الفصل الرابع عشر

التَّحدِّي الجنوبي

جواهر لال يستمدُّ قوته من الشعب؛ فهو يحب الحشود الكبيرة. وشعبيته تقوده إلى الاعتقاد بأنَّ الشعب راضٍ عن إدارته، إلا أنَّ هذا الاستنتاج لا يجد دائمًا ما يبرِّره.

الاشتراكي ناريندرا ديفا، ١٩٤٩

مع مرور السنين، بدأت الدعائم ذاتها التي قامت عليها مكانة نهرو وسمعته تُثْقِل كاهله؛ ففيما مضى، كان يملك حلًّا لكل الصعوبات، واليوم صار يواجه صعوبات في كل حل.

رسام الكاريكاتير آر كيه لاكشمن، ١٩٥٩

١

خلَّد التاريخ الهندي ذكرى العامين ١٧٥٧ و١٨٥٧؛ ففي عام ١٧٥٧، هزمت شركة الهند الشرقية حاكم البنغال في معركة بلاسي، مهيِّئةً بذلك أول مَوْطِئ قدم لبريطانيا في شبه القارة الهندية. وفي عام ١٨٥٧، تصدَّت بريطانيا للانتفاضة الشعبية الهائلة، المعروفة لدى البعض باسم تمرُّد سيبوي، ولدى آخرين بحرب الاستقلال الهندي الأولى، وتغلَّبت عليها في النهاية.

ومثل عامي ١٧٥٧ و١٨٥٧، كان عام ١٩٥٧ عامًا شديد الأهمية في تاريخ الهند الحديثة. ففي عام ١٩٥٢ أجرت الهند انتخاباتها العامة الثانية. بعد الحرب العالمية الثانية، نالت عشرات الدول الأفريقية والآسيوية حريتها من المستعمِرين الأوروبيين. وعند قيام تلك الدول الوليدة — أو بُعَيْد نشأتها مباشرةً — تحوَّل معظمها إلى نظم استبدادية يحكمها الشيوعيون أو العسكريون أو حكام دكتاتوريون غير منتمين لتيار بعينه. إلا أنَّ الهند كانت من الاستثناءات القليلة جدًّا، ونظرًا لحجمها وتركيبتها الاجتماعية المعقدة، مثَّلت استثناءً مميَّزًا للغاية. قبل مقامرة عام ١٩٥٢ وبعدها أُجريت سلسلة من الانتخابات على مستوى الأقاليم، واحتُرِمت فيها نتيجة الاقتراع. إلا أنَّه كي تنضمَّ الهند إلى مَصافِّ الدول الديمقراطية بنحو مؤكد، تحتم إجراء انتخابات ثانية عقب الأولى، وهي التي أُجْرِيَت على مدى ثلاثة أسابيع في ربيع عام ١٩٥٧.

استمر سوكومار سين رئيسًا للجنة الانتخابية. كانت الاستمرارية مهمة في تلك الحالة، حتى يتمكن الرجل الذي صمَّم نُظُم الانتخابات من اختبار كيفية سيرها من جديد. تشير الأدلة إلى أنها سارت على خير ما يرام، وقد كلَّفت تلك الانتخابات العامة خزانة الدولة ٤٥ مليون روبية أقل من سابقتها؛ فقد كان سين الحصيف قد خزَّن صناديق الاقتراع التي استُخِدمت في المرة الأولى، والبالغ عددها ٣٫٥ ملايين صندوق، في مكان آمن؛ بحيث اقتصر عدد الصناديق الجديدة اللازم صنعها على ٥٠٠ ألف صندوق فحسب.

قبل الانتخابات، أذاعت وزارة الإعلام والبث فيلمًا بعنوان «إنه صوتك»، ذلك الفيلم الذي دُبلِج إلى ثلاث عشرة لغة، والذي «حَرِصَ كُلَّ الحِرْص … على تحاشي أي مادة يمكن تأويلها على أنها دعاية في صالح أي حزب سياسي». عُرِضَ هذا الفيلم في ٧٤ ألف دار عرض سينمائي في جميع أنحاء البلاد. وكان ممن شاهده نساء كُثُر أصبَحن — حسبما ذكر رئيس اللجنة الانتخابية — «يقدِّرن كثيرًا حقهن في الانتخاب». فقد أصبح ٩٤٪ من النساء البالغات مُدرَجات في سِجِلِّ الناخبين.

في المجمل، كان عدد الهنود المسجَّلين في سجل الناخبين ١٩٣ مليونًا، فيما كان الذين صوَّتوا فعليًّا منهم أقل قليلًا من نصف ذلك العدد. واسْتَهْلَكت أوراق الاقتراع التي سجَّلوا أصواتهم فيها ١٩٧ طنًّا من الورق إجمالًا. وتولَّى الإشراف عليهم ٢٧٣٧٦٢ شُرطِيًّا، بمساعدة ١٦٨٢٨١ خفيرًا قرويًّا.

كانت اللجنة الانتخابية قد أوصت بإغلاق أكشاك الخمور طوال أيام الاقتراع، حتى «لا تتوافر مشروبات كحولية للعناصر المشاغبة في المناطق الانتخابية». إلا أنَّ الانتخابات كانت حافلة بالأحداث رغم ذلك؛ فقد أصرَّ أحد المرشَّحين في نيودلهي على تقديم أوراق ترشُّحه تحت اسم «الرب يسوع المسيح»، بينما رفض رجل في مدراس إعطاء صوته لأحد غير «السيد الموقَّر سوكومار سين، رئيس اللجنة الانتخابية». وفي أوريسا، حمل قِزم — لا يتعدَّى طوله قدمين ونصف — مقعدًا صغيرًا معه إلى مقصورة الاقتراع. وفي كل مكان، حَوَت صناديق الاقتراع أشياء كثيرة بخلاف أوراق الاقتراع؛ كرسائل مسيئة موجَّهة للمرشحين، وصور لممثلين سينمائيين. بل اكتُشِف في بعض الصناديق أوراق نقدية وعُملات معدنية، «أُودِعَت — بالطبع — في خزانة الدولة».1

٢

كما كان الحال عام ١٩٥٢، كانت تلك الانتخابات في جوهرها استفتاءً شعبيًّا على رئيس الوزراء وحزبه؛ فمرة أخرى كان نهرو هو أكبر مُخَطِّط ودعائي وحاصد أصوات لحزب المؤتمر. وكان مَن ساعده من وراء الكواليس ابنته الوحيدة، إنديرا غاندي. كانت منفصلة عن زوجها فِيروز، وتقيم بصحبة ابْنَيْها مع والدها الأرمل في مقر إقامته الرسمي الرَّحب، تين مورتي.2 وفي أغلب الأحيان كانت السيدة غاندي هي آخر شخص يراه رئيس الوزراء في المساء وأول شخص يراه في الصباح. وإذ احتلَّت مركز المضيفة الرسمية في منزله، فقد تسنَّى لها مقابلة أكابر الهند وغيرها من البلاد والتعامل معهم. وقد ظهر تحسُّنٌ ملحوظٌ على صحَّتها، التي كانت معتلَّة فيما مضى؛ فصورها المعاصرة يتبيَّن منها أن قوامها الذي كان هزيلًا يومًا ما قد امتلأ، وبدا التحسُّن لا على مظهرها فحسب وإنما على سلوكها أيضًا. أرجع أحد مدوِّني سيرتها ذلك التحسُّن لظهور عقاقير جديدة — مثل البنسلين — داوَت آثار مرض السُّلِّ الذي يُعتَقَد أنها كانت مُصابة به.3

يستند ما نعرفه عن الحالة الصحية للسيدة غاندي على التكهُّنات المنطقية. إلا أنَّه ثمة أدِلَّة ملموسة على أنَّها أصبحت شخصية أكثر استقلاليةً في الفترة ما بين الانتخابات العامة الأولى والثانية؛ ففي مارس ١٩٥٥ عُيِّنَت ضمن لجنة حزب المؤتمر العاملة من أجل «تمثيل اهتمامات المرأة». وعقب ذلك التعيين بدأت تطوف البلاد متحدِّثةً إلى النساء عن حقوقهن ومسئولياتهن. ولم تقتصر دائرة اهتماماتها على بنات جنسها فحسب؛ فقد رأسَت اجتماعات عُقِدَت في بومباي للتعجيل بتحرير جُوا من الحكم البرتغالي.

