الفصل الثاني

صخور الكيمياء

حالما تكون هناك، ستشعر كأنَّك قطرةٌ من الماء على قطعة البلَّور الصخري، ووسيلتك ستُسبِغ طابَعَ الجلال على عدم تميُّزك.

توماس هاردي في رواية «عيون زرقاء»، ١٩٠٠

نرجو أن نكون قد أقنعنا القارئ بأهمية الكيمياء العضوية، ولكن ليس على حساب الكيمياء غير العضوية. فمن الأحجار الكريمة إلى الحجر الجيري ومن النترات إلى الفوسفات، الكيمياء غير العضوية مُهمة للغاية أيضًا. وإذا كان من الممكن وصفُ الكيمياء العضوية على أنها كيمياء الهيدروكربونات، فإن الكيمياء غيرَ العضوية يُمكن وصفُها على أنها كيمياء كلِّ شيءٍ آخر — وتعبير «كل شيء آخر» يشملُ الكثير جدًّا. في الواقع، موادُّ عديدة من التي ذكرناها هي بالفعل موادُّ غير عضوية مثل المعادن وأشباه الموصِّلات والأملاح والكثير من الأحماض والقواعد. على أن اهتمامنا الثقافي بالمركبات العضوية، الذي ينبع من غَزارة الموادِّ العضوية الأولية وتوفُّرها في شكل النفط أو الفحم، قادنا إلى عقلية عضوية. وهذه العقلية التي تستحوذ عليها هذه الفكرة الواحدة قد أفضَت إلى اعتمادية مؤسِفة على مصدرٍ محدود، غير أنه، بإلقاء نظرةٍ إلى الوراء على العناصر الموجودة في القشرة الأرضية، نجد أنَّ الأوكسجين والهيدروجين أكثرُ وفرةً من الكربون (فالأوكسجين يُمثل وحش الجودزيلا في الرسم البياني، والكربون يُمثل الفأر الخارق)؛ ومن ثَم قد يكون هناك بعضُ البدائل. فنجد في الوقت الحاليِّ أن خلايا الوقود التي تستخدم الهيدروجين والأوكسجين تُستخدَم في تشغيل المكوك الفضائي، ولديها القدرةُ على تشغيل السيارات وكذلك أجهزة الدي في دي. ومن السارِّ أن نعرف أنه حتى بالرغم من صعوبة الوصول إلى المثالية، يحمل المستقبل بدائلَ للبترول الخام. وسنُلقي هنا نظرةً على بعض الموضوعات التي تُمثل حاليًّا الإطار الخاص للكيمياء العضوية، وهي المركبات التناسقية الترابط المتراكِبة للفلزَّات الانتقالية، وكيمياء المجموعات النموذجية، والكيمياء الإشعاعية.

