الفصل الأول

عضوية ليس إلا

ومن ناحية أخرى، اعتدت أن أرى بول تيكلورني منغمسًا بعمق في دراسة استقطاب الضوء وحُيوده وتداخله وانكساره الأحاديِّ والثنائي ومختلِف المركبات العضوية الغريبة.

جاك لندن، كتاب «وجه القمر وقصص أخرى»، ١٩٠٥

حتى ونحن نتحدث، يصنع بعض الكيميائيِّين في كولومبيا الصوف خلسةً من نبات الجوتة.

روبرت فروست، قصيدة «بناء التربة»، ١٩٥٠

إنه لشيء بنَّاء أن ننظر حولنا إلى عدد الأشياء المكوَّنة في المقام الأول من موادَّ عضوية — أي المواد المكونة من مركبات الكربون والهيدروجين المرتبطة بروابط تساهمية التي يُطلَق عليها الهيدروكربونات — سواء المعالجة أو غير المعالجة، بداية من الأسفلت إلى الأسبرين، فعالمنا مغمور بالهيدروكربونات.

وتشتمل هذه الهيدروكربونات على اللدائن التي أصبحت هذه الأيامَ موجودةً في كل شيء بداية من السيارات إلى تجهيزات المكاتب، ومن مُعدات المزارع إلى الملابس. وجميع الأطعمة تُعتبَر موادَّ عضوية من شرائح اللحوم إلى رقائق البطاطس المقلية، ومن السكر إلى السردين؛ مما يضعنا أمام أكبر فئة وهي الكائنات الحية كافة — أي النباتات والحيوانات والفطريات والبكتيريا. أنواع الوقود التي نستخدمها — مثل البنزين والغاز الطبيعي والبروبان والبيوتان — هي أيضًا مواد عضوية لأنها تُشتَق من كائنات كانت حية يومًا ما مثل الأشجار والديناصورات والأسماك. وتتراوح المنتجات النفطية من الأسفلت وحتى الأسيتون. والفحم كتلة مادة عضوية. والصابون والشامبو أيضًا هما مواد عضوية سواء أذُكِرَ ذلك عنهما أم لم يُذكر. وماذا عن مواد التجميل، أتُعَد مواد عضوية؟ نعم. وماذا بشأن معجون الأسنان ومزيل العرق؟ غالبًا ما يتكوَّنان من مركَّبات عضوية قاعدية مُضافًا إليها القليل من المواد الفعالة. والأدوية؟ الأدوية هي مواد عضوية، وإذا لم تكن المواد الفعالة موادَّ عضوية، فإن الناقل النشوي أو الكبسولة الجيلاتينية موادُّ عضوية. وقد يكون أي مشروب ذي نكهة مكونًا من الماء في المقام الأول، لكن المواد الملونة أو النكهات سواءٌ أكانت طبيعية أم مصنوعة من قطران الفحم فهي موادُّ عضوية. أما عن الملابس، سواء الطبيعية أو الاصطناعية فهي مصنوعة من الألياف. وفي كثير من الأوقات، تُستخدَم كلمة «عضوي» لِتَعني «الأشياء المُنتَجة طبيعيًّا وليس صناعيًّا»، لكن في حقيقة الأمر، تكون كل الهيدروكربونات موادَّ عضوية بصرف النظر عن الطريقة التي جاءت بها إلى حيز الوجود، لكن المركبات العضوية الأولى كانت طبيعية بلا أدنى شك، وجسم الإنسان هو عضوي أيضًا.

