تمهيد

بلد غير طبيعي

١

نظرًا لضخامة تعداد شعب الهند وتنوعه فإنه منقسم. والظاهر أنه لطالما كان منقسمًا؛ ففي ربيع عام ١٨٢٧، شدَّ الشاعر ميرزا أسد الله خان غالب الرِّحال من دلهي إلى كلكتا، وبعد ستة أشهر بلغ مدينة باناراس المقدسة لدى الهندوس، وهناك كتب قصيدة بعنوان «مصابيح المعبد»، حَوَت السطور الخالدة التالية:

قلت ذات مرة لعرَّاف أصيل (يعرف أسرار الدهر الدوَّار):
«تعي جيدًا يا سيدي
أن الخير والإيمان
والوفاء والمحبة
بارحت هذه الأرض التعسة.
فالأب وابنه في شقاق،
والشقيقان يتقاتلان. والوحدة والاتحاد يذويان.
ورغم تلك العلامات المشئومة،
لمَ لا تقوم الساعة؟
لمَ لا يُنفَخ في الصور؟
مَن يُمسك بزمام الطامة الكبرى؟»1

ألَّف غالب قصيدته على خلفية أفول نجم الإمبراطورية المغولية. حينها كان مسقط رأسه — سهل الجانج الهندي الذي كان يحكمه حاكم واحد في يوم من الأيام — قد تفرَّق بين القبائل والجيوش المتناحرة؛ فكان الشقيقان يتقاتلان، والوحدة والاتحاد يذويان، إلا أنه أثناء كتابته تلك الأبيات، كان ثمة قوة جديدة (أجنبية) آخذة في بسط سيطرتها على البلاد؛ إذ راحت بريطانيا تبسط نفوذها بثبات مطَّرد على الجزء الأكبر من شبه القارة الهندية، حتى انتفضت قطاعات كبيرة من السكان الأصليين عام ١٨٥٧، فيما سمَّاه المستعمرون تمرد سيبوي، الذي أطلقت عليه الحركة القومية الهندية فيما بعد حرب الاستقلال الأولى.

دارت بعض أشد المعارك ضراوةً في مسقط رأس غالب؛ دلهي، التي كانت لا تزال عاصمة المغول اسمًا، وكانت ستصير مع مرور الوقت عاصمة الراج البريطاني (أي الحكم البريطاني للهند) أيضًا. أما غالب نفسه فكان ولاؤه مقسَّمًا؛ إذ كان يقبض معاشًا من الحكام الجدد، ولكنه نِتاج الثقافة المغولية الراقية. وقد اتضح له أكثر مما اتضح للمستعمرين البريطانيين آنذاك أو للحركة القومية الهندية الآن، أنه يستحيل التمييز بين الحق والباطل في تلك الحالة، وأن كلا الطرفين ارتكبا فظائع يشيب لها الولدان. وكتب غالب أثناء فترة عزلته في داره سردًا حزينًا جاء فيه: إن «الهند صارت ساحة زوبعة هائلة ونار مستعرة». وسأل قائلًا: «إلى أي نظام جديد يمكن للهندي أن يتطلع في حبور؟»2

كانت إجابة ذلك السؤال وشيكة؛ فبعد أحداث عام ١٨٥٧ تولت بريطانيا زمام الحكم في المستعمرات الهندية، وحل جهازٌ بيروقراطي راقٍ محلَّ إدارة شركة الهند الشرقية القديمة التي كانت ذات طبيعة مؤقتة وعشوائية إلى حد ما، وتكونت مناطق ومقاطعات جديدة، وتولَّى إدارة الدولة نخبة ممثَّلة في دائرة الخدمة المدنية الهندية بدعم من مديريات الشرطة والغابات والري وما إلى ذلك، وبُذل الكثير من الجهد (والمال) لإنشاء سكك حديدية عبر البلاد، وهو ما كان له إسهام كبير في وحدة الهند البريطانية واستقرارها؛ إذ تسنَّى للحكام تحريك قواتهم بسرعة للحيلولة دون تكرر أحداث عام ١٨٥٧.

٢

بحلول عام ١٨٨٨، كان البريطانيون قد وطَّدوا أقدامهم في الهند إلى حد أنه بات بإمكانهم توقُّع دوام حكمهم، إن لم يكن ألف عام، ففترة تتجاوز أعمارهم بكثير على أقل تقدير. وفي ذلك العام، ألقى رجل كان قد شارك في إرساء قواعد الحكم البريطاني للهند سلسلة من المحاضرات في كامبريدج، نُشِرَت فيما بعدُ في كتاب تحت عنوان بسيط: «الهند». كان ذلك الرجل هو السير جون ستراتشي، الذي أمضى سنوات طوالًا في شبه القارة الهندية، وأصبح في النهاية عضوًا في مجلس الحاكم العام. وبعد تقاعده في إنجلترا، تناول تجربته في الهند على خلفية التطورات السياسية الأخيرة في أوروبا نفسها.

أفرد ستراتشي أجزاءً كبيرة من كتابه للتاريخ الإداري للحكم البريطاني للهند؛ من حيث الجيش ودوائر الخدمة المدنية، والسياسات المعنية بالأراضي والضرائب، والوضع الغريب الذي تمتعت به «الولايات المحلية» (الولايات الأميرية). كان ذلك بمنزلة الإعداد لمن قد يعملون في الهند بعد الرحيل عن كامبريدج. لكن كتابه انطوى كذلك على رأي نظري أشمل مفاده أن «الهند» مجرد لقب أُطلق بغرض التيسير؛ أي إنه «اسم نطلقه على منطقة هائلة تشمل العديد من الأقطار المختلفة».

كان ستراتشي يرى أن الاختلافات القائمة بين أقطار أوروبا أقل كثيرًا من الاختلافات القائمة بين أقطار الهند، فقال: «إن اسكتلندا تشبه إسبانيا أكثر مما تشبه البنغال البنجاب.» فقد كان تنوع الأعراق واللغات والأديان في الهند أكبر بكثير. وخلافًا لأوروبا، لم تكن تلك «الأقطار» «دولًا»؛ أي، إنها لم تكن تتمتع بهوية سياسية أو اجتماعية مميزة. وقال ستراتشي لجمهوره في كامبريدج: «إن أول وأهم شيء ينبغي تعلُّمه عن الهند هو أنه لا يوجد ما يسمى الهند، وما كان موجودًا قط، ولا حتى أي قطر من أقطار الهند يمتلك — حسب الفكر الأوروبي — أي نوع من الوحدة سواء المادية أو السياسية أو الاجتماعية أو الدينية.»

