الفصل العاشر

إخضاع الطبيعة

لا بد أن يختار الشعب الهندي ما إذا كان سيتعلَّم أم يظل جاهلًا، وما إذا كان سيقوِّي صلاته بالعالم الخارجي ويستجيب لتأثيراته أم يظل منعزلًا لا مباليًا، وما إذا كان سيصير منظَّمًا أم متفرِّقًا، جريئًا أم وجِلًا، مغامرًا أم سلبيًّا، دولة صناعية أم زراعية، ثرية أم فقيرة، قوية ومحترمة أم ضعيفة وخاضعة لهيمنة الدول المتقدمة. الأفعال — لا المشاعر — ستكون هي العامل الحاسم.

المهندس إم فيسفِسفارايا، ١٩٢٠

التزام الهند بدلالات الاشتراكية لا يقل على الأقل عمقًا عن التزامنا بدلالات الاقتصاد الحُر … فحتى أعتى الرأسماليين الهنود يمكن أن يلاحظ من حينٍ لآخر أنه في حقيقة الأمر اشتراكيٌّ في أعماقه.

عالِم الاقتصاد جيه كيه جالبريث، ١٩٥٨

١

كان المهاتما غاندي يروق له أنْ يقول: «الهند تعيش في قُراها.» فوقت الاستقلال، كان ذلك البلد قائمًا بالأساس على المُزارعين والعُمَّال. نحو ثلاثة أرباع قوة العمل كانت في القطاع الزراعي، وهو القطاع الذي ساهم بما يقرب من ٦٠٪ من الناتج المحلي الإجمالي. وكان ثَمَّةَ قطاع صناعي صغير نامٍ، مثَّل المشتغلون فيه نحو ١٢٪ من قوة العمل و٢٥٪ من الدخل القومي.

كان الفلَّاح هو عماد الأُمَّة الهندية، والاقتصاد الهندي. وكان ثَمَّةَ تباين هائل في الممارسات الزراعية المتَّبَعة في أنحاء شبه القارة الهندية. على سبيل المثال، كان ثَمَّةَ هُوَّة واسعة بين مناطق زراعة القمح في الشمال والغرب — حيث لم تشارك النساء في الزراعة بوجه عام — ومناطق زراعة الأرز في الجنوب والشرق، التي اضطلعت النساء فيها بدورٍ محوريٍّ في إنبات الشتلات. وكان ثَمَّةَ أجزاء كبيرة من شبه الجزيرة الهندية لا يُزرع فيها الأرز ولا القمح؛ فهناك كانت الحبوب الرئيسية المزروعة مجموعة من حبوب الدُّخْن المقاومة للجفاف. وإلى جانب الحبوب، كان الفلَّاحون يزرعون طائفة واسعة من محاصيل الفاكهة، فضلًا عن الغلال الموجَّهة نحو السوق؛ مثل: القطن وقصب السكر.

ولكن على الرغم من تلك التباينات، كانت الزراعة في جميع أنحاء الهند ذات طابعٍ عمليٍّ إلى حدٍّ بعيد؛ إذ استندت إلى المعرفة والتقاليد المتوارثة عبر الأجيال، عوضًا عن الأفكار المُستقاة من الكتب. وفي جميع الأنحاء تقريبًا، كانت قائمة على مُدخلات محليَّة بالأساس؛ فالمياه والوقود والعَلَف والأسمدة؛ تلك الأشياء كلها كانت تُجمَع في محيط القرية. وكانت الأراضي تُحرَث بمحراثٍ يجرُّه زوج من الثيران. وكانت المنازل تُبنَى من الأخشاب والقش المجلوبَين يدويًّا من الغابات المجاورة.

وفي كل مكان، تعايش المشتغلون بالزراعة جنبًا إلى جنبٍ مع غير المشتغلين بها. فكان العاملون في القطاع الزراعي، الذين ربما شكَّلوا ثُلثَي سكان الريف، يعتمدون بنحو حيويٍّ على الطوائف الخدمِيَّة والحِرَفِيَّة؛ من حدَّادين، وحلَّاقين، وجامعي قُمامة، وما شابههم. واشتمل العديد من المناطق على مجتمعاتٍ نشطةٍ من النسَّاجين، بينما اشتملت بعض الأنحاء على جماعاتٍ سكانيةٍ كبيرةٍ من الرُّعاة الرُّحَّل.

ومن الناحية الاجتماعية أيضًا، كان ثَمَّةَ أوجه تَشابُه في أساليب الحياة في مختلِف أنحاء شبه القارة الهندية؛ فقد كانت نسبة المتعلمين منخفضة جدًّا. وكانت النعرات الطائفية الاجتماعية شديدة القوة؛ حتى إنَّ القرى كانت تُقَسَّم إلى ستٍّ أو أكثر من الجماعات التزاوجية (الجاتي). كذلك ضربت النعرات الدينية بجذورها عميقًا.

وتخلَّل ريف الهند طابع الأبديَّة والاستمرارية؛ فالفلَّاحون والرعاة والنجَّارون والنسَّاجون جميعهم عاشوا وعملوا مثل أجدادهم؛ فكما جاء في إحدى الدراسات الاستقصائية في أربعينيات القرن العشرين: «ستجد الحياة البسيطة ذاتها، والصراع ذاته مع التقلُّبات المناخية (إلا في المناطق المحظية)، وحُب الألعاب البسيطة ذاتها، والرياضات والأغنيات، والاستعداد ذاته لمدِّ يد المساعدة للجيران، والديون المالية ذاتها.»1

إلا أنَّه بالنسبة إلى القوميين الهنود، كانت الاستمرارية مجرد لفظٍ محسَّنٍ للركود؛ فقد كانت الإنتاجية الزراعية منخفضة؛ ومن ثَمَّ كانت مستويات التغذية والصحة منخفضة مثلها، والشيء الوحيد تقريبًا الذي لم يفتأ يتزايد كان معدل النمو السكاني؛ فمنذ أواخر القرن التاسع عشر، مع اتِّساع نطاق الخدمات الطبية، حدث انخفاض سريع في معدل الوفيات. ونظرًا لثبات معدل المواليد، فقد كان ثَمَّةَ زيادة مطَّرِدة في تعداد السكان؛ ففيما بين عامَي ١٨٨١ و١٩٤١ ارتفع تعداد سكان الهند البريطانية من ٢٥٧ مليون نسمة إلى ٣٨٩ مليون نسمة. وفي الوقت نفسه، انخفضت كمية الحبوب الغذائية المتاحة للفرد من معدل منخفض بالفعل قدره ٢٠٠ كيلوجرام في السنة إلى ١٥٠ كيلوجرامًا فحسب.

تقريبًا منذ تأسَّس حزب المؤتمر عام ١٨٨٥، كان القوميون الهنود يتَّهمون البريطانيين باستغلال الفلَّاحين. وعزَموا على أن يتصدَّر الإصلاح الزراعي جدول أعمالهم عندما يصلون إلى السلطة. وبدا لهم أنَّه ثَمَّةَ ثلاثة برامج تتسم بأهميةٍ محورية؛ الأول: كان القضاء على نظام تحصيل إيرادات الأراضي الزراعية. والثاني: تَمثَّل في توسيعٍ كبيرٍ لنطاق الرَّيِّ، وذلك لهدفين؛ هما: زيادة الإنتاجية وتقليل الاعتماد على الأمطار الموسمية. والبرنامج الثالث: كان مختصًّا بإصلاح نظام حيازة الأراضي؛ ففي شمال الهند وشرقها بصفةٍ خاصة، كان البريطانيون قد شجَّعوا نظام الملكية الغائبة للأراضي. وفي مناطق أخرى كثيرة أيضًا، لم يكن مَن يفلح الأرض هو مالكها عادةً.

وفي حين أنَّ المستأجرين لم يحظَوْا بالأمان في حيازتهم، فالعمالة الزراعية لم تملك أراضيَ تُفْلِحها من الأساس. وقد بلغت أوجه عدم المساواة في الاقتصاد الزراعي مستوياتٍ حادَّةً بالفعل. وكانت صور الاستغلال عديدة ومبتكِرة للغاية؛ ولذا فإلى جانب ضريبة الأراضي، كان مُلَّاك الأراضي في المقاطعات الاتِّحاديَّة يفرضون على الفلَّاحين مجموعة من الضرائب الإضافية؛ مثل الضريبة التي تُفرض لدفع تكلفة سيارة المالِك الجديدة وتلك التي تُخصص للإنفاق على أفياله؛2 فقد كان مُلَّاك الأراضي ميَّالين إلى معاملة حيواناتهم ومركباتهم أفضل مما يعاملون الفلاحين الأُجراء لديهم. وقبل الاستقلال بأسبوعين، نشرت صحيفة تقدُّمية من مدراس قصة عن المعاناة في ريف مالابار، تحكي عن أحد كبار مُلَّاك الأراضي يملك سبعة أفيال، يلزمه لها ٢٥ ألف كيلوجرام من الأرز غير المقشور، بينما ينال المستأجرون لديه حصص ثلاثة أيام من الغذاء للأسبوع كله.3
أخذت العناصر الاشتراكية في حزب المؤتمر الوطني تدفع تجاه إلزام الحزب بالإصلاح الزراعي الشامل؛ من قبيل: القضاء على الحيازات الكبيرة، وتعزيز أمان المستأجرين، وإعادة توزيع الأراضي الفائضة. كذلك فقد ناصروا توسيع نطاق الائتمان الزراعي، للتغلُّب على مشكلة مديونية الفلاحين الواسعة الانتشار.4

إلا أنَّه — مثلما أدرك القوميُّون أيضًا — كان لا بد أنْ يرافق الإصلاح الزراعي دَفقة من النمو الصناعي؛ فقد كانت الدولة بحاجةٍ إلى المزيد من المصانع لاستيعاب الزيادة في العمالة العاطلة جزئيًّا في الريف. وكانت الدولة بحاجةٍ أيضًا إلى المصانع لإثبات حداثتها؛ فحتى تدخل الهند زمرة الدول المتقدمة، كان لا بد من أنْ تتعلَّم وتتَّحِد وتنفتح على الخارج، والأهم من ذلك كله؛ أنْ تتَّجه إلى التصنيع.

