridge, MA: The Belknap Press of Harvard University Press.
  • Greene, J. C. [1980]: “The Kuhnian Paradigm and the Darwinian Revolution in Natural History,” reprinted in G. Gutting ed. [1980], Paradigms and Revolutions, 297–32. Notre Dame, IN: University of Notre Dame Press.
  • Haeckel, E. [1866]: Generelle Morphologie der Organismen II. Berlin: Georg Reimer.
  • Haeckel, E. [1876]: The History of Creation. London: Henry S. King & Co. [Translation of Natürliche Schöpfungsgeschichte, 1868].
  • Haeckel, E. [1877]: “Present Position of Evolutionary Theory,” Nature 16, 492–96.
  • Haeckel, E. [1878]: “Prof. Haeckel on the Doctrine of Evolution,” Nature 18, 509-10.
  • Haeckel, E. [1882]: “Professor Haeckel on Darwin, Goethe and Lamarck,” Nature 26, 534–41.
  • Haeckel, E. [1929]: The Riddle of the Universe. London: Watts & Co. [Translation of Die Welträtsel, 1899].
  • Helvétius, C-A. [1758]: Sur l’Esprit. Paris: Chez Durand.
  • Hempel, K. [1965]: Aspects of Scientific Explanation. New York: The Free Press.
  • Honderich, T. [1987]: “Mind, Brain and Self-conscious Mind,” in C. Blakemore/S. Greenfield eds. [1987], 445–58.
  • Howson, C./P. Urbach [21993]: Scientific Reasoning—The Bayesian Approach. Chicago: Open Court.
  • Hoyningen-Huene, P. [1993]: Reconstructing Scientific Revolutions. Chicago: Chicago University Press.
  • Hughes, R. I. G. [1989]: The Structure and Interpretation of Quantum Mechanics. Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Humphreys, N. [1997]: “The Inner Eye of Consciousness,” in C. Blakemore/S. Greenfield eds. [1987], 377–81.
  • Huxley, T. H. [1860]: “The Origin of Species,” in Collected Essays. Vol. II: Darwiniana [1907], 21–79.
  • Huxley, T. H. [1862]: “Geological Contemporaneity and Persistent Types of Life,” in Collected Essays. Vol. VIII [1894], 272–304.
  • Huxley, T. H. [1863a]: Man’s Place in Nature (Chicago: The University of Chicago Press, 1959); reprinted in Collected Essays. Vol. II. London: Macmillan 1910, 77–156.
  • Huxley, T. H. [1863b]: “On Our Knowledge of the Causes of the Phenomena of Organic Nature,” in Collected Essays. Vol. II: Darwiniana [1907], 303–475.
  • Huxley, T. H. [1864]: “Criticisms of “The Origin of Species”,” in Collected Essays. Vol. II: Darwiniana [1907], 80–106.
  • Huxley, T. H. [1874]: “On the Hypothesis that Animals are Automata and its History,” Nature X, 362–66.
  • Huxley, T. H. [1876]: “Lectures on Evolution,” in Collected Essays. Vol. IV [1898], 46–138.
  • Huxley, T. H. [1880-81]: “Professor Huxley on Evolution,” Nature 23, 203-4, 227–31.
  • Huxley, T. H. [1886]: “Science and Morals,” in Collected Essays. Vol. IX [1911], 117–46.
  • Huxley, T. H. [1888]: Science and Culture and other Essays. New York: Macmillan & Co.
  • Huxley, T. H. [1893]: “Evolution and Ethics,” in Collected Essays. Vol. IX [1911], 46–86.
  • Huxley, T. H. [1894]: Collected Essays. Vol. VIII. London: Macmillan & Co.
  • Huxley, T. H. [1894-95]: “Past & Present,” Nature 51, 1–3.
  • Huxley, T. H. [1898]: Collected Essays. Vol. IV: Science and the Hebrew Tradition. London: Macmillan & Co.
  • Huxley, T. H. [1907]: Collected Essays. Vol. II: Darwiniana. London: Macmillan & Co.
  • Huxley, T. H. [1909]: Collected Essays. Vol. V: Science and the Christian Tradition. London: Macmillan & Co.
  • Huxley, T. H. [1910]: Collected Essays. Vol. VII. London: Macmillan & Co.