رأى أنه لم يكن ثمة أمة أو دولة هندية في الماضي، وأنه لن يكون هناك واحدة في المستقبل. واعتقد أنه «يمكن تصور نشأة مشاعر الولاء الوطني في أقطار هندية بعينها». لكنه عقب قائلًا: «أما أن يمتد أثر ذلك الولاء ليشمل الهند كافة، وأن يشعر رجال البنجاب والبنغال والمقاطعات الشمالية الغربية ومدراس يومًا أنهم ينتمون إلى دولة هندية واحدة، فأمر مستحيل؛ فقد يحدو بك المنطق والاحتمالية ذاتهما أن تتطلع إلى وقت تتوحد فيه دول أوروبا المتعددة في دولة واحدة.»3

كان ستراتشي يعتمد في تعليقاته على الحكم من واقع التاريخ؛ ففي ذلك الوقت كان ثمة دول جديدة تعلن عن نفسها بقوة داخل أوروبا على أساس اللغة المشتركة أو الأراضي المشتركة، في حين لم تبدر عن أيٍّ من الأقطار التي عرفها في الهند صحوة وطنية مشابهة. لكن يمكننا كذلك تأويل تعليقاته على أنها نصيحة سياسية تهدف إلى تقوية عزيمة من سيَئُول به الأمر ضمن الحضور إلى الخدمة في الهند؛ إذ كل «دولة» جديدة تنشأ في الهند تعني انتقاصًا من قوة الإمبراطورية البريطانية ومكانتها.

ومن المفارقات أنه أثناء حديث ستراتشي كان ثمة مجموعة من الهنود تشكك في الحكم الذي أطلقه. كانت تلك المجموعة هي التي أسست المؤتمر «الوطني» الهندي؛ الهيئة التمثيلية التي طالبت بمنح سكان البلد دورًا أكبر في إدارة شئونهم. وكما يتبين من اسمها، استهدفت تلك الهيئة توحيد الهنود من شتى الثقافات والأقاليم والأديان واللغات؛ ومن ثَمَّ إقامة ما ظنَّه المستعمرون أمرًا مستحيلًا؛ وهو دولة هندية «واحدة».

صدر العديد والعديد من الكتب الجيدة في موضوع تطور المؤتمر الوطني الهندي، وتحوله من نادٍ للنقاش إلى حركة جماهيرية ثم حزب سياسي، والدور الذي اضطلع به زعماء مثل جوخال وتيلاك و(في المقام الأول) غاندي في تلك المسيرة التقدُّمية. وتَوجَّه الانتباه إلى مد جسور التواصل بين الجماعات اللغوية والتجمعات الدينية والطوائف الاجتماعية المختلفة. لم تُكلَّل تلك المحاولات بنجاح كامل؛ إذ لم تقتنع الطوائف الاجتماعية الدنيا، ولا سيما المسلمون، اقتناعًا كاملًا قط بزعم المؤتمر الوطني أنه حزب «وطني» بحق؛ لذا عندما أتى الاستقلال السياسي أخيرًا عام ١٩٤٧ لم يأتِ لدولة واحدة، وإنما لدولتين: الهند وباكستان.

ليس هذا مجال استرجاع تاريخ الحركة القومية الهندية؛4 إذ ليس عليَّ سوى التذكير بأنه منذ تأسيس المؤتمر الوطني حتى تحرير الهند — وتقسيمها — كان ثمة متشككون يرون أن الحركة القومية الهندية لم تكن ظاهرة طبيعية على الإطلاق. قطعًا كان ثمة ساسة ومفكرون بريطانيون يرحبون بمنح الهند الحكم الذاتي، وساهموا على طريقتهم الخاصة في تحقيق ذلك (كان أحد المحركين الرئيسيين للمؤتمر الوطني الهندي مسئولًا استعماريًّا من أصل اسكتلندي هو: ألان أوكتافيان هيوم)، إلا أنه كان ثمة آخرون كُثُر يرون أنه لم يكن ثمة روح قومية في الهند — خلافًا لفرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا — ولم يكن ثمة رباط يؤلِّف بين الناس ويدفعهم إلى الأمام بعزم. ونبع من تلك الرؤية الادعاء القائل بأن الاستعمار البريطاني كان هو الشيء الوحيد الذي وحَّد الهند والهنود.
وكان من مؤيدي رأي جون ستراتشي — القائل بأنه لا يمكن أبدًا أن تقوم دولة هندية مستقلة — كُتَّاب مشهورون ومغمورون على حد سواء. كان من أبرز المنتمين إلى الفئة الأولى رَديارد كيبلينج، الذي قضى السنوات التكوينية من حياته في شبه القارة الهندية، وكتب عنها بعض أروع قصصه. في نوفمبر ١٨٩١، زار كيبلينج أستراليا، وهناك سأله أحد الصحفيين عن «إمكانية تحقق الحكم الذاتي في الهند»، فردَّ قائلًا: «أبدًا! شعبها عمره ٤ آلاف سنة؛ أي إنه شعب عجوز إلى حدٍّ يحول دون تعلُّمه مثل تلك الأمور. ما يريدونه هو القانون والنظام، ونحن هناك لنمنحهم إياهما، ونؤدي مهمتنا على أكمل وجه.»5
وفي حين شدد كيبلينج على قِدَم الحضارة الهندية، أكَّد مستعمرون آخرون على عدم نضج العقلية الهندية وإن وصلوا إلى النتيجة ذاتها؛ وهي أن الهنود غير قادرين على حكم أنفسهم. وقد أصرَّ لاعب كريكيت وصاحب مزارع شاي — بعد أربعين عامًا قضاها هناك — على أنَّ:

الفوضى ستعم الهند إن بلغت منا الحماقة يومًا أن ندع أهلها يديرون شئونهم بأنفسهم. يا للهول! ما أفظع خليط الِاضْطِراب والعبث وسوء الإدارة وما هو أسوأ من ذلك بكثير الذي سيتبع ذلك على الفور!

قد يذهب ذلك الشعب العظيم إلى أي مكان ويفعل أي شيء «تحت قيادتنا».

أما عنهم أنفسهم فما زالوا أطفالًا فيما يتعلق بأمور الحكم أو الحنكة السياسية، وقادتهم المزعومون هم أسوأ من فيهم.6

كانت مثلُ تلك الآراء واسعةَ الانتشار فيما بين البريطانيين سواء داخل الهند أو في وطنهم. على الصعيد السياسي، كان أهم «أنصار ستراتشي» هؤلاء هو ونستون تشرشل بلا مراء؛ ففي أربعينيات القرن العشرين — عندما لاح استقلال الهند جليًّا في الأفق — قال تشرشل متذمِّرًا إنه لم يصر الوزير الأول للملك حتى يقود تفكيك الإمبراطورية البريطانية.