وتقع الفلزات الانتقالية في جزءٍ عريض ضمنَ العناصر التي تُشكِّل مرحلة الانتقال من لافلزَّات إلى فلزات، كما هو موضَّح في شكل ٢-١.
وتتمتع هذه العناصر بكيمياء نابضةٍ بالحياة بدرجةٍ مميزة تنبع في المقام الأول من براعتها في الدخول في حالات أكسدة مختلفة. وكما نتذكر من مناقشتنا لكيمياء الأكسدة والاختزال، تسعد معظم العناصر جدًّا بمشاركة إلكتروناتها مع عناصر أخرى؛ ومن ثَم يُمكِنها جميعًا أن تصل إلى العدد الأمثل من الإلكترونات. والأمر المذهل بشأن الفلزات الانتقالية هي أنها يُمكن أن تصل إلى حالة الإشباع عن طريق اثنتَين أو ما يَزيد من توزيعات مختلفة للإلكترونات، ويُمكن أن نتذكر من تجربة الأكسدة والاختزال أن خلات الحديد ذاتَ اللون البرتقالي الفاتح قد تحولَت إلى اللون الأخضر عند إضافة النشادر، وإلى اللون الأحمر عند إضافة فوق أكسيد الهيدروجين. تَسبب فوق أكسيد الهيدروجين في تحويل الحديد من أيون فاقدٍ لإلكترونَين (Fe2+) إلى أيون فاقد لثلاثة إلكترونات (Fe3+). ويأتي التغيير الأول الحادث في اللون (من اللون البرتقالي إلى اللون الأخضر) نتيجةً لإضافة النشادر. ويحدث التغيير الثاني (من الأخضر إلى الأحمر) نتيجةً لتفاعل جزيئات النشادر مع الأيون الجديد بطريقةٍ مختلفة. ويُطلَق على الطريقة التي تحفظ بها الأيونات أو الجزيئات المحيطة نفسَها بالقرب من الأيون المشحون والطريقة التي تُغير بها نفسها حوله «تناسقها» مع الأيون. ويكون التركيب الناتجُ هو أيونًا ومجموعاتٍ تناسقية يُطلَق عليها «متراكب التناسق». ويُطلَق على دراسة متراكبات التناسق المتكونة بين أيونات الفلزات الانتقالية والجزيئات المحيطة بها «كيمياء التناسق».
fig48
شكل ٢-١: الفلزات الانتقالية التي تُوجَد في الجزء الذي يتوسط الجدول الدوري.
وتنبع دراسة كيمياء التناسق من الملاحَظة التي تُشير إلى أنه لا يُوجَد شيء في المحلول على الإطلاق يكون في حالة عُزلة تامة. فحتى أكثر الأيونات عزلةً في المحلول تكون مُحاطة ببطانةٍ من الأيونات المخالفة (الأيونات التي تحمل شحنة مخالفة) وبمادة مُذيبة أو بكِلَيهما معًا؛ لأنَّ الفلزات الانتقالية غالبًا ما تُكوِّن أيونات موجبة (وتحدث الاستثناءات النادرة لهذا الأمر مع الفلزات الشاذة أو في ظل ظروف غير عادية)، وتكون مُحاطة بجزيئات الماء التي تحمل في أحد طرَفَيها جزيئات الأوكسجين التي تحمل شحنة سالبة عالية للغاية تقترب من الجزيئات الموجبة. وإذا وُجِدَت أيونات أو جزيئات أخرى في المحلول مثل أيون الخلات أو النشادر كما هو الحال في تجرِبتنا، يُمكن لهذه الأيونات أو الجزيئات أيضًا أن تُحدِث تناسقًا مع الأيون الفلزي المركزي كما هو موضَّح في شكل ٢-٢. وعامة يُوجَد متَّسَع لأربعة أو ستة أنواع من هذه المرافقات تُسمَّى «الليجندات».
والليجند هو أيُّ جزيء صغير أو أيون ينجذب إلى أيون الفلزِّ ويُحيط به، والليجندات المعروفة: H2O، NO2، Cl، NH3 (الماء، وثاني أكسيد النيتروجين، والكلوريد، والنشادر). ويتوقف مدى كون الأيونات أو الجزيئات مُحكَمة أو غيرَ محكمة، على طبيعة الليجندات والشحنة التي يحملها الأيون.
fig49
شكل ٢-٢: أيون فلز في المنتصف مُحاط به ستة أيونات أو جزيئات مصاحبة/ملتحمة.

وكما أشرنا في مناقشتنا للكيمياء الضوئية — وكما نُواجه في الحياة اليومية لدى استخدامنا للمواد بداية من معجون الأسنان المبيض وحتى الأكواب الملونة باللون الوردي — يتفاعل الضوء مع المواد الكيميائية، وسواءٌ أكانت هذه التفاعلات تفاعلاتٍ مُلمعات أو مُعتمات، فجميعها تحدث على مستوى الجزيئات. وفيما يتعلق بمتراكبات التناسق غير العضوية، يعتمد لون الضوء الذي يتفاعل مع الجزيء على طبيعة الليجندات، ومدى كونها في وضع محكم أو غير محكم في التحامها بأيون الفلز. ونتيجة لحدوث امتزاج معقد للمؤثرات، بما في ذلك التجاذب الإلكتروني وقوى الجذب البينجزيئية والأنتروبيا، ينجذب النشادر بشدة نحو أيون الحديد. وعندما أُضيف النشادر إلى محلول الحديد، أحاطت جزيئات النشادر بأيون الفلز حيث حلت محلَّ بعض جزيئات الماء وأيونات الخلات وغيرت لون المركب في هذه الأثناء. وعندما أضفنا فوق الأكسيد، غيرنا حالة أكسدة الحديد ومدى إحكام الليجند حول الفلز. وعليه، غيرت إعادة الترتيب تلك الطريقة التي تفاعل بها الضوء مع المركَّب، أو بكلمات أخرى، غيرت اللون.

