الفصل السابع عشر

الاستبدال

(١) هل يمكن أن تحلَّ الحيوانات محلَّ الإنسان؟

في رواية شهيرة بعنوان «الكلاب غدًا»،1 يتخيل كاتب الخيال العلمي الأمريكي كليفورد دونالد سيماك عالَمًا مستقبليًّا بلا بشر؛ حيث انقرض البشر تاركين إدارة كوكب الأرض إلى تلاميذهم «الكلاب». يقودنا هذا الافتراض الجريء إلى أن نطرح بصورة أكثر واقعية مسألة مكانة الإنسانية ومصيرها على كوكبنا. فالإنسان المنحدر من الحيوان هل سيُستبدل به الحيوان في نهاية المطاف؟ هل يمكن لتطور الكائنات الحية، الذي يوجد الإنسان بسببه، أن يستكمل رحلته دون البشر؟ وفي ضوء السلوك الانتحاري الذي ينتهجه الإنسان بتلويثه للكوكب ولأجسام نظرائه بلا حدود وبمساهمته في تغيير المناخ وباستنفاده للاحتياطي الطبيعي دون أن يعبأ بالمستقبل وبالزجِّ بنفسه في حروب وعمليات إبادة جماعية تزداد دمويتها بسبب زيادة قدراته التقنية، فإن مسألة استمرار الحياة دون الإنسان، إذا أُجبرنا على التسبب بأنفسنا في انقراضنا، تفرض نفسها بكل حِدَّة.

(١-١) هل يمكن أن تتطور الحياة دون الإنسان؟

يُعتبر تطور الحياة عملية شديدة البطء ولكنها حتمية. ووفقًا لآليات الاصطفاء الداروينية أو ربما آليات أخرى (انظر الفصل الأول)، فإن أي مجموعة من الكائنات الحية التي تمتلك الأصل ذاته ولكن تعيش منفصلة، ينتهي بها الأمر إلى «الاختلاف» والانقسام إلى مجموعتين أو فصيلتين مختلفتين. ومن جهة أخرى، توجد حيوانات أكثر مقاومة من الإنسان للإشعاعات والمواد الملوِّثة أو أي عوامل أخرى من شأنها أن تؤدي إلى انقراض الإنسان. وقد تتطور هذه الحيوانات وتحل بطريقة ما محل الإنسان على الأرض، وقد حدثتْ مثلُ تلك الظواهر في الماضي عندما دمَّرتْ بعضُ «الكوارث الطبيعية» الأجناس التي كانت تسود الأرض في عصر محدد. وأبرز مثال على ذلك هو ديناصورات الحقبة الوسطى التي لم تستطع مقاومة بعض التغيرات المناخية العنيفة الناتجة عن سقوط نيزك أو عن حمم بركانية ضخمة (لم تحسم بعدُ مسألة السبب الرئيسي في انقراضها). على أيِّ حال، حجبتْ هذه الكوارثُ أشعةَ الشمس عن مناخ الأرض وأدتْ في النهاية إلى القضاء على الحيوانات الأكثر ضخامة مثل الديناصورات، وخلفتها حيوانات أخرى كانت في الأصل أصغر حجمًا وأقل عرضة للخطر مثل الطيور وهي «ديناصورات حقيقية متحولة» وكذا الثدييات. وهكذا سوف تزدهر الحياة حتمًا على الأرض دون الجنس البشري ولكن بطريقة مختلفة عن الماضي يستحيل بالطبع التنبؤ بها.