فقبل تلك الأحداث بعقد من الزمان حاول أن يبثَّ الحياة في مستقبله السياسي المحتضِر بانتهاج سياسة مُعارضة منْح الهنود الحكم الذاتي. وبعد «مسيرة الملح» التي قادها غاندي عام ١٩٣٠، بدأت الحكومة البريطانية تبحث مع أعضاء الحركة القومية الهندية مسألة إمكانية منح مستعمرة الهند وضع الدومنيون، فوُضعت تلك الفكرة بصورة مبهمة دون جدول زمني لتحقيقها. وعلى الرغم من ذلك، سمَّاها تشرشل فكرة «ليست خيالية في حد ذاتها فحسب، بل وشريرة بصورة إجرامية في تبعاتها». وبما أن الهنود لم يكونوا أهلًا للحكم الذاتي، كان لا بد من تسيير «القوات الجادة الصارمة للإمبراطورية البريطانية» لاستباق أي احتمال من ذلك القبيل.

وخلال عامي ١٩٣٠ و١٩٣١ ألقى تشرشل خطابات عدة تستهدف — بأسلوب غير مباشر — حشد أنصار معارضة استقلال الهند؛ ففي خطاب ألقاه أمام جمهور من الناس في مدينة لندن (جزء من لندن الكبرى) في ديسمبر عام ١٩٣٠، زعم أنه إذا ترك البريطانيون شبه القارة الهندية، «فسيُستعان بجيش من الإنكشاريين البيض — بتوجيه من ألمانيا إن لزم الأمر — لتأمين صعود الهندوس المسلَّح إلى السلطة». وبعد مرور ثلاثة أشهر، قال تشرشل في الخطاب الذي ألقاه في قاعة ألبرت هول عن «واجبنا تجاه الهند» — بينما كان قريبه دوق مارلبورو يرأس الجلسة إنَّ «تسليم الهند لحكم البراهمة [المسيطرين على حزب المؤتمر الوطني من وجهة نظره] تصرُّف يتسم بالإهمال القاسي والآثم». وتنبأ بأنه إذا رحل البريطانيون فستزول الخدمات العامة التي أنشئوها قاطبة — الإدارات القضائية والطبية وإدارة السكك الحديدية والأشغال العامة — وأنه «سرعان ما سترتد الهند قرونًا إلى الوراء لتسقط في بئر الهمجية والحرمان الذي كانت غارقة فيه في العصور الوسطى».7

٣

بعد مرور عقد ونصف عقد من الزمان على إطلاق ونستون تشرشل تلك التحذيرات، رحلت بريطانيا عن الهند، وتلا ذلك فترة من الهمجية والحرمان فعلًا، ما زال تحديد المسئول عنها موضع جدل محتدم. لكن أمكن استعادة النظام بعدها بصورة أو بأخرى، ولم تستدعِ الحاجة تدخل الألمان لحفظ السلام. أما صعود الهندوس — إنْ جاز الوصف — فحدث واستمر لا بقوة السلاح وإنما بانتخابات منتظمة قائمة على حق الاقتراع العام للبالغين.

إلا أنه خلال السنوات الستين المنصرمة منذ استقلال الهند، صارت مدة بقائها موحَّدة أو حفاظها على المؤسسات والعمليات الديمقراطية مثار التكهُّنات؛ فكلما مات رئيس وزراء سادت تنبؤات بحلول الحكم العسكري محل الديمقراطية، وكلما شحَّت الأمطار الموسمية تَوقَّع الناس أن تجتاح البلاد المجاعة، وكلما ظهرت حركة انفصالية جديدة لاح في الأفق اختفاء الكيان الموحَّد للهند.

من بين أولئك المتشائمين كان ثمة كتَّاب غربيون، بعد عام ١٩٤٧ صار احتمال أن يكونوا أمريكيين أو بريطانيين متساويًا. الجدير بالذكر أنَّ وجود الهند لم يمثل لغزًا فقط بالنسبة إلى المراقبين العابرين أو الصحفيين الذين يحكِّمون بديهتهم فحسب، بل مثَّلت حالة شاذة بالنسبة إلى علم السياسة الأكاديمي أيضًا، الذي تنص مسلَّماته على أن التغايُر الثقافي والفقر لا تقوم عليهما الدول، ناهيك عن الدول الديمقراطية؛ فقد كتب عالم السياسة المرموق روبرت دال أن فكرة أنَّ الهند «يمكنها الإبقاء على مؤسسات ديمقراطية تبدو — ظاهريًّا — مستبعدةً إلى حدٍّ بعيد». وأضاف أنها: «تفتقر إلى الظروف المطلوبة كافة.» وكتب باحث أمريكي آخر يقول: «إن الهند مشهورة بتحطيمها تعميمات العلوم الاجتماعية، إلا أن النتائج التي توصَّل إليها هذا المقال توفر أساسًا للتشكيك في استمرارية الديمقراطية الهندية.»8
وتزخر صفحات هذا الكتاب بتنبؤات تنذر بتفكك الهند الوشيك، أو وقوعها في بئر الفوضى أو الحكم السلطوي. دعوني أستشهد بنبوءة لا أكثر لزائر متعاطف هو الصحفي البريطاني دون تايلور، فعندما كتب تايلور عام ١٩٦٩ — حين كانت الهند قد ظلت متَّحدة طوال عقدين من الزمان واجتازت أربعة انتخابات عامة — كان ما زال يفكر كالتالي:

يظل السؤال المهم هو: هل يمكن أن تبقى الهند وحدة واحدة، أم أنها ستتفكك؟ … عندما يتطلع المرء إلى ذلك البلد بمساحته الشاسعة، وشعبه الذي يبلغ تعداده ٥٢٤ مليون نسمة، واللغات الخمس عشرة الكبرى المستخدمة فيه، وأديانه المتنازعة، وأجناسه المتعددة، يبدو عسيرًا على التصديق أن تتمكن دولة واحدة من أن تنشأ يومًا في تلك الظروف.

بل إنه من العسير حتى أن يستوعب العقل حدود ذلك البلد بما يحويه من جبال الهيمالايا العظيمة، وسهل الجانج الهندي الفسيح الذي تحرقه الشمس وتجتاحه الأمطار الموسمية الضارية، والدلتا الشرقية الخضراء المغمورة بمياه الفيضان، والمدن العظيمة مثل كلكتا وبومباي ومدراس؛ فهي — في كثير من الأحيان — لا تبدو بلدًا واحدًا، إلا أنَّ الهند تتمتع بصلابة تبدو ضمانًا لبقائها، وفيها شيء لا يمكن وصفه إلا بالروح الهندية.

