الفصل التاسع عشر

التحوُّل إلى اليسار

لا تستهينوا أبدًا، أبدًا بحاجة السياسي إلى البقاء … لن أقترف أبدًا خطأ الاستهانة بالغريزة السياسية لكشميريةٍ، هي بالإضافة إلى ذلك، ابنة جواهر لال نهرو.

صحفي هندي، مايو ١٩٦٦

١

كانت الانتخابات العامة التي تقرَّر عقدها في مطلع ١٩٦٧ هي الرابعة منذ الاستقلال، والأولى منذ وفاة جواهر لال نهرو؛ ففي الأسابيع الأخيرة من عام ١٩٦٦، أرسلت مجلة أمريكية مراسلًا صحفيًّا لدراسة الوضع على الطبيعة؛ فأذهلته «التوليفة العجيبة من المشكلات المحتقنة في الهند: من تعصُّب ديني، وحواجز لغوية، وضغائن إقليمية». وأُضيف إلى الوضع المضطرب قلة الغذاء والتضخم و«انفجار سكاني مطَّرِد يحول دون إحراز أي تقدُّم يُذكَر». والأشكال المتباينة من العنف قد «أثارت تكهُّنات حول احتمال عدم عقد الانتخابات». ورأى المراسل الصحفي أنَّه من المحتمل أن «ينهار القانون والنظام على نحو كامل بحيث يتولَّى الجيش زمام السلطة، كما حدث في باكستان وبورما المجاورتين». وكان ثمة احتمال أسوأ من ذلك أيضًا، هو أنَّ «انهيار النظام الحالي سيضيف عنصرًا غير مستحب إلى الوظيفة التي اضطلعت بها الولايات المتحدة في فيتنام، وهو محاولة ضمان الاستقرار السياسي والقوة الاقتصادية في آسيا».1

بالنسبة إلى الزائر الغربي العادي، كانت الهند — ولا تزال — مكانًا غريبًا، وربما أيضًا مقلقًا. وقد كان هذا الصحفي تحديدًا يزورها لأول مرة، وعلى ما يبدو آخر مرة، لكن توقُّعه نال تأييدَ صحفيٍّ أكثر درايةً بالهند دون شك، لكونه مقيمًا فيها منذ ستة أعوام آنذاك بالفعل.

كان ذلك هو نيفيل ماكسويل من صحيفة «ذا تايمز» اللندنية، الذي كتب سلسلة من المقالات في الأسابيع الأولى من عام ١٩٦٧ تحت عنوان «ديمقراطية الهند المتآكلة». كان رأيه أنَّ «المجاعة تهدد البلاد، والإدارة مضغوطة وثمة إجماع على فسادها، وقد فقدت الحكومة والحزب الحاكم ثقة الناس وإيمانهما بنفسيهما أيضًا». وقد هيَّأت تلك الأزمات المتنوعة «استعدادًا نفسيًّا لنبذ الديمقراطية البرلمانية». أما «الهنود ذوو الرقي السياسي» الذين تحدث إليهم ماكسويل فأعربوا عن «إحساس عميق بالهزيمة، وإدراك قَلِق بأن المستقبل ليس مظلمًا فحسب وإنما غير مؤكد بدرجة كبيرة أيضًا».

أما ماكسويل فكان رأيه الشخصي هو أنَّ «الأزمة سوف تضرب الهند»؛ فقد كان بإمكانه تبيُّن «نسيج الأمة الآخذ في التآكل بالفعل»، إذ كانت الولايات «بدأت بالفعل في التصرُّف كأنها دُوَل فرعية». وكان الاستنتاج الذي خلُص إليه لا لبس فيه، وهو: في حين أنَّ الهنود سوف يُصَوِّتون عما قريب في «الانتخابات العامة الرابعة، و«الأخيرة بالتأكيد»»، فقد «فشلت التجربة العظيمة المتمثلة في تنمية الهند في إطار ديمقراطي».

ورأى ماكسويل أنَّ الانهيار الوشيك للديمقراطية في الهند سوف يستثير عملية بحث محمومة عن «ترياق بديل لمتاعب المجتمع». ومن وجهة نظره، فإنَّه «في الهند، مع استمرار الاتجاهات الحالية — تحت وطأة كُلَّابة الغذاء والسكان متزايدة الإحكام — سيصير الحفاظ على كيان منظَّم للمجتمع أمرًا بعيد المنال بالنسبة إلى الكيان المنظَّم للحكم المدني، وسيصبح الجيش هو «المصدر البديل الوحيد» للسلطة والنظام. فتبدو مسألة جرِّ الجيش إلى دور مدني حتمية، ولكن الأمر الوحيد الملتبس هو كيف سيتحقق ذلك؟»

كان ماكسويل يظن أنَّ «مدًّا متصاعدًا من الِاضْطِراب العام، ربما تغذِّيه بؤر المجاعة»، سوف يفضي إلى تعالي دعوات لتعزيز منصب رئيس الجمهورية، الذي سوف يُطْلَب منه «فرض نفوذ مُفْضٍ إلى الاستقرار على الحكومة المركزية والبلد بصفة عامة». وسيُعَضِّده الجيش، الذي سوف تزداد ممارسته «السلطة المدنية أكثر فأكثر». وفقًا لهذا التصوُّر، سيصبح الرئيس «إما المصدر الفعلي للسلطة السياسية، أو القائد الصوري لمجموعة ربما تتألف من ضباط جيش وبضعة سياسيين».2

٢

وردت بعض التوصيفات الإثنوغرافية المتميزة لانتخابات عام ١٩٦٧، في صورة دراسات ميدانية لدوائر انتخابية مختلفة أجراها باحثون مُلِمِّون بثقافة تلك الدوائر وتكوينها الاجتماعي. تُظهر تلك التوصيفات أنَّ الانتخابات لم تَعُدْ مجرد إضافة مفروضة على تربة غير مواتية، وإنما أنَّها تغلغلت في المجتمع بصورة كاملة، وأصبحت جزءًا من الحياة الهندية. كانت الانتخابات مهرجانًا يحوي مجموعة فريدة من الطقوس، يُجرَى كل خمسة أعوام. وتجلَّت طاقة ذلك النموذج تحديدًا مقارنةً بأسلافه وشِدته في مستوى الحضور المرتفع في التجمُّعات الحزبية وخُطَب القيادات، وفي المُلصقات والشعارات المفعمة بالحيوية التي اسْتُخدِمَت لتعظيم حزب المرء أو تقويض خصومه. كانت المنافسة شديدة، على مستوى الولايات وكذلك على المستوى الوطني؛ فكانت الأحزاب المعارضة لحزب المؤتمر أحزابًا يسارية، مثل: الأحزاب الشيوعية والاشتراكية الصغيرة المتعددة، وأحزابًا يمينية، مثل: حزبي جانا سانج وسواتَنترا. وفي بعض الولايات جاءت المنافسة من تجمُّعات إقليمية، مثل: حزب أكالي دال في البنجاب ودرافيدا مونيترا كازاجام في مدراس.

وكما كشفت تلك الدراسات الإثنوغرافية، فقد أدت أعوام التنمية الاقتصادية العشرين إلى زيادة عملية المنافسة السياسية عُمقًا وتعقيدًا؛ ففي كثير من الأحيان كان المرشحون المنافسون يتدرَّبون على الإدارة من خلال إدارة المدارس والكليات والتعاونيات قبل دخول انتخابات المجالس التشريعية أو البرلمانية؛ فتلك المؤسسات مثَّلت وسائط للمكانة والرعاية، ومثَّلت السيطرة عليها قيمة في حد ذاتها ووسيلة لحشد الدعم بين صفوف الناخبين.3

وانتخابات عام ١٩٦٧ هي أول انتخابات لديَّ أنا ذكريات عنها. أكثر ما أذكره هو ذاك الشعار، الذي نُودِيَ به في حماس في شوارع المدينة الصغيرة التي عِشت فيها عند سفح مرتفعات الهيمالايا: «صوتوا لجانا سانج، وأقلعوا عن تدخين سجائر البيدي/فتلك السجائر فيها تبغ، ورجال حزب المؤتمر لصوص.»

حزب المؤتمر مَلِيء باللصوص، وسجائر البيدي الهندية تحوي تلك المادة الخطرة: التبغ؛ فبنبذ كل منهما واتباع حزب جانا سانج — حزب المعارضة الرائد في تلك المدينة — يُنَقِّي الناخب نفسه وكذلك الحكومة. كانت تلك هي الرسالة المنشودة من الشعار، والتي بدا أنَّها لاقت صدًى لدى كثير من المواطنين. تلك هي النتيجة التي توصل إليها استطلاع لآراء الناخبين في ثلاث عشرة ولاية، أُجْرِيَ قبل الانتخابات مباشرةً على يد رائد استطلاعات الرأي في الهند، إي بي دبليو دا كوستا من المعهد الهندي للرأي العام. وخَلُصَ ذلك الاستطلاع إلى أنَّ حزب المؤتمر «فقد الكثير من كاريزمته»، وأقبل على الانتخابات في ثوب «الخسارة السياسية وليس الفوز المؤكد، لأول مرة».

وأشار الاستطلاع إلى أنَّه في حين أنَّ حزب المؤتمر سوف يحتفظ بنفوذه في الحكومة المركزية، فإن نصيبه من الأصوات سينخفض بمعدل نقطتين مئويتين أو ثلاث، وسوف يخسر ربما خمسين مقعدًا في مجلس الشعب، وأكثر من ذلك بكثير في الولايات. ووفقًا لدا كوستا، فسوف تَتَشَكَّل حكومات من غير حزب المؤتمر في ولايات كيرالا وماديا براديش وراجستان وربما أيضًا أوريسَّا وغرب البنغال وبيهار وأوتَّر براديش والبنجاب.