السؤال إذن: لماذا تتكون العديد من المواد من الهيدروكربونات؟ في الواقع، اللغز ليس بهذا القدر من العمق، وتفسيره لا يكمن في أعماق الكرة الأرضية! فعندما نُقارن كتلة الأرض بما فيها باطنُها غيرُ العضوي، بكتلة الهيدروكربونات نجد أن الهيدروكربونات، مع كل ذلك، ليست بكل هذا القدر من الانتشار. فالكربون لا يُصنَّف ضمن عناصر القمة الثمانية التي يتألف منها كوكبنا (الحديد والأوكسجين والسيليكون والماغنسيوم والنيكل والكبريت والكالسيوم والألمنيوم على الترتيب من حيث الوفرةُ)، ولا حتى من بين عناصر القمة الثمانية التي تُكون قشرة الأرض (الأوكسجين والسيليكون والألمنيوم والحديد والماغنسيوم والكالسيوم والبوتاسيوم والصوديوم على الترتيب من حيث الوفرة). غير أن الكربون الذي لدينا يتكدس بشدة في الأطراف العلوية من قشرة الأرض بسبب كتلة الكربون الذَّرية المنخفضة. وخلال التغيرات الكبيرة التي حدثت في الفترات الطويلة من عمر الأرض، انتقلت العناصر الأخفُّ إلى القمة، مثل حب الفُلفل الذي يطفو فوق سطح حِساء البازلاء الخضراء. وبمجرد وجوده داخل القشرة الأرضية، كان الكربون قادرًا على أن يُشكِّل أكبر قدر من المركبات المتنوعة. يرجع ذلك في المقام الأول إلى تمتُّعه بالقدرة على تشكيل سلاسل روابط طويلة ومستقرة، وتُدعى هذه الموهبةُ «التسلسل». وتتجلى قوة روابط الهيدروكربونات واستقرارُها عند كسرها وانبعاث الطاقة منها، فالهيدروكربونات تُعتبَر وَقودًا جيدًا.