كانت إنديرا غاندي تتظاهر أحيانًا أمام معارفها في أيام ما قبل النشاط السياسي بالترفُّع عن دورها الجديد؛ فقد شكت لأحد أصدقائها قائلةً: «صِرت أقضي وقتي كله الآن في اللجان وما شابهها.»4 إلا أنَّه ثمة أدلة أخرى تشير إلى أنَّ ذلك الدور الجديد راقَ لها إلى حد بعيد؛ فقد كتب والدها الذي كان أكثر الناس معرفةً بها عن مشاركتها النشِطة في الحملة الانتخابية لعام ١٩٥٧ قائلًا:
عندما انتهى التصويت اليوم، توافدت أعداد كبيرة من موظفي حزب المؤتمر إلى أناند بهافان [منزل الأسرة]، منهم نساء كثيرات؛ فقد أحدثت إندو [إنديرا غاندي] هزَّة في صفوف النساء تحديدًا، وحتى النساء المسلمات حضرن. والحقيقة أنَّ إندو كبُرَت ونضجت كثيرًا خلال العام المنصرم، ولا سيما خلال هذه الانتخابات؛ فقد كان عملها مؤثِّرًا في جميع أنحاء الهند، ولكن مجال اختصاصها كان مدينة ومنطقة الله أباد، التي نظَّمتها كأنها جنرال يستعد للمعركة. وقد أصبحت بطلة في الله أباد الآن، لا سيما في أعين النساء.5

٣

في عام ١٩٥٢، تمثَّل أقوى التحديات الأيديولوجية أمام نهرو وحزبه في حزب جانا سانج في اليمين والاشتراكيين في اليسار. إلا أنَّ هذين اللاعبين أصبحا الآن في حالة اضْطِراب، يُعْزَى جزئيًّا إلى رحيل زعيمَيْهما الكاريزميَيْن؛ فإس بي موكرجي كان قد تُوُفِّيَ، بينما هجر جايا براكاش نارايان السياسة لكي يتفرَّغ لخدمة المجتمع؛ فلم يواجه حزب المؤتمر معارضة تُذْكَر في شمال الهند، وربح ١٩٥ مقعدًا في الشمال (من أصل ٢٢٦ مقعدًا ترشَّح لها)، وقد مثَّلت تلك الهيمنة جزءًا كبيرًا من إجمالي عدد المقاعد البالغ ٣٧١ مقعدًا التي حصل عليها، مما حقَّق له أغلبية كبيرة في البرلمان.6

إلا أنَّه رغم انتصاره في المُجمَل، فقد ظهرت علامات مقلِقة بالنسبة له، رغم أنه الحزب الذي قاد المعركة من أجل الحرية وتولَّى قيادة الدولة الهندية منذ نيلها الاستقلال؛ فخارج حدود سهل الجانج الهندي، بدأت تحديات متنوعة في التشكُّل. في أوريسا واجه حزب المؤتمر معارضة من جانب حزب جَناتَنترا باريشاد، الذي أسسه مجموعة من أعيان المنطقة، وهو الذي خفض — إلى جانب الأحزاب اليسارية — عدد المقاعد التي حصل عليها حزب المؤتمر إلى سبعة مقاعد من أصل عشرين. وفي مقاطعة بومباي، التي كانت معقل الحركة القومية الهندية فيما مضى، رَبِحَ حزب المؤتمر ثمانية وثلاثين مقعدًا من إجمالي ستة وستين. وآل معظم المقاعد المتبقية إلى حركة ساميوكتا مهاراشترا ساميتي أو حركة مَهاجوجارات باريشاد، اللتين كانت كل منهما تكافح من أجل الحصول على ولاية منفصلة. (فيما مثَّل فعليًّا استفتاءً شعبيًّا على إنشاء ولاية تتحدث اللغة الماراثية عاصمتها بومباي، حصدت حركة ساميوكتا مهاراشترا ساميتي ٥٫٥ ملايين صوت مقابل ٥٫٣ ملايين صوت حصدها حزب المؤتمر.) وتكرَّرت تلك الخسائر في الانتخابات المحلية التالية، إذ وضعت ساميتي يدها على المجالس البلدية للمدينتين التاريخيتين العظيمتين، بونا وبومباي.

كذلك كان ثمة تحدٍّ إقليميٌّ يختمر في الجنوب، في شكل حزب درافيدا مونيترا كازاجام، المنبثق عن الحركة الدرافيدية التي أنشأها إي في راماسوامي. كان ذلك الرجل المعروف ببِرِيار (أي الرجل العظيم)، معارضًا شرسًا لهيمنة الشمال على السياسة والثقافة والدين في الهند. وكان يأمل في إنشاء دولة قومية في جنوب الهند، تُدعَى «درافيدا نادو». وقد أُسِّسَ حزب درافيدا مونيترا كازاجام على يد مجموعة من أتباعه السابقين، الذين سعوا لاستخدام السياسة البرلمانية للتعبير عن مطالبهم الانفصالية. كانت انتخابات عام ١٩٥٧ أول انتخابات يشارك فيها ذلك الحزب. وعلى الرغم من أنَّ المقاعد التي فاز بها كانت قليلة — معظمها في المجالس المحلية — فقد كانت نجاحاته التدريجية مدعاة للقلق؛ إذ إنَّ الحزب لم يكن يطالب بمجرد إنشاء مقاطعة جديدة على أساس عِرقي أو لغوي، وإنما طالب بإنشاء دولة قومية منفصلة من الأساس.7

إلا أنَّ أخطر تحدٍّ لزَعْم حزب المؤتمر بتمثيل الهند كافة كان في الولاية الواقعة في أقصى الجنوب. كانت تلك هي ولاية كيرالا، التي بُعِثَ فيها الحزب الشيوعي الهندي من جديد ليكون بديلًا شعبيًّا قويًّا للحزب الحاكم. فاز ذلك الحزب بتسعة مقاعد في الانتخابات البرلمانية من أصل المقاعد الثمانية عشر التي سعى إلى الفوز بها (لم يفز حزب المؤتمر إلا بستة مقاعد). وفي انتخابات المجالس المحلية، التي أُجْرِيَت في الوقت نفسه، فاز الحزب الشيوعي الهندي بستين مقعدًا من أصل ١٢٦، بينما كفل له تأييد خمسة أعضاء مستقلين أغلبية ضئيلة.

مَثَّل انتصار الحزب الشيوعي الهندي في انتخابات المجالس المحلية تأكيدًا مذهلًا على الاحتمالات التي ينطوي عليها المسار الذي وصفه لينين ذات مرة مستهزئًا بوصف «البلاهة البرلمانية». كان ثمة بلدة في إيطاليا قد انتخبت في تلك الآونة عُمدةً شيوعيًّا، ولكن حالة كيرالا تميَّزت بشيء جديد من الناحية النوعيَّة؛ إذ مثَّلت أول فرصة للشيوعيين لحكم مقاطعة كاملة من بلد كبير جدًّا. ونظرًا للعلامات المنذِرة بتحوُّل الحرب الباردة إلى حرب حقيقية، اكتسب ما يحدث في كيرالا أهمية عالمية. إلا أنه طرح أيضًا أسئلة مهمة بشأن مستقبل الفيدرالية الهندية؛ ففي الماضي كانت بعض الوزارات الإقليمية تقودها أحزاب معارضة أو عناصر منشقة عن حزب المؤتمر. ولكن ما واجهته نيودلهي آنذاك كان مسألة مختلفة تمامًا؛ ولاية يحكمها حزب كان يعمل في السِّرِّ حتى فترة قريبة، ولا يزال يدين بولاء نظريٍّ لفكرة الثورة المسلحة، وكان من المعروف عن قياداته وأعضائه أنهم كانوا يتلقَّوْن في بعض الأحيان أوامرهم من موسكو.