لماذا انحسر دعم حزب المؤتمر؟ وجدت الدراسة الاستطلاعية أنَّ الأقليات، التي مثلت جمهور ناخبين مخلص للحزب فيما مضى، خاب أملها فيه، وهكذا الحال بالنسبة لقطاعات كبيرة من الشباب والفئات الأقل تعلُّمًا. وعلى النقيض، كانت المعارضة أكثر اتِّحادًا من ذي قبل؛ ففي معظم الولايات، كانت الأحزاب الأخرى غير حزب المؤتمر قد عدَّلت المقاعد، مما يعني أنَّ حزب المؤتمر لم يعد بوسعه استغلال انقسام الأصوات إلى ثلاثة أو أربعة فِرَق بسهولة كما في الماضي.

رأى دا كوستا أنَّ تلك الانتخابات العامة الرابعة سوف تستهلُّ «ثورة سلمية ثانية في تاريخ الهند الحديث». بدأت الثورة السلمية الأولى على يد المهاتما غاندي عام ١٩١٩، وتُوِّجَت باستقلال الهند عام ١٩٤٧. ومنذ ذلك الحين، احتفظ حزب المؤتمر بالسلطة في الحكومة المركزية وكذلك في الولايات كافة، ما عدا فترة قصيرة في كيرالا. أما الآن، فتلك الانتخابات ستمثِّل «تفتُّت ممارسة حزب المؤتمر الأحادية للسلطة». وكانت النتيجة التي خَلُصَ إليها دا كوستا جديرة بالاقتباس: «ربما تُمَثِّل هذه الانتخابات معركةً على السلطة بالنسبة إلى المرشحين، ولكنها تُمَثِّل بالنسبة إلى عالِم السياسة — كما كانت منذ نحو نصف قرن — بداية انسلاخ عن الماضي. إنها ليست انتفاضة بعدُ بأي حال من الأحوال، ولكنها قد تصير ثورةً مع مرور الوقت.»4
جدول ١٩-١: أداء حزب المؤتمر في الانتخابات الهندية، ١٩٥٢–١٩٦٧: الأصوات والمقاعد كنسبة مئوية من الإجمالي.
السنة مجلس الشعب مجالس الولايات
الأصوات المقاعد الأصوات المقاعد
١٩٥٢ ٤٥ ٧٤٫٤ ٤٢ ٦٨٫٤
١٩٥٧ ٤٧٫٨ ٧٥٫١ ٤٥٫٥ ٦٥٫١
١٩٦٢ ٤٤٫٥ ٧٢٫٨ ٤٤ ٦٠٫٧
١٩٦٧ ٤٠٫٧ ٥٤٫٥ ٤٠ ٤٨٫٥
القائمون باستطلاعات الرأي معروف أنهم يخطئون، ربما في الهند أكثر من أي مكان آخر. ولكن عندما ظهرت النتائج، لا بد أنَّ دا كوستا شعر بأنه أثبت وجهة نظره؛ ففي مجلس الشعب، كانت مقاعد حزب المؤتمر قد انخفض عددها من ٣٦١ إلى ٢٨٣ مقعدًا، وكانت خسائره في مجالس الولايات أعظم من ذلك. وقد لخص جدول ١٩-١ تدهور وضع الحزب.

٣

كانت أكبر هزيمة مهينة تعرَّض لها حزب المؤتمر في ولاية مدراس الجنوبية؛ ففيها نجح حزب درافيدا مونيترا كازاجام باكتساح؛ إذ رَبِحَ ١٣٨ مقعدًا من إجمالي ٢٣٤ في مجلس الولاية، ولم يربح حزب المؤتمر سوى ٥٠ مقعدًا. وأدى زعيم حزب درافيدا مونيترا كازاجام، سي إن أنَّادوراي، قَسَم رئاسة وزراء الولاية.

لطالما كانت مدراس معقلًا لحزب المؤتمر؛ إذ أتى كثير من الزعماء الوطنيين — في الماضي والحاضر — من تلك الولاية. ولكن في تلك المرة حتى كيه كامراج الموقَّر جرفته أمواج الهزيمة الانتخابية؛ فقد خَسِرَ في مسقط رأسه، فيرودوناجار، أمام أحد الطلبة الناشطين عمره ثمانية وعشرين عامًا ويُدعى بي سرينيفاسان؛ فعندما بلغت الأنباء مدراس، بحث أعضاء حزب درافيدا مونيترا كازاجام الفرِحين عن شخص يحمل اسم المنتصِر نفسه، وأركبوه حصانًا، وطافوا به أرجاء المدينة. وكتبت مجلة أسبوعية محترمة عن خسارة رئيس حزب المؤتمر أنَّه «من حيث المكانة السياسية — هنا وفي الخارج — لا يوجد شك في أنَّ تلك كانت أسوأ ضربة تعرَّض لها حزب السيد كامراج، سواء قبل الاستقلال أم بعده».5

كان أداء حزب المؤتمر جيدًا إلى حدٍّ بعيد في تلك الولاية؛ إذ كانت إدارته معروف عنها النزاهة والكفاءة؛ فرأى بعض المعلِّقين على الحدث أنَّ حزب درافيدا مونيترا كازاجام استغل حركة مناهضة اللغة الهندية في ١٩٦٥ لتحقيق النصر. إلا أن المعركة ضد اللغة الهندية ذاتها تسنَّت عبر العمل التنظيمي الصبور للحزب خلال العقد السابق؛ فقد انتشر حزب درافيدا مونيترا كازاجام في البلدات والقرى، وأنشأ نوادي محلية وفروعًا له. وكانت النقطة المحورية في هذا الصدد هي صلات ذلك الحزب بصناعة الأفلام التاميلية ذات الشعبية الهائلة؛ فقد كان أحد قيادات الحزب — إم كارونانيدي — كاتب سيناريو ناجحًا. والأهم من ذلك أنَّ الحزب حَظِيَ بالدعم المادي والمعنوي للنجم السينمائي الشهير العظيم إم جي راماتشَندران.

كان راماتشَندران من كيرالا في الأصل، ولكنه وُلِدَ في أسرة من عُمَّال المزارع في سريلانكا. وكان له أتباع متعصِّبون في ريف تاميل. كان يقهر قوى الشر في أفلامه، التي تمثَّلت في صور متنوعة من رجال الشرطة ومُلاك الأراضي والأجانب والدولة. وكانت أفلامه تُعرَض في دور عرض مزدحمة، ارتادها الناس لمشاهدة أفلامه مرارًا وتكرارًا. وكان أكثر أشد معجبيه إخلاصًا نساء.

تشكَّلت نوادي معجبين لراماتشَندران في جميع أنحاء مدراس، حيث ناقش أعضاؤها أفلامه وكذلك سياساته؛ فقد كان مؤيدًا قديمًا لحزب درافيدا مونيترا كازاجام، ويموِّله، وكان دائمًا على استعداد لإلقاء الخطب في تجمُّعاته الحزبية ومؤتمراته.

قبل شهر من انتخابات ١٩٦٧، أطلق نجم سينمائي منافس — إم آر رادها — الرصاص على راماتشَندران وجرحه (حدثت وقيعة على ما يبدو بين الرجلين نتيجة ما يُوقِع بين الرجال في العموم وبين نجوم السينما الهندية على وجه الخصوص)؛ فاسْتُخْدِمَت صور النجم المُصاب بكثرة في الحملة الانتخابية. وقرر راماتشَندران نفسه الترشُّح للانتخابات؛ ففاز بسهولة، وكذلك حزبه.6
عندما أمسك حزب درافيدا مونيترا كازاجام بزمام السلطة، مارس ما سمَّاه أحد الباحثين «الشعبوية الحازمة والأبوية»؛ ففي حين جلب حزب المؤتمر مشروعات صناعية كبيرة إلى الولاية، ركَّز حزب درافيدا مونيترا كازاجام على البرامج التي قد تجلب له تأييدًا فوريًّا. ومن ثم زاد الحزب نسبة الوظائف الحكومية المحجوزة للطوائف المتخلِّفة التي مثَّلت مصدر الدعم الرئيسي للحزب. وشدَّد الحزب الضوابط على تجارة الحبوب، ومنح دعمًا غذائيًّا لفقراء الحضر. وفي الوقت نفسه، بغية تعزيز الكرامة الإقليمية، نظَّمت الحكومة مؤتمرًا دوليًّا عن الثقافة واللغة التاميلية، شارك فيه باحثون من عشرين بلدًا، وأعرب فيه رئيس وزراء الولاية عن أمله في أن تصبح اللغة التاميلية لغة التواصل في الهند كلها.7

٤

خَسِرَ حزب المؤتمر في كيرالا أيضًا، أمام ائتلاف من الأحزاب اليسارية؛ ففي عام ١٩٦٣ كان الحزب الشيوعي الهندي قد انقسم إلى شطرين، أحدثهما يُدْعَى الحزب الشيوعي الماركسي. حَظِيَ ذلك الحزب الجديد بأكثر القيادات ديناميكية، ومنهم إي إم إس نامبوديريباد؛ ففي تلك الانتخابات فاز الحزب باثنين وخمسين مقعدًا من أصل ١٣٣ مقعدًا في مجلس الولاية، بينما فاز حزب المؤتمر بثلاثين مقعدًا، وفاز الحزب الشيوعي الهندي القديم بتسعة عشر مقعدًا؛ فتحالف الشيوعيون معًا لتشكيل الحكومة، وأدَّى إي إم إس قسم رئاسة الوزراء لفترة ثانية.

