الفصل الخامس

الفضول

(١) هل تتسم الحيوانات بالفضول؟

يقول المثل الشائع: «الفضول قَتَلَ القطة»، ولكن هذا قول خاطئ. فالفضول عملية أساسية تسمح للحيوانات باكتشاف التغيرات والمستجدات في بيئتها الجسدية والبيولوجية والاجتماعية والاندماج معها. فلدى الحيوانات كافةً نزعة إلى استكشاف أي بيئة جديدة؛ أيِ التحلِّي بالفضول.

(١-١) الفضول لما هو «مختلف بصورة طفيفة»

يتوقف الانجذاب إلى «ما هو جديد» عند «الجديد الذي يبثُّ الخوف»، فغالبًا ما يَجِد حيوان ما نفسه في صراع بين رغبتين متعارضتين: فضوله الذي يدفعه إلى استكشاف بيئة جديدة، وفي الوقت ذاته خوفه من المجهول. أما لدى الشباب، فيمكن حل هذه المشكلة عن طريق الانجذاب إلى «ما هو مختلف قليلًا وليس كثيرًا». وقد سمحت بعض التجارب التي أُجريت على الكتاكيت، في إطار طريقة تعلم مبتكرة تُسمى «البصمة»، بتوضيح هذه المسألة؛ فالبصمة تعني الارتباط المبكر لحيوان صغير السن بأحد والدَيْه أو بديل له، وهي كثيرة الحدوث في المملكة الحيوانية ولا سيما لدى الطيور التي تترك العش بعد مولدها مثل الكتكوت؛ فبما أن هذه الطيور لا تظل في عش، فيتعين عليها حتمًا اتباع الأم تجنبًا لافتراسها. وبهذه الآلية، يرتبط الكتكوت الذي خرج حديثًا من البيضة بأول شيء متحرك يقابله ويتبعه بصورة تلقائية، وعادةً ما تكون أمه هي هذا الشيء لكنه قد يكون إنسانًا (مثل الباحث كونراد لورنتس الذي كان أول مَن وصف هذه الآلية) أو كرة مطاطية متحركة.

ولكن إلى أي مدًى سيدفع هذا الفضول الحيوان؟ فهل سيتبع أي شيء متحرك ويترك والدته ليتبع أول شيء يقابله غير أمه، مثل ثعلب يريد استغلال حداثة سنه؟ أظهر الباحثون أن ذلك ليس صحيحًا؛ فإن بعض الكتاكيت التي حصلتْ في المعمل على بصمات بعض الأشياء تفضل لاحقًا الأشياء المختلفة إلى حدٍّ ما ولكن ليس المختلفة بشدة. ففي الطبيعة تدفع هذه الظاهرة الكتكوت إلى اكتشاف جسم والدته تدريجيًّا بزوايا مختلفة (مختلفة إلى حد ما عن تلك التي أعطتْه انطباعه الأولي) ولكنه لا يرتبط بما هو «مختلف بشدة» كجسم الثعلب الذي يبث في روعه خوفًا نافعًا. وبلا شك يمكن تعميم مفهوم الفضول واستكشاف ما هو مختلف بصورة طفيفة وما هو «جديد إلى حد ما»، في حين أن الجديد للغاية يثير الخوف، ويمكن تعميم ذلك أيضًا حتى على الجنس البشري.

(١-٢) اللعب

يتجلى الفضول الذي يهدف إلى القيام بحركات معقدة لدى الحيوانات الأكثر تطورًا ولا سيما تلك التي تعيش في مجموعات، وذلك في نشاط مبتكر؛ نشاط اللعب المنتشر خاصةً لدى صغار الثدييات وصغار الطيور. ففي أثناء اللعب، يُقلِّد صغار الحيوانات بعض المواقف التي قد تَضَعُها الطبيعة أمامها: كالصراعات أو التوازن على الجذوع أو المطاردة أو التزاوج، مع الالتزام بالحدود التي لا تُعرِّض بها أنفسها أو شريكها للخطر. وكذلك لا يقوم أطفالنا الصغار الذين يلعبون لعبة «اللص والشرطة» أو ألعابًا يؤدون فيها أدوار الأب والأم بأي شيء آخر في إطار جنسنا، ولكنهم يُشبِعون بهذا اللعب فضولهم إلى اكتشاف عالم البالغين الذي سيعيشون فيه مستقبلًا.