ويُمكن للجزيئات العضوية الأكبرِ أن تُكوِّن معقَّدات مع الأيونات الفلزية أيضًا؛ فمنظف الرادياتير يتكون من عامل متراكِب قابلٍ للذوبان في الماء مثل المركَّب العضوي حامض الأوكساليك، الذي يُكوِّن قفصًا قابلًا للذوبان في الماء حول أيونات الفلز ثم يرفعها من جدران المبرد. أما المعادن التي تُوجَد مترسِّبة على جدران المبرد مثل الكالسيوم، فإنها كانت مذابة في ماء المبرد في وقتٍ ما، ونحن عادةً لا نُفكر في الكالسيوم على أنه فلز، لكنه كذلك، فالكالسيوم يقع في الجانب الأيسر من الجدول الدوري مما يجعله فلزًّا، ويُمكنه أن يُكوِّن مُعقدات تناسقية كما تفعل أيونات الفلزات الانتقالية، وعندما يكون الكالسيوم متراكبًا مع حامض الأوكساليك، يُصبح الكالسيوم قابلًا للذوبان في الماء.

وجزيئات المتراكبات العضوية التي تدفع الأيونات الفلزية إلى داخل المحلول تُعرف باسم «عوامل ربط مخلبية». ولعل أهم الروابط المخلبية العضوية هي تلك التي تحدث في أجسادنا، فمُعظم أيونات الفلزات الضئيلة الضرورية للحياة ترتبط بجزيئات البروتين بطريقة أو بأخرى، ويُمكن اعتبار البروتين عامل ربط مخلبيًّا. ويُعَد الهيموجلوبين في أحد أوجُهِه شكلًا مخلبيًّا للحديد، فبدون متراكِب تناسقِ الهيموجلوبين والحديد، لا يُمكن نقلُ الأوكسجين في دمائنا. ولأن البروتين الموجود في الهيموجلوبين يتجمَّع حول أيون الحديد؛ فهو يكون جيبًا جيدًا لغاز الأوكسجين، عندئذٍ يحمل الهيموجلوبين المنقول في الدم هذا الأوكسجين إلى الخلايا التي تحتاجها.

وتقدم الخانة المكونة من عمودَين في اليسار الأقصى من الجدول الدوري (التي تشتمل على الكالسيوم) والستة أعمدة الموجودة في اليمين الأقصى من الجدول الدوري، «العناصر النموذجية»، كما هو موضَّح في شكل ٢-٣.
fig50
شكل ٢-٣: العناصر النموذجية.

وتكون هذه العناصر في باقات متنوعة، تحوي فلزاتٍ ولافلزات، وأيضًا بعض الغازات والسوائل والمواد الصلبة في درجة حرارة الغرفة والضغط العادي. ويُوجَد ضمن المجموعة النموذجية عائلات عديدة جديرة بالاعتبار من العناصر، كلٌّ فيما يختص به في فرع من فروع الكيمياء.

ويحوي العمود الأول من أقصى اليسار عائلة الفلزات القلوية، التي نعرف العديد منها مثل الليثيوم (Li)، والصوديوم (Na)، والبوتاسيوم (K)، ولا تُوجَد معظم هذه العناصر — وكذلك الحال مع باقي الفلزات النموذجية — في الحالة الفلزية الطبيعية البتة. فهي تُوجَد في صورة متراكبات تناسقية أو أملاح. وفي الحكايات الأسطورية التي كانت تُروى عن صحراء «ديث فالي» في كاليفورنيا، غالبًا ما كانت هناك إحدى الشخصيات تُسمَّى ألقِلي «سام» Alkali Sam أو ألقِلي «بيتي» Alkali Pete أو ألقِلي «العجوز» old Alkali، وهو اسم مأخوذ عن أملاح الصحراء المحيطة بهذه الشخصية المِلحية.

