الفصل الرابع

الفيروسات

تتضاءل معظم الفيروسات أمام الخلايا التي تُصيبها، وتُمثل التجمُّعات الفيروسية جزءًا صغيرًا من إجمالي الكتلة الحيوية في أي نظام بيئي. ومع ذلك فإن الفيروسات هي أكثرُ الكائنات التي تحمل معلوماتٍ وراثيةً عددًا. على سبيل المثال، في أعماق المحيطات تفوق الفيروسات أشكالَ الحياة الخلوية عددًا بنسبة ١٠٠ إلى ١. وتُشكِّل الفيروسات المسببة للأمراض جانبًا متفشيًا وبغيضًا من حياتنا؛ إذ تُسبب الأمراض المعدِيَة التي تتراوح بين نزلات البرد الشائعة التي ينشغل بها العالم، وتصل إلى حدِّ الذعر الذي يُسببه تفشِّي الإيبولا في أفريقيا. تُعتبر اللقاحات الروتينية للوقاية من مجموعةٍ من الأمراض الفيروسية واحدةً من النِّعَم التي منَّ بها علينا الطب الحديث، وقد طُوِّرَت العلاجات القوية لعلاج الأعراض الناتجة عن الكثير من أنواع العدوى الفيروسية المزمنة بما في ذلك التهاب الكبد الوبائي (ب) و(ﺟ)، ومرض الهربس الفموي والتناسلي، وفيروس نقص المناعة البشري. ومع ذلك، يموت ملايينُ الأشخاص جراء الإصابة بالفيروسات كل عام.

وبعيدًا عن عواقب الفيروسات على صحة البشر، نجد أن حياة جميع الكائنات الحية الدقيقة ودورات المغذِّيات عبر الغلاف الحيوي تعتمد على أنشطة الفيروسات. تتحكَّم الفيروسات في جماعات البكتيريا والعتائق وحقيقيات النواة وتُحرِّر هذه القوة المدمرة كميات ضخمة من المغذيات في الأنظمة البيئية البحرية والأرضية. يُعد تنوع الفيروسات الذي أسفرَت عنه الأبحاث الميتاجينومية مدهشًا، كما أن الاكتشافات الحديثة غيَّرَت من أفكارنا حول حدود التعقيد الفيروسي. تُعد هيمنة الجينات الفيروسية وانتشارها في جينومات الكائنات الحية الخلوية؛ مقياسًا لتأثير الفيروسات على تطور كلٍّ من بدائيات النواة وحقيقيات النواة، وقد بدأنا لتوِّنا في اكتشاف أصل الفيروسات نفسِها.

علم الفيروسات أحدثُ عهدًا من مجال دراسة البكتيريا. فقد تنبَّأ العلماء بوجود فيروسات بعد أن كانوا قد أحرَزوا بالفعل تقدُّمًا هائلًا في ربط بكتيريا معيَّنةٍ بأمراض مُعدية محددة. بتطبيق فرضيات كوخ (الفصل الأول)، عُزلت البكتيريا عن حيوانات المختبر المصابة بالعدوى، ووضعت في مزرعة، ثم حُقنت بها حيوانات سليمة. وقد أوضحَت إصابةُ هذه الحيوانات بالمرض أن البكتيريا في المزرعة كانت هي مُسبِّبات العدوى. فشل هذا الإجراء مع الجدري وداء الكلب والعديد من الأمراض الأخرى، وهو ما دلَّل على أن شيئًا آخر كان مسئولًا عن العدوى. السبب الذي أدى إلى فشل التَّجارِب هو أنه لا يمكن إنماء الفيروسات في مزرعة نقية؛ لأنها تعتمد على الاتصال بخلايا حية يمكنها التكاثر فيها.

على الرغم من أن الطبيعة المادية للفيروسات لم تكن معروفةً حتى القرن العشرين، استُخدمت طريقة التجدير (تلقيح الجلد بقشور من بثور الجدري) منذ آلاف السنين في الهند والصين باعتبارها طريقةً وقائية من الإصابة بالمرض. طوَّر إدوارد جينر استخدامًا أكثر أمانًا للكشوط المأخوذة من الجلد المصاب بجدريِّ البقر باعتباره لقاحًا ضدَّ مرض الجدري في تسعينيَّات القرن الثامن عشر، وبعد مرور قرن من الزمان، قدَّم لويس باستور لقاحًا ضد داء الكلب محضَّرًا من أدمغة أرانب مصابة. أُحرِز تقدمٌ كبير في فهم الفيروسات في نهاية القرن التاسع عشر بفضل التجارِب التي أظهرت أن بعض مسببات العدوى لم تُزَلْ من السوائل التي صُفِّيَت بمرشحات دقيقة لإزالة البكتيريا منها. أُجريت أولى هذه الدراسات في هولندا على فيروس تبرقش التبغ. يُدمر هذا الفيروس محاصيلَ التبغ من خلال التسبُّب في ظهورِ بقعٍ على الأوراق وتجعيدها. وقد نُشِرَت أولُ صورٍ أُخِذَت لجسيمات فيروسية باستخدام المجهر الإلكتروني، وأول تجارِب أجريت على التركيب الكيميائي للفيروسات، في ثلاثينيَّات القرن العشرين.