لكن هل يمكن أن نتخيل أيضًا حياة ذكية وحضارة تقنية مماثلة لحضارتنا دون الإنسان؟ توجد بالفعل حيوانات ذكية (انظر الفصل الرابع) وتمتلك بعض الحيوانات قدرات تقنية تساعدها على استخدام «أدوات» بدائية (انظر الفصل الثامن). فيمكننا إذن أن نتخيل التطور نحو أجناس أكثر ذكاءً تمتلك قدرات تقنية أكثر تطورًا مما تمتلكه الأجناس الحالية غير الإنسان. ويفترض مثل هذا التطور نحو تحكم أفضل في البيئة إمكانية التأثير في العالَم، ومِن ثَمَّ وجود أعضاء للإمساك، أي: «أيدٍ»، أو ما يُعادلها، ولكننا نعلم أن الطبيعة تمتلئ بالفعل بمثل هذه الأعضاء. فيستطيع العديد من الحيوانات الإمساك: القرود والطيور والفئران والفيلة بخراطيمها … إلخ، وغالبيتها حيوانات تمتلك بالفعل نوعًا من الذكاء. وعلى سبيل الخيال العلمي، فليس من الغريب أن نتخيل حضارة لفئران متطورة تصبح أكبر حجمًا وذكاءً لتخلف حضارتنا وهي حضارة «القردة البشرية العارية» والتي سوف تنقرض كالديناصورات ولكن لأسباب أخرى!

(١-٢) هل يمكن أن توجد حياة في مكان آخر من الكون؟

بالإضافة إلى ذلك، يعتقد العديد من العلماء في الوقت الحالي أن الحياة ليست بالضرورة ظاهرة استثنائية تقتصر على الأرض. فإن العثور على جزيئات «عضوية» (تلك التي تتكون منها أجسام الكائنات الحية) في مكان آخر غير كوكبنا، في المذنبات على سبيل المثال، ووجود مليارات النجوم من جهة أخرى، يسمحان بافتراض أن بعض الكواكب ذات الظروف الفيزيائية الشبيهة بالظروف الموجودة على الأرض قد تسمح بظهور أجسام حية معقدة وتطورها في ملايين الأماكن الأخرى من الكون، ولكنها ستكون مختلفة للغاية عن الحيوانات والنباتات التي نعرفها على الأرض. وعلى الأرض نفسها فإن ملاحظة ما نسميه «بالتنوع البيولوجي» للكائنات الحية توضح أنه قد ظهرت كائنات مختلفة كالقرد والنحلة والمحار وأشجار الدلب والبكتيريا، وذلك في ظروف بيئية متناسقة للغاية كظروف كوكبنا، وهو ما يشير إلى ما قد يكون عليه التنوع البيولوجي على الصعيد الكوني في ظروف بيئية شديدة الاختلاف! وتخيل بعض المؤلفين أيضًا أن المراحل الأولى للحياة الأرضية ربما دارت في مكان آخر غير الأرض ثم جلبتْها إلينا بعض المذنبات أو النيازك التي سقطتْ على الأرض في بدايات تكوينها. ولكن تظل كل هذه الافتراضات بالطبع محل تأمل، إلا أنها تعزز فكرة أن التطور البيولوجي قد يكون ظاهرة عامة في الكون وأنه لا يوجد سبب يجعله يتوقف على الأرض في غياب الإنسان.

ليس للكلاب أيدٍ مما يجعل من الصعب ظهور «حضارة كلاب» ذات تعقيد ما. ففي الأسطورة التي تقصها رواية «الكلاب غدًا» لكليفورد سيماك، يتخيل المؤلف أن روبوتات صنعها الإنسان هي التي ستكون بمنزلة أيدٍ اصطناعية للكلاب، وسوف تسمح لها في النهاية أن تحل محل البشر في إدارة الأرض.

وهو ما يدفعنا إلى التفكير في إمكانية أخرى للتطور الإنساني: يستطيع فيها الإنسان بفضل تقنيته أن «يتخطى» التطور البيولوجي أو التطور الدارويني. وهو ما يقودنا إلى التفكير في أن الإنسان بفضل مهاراته التقنية سيُطوِّر العالَم المحيط به ويطور نفسه بصورة أسرع مما يقوم به التطور الطبيعي (شديد البطء) للأنواع. ويمكننا أن نلاحظ أن جميعنا بالفعل مختلفون عما كنا سنصير عليه خلال اصطفاء طبيعي في الغابة التي كان أغلبنا سيلقى حتفه فيها. فقد منحتْنا مهاراتُنا التقنية، لا سيما المهارات الطبية والجراحية، هيئة جسدية (وحتى جمالية) مختلفة تمامًا، ومنحتْنا أيضًا قدرة أطول على البقاء من تلك التي قد يمتلكها إنسان يعيش في الغابة بعيدًا عن مكاسب التكنولوجيا.