ويُوجَد كلٌّ من الصوديوم والبوتاسيوم في كل مكان في المعادن واليابسة، وفي مسطحات المياه الطبيعية أيضًا، وقد أدى وجودهما في مياه المحيطات إلى اندماجهما في الكائنات الحية التي نشأت هناك. وفي هذه الأيام، يرتبط الاعتناء بالصحة بتركيزات أيونات الصوديوم العالية في الجسم، لكن التأكيد هنا هو على «التركيز». فالأمر الذي يتسبب في حدوث مشكلة هو في المقام الأول غياب الماء وليس وفرة الصوديوم. فقد اتجهنا في ثقافتنا إلى إضافة الصوديوم والابتعاد عن الماء، وهو ما يُعَد مزيجًا يُضعِف أحد أركان الآخر، فهو رفضٌ مؤسف لأبسط فَهم للمحلول الملحي (إذ يتكون من ماء وملح) كي نُخِل بالتوازن بهذه الطريقة.

ويحوي العمود الثاني من جهة اليسار الفلزات الترابية القلوية، التي هي البريليوم والماغنسيوم والكالسيوم والأسترونتيوم والباريوم والراديوم (على التوالي Be، Mg، Ca، Sr، Ba، Ra). ويُوجَد الماغنسيوم والكالسيوم في كل مكان، كما تحتاجهما أجسامنا الملحية والأجسام الملحية للمخلوقات الأخرى، ويُعَد الكالسيوم عنصرًا حيويًّا للعظام والأسنان والأصداف والهياكل الخارجية. ويلعب الكالسيوم دورًا حيويًّا في العمليات التي تقوم بها عضلاتنا وكذلك في التواصل الذي يجري فيما بين الخلايا. ولأن عنصر الأسترونتيوم يُوجَد في هذه العائلة، يُمكن أن يمتص الجسم الأسترونتيوم الإشعاعي النشاط، الذي هو ناتج انشطار تفاعلات ذرية معينة، ويستخدمه كما لو كان كالسيوم. ويُوجَد الراديوم، وهو عنصر إشعاعي أيضًا، في هذه العائلة.
أما عن العمودَين الثالث والرابع في المجموعة النموذجية، فهما يقعان أعلى الجهة اليمنى من الجدول الدوري، وهي المجموعة التي يُمكن وصفها على أنها فلزات «أشباه الموصلات». فعناصر هذه المجموعة تعمل كأشباه موصلات جيدة بسبب موقعها المتميز في الجدول الدوري. فهي تقع على مَقرُبة كافية من الفلزات الانتقالية حتى تعمل كموصلات بدرجة ما مثل الفلزات الانتقالية، غير أنه، بإمكانها أيضًا أن تكون روابط تساهمية شأنها في ذلك شأن المواد الأخرى التي تقع في الجهة اليمنى من الجدول الدوري. وتُستخدَم مخاليط القصدير والرصاص والجاليوم والإنديوم والألمنيوم (ورموزها على التوالي كالآتي: Sn، Pb، Ga، In، وAl) لصنع المواد شبه الموصلة التي تتمتع بمجال واسع من الخصائص. ويتفرد الجاليوم بأنه معدن صُلب يذوب عند درجة حرارة جسم الإنسان، وعليه يتحول إلى سائل بمجرد إمساكه باليد. أما الألمنيوم، كما رأينا، فهو أحد أكثر العناصر شيوعًا في القشرة الأرضية، غير أنه لم يكن يُستخدَم على نطاق واسع كمادة معدنية حتى بدايات العقد الأول من القرن العشرين؛ لأن الألمنيوم العالي التفاعلية/النشاط. وقبل أن يُستغَلَّ الألمنيوم استغلالًا تامًّا، كان يتعيَّن أن تُوجَد طريقة لاستخراج الفلزِّ من المِلح. ولم تنبع أهميةُ إعادة تصنيع فلزِّ الألمنيوم من نُدرته، لكنَّ كمًّا من الطاقة والمواد التي يتعين أن تنفد من أجل استخراجه من الصخور وتنقيته.