في زمن الاستعمار، كان ثَمَّةَ تفاوتٌ حادٌّ بين المصانع المملوكة للشركات البريطانية ونظيرتها المملوكة للهنود؛ فصناعة الجوت — على سبيل المثال — كانت تحت سيطرة الأجانب إلى حدٍّ بعيد، بينما كانت المنسوجات القطنية في يد الأهالي. وكثيرًا ما كان الراج البريطاني يُتَّهم (عن حقٍّ في معظم الأحيان) بتعمُّد تثبيط المشروعات الهندية، وإحداث خللٍ في هيكل التعريفات والتجارة لصالح الشركات البريطانية. وفي حين أنَّ بعض الرأسماليين الهنود كانوا مُصِرِّين على الابتعاد عن السياسة، كان آخرون منهم مؤيدين متحمِّسين لحزب المؤتمر. وبطبيعة الحال كانوا يأملون في عكس مسار تلك التحيُّزات عند مجيء الحرية، بحيث يوضَع الرأسماليون الأجانب في موقف ضعف.5
فإن كان على الهند أن تتجه إلى التصنيع، فأيَّ نموذجٍ كان يجدر بها أن تتَّبع؟ من وجهة نظر زعماء الحركة القوميَّة، كانت «الإمبريالية» و«الرأسمالية» توجهين بذيئين. وكما أشار جون كينيث جالبريث، فإنَّه «حتى وقتٍ قريبٍ مثَّل جزء كبير من المشروعات الرأسمالية في الهند امتدادًا لذراع السلطة الإمبريالية، بل إنَّها مثَّلت إلى حدٍّ ما سبب وجودها المعلَن. ونتيجةً لذلك، يحمل الاقتصاد الحر في آسيا الوصمات الإضافية للاستعمار، وهذا عبء رهيب».6
ماذا كانت البدائل إذًا؟ كتب بعض القوميين بإعجابٍ عن الاتحاد السوفييتي، وعن «إعماله المذهل للمعرفة العلمية الحديثة في حل ما يعانونه من مشكلات الفقر والحاجة»؛ ومن ثَمَّ تحوُّله في غضون عقدين من الزمان لا أكثر «من مجتمع فلَّاحين شبه جائعين إلى عُمَّالٍ صناعيين حسني التغذية والملبس». تحقق ذلك عن طريق «إزالة دافع الرِّبح من صناعاته التي تنتمي إلى الأُمَّة وتتطوَّر لصالحها»، وذلك من خلال إنجازات هندسية عظيمة صنعت من الأنهار «مصادر جبَّارة للطاقة الكهربائية»، ومنظومة تخطيط وضعها خبراء نُزَهاء أدَّت إلى زيادة الإنتاج تسعة أمثال وفيها «انعدمت البطالة وفوضى الإنتاج».7
نموذج آخر حَظِيَ بإعجابٍ كبيرٍ كان هو اليابان؛ فعندما زار عضو حزب المؤتمر البارز لالا لاجبت راي ذلك البلد أثناء الحرب العالمية الأولى، انبهر بالتحوُّل الذي طرأ عليه؛ إذ تبدَّلت حاله من البدائية (الزراعية) إلى التحضُّر (الصناعي) في غضون خمسين عامًا فحسب. واكتشف أنَّ اليابان بَنَت مصانعها وبنوكها بتعليم عُمَّالها واستبعاد المنافسة الأجنبية. كان دور الدولة محوريًّا؛ ومن ثَمَّ «يرجع الفضل في ازدهار اليابان الصناعي الحالي إلى بصيرة حكومتها وحصافتها ووطنيتها». فاليابان التي كانت يومًا متخلِّفة كالهند «نمت لتصبح معلِّمة الشرق ومورِّد جميع كماليَّات الحياة ورفاهيَّاتها التي اعتاد الشرق جلبها من الغرب».8

٢

في عام ١٩٣٨، أنشأ حزب المؤتمر لجنة التخطيط الوطنية، وكلَّفها بوضع سياسةٍ للتنمية الاقتصادية في الهند التي كان استقلالها وشيكًا. رَأَس جواهر لال نهرو تلك اللجنة، التي تألَّفت من نحو ثلاثين عضوًا في المُجمل، مُقَسَّمين بالتساوي تقريبًا بين ميادين العلم والصناعة والسياسة. وخُصِّصَت لجان فرعية لموضوعاتٍ محددةٍ مثل الزراعة، والصناعة، والطاقة والوقود، والتمويل، والخدمات الاجتماعية، و«دور المرأة في الاقتصاد الموجَّه». وحدَّدت اللجنة «الاكتفاء الذاتي القومي» وتحسين مستويات المعيشة بمقدار الضعف في غضون عشرة أعوامٍ بصفتهما الهدفين الرئيسيين. وعُرِّف التخطيط في حد ذاته بأنَّه «التنسيق الفني — من جانب خبراء نُزَهاء — للاستهلاك والإنتاج والاستثمار والتجارة وتوزيع الدخل، بما يتفق مع الأهداف الاجتماعية التي وضعتها الهيئات الممثِّلة للدولة».9
تعلَّمت اللجنة من اليابان وروسيا درسًا مفاده أنَّ البلدان التي تتأخر في التحوُّل إلى التصنيع لا بد أنْ تعتمد على تدخُّل الدولة بنحو حيوي. وكان ذلك يسري على الهند بدرجةٍ أكبر؛ إذْ كان اقتصادها مختلًّا إثر قرنين من الحكم الاستعماري. وكما ورد في أحد تقارير لجنة التخطيط الوطنية، فإنَّ التنمية الموجَّهة تدعم مبدأ «تغليب الخدمة على الربح»؛ فقد كان ثَمَّةَ قطاعات كبيرة من الاقتصاد لا يمكن أن يُعهَد بها إلى القطاع الخاص، وحيث لا يمكن تحقيق أهداف التخطيط إلا من خلال «التعامل مع المسألة باعتبارها مشروعاتٍ عامةً جماعية».10
والجدير بالذكر أنَّ القطاع الخاص قَبِلَ؛ ففي عام ١٩٤٤، أصدر مجموعة من رجال الصناعة البارزين ما سمَّوه «خطة التنمية الاقتصادية للهند» (المشهورة أكثر باسم «خطة بومباي»)، أقرُّوا فيها بأنَّ «الترتيب الاقتصادي الحالي، القائم على المشروعات الخاصة والملكية الخاصة، فشل في تحقيق التوزيع المُرضي للدخل القومي»، والدولة وحدها هي القادرة على المساهمة في «تقليل التفاوتات في الدخل». كذلك كان دور الدولة ضروريًّا في زيادة الإنتاج؛ فالطاقة والبنية التحتية والنقل قطاعات شعر الرأسماليون الهنود أنفسهم بالحاجة لاحتكار الحكومة لها. وقالوا إنَّه في المراحل المبكرة من عملية التصنيع لا بد من أنْ «تمارس الدولة قدرًا لا بأس به من التدخُّل والرقابة لصالح المجتمع». وبالفعل فإنَّ ««توسيع نطاق» الوظيفة الإيجابية والوظيفة الوقائية للدولة «ضروري» لأي عملية تخطيط اقتصادي واسعة النطاق».11
تُظهر خطة بومباي — التي نسيها أغلب الناس الآن — كذب ادِّعاء أنَّ جواهر لال نهرو فرض نموذجًا للتنمية الاقتصادية المركزية رغمًا عن إرادة الطبقة الرأسمالية. وإنَّ المرء لَيتساءل عما كان خبراء السوق الحرة الحاليون سيقولونه عن تلك الخطة. أغلب الظن أنهم كانوا سيعتبرونها منشورًا دعائيًّا للاقتصاد المُوَجَّه، غير جدير بالرأسمالية ورجالها. ولكن الحقيقة أنَّه ينبغي النظر إليها على أنَّها تعبير عن روح العصر.12

كانت روح ذلك العصر مؤيدة تمامًا للتخطيط المركزي، وشَغْل الدولة ما سُمِّي «قمم القيادة» في الاقتصاد؛ ومن ثَمَّ فقد وجَّه دستور الهند الحكومة إلى كفالة «توزيع ملكية الموارد المادية للمجتمع وضبطها بما يحقق أفضل إسهام للصالح العام» و«ألا يؤدِّيَ سَيْر النظام الاقتصادي إلى تركُّز الثروة ووسائل الإنتاج بما يُفضي إلى مِحنةٍ عامة». وخلال شهرٍ بعد اعتماد الدستور، أنشأت الحكومة لجنة تخطيط لتطبيق تلك «المبادئ التوجيهية»، رأسها نهرو، وتضمَّنت وزراء رفيعي المستوى فضلًا عن موظَّفين متمرِّسين من دائرة الخدمة المدنية الهندية.

في صيف عام ١٩٥١، أصدرت لجنة التخطيط مسودة للخطة الخمسِيَّة الأولى، ركَّزت على الزراعة؛ القطاع الأكثر تضرُّرًا من عملية التقسيم؛ فإلى جانب زيادة إنتاج الغذاء، تمثَّلت مواضع التركيز الكبرى الأخرى في الخطة في تنمية وسائل النقل والاتصالات، وتوفير الخدمات الاجتماعية. وعند طَرْح المقترحات في البرلمان، أشاد نهرو بالخطة باعتبارها أول خطة من نوعها «تضع جوانب الهند كافةً — الزراعية والصناعية والاجتماعية والاقتصادية — في إطارٍ فكريٍّ واحد». وقال إنَّ عمل تلك اللجنة «أكسب البلد كله «وعيًا تخطيطيًّا»».13
بلغت توقعات لجنة التخطيط حدًّا مرتفعًا. ومثلما كتب أحد كُتَّاب الأعمدة الصحفية، فإنَّ «أحد مساوئ النظم الديمقراطية هي أنَّها تعمل بوتيرةٍ أكثر بطئًا من غيرها من النظم السياسية. ولكنَّ شعب الهند لن يحتمل أي تباطؤٍ غير مبرَّرٍ في نهضته الاقتصادية».14 وبعد الانتخابات العامة الأولى زادت شدة الإلحاح؛ فانهال النقَّاد من اليمين واليسار على الخطة الخمسية الأولى لومًا وتقريعًا باعتبارها تفتقر إلى الرؤية والطموح. صحيح أنَّ إنتاج الحبوب الغذائية شهد زيادة كبيرة، ولكن الناتج في قطاعاتٍ أخرى عجز عن بلوغ الأهداف المنشودة.15
عندما طرح نهرو الخطة الخمسية الأولى، قال: «إنَّه من الجليِّ بالنسبة إليَّ أنه علينا تحويل الهند إلى التصنيع، وبأقصى سرعةٍ ممكنة.» وقد احتلَّ ذلك الهدفُ موقعَ الصدارة في الخطة الخمسية الثانية، التي صيغَت على يد براسَنتا تشاندرا مَهالانوبِس، عالم الفيزياء والإحصاء خِرِّيج جامعة كامبريدج والمتشبِّع بالفلسفة السنكسريتية والأدب البنغالي؛ باختصار: «شخص مبهِر متعدد الثقافات، من نوع الرجال الذين من المحتم أنْ ينالوا إعجاب نهرو.»16

كان مَهالانوبس — ضمن أمورٍ أخرى — الرجلَ الذي أدخل علم الإحصاء الحديث في الهند؛ فقد أنشأ عام ١٩٣١ معهد الإحصاء الهندي في كلكتا. وفي غضون عقدٍ من الزمان جعل من المعهد مركزًا عالميَّ المستوى للتدريب والبحث. كذلك كان مَهالانوبس رائد مجال الأبحاث المتعددة التخصصات؛ إذ طبَّق أساليبه الإحصائية تطبيقًا مبتكَرًا على مجالات الأنثروبولوجيا والهندسة الزراعية وعلم الأرصاد الجوية.

في فبراير ١٩٤٩، عُيِّنَ مَهالانوبس مستشارًا إحصائيًّا شرفيًّا لوزارة الاتحاد الهندي. وفي العام التالي ساعد على إنشاء هيئة مسح العينات القومية، وفي العام التالي على ذلك ساعد على إنشاء هيئة الإحصاءات المركزية. أُنشئت هاتان الهيئتان بهدف جمع بياناتٍ جديرةٍ بالثقة عن مستويات المعيشة المتغيرة في الهند؛ عن الأجور والوظائف والاستهلاك وما شابه ذلك. وهاتان الهيئتان سبب من أسباب امتلاك الهند مجموعةً من الإحصاءات الرسمية الأكثر موثوقيةً من نظيراتها في أي مكانٍ آخر في العالم غير الغربي.17

تلك هي الجوانب غير المختلَف عليها ضمن الميراث الذي خلَّفه مَهالانوبس. وربما كان الأهم من ذلك — وإنْ كان أكثر إثارةً للجدل بالتأكيد — هو إسهاماته في مجال التخطيط النظري والعملي؛ ففي عام ١٩٥٤، ألزم نهرو حزبه، وبلده بالتبعية، بتكوين «نمط اشتراكي للمجتمع». وفي العام نفسه، كلَّفت الحكومة معهد الإحصاء الهندي بدراسة مشكلة البطالة؛ فكتب مَهالانوبس مذكرةً عن الموضوع، يبدو أنَّها أعجبت نهرو إلى حد تكليف معهد الإحصاء الهندي مسئولية صياغة الخطة الخمسية الثانية.