ويُمكن للهيدروكربونات أن تُصبح سلاسلَ معقَّدةً ومتداخِلة بشكل جذَّاب؛ وذلك لأن الكربون يُمكِنه أن يُكوِّن أربع روابط منفصِلة مع العناصر الأخرى ويُمكنه أن يُكوِّن روابطَ مستقرة مع نفسه. وبالطبع ثمة عناصرُ أخرى يُمكنها أن تُكون سلاسلَ ذاتية مثل N2، O2، ولا يزال هناك عناصرُ أخرى يُمكنها أن تُكون سلاسلَ مثل الشكل الحلقي للكبريت S8. غير أن هذه المقدرة على تكوين السلاسل المتعددة الأنواع والأطوال، وفي الوقت نفسِه البقاء طيِّعة وسائلة، هي موهبةٌ ينفرد بها الكربون وحده. وتتمتَّع أيضًا مُركَّبات الكربون بخصائصَ ثلاثية الأبعاد، وهي تُعَد مهمة لبناء عالمنا ثلاثيِّ الأبعاد. ويتكوَّن الميثان — الذي هو أكثر الجزيئات العضوية حيويةً — من ذرةِ كربون واحدة وأربعِ ذرات هيدروجين؛ إذ تقع ذرةُ الكربون في مركز الجزيء وتمتدُّ أنوية الهيدروجين الأربع إلى الخارج نحو الأركان الأربعة للشكل الرباعي الأوجه المألوف، كما هو موضَّح في شكل ١-١. ويُطلَق على ذلك النوع من الرسم «الرسم الإسقاطي»؛ لأن كلًّا من الأوتاد المصمَتة وتلك المرسومة في هيئة خطوط متقطعة تُشير إلى الروابط التي ستقع داخل مستوى سطح الورقة أو خارجَه في التركيب ثلاثيِّ الأبعاد الحقيقي.
ومن زوايا هذا الجزيء الواحد، يُمكننا أن نتخيل الطريقة المعقدة التي يُمكِن أن تُبنَى بها السقَّالات بحيث تتلولب وتلتفُّ مُكوِّنة أشكالًا متنوِّعة ومثقَّبة. وثمة مثالٌ بسيط نسبيًّا، يتضمن سبع ذرات كربون فقط، وهو الهبتان الموضَّح في شكل ١-٢.
fig41
شكل ١-١: تركيب الميثان CH4. تُشير الروابط التي تُمثلها الخطوط المستقيمة إلى أنوية الهيدروجين في السطح المستوي للورقة. وتُشير الروابط التي تُمثلها الأسهمُ المصمتة إلى أنوية الهيدروجين الآتيةِ من خارج سطح الورقة، وتُشير الروابط التي تُمثلها الأسهم المشرطة إلى نوى الهيدروجين الموجودة على الجانب الخلفي من سطح الورقة.
بل يُمكننا أن نرى الكربون في مواقف أكثر مهارة من هذا، فالكربون يُمكنه أن يُكون روابطَ ثنائية وثلاثية مع نفسه كما هو موضَّح في شكل ١-٣. وينتج عن الروابط المتعددة أشكالٌ هندسية مثلَّثية وخطية، مما يُؤدي إلى اتساع دائرة الخيارات البِنْيوية. وعندما تكون كلُّ روابط المركب أحاديةً يُقال إن المركَّب مُشبع، وبعبارة أخرى سيُقال إن الميثان المبيَّن في شكل ١-١ والهبتان المبيَّن في شكل ١-٢ مشبعان، في حين أن التركيبات الموضحة في شكل ١-٣ سيُقال إنها غير مشبعة. ولكي نُقدِّر قيمة الاختلاف الذي يجلبه هذا التغيُّر البسيط، فكر في الضجة المثارة حول الدهون المشبعة في مقابل الدهون غير المشبعة. إذن ما الفرق الناتج عن الرابطة الثنائية؟ سوف نستعرض الدهون المشبعة عند مناقشتنا لدور الدهون في الكيمياء الحيوية.
fig42
شكل ١-٢: سلسلة مكوَّنة من سبعِ ذرَّات كربون ملفوفة حول روابطها.
fig43
شكل ١-٣: الرابطة الثنائية والثلاثية في جزيئات الكربون. يُطلق عادة على المركب ثنائي الرابطة اسم إيثيلين في حينِ يُطلَق عادة على المركب ثلاثيِّ الرابطة اسم أستيلين.
وكنتيجةٍ لهذه البراعة الفائقة التي يتمتَّع بها الكربون في تكوينِ الروابط، فإن الكربون يُمكِنه أيضًا أن يُكون مركباتٍ مستديرةً وحلقية دورية شبيهة بالسلاسل، ويُمكنه أيضًا أن يَربط دوائرَ عديدة معًا كما هو موضَّح في شكل ١-٤. وبعد أن تتقوَّى هذه الأنواعُ من المركَّبات بالحلقات المترابطة معًا، تُصبح قوية بما يكفي لأنْ تتحمَّل ضغوط الحياة، وتتواجد في موادَّ مهمةٍ عديدة من الناحية البيولوجية. وما إن يتكون الكربون في شكل دائرة، حتى تُشارك نواة الكربون في بعض الأحيان الإلكتروناتِ في مدار جزيئي كبير ينبسط عبر الحلقة بأكملها، وتُوصَف الرابطة الناتجة بأنها أروماتية؛ لأنها تُوجَد في جزيئات عضوية عديدة ذات رائحة مثل مركب البنزين — المركَّب الذي يُضفي رائحةً نفَّاذة على الجازولين — والجزيئات الأروماتية تكون مستقرة للغاية بسبب مداراتها الجزيئية المشتركة وهي تُوجَد بالمثل في موادَّ عديدة مهمة من الناحية البيولوجية.
fig44
شكل ١-٤: بعض تراكيب الهيدروكربونات ذات الحلقات.

ومع وجود التنوع الهائل في الجزيئات العضوية، فإن الكيميائيِّين بذلوا جهدًا كبيرًا في تصنيف المواد المتعددة في عائلاتٍ من المركبات. وطريقة التَّصنيف التي نتجَت عن هذه الجهود هي أن تُصنف المركبات في عائلات طبقًا لوجود تراكيبَ معينة محددة للنوع التي تُدعى «المجموعات الوظيفية». ومثال على ذلك، سنتأمَّل في أربع عائلات من الهيدروكربونات تحتوي على الأوكسجين في مجموعاتها الوظيفية، وهي الكحوليات، والإيثرات، والأحماض العضوية، والإسترات.