ويُعد تركيب الفيروس أبسطَ بكثير من تركيب الخلية بدائية النواة. تُحمل شفرة الجينوم الفيروسي في صورة جزيء واحد أو أكثر من الدي إن إيه أو الآر إن إيه، وتُحاط هذه الأحماض النووية بغلافٍ بروتيني يُسمى الغلاف البروتيني للفيروس (انظر شكل رقم ١-٨ في الفصل الأول). يتكوَّن الغلاف البروتيني للفيروس من عددٍ من الوحدات الفرعية البروتينية أو القسيمات القفيصية. فضلًا عن الحمض النووي والمكونات البروتينية، يُحيط غلاف دهني يشبه الغشاء الخلوي بالغلاف البروتيني للكثير من الفيروسات. ويمكن أن تتضمَّن المكوناتُ الأخرى الإنزيماتِ التي تُعَبَّأ داخل الغلاف البروتيني للفيروس. يُشار إلى التركيب الكامل لجسيم الفيروس بالجسيم الفيروسي أو الفيريون.

تتجمع الوحدات الفرعية من الجسيمات القفيصية، وتُرتَّب على هيئة أشكال عشرينية السطوح ولولبية، مكوِّنةً بذلك مجموعةً من الأشكال والأحجام للغلاف البروتيني للفيروس. ينتج التباين في الشكل عشريني السطوح من الطريقة التي تتكوَّن بها الأوجه المثلثية للتركيب. على سبيل المثال، إذا تكوَّن كلُّ وجه من ثلاث وحدات فرعية بروتينية، فسيتكوَّن الغلاف البروتيني للفيروس من ستين وحدة فرعية إجمالًا. وتُجَمَّع معظم الأغلفة البروتينية للفيروس من أكثرَ من ستين وحدةً فرعية. من السِّمات المميزة لتجميع الغلاف البروتيني للفيروس أنه لا يتطلب أيَّ مُدْخَل طاقة أيضيَّة من خلية العائل. فبمجرد أن تُخَلَّق مكونات الجسيم، ترتبط هذه الوحدات البنائية معًا بطريقة منظمة جدًّا من خلال آلية التجميع الذاتي. و«نمو» الفيروس أشبهُ بعملية التبلور الفيزيائية.

تتكون الأغلفة البروتينيَّة البسيطة للفيروس من نُسخ متعددةٍ من البروتين نفسِه؛ لكن التراكيب الأكثر تعقيدًا التي تُجمَع من نُسَخ متعدِّدة من بروتينات مختلفة تُعد أكثرَ شيوعًا. يحتوي فيروس تبرقش التبغ، القضيبي الشكل، على غلاف بروتيني ذي تركيبٍ لولبي يتكوَّن من ٢١٣٠ وحدة فرعية من بروتين واحد. يكون التجميع الذاتي لجسيمات فيروس تبرقش التبغ مزيجًا من الوحدات الفرعية البروتينية وجينوم الآر إن إيه للفيروس. ترتبط ١٧ وحدة فرعية معًا مكونة قرصًا مسطحًا من طبقتَين به تجويفٌ في المنتصف. تنزلق بنية شبيهة بدبوس الشعر عند أحد طرَفَي جُزيء الآر إن إيه إلى التجويف الموجود في القرص، وترتبط بالفجوة بين طبقَتَي البروتين في القرص، وهو ما يجعل القرص يأخذ شكل حلقة القفل المشقوقة. هذا التركيب هو حجر الأساس الذي يُبنى عليه التركيبُ الحلزوني لجسيم فيروس تبرقش التبغ الناضج، الذي يستمرُّ تجميعه بتكدُّس الوحدات الفرعية حول جزيء الآر إن إيه إلى أن يُغلف طول الجينوم بالكامل.

تُكوِّن الفيروسات البيكورناوية، بما في ذلك الفيروسات الأنفية والفيروسات السنجابية، أغلفةً بروتينية عشرينيَّة الأسطُح باستخدام ستِّين نسخةً من أربعة بروتينات مختلفة. تُجمع هذه النُّسخ سلفًا في صورةِ مجموعات من ثلاثة بروتينات لتكوين أشكال خماسية (١٥ وحدة فرعية بروتينية إجمالًا) قبل أن تندمج لتكوين غلافٍ بروتيني كامل. وبدلًا من أن تتكدَّس البروتينات حول الجينوم، مثلما يحدث في تضاعُف فيروس تبرقش التبغ، يُضاف جينوم الآر إن إيه للفيروسات البيكورناوية إلى الجسيم بعد تجميع الغلاف البروتيني. تُعد الفيروسات الغدانية أكثرَ تعقيدًا إذ يتكوَّن غلافها البروتيني عشريني الأسطح من سبعة بروتينات مختلفة، بما في ذلك وحدة فرعية تُكوِّن أليافًا زائدةً تبرز من جوانب الجسيم.