كان لحزب المؤتمر تجربة خسارة سابقة في كيرالا. ولكن في تلك المرة، كان مما زاد محنته أنَّه خَسِرَ زمام السلطة في غرب البنغال أيضًا، الذي احتكره فيها دون منازع منذ عام ١٩٤٧. كان الرابحون في غرب البنغال هم ائتلاف الجبهة المتحدة والجبهة اليسارية، التي تَمَثَّل أعضاؤها الرئيسيون في حزب المؤتمر البنغالي (فصيل منشق من الحزب الأصلي، كما يشير اسمه)، والحزب الشيوعي الماركسي؛ ففي انتخابات مجلس الولاية، حصل حزب المؤتمر على ١٢٧ مقعدًا من أصل ٢٨٠. فاز الحزب الشيوعي الماركسي بثلاثة وأربعين مقعدًا وفاز حزب المؤتمر البنغالي بأربعة وثلاثين مقعدًا؛ فتمكَّن هذان الحزبان، بالاشتراك مع توليفة من الجماعات اليسارية والأعضاء المستقلين، من تحقيق أغلبية بالكاد.

وأصبح أجوي موكرجي، زعيم حزب المؤتمر البنغالي، رئيس وزراء الولاية. أما نائب رئيس الوزراء فكان جيوتي باسو، محامٍ مهذَّب تلقَّى تعليمه في لندن وكثيرًا ما مثَّل الواجهة المتحضرة للشيوعية البنغالية. كان باسو وآخرون غيره يرون أنَّ حزبهم يمكن أنْ يُشَكِّل سياسة الحكومة من الداخل، بينما رأى أعضاء آخرون في الحزب الشيوعي الماركسي — لا سيما كبير منظميه، برومود داسجوبتا — أن الحزب ما كان يجدر به الانضمام إلى الحكومة مطلقًا.8
أُلِّفَت كتب كاملة عن النزاعات الفكرية داخل الحركة الشيوعية الهندية. ويكفينا هنا أنْ نعرف أنَّ الحزب الشيوعي الهندي انقسم عام ١٩٦٣ بسبب نقطتي خلاف: إحداهما من خارج البلد، والأخرى من داخلها. وكانت القضيتان متصلتين؛ فالحزب الأصلي — الحزب الشيوعي الهندي — كان شديد التعلُّق بالحزب الشيوعي السوفييتي، ومن ثَمَّ نبذ الثورة المسلحة، حتى وإنْ كان ذلك لمجرد أن الاتحاد السوفييتي كان يرغب في الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع الحكومة الهندية. والحزب الشيوعي الماركسي المنشقُّ كان يؤمن بوجود علاقة أُخوَّة بينه وبين الحزبين الشيوعيين لكل من الاتحاد السوفييتي والصين. وكان يرى أنَّ الدولة الهندية يديرها ائتلاف من البرجوازيين ومُلَّاك الأراضي، وأنَّ الديمقراطية البرلمانية ممارسة زائفة في معظمها، يستخدمها المرء عندما تتلاءم مع أغراضه، ويطرحها جانبًا عندما لا تتلاءم معها.9

سبق قرار انضمام الحزب الشيوعي الماركسي إلى الحكومة نقاش محتدم، انحاز فيه جيوتي باسو إلى الانضمام فيما عارضه برومود داسجوبتا. وفي النهاية انضم الحزب إلى الحكومة، مما أورث صِغار أعضاء الحزب شعورًا قويًّا بالترقُّب؛ فكان من البوادر المبكرة إعادة تسمية طريق هارينجتون على اسم أحد أبطال الحركة الشيوعية العالمية؛ بحيث صار عنوان القنصلية الأمريكية في أوج حرب فيتنام هو: ٧ طريق هو تشي مِنه، كلكتا.

كانت تلك خطوة يسيرة إلى حدٍّ بعيد، ولكن فيما بعد أصبحت القرارات أصعب؛ ففي ربيع عام ١٩٦٧ شَبَّ نزاع على أرضٍ في ناكسَلباري في منطقة دارجيلنج، حيث كانت الهند تشترك في حدودها مع نيبال غربًا وباكستان شرقًا، وكانت التبت ومملكتا بوتان وسيكِّيم شبه المستقلتين على مسافة غير بعيدة. سيطرت مزارع الشاي — التي أدارت كثيرًا منها شركات مملوكة لبريطانيا — على الاقتصاد في تلك المناطق الواقعة على سفوح جبال الهميالايا. كان ثمة تاريخ من ندرة الأراضي، والنزاعات على الأراضي؛ حيث ابتغى العاملون في المزارع الحصول على أراضٍ خاصة بهم وابتغى المزارعون المستأجِرون المحليون إغاثتهم من مُلَّاك الأراضي المُرابين.

في منطقة ناكسَلباري، تولَّت منظمة للفلاحين موالية للحزب الشيوعي الماركسي تعبئة فقراء الريف. كان قائدها راديكاليًّا من الطبقة الوسطى — كانو سَنيال — أكسبه رفضه لوسطه الاجتماعي في سبيل العمل في القرى أتباعًا كثيرين؛ فبدءًا من أواخر مارس ١٩٦٧ أعدَّت المنظمة سلسلة من التظاهرات ضد ملاك الأراضي الذين كانوا يطردون المستأجرين أو يحتكرون الحبوب أو كليهما. وازدادت التظاهرات شراسة، مما أسفر عن اشتباكات مع الشرطة، تحوَّلت إلى العنف؛ فقد قُتِلَ شُرطي، فرَدَّت الشرطة بفتح النار على جمهرة من الناس؛ فقرر زعماء الفلاحين حمل السلاح، وسرعان ما بدءوا يقطعون رءوس مُلَّاك الأراضي.

كانت التظاهرات نابعة في الأصل من الهيكل الزراعي شديد التفاوت في شمال البنغال، لكنها ربما لم تكن لتتخذ الصورة التي وصلت إليها لو لم ينضم الحزب الشيوعي الماركسي إلى الحكومة؛ فبعض النشطاء — وربما كثير من الفلاحين — شعروا أنَّهم بوصول حزبهم للسلطة، أصبح في مقدورهم تصحيح الهيكل الإقطاعي بأيديهم، لكنهم فوجئوا بردة فعل الحزب؛ إذ انحاز لصف قوى القانون والنظام. وبحلول نهاية صيف عام ١٩٦٧، كان ثمة نحو ١٥٠٠ شُرطي في الخدمة في ناكسَلباري، وكان كانو سَنيال وزملاؤه القياديون في السجن، بينما لاذ متمردون آخرون إلى الغابة.10
وسرعان ما احتلت ناكسَلباري مكانة بارزة لدى الثوار الهنود؛ فأُطْلِقَ اسمها على المنطقة بأسرها، وبعد فترة، على أي شخص في أي مكان مستعد لرفع السلاح على الدولة الهندية دفاعًا عن المقهورين والمحرومين. وأصبحت لفظة «ناكسَل» البديل الشائع لكلمة «ثوري»، اللفظة التي تثير مشاعر الإعجاب والافتتان بأحد طرفي الطيف السياسي، ومشاعر النفور والاستهزاء بالطرف الآخر.11
كان من المؤيدين للناكسَل زُعماء جمهورية الصين الشعبية؛ ففي الأسبوع الأخير من يونيو ١٩٦٧، أعلن راديو بكين أنَّه قد:
بدأت مرحلة كفاح مسلح للفلاحين تحت قيادة ثوار الحزب الشيوعي الهندي في ريف منطقة دارجيلنج بولاية غرب البنغال الهندية. وهذه هي طليعة الكفاح الثوري المسلح الذي شَنَّه الشعب الهندي مسترشِدًا بتعاليم ماو تسي تونج. وهي تعبِّر عن التوجُّه العام للثورة الهندية في الوقت الحالي. وشعب الهند والصين وبقية العالم أجمع يرحِّبون بانطلاق هذا الكفاح الثوري المسلح.12

في الوقت الذي اشتعلت فيه أولى شرارات الثورة في ناكسَلباري، كانت مجموعة أخرى من الماويين تستعد للتحرُّك في ولاية أندرا براديش. نشط الناكسَل الأندريون في منطقتين: تيلانجانا — التي قام فيها تمرُّد شيوعي كبير بين عامي ١٩٤٦ و١٩٤٩ — ومنطقة شريكاكولام على حدود أوريسا. في المنطقتين نشب النزاع بسبب الأرض والغابات. وفي الحالتين كانت أطراف الاستغلال الرئيسية هي الدولة ومُلاك الأراضي، وكان الضحايا الرئيسيون هم الفلاحين و(خاصة) القبائل. وفي كلتا الحالتين ركَّزت التعبئة الشيوعية على حرية الحصول إلى ناتج الغابات، ورفع أجور العمال، وإعادة توزيع الأراضي.

في شريكاكولام قاد المعركة مُعَلِّم، يُدْعَى فمباتابو ساتيانارايانا. قاد ذلك المعلم القبائل في سلسلة من الإضرابات العُمَّالية، وفي الاستيلاء على الحبوب من حقول المزارعين الأثرياء وإعادة توزيعها على المحتاجين. وبحلول نهاية عام ١٩٦٧ كان مُلاك الأراضي قد استعانوا بالشرطة، التي أتت وقبضت على مئات المتظاهرين. حينئذٍ قرَّر ساتيانارايانا ورجاله حمل السلاح؛ فداهموا منازل مُلاك الأراضي والمُقرِضين، وأحرقوا سجِلَّاتهم وأوراقهم؛ فاستجابت الدولة بإرسال المزيد من رجال الشرطة، حتى إنه بحلول عام ١٩٦٩، بلغ عدد قوات الشرطة الخاصة المسلحة في المنطقة تسع فصائل.