(١-٣) لعب الإنسان البالغ

قد تضطر الكائنات البالغة أيضًا إلى اللعب ولكن قلما يحدث ذلك، باستثناء الفصائل التي تحتفظ «بروح طفولية»، مثل الجنس البشري. فقد أكد العلماء في أحيان كثيرة الطابع الشبابي للجنس البشري، الذي يتضح حتى في هيئتنا الجسمانية: فنحن نشبه جنين الشمبانزي برأسنا الكبير وعينينا الواسعتين وقلة الشعر. وكان ديزموند موريس في كتاب شهير1 قد وصفنا بأننا «قِرَدة عارية». وعلى الصعيد النفسي أيضًا، يظل الإنسان غير ناضج بفترة شباب طويلة جدًّا (حوالي ربع حياته)، ومرونة كبيرة جدًّا تسمح له بتعديل سلوكه والتعلم حتى آخر لحظة في حياته، وترتبط هذه المرونة بفضوله الكبير.

وبالإضافة للعب بمعناه الحقيقي، الذي كثيرًا ما يقوم به الإنسان في شكل الكلمات المتقاطعة أو السودوكو أو الألعاب الاجتماعية أو تقمص الأدوار أو الألعاب الموجودة على الكمبيوتر، فإن لعب الإنسان البالغ قد يتخذ أبعادًا اجتماعية هائلة، ويشهد على ذلك حجم فعاليات بطولات الألعاب الرياضية مثل كرة القدم أو لعبة الرجبي أو التنس أو الألعاب الأوليمبية. ويجب بلا شك أن نضيف أيضًا إلى ألعاب البشر البالغين الأحلام والألعاب الجنسية التي قد تتخذ أشكالًا متنوعة خلافًا لنمطية الفعل الجنسي في حد ذاته. وتؤثر هذه المرونة التي تتضح في اللعب في مجالين اجتماعيين آخرين يُعدَّان مِن أهم الخصائص المميزة للجنس البشري: الفضول في العالم الحقيقي والفضول في الخيال، أيْ في العِلْم والفن بصورة إجمالية. وعلى صعيد التأثير الاجتماعي، قد تَستَقطِب بعضُ العروض الفنية أو السينمائية أو الحفلات الموسيقية حشودًا غفيرة، شأنها شأن اللقاءات الرياضية؛ ولذلك فهي تُمثِّل أيضًا امتدادًا اجتماعيًّا للعب.

(٢) هل يُمكن أن تتسم الآلات بالفضول؟

ما الفضول بالنسبة إلى الآلة؟ إن قدرة الآلة في الاعتماد على نفسها هي أحد الاتجاهات الكبيرة لتطور السلالات التقنية (انظر الفصلين الثاني والسابع عشر). ولقد رأينا كيف يمكن تزويد آلة بنظام قِيَم يحدد ما يجب أن تبحث عنه أو ما يجب أن تتجنبه، ويحدد أيضًا عبر طرق تنبؤ واختيار للحركة الطريقة التي ستتصرف بها الآلة. فقد يُحاول روبوت القيام بحركات أو مجموعة حركات بالصدفة ثم يختار بصورة تدريجية عبر «المحاولة والخطأ» الحركات التي تصل إلى أقصى حد من النتائج الإيجابية (إذا وجد مصدرًا للطاقة) وإلى أدنى حد من النتائج السلبية (إذا اصطدم بحائط). فيمكن إذن تعديل الحركات المختارة أو مزجها بصورة عشوائية لتشكيل استراتيجيات جديدة يقيمها الروبوت. وهكذا كلما زادت الخبرات يستطيع كل روبوت تشكيل استراتيجياته لسد احتياجاته الاصطناعية التي حددها مُصمِّمُه.