وقد تعامل مَهالانوبس مع المهمة بجديةٍ بالغة؛ ففي نهايات صيف عام ١٩٥٤، ذهب في جولة طويلة في أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية؛ فقد أقَرَّ بمعاناته «عقدة نقصٍ فيما يتعلق بأمور الاقتصاد». ومن ثَمَّ فقد كانت رحلته إلى الخارج تثقيفية — لتحسين معرفته الشخصية بالموضوع — وإنْ كانت أيضًا دعائيَّة دون مواربة؛ فهو كان يأمل أنْ يمكِّنه التقرُّب إلى الاقتصاديين الأجانب من إقناع نظرائهم الهنود بوجهة نظره. فكما أخبر صديق له: «وراء كل شيءٍ ثَمَّةَ هدف أوحد في ذهني؛ وهو المساعدة الفعَّالة التي يمكن أنْ نحصل عليها في وضع خططنا وتنفيذها.»18

ذهب مَهالانوبس إلى الولايات المتحدة أولًا، وفيها جَمَع معلوماتٍ عن معامِلات المدخلات والمخرجات، التي تنطوي عليها مجموعة مكوَّنة من ٤٠ ألف بطاقة من بطاقات هوليريث المثقوبة. وتحدَّث إلى صاحب ذلك العمل (فاسيلي ليونتييف، الذي حصل على جائزة نوبل في وقتٍ لاحق)، قبل أنْ يَعبُر المحيط الأطلنطي ليقابل أساتذة جامعة كامبريدج. كانت «ألمعهم» جوان روبنسون، التي كانت آنذاك عائدةً لتوِّها من رحلةٍ إلى الصين (حيث «أُعجِبَت كثيرًا بالتقدُّم الذي يحرزونه»). وكانت ترى أنَّ قطاع الاستيراد والتصدير في الهند يلزمه مزيدًا من الضوابط الحكومية. وافقها مَهالانوبس الرأي، وطلب بدوره إلى روبنسون زيارة الهند في ضيافة معهد الإحصاء الهندي. وقال لها إنَّ تلك الزيارة «يمكن أنْ تكون مصدر عَوْنٍ كبيرًا لنا لأنَّ تأييدها يمكن أنْ يُقنع الناس بأنَّ نهجنا إزاء التخطيط التنموي ليس أحمق؛ فتبسَّمت وقالت: «نعم، أظنُّ أنني قد أستطيع بثَّ بعض المنطق في عقول اقتصاديي بلادكم».»

ثم عَبَر مَهالانوبس بحر المانش، ليتحدَّث مع الماركسيين الفرنسيين. ثم حان وقت الانتقال إلى الجانب الآخر من الستار الحديدي؛ فوصل إلى موسكو عن طريق براج، وانبهر على الفور بوتيرة البناء «المذهلة»؛ إذ رأى مبانيَ أكبر بكثير، وتُشيَّد أسرع بكثيرٍ مما رأى في حياته كلها. وقد أجرى محادثات مطَوَّلة مع الأكاديميين السوفييتيين، الذين قالوا إنَّ الهند إنْ أرادت «القيام بأي نوعٍ من التخطيط الجاد، فلا بد من الاستعانة بجهودٍ نشطة، ليس لعشراتٍ بل لمئات التكنولوجيين والعلماء والمهندسين». وقد وافقهم مَهالانوبس الرأي، ودعاهم لزيارة بلاده، التي كانت في أَمَسِّ الحاجة إلى «مختصين وخبراء في الجوانب الاقتصادية لعملية التخطيط».19

وأخيرًا آتت تلك الرحلات والمحادثات ثمارها في ورقةٍ بحثيَّةٍ طويلةٍ قُدِّمَت إلى لجنة التخطيط في مارس ١٩٥٤. وفيها حدَّد مَهالانوبس ثمانية أهدافٍ للخطة الخمسية الثانية. تمثَّل الهدف الأول في «تحقيق نمو سريع للاقتصاد القومي عن طريق توسيع نطاق القطاع العام وزيادة أهميته ومن ثَمَّ المُضِي قُدُمًا صوب نمطٍ اشتراكيٍّ للمجتمع». والهدف الثاني تمثَّل في «تطوير صناعاتٍ ثقيلةٍ أساسيةٍ من أجل تصنيع سلع مُنتِجَة بغية تعزيز قاعدة الاستقلال الاقتصادي». كما شملت الأهداف الأخرى والأقل أهمية (كما لنا أنْ نفترض) إنتاج السلع الاستهلاكية من خلال قطاع المصانع والقطاع العائلي على حدٍّ سواء، وزيادة الإنتاجية الزراعية، وتوفير مرافق سكنية وصحية وتعليمية أفضل.

وقد بُرِّر التركيز على السلع الرأسمالية بأسلوبين رئيسيين؛ أولًا: أنَّه سوف يصون الاستقلال الاقتصادي — ومن ثَمَّ السياسي — لتلك المستعمرة السابقة. وثانيًا: أنَّ من شأنه أنْ يساعد على حلِّ مشكلة البطالة المُلِحَّة؛ فقد كان رأي مَهالانوبس أنَّ: «البطالة مشكلة مزمنة بسبب عدم توافر السلع الرأسمالية»، وهي لا تحدث «إلا عندما تتعطَّل وسائل الإنتاج». فكانت أسرع طريقة لخلق الوظائف هي بناء السدود والمصانع.20
قُدِّمَت مسودة خطة مَهالانوبس إلى فريقٍ من الخبراء الاقتصاديين؛ فكلهم — عدا واحدًا منهم — أيَّدوا التركيز على السلع الرأسمالية ودور القطاع العام. لا شك أنَّه كان ثَمَّةَ بعض التحذيرات؛ فقد حثَّ بعض الاقتصاديين على زيادة التكامل بين الإنتاج الزراعي والإنتاج الصناعي، بينما أبدى آخرون قلقًا حيال كيفية توفير تمويل الخطة؛ فزيادة الضرائب لن تكفيَ بمفردها، وتمويل العجز قد يُسفر عن ارتفاع معدل التضخُّم. ولكن بصفةٍ عامة، أيَّد الاقتصاديون البارزون في الهند ما بات يُدْعَى بالفعل «نموذج مَهالانوبس للتخطيط».21
مثَّل ذلك النموذج، من بين أشياء أخرى، استرجاعًا للنموذج القومي القديم للسوادشي (الاكتفاء الذاتي)؛ فذات يومٍ أحرق المتظاهرون أتباع غاندي الأقمشة الأجنبية تشجيعًا للمنسوجات المحليَّة، والآن قرَّر أتباع نهرو من التكنوقراط صناعة الصلب وآلات التشغيل بأنفسهم عوضًا عن شرائها من الخارج. وكما جاء في الخطة الخمسية الثانية، فقد كان التخلُّف «ناجمًا في الأساس عن عدم كفاية التقدُّم التكنولوجي».22 ومن هذا المنطلق، أصبح الاكتفاء الذاتي هو المؤشر «الوحيد» للتطوُّر والتقدُّم؛ فمن الصابون إلى الصُّلب ومن الكاجو إلى السيارات، صار الهنود يوفِّرون احتياجاتهم من المواد باستخدام الأراضي الهندية والعمالة الهندية والخامات الهندية، وفي المقام الأول، التكنولوجيا الهندية.
يقارن جدول ١٠-١ بين النفقات القطاعية في كلٍّ من الخطة الخمسية الأولى والخطة الخمسية الثانية. من الناحية النسبية، احتفظت قطاعات الطاقة والنقل والاتصالات والخدمات الاجتماعية بالأهمية ذاتها تقريبًا. أما التحوُّل الحاسم فكان من قطاع الزراعة إلى قطاع الصناعة، الذي أُضيف إليه تضاؤل أهمية الرَّي.
على الرغم من أنَّ الصناعات الثقيلة ستصبح مملوكة للدولة، بقيَت مساحة كبيرة للشركات الخاصة؛ وذلك لأنَّه في ظِلِّ «توسُّع الاقتصاد يحظى القطاع الخاص بسوقٍ أكيدة». ويأتي الإسهام الرئيسي للشركات الخاصة في صورة سلع استهلاكية، تُنتجها الوحدات الكبيرة والصغيرة على حدٍّ سواء.23
جدول ١٠-١: النفقات القطاعية في أول خطَّتين خمسيَّتين (المصدر: جُمِعَت الأرقام من كتاب إيه إتش هانسون «عملية التخطيط: دراسة في الخطط الخمسِيَّة الهندية، ١٩٥٠–١٩٦٤» (لندن: مطبعة جامعة أكسفورد، ١٩٦٦)، جدول ٧، ص١٣٤).
القطاع النفقات في الخطة الأولى النفقات في الخطة الثانية
الإجمالي* بالنسبة المئوية الإجمالي* بالنسبة المئوية
الزراعة والتنمية المجتمعية ٣٧٢ ١٦ ٥٣٠ ١١
الرَّي ٣٩٥ ١٧ ٤٢٠ ٩
الطاقة ٢٦٦ ١١ ٤٤٥ ١٠
الصناعات والمعادن ١٧٩ ٧ ١٠٧٥ ٢٤
النقل والاتصالات ٥٥٦ ٢٤ ١٣٠٠ ٢٨
الخدمات الاجتماعية، الإسكان، إلخ ٥٤٧ ٢٥ ٨٣٠ ١٨
P. C. Mahalanobis, ‘Draft Plan Frame for the Second Five-Year Plan,’ Economic Weekly, special issue, 18 June 1955.
أصدرت الحكومة قرارًا عام ١٩٥٦ صنَّف الصناعات الجديدة إلى ثلاث فئات: كانت الفئة الأولى هي «المسئولية الخالصة» للدولة، وشملت: الطاقة الذرية، والصناعات ذات الصلة بالدفاع، والطائرات، والحديد والصلب، وتوليد الكهرباء ونقلها، والمعدات الكهربائية الثقيلة، والهواتف، والفحم وغيره من المعادن المهمة. والفئة الثانية اشترك فيها القطاع العام والقطاع الخاص على حدٍّ سواء، وتضمَّنت: المعادن الأقل أهمية، والمواد الكيميائية، والمستحضرات الدوائية، والأسمدة، والورق وعجين الورق، ووسائل المواصلات. أما الفئة الثالثة فشملت الصناعات المتبقية كافة، والتي تكفَّلت بها «عادةً مبادرات القطاع الخاص ومشروعاته».24
هل كان نموذج مَهالانوبس مُقَدَّرًا له النجاح؟ كان ذلك الظَّنَّ السائد لدى هنود كُثُر، وأمل معظمهم بالتأكيد، وكذلك أمل كثير من المتعاطفين معهم في أنحاء العالم أجمع. من النماذج الممثِّلة لذلك الرأي: جيه بي إس هالدين، عالم الأحياء البريطاني العظيم، الذي كان يخطِّط آنذاك للانتقال إلى الهند والالتحاق بمعهد الإحصاء الهندي. فعندما عُرِضت عليه مسودة الخطة التي وضعها مَهالانوبس، كان تعليق هالدين هو الآتي:
حتى إنْ كان المرء متشائمًا، ووضع في اعتباره احتمال فشل قدره ١٥٪ نتيجة تدخُّل الولايات المتحدة (عن طريق باكستان أو غيرها)، واحتمال تدخُّل من جانب الاتحاد السوفييتي والصين قدره ١٠٪، واحتمال قدره ٢٠٪ للتعارض مع نزعة دائرة الخدمة المدنية إلى التمسُّك بالتقاليد ووضع العراقيل السياسية، واحتمال قدره ٥٪ للتدخل من جانب النزعة التقليدية الهندوسية، فسيتبقى لدينا احتمال نجاح قدره ٥٠٪ من شأنه أن يُغيِّر مسار التاريخ العالمي بأكمله إلى الأفضل.25