ونجد في العناصر النموذجية الخانةَ التي تحوي الكربون والنيتروجين والأوكسجين والفوسفور والكبريت، وهي العناصر التي تكون أساس الحياة إلى جانب الهيدروجين. ولكننا أطلقنا في الفصل السابق على كيمياء مركبات الكربون والهيدروجين، أو الهيدروكربونات، «الكيمياء العضوية»، وذكرنا أننا سوف نتناول الكيمياء العضوية والكيمياء غير العضوية كموضوعات منفصلة. فهل يُسمَح لنا الآن أن نمسَح هذه الأسطر وأن نضمَّ عناصرَ الكيمياء العضوية إلى عناصر الكيمياء غير العضوية؟ لن يُسمَح لنا فحسب، بل إنه يجب علينا أيضًا، فليس الكيميائي هو الذي مسحَ الأسطر، بل الطبيعة نفسُها؛ ففي عالمنا المتكافل والمتعايش، لا يُوجَد فصلٌ مطلَق بين الحيوان والأرض، غير أننا قد نسعى إلى فرض أحدهما من أجل التيسير على الكيميائي. ولا يُوجَد مكان أثبت فيه هذا التكافل وجوده بطريقة لافتة للنظر أكثر من ذلك الذي في دورات الكيمياء العضوية والكيمياء غير العضوية، حيث تتناوب الحياة استخدامَ عناصرَ مثل الكربون والنيتروجين، اللذَين يعودان إلى الأرض ثم إلى الهواء، ثم يُعاد استخدامهما مرةً أخرى لكي يُعزِّزا وجود الحياة.

في دورة النيتروجين، يتفاعل النيتروجين N2 غير العضوي الموجود في الغلاف الجوي، الذي يكون مادة غير عضوية، مع الأوكسجين O2 غير العضوي الموجود في الغلاف الجوي، في تفاعل يتسبَّب فيه البرق؛ ومن ثم فإن أكاسيد النيتروجين المتكونة وهي: NO، NO2، N2O4، يُمكن أن تذوب في ماء المطر مما يجعلها في متناول نوع معيَّن من البكتيريا التي تُوجَد في الأرض. ويُمكن لهذه البكتريا أن تستخدمها كي تصنع جزيئات النيتروجين – الكربون – الأوكسجين – الهيدروجين العضوية التي تُعرَف باسم الأحماض الأمينية. وحينئذٍ تتلقَّى النباتات والحيوانات المركَّبات العضوية التي تحوي النيتروجين الذي كوَّنَته البكتيريا، وتجري لها عمليات أيض، ثم تُخرِجها، وعندئذٍ تُعيدها مرة أخرى إلى الدورة كمركَّبات عضوية وغير عضوية وأملاح. وقد استغلَّ الكاتب إدجار آلان بو في قصته القصيرة «برميل أمونتيلادو»، وجود أملاح النترات ليشير إلى الموت وتحلل الجسد.1

فتعجبت قائلًا: النترات! انظر إنها تزداد، إنها تتدلى كالطحالب التي تغشى سطح المقابر، نحن الآن تحت سطح قاع النهر، وقطرات الندى تسيل بين العظام.