وفي أغلب تجارب تصميم الروبوتات التي تُجرَى حاليًّا، دائمًا ما تكون هذه المواقف المنشودة «خارج» جسم الروبوت. وبذلك، لا يوجد سبب يدفعه إلى الاستمرار في التطور بمجرد بلوغه الأهداف (البقاء بالقرب من البشر، وعدم الاصطدام بالحائط)، فاستقلاله إذن محدود ضمنيًّا بنظام قِيَمِه. ولمحاولة إخفاء هذه الحدود، بدأ بعض الباحثين في التفكير في طريقة تزويد الروبوت بنظام تحفيز «داخلي». وتكمن الفكرة في تزويد الروبوت بنظام قِيَم لا يرتبط بمهامَّ خاصة محددة مسبقًا تدفعه إلى «مواقف تعلم»، وهو ما يُعَدُّ نوعًا من الفضول. وسوف يقوده هذا النظام إلى استكشاف فُرَص بيئته واكتشاف مواقف جديدة (ولكن ليست جديدة جدًّا!) تسمح له بتنمية مهارات جديدة. ويمكن تلخيص مبدأ عمله بالطريقة الآتية: «اختيار الحركات التي من شأنها أن تجعله يتعلم بأكبر قدر ممكن.»

فلنتخيل طفلًا يبلغ ثمانية أشهر من العمر ويلعب بعربة بلاستيكية فيمسك باللعبة ويدقق فيها من زوايا مختلفة، ثم يدفعها من الجانب ويجعلها تدور، ثم يُحالفه الحظ في جعلها تسير، ثم يبدأ في ضرب السيارة بالأرض بهدف إصدار أصوات ممتعة، ثم يَمَلُّ بعدَ برهة من هذا النشاط المزعج، فينظر حوله فيرى مجلة متروكة على الأرض بصورة غير مناسبة، فيزحف على أطرافه الأربعة حتى هدفه الجديد ويبدأ بمنهجية في تقطيع أوراق المجلة. لماذا توقف هذا الطفل فجأة عن الاهتمام بنشاطه المعتاد واختار نشاطًا آخر؟ يمكن أن يُعطينا مبدأ الفضول إجابة عن هذا السؤال.

من أجل وصف عمل نظام فضول صناعي، يمكن أن نأخذ بعين الاعتبار أنه يتكون من جزأين. ويتعلق الجزء الأول بنظام تنبؤ يتعلم النتائج الإدراكية لحركة ما في سياق حسي ومحفز معين (انظر الفصل الثاني). أما النظام الثاني فهو «متنبئ للتنبؤ» ويتعلم التنبؤ بأخطاء النظام المتنبئ. وبعبارة أخرى، يضع النظام الثاني نموذجًا للنظام الأول ويربط كل موقف يتم مقابلته بمستوى صعوبة تنبئية.2

ومن أجل تزويد الروبوت بنوع من الفضول، يمكننا أن نضيف إلى أنظمة التنبؤ نظام قِيَم يدفع الروبوت إلى تجنب المواقف المعتادة جدًّا وشديدة الصعوبة في التنبؤ بها لتفضيل المواقف التي يصل فيها التقدم في عملية التعلم إلى أقصى درجة. فلا يتعلق الأمر إذن باختيار المواقف التي يصل فيها خطأ التنبؤ إلى أدنى درجة ولا إلى أقصى درجة، بل المواقف التي يَقِلُّ فيها الخطأ إلى أقصى درجة. وتُسمَّى هذه المواقف «مواقف إحراز التقدم»، وهي ليست من الخصائص الجوهرية للطبيعة، لكنها تنتج عن العلاقة بين الهيكل الجسدي للروبوت وخصائص آليات التعلم لديه وتفاعلاته الماضية والبيئة الخاصة المحيطة به. وبمجرد اكتشاف هذه المواقف التي تتيح التقدم واستغلالها، تختفي كلما زادت إمكانية التنبؤ بالموقف الذي تنطبق عليه. وهكذا، فإن أي مسار نمو، وهو مجموعة المراحل التي يركز فيها الروبوت على أنشطة تعقيد متزايد، يتشكل دون أن يبرمجه مصممه مسبقًا.