أظن أنه ليس من قبيل المبالغة أن نقول إنَّ مصير آسيا مُعلَّق ببقائها.9

يتمنَّى القلب أن تبقى الهند، ولكن العقل قلِق من ألا تبقى؛ فهي مكان مفرط التعقيد والإرباك، ويجوز للمرء أن يقول إنها بلد «غير» طبيعي.

والحقيقة أنه منذ نشأة ذلك البلد كان ثمة هنود كُثُر ارتَأوا أن بقاء الهند على المحكِّ، فكان بعضهم (الوطنيون) يتحدث أو يكتب في تَخَوُّف، والبعض الآخر (الانفصاليون أو الثوريون) يتحدث أو يكتب في تَرَقُّب. وعلى غرار نظرائهم الأجانب، صاروا يعتقدون أن ذلك المكان أكثر تنوعًا من أن يظل دولة، وأفقر من أن يظل ديمقراطيًّا.

٤

في العقد الأخير من القرن الماضي أقمتُ بمسقط رأس غالب، إلا أنني لم أعِش في المدينة القديمة المسوَّرة حيث لا يزال قصر عائلته قائمًا، وإنما في نيودلهي التي بناها البريطانيون لتكون عاصمة لإمبراطوريتهم في الهند. وكما في زمن ذاك الشاعر، كان الهندي يقاتل أخاه الهندي. وفي طريقي إلى العمل كان عليَّ أن أجتاز طريق راج باث (كينجز واي سابقًا؛ أي، طريق الملك)، وهو الطريق الذي يشير اسمه وموقعه إلى ممارسة سلطة الدولة. يمتد ذلك الطريق قرابة ميل على أرض منبسطة، وعلى جانبيه مساحات فسيحة، الهدف منها أن تسع آلاف المتفرجين الذين يأتون لمشاهدة الاستعراض السنوي في عيد الجمهورية، ثم يعلو الطريق تلٌّ ليبلغ المبنيين العريقين المشيَّدين من الحجر الرملي والمعروفين بالمبنى الشمالي والمبنى الجنوبي، واللذين يحويان مكاتب الحكومة الهندية. وينتهي الطريق بالمنزل المهيب الذي كان نائب الملك في الهند يعيش فيه يومًا في عهد الهند البريطانية.

وقتما انتقلتُ إلى نيودلهي كان البريطانيون قد رحلوا عنها منذ زمن بعيد، فكانت الهند آنذاك جمهورية حرة ذات سيادة، ولكنها لم تكن جمهورية هانئة تمامًا على ما يبدو؛ إذ لاحت علامات الشقاق في كل مكان. ومن الجدير بالذكر أنَّه على طريق راج باث، الأراضي، التي يُفترَض أن تكون خالية في غير أيام المراسم الاحتفالية، صارت قرية عامرة بالخيام، وكلٌّ منها عُلِّقَت خارجه لافتات نابضة بالحياة. كان من الممكن أن يسكن إحدى تلك الخيام فلاحون من جبال الهيمالايا بمقاطعة أوتَّراخند يطالبون بمقاطعة منفصلة، في حين يسكن أخرى مزارعون من مهاراشترا يحاربون من أجل رفع سعر غلَّتهم، ويسكن ثالثة أهالي ساحل كونكان الجنوبي الذين يلحُّون على الاعتراف بلغتهم رسميًّا بضمها إلى الجدول الثامن للدستور الهندي.

وكان الأشخاص المقيمون في تلك الخيام والقضايا التي يدفعون بها في تغير دائم؛ فقد يحلُّ عمال المصانع المحتجُّون على تخفيض النفقات محل فلَّاحي التلال، ويحل لاجئون من منطقة التبت يطلبون الجنسية الهندية محل مزارعي مهاراشترا، ورهبان هندوسيون يطالبون بحظر ذبح البقر محل متحدثي اللغة الكونكانية.

في أوائل تسعينيات القرن العشرين، أزالت الحكومة تلك الخيام على نحو فوري؛ خوفًا من الانطباع الذي قد يخلِّفه مثل ذلك التعبير الصريح عن المعارضة لدى الزوار الأجانب. فأُخلِي طريق راج باث من تلك التعدِّيات واستردَّت مروجه الخضراء زهوها السابق، إلا أنَّ المحتجين تجمَّعوا مرة أخرى وانتقلوا إلى مكان آخر، إذ استقرُّوا آنذاك على بُعد ميل تجاه الشمال الغربي إلى جانب مرصد جانتار مانتار في منطقة كونوت بليس. هناك كانوا بعيدين عن أعين الدولة، ولكن أمام أعين المواطنين الذين يمرُّون يوميًّا من منطقة التسوق المزدحمة تلك. عام ١٩٩٨ قررت الشرطة أن ذلك الوضع لا يمكن أن يستمرَّ أيضًا، فهُدِمت الأعشاش مجددًا، إلا أنه — حسب إفادة إحدى الصحف: «بالنسبة إلى السلطات، لم يتغير سوى المكان؛ فالمشكلات لا تزال قائمة. وما كان منها إلا أن نقلت هؤلاء المحتجين إلى قطعة أرض خالية عند تقاطع ماندير مرج وطريق شانكار؛ حيث يُرجَّح أن يكونوا أقل لفتًا للأنظار.»10

أثناء فترة إقامتي في دلهي — في تسعينيات القرن العشرين — تمنَّيت أن يتوفر لي متسع من الوقت للسير في طريق راج باث كل يوم من أول يناير إلى نهاية ديسمبر، حتى أُسجِّل ظهور الخيام وقاطنيها واختفاءهما. كانت تلك ستكون قصة الهند كما يرويها شارع واحد في عام واحد. أما الكتاب الماثل بين أيديكم الآن فيتبع نهجًا مختلفًا؛ فروايته تمتد عبر ستة عقود، بدءًا من عام ١٩٤٧ وصولًا إلى وقتنا الحاضر، إلا أنه على غرار الكتاب الذي كنت أنوي يومًا تأليفه — استنادًا إلى سنة أقضيها أسير بطريق راج باث جيئةً وذهابًا — يحكي أيضًا قصة الصراعات الاجتماعية في المقام الأول؛ من حيث كيفية نشأتها، والتعبير عنها، والسعي إلى حلها.