بالإضافة إلى البروتينات التي تُكوِّن الغلاف البروتيني المحيط بالجينوم، قد يحتوي الجزءُ الداخلي من الجسيم الناضج على إنزيمات فيروسية. تؤدِّي هذه الإنزيمات عددًا من الوظائف خلال مرحلة العدوى والتضاعف التالية. وتحصل الفيروسات المزوَّدة بأغلفةٍ على هذه الطبقات الدهنية الثنائية من أغشية خلايا العائل أثناء عملية مغادرة الفيروس. يمكن أن تحتويَ الأغلفةُ الفيروسية على بروتينات وبروتينات سكَّرية أو جليكوبروتينات (بروتينات مرتبطة بسلاسلَ متعددة السكريات) يحمل شفرتها الجينوم الفيروسي. ترتبط هذه الجزيئاتُ بالبروتينات المستقبلة الموجودة على غشاءِ خلية العائل، وتسهل دخول الفيروس لخلية العائل. وبالإضافة إلى دور الجليكوبروتينات الموجودة في الغلاف في تسهيل عملية الدخول، فإنها تُمكِّن الفيروسات من تجنُّب الآليات الدفاعية المناعية للعائل. يُطلق على إحدى الطرق التي يتمُّ بها هذا تُسمى حجب الفيروس بالجليكان. يشير ذلك إلى الطريقة التي تتداخل فيها السلاسل المكوَّنة من جزيئات السكر التي تتضمَّنُها الجليكوبروتينات مع الأجسام المضادة للعائل، فتمنعها من التعرُّف على البروتينات على سطح الغلاف.

تتجلَّى أهمية الجليكوبروتينات في دخول الفيروس لجسم العائل وتجنُّبِه للجهاز المناعي للعائل في حالة فيروس نقص المناعة البشري. فغلاف فيروس نقص المناعة البشري مُغطًّى بزوائدَ شوكيةٍ مجمعة من زوجَين من الجليكوبروتينات، يُسمى جي بي ٤١، يدعم التركيب في الغلاف، وجي بي ١٢٠، الذي ينكشف على السطح. يعتمد اندماج غلاف فيروس نقص المناعة البشري مع غشاءِ خلية العائل على ارتباط بروتين جي بي ١٢٠ ببروتين مُستَقبِل على سطح خلية العائل يُسمَّى سي دي ٤. بتطبيق تشبيه القفل والمفتاح على هذا الارتباط الجزيئي، يمكننا اعتبار جي بي ١٢٠ المفتاح الذي يفتح القفل، الذي يُمثله سي دي ٤، لدخول خلية العائل. بالإضافة إلى دور جي بي ١٢٠ في دخول الفيروس، فإنه يحجب مواقعَ الارتباط المحتملة الموجودة على سطح الفيروس عن الأجسام المضادة، مما يسمح للفيروس بالإفلات من تعرُّف الجهاز المناعيِّ عليه. ويُعد هذا الجليكوبروتين ضروريًّا لتضاعُف الفيروس كما أنه هدفٌ مهم في اللقاحات ضد فيروس نقص المناعة البشري. لسوء الحظ، يؤدي تنوُّع تركيب الجليكوبروتين نتيجةً للتطور المستمر الذي يخضع له الفيروس إلى جعله هدفًا صعبًا ومراوِغًا للباحثين. إذ تُعيق الجليكوبروتينات الخاصة بفيروسات أخرى مجموعةً متنوعة من العمليات الدفاعية التي تستخدمها الأجهزة المناعية للعائل.

تُعد ضرورةُ حدوث التضاعف داخل الخلايا الحية للعائل؛ من السمات التي تشترك فيها جميعُ الفيروسات. تتضاعف خلايا بدائيات النواة وحقيقيات النواة من خلال نَسْخ مادتها الوراثية بالكامل، والانقسام باستخدام آليات الانشطار الثنائي، والانقسام الميتوزي. لكن هذا ليس خيارًا متاحًا للفيروس. نظرًا إلى تركيب الفيروسات البسيط نسبيًّا، فإنها تتضاعف من خلال القرصنة على الآليات الجزيئية لِنَسخ الحمض النووي وتخليق البروتينات داخل الخلايا الحية لأي كائن حي. تتألف آليةُ النسخ الفيروسي من خمس خطوات: (١) الارتباط، (٢) الاختراق والغزو، (٣) التخليق، (٤) التجميع، (٥) الإطلاق (شكل رقم ٤-١). تتراوح المدَّة الزمنية المستغرقة لاكتمال كلِّ هذه الخطوات من ٢٠ دقيقة، كما في الفيروسات التي تُصيب الخلايا البكتيرية، إلى ٤٠ دقيقة كما في أبطأ الفيروسات الحيوانية.
يعتمد الارتباط على تفاعلٍ محدَّد بين البروتينات، أو الجليكوبروتينات، أو الدهون الموجودة على سطح الفيروس، وجزيئات المستقبلات الموجودة على سطح خليةِ العائل. لا بد أن يكون التوافقُ بين المستقبل والفيروس تامًّا، كما رأينا في حالة فيروس نَقْص المناعة البشري، ويُعد هذا أحدَ الأسباب وراء مهاجمة فيروسات محدَّدة لخلايا كائناتٍ عائلة بعينها. بعد ارتباط الفيروس، يدخل الجينوم أو جسيم الفيروس بالكامل إلى خلية العائل. هذه هي مرحلة الاختراق أو الغزو. ثَمة نوعٌ من الفيروسات يُصيب البكتيريا ويُسمى البكتيريوفاج، يبقى خارج خلية العائل ويحقن حمضه النووي في خلايا العائل. يُذكِّرنا الشكل المركَّب لبعض فيروسات البكتيريوفاج بنموذج مركبة أبولو القمرية (شكل رقم ٤-٢). تختلف عملية الاختراق تمامًا في حالة الكثير من الفيروسات التي تصيب الحيوانات؛ وذلك لأن الجزيء بالكامل — الغلاف البروتيني للفيروس والجينوم الفيروسي — يُمتَص بواسطة خلية العائل خلال آلية الإدخال الخلوي (كما هو موضح في الشكل رقم ٤-١). وبمجرد دخول خلية العائل، يُزال الغلاف البروتيني للفيروس الحيواني ويصبح الجينوم مكشوفًا. في مرحلة التخليق، تُصنَّع البروتينات التي يحمل شفرتها الجينوم الفيروسي بواسطة خلية العائل.
fig20
شكل ٤-١: دورة التضاعف الفيروسي في خلية عائل بدايةً من الارتباط بسطح الخلية، والاختراق من خلال الإدخال الخلوي، وكشف الجينوم الفيروسي، وتضاعف (تخليق) مكونات الجينوم والغلاف البروتيني، وتجميع الجيل الثاني من الجسيمات الفيروسية ووصولًا إلى إطلاقها عن طريق انحلال خلية العائل.