٣

إذا كان مَهالانوبس هو كبير فنيي التخطيط الهندي، فقد كان نهرو أكبر المبشِّرين به؛ فقد كان رئيس الوزراء مؤمنًا بأنَّه في السياق الهندي، كانت عملية التخطيط تنطوي على ما هو أكثر بكثيرٍ من مجرد إعمالٍ للاقتصاد الرشيد، فقد انطوت على إعمال السياسة السليمة أيضًا. وفي حين أنَّ الخطَّة الخمسية كانت قائمة على عمل الاقتصاديين والإحصائيين، فإنَّ تحقيق أهدافها يتطلَّب «تحلِّي الناس بحِسِّ الشراكة في إطار مشروعٍ هائل، وكونهم رُفَقاء سَفَرٍ في السعي وراء الهدف الذي وضعناه نحن وهم نُصب أعيننا». فقد كانت المشاركة الشعبية هي السبيل الوحيد لتحويل «هذه الخطة — الواردة في نصٍّ جامد — إلى كيانٍ حي، نابض بالحيوية والديناميكية، يأسر خيال الناس».26
ومن ثَمَّ مثَّلت عملية التخطيط «جهدًا تعاونيًّا هائلًا لشعب الهند كله». كان نهرو يأمل في أنْ تعالج المشروعات الجديدة الانقسامات الطبقيَّة والدينية والمجتمعيَّة والإقليمية. وإذ طرح الخطة الأولى على رؤساء وزارات الولايات، كتب: «كلما فكَّرنا في هذه الصورة المتوازنة للهند ككلٍّ وأنشطتها المتعددة الجوانب — الشديدة التداخل بعضها مع بعض — تناقص احتمال انحرافنا إلى المسارات الملتوية للنعرات الإقليمية والطائفية والطبقية وسائر النزعات الأخرى المفضِية إلى الِاضْطِراب والتفكك.» وعندما طرح الخطة الثانية، أطلق عليها «محاولة شجاعة لصياغة مستقبلنا»، سوف «تتطلَّب كل ما أوتينا من قوةٍ وطاقة». فقد كان يعتقد أنَّه «في نهاية المطاف سيكون ذلك هو السبيل الوحيد لمعالجة النزعات الانفصالية والإقليمية والطائفية التي يتعيَّن علينا محاربتها».27
وعلى الصعيد الاقتصادي، حدَّد نهرو نشاطَيْن باعتبارهما يوفِّران «الأساسين الضروريين» للتخطيط، وهما: إنتاج الطاقة وإنتاج الصُّلب.28 عندما نالت الهند الاستقلال، لم يكن لديها سوى مصنعين للصُّلب، كلاهما مملوكان لأشخاص، كانا ينتجان ما يربو قليلًا على مليون طنٍّ في العام؛ وهي كمية لم تكن كافية لاقتصادٍ في طور التوسُّع، لا سيما اقتصاد التزم بإقامة صناعة ثقيلة.
مُنِع القطاع الخاص من إقامة مشروعات جديدة في مجال صناعة الصلب، الذي اعْتُبِرَ — إلى جانب الفحم وصناعة السُّفُن والطاقة الذرية وإنتاج الطائرات — أهمَّ من أنْ يخضع لدافع الرِّبح. وقد كان حزام الغابات الممتد عبر وسط الهند غنيًّا بخام الحديد والفحم، وكذلك جرت فيه أنهار كثيرة؛ فبدأت على الفور منافسة نشِطة بين الولايات في ذلك الحزام؛ حيث سعت كلٌّ منها لإقامة أول مصنع صلب حكومي داخل حدودها. وقامت بالتوازي منافسة بين البلدان الصناعية في الغرب، التي رغب كلٌّ منها في الحصول على عقد بناء أول مصنع.29
وضعت الخطة الثانية هدفًا قدره ٦ ملايين طن من الصلب. كان ذلك الناتج مطلوبًا لتوفير مدخلات صناعات أخرى مخَطَّط لها. ولكنه كان وسيلة أيضًا لتعزيز الادِّخار القسري؛ فحسب التعبير الشهير لأحد الاقتصاديين: «لا يمكنك أكل الصُّلب.» وأثناء وضع اللمسات الأخيرة على الخطة الثانية، وقَّعت الحكومة الهندية ثلاث اتفاقيات منفصلة لبناء مصانع صُلب؛ فكان من المزمَع أن يبنيَ الألمان مصنعًا في روركيلا بأوريسا، ويبني الروس آخر في بيلاي بولاية ماديا براديش، بينما تقرَّر بناء المصنع البريطاني في دورجابور بغرب البنغال. أما الأمريكيون فكان من دواعي أسَفهم أنَّهم خَسِرَوا تلك الفرصة؛ فكان اقتناص اثنين من بلدان أوروبا التي مزَّقتها الحرب عقدين لبناء مصانع أمرًا سيئًا بما فيه الكفاية، وزاد الأمر سوءًا حصول خَصم الولايات المتحدة البغيض في الحرب الباردة على العقد الثالث. وبعد مرور سنوات، ذكر صديق أمريكي كيف أذاع المذيع الشهير إد مورو خبر قرار حصول روسيا على عقد بناء المصنع في بيلاي بنبراتٍ يشوبها حزن ملموس.30
لا شك أنَّ روسيا سَرَّها ذلك الخبر أيَّما سرور؛ فقد زار نيكيتا خروتشوف بيلاي ووصفها بأنها «ماجنيتاجورسك الهند» (مدينة ماجنيتاجورسك هي مقر أكبر مصنع للحديد والصُّلب في روسيا). ونشرت صحيفة «برافدا» الروسية مقالاتٍ مصوَّرةً وافرة تشيد ببيلاي باعتبارها رمزًا للتعاون الهندي السوفييتي.31 وكانت الهند أكثر حماسًا؛ فقد ذكر كيميائي بنغالي كان يعمل في بيلاي أنَّ رئيسه الروسي أصبح — مع مرور السنين — صديقًا حميمًا له أيضًا. وعندما حان وقت رحيل الخبير الأجنبي، لم يستطع مرءوسه الهندي أنْ يتمالك عَبَراته. احتفظ الخبير الروسي برباطة جأشه، ولكن دموع التعاطف ترقرقت في عينَي زوجته. بالنسبة إلى الكيميائي البنغالي، تلك العبرات «لم تكن بالنسبة إليَّ سوى قطرات من مياه نهر الفولجا المقدسة، تغلغلت في مجرى نهرنا، نهر الجانج، وفاضت على أُخوَّتنا وصداقتنا الباقية».
في بيلاي، عمل الروس والهنود جنبًا إلى جنب؛ في إخلاء الأراضي، وتشييد الطرق والمساكن، وإقامة المصنع. وإنَّ المشاركين في تلك الجهود لَيذكرونها بمَوَدَّةٍ دافئة؛ فقد ذكر أحد المشاركين فيها أنَّها كانت «جهدًا محمومًا غير مذعور، ونَسَقًا مقترنًا بخطة. كان فريق البناء شديد الزهو بالمصنع الجديد الذي أتى به إلى الحياة وراضيًا عنه، بينما انتابت فريقَ العمل لهفةٌ قلِقة لرعايته حتى يبلغ كامل طاقته … فكلٌّ مِنَّا كان يساعد على بناء المستقبل — مستقبل كاد المرء يراه ويلمسه ويتحسَّسه». وأخيرًا، في فبراير ١٩٥٩، أمام عينَي رئيس الهند الحانيتَين، خرج أول حديدٍ مصهورٍ من فرنٍ لافحٍ في بيلاي؛ فسالت دموع الفرحة والحبور في جميع الأنحاء. ولفترةٍ طويلةٍ ظل من حضَروا ذلك الحدث يذكرونه بأنَّه «أكثر لحظات حياتهم تشويقًا».32
وقد وصف أحد كبار المسئولين صناعة الصُّلب الهندية بأنَّها «مدرسة فنية، وفي الوقت نفسه المحرِّك الرئيسي للأنشطة الصناعية الأخرى».33 والحقيقة أنَّها كانت أكثر من ذلك؛ فمصنع الصُّلب دحض الاعتقاد بأنَّ الهنود غير منتجين وغير مواكبين للعلم الحديث، أو باختصار: متخلِّفون.

٤

أثناء عملية التحديث الاقتصادي للهند، شغلت السدود الكبيرة مكانةً خاصةً إلى حدٍّ كبير؛ فهي من ناحيةٍ كانت ستتيح تحرير الزراعة من استبداد الأمطار الموسمية، ومن ناحيةٍ أخرى توفر الطاقة الكهربائية اللازمة لتشغيل الصناعات الجديدة الواردة في الخطط الخمسيَّة. كانت السدود تُثير انبهار جواهر لال نهرو، وأطلق عليها «معابد الهند الحديثة». وشاركه انبهارَه ملايينُ من أبناء بلده، الذين صاروا ينظرون بعين الإجلال والتوقير إلى تلك الصروح الشامخة الجديدة المبنِيَّة بالطمي والأسمنت.

كان المثقفون الهنود بالغي الإعجاب بهيئة وادي تينيسي، المشروع المتكامل الذي مثَّل الركيزة الأساسية لبرامج الصفقة الجديدة التي طرحها فرانكلين روزفلت. ولكنهم أُعجبوا أيضًا بالمشروعات العملاقة المتعددة الأهداف التي أقامها الاتحاد السوفييتي؛ ففي أربعينيات القرن العشرين، في الفترة السابقة على الاستقلال، سافر العلماء والمهندسون الهنود إلى الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا لاكتساب معرفةٍ مباشرةٍ بكيفية بناء السدود؛ فانبهروا بشدة بما رأَوْه؛34 فعلى جانبَي الستار الحديدي على حدٍّ سواء، مثَّلت تلك المشروعات «انتصارًا للعلوم والتكنولوجيا والبصيرة والحكومة المركزية على السياسة والسلطات والقوى المحلية الضيِّقة الأفق وعلى الجهل والخرافة والرجعية». ومثَّلت فعليًّا «خلاص الأمة عبر المنطق الرشيد والقوة».35
وعلى غرار أمريكا وروسيا، كانت شبه القارة الهندية تتمتَّع بأنهارٍ كبيرةٍ عِدَّة؛ فكانت إقامة السدود على تلك الأنهار، وترويضها، من شأنها أن تضرب ثلاثة عصافير بحجرٍ واحد: تولِّد الطاقة، وتوفِّر مياهًا للري، وتمنع إغراق الفيضانات للأراضي؛ فبعد نوبة فيضانٍ فتَّاكةٍ بحقٍّ لنهر جودافاري عند هطول الأمطار الموسمية عام ١٩٥٣، كتب مهندس بارز إلى سياسيٍّ بارزٍ أنَّ ذلك نهر:
ينطوي على احتمالات منفعةٍ هائلة. إلا أنَّ الدمار الذي أحدثته الفيضانات هذا العام أثبت أنَّ مياه الفيضانات تلك إنْ لم تُسَخَّر لاستخدامٍ نافع، فسوف تُشكِّل خطرًا محتملًا على رفاه الناس. وإنِ اتُّبِعت معها أساليب الحفظ السليمة، فيمكن أن تلبِّيَ كافة احتياجات حوض نهر جودافاري وتُخلِّف احتياطات وفيرة، سوف تتيح عند دمجها مع مياه نهر كريشنا منافع من الرَّيِّ والطاقة يمكن مَدُّها وصولًا إلى مدراس وجنوبها … لذا يتعين علينا ألا ندَّخر وسعًا في سبيل تطويع مياه نهر جودافاري، وإحداث الاندماج الأمثل بينها وبين مياه نهر كريشنا، وكذلك لا ينبغي السماح لأي أسبابٍ خارجيةٍ بأنَّ تُعطِّل إتمام هاتين العمليتين أو تُعرِّضهما للخطر.36

كان ذلك أحد الدُّعاة التكنوقراط، أثناء حديثه إلى معتنقي فكره. ففي حين أنَّ نهر جودافاري كان لم يزل خاليًا من السدود، فمعظم الأنهار الكبرى الأخرى كانت خاضعة بالفعل للسيطرة. ومن بين مشروعات بناء السدود الكُبرى الجارية آنذاك كانت مشروعات بناء السدود على أنهار ماهانادي وريهاند وتونجابهادرا ودامودار وسوتليج.