تجري تلك الصراعات على محاور متعددة، نخصُّ بالذكر منها حاليًّا أربعة محاور باعتبارها الأبرز؛ أولها: محور «الطوائف الاجتماعية» التي تُشَكِّل هوية رئيسية بالنسبة إلى العديد من الهنود؛ إذ يتحدَّد على أساسها من يستطيعون الزواج، ومع مَن يمكنهم أن يتواصلوا، ومَن ينبغي لهم معاداته. ولفظة «كاستا» البرتغالية تمزج بين مفهومين هنديين هما؛ «جاتي»: الجماعة التزاوجية التي يُولَد المرء فيها، و«فارنا»: المكانة التي تحتلها تلك الجماعة في منظومة التقسيم الطبقي الاجتماعي الذي ذكرتها النصوص الهندوسية المقدسة. وثمة أربع طوائف من «الفارنا»، بينما شكَّل «المَنْبوذون» سابقًا الطائفة الخامسة (والدنيا). وتتضمن تلك الطوائف أكثر من ٣ آلاف «جاتي» أو يزيد، كلٌّ منها يتحدَّى الأعلى منه درجةً في المنطقة ذاتها، بينما يمثل له الأدنى منه تحديًا بدوره.

المحور الثاني هو «اللغة»: فدستور الهند يعترف باثنين وعشرين لغة باعتبارها لغات «رسمية». أهم تلك اللغات هي «الهندية»، التي يتحدثها أكثر من ٤٠٠ مليون شخص بصورة أو بأخرى. أما اللغات الأخرى فمنها: التيلوجوية، والكانادية، والتاميلية، والمالايالامية، والماراثية، والجوجاراتية، والأورية، والبنجابية، والبنغالية، والآسامية، وكلٌّ منها له طريقة كتابته المميزة، ويتباهى بأنه اللغة الأصلية لملايين البشر. وبطبيعة الحال، لم يُنظَر إلى الوحدة الوطنية والتنوع اللغوي على أنهما متوافقان على الدوام؛ فقد حارب الهنود الذين يتحدثون إحدى اللغات أشقَّاءهم من متحدثي اللغات الأخرى.

المحور الثالث للنزاع هو «الدين»: فالغالبية العظمى من تعداد الهند الذي يفوق المليار نسمة تعتنق الديانة الهندوسية، إلا أن الهند بها كذلك ثاني أكبر جماعة سكانية مسلمة في العالم؛ نحو ١٤٠ مليون نسمة (إندونيسيا فقط يفوق عدد سكانها المسلمين ذلك العدد). إضافةً إلى ذلك، ثمة جماعات كبيرة من المسيحيين والسيخ والبوذيين والجاينيين. وبما أن العقيدة ركن رئيسي من أركان هوية الإنسان مثلها مثل اللغة، فلا غرابة على الإطلاق في نشوب النزاعات أحيانًا بين الهنود الذين يعبدون آلهة مختلفة.

يتمثَّل المحور الرئيسي الرابع في «الطبقة الاجتماعية»: فالهند بلد ذو تنوُّع ثقافي منقطع النظير، لكنها للأسف تنطوي أيضًا على أوجه تفاوت اجتماعي هائلة؛ إذ ثمة رجال أعمال هنود فاحشو الثراء يمتلكون بيوتًا ضخمة في لندن ونيويورك، إلا أن ٢٦٪ من سكان الهند — أي قرابة ٣٠٠ مليون فرد — يعيشون تحت خط الفقر الرسمي. في الريف، ثمة تفاوت بالغ في حيازة الأراضي، وفي المدينة، ثمة تباين كبير في الدخول. وكما هو متوقع، أشعلت تلك الاختلالات فتيل العديد من حركات الاحتجاج والمعارضة.

تعمل محاور الصراع فُرادَى وكذلك بالتوازي؛ فأحيانًا تتحدث جماعة تعتنق ديانة بعينها لغة خاصة بها أيضًا، وكثيرًا ما تكون الطوائف الاجتماعية الدنيا هي كذلك طبقات المجتمع الدنيا. ربما يتعين علينا أن نضيف إلى تلك المحاور الأربعة محورًا خامسًا يتقاطع معها، ألا وهو: «الجنس»؛ ففي هذا الموضوع أيضًا تنطوي الهند على تناقضات صارخة؛ ففي حين تولَّت امرأة منصب رئيس الوزراء ١٥ عامًا كاملة، لا يزال وأد البنات شائعًا جدًّا في بعض المناطق بالهند، ويتلقَّى العمال الذين لا يملكون أراضي أجورًا زهيدة، أقلها على الإطلاق أجور العاملات منهم. والطوائف الاجتماعية الدنيا موصومة اجتماعيًّا، وبالأخص نساؤها. وينزع رجال الدين في الديانات كافة إلى وضع المرأة في مركز متدنٍّ في الدنيا والآخرة. يعد هذا المحور — بصفته محورًا للتمييز — أكثر تغلغلًا من المحاور الأخرى، وإن كان قليلًا ما يُعبَّر عنه في احتجاجات صريحة وجماعية.

تحمل الهند في القرن العشرين الأهمية ذاتها على الأقل بالنسبة إلى المؤرخين — باعتبارها مختبرًا للصراعات الاجتماعية — التي تحملها أوروبا القرن التاسع عشر؛ ففي الحالتين نتجت الصراعات عن تلاقي عمليتي تغير اجتماعي لهما أثر تحوُّلي حقيقي، ألا وهما: التصنيع وصناعة دول وطنية حديثة. في الهند كان مجال الشقاق أوسع، نظرًا لتنوُّع جماعاتها المتنافسة من حيث الديانة والطائفة الاجتماعية والطبقة واللغة. ونجد الصراعات أوضح كذلك في الهند؛ إذ إن الهند المعاصرة — بخلاف أوروبا القرن التاسع عشر — دولة ديمقراطية قائمة على منح حق الاقتراع للبالغين، وبها صحافة حرة وسلطة قضائية مستقلة إلى حدٍّ بعيد، ولم يشهد زمان أو مكان في تاريخ البشر صراعاتٍ اجتماعية تتسم بمثل ذلك التنوع الثري، أو عُبِّر عنها بتلك القوة، أو ظهرت بتلك البلاغة في الفن والأدب، أو تناولها النظام السياسي ووسائل الإعلام بتلك الصراحة.

ويمكن تلخيص تاريخ الهند المستقلة — ومحتويات ذلك الكتاب — في سلسلة من «خرائط الصراع»؛ إذ يمكننا أن نرسم خريطة للهند في كل عقد من الزمان، مع تعيين ألوان متنوعة للصراعات التي سادت آنذاك حسب شدَّتها: فيُستخدَم اللون الأزرق للصراعات المعبِّرة عن مصالح فئة بعينها بصورة ديمقراطية، واللون الأحمر للصراعات المطالبة بإحداث تغيُّر أكبر في القانون بسبل أكثر عدوانية، وإن كانت ما زالت مسالمة، واللون الأسود للصراعات الساعية إلى تدمير الدولة الهندية بالسلاح.