  • Huxley, T. H. [1911]: Collected Essays. Vol. IX. London: Macmillan & Co.
  • Jacob, F. [1977]: “Evolution and Tinkering,” Science 196, 1161–6.
  • Jacob, F. [1981]: Le Jeu des Possibles. Paris: Fayard.
  • Jaeger, G. [1869]: Die Darwin’sche Theorie und ihre Stellung zu Moral und Religion. Stuttgart: Julius Hoffmann.
  • Jones, S. [1999]: Almost like a Whale. London: Doubleday.
  • Kant, I. [1755]: Allgemeine Naturgeschichte und Theorie des Himmels, in I. Kant, Werkausgabe. Hrsg. von W. Weischedel. Frankfurt a./M.: Suhrkamp. Band I, 226–396 [English translation: General History of Nature and Theory of the Heavens].
  • Kant, I. [1790/1968]: Kritik der Urteilskraft. Hamburg: Felix Meiner. [English translation: The Critique of Judgement, 1952].
  • Kauffman, St. [2004]: “Prolegomenon to a General Biology,” in W. A. Dembski/M. Ruse eds. [2004], 147–72.
  • Kaufmann, W. [41974]: Nietzsche. Princeton, NJ: Princeton University Press.
  • Kepler, J. [1618–21]: Epitome of Copernican Astronomy, in J. Kepler [1995], 5–164.
  • Kepler, J. [1619]: Harmonies of the World, in J. Kepler [1995], 167–245.
  • Kepler, J. [1995]: Epitome of Copernican Astronomy & Harmonies of the World, transl. C. G. Wallis. Amherst, NY: Prometheus.
  • Kitcher, P. [1993]: The Advancement of Science. Oxford: Oxford University Press.
  • Kitcher, P. [1989]: “Explanatory Unification and the Causal Structure of the World,” in P. Kitcher/W. C. Salmon eds. [1989], Scientific Explanation. Minnesota Studies in the Philosophy of Science Vol. XIII. Minneapolis: University of Minnesota Press, 410–506.
  • Kuhn, T. S. [21970]: The Structure of Scientific Revolutions. Chicago: The University of Chicago Press.
  • LaMettrie, Julien Offray de [1747]: L’Homme Machine. Paris: Mille et une Nuits 2000.
  • Lamarck, J. B. [1809]: Philosophie Zoologique, transl. with an introduction by Hugh Elliot. New York: Hafner, 1963.
  • Lange, F. A. [21873/71902]: Geschichte des Materialismus. Leipzig: Verlag von J. Baedeker.
  • Leibniz, J. G. [1697]: “On the Ultimate Origination of Things,” G. H. R. Parkinson ed. [1973], Leibniz, Philosophical Writings. London: Rowman and Littlefield, 136–44.
  • Lepenies, W. [1978]: Das Ende der Naturgeschichte. Frankfurt a./M.: Suhrkamp.
  • Lewis, D. [1986]: “Causal Explanation,” Philosophical Papers II. Oxford: Oxford University Press [1986], 214–240.
  • Lipton, P. [22004]: Inference to the Best Explanation. London: Routledge.
  • Lloyd, E. [1983]: “The Nature of Darwin’s Support for the Theory of Natural Selection,” Philosophy of Science 50, 112–29
  • Lovejoy, A. O. [1936]: The Great Chain of Being. Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Lyons, W. [2001]: Matters of the Mind. Edinburgh: Edinburgh University Press.
  • Mackie, J. L. [1980]: The Cement of the Universe. Oxford: Clarendon Press.
  • Marsh, O. C. [1896-97]: “Dinosaurs,” Nature 55, 463–6.
  • Maupertuis, P. L. Moreau de [1750]: Essai de Cosmologie, in Œuvres. New York: Georg Holms [1974], 4–78.
  • Mayr, E. [1986]: “The Philosopher and the Biologist,” Paleobiology 12, 233–39.
  • Mayr, E. [2000]: “Darwin’s Influence on Modern Thought,” Scientific American (July), 67–71.
  • Mayr, E. [2001]: What Evolution Is. New York: Basic Books.
  • McMullin, E. [1985]: “Galilean Idealization,” Studies in History and Philosophy of Science 16, 247–73.
  • Menand, L. [2001]: The Metaphysical Club. New York: Farrar, Strauss and Giroux.