يُخلق نوعان من البروتينات الفيروسية عن طريق العائل. يشمل هذان النوعان البروتينات اللازمة لنسخ الجينوم الفيروسي، والبروتينات البنائية التي تُكوِّن جسيمات الفيروسات. تؤدي العدوى الفيروسية إلى إحداث خلل في الوظائف الطبيعية للخلايا العائلة، وتُثبط الإنتاج الطبيعي لبروتينات العائل من أجل إنتاج المكوِّنات اللازمة لتكوين فيروسات جديدة. في العديد من أنواع العدوى، يحمل الجينوم الفيروسي شفرةً لبروتينات تُبقي العلاقة الطفيلية من خلال التأكدِ من أن خلية العائل تستمرُّ في أداء وظيفتها أطولَ وقتٍ ممكن أثناء اشتراكها في إنتاج الفيروس.

يحدث تجمُّع الأغلفة البروتينية للفيروس وتعبئة نُسخ جينومات دي إن إيه أو آر إن إيه في الجسيمات داخل خلايا العائل. بمجرد اكتمال مرحلةِ التجميع، يمكن أن تحدث عمليةُ إطلاق المئات أو الآلاف من الفيروسات عن طريق تفجير الخلية العائلة أو بطريقةٍ أكثر رفقًا، وهي الهروب عن طريق عملية الإخراج الخلوي. تحمل فيروسات البكتيريوفاج، ذاتُ الذيل، شفرةَ إنزيمات التحلل المائي التي تُسمى إنزيمات الإندوليسين (الانحلال الخلوي الداخلي) التي تحلل جدار الببتيدوجلايكان للعائل البكتيري.

تَستخدم الفيروسات التي تصيب الكائنات الحية متعددة الخلايا آلياتٍ متنوعةً لدخول أنسجة العائل، قبل أن تغزوَ الخلايا المعرَّضة للإصابة. تتضمن هذه الآليات التقدُّم عبر جُرح في جلدِ الحيوان أو خدشٍ على سطح النبات. وتُعد الحشرات والقُراد وسائلَ لنقل الفيروسات التي تصيب الحيوانات والنباتات من عائلٍ لآخر. تنتشر الحمَّى الصفراء عن طريق البعوض وتُسبب عشراتِ الآلاف من الوَفَيات كلَّ عام. ومعظم حالات الإصابة بالحمَّى الصفراء تحدث في أفريقيا. تشمل الأمراض الأخرى التي تنتشر عبر البعوض حمَّى الضنك، وهو مرضٌ استوائي واسع الانتشار، وحمَّى غرب النيل، التي اكتُشفت لأول مرة في أوغندا وانتقلَت إلى الولايات المتحدة عام ١٩٩٩. تتسبب في كلٍّ من الحمى الصفراء وحمَّى الضنك وحمى غرب النيل فيروسات الآر إن إيه التي تُصنَّف باعتبارها فيروسات مُصَفَّرة. العديد من الفيروسات الأخرى التي تصيب البشر تُصيب الأنسجة الحيوانية مباشرةً عقب الاستنشاق، أو عن طريق الاتصال المباشر بسوائل الجسم المصاب عن طريق الاتصال الجنسي أو الحقن بإبرٍ ملوَّثة. تُعد حشرات المَن من العوامل المهمة في نقل فيروسات النبات.

ونظرًا إلى أنه لا يمكن إنماء الفيروسات بمفردها، يقوم علماء الفيروسات بإنماء الفيروسات في مَزارع تحتوي على كائنات حية دقيقة، ومزارع تحتوي على خلايا حيوانية وفي حيوانات ونباتات كاملة. لتحديد البكتيريوفاج وعدِّها، تُخلط العينات التي تحتوي على هذه الفيروسات بمزارعَ نقية من البكتيريا والآجار المذاب، وتُصَب فوق سطح أجار صُلب. يتجمد الآجار المذابُ بعد صبِّه وتنقسم البكتيريا وتُكوِّن مستعمرات من الخلايا على الطبقة السطحية خلال عملية التحضين في المساء. تصبح الفيروسات التي تصيب الخلايا المزروعة مرئيةً مثل المناطق الواضحة للبكتيريا الميتة، أو الطبقات الشفافة على سطح المزرعة. يمكن لكلِّ طبقة من الطبقات الشفافة على سطح المزرعة أن تبدأ بجُسيم فيروسي واحدٍ فقط؛ إذ إنها تتضاعف خلال دوراتٍ متعاقبة من التضاعف. يُستخدم كلٌّ من عدد الطبقات على سطح المزرعة، أو الوحدات المكوِّنة للطبقات ومُعامل التخفيف لحساب عدد الفيروسات في العينة الأصلية. أما الطبقات الأحادية من الخلايا الحيوانية المزروعة فتُستخدَم على نطاقٍ واسع لدراسة الفيروسات الحيوانية، وتُستخدَم الفئران وحيوانات التجارِب الأخرى عندما تكون مزارعُ الخلايا غيرَ فعالة. تُستخدم مزارع الأنسجة النباتية بالإضافة إلى النباتات بالكامل لدراسة الفيروسات النباتية، دون وجود مشكلات أخلاقية كالمتعلِّقة بالدراسة في مجال الفيروسات الحيوانية.