وبقراءة تلك الخرائط حسب ترتيبها الزمني، من شأن المرء أن يجد تباينًا كبيرًا على مرِّ العقود؛ إذ تصير المناطق الحمراء سوداء، وتصير المناطق السوداء حمراء، وتصير المناطق الزرقاء والحمراء بيضاء؛ وهو لون مناطق الهند التي لا يظهر فيها صراع كبير على الإطلاق. من شأن تلك الخرائط أن تقدِّم رسمًا مفعمًا بالألوان المتغيرة، إلا أنه في خضم تلك التغيُّرات كلها من شأن المراقب الفطن أن يلاحظ أيضًا أن شيئين ظلا ثابتين لا يتغيران؛ أولًا: أن شكل الخريطة لا يتغير خلال تكراراتها كلها، يُعزَى ذلك إلى أنه ما من جزء كبير من الهند نجح في «الانفصال» عنها. وثانيًا: أن المناطق الزرقاء والحمراء والسوداء — مجتمعة — لم تقترب بأي شكل قط من حجم المناطق البيضاء على الخريطة. حتى خلال الفترة التي عُرِفَت يومًا باسم «عقود الخطر»، كان ما يربو كثيرًا على ٥٠٪ من سكان الهند يعيش في سلام هانئ.

وتزخر صحافة اليوم — الجادة والصفراء، واليسارية والمحافظة، والهندية والغربية — بقصص النجاحات الاقتصادية للهند، وهو ما يُعَدُّ متنافرًا مع ماضيها الحافل بالفقر والحرمان، إلا أن قصة النجاح الحقيقية للهند لا تكمن في ميدان الاقتصاد، بل السياسة. قد يكون الترحيب ﺑ «طفرة البرمجيات» الهندية سابقًا لأوانه؛ إذ إننا لا نعلم بعدُ ما إذا كانت تلك الطفرة ستسفر عن تحقيق الرخاء على نطاق أوسع لعامة الشعب أم لا، إلا أن بقاء الهند دولة واحدة بعد مرور ستين عامًا عصيبة على استقلالها، واحتفاظها بديمقراطيتها إلى حد كبير هما حقيقتان ينبغي أن نوليهما اهتمامًا أكبر؛ فقد تبيَّن من تحليل إحصائي أُجْرِيَ مؤخرًا للعلاقة بين الديمقراطية والتنمية في ١٣٥ بلدًا أنَّ «احتمالية فشل الديمقراطية في الهند كانت شديدة الارتفاع»؛ فنظرًا لانخفاض مستويات الدخل ونسبة المتعلِّمين في الهند، وارتفاع مستويات الصراع الاجتماعي، فإنه «كان المتنبَّأ لها أن تكون دولة دكتاتورية خلال فترة الدراسة بأكملها [١٩٥٠–١٩٩٠]». وبما أنها فعليًّا كانت دولة ديمقراطية طوال تلك الفترة، فقد كان ثمة سبيل وحيد لوصف الهند، وهو: أنها «قيمة شاذة كبيرة».11

ربما يحتاج المرء في تفسير ذلك الشذوذ — أو تلك المفارقة — إلى نبذ طرائق علم الاجتماع الإحصائي، الذي دائمًا ما ستكون الهند استثناء القاعدة فيه، والاستعاضة عنها بالأساليب الأكثر بدائية الخاصة بالتأريخ السردي؛ فقوى الشِّقاق في الهند متعددة، ويوليها هذا الكتاب الاهتمام الواجب، إلا أن ثمة قوًى أبقت على الهند متحدة أيضًا، وساعدت على تجاوز أوجه الشقاق الطبقية والثقافية أو احتوائها، وأبطلت — حتى هذه اللحظة على الأقل — تلك التنبؤات المتعددة القائلة بأن الهند لن تظل متحدة ولن تظل ديمقراطية. تلك القوى ليست ظاهرة بالقدر ذاته، ويتمثل أحد أهداف هذا الكتاب في تسليط ضوء أكبر عليها. أظنه من السابق لأوانه أن نعرِّفها الآن؛ فسوف تتكشَّف مع تقدُّم السرد. يكفي أن نقول إنها تضمنت أفرادًا ومؤسسات على السواء.

٥

كتب المُنظِّر السياسي سونيل خِلناني يقول: «يمكن النظر إلى الفترة التالية على عام ١٩٤٧ في تاريخ الهند على أنها مغامرة فكرة سياسية، وهي: الديمقراطية.» طبقًا لتلك الرؤية، تبدو الهند المستقلة «ثالث حَدَث في إطار التجربة الديمقراطية العظيمة التي أطلقتها الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر». وكلٌّ من تلك التجارب «أخرج طاقات هائلة، ورفع التوقعات حتى بلغت الآفاق، وتعرَّض لإحباطات مأساوية». وأضاف خلناني أنه في حين أن تجربة الهند هي الأحدث، «فقد يتضح أن النتيجة التي أسفرت عنها هي أهم من نتيجة التجربتين الأخريين. ويُعزى ذلك جزئيًّا إلى نطاقها البشري الهائل، وجزئيًّا إلى موقعها الذي يمثل منفذًا مهمًّا لينبوع الحرية الفائر في قارة آسيا».12

بصفتي هنديًّا، أود تخيُّل أن تجربة الديمقراطية في الهند ستصير «أهم» من التجارب الشبيهة بها في الغرب، وبصفتي مؤرخًا، لا أعرف سوى أنها أقل التجارب حظًّا في الدراسة؛ فقد صدرت مئات — وربما آلاف — الكتب عن الثورتين الفرنسية والأمريكية. ونُشرت سِيَر زعمائها المشهورين والمغمورين، ودراسات عن الخلفية الاجتماعية للمشاركين في الثورتين، وتقييم لتطورها أو انحسارها على مدى العقود والقرون التالية. وفي المقابل، يمكن عدُّ الأعمال الصادرة عن مؤرخين بشأن أي وجه من أوجه الديمقراطية الهندية على أصابع اليد الواحدة، أو — بقدر أكبر من سعة الأفق — على أصابع اليدين.

وقد كتب الخبير التربوي كريشنا كومار يقول: «بالنسبة إلى الأطفال الهنود التاريخ نفسه ينتهي بالتقسيم والاستقلال؛ فالتاريخ — باعتباره أحد مكونات الدراسات الاجتماعية، وفيما بعدُ باعتباره مادة قائمة بذاتها — يفرغ من مضمونه عام ١٩٤٧ … وكل ما حدث خلال الأعوام الخمسة والخمسين الأخيرة يمكن أن يمر عليه منهج مادة التربية المدنية البائس والأعمال السينمائية والتليفزيونية مرور الكرام؛ فالتاريخ الذي يتمثل في المعرفة بالماضي المتكوِّنة بالسبل الرسمية لا يغطي تلك الفترة.»13

إذا كان التاريخ ينتهي بالتقسيم والاستقلال بالنسبة إلى الأطفال الهنود؛ فذلك لأن الهنود البالغين فرضوا ذلك. في المجال الأكاديمي، تتناول مادة التاريخ الماضي، بينما تتناول مادة علم السياسة ومادة علم الاجتماع الحاضر. ذلك تقسيم تقليدي ومنطقي من عدة أوجه. تكمن الصعوبة في أن المجال الأكاديمي «الهندي» يتحدد الماضي فيه بتاريخ واحد يستحيل تغييره؛ وهو: ١٥ أغسطس ١٩٤٧، ومن ثم فعندما دقت الساعة معلنة منتصف الليل ونالت الهند استقلالها، انتهى حيِّز التاريخ، وبدأ حيِّز علم السياسة وعلم الاجتماع.