توضح تجارب متزايدة كيف يمكن لروبوت مزود بنظام تحفيز داخلي أن يتعلم تلقائيًّا السير والتفاعل مع الأشياء التي ليس لديه معرفة مسبقة بها والقيام بحركات تفاعل أولية.3 وفي كل تجربة، يكفي ترك الروبوت في بيئة معينة، مثل سجادة لعب الأطفال، ثم نلاحظ طريقة استكشافه لهذا المكان الجديد فيضرب لعبة ما ويحاول عض أخرى ثم يشاهد الآثار المترتبة على أفعاله المختلفة. ثم يبدأ تدريجيًّا بدافع الفضول في عض الأشياء القابلة للعض وضرب الأشياء القابلة للضرب؛ لأن ذلك يسمح بالحصول على النتائج الأكثر إمتاعًا من وجهة نظره. وفي كل هذه التجارب، تتكيف المهارات التي يكتسبها الروبوت مع بنيته والبيئات التي يتعرض لها، فيختار إلى أي شيء يوجه اهتمامه حسب تجاربه الماضية؛ فهو فاعل في نموه وهكذا يبني «عالمه».

(٢-١) ماذا يمكننا أن نتعلم عبر التجارب التي نُجريها على آلات تتسم بالفضول؟

لا توجد أوجه تشابه كبيرة بين جسم الروبوت وجسم الطفل. ففي الطريقة التي قمنا بوصفها أعلاه، لا يتعلق الأمر بتقليد الإنسان في كل شيء، بل يمكن في المقابل عبر دراسة التأثير الهيكلي للقيود الجسدية واللوغاريتمية للآلة على مسارات نموها أن نجد تفسيرات صائبة لتأثير مثل تلك العوامل على نمو طفل صغير. ويمكن أيضًا القيام بدراسة منهجية لدور كلٍّ من البيئة والقيود التشريحية والبنيوية وديناميكيات التحفيز في عملية النمو الاصطناعي وذلك عبر تعديل تنظيم المكان الذي يتطور فيه الروبوت أو نوع الروبوت المستخدم. وهكذا، يقترح علم تصميم الروبوت إجراءً تجريبيًّا من نوع جديد من أجل فهْمٍ أفضل لديناميكيات النمو المعقدة وإبراز قدرة الأطفال الخارقة على التعلم بصورة مختلفة.

يتعين عبر هذه التجارب أن نتساءل حول وجود أنظمة مماثلة في عقلنا. فتركز الأبحاث حاليًّا على العلاقة بين المبدأ الذي وصفناه ودور مادة الدوبامين. فتضطلع دوائر الدوبامين بدور كبير في شعورنا بالالتزام والإثارة والابتكار ورغبتنا في استكشاف العالم وفهْم ما نراه. فالمرضى المصابون بداء باركينسون، وهو خلل بالخلايا العصبية المنتجة لمادة الدوبامين، يعانون من مشاكل في الوظائف الحركية والنفسية (صعوبة في القيام بحركات إرادية) وعدم الاهتمام بالتصرفات الاستكشافية وبمواصلة المهام الإدراكية. ويستكشف الإنسان أو الحيوان لزامًا البيئة المحيطة به وتبدو عليه أمارات فضول عندما يعمل جهاز الدوبامين لديه اصطناعيًّا. فإن تأثير إدمان الكوكايين أو الأمفيتامين أو على الأقل النيكوتين يرتبط مباشرةً بالطريقة التي تُنشِّط بها هذه المواد جهاز الدوبامين. ويبدو في النهاية أن نشاط هذا الجهاز بصورة مفرطة قد يؤدي إلى الإصابة بمتلازمة توريت (والتي يُصدِر فيها المريض أصواتًا وحركات لا إرادية) والخلل الوسواسي والشعور بالنشوة والفصام في بعض الأحيان. لذا تم مقارنة الدوبامين بصفة غير رسمية بنوع من الطاقة العقلية المرتبطة مباشرةً بسلوكيات الفضول والاستكشاف.4
إن المناقشة الدقيقة للافتراضات المختلفة التي من شأنها أن تسمح بربط دوائر الدوبامين بنظام الفضول الاصطناعي الموصوف هنا، تتخطى إطار هذا الكتاب.5 فنحن نريد ببساطة أن نعطي تصورًا للطريقة التي يسمح بها اختراع آلات جديدة — لها خصائص قريبة من تلك التي تمتلكها الحيوانات وحدها — بفضل العلوم المتعلقة بالكائنات الحية ولا سيما العلوم العصبية. فيتعين أن يَظهَر في الأعوام القادمة مجالٌ خصب متعدد التخصصات لدراسة هذه المسائل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