يعتمد تصنيف الفيروسات في مجموعاتٍ مختلفة على نوع الجينوم وآلية التضاعف التي يعتمد عليها. هذه الطريقة الخاصة تُعنى بالتركيب الجينيِّ الأساسي للفيروس وليس شكلَه وحجمه، أو عائله أو نوعَ المرض الذي يُسببه. ثمة سبعُ مجموعات موضَّحة بالترتيب (في الجدول رقم ٤-١). وجينوم فيروسات المجموعة الأولى مشفَّر في صورة شريط مزدوج من الدي إن إيه (dsDNA) داخل غلاف بروتيني. تتضمَّن هذه المجموعة كلًّا من فيروسات الهربس والفيروسات الجدرية. يُنسخ الدي إن إيه لهذه الفيروسات إلى الإم آر إن إيه بالطريقة نفسِها التي يُعبَّر بها عن الدي إن إيه في خلية العائل (الفصل الثالث). تتضمن فيروسات المجموعة الثانية شريطًا مفردًا من الدي إن إيه (ssDNA) ولا بد أن يُخلق شريط النيوكليوتيدات المكمل الناقص بعد إصابة الخلية بالعدوى؛ وذلك لأن إنزيم بلمرة الحمض النووي الريبوزي لا يُمكنه تكوين الآر إن إيه إلا بفكِّ التفاف اللولب المزدوج من الدي إن إيه ونسخِه. تتضمَّن فيروسات المجموعة الثانية فيروسات البارفو التي تتسبَّب في أمراضٍ مميتة للقطط والكلاب وثدييات أخرى، لكنها لا تُسبب أمراضًا خطيرة للبشر.
جدول ٤-١: تصنيف الفيروسات وفقًا لتركيبها الجينومي.
المجموعة الجينوم أمثلة
الأولى شريط مزدوج من الدي إن إيه فيروسات الهربس، والفيروسات الجُدَرية
الثانية شريط مفرد من الدي إن إيه فيروسات البارفو
الثالثة شريط مزدوج من الآر إن إيه الفيروسات الرِّيَوِيَّة (التنفسية المعدية)
الرابعة شريط مفرد موجب من الآر إن إيه فيروسات كورونا، والفيروسات البيكورناوية
الخامسة شريط مفرد سالب من الآر إن إيه فيروس داء الكلب، والفيروسات الخيطية والفيروسات المخاطية
السادسة شريط مفرد موجب من الآر إن إيه الفيروسات القهقرية
السابعة شريط مزدوج من الدي إن إيه المتضاعف بالنسخ العكسي التهاب الكبد الوبائي (ب)
تُحمل شفرة الجينات في المجموعات الأربعة التالية في صورة الآر إن إيه، وليس الدي إن إيه. تحتوي الفيروسات الرِّيَوِيَّة Reoviruses (التنفسية المعدية) وفيروسات المجموعة الثالثة الأخرى على شريطٍ مزدوج من الآر إن إيه. والفيروسات الرِّيَوِيَّة تتضمَّن الفيروسات العَجَلية التي تُسبب النمط الشائع من التهاب المعدة والأمعاء عند الأطفال، والفيروسات التي تُسبب العدوى في مجرى التنفس. تُعد جينومات الآر إن إيه مزدوج الشريط في هذه الفيروسات جزيئاتٍ شاذةً وغريبة؛ إذ لا تنتج الخلايا أيَّ شرائط مزدوجة من الآر إن إيه. ومع ذلك فإن التعبير عن جينات الفيروسات الرِّيَوِيَّة يُعتبر عملية مباشرة. عندما يُنسخ الدي إن إيه إلى الإم آر إن إيه، يؤدِّي أحدُ شريطي الدي إن إيه دور الشريط القالب لتكوين جزيء الآر إن إيه. يُسمَّى شريط الدي إن إيه الذي يُنسَخ لتكوين إم آر إن إيه الشريط المعاكس للشفرة أو الشريط السالب، ويُسمى شريط الإم آر إن إيه المنسوخ بالشريط الموجب. يُنسخ شريط الآر إن إيه المزدوج للفيروسات الرِّيَوِيَّة والذي يحتوي على شريط موجب وشريط سالب إلى الإم آر إن إيه في خلية العائل.
تحتوي فيروسات المجموعة الرابعة على شريط مفرد موجب من الآر إن إيه +ssRNA، الذي يُستخدم مباشرةً باعتباره شريطًا من إم آر إن إيه الذي يُترجَم إلى بروتين فيروسي. تُعد فيروسات كورونا المُسببة للمتلازمة التنفُّسية الحادة الشديدة (سارس)، والفيروسات البيكورناوية التي تُسبب شلل الأطفال ونزلات البرد الشائعة؛ أمثلةً على فيروسات المجموعة الرابعة. الشريط المفرد من الآر إن إيه لفيروسات المجموعة الخامسة عبارةٌ عن جينوم سالب الشريط من الآر إن إيه يُنسخ إلى إم آر إن إيه. تتضمن فيروساتُ المجموعة الخامسة فيروسَ داء الكلب، والفيروسات الخيطية التي تُسبب الإيبولا وحمَّى ماربورج النزفية، والفيروسات المخاطية التي تُسبب الحَصبة والنُّكاف.
تتضمَّن الفيروسات التي تُصنَّف ضمن المجموعتَين السادسة والسابعة أعقدَ آلياتِ التعبير الجيني. الفيروسات القهقرية، التي تشمل فيروس نقص المناعة البشري، هي فيروساتٌ تُصنَّف ضمن المجموعة السادسة وتحتوي على جزيئات آر إن إيه موجب مفرد الشريط. بدلًا من الاستخدام المباشر لجينوم المجموعة السادسة في صورة شريط الإم آر إن إيه، يتحول الآر إن إيه للفيروسات القهقرية إلى جزيءٍ مزدوج الشريط من الدي إن إيه بعد غزو الخليَّة. تُعرف فيروسات المجموعة السادسة بأنها فيروسات الآر إن إيه المتضاعف بالنسخ العكسي ssRNA-RT، حيث يشير RT إلى عملية تُسمى النسخ العكسي. النسخ العادي يكوِّن نسخة آر إن إيه من تتابع الحمض النووي، بينما النسخ العكسيُّ يُكوِّن نسخة دي إن إيه من الآر إن إيه القَالَب. يُحمل الإنزيم، الذي ينفذ عملية التخليق ويُطلق عليه إنزيم النسخ العكسي، إلى خلية العائل داخل الجُسَيم الفيروسي. تُدمج نسخة الدي إن إيه الخاصة بالجينوم الفيروسي في جينوم خلية العائل عن طريق إنزيم دمجٍ يحمل شفرته جين فيروس قهقري. بمجرد حدوث ذلك، يتضاعف الفيروس القهقري مع باقي الدي إن إيه للعائل، ويُحمل بوصفه عَدْوى فيروسية مستمرة. بعد الدمج، يمكن أن يبقى الفيروس القهقري في صورة فيروس كامن أو عدوى مستذيبة، لا تُترجَم جيناتها أو تصبح فعالةً فينتج عنها تكوينُ فيروسات جديدة. إذا نُقل الدي إن إيه الخاص بالفيروس القهقري الأصلي إلى البويضة أو الحيوان المنوي للحيوان، يمكن أن يورث إلى الجيل التالي. هذه الآلية مسئولة عن انتشار الفيروسات القهقرية الداخلية في الجينوم البشري.
تحتوي الفيروسات التي تُصنَّف في المجموعة الأخيرة، المجموعة السابعة، على جينوم في صورة شريطٍ مزدوج من الدي إن إيه المتضاعف بالنسخ العكسي dsDNA-RT، يُستخدم قالَبًا لتخليق الآر إن إيه الذي يُنسخ نسخًا عكسيًّا إلى جينوم دي إن إيه متضاعف. التهاب الكبد الوبائي (ب) هو مرضٌ يُسببه أحد هذه الفيروسات الغريبة التي تتحول جيناتها من دي إن إيه إلى آر إن إيه إلى دي إن إيه أثناء دورة التضاعف. وهو مثالٌ على الفيروسات الوَرَمِيَّة، وهي فيروسات تُسبب السرطان. يتضح الرابط بين العدوى المستمرَّة بفيروس التهاب الكبد الوبائي والسرطان من الدراسات الوبائية التي تُظهِر أن البلدان التي تنتشر فيها العدوى يرتفع فيها مؤشر الإصابة بسرطان الكبد. عندما يكون الفيروس نشطًا، فإنه يدمِّر خلايا الكبد ويسبب الالتهاب. العلاقة بين الفيروس والإصابة بالسرطان غيرُ مباشرة؛ إذ يعمل الفيروس على إدخال جين فيروسي محدد (الجين إكس) يؤثر على التعبير عن الجينات المسئولة عن التحكم في انقسام الخلايا في خلايا العائل. يرتبط سرطانُ الكبد أيضًا بالتهاب الكبد الوبائي (ج)، وهو فيروس آر إن إيه موجب مفرد الشريط +ssRNA (المجموعة الرابعة). تتضمن الفيروسات الورمية الأخرى فيروس تي الليمفاوي البشري HTLV-1، وهو فيروس قهقري يُصيب الخلايا التائية في الجهاز المناعي، وفيروس الورم الحليمي البشري الذي يسبِّب سرطان الرحم، وفيروس الهربس المرتبط بساركومة كابوزي الذي عادةً ما ترتبط تأثيراته بالضرر الذي يلحق بجهاز المناعة الذي تُسببه الإصابة بفيروس نقص المناعة البشري (الفصل الخامس). اعتُبِرَت الفيروساتُ الورمية مسئولة عن ١٠–٢٠ بالمائة من جميع حالات السرطان.
تتضمَّن أصغر الفيروسات فيروسات البارفو مفردة الشريط من الحمض النووي والفيروسات المجهرية، والفيروسات البيكورناوية الموجبة مفردة الشريط من الحمض النووي الريبوزي، كما تتضمَّن فيروس الخنازير porcine circovirus، أصغر الفيروسات على الإطلاق، الذي يتراوح قُطره بين ١٥–٢٠ نانومترًا فقط، وهو ما يعادل سُدس حجم الخلية البكتيرية العادية. يسبب هذا الفيروس الحلقي مرضَ الهزال العام للخنازير. ويحمل جينوم هذا الفيروس شفرة جينين: جين التضاعف الذي يُترجَم إلى بروتينَين يُطلق عليهما إنزيمات النسخ أو المنتسخات، وهي تنسخ الجينوم الفيروسي في الخلية العائلة، وجين الغلاف البروتيني للفيروس الذي يحمل شفرةَ نوعٍ واحد من بروتينات الغلاف البروتيني للفيروس. تتجمع سِتُّون نسخةً من بروتين الغلاف البروتيني للفيروس في الشكل العشريني الأوجه للفيروس الحلقي. ولا توجد فيروساتٌ أبسط من ذلك.
يُعبَّأ الآر إن إيه الموجب مفرد الشريط لفيروس كورونا المسبب للمتلازمة التنفسية الحادة الشديدة من النوع (سارس) في غلاف بروتيني قُطره ٩٠ نانومترًا، يحيط به غلافٌ دهني مزيَّن بأشواكٍ دبُّوسية الشكل من الجليكوبروتين. ويُعد جينومه من ضمن الجينومات الأكبر بين فيروسات الآر إن إيه ويحمل شفرة ١٤ بروتينًا. وفيروسات القوباء التي تُسبب قُرح الزكام (HSV-1) ومرض الهربس التناسلي (HSV-2) هي جسيمات أكبر بكثير لها شكلٌ عشريني السطوح ويبلغ قطرها ٢٠٠ نانومتر، أو ما يعادل خُمس حجم البكتيريا. HSV-1 وHSV-2 هما فيروسان من الدي إن إيه مزدوج الشريط يحمل جينوم كلٍّ منهما شفرةَ أكثرَ من ٧٠ جينًا. تتجمع سبعة بروتينات مختلفةٍ لتكوين الغلاف البروتيني، وترتبط هذه البروتينات عن طريق بروتينات أخرى بغلاف دهني محيط. بعد دخول خلية العائل، يوقف بروتين إغلاق، تُحمَل شفرته في جينوم الهربس، تخليق بروتينات العائل، ويدمر الإم آر إن إيه للعائل، وينظم التعبير عن الجينات الفيروسية. يستمر وجود فيروسي HSV-1 وHSV-2 داخل خلايا الجهاز العصبي في صورة فيروس كامن، ويُعاد تنشيطه من جديد عن طريق العديد من المحفِّزات البيئية والفسيولوجية. هذا التبديل بين دورات الكُمون ودورات الحالة (الانفجار الخلوي) مسئولٌ عن التفشِّي الدوري لأعراض العدوى.
يعكس استعمال مصطلح بكتيريوفاج، للإشارة إلى الفيروسات التي تُهاجم البكتيريا والعتائق، وقتًا لم تكن تُعتبر فيه البكتيريا نوعًا منفصلًا من بدائيات النواة. ويحتوي القليل من هذه الفيروسات على الآر إن إيه والدي إن إيه مفرَد الشريط، لكن الغالبية العظمى من جينومات البكتيريوفاج تكون في صورةِ جزيئات الدي إن إيه المزدوج الشريط. تتنوع أشكال البكتيريوفاج بين أشكالٍ عشرينية السطوح وقضيبية وجسيمات ليمونية الشكل والفيروسات المتصلة بذيلٍ أنيق، التي وُصِفَت سابقًا في هذا الفصل (شكل رقم ٤-٢). يُعبَّأ الدي إن إيه مزدوج الشريط في رأسٍ عشريني السطوح يتصل بذيلٍ أُنْبوبيِّ الشكل ينتهي بصفيحة قاعدية تُحيط بها أليافٌ تُشبه أرجل العنكبوت. تنثني الألياف عند اتصالها الجزيئي بسطح البكتيريا، فتجذب الصفيحة القاعدية إلى جدار خلية العائل. يتسبَّب ارتباط القاعدة بالجدار في انكماش الذيل، مما يدفع الحمضَ النووي الفيروسي إلى داخل البكتيريا. تستخدم عاثية الأمعاء T4 هذه الآلية لإصابة خلايا بكتيريا الإيشيرشيا كولاي، واستُخدِمَت بوصفها واحدةً من الأدوات الأكثر أهميةً في الأبحاث الحيوية الجزيئية الأولى. T4 هو فيروس يبلغ طوله ٢٠٠ نانومتر ويحمل جينومه ٢٨٩ بروتينًا. وعلى الرغم من عملٍ دام لعقود اضطَلَعَت به فِرَقٌ من الباحثين الموهوبين، فإن وظيفة الكثير من البروتينات لا تزال مجهولة.