وفي منتصف خمسينيات القرن العشرين، كتب عالِم السياسة هنري هارت في أحد كتبه وصفًا حماسيًّا للتحوُّل الذي حدث في أنهار «الهند الجديدة». رأى هارت أنَّ تلك المشروعات هي «أعظم صروح الهند الحرة»؛ فإليها «يأتي الناس رجالًا ونساءً، في وفودٍ متناميةٍ موسمًا بعد موسم، ليرَوْا بأنفسهم السدود والقنوات ومحطات الطاقة».

وقد أورد هارت أيضًا في كتابه وصفًا دقيقًا إلى حدٍّ بعيد لعملية بناء سد تونجابهادرا؛ فعند الانتهاء منه، كان ذلك السد سيجسِّد ٣٢ مليون قدم مكعَّب من أحجار البناء، التي وُضِعت بمعدَّل ٤٠ ألف قدم مربع في اليوم، يوميًّا لمدة خمسة أعوام؛ فلا يمكن التعبير عن حجم ذلك العمل إلا بالتشبيه، وقد كتب عنه هارت الآتي: «تخيل الأحجار التي استُخدمت في بناء سد تونجابهادرا موضوعة لإقامة طريق سريع، عرضه ٢٠ قدمًا، وسُمكه ٦ بوصات. مثل ذلك الطريق سيمتدُّ من لكنو إلى كلكتا، أو من بومباي إلى مدراس.»37
لا شك أنَّ أرفع تلك المشروعات مقامًا كان مشروع سد باكرا-نانجال في شمال الهند. ومرةً أخرى، فإنَّ خير وسيلةٍ للتعبير عن حجمه هي الأرقام. ذلك السد — الذي بلغ ارتفاعه ٦٨٠ قدمًا — كان ثاني أعلى سدٍّ في العالم؛ حيث لم يَفُقْه ارتفاعًا سوى سد كولي الكبير، القائم على نهر كولورادو. وبلغت تقديرات كمية الأسمنت والأحجار التي ستُستخدَم فيه في نهاية المطاف ٥٠٠ مليون قدم مكعب؛ أي «أكثر من ضِعف حجم سبعة من الأهرامات المصرية العظيمة بالأقدام المكعَّبة». وكان من المتوقَّع أن يولِّد ذلك المشروع قرابة مليون كيلوواط من الكهرباء سنويًّا، بينما يمكن للمياه المتجمِّعة في الخزان أنْ تروي ٧٫٤ ملايين فدان من الأراضي. وكان من المُفترَض أنْ تنتقل مياه الريِّ عبر القنوات، التي استلزم حفرها إزالة ٣٠ مليون ياردة مكعَّبة من الطمي والحجارة.38

مثَّل ذلك المشروع نوعًا من التعويض للمزارعين اللاجئين من غرب البنجاب، وبديلًا عن «مستعمرات القنوات» التي تركوها وراءهم على الجانب المقابل من الحدود. هؤلاء الفلاحون — الذين كان معظمهم من السيخ — استشعروا «توقًا بلغ حد الاستماتة لأنْ يُعيدوا في حياتهم الرخاء الذي حُرِموا منه بقسوة». فقد منحهم سد باكرا-نانجال «الحقول والموارد التي يمكن استغلالها في إعادة البناء وإعادة توطين أنفسهم». وفي الواقع، فقد منحهم ذلك السد ما هو أكثر من ذلك؛ إذ أمَدَّهم بالطاقة إضافةً إلى المياه، التي أصبح بإمكان أهل البنجاب — إن شاءوا — أن يبنوا بها مستقبلًا صناعيًّا لهم لأول مرة.

ورد وصف مفصَّل بدقةٍ لمشروع باكرا-نانجال في عددٍ خاصٍّ من مجلة «إنديان جورنال أوف باور آند ريفر فالي ديفِلوبمنت»: افتُتِح العدد بمجموعة مكوَّنة من أربع صُوَر عظيمة الدلالة. عرضت الصورة الأولى الموقع الكثيف الأشجار قبل البدء في العمل، وأسفلها التعليق التالي: «نهر سوتليج في باكرا في رونقه البدائي — الموقع كما كان.» وعرضت الصورة الثانية هياكل شبيهة بالرافعات في المياه وجسرًا منخفضًا ممتدًّا عبر الوادي الضيِّق، وكان التعليق الوارد أدناها هو: «حَفر استطلاعي في قاع النهر باستخدام حفَّارات مُثَبَّتة على جسور عائمة — الغزو الأول.» أما الصورة الثالثة — التي أُخِذَت في موسم الجفاف على ما يبدو — فظهرت فيها جوانب التلال التي كانت آنذاك شبه جرداء، والشاحنات والجرَّافات جاثمة على قاع النهر، وكُتِب أسفلها: «بدء صبِّ الأسمنت لتشييد السد — إرساء الإنسان قواعد تغيير الطبيعة.» وفي الصورة الأخيرة، كان السَّد قد بدأ يعلو، بالاستعانة بآلاتٍ ذات أشكالٍ وأحجامٍ لم تسبق رؤيتُها في الهند، وجاء التعليق بالأسفل كالآتي: «جارٍ الحفر بالآلات الثقيلة في منطقة الحفر — الصراع مع الطبيعة.»39
كان جميع الرجال والنساء العاملين في باكرا هنودًا، باستثناء واحد. كان ذلك الاستثناء أمريكيًّا يُدْعَى هارفي سلوكَم. لم ينل سلوكَم حظًّا كبيرًا من التعليم الرسمي، وإنما بدأ مساره المهني عاملًا في مصنع للصُّلب، ثم ارتقى إلى منصب مشرف البناء في سد كولي الكبير. انضَمَّ سلوكَم إلى فريق باكرا بوصفه كبير المهندسين عام ١٩٥٢، وطبعه ببصمته المميزة في العمل؛ فقد أَمَر الموظفين والعاملين من كافة المستويات بارتداء زيٍّ موحَّد. وكان سلوكَم نفسه يأتي إلى الموقع في تمام الساعة الثامنة صباحًا، ويبقى فيه حتى ساعة متأخرة من المساء. ولما كان صارمًا في فرضه النظام والانضباط، لم يقبل بالكَسَل والتقصير المتفشِّيَيْن من حوله؛ فذات مرة، عندما حدث عُطل في شبكة الاتصالات الهاتفية، كتب إلى رئيس الوزراء يخطره أنَّ: «الرب وحده، وليس سلوكَم، هو القادر على بناء سد باكرا في الموعد المقرَّر.»40
في الأسبوع الأول من يوليو ١٩٥٤، زار نهرو باكرا ليفتتح المشروع رسميًّا. وإذْ نقر بإصبعه مفتاح تشغيل محطة الطاقة، مالَت طائرات داكوتا التابعة للقوات الجوية الهندية بجناحها في السماء. وبعد ذلك فَتَح نهرو بوابات السد. عندما رأى أهل القُرى أسفل النهر اندفاع المياه نحوهم، أطلقوا مئات الألعاب النارية المنزلية الصُّنع. ومثلما كتب أحد الشهود العِيان، فإنه «على مدى ١٥٠ ميلًا، انتشرت الاحتفالات الصاخبة كالتفاعلات المتسلسلة على طول القناة العظيمة وفروعها وقنوات التوزيع حتى أطراف صحراء راجستان، قبل وصول المياه إليها بزمن».41

٥

في إطار الدفع بالهند تجاه التصنيع، وَجَب اضطلاع التكنولوجيا ومختصيها بدورٍ رئيسي؛ فقد كان جواهر لال نهرو منبهرًا بالعلوم الحديثة منذ أيام دراسته في جامعة كامبريدج. وكتب يقول: «إن العلم هو روح العصر والعامل المُسيطِر في العالَم الحديث.» وكان نهرو يرغب في أن يُشكِّل ما سمَّاه «المزاج العِلمي» كافة مجالات النشاط الإنساني، بما في ذلك مجال السياسة. وعلى نحو أكثر تحديدًا، ففي بلدٍ متخلِّفٍ مثل الهند، لم يكن بد من تسخير العلم لخدمة التقدُّم الاقتصادي، مع تكريس العلماء عملهم لزيادة الإنتاجية والقضاء على الفقر.42
وقت نيل الهند استقلالها كانت نسبة الإنفاق على البحث العلمي لا تتجاوز ٠٫١٪ من الناتج الوطني الإجمالي. وفي غضون عقدٍ من الزمان قفزت تلك النسبة إلى ٠٫٥٪، وفي مرحلةٍ لاحقةٍ تجاوزت ١٪. وتحت إدارة نهرو النشطة، أُنشِئت سلسلة من المعامل البحثية الجديدة، مستقلةً عن الجامعات القائمة، سيرًا على النموذج الفرنسي. وشمل نطاق اختصاص مجلس البحوث العلمية والصناعية نحو أربعة وعشرين معهدًا قائمًا بذاته. كان ثَمَّةَ أجندة نفعية قوية قيد العمل؛ إذْ شُجِّع العلماء في تلك المعامل على ابتكار منتجاتٍ جديدةٍ للهنود عوضًا عن نشر الأبحاث الأكاديمية في الدوريات الأجنبية.43
ومن العلماء الهنود الذين حظُوا بدعم نهرو المبكر والمتواصل: الفيزيائي النابغة خرِّيج جامعة كامبريدج، هومي بهابها. أسَّس بهابها صرحين علميين كبيرين وتولَّى إدارتهما؛ الصرح الأوَّل: كان معهد تاتا للبحوث الأساسية في بومباي، الذي كان موُجَّهًا — كما يتَّضح من اسمه — إلى البحوث الأساسية في المقام الأول. حوى ذلك المعهد قسمين عالميَّي المستوى للفيزياء والرياضيات، وكذلك ضَمَّ — بعد فترة — أول كمبيوتر مركزيٍّ في الهند. أما الصرح الثاني: فكان مؤسسة الطاقة الذرية، التي أُوكِلَت إليها مهمة بناء مفاعلات الطاقة النووية الهندية وإدارتها. تلقَّت تلك المؤسسة تمويلًا سخيًّا من الحكومة؛ إذ وصلت ميزانيتها السنوية — عام ١٩٦٤ — إلى نحو ١٠٠ مليون روبية.44
كذلك افتُتِحَ عدد كبير من كليات الهندسة، منها المعاهد الهندية للتكنولوجيا ذات المكانة الرائدة، التي دُشِّن خمسة منها بين عامَي ١٩٥٤ و١٩٦٤. وعلى غرار المعامل الجديدة، كان الهدف المرجوُّ من الكليات الجديدة هو زيادة القدرات الفنية الوطنية؛ فقد كان كلٌّ من نهرو وبهابها عازمًا على الحَدِّ من اعتماد الهند على الغرب من أجل الحصول على الخامات العلمية والخبرات؛ فقد كانا يريان أنَّه «إذا استُوردت إحدى المُعدات من الخارج، لا ينال المرء سوى تلك الأداة. أما إذا صنعها بنفسه، فسيتعلَّم درسًا بالغ الأهمية في الخبرة أيضًا».45