٤

كيرالا — الواقعة في أقصى جنوب غرب الهند — ولاية رائعة الجمال، بساحلها الطويل وجبالها الشامخة. تأتي الرياح الموسمية فيها مبكِّرة غزيرة الأمطار، وغطاؤها النباتي مبهِر في تنوُّعه؛ فما من بقعة تفوقها اخضرارًا في الهند قاطبة. وما من بقعة تفوقها في تنوعها الثقافي؛ فالهندوس يُشَكِّلون نحو ٦٠٪ من تعداد سكانها، بينما يُشَكِّل المسلمون والمسيحيون النسبة المتبقية؛ أي ٤٠٪. ومن المهم القول إنَّ هاتين الأقليتين لهما تاريخ طويل جدًّا؛ فمسيحيو الطائفة «السريانية» في كيرالا يدَّعون أنَّهم اعتنقوا تلك الديانة على يد القديس توما في القرن الأول من العصر المسيحي. وفي عصور تالية، حَظِيَ أيضًا المبشِّرون البروتستانتيون والكاثوليكيون بنجاح ظاهر هناك. وكان المسلمون الأوائل بها نِتاج التجارة مع العرب، ويرجعون إلى القرن الثامن ميلاديًّا على أقل تقدير. وهاتان هما أقدم جماعات المسيحيين والمسلمين في شبه القارة الهندية. وهما مثل الهندوس في كيرالا كانتا تتحدثان اللغة المحلية؛ المالايالامية. إلا أنَّ عددهما الكبير نسبيًّا أكسب الولاية نوعًا من التميُّز، كما يتبيَّن من جدول ١٤-١.
جدول ١٤-١: التكوين الديني لكيرالا مقارنةً بالهند ككل (المصدر: كيه جي كريشنا مورتي وجي لَكشمانا راو، «التفضيلات السياسية في كيرالا»، (نيودلهي: رادها كريشنا، ١٩٦٨)).
النسبة المئوية من إجمالي تعداد السكان
   الهندوس المسيحيون المسلمون
كيرالا ٦٠٫٨٣ ٢١٫٢٢ ١٧٫٩١
الهند ٨٣٫٥١ ٢٫٤٤ ١٠٫٦٩
منذ أواخر القرن التاسع عشر، عاشت كيرالا حالةً من التغير الاجتماعي. وكان ثمة أربعة أطراف فاعلة تُوَجِّه ذلك التغيير؛ أولًا: المبشِّرون، الذين وجدوا العمل في كيرالا أيسر من سائر أنحاء الهند البريطانية؛ نظرًا للنفوذ المسيحي فيها. وقد عزَّزت كنائسهم التعليم الحديث عبر شبكة واسعة متشابكة من المدارس والكُليات. ثانيًا: المهراجات المتعاقبون لكوتشِن و(لا سيما) ترافنكور، الذين كانوا أكثر تقدُّميَّة من أغلب نظرائهم، ونافسوا المبشِّرين بفتح مدارس جيدة مملوكة لهم. ثالثًا: الجمعيات النشِطة الخاصة بطوائف اجتماعية معينة؛ مِثل جمعية خدمة مجتمع الناير — التي مثَّلت طائفة ملاك الأراضي المسيطرة — وجمعية شري نارايانا دارما باريبالانا، المُسمَّاة تَيَمُّنًا بنارايانا جورو، الزعيم الأسطوري للإزهافا؛ وهي طائفة صانعي نبيذ النخيل، المُلَقَّبين بجامعي عصارة النخيل، والذين احتلوا مرتبة متدنِّية في الهرم الاجتماعي التقليدي. وتلك الجمعيات أيضًا أدارت مؤسسات تعليمية خاصة بها، فضلًا عن جمعيات مخصصة لخدمة المجتمع والأعمال الخيرية. وأخيرًا، الأحزاب السياسية، ومنها حزب المؤتمر وكذلك الحزب الشيوعي الهندي بالطبع.8

كان لوحدة الحزب الشيوعي الهندي في كيرالا جذور قوية في التربة المحلية. وكان زعماؤها الأشد تأثيرًا قد بدءوا حياتهم المهنية في حزب المؤتمر، ثم خرجوا منه واتجهوا لليسار؛ فأنشئوا نقابات للفلاحين للمطالبة بتأمين وضع المستأجرين، وأنشئوا اتحادات عُماليَّة للمطالبة بتحسين أجور الأُجَراء المعدمين وظروف عملهم. وأسسوا «حجرات قراءة» نقل فيها المثقفون أفكارهم الراديكالية لجمهورهم من الفئات المغبونة. كذلك سُخِّر المسرح والرقص لخدمة الدعاية اليسارية؛ فإبَّان أواخر ثلاثينيات القرن العشرين وما بعدها، حقق الشيوعيون مكاسب متتالية، وراقت أفكارهم ومثاليتهم الظاهرة لذلك المجتمع المنقسم الذي ازداد وضعه تردِّيًا بفعل الكساد والحرب.

في بلد يسوده التفاوت بصفة عامة، اتسمت كيرالا بوضع خاص من فرط ظلم نظام الطوائف فيها؛ ففيها لم تكن الطوائف الاجتماعية الدنيا منبوذة فحسب (بمعنى أنها لا يجوز لمسها أو مخالطتها)، وإنما كانت أيضًا «لا تجوز رؤيتها». فعند اقتراب أحد أفراد طائفة نامبوديري البرهمية، كان على العامل من طائفة البارايار أن يرفع عقيرته بالصياح مُسْبَقًا، حتى لا يتلوَّث سيده برؤياه. إلا أنَّ الجهود المتضافرة للمبشِّرين، والأمراء، والجمعيات الخاصة بالطوائف، والشيوعيين قوَّضت هياكل النفوذ التقليدية؛ ففي غضون نصف قرن فحسب — بين عام ١٩٠٠ وعام ١٩٥٠ — حلَّ التحدي محل الإذعان باعتباره أسلوبًا للمعاملات الاجتماعية في ريف كيرالا.9
عندما وصل حق الاقتراع العام إلى ولاية كيرالا عام ١٩٤٧، كان الشيوعيون في وضع يسمح لهم باستغلاله تمامًا، إلا أنَّهم عوضًا عن ذلك اتَّجهوا إلى العمل السرِّيِّ، تنفيذًا للأوامر الصادرة عن موسكو. ثم عاد الحزب الشيوعي الهندي إلى الظهور في الوقت المناسب لدخول انتخابات عام ١٩٥٢، وأبلى بلاءً لا بأس به. وإبَّان الخمسينيات ظل يعمل بثبات على توسيع نطاق نفوذه. وفي فبراير ١٩٥٦، أي قبل الانتخابات العامة الهندية بأقل من عام، عقد الحزب الشيوعي السوفييتي مؤتمره العشرين. وفيه ندَّد خروتشوف بستالين في خطابه الشهير، وأيَّد في مَعْرِض الحديث احتمالية التحوُّل السِّلمي إلى الاشتراكية. وحسبما قال، فإنَّ «الفوز بأغلبية برلمانية مستقرة تدعمها حركة ثورية جماهيرية من البروليتاريا وكافة العاملين يمكن أن يهيِّئ للطبقة العاملة في عدد من البلدان الرأسمالية والمستعمرات السابقة الظروف اللازمة لضمان حدوث تغييرات اجتماعية جوهرية».10
بالطبع، لم تُجْرَ انتخابات في الاتحاد السوفييتي، ولكن «الأخ الأكبر» لم يعد يمانع في مشاركة الرفاق من البلاد الأخرى في الانتخابات، بل ربما أقرَّ تلك المشاركة. (يُعزَى ذلك التغيير في جزء منه إلى مقتضيات السياسة الخارجية؛ فالروس نظرًا لتنافسهم مع قوة عظمى أخرى على اجتذاب حلفاء، اضْطُرُّوا إلى استمالة نظم استعمارية سابقة كانت في كثير من الأحيان غير متعاطفة مع الشيوعية الثورية.) حينذاك تسنَّى للحزب الشيوعي الهندي إلقاء ثِقَله بحماس أكبر في حملته الانتخابية؛ فأعلن بيان الحزب أنَّ الحزب لا يرغب إلا في جعل تلك «الولاية ولايةً ديمقراطية ومزدهرة»؛ بإنشاء صناعات جديدة، وزيادة إنتاج الغذاء، ورفع أجور العمال في المصانع والمزارع، وتأميم المزارع، وبناء المساكن، وتحديث المدارس؛ فكان الحزب المُحتَجُّ يسعى إلى أن يصير حزبًا حاكمًا، وهو التحوُّل الذي قال أعضاؤه للناخبين إنَّ الإشراف على الأجهزة المحلية قد أعدَّهم له؛ فحسبما أعلن بيان الحزب:
يعلم الشعب أيضًا أنَّ إدارة الكثير من المجالس البلدية ومجلس منطقة مالابار أصبحت أفضل مما كانت عليه من قبل تحت قيادة الحزب الشيوعي، وأنَّ المجلسين القرويين اللذين منحهما رئيس الوزراء نهرو جوائز لحسن الإدارة يعملان تحت قيادة الحزب الشيوعي؛ فقد أوضحت تلك الخبرات أنَّ الحزب الشيوعي قادر ليس فقط على توحيد الناس للقيام بثورة، بل قادر أيضًا على تولِّي الإدارة وتسييرها بنجاح.11