في العَقد الأخير، اكتشف علماء الأحياء الدقيقة فيروسات عملاقة تُشفِّر جينوماتها بروتينات أكثر عددًا مما تُشفره بعض الخلايا. تتضاعفُ الفيروسات العملاقة، التي تُعرَف أيضًا بفيروسات دي إن إيه نووية سيتوبلازمية كبيرة، داخل خلايا الأميبا وحقيقيات النواة الأخرى بما في ذلك الطحالب العالقة. هذه الفيروسات الاستثنائية تُضاهي العديد من البكتيريا من حيث الأبعاد والصفات الجينية. هذه الفيروسات كبيرة بما يكفي لأن تُرى باستخدام المجهر الضوئي وقد تساءل الباحثون، في البداية، عمَّا إذا كانت طفيليات بكتيرية تعيش داخل العائل. تتضمَّن قِلةٌ قليلة من الجينومات المحددةِ التتابع جيناتٍ تحمل شفرةَ إنزيمات تشترك في عملية تضاعف الحمض النووي والتعبير الجيني، لكن جميع الفيروسات العملاقة تظلُّ معتمِدة على النشاط الأيضي للخلايا وآليَّةِ النسخ الخاصة بها. تُعد فيروسات باندورا أكبرَ الفيروسات المكتشفة حتى الآن. وهي تحتل الخلايا الأميبية مكوِّنةً جسيمات بيضاوية الشكل محاطةً بغلاف دهني، وتفتقر إلى التعليمات اللازمة لتكوين بروتينات الغلاف البروتيني. ويُعد أصل الفيروسات العملاقة من الموضوعات المشوقة، وقد اقترح بعضُ الباحثين أنها ربما تكون قد تطورت من أسلافٍ خَلوية بعد أن فقَدَت استقلالَها الفسيولوجي. الاقتراح الآخر هو أن الفيروسات العملاقة تُعد واحدًا أو أكثرَ من النطاقات أو فوق الممالك الحيوية التي تُضاهي أهميتُها البكتيريا والعتائقَ وحقيقيات النواة. يُعَد وجود الفيروسات العملاقة من الاكتشافات المشوقة والباعثة على التواضع التي تُشعرنا بأن ما نعرفه محدود، وأنه لا يزال أمامنا المزيدُ لنتعلمه حول التنوع الحيوي. فكلُّ كائن، سواءٌ أكان حقيقيَّ النواة أو بدائيَّ النواة، يستعمره العديدُ من الفيروسات، ومعرفتنا محدودةٌ بمدى تأثير الغالبية العظمى من هذه العوامل المُمرِضة على الوظائف والعمليات الحيوية.