وهو ما يقودنا أيضًا إلى السؤال التالي:

(٢) هل يمكن أن تحل الآلات محل الإنسان؟

هل نتجه نحو عالَم من الآلات لا مكان فيه للإنسان؟ لا يُعتبر هذا السؤال غريبًا عندما نلاحظ السرعة الهائلة التي يتميز بها تعقيد بيئتنا التقنية وتضاعف التفاعلات بين الآلات، وكذا التطورات الأخيرة المتجهة نحو آلات أكثر «استقلالية» (انظر الفصل الأول). وبلا شك يُحيط بنا اليوم نظام تقني عالمي يقوم الإنسان بصناعته وصيانته وتعديله، ولكن يُعَدُّ جزءٌ كبير من عمله اليوم آليًّا. ولكي نفهم هذه العملية التطورية، فمِن المُهِمِّ أن نذكر أمثلة توضح هذه الاتجاهات التقنية بالرغم من قِدَمِها.

في حوالي عام ١٧٥٠ ابتكر جاك دي فوكونسن آلة نسج آلية بصورة كاملة. وكانت الآلة تجمع العديد من التقنيات الرئيسة في عصره: مجموعة من الكامات والسقاطة والساعد والمسننات، بالإضافة إلى العديد من الابتكارات الهائلة كالبطاقات المثقوبة التي يمكن نقلها لتحميل «برامج» رسوم. ولكي تعمل هذه الآلة لم تكن تحتاج إلا إلى ذراع تدوير ولا يقوم الناسج إلا بإنتاج الطاقة الميكانيكية. وعلق دي فوكونسن عليها قائلًا: «إنها آلة إذا استخدمها حصان أو ثور أو حمار يصنع بها أقمشة أكثر جمالًا ودقة من أمهر حرفيي الحرير.»2

وتعتبر آلة النسج التي صممها دي فوكونسن ابتكارًا هائلًا في العديد من الأمور إلا أنها لم تَلقَ النجاح الصناعي؛ فلم يتقبل المجتمع استقلاليتها الكبيرة، فاندلعت مظاهرات عديدة ألقى خلالها عمال النسيج الغاضبون الحجارة على دي فوكونسن؛ لأن اختراعه يتسبب في الواقع في تغييرات جمة في تنظيم مهنة النسج، ويحل محل الآلات القائمة بصورة كاملة، ويقلب المهارات اللازمة لأداء العمل رأسًا على عقب. فبسبب التعمق في النزعة الآلية، اختزل دي فوكونسن الناسج في مجرد مصدر للطاقة.

وبعد خمسين عامًا، لقي جاكار نجاحًا تجاريًّا بسبب آلة أكثر سلاسة في الاستعمال، ويمكن توفيقها بسهولة مع المهن القائمة. وبالمقارنة مع آلة دي فوكونسن، تُعَدُّ آلة جاكار أكثر تعقيدًا وأعلى تكلفةً، ولكن تخصص للإنسان مكانًا أكبر في إدارة عملية النسج، فيظل هو القائد.

يوضح هذا المثال القُوَى المختلفة التي تحكم التطور التقني. فثمة اتجاه نحو التكامل الذي يمكننا أن نسميه عملية التحويل الآلي: فكل سلالة تقنية تميل إلى التكامل والاستقلالية، في شكل نظام مغلق لم يَعُدْ يحتاج إلى الإنسان في عمله. وفي مثال آلة النسج التي ابتكرها دي فوكونسن، تمت ميكنة عمل الناسج في شكل آلة مستقلة بصورة شبه كاملة إلا فيما يتعلق بالطاقة. ومن الأمثلة الأخيرة التي تبرز هذه الديناميكية نجد التطورات المحرَزَة التي تتجه نحو آلات قادرة على التعلم (انظر الفصل الثاني) واختيار ما تتعلمه (انظر الفصل الخامس).