ولكي تكتمل الدورة، تتغذى حشرةٌ بكتيرية أخرى تعيش في ظروف لاهوائية (أي بدون الأوكسجين) على المركبات المتعفنة التي تحوي النيتروجين، ثم تُعيد غاز النيتروجين (N2) إلى الهواء.
وبالمثل يمرُّ الكربون عبر دورة من هذا التعايش العضوي وغير العضوي؛ إذ يبدأ الكربون (C) في شكل ثاني أكسيد الكربون غير العضوي في الهواء، ثم يُعدل من خلال عملية البناء الضوئي إلى سكريات في النباتات. وهذه السكريات — التي تهضمها الحيوانات والنباتات والبكتيريا وتخرجها — تعود مرةً أخرى في صورة ثاني أكسيد الكربون للمشاركة في دورة أخرى.
وثَمة عنصرٌ آخر مصاحبٌ للكربون ويليه مباشرة في الجدول الدوري هو السليكون، ويُمكن للسليكون (Si) أن يُكوِّن أيضًا سلاسلَ طويلةً من أنوية السليكون المترابطة، كما يُمكنه أيضًا أن يتخذ الشكل الرباعي الأوجه مثل الكربون، غير أنه لا يُمكنه أن يُكوِّن بسهولة الروابط الثنائية والثلاثية التي يُكوِّنها الكربون؛ ومِن ثَم لا يملك السليكون البراعة اللازمة لهذا الشكل المعقد من الحياة، مع أن بعضًا من كتاب الخيال العلمي تناولوه تناولًا مخالفًا تمامًا، ولا يزال السليكون يُشكل أساس الكوارتز والأحجار الكريمة والزجاج التي تُسهم في جمال الحياة.
أما عن باقي عناصر المجموعة النموذجية في الجهة اليمنى من الجدول الدوري، فأود أن أُكرِّر أنه من الأفضل أن يجري تناولها كعائلات، لكن هذه المرة كعائلات أحادية الأعمدة. وتُسمَّى العناصر الموجودة في العمود الذي يحتوي على الفلور (F)، التي هي الكلور (Cl)، والبروم (Br)، واليود (I)، «عائلة الهالوجينات»، كما في المصباح الهالوجيني. يُوجَد في المصباح الهالوجيني غاز الهالوجين في الحالة الغازية في انتفاخٍ صغير بداخل المصباح (يُمكنك أن تراه إذا نظرت عن كثب). عندما يسخن سلك التنجستين، يتطاير جزء صغير من سطحه، والغرض من وجود غاز الهالوجين هو حفظ السلك من التطاير كلية. فعندما تتطاير ذرات التنجستين من فوق السطح، فإنها تصطدم بالغاز فتعود مرة أخرى إلى السطح، وتزيد إعادة الوضع تلك من عمر السلك بدرجة ملحوظة، وتُوجَد الهالوجينات أيضًا في الطبيعة بغزارة، وخاصة في المحيطات وفي المعادن، وأُكرر مرة أخرى في الكائنات الحية. ويُعَد اليود أحدَ العناصر الضرورية في جسم الإنسان، فهو ضروري لوظيفة تقوم بها الغدة الدرقية، لهذا يُضيف مصنِّعو مِلح الطعام اليودَ إلى ملح الطعام.

وفي أقصى اليمين من الجدول الدوري تقع الغازات النبيلة — التي هي الهليوم والنيون والأرجون والكربتون والزينون والرادون. وتكون هذه العناصر كما أشرنا من قبل غايةً في الخمول، ولهذا السبب، نُقدِّم لأطفالنا بالونات مليئة بالهليوم دون أن نقلق بشأن الانفجارات (ولا يجب أن نُعطي هذه البالونات للرضع، ليس بسبب الهليوم ولكن بسبب المادة المصنوع منها البالونُ نفسُه). ويشتهر الرادون باعتباره مصدرًا للتعرض الإشعاعي المكثَّف؛ لأنه غاز نبيل — فهو خامل وغاز في الوقت ذاته — ويُمكِنه أن يتخلل التربة وينفذ إلى المنازل السيِّئة التهوية. ومع أن الرادون خامل كيميائيًّا، فإنه يُمكنه أن يتحمل التحلل الإشعاعي، وإذا استنشق فإن الجسيمات النافذة يُمكنها أن تُدمِّر أنسجة الرئتَين.