fig21
شكل ٤-٢: بكتيريوفاج يحقن حمضَه النووي في خلية بكتيرية عائلة.
الفيروسات المعيبة هي فيروساتٌ فقَدَت جزءًا من جينومها، ولا بد أن تصيب خلية العائل بالتعاون مع فيروس مساعد لتنفيذ التضاعف. هذه الفيروسات قادرةٌ على تعطيل الفيروسات المساعِدة من خلال منافستها في آليات التضاعف، ومع ذلك وُجِدَت حالات لفيروسات معيبة زادت من نقل الفيروسات المساعدة. فيروس P2 هو فيروس مساعد يحمل جينومُه شفرةَ بروتين الغلاف البروتيني لبكتيريوفاج P4 (وليس T4 المذكور آنفًا)، الذي يهاجم بكتيريا الإيشيرشيا كولاي. تتطلب إصابةُ البكتيريا بالعدوى نسْخَ بروتينات من P4 وP2، وضمان الفيروسات الشريكة لتضاعفٍ متبادَلٍ من خلال هذا التعاون الجزيئي. الفيروس الآكل هو نوعٌ آخر من الفيروسات المعيبة يُصيب الأميبا بالتعاون مع فيروسات عملاقة. يعتمد هذا الفيروس الآكل على بروتينات فيروسات عملاقة كي ينسخ نفسَه ويُثبط نسخ الفيروس العملاق. ويمكن اعتبار الفيروس الآكل متطفلًا على الفيروس العملاق.