٦

خفَّفت مجموعة من البرامج المشجِّعة على النهوض بالزراعة حدة التحيُّز الصناعي للتخطيط الهندي؛ ففي صباح يوم ٢ أكتوبر ١٩٥٢ (ذكرى مولِد المهاتما غاندي)، دَشَّن رئيس الهند — عبر بثٍّ إذاعيٍّ على الراديو — برنامجًا للتنمية المجتمعية على مستوى الدولة. أُطْلِقَ في ذلك اليوم خمسة وخمسون مشروعًا في مختلِف أنحاء الهند، بتمويلٍ مشترَكٍ من حكومتَي الهند والولايات المتحدة الأمريكية. وكان من المخطَّطات التي شجَّعها برنامج التنمية المجتمعية: طرق وآبار وبرامج بيطرية وأساليب زراعة مُحسَّنة.

انطلقت تلك المشروعات على يد وزراء ورؤساء وزراء ولايات ومندوبين حكوميين؛ حيث ساعد هؤلاء الأشخاص الرفيعو المقام على إزالة التراب من أجل بناء الطرق، وأرسَوْا قواعد المدارس والمستشفيات. وفي قرية أليبور، أخذ جواهر لال نهرو يحفر التراب، على بُعد اثني عشر ميلًا خارج حدود دلهي على الطريق إلى كارنال، للمساعدة في تمهيد الطريق. وقيل إنَّه «انخرط في العمل بحيويةٍ وحماس، بعدما خلع سُترته». وحمل رفيقُه — السفير الأمريكي — بعض سِلال التراب أيضًا. ولكن لم يكن الجميع بمِثل لياقتهما؛ فعندما حاول مسئول متأنِّق أن يحذوَ حذوَ رئيس الوزراء، هتف به أهل القرية قائلين ما معناه: «احمِل السلال على رأسك أيها الأحمق، لا بيديك!» وإذْ تحدَّث نهرو إلى أهل القُرى، قال إنَّ التنمية المجتمعية من شأنها أن تأتيَ بثورةٍ ريفية، بالسُّبُل السِّلميَّة، وليس بتهشيم الرءوس، كما في أنحاءٍ أخرى.46

كيف كان سير تلك الخطط عمليًّا؟ بعد مرور عامين على بدئها، تناول عالِم الأنثروبولوجيا إس سي دوبيه بالدراسة مشروعًا للتنمية المجتمعية في غرب أُوتَّر براديش. نظر إليه من منظور «العاملين على مستوى القرية»، وهم موظفون حكوميون كُلِّفوا بتوصيل الأفكار الجديدة إلى الفلَّاحين.

وفقًا لرواية دوبيه، كان «عملاء التغيير» هؤلاء يتحلَّوْن بالطاقة والمغامرة بلا شك؛ فقد كانوا يستيقظون عند مطلع الفجر وينكبُّون على العمل طوال اليوم. تضمَّنت مهامهم توضيح مزايا البذور والأسمدة الكيميائية الجديدة لأهل القرى، فكانوا يُجرِّبونها على رُقعٍ من الأراضي اسْتُخْدِمَت كعيِّنات؛ حيث راح الفلَّاحون يراقبون عملهم بينما كانوا يشرحون الأساليب العلمية لغرس الزروع بالمِحفار؛ فجُرِّبَت محاصيل مختلفة، كذلك توليفات متنوعة من الأسمدة. كذلك فقد قدَّم «العمال على مستوى القرية» أسمدة عضوية إنجليزية إلى الفلَّاحين مجانًا لكي يستخدموها في حقولهم.

ويبدو أنَّ فلَّاحي أوتَّر براديش كانوا متأرجحين إلى حدٍّ ما إزاء التقنيات الجديدة. وإليكم نصَّ حوارٍ دار بين أحد العاملين على مستوى القرية (كيو) ومزارع يُشار إليه بالأحرف الأولى من اسمه (إم إس):

كيو : ما رأيك في البذرة الجديدة؟
إم إس : وماذا يمكن أنْ يكون رأيي؟ إذا كانت الحكومة تظن أنها جيدة، فلا بد أنَّها جيدة.
كيو : هل تظنُّها أفضل من النوعية المحليَّة؟
إم إس : نعم، إنها مقاومة للأمراض بدرجةٍ أكبر بكثير. ويمكنها الصمود أمام الصقيع والأمطار، والطلب عليها أكبر في السوق.
كيو : وماذا عن الغلة؟
إم إس : لست أدري. البعض يقولون إنَّها أكثر، وآخرون يقولون إنَّ ذلك غير صحيح.
كيو : البعض يقولون إنَّها ليست طيبة المذاق كالبذور المحلية.
إم إس : إنَّهم محِقُّون؛ فمذاقها لا يرقى إلى نصف مستوى مذاق البذور المحلية. إذا قُدِّم الخبز ساخنًا يظل مذاقه كما هو تقريبًا، ولكننا إذا أبقيناه ساعة أو نحوها يصير قاسيًا كالجِلد. لا، إنَّها ليست طيبة المذاق. والناس يقولون إننا جميعًا يُصيبنا هُزال شديد إذا تناولنا هذا القمح.
كيو : وما خبرتك في هذا الصدد؟
إم إس : عدد المصابين باضْطِرابات الهضم أكبر بكثيرٍ هذه الأيام. وأطفالنا يعانون السُّعال ونزلات البرد. ربما كان ذلك يُعزَى إلى البذرة الجديدة وقصب السكر. وربما أفسدت الحروب الهواء.
كيو : وماذا عن السماد الجديد؟
إم إس : إنه يزيد الإنتاجية، وهذا مما لا شك فيه. ولكنه على الأرجح يُدمِّر حيوية الأرض وحيوية الحَبِّ أيضًا.47

انتابت الفلاحين الهنودَ مشاعرُ متضاربةٌ حِيال البذور والأسمدة الجديدة. ولكنهم رحَّبوا بشدة بإمدادات المياه الجديدة. وبينما كان إس سي دوبيه يدرس التنمية المجتمعية في أوتَّر براديش، كانت عالِمة الأنثروبولوجيا البريطانية سكارليت إبستاين تعيش في ونجالا، وهي قرية في جنوب مَيْسور كان قد دخلها في الآونة الأخيرة الرَّيُّ بالقنوات؛ فقبل مجيء الماء، كانت مثل أي قريةٍ صغيرةٍ أخرى في المحيط الداخلي للدكن، تزرع الدُّخْن لاستهلاكها المحلي. ومع دخول الري، جاءت محاصيل جديدة مثل الأرز وقصب السكر، بيعَت خارج القرية نظير ربحٍ لا بأس به؛ فبلغت أرباح بيع الأرز بعد خصم النفقات ١٣٦ روبية في الفدان، بينما بلغت أرباح قصب السكر ٩٨٠ روبية في الفدان. وتمخَّضت تلك التغيُّرات التي طرأت على الأوضاع الاقتصادية المحلية عن تغيُّرات في نمط الحياة أيضًا؛ فقبل وصول القنوات، كان سُكان قرية ونجالا يرتدون ملابس رثَّة ونادرًا ما يبارحون قريتهم. ولكن «رجال ونجالا صاروا الآن يرتدون القُمصان وبعضهم يرتدي الْمِئْزَر الهندي أيضًا، بينما ترتدي زوجاتهم أردية الساري الزاهية الألوان التي اشترينها بالمال، وجميعهم ينفقون ببذخٍ على حفلات الزفاف. وأصبح رجال ونجالا يكثرون من زياراتهم إلى المدينة؛ حيث يرتادون المقاهيَ ومحلات التوديِّ (عصارة النخيل المخمَّرة المحلَّاة)، وأصبح الأرز هو غذاءهم الأساسي عوضًا عن الدخن الإصبعي».

تلك التغيُّرات وغيرها لم تكن لتصير في الإمكان لولا مدُّ قنوات الري. وكما تكشَّف لإبستاين، فقد مثَّل مجيء مياه القنوات نقطة تحوُّلٍ في تاريخ تلك القرية؛ فصارت الأحداث البارزة — مثل الزفاف، والوفيات، وجرائم القتل — تؤرَّخ حسب حدوثها قبل دخول الريِّ أو بعده.48