وفي العقود التالية على عام ١٩٤٧، مضى الحاضر قُدُمًا، فدَرَس علماء السياسة الانتخابات العامة الأولى التي أُجْرِيَت عام ١٩٥٢، والانتخابات التالية التي أُجريت بعد خمسة أعوام، ووصف مختصو الأنثروبولوجيا الاجتماعية القُرى الهندية في الخمسينيات من القرن العشرين، ومرة أخرى في الستينيات، إلا أن الماضي ظلَّ ثابتًا؛ فإثر الطبع والتطبُّع، قصر المؤرخون عملهم على الفترة السابقة على الاستقلال، فنمت أدبيات كثيرة — ولا تزال تنمو — معنيَّة بالتبعات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية للاستعمار البريطاني، ونمت أدبيات أكثر — هي الأخرى لا تزال تنمو — معنيَّة بأشكال معارضة الحكم الاستعماري ووظائفها ومسبِّباتها وتبعاتها. كان قائد تلك المعارضة هو المصلح الاجتماعي والزعيم الروحاني والمُلهِم والمحرِّض السياسي موهانداس كرمشاند غاندي.

كان غاندي — ولا يزال — محل إعجاب شديد لدى البعض، ومحل كراهية عميقة لدى البعض الآخر، ويسري القول ذاته على الصرح الهائل الذي عارضه؛ الراج البريطاني. رحل البريطانيون أخيرًا عن الهند في أغسطس ١٩٤٧، واغْتِيلَ غاندي على يد أحد الهنود بعد خمسة شهور ونصف لا أكثر. كان لوفاة أشهر معارضي الراج البريطاني بتلك السرعة عقب الاستقلال أثر حاسم على عملية كتابة التاريخ؛ إذ لا يمكن للمرء أن يعرف ما إذا كان المؤرخون — لو كان غاندي ظل على قيد الحياة فترة أطول بكثير — سيبدون اهتمامًا أكبر بتاريخ الهند الحرة. ما حدث أنه كان بمقتضى العادة والعرف المتعارف عليهما يُعتبر تاريخ الهند «منتهيًا» يوم ١٥ أغسطس عام ١٩٤٧، وإن كان يُسمَح لمدَوِّني سيرة المهاتما غاندي بمدِّ ذلك التاريخ ستة أشهر. ومن ثم أُلِّفت كتب كثيرة جيدة ومثيرة للجدل عن السنوات الأخيرة العصيبة المشحونة بالصراع للهند البريطانية، فتلك المؤسسة المهيبة — الراج البريطاني — وذلك الشخص العظيم — المهاتما غاندي — لا يزالان يمثلان مصدر اهتمام آسر للمؤرخين، إلا أن تاريخ الهند «المستقلة» ظل أرضًا بورًا إلى حدٍّ بعيد؛ فإذا كان التاريخ هو «المعرفة بالماضي المتكوِّنة بالسبل الرسمية»، فلا وجود لتلك المعرفة عمليًّا منذ عام ١٩٤٧.

إلا أنه — كما يظهر في هذا الكتاب — كانت سنوات الحرية الأولى مصدر اهتمام أخَّاذ تمامًا مثلما كانت السنوات الأخيرة من الحكم البريطاني؛ فقد سَلَّمَ البريطانيون مقاليد السلطة رسميًّا، ولكن كان لا بد من إعادة تكوين تلك السلطة؛ فالتقسيم لم يضع حدًّا لصراع الهندوس والمسلمين، ولا أنهى الاستقلالُ التوتراتِ القائمة بين الطبقات والطوائف الاجتماعية. وكانت أجزاء كبيرة على الخريطة ما زالت تحت سيطرة أمراء الولايات الهنود؛ فكان لا بد من ضمها تحت مظلة الاتحاد الهندي طوعًا أو كرهًا. ومن حطام الإمبراطورية الزائلة نشأت دولة جديدة وترعرعت.

وقد كتب توني جوت عن تدوينه في الآونة الأخيرة لتاريخ أوروبا ما بعد الحرب يقول: «هذا النوع من الكتب يقوم — في المقام الأول — على أكتاف الكتب الأخرى.» وأشار إلى أنه «في فترة الستين عامًا القصيرة من تاريخ أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية — في تلك الفترة دون غيرها — ثمة مخزون لا ينضب من الأدبيات الثانوية المكتوبة باللغة الإنجليزية».14 أما الوضع في الهند فمختلف كل الاختلاف؛ فالفجوات في متن معرفتنا هنا هائلة، وجمهورية الهند اتحاد مكون من ثمانٍ وعشرين ولاية، بعضها أكبر من فرنسا، إلا أنه حتى أكبر تلك الولايات وأهمها لم تنلْ نصيبًا من التأريخ؛ ففي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين كانت الهند رائدة نهج جديد في السياسة الخارجية، وكذلك في السياسة الاقتصادية والتخطيط الاقتصادي، إلا أنه لم يصدر بعدُ سردٌ أمين أو حتى لائق لتلك التجارب، وأنجبت الهند رجال أعمال مغامرين ذوي رؤية وديناميكية هائلتين، ولكن قصص المؤسسات التي بنوها والثروات التي كوَّنوها معظمها لم تُروَ. كذلك لا توجد سِير لائقة لبعض الشخصيات الرئيسية في تاريخنا الحديث؛ مثل: الشيخ عبد الله، أو المُعلم تارا سينج، أو إم جي راماتشَندران، الزعماء «المحليين» الذين يساوي حجم المقاطعة التي تزعَّمها كلٌّ منهم حجم بلد أوروبي كبير.