أما الكحوليات فالمجموعة الوظيفية أو التركيب المحدد للهوية هو OH. وتتضمن كافة الكحوليات مجموعة OH، غير أن طبيعة باقي الجزيء هي التي تُحدد الخصائص المتفردة التي يتباين بها هذا النوع من الكحول عن غيره؛ فالإيثانول هو الكحول الموجود في المشروبات الكحولية، والأيزوبروبيل هو الموجود في كحول الأيزوبروبيل، والميثانول يُستخدَم في بعض الأوقات وَقودًا، ولا يُمكن أن يحل أيٌّ من هذه الأنواع محلَّ الآخر. وقد يبدو مقبولًا للبالغين أن يتجرعوا كمياتٍ قليلةً من الإيثانول في المناسبات الخاصة، لكنه من غير المحبذ على الإطلاق أن يتناولوا كحول الأيزوبروبيل أو الميثانول؛ لأن هذه الأنواعَ من الكحول تُسبب ضررًا جسديًّا جسيمًا بل قد تُؤدي إلى الموت. والميثانول — الذي يُمكنه أن يُلوث المشروبات الكحولية المصنَّعة بطريقة غير احترافية — يُعرَف بأنه يُسبب العمى أو تلفَ المخ. ويُوضح شكل ١-٥ هذه التراكيب الثلاثة، لاحظ كيف يُمكن أن يُحدث تغيرٌ طفيف في التركيب تأثيرًا كبيرًا على السلوك الكيميائي.
fig45
شكل ١-٥: ثلاثة أنواع من الكحول ذات خصائص مختلفة.
والترتيب المحدَّد للهوية للمجموعة الوظيفية للإيثر هو ذرة أوكسجين بين ذرتَي كربون (انظر شكل ١-٦). ويُعرف نوع معين من الإيثر، وهو الإيثر ثنائي الإيثيل، بتأثير المخدِّر على مخ الثدييات، وهو تأثيرٌ يحظى بأهمية قصوى للمرضى الذين يُجرى لهم العمليات الجراحية حينما أُتقِن استخدامُه كمادة مخدِّرة أثناء العمليات الجراحية. والأحماض العضوية الموضَّحة في شكل ١-٦ تحتوي أيضًا على الأوكسجين في مجموعاتها الوظيفية المحدَّدة للهُويَّة التي هي CO2H. وحامض الخليك الذي استخدمناه في تَجارِبنا على نطاقٍ واسع في شكل الخلِّ هو حامض عضوي وله الصيغة الكيميائية CH3CO2H.
fig46
شكل ١-٦: مثال على الإيثر والحامض والإستر.
وتُعَد الأمثلة على الأنواع الثلاثة من المجموعات الوظيفية الموضحة في شكل ١-٦، الإسترات، من مشتقات الأحماض العضوية. ففي الإستر، يُستعاض عن CO2H بمجموعة عضوية، وتتميَّز الإسترات برائحة تُشبه رائحة الفاكهة المبهِجة، وتُستخدَم في الروائح المقلدة؛ ومن ثَم أيضًا تُستخدَم في نكهاتِ الموز والكمَّثْرى والأناناس. أما الأسبرين الحديث، أو حامض الإسيتيل سالسيليك، فهو من الإسترات. ونرى في شكل ١-٦ مثالًا لكلٍّ منها: مثال للإيثر والحامض والإستر.
fig47
شكل ١-٧: انعدام التناظر في المرآة لليدين وللجزيئين.

وقد تضمُّ مركباتُ الكربون أيضًا ذرات عناصرَ أخرى يُطلَق عليها «الذرات غير المتجانسة»، مثل النيتروجين والكبريت والكلور والبرومين وغيرها، لكن مهما كانت هُوية الأنواع المترابطة، فالكربون دائمًا سيُكوِّن أربعَ روابط سواءٌ كانت روابطَ أحادية أم ثنائية أم ثلاثية، وعندما يكون للكربون أربعُ روابطَ أُحادية، تظهر خاصية مُثيرة، وهي خاصية اليدوية.