٧

أدت كفالة الري والأسمدة الكيميائية إلى زيادة الإنتاجية الزراعية، ولكنها لم تتمكن من حل مشكلةٍ جوهريةٍ في ريف الهند، وهي: التفاوت في حيازة الأراضي. ومن ثَمَّ، فقد حُثَّ الفلاحون المعدمون على استيطان مناطق لم تسبق زراعتها؛ ففي العقد الأول من الاستقلال، استُوطِن ما يقرب من ٥٠٠ ألف هكتار من الأراضي، معظمها من غابات الملاريا شمالي منطقة تيراي، وتلال الهند الوسطى، وسلسلة جبال الجات الغربية. قبل ذلك، لم يسكن تلك المناطق سوى قبائل مقاوِمة جينيًّا لمرض الملاريا. ثم تسنَّى للدولة إزالة الغابات بعد اختراع المبيد الحشري دي دي تي. كانت تلك الأراضي ذات طبيعةٍ خصبة، وغنية بالكالسيوم والبوتاسيوم والمواد العضوية (وإن كانت فقيرة في الفوسفات). وعلى أي حال، فإنه لم يكن ثَمَّةَ نقص في الفلاحين الراغبين فيها.49
تَمثَّل سبيل آخر للتعامل مع مسألة عدم امتلاك أراضٍ زراعية في إقناع كبار ملاك الأراضي بالتنازل طواعيةً عن جزءٍ من ممتلكاتهم. كانت تلك وسيلة ابتدعها أحد تلاميذ غاندي، هو: فينوبا بهافي؛ ففي عام ١٩٥١، قام بهافي بجولةٍ سيرًا على الأقدام عبر أنحاء تيلانجانا التي كانت آنذاك تحت سيطرة الشيوعيين؛ ففي قرية بوشِمبالي، أقنع أحد كبار مُلَّاك الأراضي الزراعية — رامتشاندرا ريدي — بالتبرُّع بمائة فدانٍ من أرضه، وهو ما شجَّع بهافي على تحويل جهوده إلى حملةٍ على مستوى البلاد، عُرِفَت بحملة بهودان. توغَّل بهافي في قلب الهند، مُلقيًا الخُطَب أينما يذهب؛ فقطع مسافة ربما تصل إلى ٥٠ ألف ميل، حصل خلالها على أكثر من ٤ ملايين فدان. في البداية، اعْتُبِرَت حملته ناجحة؛ فهي مثل التنمية المجتمعية، كانت بديلًا غانديًّا نبيلًا عن الثورة العنيفة. ولكن الآراء التي صدرت بعد ذلك في حقه كانت أقل كَرَمًا؛ فلا شك أنَّ بهافي تحلَّى بشِيَم القدِّيسين، ولكنه مثْل بعض القديسين الآخرين كان يُفضِّل البادرات العظيمة على التفاصيل الرتيبة؛ فقد أشار منتقدوه إلى أنَّ معظم الأراضي التي تبرَّع بها أصحابها إلى بهافي لم تُوَزَّع قط على المُعدمين، وإنما رُدَّت مع مرور السنين إلى مُلَّاكها الأصليين شيئًا فشيئًا. وإضافةً إلى ذلك، فكثير من الأراضي التي بقيت ضمن نطاق حركة بهودان كانت صخرية ورملية، وغير ملائمة للزراعة. وكانت الأماكن التي نُظِّم فيها المستفيدون المستهدَفون لكي يَفلَحوا الأراضيَ التي وُهِبَت لهم قليلة جدًّا؛ فبوضع جميع العوامل في الاعتبار، لا بد أن تُحسَب حملة بهودان فاشلةً، وإنْ كان فشلها اجتذب اهتمامًا كبيرًا.50
جدول ١٠-٢: حيازة الأراضي الزراعية في الهند، ١٩٥٣–١٩٦٠ (المصدر: نريبِن بانديوبادهيايا، «قصة الإصلاحات الزراعية في عملية التخطيط الهندية»، في العمل الذي حرره أمِيا كومار باجتشي، «الاقتصاد والمجتمع والكيان السياسي: مقالات في الاقتصاد السياسي للتخطيط الهندي على شرف الأستاذ بهاباتوش داتَّا» (كلكتا، مطبعة جامعة أكسفورد، ١٩٨٨)).
فئة الحجم (بالهكتار) النسبة المئوية للحيازة النسبة المئوية للمساحة المُشَغَّلة
   ١٩٥٣-١٩٥٤ ١٩٥٩-١٩٦٠ ١٩٥٣-١٩٥٤ ١٩٥٩-١٩٦٠
أقل من ١ ٥٦٫١٥ ٤٠٫٧٠ ٥٫٥٨ ٦٫٧١
١ إلى ٢ ١٥٫٠٨ ٢٢٫٢٦ ١٠٫٠٢ ١٢٫١٧
٢ إلى ٤ ١٤٫١٩ ١٨٫٨٥ ١٨٫٥٦ ١٩٫٩٥
٤ إلى ١٠ ١٠٫٣٦ ١٣٫٤٥ ٢٩٫٢٢ ٣٠٫٤٧
أكثر من ١٠ ٤٫٢٢ ٤٫٧٤ ٣٦٫٦٢ ٣٠٫٧٠

تمثَّل سبيل ثالث للقضاء على انعدام ملكية الأراضي لدى البعض في استخدام ذراع الدولة؛ فالتشريعات المعنية بالإصلاحات الزراعية لطالما كانت مُدرَجة على جدول أعمال حزب المؤتمر. وبعد الاستقلال، مرَّرت الولايات المختلفة تشريعًا أبطل نظام الإقطاع، الذي مَنَح مُلاك الأراضي الغائبين — في ظل الاستعمار البريطاني — حقوق ملكية نافذة؛ فحرر إبطال ذلك النظام رُقَعًا كبيرة من الأراضي الزراعية لإعادة توزيعها، بينما حرَّر أيضًا المستأجرين من الضرائب والإيجارات التي كانت تُحَصَّل منهم سابقًا.

بعد انتهاء نظام الإقطاع، ركَّزت الدولة حقوق الملكية في أيدي المستأجرين، الذين كانوا ينتمون عادةً إلى الطوائف الاجتماعية الوسطى. أما الفئة التي لم تطلها يد التغيير فكانت الفئة التي احتلَّت قاع السُّلَّم الطائفي، مثل العمال والمزارعين المستأجرين من الطوائف الدُّنيا؛ فقد كان رفاههم يستلزم مرحلة ثانية من الإصلاحات الزراعية، يُفرض فيها حد أقصى على الحيازة، وتُسَلَّم الحيازات الزائدة إلى المُعدمين. وتلك كانت مهمة عجزت الحكومة أو امتنعت عن الاضطلاع بها.51
وحتى بعد عقدٍ من التخطيط، ظلت حيازة الأراضي متفاوتةً للغاية. يشير جدول ١٠-٢ إلى النِّسَب المئوية في خمسِ فئات حجم لكلٍّ من الحيازات والمساحة المُشغَّلة الخاصة بها.
جدول ١٠-٣: التغيرات في تفاوت حيازة الأراضي في الهند، ١٩٥٣–١٩٦٠
فئة المزارعين النسبة المئوية للحيازة النسبة المئوية للأراضي المُشَغَّلة
   ١٩٥٣-١٩٥٤ ١٩٥٩-١٩٦٠ ١٩٥٣-١٩٥٤ ١٩٥٩-١٩٦٠
صغار وهامشيون ٨٥٫٤٢ ٨١٫٨١ ٣٤٫١٦ ٣٨٫٨٣
متوسطون وكِبار ١٤٫٥٨ ١٨٫١٩ ٦٥٫٨٤ ٦١٫١٧
إذا عَرَّفنا مالكي أقل من أربعة هكتارات بأنهم مزارعون «صغار وهامشيون»، ومالكي أكثر من أربعة هكتارات بأنهم «مزارعون متوسطون وكِبار»، فسوف يتسنَّى ضغط هذا الجدول في جدول ١٠-٣. يكشف جدول ١٠-٣ عن انخفاضٍ طفيفٍ في معدل التفاوت؛ إذ انخفض عدد المزارعين «الصغار والهامشيين» بمعدل ٣٫٦٪، بينما ارتفعت نسبة الأراضي في حيازتهم بمعدل ٤٫٦٪. والكلمة المحورية هنا هي «طفيف»؛ فهو طفيف إلى حدٍّ يكاد يكون غير ملحوظ، وببساطةٍ غير مقبولٍ في ظل دولة ديمقراطية ملتزمة ﺑ «نمط اشتراكي للمجتمع».

٨

ركَّز نموذج نهرو ومَهالانوبِس على الصناعات الثقيلة، وسيطرة الدولة، وفي نهاية المطاف: دور تابع للقطاع الخاص. استند ذلك النموذج إلى إجماعٍ واسع النطاق، وليس في الهند فحسب؛ فقد كان الاعتقاد في ضرورة احتلال الدولة في ظل الاقتصاد الحديث المركَّب «قمم القيادة» اعتقادًا سائدًا لدى الحكومات والمُنظِّرين في جميع أنحاء العالم.