وفي تيلانجانا تزعَّم الكفاح تاريمالا ناجي ريدِّي. كان ريدي من أعضاء الحركة الشيوعية المُخَضْرَمين، وأمضى سنوات في تنظيم صفوف الفلاحين وخدم أيضًا عدة فترات في مجلس الولاية التشريعي. وقد أعلن آنذاك عبثية المسار البرلماني، ثم استقال من المجلس وكذلك من الحزب الشيوعي الماركسي، ليتجه مرة أخرى إلى القرى؛ فتعاون مع العاملين على مستوى القاعدة على تعبئة الفلاحين حتى يطالبوا برفع أجورهم ووضع حد للفساد المستشري فيما بين مسئولي الدولة. ودرَّبوا المتمردين الشباب على استخدام السلاح. وقُسِّمَت المنطقة إلى أقسام، عُيِّنَ لكل قسم منها عدة «دالامات»، أو مجموعات من الثوريين المتفرِّغين.13

في غرب البنغال، سقطت الحكومة الائتلافية في غضون أقل من عام. وفُرِض «حُكم رئاسي» حتى عقد الانتخابات الجديدة في مطلع عام ١٩٦٩، التي زادت فيها حصة الحزب الشيوعي الماركسي بدرجة كبيرة؛ فقد رَبِحَ ثمانين مقعدًا، ليصبح بذلك الشريك الأكبر بفارق كبير في ائتلاف جديد مع حزب المؤتمر البنغالي وأحزاب أخرى. ومرة أخرى تولى أجوي موكرجي رئاسة الوزارة، بينما آثر الحزب الشيوعي الماركسي الاحتفاظ بوزارة الداخلية والاضطلاع بدور «الأخ الأكبر» بصفة عامة.

تخللت تلك السنوات قلاقل عظيمة في الولاية، كما يتبين من عناوين الكتب المؤلَّفة عن تلك الفترة؛ مثل: «معاناة غرب البنغال» و«غرب البنغال: الولاية المحرومة». دار أحد محاور النزاع بين الحكومة المركزية والولاية؛ فقد كانت حكومة الهند قَلِقَة إزاء إرساء القانون والنظام، بينما كان حزب المؤتمر الحاكم مغتاظًا من خسارته زمام السلطة في غرب البنغال. وأصبح حاكم الولاية طرفًا مهمًّا في النزاع، إذ تولَّى نقل مخاوف الحكومة المركزية (ومخاوف حزب المؤتمر، وإن لم يكن ذلك مبرَّرًا بالقدر ذاته) إلى السياسيين المحليين. وكانت أعمال المجلس التشريعي للولاية تُعَطَّل بصفة منتظمة؛ ففي إحدى المرات، مُنِع الحاكم فعليًّا من إلقاء خطابه الافتتاحي المعهود واضْطُرَّ إلى الفرار من مقر المجلس تحت حراسة الشرطة.14
دار محور ثانٍ للنزاع بين الحزبين الرئيسيين في حكومة الولاية؛ ففي حين حاول أجوي موكرجي وحزب المؤتمر البنغالي الذي ينتمي إليه (وإن كانت محاولة ضعيفة) الإبقاء على سير العمل بأجهزة الولاية، لم يتوانَ الحزب الشيوعي الماركسي عن إثارة الاحتجاجات في الشوارع بل حتى التحريض على العنف، في سبيل تحقيق أهدافه. وفي مصانع كلكتا والمناطق المحيطة بها، اتَّبع العُمَّال ممارسة التطويق؛ بمعني الإحاطة بمديريهم من أجل المطالبة بتحسين أجورهم وظروف عملهم. فيما سبق، كان يتسنَّى للإدارة استدعاء الشرطة، إلا أنَّ الحكومة الجديدة أصرَّت على أنَّ أي تعطيل للعمل لا بد من إحالته أولًا إلى وزير العمل (أحد رجال الحزب الشيوعي الماركسي)؛ فكانت تلك بمنزلة دعوة للإضراب؛ فوفقًا لإحدى التقديرات حدث أكثر من ١٢٠٠ واقعة تطويق في الأشهر الستة الأولى بعد تسلُّم أول حكومة لائتلاف الجبهة المتحدة والجبهة اليسارية السلطة.15
ترددت أصداء تلك الإضرابات في الصحف البريطانية، وهو ما يُعْزَى في جزء منه إلى أنَّ كثيرًا من الشركات الكبرى في كلكتا كان مملوكًا لبريطانيين، وفي جزء آخر إلى أنَّ كلكتا كانت عاصمة الراج البريطاني ذات يوم؛ فجاء أحد العناوين الرئيسية كالتالي: «توقعات لمزيد من الفوضى في غرب البنغال»، ونص آخر على أنَّ «أعمال الشغب توقف افتتاح مجلس غرب البنغال». فكان رد فعل كثير من أصحاب المصانع — الهنود والأوروبيين على حد سواء — هو إغلاق أعمالهم. ونقل آخرون أعمالهم إلى أماكن أخرى، في عملية هروب لرءوس الأموال أزاحت كلكتا من موقع المركز الرائد للصناعة الهندية.16
وإلى جانب الرأسماليين القلقين بشأن أرباحهم، أزعجت الفوضى السائدة رئيس وزراء غرب البنغال أيضًا؛ فقد رأى فيها صنيعة أيدي الحزب الشيوعي الماركسي، التي تضمنت حقائبه الوزارية وزارة الأراضي ووزارة العمل — اللتين تأججت فيهما المتاعب — ووزارة الداخلية، التي كان يمكن احتواء المتاعب فيها، ولكن ذلك لم يحدث. ومن ثم قرر تلميذ غاندي القديم أجوي موكرجي الاحتجاج على المحتجين، بتنظيم حملة مقاومة سلمية هو الآخر؛ فطاف أنحاء الولاية حيث ألقى الخُطَب، وندَّد بالحزب الشيوعي الماركسي لتشجيعه الشِّقاق الاجتماعي. ثم إنَّه، في أول ديسمبر، بدأ صومًا عن الطعام لمدة اثنتين وسبعين ساعة في مكان عام، هو حديقة كرزون جنوبي كلكتا؛ ففي تاريخ المقاومات السلمية الهندية الثري، لا بد أن تكون تلك هي الأكثر غرابة؛ إذ صام رئيس وزراء إحدى الولايات عن الطعام احتجاجًا على فشل حكومته في حفظ السلام.17
دار نزاع ثالث بين الحزب الشيوعي الماركسي والناكسَل، الذين كانوا قد أسَّسوا حزبًا جديدًا يُدْعَى الحزب الشيوعي الماركسي اللينيني. وفي منطقة تلو أخرى، طَفِقَ كوادر الحزب القديم يتركونه وينضمون إلى الجديد، تمامًا مثلما تركوا الحزب الشيوعي الهندي في ١٩٦٣-١٩٦٤ لينضموا إلى الحزب الشيوعي الماركسي. كانت المنافسة بين الحزب الشيوعي الماركسي والحزب الشيوعي الماركسي اللينيني شديدة، بل عنيفة في كثير من الأحيان؛ فقد حثَّ زعيم الحزب الشيوعي الماركسي اللينيني — تشارو مازومدار — على القضاء على مُلَّاك الأراضي، الذين كانوا «أعداءً طبقيين»، وكذلك كوادر الحزب الشيوعي الماركسي الذين كانوا «منحرفين يمينيين». وأنشأ الحزب الشيوعي الماركسي من جانبه جيشًا خاصًّا (أطلق عليه «قوة تطوعية» على سبيل التلطيف) لتحقيق صورة «الثورة الشعبية الديمقراطية» التي يؤمن بها.18
وكما في زمن الاستعمار البريطاني، قدَّمت تقارير مكتب الاستخبارات أفضل تصوير لثنايا الاضْطِرابات السياسية؛ فقد ذكر أحد تقارير مكتب الاستخبارات ١٣٧ «حالة فوضى كبرى في غرب البنغال» خلال فترة ستة أسابيع فحسب، ما بين ١٩ مارس و٤ مايو ١٩٧٠، وصنَّفها تحت عناوين مختلفة؛ فقد وضعت عدة أحداث طرفين في مواجهة أحدهما الآخر: «الحزب الشيوعي الماركسي في مواجهة الحزب الشيوعي الهندي، والحزب الشيوعي الماركسي في مواجهة حزب المؤتمر، والحزب الشيوعي الماركسي في مواجهة الحزب الشيوعي الماركسي اللينيني.» وفي بعض الأحيان كان الغضب يُوَجَّه نحو الدولة؛ على سبيل المثال: «الحزب الشيوعي الماركسي في مواجهة الشرطة» أو «عناصر متطرفة في مواجهة رجال الشرطة»، ويشير العنوان الأخير إلى هجوم على مركز شرطة في منطقة مَلدا، حيث طعن الناكسَل شُرطِيًّا حتى الموت ونهبوا مخزن الأسلحة. وأورد التقرير حالة تحت عنوان «طلاب متطرفون في مواجهة نائب رئيس الجامعة»، مشيرًا إلى واقعة حدثت في جامعة جادَفبور في كلكتا، احتجز طلاب راديكاليون فيها نائب رئيس الجامعة عدة ساعات، قبل أن يُحَطِّموا الأثاث ويكتبوا شعارات ماويَّة على جدران حجرة مكتبه.19
في القرى، كان الناكسَل يأملون في تصعيد القلاقل بقطع رءوس مُلَّاك الأراضي، وظنوا أن الأثر ذاته يمكن أن يتحقق في المدينة بشَنِّ هجمات عشوائية على رجال الشرطة. كان كيبلينج قد أطلق على كلكتا ذات مرة «مدينة الليل المخيف»، ولكن الآن أصبح مواطنوها يخافون في النهار أيضًا؛ فكانت المتاجر تشرع في غلق أبوابها عند حلول العصر، وبحلول الغسق تصير الشوارع مهجورة.20 وكتب أحد الصحفيين: «لا يمر يوم في هذه المدينة المضطربة المعذَّبة دون إلقاء بضع قنابل على نقاط الحراسة أو الدوريات الشُّرطِيَّة.» وفي الوقت نفسه كانت الشرطة تداهم المنازل وأماكن إقامة الطلبة الملحقة بالكليات بحثًا عن المتطرفين. وفي إحدى الغارات صادروا مواد متفجرة تكفي لصنع ٣ آلاف قنبلة.21