وتُشبه خاصية اليدوية في الجزيئات مع خاصية اليدوية في الإنسان؛ لقد خُلِق الإنسان بيد يُمنى وأخرى يُسرى، وهاتان اليدان مختلفتان اختلافًا واضحًا، فلا يُمكن الخلطُ بينهما. وتتطابق كلٌّ منهما مع الأخرى تمامًا عندما تُوضَع راحة اليد اليمنى على مثيلتها اليُسرى أو عندما تُوضَع على مِرآة، لكن عندما تُحاول أن تُلصق إحدى اليدَين على الأخرى — أي بطن إحدى اليدَين في ظهر الأخرى — ستجد أن إبهامَيك يذهبان في اتجاهَين مختلفَين. تحظى الجزيئات بخاصية اليدوية هذه أيضًا، فالكربون الذي يملك أربعَ روابط مختلفة يُمكنه أن يتَطابق مع صورته المعكوسة وجهًا لوجه في مرآة، لكن إذا وضع فوق صورته المعكوسة في المرآة فقد لا يظل متطابقًا مع الصورة، ويُمكِننا أن نرى مثالًا على ذلك في شكل ١-٧.
وقد نتذكر من مناقشتنا حول قانون النسب الثابتة أن الأيسوميرات هي جزيئات بُنيت من نفس العدد والنوع من الذرات غير أنها منظمة في ترتيب مختلف، وقد استشهدنا بالحامض الفلمينيك وحامض السيانيك والحامض الأيزوسيانيك وصيغها الكيميائية على الترتيب هي: HONC، HOCN، HCNO. وقد رأينا أن الترتيب البسيط لهذه العناصر جعل من الأول مادةً متفجرة والثاني مادةً سامة والثالث مادةً هادئة شريكة في تركيبات عضوية بنَّاءة عديدة. والأيسوميرات التي لا تختلف إلا في كونها صورة انعكاسية للأخرى تُعرف «بالأيسوميرات انعدامية التناظر في المرآة».

تتصف التوائم انعداميةُ التناظر في المرآة بخصائص مختلفةٍ بعضِها عن بعض، فعلى سبيل المثال، الشكل الواحد من مركب الكارفوني، وهو جزيء عضويٌّ منعدم التناظرية المرآوية، يُعطي رائحة النَّعناع، في حين أن صورته المنعكسة في المرآة تُعطي رائحة الكراويا. وشكل واحد من جزيء الليمونين، وهو جُزيء منعدِم التناظر المرآوي أيضًا، يُعطي رائحة ليمون في حين أن صورته المرآوية تُعطي رائحة برتقال. ولكي نَعيَ السببَ الذي يجعل هذا الاختلاف الدقيق في الشكل يُؤدِّي إلى مثلِ هذا الاختلاف الهائل في الخصائص، حاوِل أن تُصافح يدَيك بنفسِك أو أن تضَع قدمك اليمنى في الحذاء الأيسر، ستجد أن هذا لا يصلح؛ فالحذاء لن يتَطابق مع قدمك، وهذا هو الحال في أنظمة بيولوجية كثيرة، إذا لم يكن الجزيء مطابقًا فإن الأمر لن يُجدي.

ويُمكن أيضًا تمييزُ هذه الجزيئات المنعكسة صورتها في المرآة بعضها عن بعض بواسطة الطريقة التي تتفاعل بها مع الضوء المستقطَب، والضوء المستقطب هو ضوء ذو مدًى محدود الاتجاه. وفي مجال صناعة النظارات الشمسية، يُطلَق على الضوء المنبعث في كل الاتجاهات «السطوع»، ولكي تَعرف الفرق بين السطوع والضوء المستقطب، قلِّب نظارة شمسية مستقطبة على الوجهَين للداخل والخارج وأنت تنظر إلى أشعَّة الشمس المنعكسة على سطح لامع. وتسمح نظارة الشمس المستقطبة فقط بمرور الضوء ذي المدى المحدود من الاتجاهات، أو الاستقطاب؛ فمِن ثَم تُقلل من السطوع. وعندما يُواجه الضوء جزيئًا منعدم التناظرية المرآوية، قد يمر الضوء بانحراف عن المجال الكهربائي للجزيء غير المتماثل، يبدو هذا الأمر مثل ميل السيارة أثناء انعطافها. وإذا كان هناك عددٌ كبير من مثل هذه الجزيئات تتفاعل مع الضوء، فإن التأثير يُمكن أن يكون كبيرًا لدرجة تكفي لقياسه.