وفي حين أن الأنظمة التقنية تميل إلى الاستقلالية والتكامل، يعتمد قبولها الاجتماعي وانتشارها بقوة على نوع واجهة التحكم التي توفرها للإنسان وعلاقات الترابط بينها وبين الأجهزة التقنية القائمة بالفعل، وهو ما يمكننا أن نسميه الاتجاه نحو الاتحاد: فمِن أجلِ أن تنتشر أيُّ سلالة تقنية يتعين عليها أن تضاعف الواجهات مع المحيط التقني والإنساني الذي تنمو بداخله.

وهكذا فإن وجود السلالات التقنية القديمة التي يجب التكيف معها يُبطئ من بزوغ سلالات تقنية مبتكرة، وكذلك فإن عوامل القبول الإنسانية المحافظة التي تتسم عامةً بالتطور البطيء تُخالف الديناميكية التقنية وتُعيد توجيهَها بصورة مستمرة. وبطريقة ما لا تُعتبر عملية الاتحاد إلا عملية تكامل على نطاق أوسع وهو نطاق البيئة التقنية والإنسانية الذي ستظهر فيه السلالة.

وفي حين أن المحيط التقني يتطور باستمرار، لا يتغير الإنسان (إلى حدٍّ ما). فيقود إذن الاتجاه نحو الاتحاد إلى ابتكار آلات تقترب أكثر فأكثر من الإنسان وهي عملية تُعادل الاتجاه نحو الاستقلالية. ويكشف تطور واجهات الكمبيوتر الشخصي عن هذا الأمر؛ فالكمبيوتر كما ظهر في منتصف القرن العشرين يمكن اعتباره النتيجة النهائية لسلالة تقنية طويلة تضم آلة باسكال الحاسبة وآلات النسج الآلية وآلة باباج؛ فتمثل كل مرحلة خطوة إضافية نحو تصميم آلة أكثر استقلالية. ومع استكمال التطور نحو الاستقلالية في النصف الثاني من القرن ذاته، سيسبب تطور الواجهات تحولًا في التحكم في هذه الآلة الجديدة من نوعها مما يجعلها أكثر قربًا من الإنسان.

ومن أجل التفاعل مع أجهزة الكمبيوتر الأولى كان يتعين أن يُجِيد المرء الإلكترونيات، وقد سمح ظهور لغات البرمجة الأولى (لغة الآلة وفورتران والجول وكوبول وسيمولا … إلخ) منذ الخمسينيات باستخدام المهارة النحوية والرمزية للتفاعل مع الآلة. وفي الثمانينيات سمحت إضافة الواجهة الرسومية وأدوات جديدة للتفاعل مثل الفأرة واستعارات جديدة مثل المكتب، بالتطور نحو تفاعل يتخلى عن المجال الرمزي للاعتماد على مهارة في الاستخدام والذاكرة البصرية والحركة. ومنذ حوالي عشرة أعوام، استكملت واجهات حركية جديدة هذا الاتجاه نحو واجهات أكثر قربًا من الإنسان.3

وتسعى التكنولوجيا الحديثة إلى إيجاد التوازن بين الاستقلالية والاتحاد. فتُعَدُّ طائرات الركاب الحديثة أنظمة مستقلة بصورة أساسية ولكن يظل الطيارون يتحكمون فيها بصورة فعَّالة؛ فتختلف حدود الاستقلالية والتحكم حسب الحالة. ففي طائرة «بوينج ٧٤٧-٤٠٠» يستطيع الطيار تجاوز الحدود التي تفرضها الطائرة، ولكن لا يستطيع ذلك في طائرة إيرباص. وفي الحالتين يتحكم الطيار في نظام مستقل إلى حد كبير.

وهكذا يوضح لنا تطور التقنيات أن اتجاه الآلات نحو الاتحاد على مدار التاريخ يُعادِل الاتجاه نحو الاستقلالية؛ لذا لا تُعَدُّ الآلات مستعدة لأن تحلَّ محلَّ البشر، بل إنها ستنمِّي معهم بالأحرى واجهات أكثر حميمية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