وعلى خلاف سرد تاريخ أوروبا بعد الحرب، لا يمكن لسرد تاريخ الهند بعد الحرب أن يقوم ببساطة على أكتاف كتب أخرى معنيَّة بموضوعات أكثر تخصصًا؛ ففي المسائل الكبرى والصغرى عليه أن يملأ الفراغات باستخدام مواد يجمعها المؤلف بنفسه؛ فقد أخبرني أول معلم لي — موظف عجوز بالخدمة المدنية بالغ الحكمة يُدْعَى سي إس فينكاتاتشر — أنَّ كل عمل تأريخي «مؤقت»؛ أي، ينبغي للكتب التالية عليه أن تضيف إليه، وتعدِّله، وتشكك فيه، وتطيح به. وعلى الرغم من الموضوعات المتعددة التي يغطيها هذا الكتاب، فليس له أن يأمل في أن يكون قد تناول أيًّا منها بصورة وافية؛ فكل قارئ على حدة سيكون له شكواه الخاصة؛ فالبعض قد يشكو — مثلًا — من أني لم أتعرَّض للقبائل بالقدر الكافي، والبعض الآخر قد يرى أنه كان يتعين عليَّ أن أُفرد لكشمير صفحات أكثر مما أفردته بالفعل.

وأفضل تعبير عن آمالي بالنسبة إلى هذا الكتاب جاء في كلمات مارك بلوك، عندما كتب عن بلد آخر في زمن آخر:
يمكنني أن أشبِّه نفسي بمستكشف يُجري مسحًا سريعًا للأفق قبل أن يخوض أدغالًا يتعذَّر تحقيق رؤية أشمل من داخلها. وبطبيعة الحال، ثمة فجوات هائلة في متن روايتي، وقد بذلت قصارى جهدي في عدم مواراة أي أوجه قصور، سواء في حالة معرفتنا بصفة عامة، أو فيما أجريته أنا نفسي من توثيق … وعندما يحين وقت تفوُّق دراسات أكثر تعمُّقًا على مؤلَّفي، سأشعر أني جنيت ثمار عملي إذا أسفرت المواجهة مع تخميناتي الخاطئة عن تعريف التاريخ بحقيقته.15

٦

كان يروق للمؤرخ العظيم من جامعة كامبريدج إف دبليو ميتلاند أن يُذكِّر طلابه بأن «ما بات الآن ماضيًا كان يومًا مستقبلًا». ليس ثمة حكمة أصوب من هذه بالنسبة إلى المؤرخين — لا سيما مؤرخي الماضي القريب — الذين يخاطبون جمهورًا كوَّن آراءً جازمة بخصوص الموضوعات التي يَفترِض أنه يثقِّفهم بشأنها؛ فالمؤرخ الأمريكي لحرب فيتنام يكون قرَّاؤه قد حددوا موقفهم تقريبًا إزاء عدالة الحرب من عدمها، ويعلم المؤرخ الفرنسي لحركة الطلاب عام ١٩٦٨ أن قرَّاءه سيكون لديهم آراء قوية بشأن تلك الانتفاضة بعينها، وإنْ كانت آراؤهم قد تتناقض بعضها مع بعض.

ومدوِّنو التاريخ المعاصر يعُونَ أنهم لا يخاطبون قارئًا مشاعره سلبية إزاء النص الموضوع أمامه؛ فالقارئ مواطن أيضًا — «مواطن ناقد» — له تفضيلاته السياسية والأيديولوجية الخاصة. تلك التفضيلات توجِّه رؤية القارئ للماضي وتمليها عليه، ولا سيما رؤيته للزعماء والمشرِّعين، فنحن نعيش مع تبعات القرارات التي اتخذها ساسة العصر الحديث، وكثيرًا ما نفترض أن سياسيًّا آخر — شخصًا نؤيده — كان من الممكن أن يتخذ قرارات أفضل أو أكثر حكمة.

وكلما عُدنا بالزمن إلى الوراء، تضاءلت تلك المشكلة؛ فمؤرخو القرن الثامن عشر يسعون إلى تفسير ذلك الزمن وفهمه، وكذلك يفعل القرَّاء سيرًا على خطاهم؛ فمدوِّن سيرة جفرسون أو نابليون يمكن أن يحظى بقرَّاء أكثر «ثقة» فيه؛ إذ لا يفترضون معرفتهم بما فعله هذان الرجلان، أو يتمنون أن يكونوا قد فعلوا شيئًا مختلفًا. في تلك الحالة، عادةً ما يرضى القارئ بأن يتبع الخبير ويسترشد به، إلا أنَّ مدوِّن سيرة جون إف كينيدي أو شارل ديجول لا يحالفه مثل ذلك الحظ؛ إذ بعض القراء المحتملين — وربما الكثير منهم — يعلمون بالفعل «حقيقة» هذين الرجلين، وهم أقل استعدادًا لسماع صيغ مختلفة من تلك الحقيقة، حتى إن عضَّدَتها مئات المراجع في الهوامش السفلية.

لذا يواجه المؤرخون المعاصرون تحديًا من قرَّائهم يُجَنَّبه زملاؤهم الذين يتناولون أزمانًا أقدم بالدراسة، إلا أنه ثمة تحدٍ آخر ربما لا يُقرُّ به بالقدر ذاته، وهو أنَّ «المؤرِّخ نفسه مواطن»؛ فالباحث الذي يختار أن يكتب عن حرب فيتنام لديه بالفعل آراء قوية عن موضوع بحثه. أما الباحث الذي يكتب عن الحرب الأهلية الأمريكية فستكون آراؤه أضعف، والباحث الذي يكتب عن حرب الاستقلال الأمريكية ستكون آراؤه أضعف وأضعف؛ فالمؤرخ كالمواطن؛ «كلما دنا المرء من الحاضر، زاد ميله إلى إصدار الأحكام».

لقد حاولت أثناء كتابة هذا الكتاب أن أبقي حكمة ميتلاند نصب عينيَّ دائمًا، وكان دافعي الفضول أكثر من اليقين، والرغبة في الفهم أكثر من الرغبة في إصدار الأحكام، وسعيت إلى ترجيح كفة المصادر الأولية عن المؤلَّفات المكتوبة بأثر رجعي، حتى يتسنَّى لي تفسير واقعة حدثت عام ١٩٥٧ — مثلًا — بما كان معروفًا عام ١٩٥٧ لا عام ٢٠٠٧؛ فهذا الكتاب ليس أكثر من محاولة في المقام الأول لرواية التاريخ الحديث لسُدس البشرية، فهو سرد وتحليل للشخصيات والخلافات والموضوعات والعمليات الرئيسية في الهند المستقلة، إلا أن أسلوب السرد مدفوع بغايتين رئيسيين: إيلاء الاعتبار اللازم للتنوع الاجتماعي والسياسي الذي تتسم به الهند، وحلِّ اللغز الذي طالما واجه الباحثين والمواطنين، الأجانب منهم وأصحاب البلد، وهو: لماذا ثمة هند من الأساس؟

fig2

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