٥

تدفَّقت الكبرياء التاميلية متجدِّدة في الجنوب، بينما تصاعدت الحروب الطبقية في الشرق، وتداعى الوفاق على حزب المؤتمر في أماكن أخرى أيضًا؛ ففي ولاية أوريسا، لَقِيَ حزب المؤتمر هزيمة نكراء على يد شراكة بين حزب سواتنترا وحزب النخبة المحلية من مُلاك الأراضي؛ فقد استهدفت الحملة الانتخابية لتلك الشراكة عضوين بارزين في حزب المؤتمر — بيجو بَتنايك وبيرِن ميترا — متهِمةً إياهما بالفساد وأسلوب الحياة المبالغ في الترف؛ فزُعِم أنَّ الرجلين تَلَقَّيا أثناء تَبَوُّئِهما مقاعد السلطة في الولاية رِشًا من رجال أعمال ومَنَحَا عقودًا حكومية مربحة لأصدقائهما وأقاربهما.22 وكان الشعار الشائع، الذي مثَّل النسخة المحلية — إنْ جاز التعبير — من الشعار الذي رددته الهتافات في بلدة دهرادون البعيدة، هو: «أينما وُجِدَت زجاجات الخمر، وَجَدت بيجو ويبرِن.» فعند وصول ائتلاف حزب سواتنترا وحزب مؤتمر جانا إلى السلطة، أنشأ على الفور لجنة للتحقيق في فساد الحكومة السابقة.23

وإذ واجه حزب المؤتمر تحديات من أحزاب يمينية ويسارية، وجد نفسه ينزف من الداخل أيضًا؛ ففي معظم ولايات شمال الهند فاز في الانتخابات بأغلبية ضئيلة. ثم أصبحت تلك الأغلبيات عُرضة للدسائس، مع تشكُّل فصائل بقيادة زعماء طموحين ساعين وراء رئاسة وزارة الولاية؛ ففي ولايات أوتَّر براديش وماديا براديش وهاريانا وبيهار، تشكَّلت حكومات حزب المؤتمر، ثم سقطت بتحوُّل جماعة من المنشقين الساخطين إلى الجهة المقابلة؛ ففي قاموس سياسي غني بالفعل بالأسماء، مثَّل حزب ساميوكتا فيدهاياك دال — أو حزب المُشَرِّعين المتَّحدين — كما يتبين من اسمه، خليطًا متنوعًا متنافرًا، وائتلافًا من المشرِّعين من اليسار واليمين والوسط، الذين لم يُوَحِّد بينهم سوى الرغبة في الاستيلاء على السلطة.

تَشَكَّلت حكومات ذلك الحزب من أعضاء من حزب جانا سانج والاشتراكيين وحزب سواتنترا والأحزاب المحلية والأعضاء المنشقين عن حزب المؤتمر، وكان الأعضاء المنشقون هم العنصر الذي أتاح إمكانية تحقيق أغلبية عددية؛ فعلى أحد الأصعدة، مثلت ظاهرة حزب المُشَرِّعين المتَّحدين إشارة لصعود الطوائف الهندية المتخلفة، التي استفادت من التشريعات الخاصة بالأراضي ولكنها حُرِمَت ثمار السلطة السياسية. في الشمال، تضمَّنت تلك الطوائف الاجتماعية: الجات في هاريانا وأوتَّر براديش، والكورمي والكويري في بيهار، واللودهي في ماديا براديش، والياداف في تلك الولايات كافة. وفي الجنوب، تضمَّنت الماراثيين في مهاراشترا، والفوكَّاليجا في ميسور، والفيلَّالا في مدراس، والريدِّي والكامَّا في أندرا براديش. كانت تلك الطوائف الاجتماعية تحتل مكانة متوسطة في التسلسل الهرمي الاجتماعي، فكانوا أدنى من البراهمة ولكنهم أعلى من المَنْبوذين. في مناطق كثيرة، مثَّلت «الطبقة المسيطرة»، لكثرتها العددية وحسن تنظيمها. أما ما تفتقر إليه فكان الوصول إلى سلطة الدولة. كان حزب درافيدا مونيترا كازاجام مدعومًا من الطوائف المتخلفة بالأساس، وكذلك كان الشيوعيون، الذين زادت حصتهم من الأصوات في الشمال. ومن الجدير بالذكر أنَّ كثيرًا من المنشقِّين عن حزب المؤتمر جاءوا أيضًا من تلك الطبقة.

على صعيد آخر، مثَّلت حكومات حزب المشرِّعين المتَّحدين مجرد نتاج للطموح الشخصي. ولنأخذ ولاية ماديا براديش على سبيل المثال. بدأت مشكلات حزب المؤتمر في تلك الولاية قبل الانتخابات، عندما تركت راجماتا (الملكة الأم) مدينة جواليور الحزب لعدم استشارتها بخصوص اختيار المرشَّحين. وشَنَّت حملة شعواء بالاشتراك مع ابنها مَدهافراو على حزب المؤتمر؛ فوفقًا لأحد تقارير مكتب الاستخبارات، أنفقت الراجماتا ٣ ملايين روبية في الانتخابات. وعلى الرغم من عودة حزب المؤتمر إلى السلطة، فقد تعرَّض لهزيمة نكراء في منطقة جواليور. وبعد ذلك — وفقًا لتقرير الاستخبارات أيضًا — كانت الراجماتا تخطط لإنفاق المزيد من المال «بغية تحويل ولاءات بعض مشرِّعي حزب المؤتمر … وإسقاط وزارة حزب المؤتمر الجديدة».24
كان رئيس وزراء الولاية — وهو رجل حصيف حكيم يُدعى دي بي ميشرا — مستعِدًّا لذلك إلى حدٍّ بعيد؛ فقد عمل هو نفسه على استمالة المنشقين عن أحزاب أخرى؛ وكما كتب إلى رئيس حزب المؤتمر، كان عليه «فتح الباب أمام كل من يرغب في الانضمام إلى الحزب».25 إلا أنَّ الراجماتا نجحت في النهاية، عندما نجح أحد الأعضاء البارزين المنشقين عن حزب المؤتمر — جوفِند نارايَن سينج — في إقناع ثمانية وعشرين عضوًا آخر في ترك الحزب معه. وقبل التصويت الحاسم في المجلس التشريعي، أبقى سينج أتباعه معزولين في منزله الخاص، حارسًا إياهم ببندقية، لئلا يُختَطَف أحدهم أو يغويه أحد بتركهم.
وإذ لم تكن حكومة حزب المشرعين المتحدين واثقة من طول مدة حكمها، كان عليها أن تستفيد بكل يوم، أو كل أمر؛ فحدَّد الوزراء رسومًا للموافقة على نقل المسئولين أو وقفهم. ومن ثم «كانت الأوامر — لا سيما أوامر النقل — تَصْدُر وتُلْغَى بسرعة مُرْبِكة». وكالمعتاد كان حزب جانا سانج يرغب في وزارة التعليم، حتى «يتسنَّى بناء هيكل دائم من التابعين من خلال المدارس الابتدائية». وحصل في نهاية المطاف على وزارة الداخلية. وفيها حافظ على السلام الطائفي بتحجيم أتباعه، وإن كان حَرِصَ كل الحِرص على «التأكد من عدم شغل مسلم لأي منصب مهم في أي إدارة».26

على الرغم من الانشقاقات وما أسفرت عنه من فساد، كان ما حدث بعد انتخابات عام ١٩٦٧ مثلما سمَّاه إي بي دبليو دا كوستا بالفعل: الثورة السلمية الثانية للهند؛ فقد كان بإمكان المرء آنذاك أن يستقلَّ قطارًا من نيودلهي إلى كلكتا، حيث يقطع مسافة ألف ميل في قلب الهند، دون أنْ يَمُرَّ بولاية واحدة يحكمها حزب المؤتمر.