ففي الولايات المتحدة الأمريكية، نجح تدخُّل الحكومة الهادف في إخراج البلاد من الكساد العظيم. وفي بريطانيا، طبَّقت حكومة حزب العمل التي تسلَّمت مقاليد السلطة عام ١٩٤٥ مبادئ الاقتصاد الكينزي بحماس. كذلك فقد ازداد تقدير دور الدولة بوصفها عاملًا إيجابيًّا في عملية التغيير الاقتصادي إثر الإنجازات الأخيرة للاتحاد السوفييتي؛ ففي وقت الحرب العالمية الأولى كانت روسيا دولة زراعية متخلِّفة، وبحلول الحرب العالمية الثانية كانت قد أصبحت قوة صناعية جبَّارة. وكان المُبهِر بصفةٍ خاصةٍ هو انتصاراتها العسكرية على ألمانيا، التي كانت تتمتع بتاريخٍ أطول منها بكثيرٍ في التنمية التكنولوجية والصناعية؛ فبالنسبة إلى الدول الديمقراطية الغربية، أبرزت الإنجازات السوفييتية أهمية توجيه الدولة للتنمية الاقتصادية.52
لا شك أنَّه كان ثَمَّةَ أصوات معارضة. في الغرب كان فريدريش هايك، الذي دعا إلى تراجُع دور الدولة في ساحة النشاط الاقتصادي. إلا أنَّ أفكاره عومِلَت بازدراءٍ حميد، وأحيانًا أقل من حميد. (فهو لم يستطع حتى أن يحصل على منصبٍ في قسم الاقتصاد في جامعة شيكاجو، وإنما عُيِّنَ في اللجنة المعنية بالفكر الاجتماعي.) وفي الهند كان بي آر شينوي الاقتصادي الوحيد ضمن لجنة الخبراء الذي عارَض النهج الذي تبنَّته الخطة الخمسية الثانية من أساسه؛ فحسبما كتب أحد المعلِّقين، شينوي «بدا ملتزمًا بأساليب الاقتصاد الحر على نحوٍ عقائديٍّ بحتٍ إلى حدٍّ حال دون الْتفات أحد — خارج بعض دوائر الأعمال — لانتقاداته».53
في الحقيقة، كانت الحجج التي دفع بها شينوي تتجاوز مجرد إيمانٍ بالاقتصاد الحر؛ ففي حين أنَّه كان يعارض «التوسُّع العام في التأميم من حيث المبدأ»، فقد كان الانتقاد الرئيسي الذي وجَّهه إلى الخطة هو أنَّها مفرطة الطموح؛ فقد رأى أنَّها بالغت في تقدير معدل الادخار في الاقتصاد الهندي بدرجةٍ خطيرة. وسيلزَم تعويض نقص الأموال بتمويل العجز؛ مما سوف يساهم في زيادة معدل التضخم.54
كان الاقتصادي ميلتون فريدمان من جامعة شيكاجو معارضًا آخر؛ فعند زيارته الهند في عام ١٩٥٥ بِناءً على دعوةٍ من حكومتها، كتب مذكِّرة قدَّم فيها اعتراضاته على نموذج مَهالانوبِس. كان يراه نموذجًا مفرط الاعتماد على الأرقام؛ إذ استحوذت عليه نِسَب رأس المال إلى الناتج، عوضًا عن تنمية رأس المال البشري. وأدان تركيز السياسة الصناعية على حالتَين متطرِّفتَين: المصانع الكبيرة التي تستخدم العمالة أقل من اللازم والصناعات المنزلية التي تستخدمها أكثر من اللازم. ومن وجهة نظره كانت «الشروط الأساسية» للسياسة الاقتصادية في البلدان النامية هي «إطار نقدي ثابت وتوسُّعي باعتدال، وفُرصًا أوسع بكثير للتعليم والتدريب، ومرافقَ محسَّنة للنقل والاتصالات ليس من أجل تعزيز حركة السِّلَع فحسب، بل الأهم من ذلك هو تعزيز حركة الأشخاص، وتهيئة بيئة تُوفِّر أوسع نطاق ممكن لمبادرات المزارعين ورجال الأعمال والتجار وطاقاتهم».55
وقد أشار اقتصاديٌّ هنديٌّ شابٌّ إلى أحد جوانب هذا النقد، بمعزلٍ عن فريدمان، وهو جانب إهمال التعليم؛ فقد نَصَّ الدستور على مجانية التعليم وإلزاميته للأطفال حتى الرابعة عشرة من عمرهم. إلا أنَّ المَبالغ المالية المخصَّصة لهذا الغرض في الخطة الخمسية الثانية كانت — حسبما كتب بي في كريشنامورتي — «منخفضة إلى حدٍّ غير معقول». ودعا إلى «زيادة ملموسة» في مخصَّصات التعليم، وموازنة الميزانية عن طريق إحداث «خفض ملائم في الإنفاق على الصناعات الثقيلة». كذلك كان الانتباه إلى التفاصيل أمرًا فائق الأهمية؛ بتعزيز المكانة الاجتماعية لمعلِّمي المدارس، وزيادة رواتبهم، وتوفير مبانٍ وساحات لعب أفضل للأطفال. وكان مما قاله كريشنامورتي عن ذلك:
لا شك أنَّ بذل جهودٍ متضافرةٍ على هذا النحو بغية تثقيف عامة الشعب — لا سيما في المناطق الريفية — من شأنه أنْ يأتيَ بمنافعَ بعيدةِ المدى ذات طبيعةٍ تراكمية توسُّعية. وهذا من شأنه أنْ يخفف إلى حدٍّ هائلٍ المهمة المُلقاة على عاتق الحكومة في إطار تحقيق تنميةٍ اقتصاديةٍ سريعة؛ ففي خلال فترةٍ معقولة، يمكن للمرء أنْ يتوقَّع تهاويَ جهل الناس وخمولهم ونشأة دافع مُلِحٍّ لتحسين ظروف المرء المادية عن طريق استغلال الفرص المتاحة. وإنْ قُدِّر لذلك أنْ يحدث، فسوف تُحَلُّ مشكلة البطالة من تلقاء ذاتها. وسيبدأ شعب هذا البلد في السير في ركب البلدان الديمقراطية المتقدمة مثل بريطانيا العظمى وسويسرا.56
لو كان بي في كريشنامورتي أستاذًا جامعيًّا في مركز القوة — دلهي — آنذاك عوضًا عن مُحاضِرٍ متواضعٍ في بومباي، لربما وجد آذانًا مُصغية. وفي حالة فريدمان، كان ما عوَّض منصبه الرفيع ومكانته المرموقة وجودَ اقتصاديين أجانب مكافئين له في المكانة ومعارضين له في آرائه؛ فقد كان فريدمان بالنسبة إليهم مثل بي آر شينوي بالنسبة إلى الاقتصاديين الهنود؛ مناصرًا وحيدًا للاقتصاد الحر اكتسحته جموع الديمقراطيين الاشتراكيين واليساريين.57
وجَّه الماركسيون نقدًا مختلفًا؛ إذ ظنوا أنَّ نموذج مَهالانوبِس منح السوق أهميةً أكبر من اللازم، وليس أقل من اللازم؛ فقد شعروا أنَّ الخطة الثانية كان ينبغي أنْ تفرِض عملية تأميم شاملة، لا تقتصر على شروع الدولة في صناعاتٍ جديدةٍ فحسب، بل أن تأخذ المؤسسات الخاصة العاملة فعلًا تحت جناحها أيضًا؛ فقد كانوا يرغبون في إشراك الطبقة العاملة في عملية التخطيط، سيرًا على نموذج «الديمقراطيات الشعبية» لأوروبا الشرقية.58
وإضافةً إليهم كان أتباع غاندي، الذين قدَّموا انتقادًا إيكولوجيًّا سابقًا لأوانه للتنمية الحديثة. كان اثنان من تلامذة المهاتما المقرَّبين في طليعة تلك «الحركة البيئية المبكرة»؛ هما: جيه سي كومارابَّا وميرا بِهن (مادِلين سليد). وعلى مدار خمسينيات القرن العشرين، مثَّلت تلك الفئة انشقاقًا حادًّا على الفكر السائد بشأن السياسة الزراعية؛ فقد ذهبا إلى أنَّ منظومات الرَّيِّ الصغيرة أكثر فاعلية من السدود الكبيرة، وأنَّ السماد العضوي وسيلة منخفضة التكلفة ومستدامة لزيادة خصوبة التُّربة (مقارنةً بالمواد الكيميائية التي دمَّرت الأراضيَ وراكمت الديون الأجنبية)، وأنَّ الغابات ينبغي إدارتها من منظور الحفاظ على المياه وليس تعظيم العائد (بحماية الغابات الطبيعية المتعددة الكائنات الحية عوضًا عن اتِّخاذ المواقف الأحادية الثقافة التي تُفضِّلها الدولة). وقد مثَّلت تلك الانتقادات بعينها جزءًا من الفهم الأشمل لعالَم الطبيعة؛ فكتبت ميرا بِهن عام ١٩٤٩ تقول:
المأساة في يومنا هذا هي أنَّ الطبقات المثقَّفة الثرية تعيش في معزلٍ تامٍّ عن الأساسيات الحيوية للبقاء: الكوكب، والكائنات الحيوانية والنباتية التي تعيش فيه؛ فهذا العالم الذي خطَّطته الطبيعة يتعرَّض للنهب والتدنيس والتخريب في ضراوةٍ على يد الإنسان متى واتته الفرصة؛ فعلومه وآلاته يمكن أنْ تجلب له أرباحًا هائلة بعض الوقت، ولكن في النهاية سيحل الدمار. علينا أنْ نتمعَّن في ميزان الطبيعة، ونُطوِّر حياتنا في إطار قوانينها، إذا كان لنا أن نبقى نوعًا سليم البدن كريم الخُلُق.59
ومن وسائل التكنولوجيا الحديثة التي كان لأتباع غاندي تحفُّظات عميقة بشأنها السدود الكبيرة؛ فقد كانوا يرَوْن أنَّ السدود الكبيرة مُكَلِّفة وتُدمِّر الطبيعة. وسرعان ما اكتشف الهنود أنَّ السدود تُدمِّر المجتمعات البشرية أيضًا؛ فبحلول أوائل خمسينيات القرن العشرين، بدأت تظهر قصص عن معاناة الأشخاص المهجَّرين بفعل السدود. ففي صيف ١٩٥٢، عندما أصدرت سلطات هيراكود إنذاراتٍ بالإخلاء لسكان ١٥٠ قرية كان المشروع سيغمرها بالمياه، قوبِلت بمقاومةٍ قوية. وقد لخَّص صحفي الواقعة قائلًا: «سوف يُبنَى ازدهار هيراكود على التضحية بالأشخاص الذين تُشرِّدهم حكومة أوريسا الآن دون تعويضٍ ولا إعادة تأهيل.» وبعد مرور ثلاثة أعوام، برزت قصة أخرى عن سكان القرى في هيماجل براديش، الذين اضطُروا إلى إفساح الطريق أمام خزَّان سَدِّ باكرا؛ فقد كان عامٌ كاملٌ قد مَرَّ على تدشين نهرو لمحطة الطاقة، إلا أنَّ «التهاون واللامبالاة بَدَوَا هما الأساس الموجِّه لمستشاري مجلس متابعة سد باكرا، ولا سيما لجنة إعادة التأهيل». وحتى «مسألة التعويض الأساسية، وحيثياته ودواعيه وكيفيته، لم تُحسَم بعدُ بما يرضي الأشخاص المعنيين».60

٩

الانتقادات القائمة على حُرِّية السوق، والقائمة على رأس المال البشري، والقائمة على البيئة؛ كلها موضوعات رائعة للقراءة في يومنا هذا. ولكن آنذاك كانت تلك الملحوظات المعارِضة متناثرة، وضعيفة من الناحية السياسية؛ فقد كان ثَمَّةَ إجماع طاغٍ آنذاك لصالح نموذج التنمية الموجَّه إزاء الصناعات الثقيلة والمدعوم من الدولة. كان ذلك الإجماع في أوساط المثقَّفين؛ فما لا يقل عن ثلاثةٍ وعشرين من أصل أربعةٍ وعشرين خبيرًا اقتصاديًّا طُلِب إليه التعليق على خطة مَهالانوبِس أقَرُّوها من حيث المبدأ.61
وشاركهم ذلك الإجماع قطاعات كبيرة من الطبقة الحاكمة أيضًا؛ فرجال الصناعة الرائدون طلبوا في «خطة بومباي» التي وضعوها «توسيع نطاق الوظائف الإيجابية للدولة». ونقلوا مستحسِنين رأي الاقتصادي إيه سي بيجو من جامعة كامبريدج القائل بالتوافق التام بين الحرية والتخطيط. بل إنَّ رجال الأعمال الكبار هؤلاء بلغوا حَدَّ أنْ قالوا: «إن التمييز بين الرأسمالية والاشتراكية فقد جزءًا كبيرًا من أهميته من الناحية العملية؛ فمن عدة نواحٍ توجد الآن أرضية مشتركة كبيرة بينهما والهُوَّة الفاصلة بينهما آخذة في الانكماش باستمرارٍ مع إبداء كلٍّ منهما بوادر تعديل نفسها اقترابًا من الأخرى. ومن وجهة نظرنا، لا يمكن لتنظيمٍ اقتصاديٍّ أنْ يعمل بفاعليةٍ ولا أنْ يتمتع بسماتٍ باقيةٍ ما لم يُقِرَّ أساسًا مُكَوَّنًا من توليفة حكيمة من المبادئ ذات الصلة بكلٍّ من هاتين المدرستين الفكريتين.»62

وختامًا لحديثنا عن رومانسية عملية التخطيط في الهند وسحرها، نُدير دفَّة الحديث إلى صحفيٍّ مغمورٍ غطَّى أحد أبرز مشروعاتها. كان ذلك هو مشروع بوكارو، موقع مشروع للطاقة الحرارية وكذلك خزَّان كبير؛ فعند زيارة الصحفي للمكان في سبتمبر ١٩٤٩، قال: «إنَّ بوكارو تقف وسط أرضٍ قاحلةٍ صخرية، تطلُّ على نقطة التقاء نهرين رمليين. وكان المأوى الوحيد هناك هو مكتب المهندس التنفيذي الذي يعمل به ستة أشخاص، دون أي مرافق سكنية أو غيرها من المرافق عدا ذلك. ولم يكن بإمكان المرء الوصول إلى بوكارو إلا بسيارات جيب، وكان علينا أن نحمل طعامنا بأنفسنا.»

وبعد مرور ثلاثة أعوام ونصف، عاد الصحفي إلى بوكارو، ليشهد تدشين رئيس الوزراء لمحطة الطاقة والسد؛ فحينها أعرب عن سعادته البالغة قائلًا: «يَا لَاخْتِلافِ المشهد الذي رأته عيناي.» فعند اقترابه من وادي بوكارو على «طريق أسفلتي من الطراز الأول» رأى «الكُتَل الثلاث المتينة المتراصَّة لمحطة الطاقة ومن ورائها خلفية التلال الرمادية». وما كان «قاع نهر جاف عام ١٩٤٩ تحوَّل إلى بحيرةٍ متوسطة الحجم» يمتدُّ سَدٌّ أسمنتيٌّ عبرها. وبالنسبة إلى العاملين في السَّدِّ والمحطة، أصبح ثَمَّةَ «منطقة سكنية حديثة ذات طرقٍ مغطاة بالقار، وإنارة كهربائية، ومدرسة ثانوية، ومستشفًى، ومياه صالحة للشرب، وجميع وسائل الراحة التي يمكن للمرء أنْ يتوقَّعها في يومنا هذا».63
كتب جواهر لال نهرو يقول: «كلما أرى تلك الأعمال الهندسية العظيمة، أشعر بالإثارة والبهجة؛ فهي رموز مرئية لبناء الهند الجديدة وتوفير الحياة والغذاء لشعبنا.»64 ويبدو أنَّ مشاعر الإثارة والبهجة تلك كانت سائدة لدى هنودٍ كثيرين آخرين أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