  • Menuge, A. [2004]: “Who’s Afraid of ID? A Survey of the Intelligent Design Movement,” in W. A. Dembski/M. Ruse eds. [2004], 32–49.
  • Meyer, St. [2004]: “The Cambrian Information Explosion,” in W. A. Dembski/M. Ruse eds. [2004], 371–88.
  • Mill, J. S. [1843/1898]: A System of Logic. London: Longmans, Green & Co.
  • Miller, H. [1849, 1861]: Footprints of the Creator. London: Hamilton, Adams & Co., with Memoir by Louis Agassiz.
  • Miller, K. R. [2004]: “The Flagellum Unspun: The Collapse of ‘Irreducible Complexity’,” in W. A. Dembski/M. Ruse eds. [2004], 81–97.
  • Mivart, St. George [1871a]: On the Genesis of Species. London: Macmillan & Co.
  • Mivart, St. George [1871b]: “Ape Resemblances to Man,” Nature III, 481.
  • Mivart, St. George [1896]: “Are Specific Characters the Result of ‘Natural Selection?’” Nature 54, 246-47.
  • Monod, J. [1974]: “On the Molecular Theory of Evolution,” in M. Ridley ed. [1997], 389–95.
  • Müller, F. [1864]: “Für Darwin,” in Fritz Müller, Werke, Briefe und Leben. A. Moller ed. Jena: Gustao Fischer, 200–63 [English translation: Facts and Arguments for Darwin. London: John Murray, 1869].
  • Nietzsche, F. [1887]: On the Geneology of Morals. New York: Vintage, 1967 [Translation of Über die Geneologie der Moral, 1887].
  • Nilsson, Dan-E./S. Pelger [1997]: “A Pessimistic Estimate of the Time Required for an Eye to Evolve,” in M. Ridley ed. [1997], 293–301.
  • Norton, J. D. [1994]: “Science and Certainty,” Synthese 99, 3–22.
  • Norton, J. D. [1995]: “Eliminative Induction as a Method of Discovery: How Einstein Discovered General Relativity,” in J. Leplin ed. [1995], The Creation of Ideas in Physics. Dordrecht: Kluwer, 29–69.
  • Nozick, R. [2001]: Invariances. Cambridge, MA: The Belknap Press.
  • O’Hear A. [1999]: Beyond Evolution. Oxford: Oxford University Press.
  • Pennock, R. T. [2004]: “DNA by Design?” in W. A. Dembski/M. Ruse eds. [2004], 130–45.
  • Planck, M. [1933]: “Ursprung und Auswirkung wissenschaftlicher Ideen,” in Vorträge und Erinnerungen. Darmstadt: Wissenschaftliche Buchgesellschaft, 1965, 270–84.
  • Popper, K. [1959]: The Logic of Scientific Discovery. London: Hutchinson [English translation of Die Logik der Forschung, 1934].
  • Popper, K. [1963]: Conjectures and Refutations. London: Routledge & Kegan Paul.
  • Popper, K. [1973]: Objective Knowledge. Oxford: Clarendon Press.
  • Psillos, St. [1999]: Scientific Realism. London: Routledge.
  • Psillos, St. [2002]: Causation and Explanation. Chesham: Acumen.
  • Raff, R. A. [1996]: The Shape of Life. Chicago: University of Chicago Press.
  • Rice, W. R./E. E. Hostert [1993]: “Laboratory Experiments on Speciation,” in M. Ridley ed. [1997], 174–86.
  • Ridley, M. ed. [1997]: Evolution. Oxford: Oxford University Press.
  • Rolle, F. [21870]: Der Mensch, seine Abstammung und Gesittung im Lichte der Darwin’schen Lehre. Prag: Verlag von Friedrich Tempsky.
  • Romanes, G. [1882-83]: “Natural Selection and Natural Theology,” Nature 27, 362–4, 528-9.
  • Romanes, G. [1883]: “Natural Selection and Natural Theology,” Nature 28, 100-1.
  • Rosen, E. ed. [1959]: Three Copernican Treatises. Mineola, NY: Dover.
  • Rosenberg, A. [21995]: Philosophy of Social Science. Boulder, CO: Westview Press.
  • Ruse, M. [2003]: Darwin and Design. Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Salmon, W. C. [1984]: Scientific Explanation and the Causal Structure of the World. Princeton, NJ: Princeton University Press.