لنستخدم رمز حرف L لنُشير إلى كلمة «الدوران لليسار» وحرف D لنُشير إلى كلمة «الدوران لليمين»، وهما الجزيء المنعدم التطابقية المرآوية التي تُعادل اليد اليسرى واليد اليمنى، والجزيء المنعدم التطابقية المرآوية يُمكن تصنيفه إلى الفئات L، D، طبقًا للطريقة التي يتفاعل بها مع الضوء المستقطب. وتُعَد جزيئاتٌ جسدية كثيرة جزيئاتٍ عديمةَ التطابقية المرآوية، بما فيها السكَّريات التي تبني مجموعات الحامض النووي DNA، والأحماض الأمينية التي تكون البروتينات. علاوةً على أنه قد اتضح أن لدى الجسم ميلًا شديدًا نحو الشكل L. وقد استخدمت كاتبة الروايات البريطانية دوروثي سايرز هذه الفكرة في إحدى القصص البوليسية التي كتبَتها عام ١٩٣٠ وهي قصة «مستندات القضية» التي افتُرِض في بدايتها أن الضحية ماتت على إثر تناول عيش غراب مسموم1 غير أن الفحص الدقيق للسموم كشَف عن أنها من ذلك النوع من الجزيئات المنعدمة التناظرية المرآوية؛ ومن ثَم يكون هذا السمُّ صناعيًّا وليس طبيعيًّا.

إن أصل ميل الطبيعة نحو الاتجاه الأيسر غيرُ معروف، لكن من المحتمل أن يكون نفس السبب الذي يُفسِّر التقليد البريطاني المتبع في أن يكون موضعُ قائد السيارة في الجهة اليسرى من الطريق، فهي مجرد الطريقة التي بدأت عليها الأمور وظلت كما هي، ولكن لا يُسبِّب الاختلاف في الصورة المرآوية للأيسوميرات هذا الاختلاف في حاسَّتَي الشم والتذوق فحسب، بل إن التعرض للأيسومر غير المتناظر في المركبات البيولوجية يكون ضارًّا أيضًا. وإحدى حالات الخلل تلك المشهورة بشأن التعرض للأيسومر غير المتطابق هي حالة الثاليدوميد (دواء مُسكِّن) وهو مزيج من صورتَيه المنعدمتَي التناظر في المرآة. وللأسف، يعمل الشكل الذي لا يقوم بدور المسكن كمادة ماسخة يُمكنها أن تُسبب تشوهات للأجنة. فبسبب مثلِ هذا الاختلاف في الأنشطة، وأيضًا لكي نُقلِّل الجرعة المطلوبة، يُحبَّذ أن يُنتَج دواءٌ يحوي أحد الأيسومرين قدر المستطاع؛ ومِن ثَم يُبذَل قدرٌ لا بأس به من الجهود حاليًّا نحو هذا الهدف.

ولأن أيسوميرات الصورة المرآوية للمركبات المنعدمة التطابقية المرآوية هي موادُّ منفصلة في المقام الأول، فإن عدد الهيدروكربونات المختلفة كيميائيًّا يزداد باطِّراد شديد، فالهيئة التي تَضْطلع بمسئولية مثل هذه الأشياء في الولايات المتحدة تُسمَّى «الجمعية الكيميائية الأمريكية»، تُقَدِّر عددُ المواد الكيميائية العضوية المعروفة حاليًّا بما يقرب من عشرين مليون مادة، ويُكتشَف المزيد كلَّ يوم تقريبًا، وبالطبع تُعَد عملية إيجاد أسماء لكل هذه المنتجات شاقة للغاية، ولكن لحسن الحظ، تقوم هذه المهمة، التي يُؤديها «الاتحاد العالمي للكيمياء البحتة والتطبيقية» IUPAC، على أسس منهجية.
وتُسمَّى المركبات العضوية بِناءً على خصائصها المميزة، تمامًا مثلما يُمكن أن يُوصَف شخص نحيل ذو شعر أحمر، إمَّا بالنَّحيل أو أحمر الشعر. والكحوليَّات التي وصَفْناها مسبقًا، يُطلق عليها الكحوليات لأنَّها تتمتَّع بخصائصِ مجموعة OH، أما الجزء الثاني من الاسم — مثل الميثيل أو الإيثيل أو الأيزوبروبيل — فهو يُشير إلى نوع السلسلة التي ترتبط بها مجموعة OH.