٦

جلبت أواخر ستينيات القرن العشرين تأكيدات جديدة على النعرات الإقليمية؛ فالأجزاء التي كانت تنتمي لولاية حيدر أباد القديمة، ثم اندمجت في ولاية أندرا براديش عام ١٩٥٦، أصبحت ترغب في الانفصال عنها. قاد تلك الحركة طُلاب الجامعة العثمانية، الذين شَكُوا أنَّ أندرا أصبحت تُدار لمصلحة النخبة الساحلية؛ فكان المفترض أن تتركَّز الولاية الجديدة التي طالبوا بها — وأرادوا تسميتها تيلانجانا — حول المناطق الداخلية المُهْمَلة. وكان من المفترض أن تصير حيدر أباد عاصمة لها؛ فانطلقت دعوات الإضرابات والمسيرات، وأُوقِفَت القطارات، وصدرت اتهامات متعلقة ﺑ «الاحتلال الأندري» و«ظلم الشرطة».27
في الجهة المقابلة من البلاد، كان ثمة ولاية جديدة اقْتُطِعَت في الواقع من المناطق القبلية لآسام. وكان للحركة الانفصالية هناك تاريخ طويل؛ فقد تشكَّل اتحاد قبائل شرق الهند عام ١٩٥٥ لكي يُمَثِّل ساكني جبال خاسي وجاينتيا وجارو. وبعد مرور خمسة أعوام أُعِيدَ تسميته ليصبح «مؤتمر زعماء الجبال لعموم الأحزاب». وفي انتخابات عام ١٩٦٧، مُنِيَ حزب المؤتمر بهزيمة نكراء في المناطق الجبلية على يد مؤتمر زعماء الجبال لعموم الأحزاب؛ فتلك التجربة — إلى جانب التَّخَوُّف من حدوث تمرُّد مثل حركتي ناجا وميزو — دفعا الحكومة المركزية إلى إنشاء مقاطعة جديدة في ديسمبر ١٩٦٩. وأُطْلِقَ على الولاية ميجالايا؛ أي «مثوى السحاب».28
وفي ذلك الوقت، في البنجاب، طَفِقَت ولاية قائمة تبحث عن عاصمة لها؛ فبعد تقسيم الولاية عام ١٩٦٦، مثَّلت تشانديجار عاصمة كل من البنجاب وهاريانا. وكان السيخ يؤمنون — عن حق — أنَّ المدينة ينبغي أن تُخَصَّص لهم، بل إن الحكومة المركزية أشارت إلى ذلك بالفعل. ومن ثَم راح البنجابيون يُلِحُّون على الحكومة حتى تفي بوعدها؛ فقامت تظاهرات شعبية طوال عامي ١٩٦٨ و١٩٦٩، وفي أكتوبر ١٩٦٩ تُوُفِّيَ المناضل المُخَضْرَم دَرشان سينج بيرومال عقب صوم عن الطعام بنية الضغط على نيودلهي لكي تُسَلِّم تشانديجار؛ فأصدرت رئيسة الوزراء مذكرة تعاطف مُهَدِّئة قالت فيها إنها تأمل أن «تُحَرِّك وفاة بيرومال شعب البنجاب وهاريانا صوب التقريب بين قلوبهم وأذهانهم في بادرة صُلح عظيمة».29

كان السيخ يريدون تشانديجار لهم وحدهم، وكذلك كان المهاراشتريون فيما يتعلق ببومباي. أُسِّسَ حزب جديد في بومباي، وسُمِّيَ شيف سِنا تَيَمُّنًا بالمحارب الماراثي شيفاجي من العصور الوسطى. من بعض النواحي كان ذلك الحزب استمرارًا لحركة ساميوكتا مهاراشترا ساميتي القديمة، وإن كان في هيئة أكثر تطرُّفًا؛ فعوضًا عن المطالبة بأن تكون «بومباي لمهاراشترا» أصبحت الدعوات تطالب بأن تكون «بومباي للمهاراشتريين». كان حزب شيف سِنا صنيعة يد رسَّام كاريكاتير يُدْعَى بال تاكري. كان هدف تاكري الرئيسي هنود الجنوب الذين زعم أنَّهم يسلبون أهل المنطقة وظائفهم. وقد سَخِرَ من «المَدراسيين» لابسي الْمِئْزَر في كتاباته ورسومه، بنيما هاجم أتباعه المطاعم الأودوبية ومنازل متحدثي التاميلية والتيلوجوية. وتَمَثَّلَ هدف آخر في الشيوعيين، الذين سعى حزب شيف سِنا إلى تقويض سيطرتهم على اتحادات عمال النسيج في المدينة بعقد صفقات مع الإدارات.

كانت بومباي هي مدينة الهند الأولى؛ إذ كانت عاصمتها المالية والصناعية، ومركز صناعة الترفيه فيها. وفي تلك المدينة شديدة التعددية في جنسياتها وثقافاتها، أثبتت الأجندة القومية نجاحًا غير متوقع، واجتذبت المتعلِّمين العاطلين عن العمل بصفة خاصة؛ ففي عام ١٩٦٨، رَبِحَ حزب شيف سِنا اثنين وأربعين مقعدًا في انتخابات بومباي البلدية، ليأتي في المرتبة الثانية بعد حزب المؤتمر مباشرةً.30
صاحبت دعوات زيادة الاستقلال في قلب الهند هذه تقلُّبات في محيطها الخارجي، تردَّدت في أوساط جماعات وزعماء هم في الأساس لم يقتنعوا تمامًا بفكرة انتمائهم إلى الهند قط؛ ففي مارس ١٩٦٨ أُطْلِقَ سراح الشيخ عبد الله من الإقامة الجبرية في كودايكانال، وسُمِحَ له بالعودة إلى الوادي الذي ينتمي إليه. كان ذلك بعد عام من انتخابات ١٩٦٧، التي لم تكن في حقيقة الأمر حرة ونزيهة، في كشمير على الأقل؛ ففي اثنتين وعشرين دائرة انتخابية من أصل خمس وسبعين، عاد مرشحو حزب المؤتمر إلى مناصبهم بالتزكية، عندما رُفِضَت أوراق ترشيح خصومهم.31 ثم استجابت إنديرا غاندي لنصائح مستشاريها بالإفراج عن عبد الله؛ فحسب معلوماتهم، كان الشيخ في سبيله إلى «تكييف نفسه تدريجيًّا» مع حقيقة أنَّ انضمام كشمير إلى الهند مسألة لا رجوع فيها.32
وكما عام ١٩٦٤، عاد «أسد كشمير» إلى موطنه ليلقى استقبال الأبطال، حيث استقلَّ سيارة جيب مكشوفة إلى الوادي، وتلقَّى أطواق الزهور من محبيه الذين اصطفُّوا على الطريق لتحيَّته، وتشير التقديرات إلى أنَّ ٥٠٠ ألف شخص حضروا لاستقباله. وكما كان الحال دائمًا، كانت تصريحاته عُرضة للتأويلات المتعددة؛ فقد قال في أحد الأماكن إنَّه سوف يناقش «جميع الاحتمالات» مع الحكومة الهندية، وفي مكان آخر قال إنه لن يتنازل أبدًا عن «حق الكشميريين في تقرير مصيرهم». وقدَّم لصحيفة بريطانية حلًّا ثلاثيَّ الجوانب، تمثَّل في الآتي: أن تتبع جامو الهند وتتبع آزاد كشمير باكستان، بينما يُوضَع الوادي — نقطة الخلاف الحقيقية — تحت وصاية الأمم المتحدة لمدة خمسة أعوام، يُجْرَى بعدها تصويت لتحديد إن كان سوف ينضم إلى الهند أم باكستان أم يستقلُّ. وعلى الرغم من آراء الشيخ الملتبسة في مجال السياسة، فقد كان — كعادته — واضحًا في دفاعه عن العلمانية؛ فعندما هدَّد نزاع بين طلبة بالتصاعد إلى حد اندلاع أعمال شغب بين الهندوس والمسلمين، هدَّأ عبد الله الطلبة، ثم سار في شوارع المدينة القديمة حاثًّا الجميع على الهدوء. ودفع أعوانه إلى قطع عهد بأنَّهم «مستعدون للتضحية بدمائهم في سبيل حماية حياة الأقليات في كشمير وشرفهم وممتلكاتهم».33
وفي الوقت نفسه كان المتمردون في ناجالاند يسعون وراء حل جديد أيضًا. وبوجود فيزو في لندن، انتقلت دفة قيادة الحركة إلى راديكاليين أصغر منه سِنًّا، من قبيل إيساك سو وتي مويفا. وفي حين أنَّ فيزو اعترض على طلب العون من الصين الشيوعية — نظرًا لعدائيتها إزاء الديانة المسيحية — فهؤلاء الرجال لم يكن لديهم مثل تلك الموانع؛ فقد وردت تقارير تفيد بأنَّ ١٠٠٠ شخص من قبائل ناجا عَبَروا الحدود إلى يونان الصينية عن طريق بورما، للحصول على المدافع الآلية ومدافع الهاون وقاذفات الصواريخ الصينية، بالإضافة إلى إرشادات استخدامها. وفي ناجالاند، وقعت اشتباكات حادة بين الجيش الهندي والمتمردين.34
كان من مؤيدي التحالف مع بكين ديفيد أستور مالك صحيفة «ذي أوبزرفر»، الذي دعم قضية قبائل ناجا كثيرًا. وقد تنبأ بأنَّ ناجالاند سوف تتبع مسار أيرلندا، حيث منحت الحكومة الاستعمارية الاستقلال على مضض للجزء الجنوبي من الجزيرة. وبما أنَّ قبائل ناجا كانت عنيدة كالأيرلنديين، فقد رأى أستور أنها «يمكنها الآن أن تستغل القوة التي سوف يمدُّها بها دعم الصين … لكي تنجح في البقاء». وكان يأمل في أن «تُوَضِّح الأصوات البريطانية الصديقة لدلهي أهمية الدرس الذي اضْطُرِرْنا إلى تَعَلُّمه عندما واجهنا تحديًا مشابهًا من جانب الأيرلنديين».35 وكانت تلك النصيحة مبنيةً على استهانة خطيرة — إن لم تكن مأساوية — بقوة الدولة الهندية.