٥

كان رئيس وزراء كيرالا الشيوعي المنتخب حديثًا هو إي إم إس نامبوديريباد، وكان معروفًا لدى العدو والصديق بالأحرف الثلاثة الأولى من اسمه؛ إي إم إس. كان رجلًا ضئيل البِنية، لا يتعدَّى طوله الخمسة أقدام، وكان لديه التزام راسخ بعقيدته، مقترن بذكاء حادٍّ. كان ينتمي إلى عائلة برهمية وتبرَّع بالمنزل الذي ورثه عن أجداده للحزب. كان قارئًا نَهِمًا وكاتبًا بارعًا، تضمَّنت أعماله العديدة سردًا متعمِّقًا لتاريخ كيرالا. كان إي إم إس — مثله في ذلك مثل الشيخ عبد الله والمُعلم تارا سينج وإيه زي فيزو — يُعتَبَر مجرد زعيم «إقليميٍّ» في ذلك البلد الضخم. إلا أنَّه لا يزال شخصية تحمل أهمية تاريخية لا يُستهان بها، وذلك بسبب حجم مقاطعته وكذلك بسبب ممارسته المميَّزة للسياسة.12
كان أول عمل فعلي للحكومة الجديدة هو تخفيف عقوبات السُّجَناء المحكوم عليهم بالإعدام. وبعد ذلك سَحَبت الدعاوى المرفوعة ضد الأشخاص المتورِّطين في منازعات العمل أو «الصراعات السياسية» من هذا القبيل. وتبعت ذلك تدابير ملموسة أكثر، مثل: فتح آلاف متاجر «الأسعار العادلة» (متاجر التموين)، للمساعدة في توزيع الأغذية للمعوزين في تلك الولاية التي عانت نقص الغذاء.13
خلَّف الوزراء الشيوعيون انطباعًا حسنًا بكفاءتهم، التي بدا التناقض صارخًا بينها وبين تراخي نظرائهم في حزب المؤتمر؛ فقد أشادت مجلة شهرية ليبرالية بإي إم إس «لسِجِلِّه الجدير بالحسد في مجال الخدمة العامة»، ولاختياره رفقاء «يتحلَّون بالخِصلة العظيمة المتمثلة في تفكيرهم الجماعي أثناء التخطيط؛ فهم لن يكونوا مجرد آكلي أموال عامة».14 وذلك صحيح، ومن ثم فقد أبدت صحيفة أسبوعية معادية للشيوعية بطبيعتها بالغ إعجابها حينما استجاب وزير الري — في آر كريشنا آير — على الفور لاستغاثة واردة من إحدى القرى الصغيرة المنعزلة؛ حيث كان أحد السدود الحجرية الصغيرة قد تشقَّق؛ فالوزير «قطع برنامج جولته على الفور، وزار المكان بنفسه، حيث أصدر أوامر فورية بترميمه دون إبطاء، وأشرف بنفسه على إتمام المهمة». وإضافةً إلى ذلك، وعد بالتحقيق في سلوك أولئك المسئولين الذين تعرَّض محصول الأرز للخطر بسبب إهمالهم.15
كان الشيوعيون بتولِّيهم السلطة قد تعهَّدوا بالعمل في إطار الدستور الهندي، وبقَبولهم أموال الحكومة الفيدرالية تعهَّدوا بالعمل وفقًا لتوصيات لجنة التخطيط. إلا أنَّه كان لا يزال ثمة الكثير مما يمكن أن يفعلوه في نطاق تلك الحدود؛ فأولًا: كان بإمكانهم إصلاح نظام حيازة الأراضي البالي، معدوم الكفاءة، القائم على التفرقة الفادحة. وهم في هذا الشأن لم ينالوا دعم لجنة التخطيط والدستور فحسب، وإنما دعم وثائق سياسات متعاقبة صادرة عن حزب المؤتمر نفسه أيضًا. نصَّت تلك الوثائق على الالتزام بالإصلاح الزراعي، وهو الالتزام الذي — مثلما ذكر رونالد هِرينج — «لم يُنَفَّذ في ظل أي نظام لحزب المؤتمر ولكنَّ اصلاحات الحزب الشيوعي الهندي في كيرالا اقتربت منه».16
كانت أهداف مشروع قانون العلاقات الزراعية الذي طرحته حكومة إي إم إس بسيطة؛ فتلخَّصت ليس في الملكية المشتركة أو الجماعية للأراضي، ولا حتى منح صكوك ملكية الأراضي للمُعدمين، وإنما في مجرد منح عقود إيجار مستقرة لجمهور الفلاحين زارعي الأراضي الصغيرة المملوكة لأشخاص غائبين. سعى مشروع القانون إلى الحد من صلاحيات الطَّرد الواسعة التي تمتع بها ملاك الأراضي فيما مضى، وخفض الإيجارات وإسقاط المتأخرات، ووضع حد للملكية، وإعادة توزيع الأراضي الفائضة الناتجة عن تحديد الملكية. كانت تلك تدابير مهمة، ساعدت مئات الآلاف من الفلاحين الفقراء، ولكنها لم تَرْقَ لما نصَّت عليه التعاليم الشيوعية. وقد حُلَّ ذلك التناقض باللجوء إلى نظرية «المراحل» في الماركسية الكلاسيكية؛ فقد قِيلَ إنَّ الهند الريفية لم تزل «شبه إقطاعية»، وإنَّه ينبغي حَشْد جميع الطبقات غير الإقطاعية لدعم الإصلاحات المُقترَحَة، التي من شأنها — حال تطبيقها — أن تطلق عنان الرأسمالية الزراعية، وهي النقطة التالية التي لا مفر منها في الطريق الممَّهَد نحو الاشتراكية.17
يحمل السرد التأريخي القياسي للشيوعية في كيرالا العنوان الفرعي: «دراسة في التكيُّف السياسي» (أي، للديمقراطية البرجوازية). يُمَثِّل المذهب الإصلاحي في الزراعة أحد مظاهر ذلك التكيف، والمظهر الثاني — الذي من المؤكد أنَّه تسبب لكوادر الحزب في ارتباك أكبر — كان تشجيع مشروعات القطاع الخاص. كان بيان الحزب قد هدَّد بتأميم المزارع، التي كان كثير منها مملوكًا لأجانب. ولكنه تخلَّى عن تلك الفكرة بهدوء بعد الانتخابات. ثم دَعَت حكومة كيرالا أكبر العائلات الرأسمالية في الهند — عائلة بيرلا — لإنشاء مصنع للحرير الصناعي في مافور، وذلك خلال الأشهر الأولى بعد توليها مهام منصبها. وطمأنت أصحاب المشروع المُقتَرَح إلى تزويدهم بإمدادات مُدَعَّمة من البامبو؛ بحيث يُسَلَّم الطن إلى آل بيرلا مقابل روبية واحدة، في حين أنَّ السعر السائد في السوق ربما كان ألف روبية للطن آنذاك. مثَّل ذلك المشروع خروجًا عن العُرف السائد من جانب الرأسمالي؛ إذ إنَّ طبقة المصنِّعين الهنود كانت تمقت الشيوعيين، وكانوا يأملون في أنْ تشاركهم الحكومة المركزية انزعاجهم من «التهديد الأحمر»، وأنْ «يضرب وزير الداخلية بانت ورفاقه في نيودلهي [من حزب المؤتمر] الشيوعيين في كيرالا بيد من حديد ويطيحوا بهم».18 إلا أنَّ آل بيرلا البراجماتيين تصرَّفوا استجابةً لحقيقة أنَّ حزب الهند الشيوعي كان يسيطر على الاتحادات العمالية في مراكز صناعية مهمة خارج كيرالا؛ فكان فتح مصنع في هذه المنطقة يستلزم شراء السلام فيها، كما هو الحال في سائر المناطق. وكما علَّق أحد الصحفيين؛ فقد كان من الصعب تصديق أنَّ الزعيم الأبوي لتلك العشيرة — جانشيام داس بيرلا — قد استسلم «لسِحر رئيس الوزراء نامبوديريباد الآسِر»، وإنما الأرجح أنَّه كان «يستعد لانتصار الشيوعيين في البنغال، حيث تتركَّز مصالحه».19
اجتذب الشيوعيون عندما كانوا في سُدَّة الحكم — كما فعلوا عندما كانوا في صفوف المعارضة — مجموعة متنوعة من ردود الأفعال، التي تتراوح بين الموافقة المتحمسة والعداوة السافرة؛ فكان ثمة مَن يكتبون عن طلوع فجر جديد، بألفاظ تذكِّرنا بالصفحات الافتتاحية من كتاب جورج أورويل «الحنين إلى كاتالونيا»، بتحية مخلصة لروح الإنسان في ظل الاشتراكية؛ ففي الذكرى السنوية الأولى لوصول حكومة إي إم إس إلى سُدَّة الحُكم، ذهب صحفي إلى متجر للشاي حيث كانت:
الشخصية المحورية فيه هي الصبي مقدم الشاي. كانت معظم النقاشات قائمة على الإشاعات. ولكن الصبي كان واثقًا دائمًا من معلوماته كما ترويها الصحيفة الشيوعية اليومية، «جانايوجم». كان من الأمور الباعثة على السرور مشاهدة ذلك الصبي ذي الستة عشر عامًا يجادل معلِّمًا يبدو أنه تجاوز الأربعين من العمر، وموظفًا حكوميًّا في العشرينيات من العمر، وغيرهم، في وجود رئيسه، صاحب متجر الشاي، دون أن يعطِّل النقاش أداءه مهام عمله في الوقت نفسه. هذا شيء لا يمكن أن يحدث إلا في كيرالا.20
وعلى الجانب الآخر، كان ثمة حديث عن «الإرهاب الأحمر»، وكتبت صحيفة في كيرالا بلهجة تشاؤمية عن حرب طبقيَّة تستمرُّ حتى النهاية، وتنحاز فيها الدولة لصف الطوائف الاجتماعية الدنيا:
إذا نشب نزاع بين العُمال وإدارات الشركات، فويل لإدارات الشركات؛ فالشرطة سوف تنحاز للعمال.
وإذا قاد مالكُ أرضٍ طَيْشُه للتشاجر مع المزارعين العاملين لديه، فتعسًا لمالك الأرض؛ فستعرف الشرطة ما ينبغي لها فعله …
وإذا حاصرت الحشود الصاخبة كُلِّيَّة أو قصر أحد الأساقفة، فستُسَمَّى انتفاضة شعبية سلمية ودستورية لطلاب مظلومين.21