غير أن هذا هو المكان الذي تترك فيه الكيمياءُ النحيلة صُحبة الكيمياء العضوية. إذن لا يُمكن تسمية الجزيء العضوي بِناءً على خاصية واحدة فحسب. فاسمُ الجزيء يجب أن يصف ملامحه كافَّة؛ ومن ثَم يكون اسمه مميزًا، ولكي نُقرر الاسم الذي ينبغي ألَّا يُطلَق على جزيء معيَّن، يُحدَّد أولًا اسم المركب الأساسي، الذي عادةً ما يُكون سلسلة كربون تُمثل الهيكل الأساسي مثل الميثيل أو الإيثيل، ثم تُضاف أسماءُ كلِّ المجموعات الوظيفية، والخصائص التي يتمتَّع بها المركب كافَّة، وكل المجموعات المحددة للهُويَّة، وعندئذٍ يُمكن أن تكون أسماء الجزيئات العضوية ثقيلةً للغاية في حد ذاتها.

ويُقال إن كلمة Tetramethyldiaminobenzhydrylphosphinous هي واحدةٌ من أطول الكلمات في قاموس اللغة الإنجليزية وتعني «رباعي ميثيل ثنائي أمينو بنزهيدريل فوسفينس»، غير أن هذا الطُّول ليس بالأمر الغريب على الكيمياء العضوية. وقد اشتهَر بعض الكيميائيِّين بالتعبير عن قدراتهم الإبداعية عندما تُتاح لهم فرصة تسمية تركيب قلوي جديد. وقد سُمِّيت إحدى الموادِّ الجديدة «بكمنستر فوليرين» Buckminsterfullerene؛ لأنها تُشبه شكل القبة الجيوديسية، وهو التصميم الذي أنشأه المهندس المعماري آر. بكمنستر فولير. ويقال إن حامض البربيتوريك، المادة التي تبدأ بها عائلة المركبات المعروفة ﺑ «البروبيتويرات»، قد سُمِّيت على اسم باربرا، اسم محبوبة العالِم الذي كان أولَ من عزَل هذا المركَّب.

وبعيدًا عن استخدام أسماء المهندسين والمحبوبات في تسمية المركبات، فأخصائيو الكيمياء العضوية يقضون وقتهم أيضًا في التقصي عن الأعداد المذهلة من التفاعلات التي يُمكن أن يدخل فيها كلُّ مركب من هذه المركبات. وكما شاهدنا في تجرِبتنا، فإن تحريك جزء واحد فقط أو إزالته، يُمكنه أن يُغير خصائص المادة تغييرًا جذريًّا؛ لذا تمتلئ أدراج الكيميائيين العضويين بالدوريات المخصصة لتعقيدات الكيمياء العضوية، ويبقى قدر لا بأس به من المهام للعمل عليها. وكما تتحول المواد الخام من مواد بترولية إلى كتلة حيوية أو استخدام المواد المعاد تصنيعها — إذ إنه أمرٌ حتمي بلا جدال — فإن الكيمياء العضوية تتردد على الكيمياء الكلاسيكية وتبتكر كيمياء جديدة، لكن تذكر أن كل مادة لزجة عضوية يجب أن يكون لها علاقة بتربة صخرية رملية، ومحيط من الماء، وغلاف جوي من الهواء، أما عن عالم الكيمياء غير العضوية فهو ما سنخوض فيه لاحقًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