  • Salmon, W. C. [1998]: Causality and Explanation. Oxford: Oxford University Press.
  • Seabright, P. [1987]: “The Order of the Mind,” in C. Blakemore/S. Greenfield eds. [1987], 209–33.
  • Searle, J. [1984]: Minds, Brains and Science. London: BBC Publications.
  • Searle, J. [1987]: “Minds and Brains without Programs,” in C. Blakemore/S. Greenfield eds. [1987], 209–33.
  • Searle, J. [2004]: Mind—a Brief Introduction. Oxford: Oxford University Press.
  • Shapere, D. [1966]: “Meaning and Scientific Change,” reprinted in I. Hacking ed., Scientific Revolutions. Oxford: Oxford University Press, 1981, 28–59.
  • Shapere, D. [1989]: “Evolution and Continuity in Scientific Change,” Philosophy of Science 56, 419–37.
  • Smolin, L. [1997]: The Life of Cosmos. New York: Oxford University Press.
  • Sober, E. [1999]: “Testability,” Proceedings and Addresses of the American Philosophical Association 73, 47–76.
  • Sober, E. [2002]: “Intelligent Design and Probability Reasoning,” International Journal for the Philosophy of Religion 52, 65–80.
  • Sober, E. [2004]: “The Design Argument,” in W. Dembski/M. Ruse eds. [2004], 99–129.
  • Sperry, R. [1983]: Science and Moral Priority. New York: Columbia University Press.
  • Tillyard, E. M. W. [1943/1972]: The Elizabethan World Picture. Harmondsworth: Penguin.
  • Tyler E. B. [1881]: Anthropology. London: Macmillan & Co.
  • Vogt, C. [1864]: Lectures on Man. London: Longman, Green, Longman, & Roberts [English translation of Vorlesungen über den Menschen, 1863].
  • Wallace, A. R. [1855]: “On the Law which has regulated the Introduction of New Species,” in A. R. Wallace [1891], 3–19.
  • Wallace, A. R. [1858]: “On the Tendency of Varieties to Depart Indefinitely from the original Type,” in A. R. Wallace [1891], 20–33.
  • Wallace, A. R. [1870]: “The Limits of Natural Selection as Applied to Man,” in A. R. Wallace [1891], 186–214.
  • Wallace, A. R. [1891]: Natural Selection and Tropical Nature. London: Macmillan and Co.
  • Wallace, A. R. [1893]: “Reason versus Instinct,” in Nature 48, 73-4, 267.
  • Wallace, A. R. [1903]: Man’s Place in the Universe. London: Chapman & Hall.
  • Weber, B. H./D. J. Depew [2004]: “Darwinism, Design and Complex Systems Dynamics,” in W. A. Dembski/M. Ruse eds. [2004], 173–86.
  • Weber, M. [1948]: “The Social Psychology of the World Religions” (1913), in From Max Weber, with an introduction by H. H. Gerth/C. Wright Mills eds. Boston, MA: Routledge & Kegan Paul [1948], 267–301.
  • Weismann, A. [1882]: “On the Mechanical Conception of Nature,” in Studies in the Theory of Descent. London: Sampson Low, Marston, Searle & Rivington. 2 vols. [1882], 634–718.
  • Weinert, F. ed. [1995]: Laws of Nature. Berlin: Walter de Gruyter.
  • Weinert, F. [2000]: “The Construction of Atom Models: Eliminative Inductivism and its Relation to Falsificationism,” Foundations of Science 5, 491–531.
  • Weinert, F. [2004]: The Scientist as Philosopher. New York: Springer.
  • Weinert, F. [2007]: “A Conditional View of Causality,” in Causality and Probability in the Sciences. F. Russo/J.Williamson eds. London: College Publications 2007, 415–37.
  • Weinberg, St. [1993]: Dreams of a Final Theory. London: Vintage.
  • Wendorff, R. [31985]: Zeit und Kultur. Opladen: Westdeutscher Verlag.
  • Williams, G. C. [1996]: Plan and Purpose in Nature. London: Weidenfeld & Nicolson.
  • Williams, M. B. [1973]: “Falsifiable Predictions of Evolutionary Theory,” Philosophy of Science 40, 518–37.
  • Woodward, J. [2003]: Making Things Happen. Oxford: Oxford University Press.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