٦

في شتاء ١٩٥٧-١٩٥٨، طاف الكاتب المَجَري جورج مايكس بأنحاء الهند. وبصفته لاجئًا من الشيوعية — استقرَّ في لندن بأمان — وجد «مسألة كيرالا» شديدة الغرابة. وسأل: «كيف لحكومة مركزية ديمقراطية أن تتصرَّف مع ولاية شيوعية؟ ماذا يمكن أن تفعل الإدارة الأمريكية إنْ تحوَّلت كاليفورنيا أو ويسكونسن فجأة — وعليَّ أنْ أُقِرَّ بأن ذلك سيكون أمرًا غير متوقَّع إلى حد ما — إلى الشيوعية؟ وأيضًا، كيف يمكن أن تتصرَّف الحكومة الشيوعية نفسها مع وجود أعباء الديمقراطية على عاتقها؟»22

لا يمكن للمرء أن يتخيل كيف كان يمكن لرئيس أمريكي أن يتصرَّف في موقف مشابه — هل كان من الممكن أن يرسل قوات مشاة البحرية الأمريكية؟ — ولكن في الهند كان رئيس الوزراء آنذاك ميَّالًا إلى الانتظار ورؤية ما سوف يسفر عنه الأمر، وذلك نظرًا لأن الإصلاحات الزراعية التي اقترحتها حكومة إي إم إس لم تزد عن الإصلاحات التي وعدت بها حكومات حزب المؤتمر، ولأنَّ النزاهة الشخصية التي تحلَّى بها وزراء كيرالا لم تكن غائبة عن خيرة رجال حزب المؤتمر، من قبيل جواهر لال نهرو نفسه.