ويقع الرادون في الجهة السفلى من الجدول الدوري، شأنه في ذلك شأن العناصر المشعَّة كافة تقريبًا. وللأسف، تستحضر كلمة «إشعاعي» للذهن صور القنابل والأمراض والكوارث والدمار، ولكن على المستوى السلمي، يُمكننا أن نُقِر بأن النشاط الإشعاعي أمدَّنا بالأشعة السينية، وتقنيات التصوير العالية وعلاجات فعالة وغير جراحية للأمراض، لكن على مستوى المشاعر، فإننا تأقلمنا على أن نتفاعل سلبيًّا مع الأشياء المرتبطة بالنشاط الإشعاعي كافة. غير أن الخطر الناجم عن المواد الكيميائية هو نسبي دائمًا — فالكثير من الأسبرين يُمكن أن يكون مميتًا مثلما يكون الكثير من الماء مميتًا إذا كنت لا تُجيد العوم — وكذا الحال مع المواد الكيميائية الإشعاعية. ومع أنه ينبغي أن يُعامَل النشاط الإشعاعي والعناصر المنتِجة له بحرص شديد، فإنه إذا استخدم بطريقة مناسبة يُمكن التحكُّم فيه والسيطرة عليه.

وتخضع الكيمياء الإشعاعية أو كيمياء العناصر المشعة للسيطرة عن طريق النوع نفسِه من الكيمياء التناسقية التي تخضع لها العناصر الانتقالية، وأحد المخاوف التي تُساورنا بشأن عدم الانتشار النووي هي أن كيمياء اليورانيوم والبلوتنيوم هي بالفعل كيمياء غير عضوية صريحة، فمُعظم العناصر المشعَّة تُوجَد في مجموعة يُطلَق عليها «العناصر الأرضية النادرة» (التي تقع في هذَين الصفَّين المنفصلَين أسفل الجدول الدوري)، مع أنه تُوجَد عناصرُ ذات نظائرَ مشعَّة منتشرة في كلِّ أنحاء الجدول الدوري. وكما لاحظنا من قبل، النظائر هي ذرات لعناصر لا تختلف إلا في عدد النيترونات، فلها العدد نفسُه من البروتونات، ولكنها تختلف في عدد النيترونات. وتمتلك بعض النظائر عددًا غيرَ مستقرٍّ من البروتونات والنيترونات. وتتناثر هذه النظائر جزيئيًّا في محاولة للوصول إلى حالة الاستقرار؛ إذ تُطلق بعضَ الجسيمات وقدرًا كبيرًا من الطاقة أثناء ذلك.

وثمَّة نظيرٌ مشعٌّ شائعٌ للكربون وكذلك للبوتاسيوم؛ ومن ثَم يكون لدى أي شيء حي — أو أي شيء كان حيًّا من ذي قبل أو يحوي شيئًا كان حيًّا في وقتٍ ما — قدرٌ ما من الإشعاعية، ويُستخدَم الكربون المشعُّ في «التأريخ بالكربون». والنظير المشعُّ الذي يجعل التأريخَ باستخدام الكربون ممكنًا يُسمَّى كربون-١٤؛ لأنَّ عدد البروتونات والنيترونات في الأنوية يبلغ أربعة عشر (إذ يحوي ستة بروتونات لأنه كربون وثمان نيترونات لهذا النظير الكربوني). وتنتج الأشعة الكونية الكربون-١٤ بلا انقطاع، وتُطلِقه في الطبقة العليا من الغلاف الجوي. ولما كانت النباتات تتعامل مع الكربون-١٤ على أنه ثاني أكسيد الكربون والحيوانات التي تأكل هذه النباتات تستهلكه باعتباره سكَّرًا ونشا، فإنه أصبح منتشرًا بشكل منتظِم في كل الكائنات الحية، وظل عند مستوًى ثابت بدرجة لافتةٍ للنظر. أو بكلمات أخرى هو موجود ما دامت الكائنات الحية موجودة. وبمجرد أن يتوقف الكائن الحي عن الحياة، فهو لا يعود يمتصُّ الكربون-١٤، وعندئذٍ يبدأ كربون-١٤ الموجود في الكائن الميت في التحول إلى كربون-١٢. وعند مقارنة كمية الكربون-١٤ الموجودة في المادة الميتة بالكمية المتوقَّع وجودها في المادة الحية، يُمكِن للعلماء أن يُقدِّروا عمر الكائن الميت، أي منذ متى فارق هذا الكائن الحياة تقريبًا. وتنحصر هذه التقنية في تحديد عمر الأشياء الصناعية المشتقة من النباتات أو الحيوانات التي يقلُّ عمرها عن خمسين ألفَ عام، ومع ذلك فلا يزال هذا أمرًا مذهلًا؛ فقد استخدمت تقنية التأريخ باستخدام الكربون في تحديد عمرِ لفائف الورق البردي التي وُجِدَت عند البحر الميت، وبلغ عمرها ألفَيْ عام.2
ونحن نُقابل أيضًا العناصر المشعَّة كلَّ يوم في الأجهزة التي عادة ما تُثبَّت بهدوء وعلى نحوٍ غيرِ ظاهر في أسقف المطابخ والقاعات: كاشفات الدخان. أحقًّا، تكون كاشفات الدخان مشعَّة؟ أجل، هي مشعَّة، فالعنصر النشط في كاشفات الدخان مصدرٌ مشع، فهو عيِّنة من عنصر الأميريسيوم (Am)، الذي يُرسل تيارًا من الأشعة إلى الكاشف، فينطلق إنذارُ الدخان عندما يعوق دخانٌ هذا التيار — أو حتى بخار — ولهذا السبب تُثير أجهزة إنذار الحريق الموجودة في المطابخ الإزعاج؛ إذ ينطلق الإنذار حتى بدون وجود حريق. غير أننا لا نستطيع أن نُنكر أن كاشفات الدخان قد أنقذت أرواح الكثيرين؛ ومِن ثَم لا تنصاع للفكرة التي تُساورك كي تتخلص من جهاز كشف الدخان المزعج، وتستعيض عنه بوسيلة جيدة للتهوية.