٧

من المثير للانزعاج أنَّ ستينيات القرن العشرين جلبت أيضًا تصاعدًا في وتيرة العنف بين الهندوس والمسلمين؛ فوفقًا للأرقام الصادرة عن مجلس التكامل الوطني، وقعت ١٣٢ واقعة عنف طائفي عام ١٩٦٦، و٢٢٠ واقعة عام ١٩٦٧، و٣٤٦ واقعة عام ١٩٦٨ (استمرَّ الاتجاه المتنامي طوال عَامَيْ ١٩٦٩ و١٩٧٠). وكثيرًا ما كانت تلك النزاعات تنشأ في الأصل عن خلافات تافهة، مثل عزف الموسيقى أمام مسجد، أو ذبح بقرة بالقرب من معبد. وأحيانًا كانت المتاعب تبدأ باعتداءات على نساء أو مشاجرات على ملكية. وكان أكبر عدد من الوقائع في ولايتي بيهار وأوتَّر براديش.36
كان أحد أسباب نوبة العنف تلك هو ضعف حكومات الولايات. وكانت أكثرها استحقاقًا للوم هي حكومات حزب المشرعين المتحدين، التي كانت مترددة بصدد استخدام القوة لوقف أعمال الشغب أو مرتكبيها. وتَمَثَّل سبب آخر في أنَّه عقب حرب عام ١٩٦٥، كانت المشاعر المعادية لباكستان متأجِّجة. وكان من اليسير تحويلها ضد المسلمين الهنود، الذين اعْتُبِروا (ظُلمًا) طابورًا خامسًا يعمل لصالح العدو. وكان الهندوس الذين يستلهمون مواقفهم من حزب جانا سانج ميَّالين بصفة خاصة لتوجيه مثل تلك الإهانات الساخرة للمسلمين؛ فعندما يشبُّ نزاع، يضيف الهندوس إلى الشعارين الدينيين القديمين المتقابلين — «هار مهاديف» (كلنا شيفا) و«الله أكبر» — شعارًا جديدًا، هو: «باكستان يا قبرستان» (إما أن تذهبوا إلى باكستان أو نرسلكم إلى قبوركم).37
وقع أحد أسوأ أعمال الشغب في مدينة الله أباد، المدينة الجوجاراتية التي كانت يومًا موطن المهاتما غاندي. ومن قبيل المفارقة أنَّ الشغب حدث عشية ذكرى مولد غاندي المائة، ومن ثم كانت مصدر إحراج للحكومة، التي كانت خطَّطت لاحتفال مهيب، تأتي كبار الشخصيات لحضوره من جميع أنحاء العالم؛ ففي يوم ١٢ سبتمبر من عام ١٩٦٩، التقت مسيرة لإحياء ذكرى أحد الأولياء المسلمين بجماعة من المتصوفين الهندوس (السادهو) في طريق عودتهم إلى المعبد مصطحبين معهم أبقارًا؛ فدارت مُشادة كلامية بين الطرفين، دخل بعض الشباب المسلمين على إثرها المعبد وحطَّموا بضعة تماثيل. ذهب وفد من المسلمين — بقيادة محامٍ محترم — على الفور للاعتذار، ولكنَّهم عجزوا عن استرضاء الكهنة. وإذ ذاع خبر تدنيس المعبد، بدأت حشود الهندوس تتجمَّع، باحثةً عن أهدافٍ تهاجمها. فحُرِقَت مصاحف في إحدى المناطق، وهُوجِمَت متاجر المسلمين في أخرى. ورَدَّ عليهم المسلمون، فانتشرت الاضْطِرابات في أنحاء المدينة ووصلت في نهاية المطاف إلى مدن قريبة من أحمد أباد. وإذ وقفت الشرطة مكتوفة الأيدي، راحت العصابات تتقاتل في الشوارع الضيقة للمدينة القديمة. وبعد أسبوع من القتال، اسْتُدْعِيَ الجيش لإعادة السلام في الأنحاء؛ فكانت حصيلة الأحداث مقتل أكثر من ألف شخص وتشريد ٣٠ ألفًا. وكان معظم القتلى والمشرَّدين من المسلمين.38
وقعت أعمال شغب خطيرة في رانتشي ببيهار في صيف عام ١٩٦٧، وأعمال شغب سيئة في جلجاون بمهاراشترا، بعد ثلاثة أعوام. وفي الفترة التي تخلَّلت الحدثين شَهِدَ عدد كبير من المدن الأخرى في شمال الهند وغربها عنفًا طائفيًّا. وأشار الكاتب كُشوانت سينج إلى أنَّ المراهق الهندي صار يتعلَّم جغرافية بلده من خلال تاريخ القتل؛ فعليكرة ورانتشي وأحمد أباد لم تَعُدْ مراكز للتعلُّم أو الثقافة أو الصناعة، وإنما أماكن اقترف فيها الهنود مجازر بعضهم في حق بعض باسم الدين. وكما أشار سينج، ففي أعمال الشغب تلك «تسعة أعشار القتلى كانوا من المسلمين. وتسعة أعشار المنازل والمؤسسات التجارية المُدَمَّرة كانت لمسلمين». وكانت أغلبية من شُرِّدوا وقُبِضَ عليهم من المسلمين أيضًا. ثم تساءل سينج: «هل لنا أن نعجب من أنَّ الهندي المسلم لم يعد يشعر بالأمان في الهند العلمانية؟ إنه يشعر بالاضطهاد، وبأنه مواطن من الدرجة الثانية.»39
في ١٩٦٧-١٩٦٨، عندما تصاعدت حدة المشاعر الطائفية، كان رئيس الهند مسلمًا (الدكتور ذاكر حسين) وكذلك رئيس المحكمة العليا (محمد هداية الله). إلا أنهما — كما أشارت مجلة في دلهي — لم يمثلا بأي حال «وضع المسلمين في الحياة الهندية بصفة عامة»؛ فقد كان تمثيل المسلمين منخفضًا للغاية في المِهَن من قبيل الهندسة والطب، وفي مجالات الصناعة والتجارة والقوات المسلحة. كان ذلك الوضع يُعزَى في جزء منه إلى فرار الطائفة العليا من المسلمين إلى باكستان، إلا أنَّ الاضطهاد الاجتماعي الخفي أسهمَ فيه أيضًا. وقد كان المسلمون راسخين في دعمهم لحزب المؤتمر، ولكنهم في انتخابات عام ١٩٦٧ صوَّتوا بأعداد كبيرة لأحزاب أخرى، تعبيرًا عن خيبة أملهم فيه. وكانت معضلة المسلمين نِتاج التعصُّب والسياسات الطائفية من جانب الهندوس، والقيادة الْمُعَوِّقَة من جانبهم.40

٨

من وجهة نظر المؤرخين، تحمل أواخر ستينيات القرن العشرين شبهًا بأواخر أربعينياته؛ فقد كانت مثلها فترة أزمات وصراعات، وسخط طبقي وديني وعِرقي وإقليمي، وحكومة مركزية تبدو متماسكة بالكاد. وإنني لأتساءل إن كانت أوجه الشبه تلك قد تراءت للهنود المعاصرين لتلك الفترة: لشاغلي مقاعد السلطة تحديدًا، ورئيسة الوزراء في المقام الأول.

لم تكن أوجه الشبه قائمة على المستوى الوطني أو الاجتماعي فحسب، وإنما على المستوى العائلي أيضًا؛ فعندما كان الراج البريطاني في النزع الأخير، تولَّى نهرو رئاسة وزارة حكومة مؤقتة عام ١٩٤٦. وفي العام التالي، عندما استقلَّت الهند، اكتسب منصبه مزيدًا من الأهمية. وكذلك إنديرا غاندي أُقْحِمَت في السلطة بغتة عام ١٩٦٦، وفي العام التالي، تأكَّدت وظيفتها على نحو رسمي، عندما قادت حزبها إلى الفوز في الانتخابات. ومثل نهرو، كانت مسيطرة على مقاليد الأمور في دلهي. ومثله أيضًا لم تستطع التأكُّد من مدى النطاق الذي بلغته سيطرة حكومتها خارج دلهي. وكلاهما اضْطُرَّ للتعامل مع تمرُّد شيوعي وصراعات طائفية. وقد واجهته، زيادةً عنها، مشكلة الولايات الأميرية، بينما واجهت هي مشكلة وجود نحو ١٢ حكومة معارضة لحزب المؤتمر في الولايات.

وهنا انتهت أوجه التشابه؛ ففي إطار سعي نهرو إلى توحيد الهند المقسَّمة، صاغ أيديولوجية ارتكزت على أربعة أعمدة رئيسية؛ أولًا: الديمقراطية، بمعنى حرية اختيار المرء لصديقه والبوح بمكنونات صدره (وباللغة التي يختارها)، والأهم من ذلك كله: حرية اختيار المرء لقادته من خلال انتخابات دورية قائمة على حق التصويت لجميع البالغين. وثانيًا: العلمانية، بمعنى حيادية الدولة في مسائل الدين، والتزامها بالحفاظ على السلام المجتمعي. ثالثًا: الاشتراكية، بمعنى محاولة زيادة الإنتاجية مع محاولة التوزيع المتساوي للدخل (والفرص الاجتماعية). رابعًا: عدم الانحياز، بالنَّأْي بالهند عن خصومات القوى الكبرى. وكان من العناصر الأقل جاذبية — وإن لم يستتبع ذلك بالضرورة قلة أهميتها — التي اشتملت عليها تلك الرؤية العالمية: التنمية الواعية لنظام متعدد الأحزاب (من الجدير بالذكر أنَّ ذلك تم عن طريق النقاشات البرلمانية) واحترام استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية.

على الرغم من أنَّ تلك المعتقدات أُعِيدَت صياغتها في سياق الهند حديثة الاستقلال، فقد أخذت تتطور لأكثر من عشرين عامًا؛ فقد كان نهرو رجلًا واسع الاطِّلاع وكثير الأسفار. ومن خلال أسفاره وقراءاته، توصَّل إلى تركيبة من الاشتراكية والليبرالية ظنها ملائمة لبلده. بمعنى آخر، كانت المعتقدات السياسية التي أعرب عنها — ودعا شعب الهند إلى مشاركته فيها — نابعة منه.

أما في حالة إنديرا غاندي فلا يمكن للمرء التأكُّد؛ فهي لم تكن واسعة الاطلاع ولا كثيرة الأسفار. كانت وطنية بلا شك؛ إذ نشأت وترعرعت في كنف حركة التحرير، وشاركت قادتها التزامهم الراسخ بالحفاظ على مصالح الهند في العالم. أما الأمر الذي يُشك فيه، فكان رؤيتها للطريقة المثلى للحفاظ على تلك المصالح؛ فطوال الأعوام التي قضتها على الساحة السياسية، لم تكشف معتقداتها الأساسية لا لحزبها ولا لعامة الشعب؛ فهم لم يعرفوا رأيها الحقيقي في اقتصاد السوق، أو الحرب الباردة، أو العلاقات بين الأديان، أو مؤسسات الديمقراطية وعملياتها. تمتلئ المجلدات العديدة التي تضمنتها «الأعمال المختارة» لنهرو بكتاباته عن تلك الموضوعات، وهي الموضوعات التي لم تَبُح السيدة غاندي بكلمة بصددها قبل عام ١٩٦٧.