أما أكثر الأشياء إثارة للجدل فكانت المبادرات التعليمية لحكومة كيرالا؛ فقد طَرَحت في صيف عام ١٩٥٧ مشروع قانون للتعليم يستهدف تقويم الانحرافات التي شابت المدارس والكليات الخاصة. كانت المدارس والكليات الخاصة هي القاعدة في كيرالا؛ إذ كانت المدارس تعمل تحت إدارة الكنيسة وجمعية خدمة مجتمع الناير وجمعية شري نارايانا دارما باريبالانا؛ فكان مشروع القانون يسعى إلى تحسين أوضاع المعلمين بتقليص صلاحيات الإدارة في تعيين المعلمين وفصلهم متى أرادت، وبوضع قواعد للتعيين، وتحديد الرواتب وظروف عمل آدمية. ومَنَحَ مشروع القانون الولاية أيضًا سلطة تولِّي إدارة المدارس التي لا تلتزم بأحكام مشروع القانون.23
تزعَّمت الكنيسة تيار معارضة مشروع القانون؛ إذ كانت سلطتها — الأخلاقية وكذلك المادية — تعتمد بقوة على سيطرتها على المؤسسات التعليمية؛ فقد كان رجال الدين شديدي المعاداة للشيوعية، وهو شعور استطاعوا غرسه في رعاياهم؛ ففي انتخابات عام ١٩٥٧ — على سبيل المثال — لم يفز الحزب الشيوعي الهندي إلا بثلاثة مقاعد من أصل ثمانية عشر مقعدًا في منطقة كوتايام، معقل الطائفة المسيحية السريانية.24
والحقيقة أنَّ وزير التعليم في كيرالا، جوزيف مونداسيري، كان قد أمضى عقودًا في التدريس في كلية كاثوليكية بتريتشور؛ فكان مُلِمًّا بأوجه فساد تلك المنظومة، ومثَّل مشروع القانون الذي طرحه محاولة شجاعة في بعض نواحيه لتصحيح ذلك الفساد. إلا أنَّ حكومته سعت إلى ما هو أكثر من تحديث الإدارة؛ فقد كانت ترغب أيضًا في إدخال تغييرات على المنهج؛ فأُعِدَّت كُتُب دراسية جديدة، سَعَت — سعيًا سافرًا أحيانًا — لتقديم التاريخ من منظار شيوعي. وكان المنظار الذي استخدمه المعلِّمون المسيحيُّون من منظار مختلف تمامًا؛ فلتنظروا إلى هاتين الروايتين المتباينتين عن الثورة الروسية، اللتين كانتا متداولتين في مدارس كيرالا خلال تلك الأعوام:
  • (الرواية الجديدة): أُسِّست حكومة جمهورية برئاسة جيورجي لفوف، أحد أعضاء العائلة الملكية. وفشلت تلك الحكومة في نيل الدعم الشعبي وأثبتت عجزها عن إنهاء الحرب أو إحداث إصلاحات اجتماعية واقتصادية. وفي ذلك الحين، جاء لينين إلى روسيا، ومثَّل مجيئه قوة دفع للشعب الروسي؛ فنشأت حكومة جديدة برئاسة لينين. وأبرم لينين معاهدة بريست-ليتوفسك مع ألمانيا. بعد ذلك أُمِّمَت الأراضي وغيرها من السلع الرأسمالية؛ فأُخِذَت الأراضي الزراعية كافة من مُلَّاكها وقُسِّمَت بين الفلاحين. وأصبحت المصانع كافة مِلكًا للدولة. وأُلغِيَت امتيازات رجال الدين والنبلاء. وسيطرت الحكومة على المناجم والسكك الحديدية والبنوك. وبذلك — وسط ذهول الجميع — تشكَّل عالم جديد في روسيا، قائم على الاشتراكية، وهكذا تحققت أحلام كارل ماركس.
  • (الرواية القديمة): أسس لينين حكومة عُمَّالية. ولكن الانتخابات الأولى أثبتت أن البلاشفة لم يحققوا أغلبية. إلا أنَّهم — لكي يحتفظوا بزمام السلطة — حلُّوا الدوما بحجة أنَّه رجعي، وكذلك حلُّوا المجالس المحلية السوفييتية غير المؤيدة للبلاشفة. وأوقفوا المدارس الخاصة عن العمل وتولَّت الدولة إدارة التعليم. كذلك حُرِم النبلاء ورجال الكنيسة حق الاقتراع. الشيوعية تشجِّع على العنف، ولا تؤمن بوجود إله قدير. الشيوعيون نسوا أنَّ الإنسان يمتلك روحًا بداخله. الحكومة السائدة في روسيا الشيوعية حكومة حزب واحد، وليس فيها حرية رأي ولا حرية دينية. وكذلك ثمة عيوب كثيرة في ذلك النظام يمكن أن تلفت نظر الناقد المتنبِّه.25
كانت هاتان رؤيتين متباينتين لنوع المجتمع الذي ينبغي أن تصيره كيرالا، متنكِّرتين في صورة قراءتين متباينتين للثورة الروسية. ويمكن للمرء تخيُّل مدى السخط الذي من شأن الرواية المسيحية أن تثيره لدى الشيوعيين، والعكس صحيح. على أي حال، فقد أجَّج الجدل الدائر بشأن الكتب المدرسية نيران الفتنة. وفي ذلك الوقت، كان المسيحيون المعارضون لمشروع القانون قد انضم إليهم الناير، وهم الطائفة الأخرى التي احتلت مكانة رئيسية في الحياة الاقتصادية لولاية كيرالا. وفي حين أنَّ المسيحيين لطالما دعموا حزب المؤتمر، كان الناير منقسمين؛ حيث صوَّت نصفهم تقريبًا لصالح الحزب الشيوعي الهندي، بينما صوَّت النصف الآخر ضده. إلا أنَّه نظرًا لأنَّ جمعية خدمة الناير كانت تدير بعض المدارس والكليات أيضًا؛ فقد ساعد مشروع القانون الجديد على دفعها في اتجاه مُعادٍ للشيوعيين، وإلى تحالف انتهازي إلى حد ما مع المسيحيين.26
أما الأكثر انتهازية فكان حزب المؤتمر المحلي؛ فقياداته بعد هزيمتهم في الانتخابات، رأوا في مشاعر السخط على مشروع القانون المعني بالتعليم فرصة لاستعادة زمام السلطة؛ فاقترحوا إقامة «جبهة شعبية» مناهضة للشيوعية، وهو ما كان فكرة جذَّابة بالنسبة إلى «الكنيسة الكاثوليكية الرجعية، ومُلاك الأراضي، وأصحاب المزارع، وغيرهم من العناصر الناقمة»، وإنْ بدت خيانة للفلسفة الاشتراكية التي اعتنقها قيادات حزبهم.27 وخلال الجزء الأخير من عام ١٩٥٨ قامت سلسلة من الإضرابات والمسيرات الاحتجاجية في كيرالا. وتضمنت الأحداث في تريتشور إطلاق الشرطة النار على حشد من رجال حزب المؤتمر، وقَتْل ستة منهم.28
وإذ شعر إي إم إس نامبوديريباد بأنه محاصر، اضْطُرَّ إلى عرض قضيته على صفحات أكثر مجلة إخبارية أسبوعية شعبية في الهند، التي كانت تصدر باللغة الإنجليزية؛ فقال: «خصومي صُدِموا» لأنَّ حكومته سعت أحيانًا إلى اتِّخاذ إجراءات ضد مُلَّاك الأراضي، حتى وإنْ كان ذلك مع الالتزام التام بأحكام الدستور؛ فرد عليه أحد قيادات حزب المؤتمر، متحدِّثًا في الأعمدة نفسها عن تنامي «الخروج على القانون وانعدام الأمن في كيرالا»، الناتجين عن ميل الشيوعيين إلى اعتبار أنفسهم فوق القانون حين يأتون بأفعالهم الانتقامية ضد معارضيهم.29 بعدما رفضت المحكمة العليا طعنًا على مشروع القانون في فبراير ١٩٥٩، حصل مشروع القانون على موافقة رئيس الهند. وفي الشهر نفسه انتُخِبت السيدة إنديرا غاندي رئيسًا لحزب المؤتمر الهندي. كانت أول امرأة تشغل ذلك المنصب طوال ستة وعشرين عامًا. وعندما سُئِلَت السيدة غاندي إن كان ذلك سوف يؤثر سَلبًا على مهامها المنزلية، ردَّت بِحدَّة قائلة: «أعمالي المنزلية لا تستغرق أكثر من عشر دقائق.»30
في ذلك الوقت، كان حزب المؤتمر «يتحدث بثلاثة أصوات: صوت أعضاء الحزب في كيرالا المنخرطين في إثارة القلاقل العنيفة، وصوت القيادة المركزية التي تسمح بتلك الأنشطة دون إجازتها، وصوت نهرو الرافض لها دون أن يتَّخِذ إجراء لوقفها».31 في الوقت نفسه تفاقمت القلاقل بدخول زعيم الناير — مانَّات بادمانابهان — أحد مؤسسي جمعية خدمة الناير، وصاحب نشاط طويل في مدارسها وكلياتها. كان مانَّات رجلًا زاهدًا متقشِّفًا يرتدي الْمِئْزَر الهندي ولا يتحدث سوى اللغة المالايالامية. وقد قِيلَ إنَّه انقلب على الشيوعيين عندما رفضوا منحه تصريحًا بافتتاح كلية هندسة في بَلجات؛ فحينذاك عقد العزم على طرد «هؤلاء الشيوعيين نهائيًّا، ليس من كيرالا فحسب، وإنما من الهند والدفع بهم إلى موطنهم، روسيا». وعندما سأله أحد المحاوِرين إن كان عمره لا يسعفه (كان في الثمانين من عمره)، ذكَّره مانَّات ببيشما بيتاما، المحارب الذي كان في العقد التاسع من العمر وقاد الباندافا في حربهم المقدسة.32 ربما يمكن الوصول لأفضل فهم للصدام في كيرالا من خلال تحديد دبليو إتش موريس-جونز «للسمات» الثلاث للسياسة الهندية. كانت السمة الأولى هي «الحداثة»، القائمة على أفكار جامعة عن الحرية والعدالة، والمُعَبَّر عنها في البرلمان والمحاكم والصحافة الصادرة باللغة الإنجليزية. أما الثانية فكانت «التقليد»، وهي السمة التي شدَّدت على الولاءات الأوَّلية ومصالح الطائفة الاجتماعية أو الدين الذي ينتمي إليه المرء.
كان مشروع القانون المعني بالتعليم في مرحلته الأولى — مثله في ذلك مثل أشياء أخرى كثيرة في الهند الحديثة — يتضمَّن مجرد صِدام بين سمة الحداثة وسمة التقليد. إلا أن مانَّات جلب معه سمة ثالثة وهي «الورع». ورأى موريس–جونزر أنها سمة قائمة «على هامش» السياسة الهندية، كما في العمل الاجتماعي لفينوبا بهافي. إلا أنَّ مانَّات، جمع بين السمة الثالثة والسمتين الأخريين، تمامًا مثلما فعل مهاتما غاندي قبل ذلك بزمن طويل، بنتائج أكثر إبهارًا. وقد اتَّبع أهل كيرالا مانَّات للأسباب التي حدت بشعب الهند إلى اتِّباع غاندي نفسها تقريبًا؛ وهو أنَّه كان لا غبار على نزاهته الشخصية، كما أنَّه لم يكن قد شغل منصبًا سياسيًّا أو سعى إلى ذلك قط.33

مثَّل ظهور مانَّات على الساحة دَفعة هائلة للحركة، التي سرعان ما شملت — حسبما قال مانَّات الزعيم الأبوي للناير — «كل من هو غير شيوعي في كيرالا». وفي ١ مايو من عام ١٩٥٩، انعقد مؤتمر للمنظمات الأهلية في شَنجناشيري بهدف تشكيل لجنة تحرير، تحت قيادة مانَّات. وخلال الشهر التالي، حمل أعضاؤها رسالتهم إلى المدراس والكليات، والكنائس والمعابد، وديار الصيادين والفلاحين والتجار والعمال.

وبحلول أوائل شهر يونيو، كان ثمة آلاف المتطوعين المستعدين للتعرُّض للاعتقال. وحينذاك بدأت سلسلة من الإضرابات المقترنة بإغلاق المتاجر، أفضت إلى إغلاق المدارس والمستشفيات والمصالح الحكومية والمصانع. وخرجت مسيرات كبيرة، بقيادة مانَّات في أغلب الأحيان، الذي سمح — رغم ادِّعائه الوَرَع — بحمله على ظهر حصان أبيض وفوقه مظلة حريرية، بينما سار شباب من الناير أمامه حاملين سيوفهم في مشيةٍ لاح فيها الوعيد.

أما الشيوعيون فقد «ردوا بوحشية منظَّمة». فقد ذهب أحد التقديرات إلى شَنِّ الشرطة ٢٤٨ هجومًا بالهراوات الهندية (اللاثي) لتفرقة المتظاهرين، وكذلك أُطْلِقَ الرصاص بغزارة، مما أسفر عن مقتل عشرين شخصًا على الأقل وجرح كثيرين، منهم أطفال ونساء. وكان كل هجوم بالعصي يفضي إلى زيادة أعداد المتظاهرين. وقد قُبِضَ على ١٥٠ ألف محتج، رُبعهم من النساء.34

٧

من الصعب أن نجزم أي الزعيمين كان أكثر استياءً من الموقف: إي إم إس نامبوديريباد، بصفته رئيس «حكومة شعبية» كانت تأمر آنذاك بشَنِّ هجمات يومية بالهراوات الهندية واعتقال الآلاف من عامة الشعب، أم جواهر لال نهرو الديمقراطي الدستوري الذي شهد نزول حزبه إلى الشوارع للإطاحة بحكومة مُنتخبَة وفق القانون. في حالة نهرو تفاقمت المعاناة إثر كونه متفقًا إلى حدٍّ بعيد مع السياسات الزراعية والتعليمية لحكومة كيرالا.35

وإذ تشجَّع رجال حزب المؤتمر في كيرالا بنجاح القلاقل التي أثاروها، راحوا يضغطون على الحكومة المركزية لكي تحتكم إلى المادة ٣٥٦ من الدستور، التي يجوز للرئيس بمقتضاها إقالة حكومة إحدى الولايات بدعوى انهيار القانون والنظام. كانت تلك المادة قد اسْتُخدِمَت أربع مرات في الماضي، عادةً بغرض الدعوة إلى إجراء انتخابات في منتصف المدة في حالة خسارة الحزب الحاكم أغلبيته في البرلمان نتيجة انقسامه أو انشقاق بعض أعضائه عنه.