وثَمة استخدامٌ آخرُ للأشعة المنطلقة من العناصر المشعة، الذي قد يكون أكثرَ إثارة للجدل من أجهزة الكشف عن الدخان، وهو استخدام الأشعة لقتل البكتيريا في الطعام. تعمل هذه الطريقة جيدًا، فهي تعمل على إطالة فترة تخزين العديد من الأطعمة، غير أن الكثيرين يرفضون استخدام طعام عُرض للإشعاع، ربما خوفًا من التلوث.

ولا ينبغي أن تنتابنا المخاوفُ بشأن التلوث؛ فالأغذية المعرَّضة للإشعاع لا تتعرض للمصدر الإشعاعي مباشرة، لكنَّ ثمة أفكارًا أخرى مُثيرة لرفض هذه الأطعمة، بعضها معنيٌّ بأن الإشعاع قد يُسبِّب حدوث تفاعلاتٍ في الطعام نفسِه مما قد يكون مركَّبات عادةً ما لا تكون موجودةً في الطعام. والبعض يقولون إننا ينبغي أن نقلق بشأن أي شيء يقتل فعليًّا كلَّ البكتيريا الموجودة في الطعام. لماذا؟ ذلك لأن البكتريا لا تُعَد أساسًا شيئًا سيِّئًا، فهي جزءٌ من النظام الكبير. فالطبيعة هي حافظٌ جيد للحياة، بما فيها حياة البكتيريا، فلا يُوجَد تحيُّز خاص لحياة الإنسان. من ثَم إذا تمكَّنا من تدمير بعض البكتيريا، مما قد يُسبب وجود فجوة ما، وقد ينشأ نوع جديد من البكتريا لسدِّ هذه الفجوة، ولا يُمكِننا أن نتنبأ بما إذا كان هذا النوع الجديد من البكتيريا ضارًّا بالإنسان أو غيرَ ضار. ويعدُّ هذا التعديل ممكنًا من جانب الطبيعة؛ لأن الأنظمة الطبيعية غيرُ جامدة، بمعنى أنها قابلة للتغيير. ونحن نميل إلى أن نُفكر في عالمنا في ضوء الاستمرارية والبقاء؛ لأنه عادةً ما يحدث التغيير ببطء شديد. غير أن الأنظمة الحيوية تستجيب للضغوط، كما هو الحال مع التفاعلات الكيميائية التي تنشأ عنها الأنظمةُ الحيوية. ونتناول في موضوعنا التالي المزيد من المناقشات حول الجزيئات الكيميائية الحيوية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