بالإضافة إلى الفيروسات والبكتيريا والفطريات التي تُسبب الأمراضَ (الفصل الخامس)، فالعديد من الكيانات الجزيئية البسيطة مسئولٌ عن الإصابة بأمراضٍ مدمِّرة للغاية. الفيرويدات أو أشباه الفيروسات هي وحداتٌ مكشوفة من آر إن إيه مُعدٍ تُشبه الفيروسات في آلية التضاعف. نظرًا إلى أن هذه الجزيئات المفردةَ الشريطِ من الآر إن إيه تفتقر إلى غلافٍ بروتيني، فإنها تُسبب أمراض النبات من خلال الدخول في النسيج المصاب والتنقل بين الخلايا لغزو خلية العائل. تُقلل الفيرويدات محصول البطاطس والتفاح والأفوكادو والباذنجان وغيرها من المحاصيل الزراعية. ويُحفَّز تضاعف الحمض النووي الريبوزي للفيرويد عن طريق إنزيم بلمرة الحمض النووي الريبوزي في النبات العائل. ويبدو أن عرقلة الفيرويد للتعبير عن جينات النبات هي الآلية الأرجح التي ينتج عنها تلفُ نسيج النبات.

البايرونات هي عواملُ مُمرضة للحيوانات قائمة على البروتين ولا تحتوي على أي حمض نووي. تتضمن الأمثلة على الأمراض التي تُسببها البايرونات مرضَ جنون البقر (التهاب الدماغ الإسفنجي البقري) وتأثيره القاتل على البشر، ومرض كروتزفيلد جاكوب. تسبب البايرونات المرضَ من خلال تداخلها مع البروتينات التي تُحمَل شفرتها في جينوم العائل، فتُحوِّل الجزيء غيرَ الضار إلى بروتينٍ مدمِّر. تتضمن عملية التحويل اختلالَ بروتين العائل الذي يؤدي إلى موت الخلية. في حالة مرض كروتزفيلد جاكوب، يتراكم بروتين البايرون في نسيج الدماغ، فيقتل الخلايا العصبية، ويُحدِث ثقوبًا في الأنسجة المصابة في الدماغ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