وقد زار نهرو كيرالا في الأسبوع الأخير من يونيو ١٩٥٩، لكي يشاهد الوضع بنفسه؛ فانزعج لرؤية «جدران الكراهية الجماعية السميكة»؛ فقد رأى أنَّ الطرفين كادا يشبهان بلدين متعاديين في حرب.36 ولكنه ظل متحرِّجًا من أن يطلب إلى الرئيس إقالة حكومة إي إم إس. إلا أنَّ ابنته إنديرا لم تشاركه تردده، إذ رأت تلك خطوة طال انتظارها؛ فقد قالت السيدة غاندي في خطاب ألقته في دلهي: «عندما توشك كيرالا على الاحتراق، يصير من واجب الحكومة المركزية أن تهبَّ لنجدة الشعب؛ فسوء حكم الحكام الشيوعيين لتلك الولاية أفضى إلى وضع غير مسبوق في تاريخ بلادنا. «ومثل ذلك الموقف لا يحتمل مراوغة قانونية».»37
كان مانَّات ومحاربوه يستعدون آنذاك لمواجهة أخيرة. وكانت العصبة الإسلامية قد انضمَّت إلى المعركة، مُكْسِبَةً إياها مزيدًا من الشرعية. وطوال شهر يوليو خرجت مسيرات يوميَّة، استفزَّ فيها المتظاهرون الشرطة لاستخدام العنف. ومن الأحداث المروِّعة التي وقعت آنذاك مداهمة الشرطة قرية صيادين صغيرة وإطلاقها النار على المارَّة، وقتلها امرأة حبلى وشخصَيْن آخرين كانا واقفين بالقرب منها.38
أعلنت لجنة التحرير يوم ٩ أغسطس «يوم الصفر»، الذي تقرَّر فيه نزول ٥٠ ألف متطوع — ممثلين عن الطبقات والمجتمعات كافة — على تريفاندروم بهدف شَلِّ الإدارة. ويوم ٢٦ يوليو بدأت المجموعات تزحف في اتجاه العاصمة من جميع أنحاء الولاية، حاشدة المزيد من الزخم والرجال في طريقها. «كانت ساعة إجبار الشيوعيين على الاختيار بين المذبحة والهزيمة تقترب.»39 ثم جاءت رسالة من حاكم الولاية، تناشد الحكومة المركزية التدخل، ازدادت بها ثقة رئيسة حزب المؤتمر، إنديرا غاندي. وفي النهاية رضخ رئيس الوزراء — والدها — وكتب إلى نامبوديريباد يوم ٣٠ يوليو ليخبره أنَّ أمر الإقالة بصدد الصدور، نظرًا لأنَّه «لم يعد من الممكن السماح للوضع بالتدهور، مفضِيًا لاستمرار الصراعات والمعاناة الإنسانية؛ فلقد شعرنا أنَّه — حتى من وجهة نظر حكومتك — سيكون من الأفضل أن تتدخل الحكومة المركزية الآن».40
بعد مرور ستة أشهر خرجت كيرالا إلى الانتخابات مرة أخرى. وطلب حزب المؤتمر — في تحالف مع الاشتراكيين والعصبة الإسلامية — إلى الناخبين أن يختاروا ما بين «الديمقراطية والشيوعية». وقاد نهرو زُمرة من أعمدة الحزب الكبرى في حملة تصدَّرتها ملصقات «فلوري ماتا» الصيَّادة الحبلى التي أردتها رصاصات الشرطة قتيلة أثناء «معركة التحرير». بلغ إقبال الناخبين نسبة غير مسبوقة، هي: ٨٤٪. وفي مجلس مكوَّن من ١٢٧ مقعدًا، لم يفز الشيوعيون إلا بستة وعشرين مقعدًا، بينما فاز حزب المؤتمر بستين مقعدًا، وفاز حلفاؤه بواحد وثلاثين مقعدًا؛41 فبدا أنَّ النتائج برَّرت قرار إقالة حكومة نامبوديريباد. إلا أنَّ ذلك القرار — حسبما أشار سارفِبالي جوبال — «شَوَّهَ سُمعة نهرو من حيث سلوكه الأخلاقي في السياسة، وأضعف موقفه على المدى البعيد».42

٨

في السنوات الأولى بعد الاستقلال، تقريبًا فيما بين عامَي ١٩٤٧ و١٩٤٩، واجه حزب المؤتمر تحديات من جانب نوعين من التطرُّف؛ فالشيوعيون، إذ ادَّعوا أنَّ تلك حرية زائفة، أشعلوا ثورة دامية على الدولة الهندية الوليدة، وطَفِقَت منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج تحشد قوى الرجعية في محاولة لإقامة باكستان هندوسية. إلا أنَّ التيار الوسطي صَمَدَ، ونجح حزب المؤتمر في ترويض هذين الخطرين؛ بصياغة دستور ديمقراطي، والفوز في انتخابات ديمقراطية، وإرساء الدعائم الأوليَّة لدولة حديثة تتسم بالتعددية.

ثم إنَّه بعد مرور عقد من الزمان، تعرض حزب المؤتمر للهجوم مرة أخرى من قِبَل طَرَفي الطيف السياسي. كان التحدي اليساري ديمقراطيًّا هذه المرة، ومن ثم انطوى على خطورة أكبر؛ فإذا ما نجحت حكومة إي إم إس في تنفيذ الإصلاح الاجتماعي، عن طريق إعادة توزيع الأراضي على الفقراء وبناء المدارس للجميع، فكان يمكن أن تتولد عنها مجموعة من التفاعلات التسلسلية؛ بمعنى فوز أحزاب غير حزب المؤتمر في ولايات أخرى من الاتحاد الهندي.

وفي الواقع كان ثمة تحدٍّ جديد أيضًا من اليمين، تمثَّل في سي راجا جوبالاتشاري (راجا جي)، رجل حزب المؤتمر المُخَضْرَم الذي سبق أن شغل منصب حاكم البنغال، ومنصب الحاكم العام للهند، وكذلك منصب وزير داخلية الاتحاد الهندي. عام ١٩٥٢ طلب حزب المؤتمر من راجا جي تولِّي منصب رئيس وزراء مقاطعة مدراس. وظل في ذلك المنصب حتى أبريل ١٩٥٤، حين أشار الحزب إلى رغبته في الاستعاضة عنه بزعيم الطوائف المتخلفة القوي كيه كامَراج؛ فعندها استقرَّ راجا جي في بيت صغير ليقضي أيامه — على حد قوله — في القراءة والكتابة. (كان بارعًا في كتابة القصص القصيرة في مسقط رأسه تاميل، كما أنَّه كتب رواية تاميلية رائعة لملحمتي «رامايانا» و«مهابهاراتا».)

إلا أنَّ الفلسفة والأدب لم يقدِّما بديلًا كافيًا عن الشئون العامة. ومن ثم وجد راجا جي نفسه مدفوعًا للتعليق من حين لآخر على سباق التسلح النووي بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، الذي اتَّخذ منه موقفًا مشابهًا لموقف نهرو إلى حد بعيد. ثم بدأ يعلِّق على الشئون الداخلية أيضًا عندما ألزمت الخطة الخمسية الثانية الهند بنظام اقتصادي اشتراكي. إلا أنَّه دخل في خلاف متفاقم مع رئيس الوزراء في هذا الصدد.

كانت الخلافات سياسية في جزء منها؛ فقد شعر راجا جي بأنَّ حزب المؤتمر أصبح راضيًا تمامًا عن أدائه وغير راغب في تطوير نفسه نظرًا لعدم وجود معارضة قوية. وفي أكتوبر ١٩٥٦ أعلن عن اعتقاده بأنَّه ينبغي أن يكون ثمة فئة معارِضة «داخل» حزب المؤتمر؛ فقد كان يخشى أنَّه دون تلك الفئة فإنَّ الحزب «سوف يتحول ببساطة إلى مرتع لجميع أنواع الطموح والسعي وراء الذات».43 ولكن الاقتراح قُوبِل بالرفض، ومن ثم تحول راجا جي إلى تشجيع نشأة معارضة من خارج حزب المؤتمر عوضًا عن ذلك. وفي مايو ١٩٥٨، نشر مقالًا بالعنوان الموحي: «مطلوب: فكر مستقل». وفي ذلك المقال قال إنَّه «من المرجح أن السبب الرئيسي لانهيار الفكر المستقل» في الهند هو «طول مدة حكم فئات مفضلة لدى الشعب دون وجود معارضة قوية». إلا أنَّ الديمقراطية السليمة تقتضي «معارضة تفكر بطريقة مختلفة ولا ترغب في تحقيق المزيد من الشيء ذاته فحسب، فتكون مجموعة من المواطنين نشِطي الفكر تستهدف الرفاه العام، وليس مجموعة تقدِّم للمعدمين أشياء أكثر مما قدَّم الحزب الحاكم بغية الحصول على المزيد من الأصوات، وإنما مجموعة تخاطب العقل».44
كذلك كانت الخلافات القائمة بين نهرو وراجا جي اقتصادية؛ فقد كان راجا جي متخوِّفًا من أن تفضي الخطة الخمسيَّة الثانية إلى مركزية مفرطة في سُلطة الدولة. وكان منزعجًا من الزيادات الكبيرة في الضرائب، التي فُرِضت لصالح القطاع العام، ولكنها قد لا تفلح إلا في «تثبيط المواطنين وإحباطهم وتدمير القطاع الخاص». وكان يرى أنَّ الخطة لا بد من «فهمها على أنها مُكَمِّلة لاقتصاد السوق لا بديلة عنه».45
وفي مايو ١٩٥٩، إذ بلغ راجا جي عامه الثمانين، أنشأ حزبًا سياسيًّا جديدًا؛ حزب سواتَنترا. ركَّز ذلك الحزب انتقاداته على مظاهر «عبادة الفرد» المحيطة بشخص رئيس الوزراء، وعلى السياسات الاقتصادية لحزب المؤتمر الحاكم؛ فقد طالب بيانه التأسيسي بتحقيق «توزيع لامركزي سليم للصناعة» عن طريق تعزيز «المشروعات التنافسية». وفي مجال الزراعة، طالب بتشجيع «المالك الفلَّاح الذي يعمل لحسابه الخاص، والذي يعبِّر عن روح المبادرة والحرية». ورفض البيان «أساليب الاشتراكية المزعومة» و«إخراج مذهب «الدولانية» (سيطرة الدولة) إلى حيز الوجود».46
الديمقراطية التي يديرها حزب واحد تصبح تلقائيًّا نظامًا استبداديًّا؛ كان ذلك هو المنطق الذي استند إليه راجا جي في إنشاء حزب سواتَنترا. إذ إنَّ «حزب المؤتمر عمل حتى الآن دون معارضة حقيقية؛ فقد مضى في طريقه بأقصى سرعة دون أن يوجد من يستطيع إيقافه».47 وسرعان ما تنامت قوة الدفع لدى ذلك الحزب الذي نشأ على يد رجل في العقد التاسع من عمره. كان ممن انضمُّوا إليه أباطرة الصناعة — بطبيعة الحال — ولكن أعضاءه شملوا أيضًا زعماء الفلاحين الذين انتابهم القلق إزاء تهديد حزب المؤتمر بتشجيع «الزراعة التعاونية». وعلى الرغم من أن حزب سواتنترا عادةً ما يوصَف بأنه حزب «محافظ»، فقد مثَّل في واقع الأمر مزيجًا غريبًا من أنصار ليبرالية السوق الحر والزعماء الزراعيين الباحثين عن بديل لحزب المؤتمر.48
لم يَلْقَ مشجِّعو حزب المؤتمر بالًا لحزب سواتَنترا معتبرين إياه حزب «الرجعية اليمينية». ورئيس الوزراء نفسه تظاهر بالترفُّع المَشُوب باللامبالاة تجاهه. وعندما سُئِلَ في مؤتمر صحفي عن حزب راجا جي الجديد، اكتفى بالرد مازحًا: «إنه يحب العهد القديم، أما أنا فأحب العهد الجديد.»49

٩

تفاقمت التحديات التي طرحها الحزب الشيوعي الهندي على يسار الطيف السياسي وحزب سواتَنترا على اليمين، إثر اتهامات خطيرة وُجِّهَت للحكومة في نيودلهي بارتكاب مخالفات مالية منافية للقانون؛ ففي سبتمبر ١٩٥٧، أُثيرت تساؤلات في البرلمان بشأن مدى صحة استثمارات كبيرة قامت بها الشركة الهندية للتأمين على الحياة المملوكة للدولة في شركة خاصة بكانبور، مملوكة لرجل الصناعة هاريداس موندرا. وعندما قدَّم وزير المالية — تي تي كريشناماتشاري — ردَّا ملتبسًا، بدأ أعضاء حزب المؤتمر المعارضون في البرلمان يطرحون تساؤلات أكثر حِدَّة. وكان من الشخصيات البارزة في ذلك النقاش فيروز غاندي، صهر رئيس الوزراء المنفصل عن ابنته إنديرا؛ فقد ادَّعى أنَّ الهدف من شراء تلك الأسهم في شركة موندرا كان هو رفع سعرها عن قيمتها السوقية الحقيقية بدرجة كبيرة. وأبدى تعجُّبه من «قبول الشركة الهندية للتأمين على الحياة أن تكون طرفًا في تلك الصفقة المشبوهة مع الرجل الغامض لعالَم الأعمال السفلي بالهند». واختتم فيروز غاندي حديثه مشيرًا إلى أنَّه ثمة «مؤامرة لسَلب أموال تلك الشركة».50

رضخت الحكومة للانتقادات، وأعلنت تشكيل لجنة لتقصِّي تلك المسألة. وانتهى الأمر إلى إجراء تحقيقين منفصلين متعاقبين، كلٌّ منهما بقيادة قاضٍ بارز. ولم تأتِ النتائج التي توصلا إليها مُرضِيَة لحكومة حزب المؤتمر؛ فقد كان لدى الشركة الهندية للتأمين على الحياة سياسة معلَنة بصدد «الأسهم الممتازة»، تلزمها بعدم استثمار أموال إلا في المؤسسات التي تتمتع بسمعة رفيعة وإدارة حكيمة، وهما شرطان لم يتوافرا في شركات موندرا. إلا أنَّ الشركة الهندية للتأمين على الحياة رأت أنه من الصواب توجيه أكبر استثماراتها إلى أسهم تلك الشركات. ولم يستطع المسئولون الذين استجوبهم القاضيان تقديم تبريرات مرضية لقرارهم، ولا استطاع وزيرهم.

عُقِدَت فعاليات اللجنتين في دلهي وبومباي، وكانت مفتوحة للعامة؛ فاجتذبتا اهتمامًا كبيرًا، معظمه ناقد؛ فقد توافد الناس لجلسات التحقيق، لمشاهدة تخبُّط الوزير ومرءوسيه أثناء الاستجواب، أو مناقضة أحدهم للآخر. وقد جاء تقريرا القاضيين الختاميان بالإدانة، وفَرْض جزاء؛ فقد أُجبِر كل من الوزير وسكرتيره على تقديم استقالته.51
عن التحقيق القضائي في استثمار الشركة الهندية للتأمين على الحياة، كتبت صحيفة «هندوستان تايمز» أنَّه «أحدث هزَّة اقتصادية شاملة، لم نتعرض لمثلها منذ الاستقلال». فما «بدا زوبعةً في فنجان عند طرح المسألة للنقاش في البرلمان أول الأمر، أصبح عاصفة عاتية».52 وما عُرِف في البداية باسم «مسألة موندرا» سرعان ما أعيدت تسميته إلى «فضيحة موندرا». وحتى تفجُّرِ تلك الفضيحة، كان الاعتقاد الشائع عن وزراء حكومة نهرو هو أنهم محبون للسلطة، ولكنهم لا غبار عليهم من الناحية المالية؛ فقد كانت هالة التقشُّف التي أحاطت بغاندي ما زالت محيطة بهم. وكانت مسألة موندرا هي التي أحدثت أول هزَّة لتلك الصورة. وكانت هَزَّة تضاهي في عُمقها — وضررها — الهَزَّات التي أحدثتها الأحزاب السياسية اليسارية واليمينية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