كانت رئيسة الوزراء معدومة الأيديولوجية — إن جاز التعبير — وهي سمة لم يشاركها فيها مستشاروها. كان كبير هؤلاء المستشارين هو سكرتيرها الأول، بي إن هاكسَر، الذي تلقى تعليمه في كلية لندن للاقتصاد ونال رخصة مزاولة مهنة المحاماة في المملكة المتحدة، قبل أن يعود لكي يمارس القانون في أحمد أباد. وعند الاستقلال، التحق بالخارجية الهندية، وأصبح سفير الهند لدى النمسا وأول مفوض سامي هندي لدى نيجيريا. وفي عام ١٩٦٧، كان نائب المفوض السامي في لندن، عندما طلبت منه السيدة غاندي الانضمام إلى طاقم مستشاريها؛ فقد اشتركت معه في مسقط رأسها وأصلها — إذ كان كلاهما من البانديت الكشميريين — وكان لديهما كثير من الأصدقاء المشتركين.

كان هاكسَر ذا معرفة موسوعية إلى حد ما؛ فقد كان دارسًا للرياضيات، وكذلك كان شديد الاهتمام بالتاريخ، لا سيما التاريخ الدبلوماسي والعسكري. وتضمنت مجالات اهتمامه الأخرى الأنثروبولوجيا — كان قد حضر حلقة دراسية لبرونيسلاف مالينوفسكي في كلية لندن للاقتصاد — والطعامَ (كان طاهيًا لا يُعلى عليه). كان هاكسَر عادةً ما يتفوق على أصدقائه وزملائه بسعة معرفته وقوة آرائه. إلا أنَّه في حالته لم تكن القوة الفكرية مقترنة بالضرورة بالفطنة الفكرية؛ فقد كانت آراؤه السياسية مماثلة لآراء الجناح اليساري في حزب العمل البريطاني نحو عام ١٩٤٥؛ فكان من أنصار الدولة وأعداء السوق في الشئون الاقتصادية، وكان مناصرًا للاتحاد السوفييتي ومعاديًا للولايات المتحدة في السياسة الخارجية. ويتحتم علينا القول إنه إضافةً إلى ذلك كان يتحلى بنزاهة لا تتزعزع.41
وهذا الكتاب يدين بفضل كبير إلى بي إن هاكسَر، الذي قدَّمت أوراقه — ٥٠٠ ملف كامل — نافذة مميزة على تاريخ عصره. إلا أنَّ رئيسة وزراء ذلك العصر كانت تدين له بالفضل بدرجة أكبر؛ فكما كتبت كاثرين فرانك: «إنديرا كانت تثق بذكاء هاكسَر ورجاحة عقله ثقةً تامة لا يشوبها شك؛ ففي الفترة من عام ١٩٦٧ إلى ١٩٧٣، كان هو الشخص الأكثر نفوذًا وقوةً في الحكومة على الأرجح.»42 وشارك هاكسَر نفوذه وقوته الدبلوماسي المتمرِّس تي إن كاول، والسياسي الذي تحول إلى دبلوماسي دي بي دهار، والاقتصادي الذي تحول إلى مسئول حكومي كبير بي إن دهار، والشرطي الذي أصبح محلِّلًا أمنيًّا آر إن كاو. وكانوا يُعرَفون مجتمعين (من وراء ظهورهم) بلقب «الإخوة باندافا الخمسة»، تَيَمُّنًا بالإخوة الخمسة الأبطال في ملحمة «مهابهاراتا». وكان من قبيل المصادفة أنهم جميعًا كانوا براهمة كشميريين. كذلك كان ثمة مجموعة خارجية من المستشارين، كانوا بالمثل مسئولين أو مفكرين عوضًا عن أن يكونوا سياسيين بمعنى الكلمة.

ولم يكن ذلك من قبيل المصادفة؛ فبدرجة أكبر من لال بهادور شاستري، كانت السيدة غاندي بحاجة إلى تأكيد استقلالها عن «نقابة» حزب المؤتمر التي اختارتها؛ فمن الناحية الاجتماعية لم يجمعها الكثير بزعماء الحزب؛ فقد كان أصدقاؤها ينتمون إلى وَسَط أكثر رُقِيًّا. وإضافةً إلى ذلك، لم يكن في وسعها أن تعرف على وجه التأكيد متى قد يحاول الزعماء إبعادها عن منصبها. ومن ثم أصبحت تعتمد على نصيحة كبار المسئولين الحكوميين في محيطها؛ فهم لم يكن لديهم طموحات سياسية شخصية، ولكنهم كان لديهم آراء سياسية، اعتنقتها هي أيضًا مع مرور الوقت لأسباب خاصة بها.

٩

بعد انتخابات عام ١٩٦٧ أوضح مورارجي ديساي مجددًا رغبته في أن يصبح رئيسًا للوزراء؛ فكان الحل الوسط الذي تم التوصُّل إليه هو جعله وزيرًا للمالية ونائبًا لرئيس الوزراء، وهو منصب لم يشغله أحد منذ وفاة فالابهاي باتيل.

أمام حصار النقابة وتهديد ديساي، سعت رئيسة الوزراء إلى تحديد هويتها الخاصة بتقديم نفسها على أنَّها اشتراكية، استجابةً لنصيحة بي إن هاكسَر؛ ففي مذكرة أَعَدَّها لها في يناير ١٩٦٨، نصحها بقَصِّ جناحي ديساي، ربما بتعيين «نائب» رئيس وزراء آخر أو اثنين. وإلى جانب اختيار رئيسة الوزراء وزراء موالين لها، كان عليها أيضًا تكوين «تحالفات تقدُّمية أوسع تحت قيادتها الشخصية الأكثر فاعلية». وتحقيقًا لهذا الغرض كانت بحاجة إلى «بث صورتها الأيديولوجية الخاصة بمزيد من القوة للناس مباشرةً، متجاوزةً زملاءها وأعضاء حزبها».43
كانت إنديرا غاندي نادرًا ما تذكر كلمة «اشتراكية» قبل عام ١٩٦٧، على الرغم من كونها أحد الأعمدة الأربعة التي ارتكزت عليها فلسفة والدها السياسية. ومن الجدير بالذكر أنَّها كانت العمود الذي نصبه بحماس مسئولوها الحكوميون. كان انجذابهم إليها سلبيًّا في جانب منه، نابعًا من نفور البراهمة من العمل التجاري ورجال الأعمال. إلا أنَّه كان ثمة توحُّد إيجابي أيضًا مع فكرة الاشتراكية؛ فقد كانوا يعتقدون أنَّ زيادة دور الدولة في الاقتصاد أمر ضروري لضمان المساواة الاجتماعية فضلًا عن تعزيز التكامل الوطني. وكتب أحدهم أنَّ القطاع العام يُمَثِّل «نموذجًا مُكَبَّرًا للهند الموحَّدة». ففي القطاع الخاص، كان البنجابيون يُوظِّفون البنجابيين، والمارواريون لا يثقون إلا بالمارواريين، ولكن في السكك الحديدية الهندية وفي مصانع الصلب الضخمة كان التاميليون يعملون إلى جانب البيهاريين، والهندوس مع المسلمين، والبراهمة مع الهاريجان؛ فسواء كانت الاشتراكية قابلة للتطبيق اقتصاديًّا أم لا، فقد كانت «ضرورة اجتماعية». فكانت «الاشتراكية والقطاع العام الكبير … سلاحين فعَّالين لتشكيل هند متحدة ومتكاملة».44
اتسمت اشتراكية بي إن هاكسَر وزملائه بجوهر أخلاقي قوي. إلا أنَّ جاذبيتها بالنسبة إلى رئيسة الوزراء كانت براجماتية؛ إذ مثَّلت وسيلة لتمييز نفسها عن الحرس القديم في حزب المؤتمر. وفي مايو ١٩٦٧ قدَّمت برنامجًا من عشر نقاط للإصلاح إلى الحزب: تضمَّن «الرقابة الاجتماعية» على البنوك، وإلغاء مخصَّصات الأمراء من الخزانة، وكفالة حد أدنى من الأجور للعمالة الزراعية والصناعية. لم تبدِ النقابة حماسًا لبرنامج الإصلاح، ولكن البرنامج حَظِيَ بإعجاب الجيل الأصغر سِنًّا، الذين ارْتَأَوْا في الانتكاسات الأخيرة التي تعرض لها الحزب عاقبةً لعدم وفائه بعهوده على مَرِّ السنين.45
وقد أعربت السيدة غاندي صراحةً في خُطَب ألقتها بعد إعادة انتخابها عن اهتمامها الشديد بالفقراء والمهمَّشين. وإذ تحدثت أمام مجلس الشعب الهندي في فبراير ١٩٦٨، شَدَّدَت على مشكلات العمالة غير المالكة لأراضٍ، وأعربت عن «قلق إزاء أقليات الهند كافة»، ودافعت عن القطاع العام في وجه انتقاده بأنَّه لا يحقق رِبحًا (كان ردُّها أنَّه لا حاجة به إلى تحقيق مكاسب، بما أنه يُشَيِّد قاعدةً للنمو الاقتصادي). وفي حديث موجَّه إلى مجلس الولايات في أغسطس، طالبت بإبرام «صفقة جديدة للمقهورين»، ولا سيما الطوائف الْمُجَدْوَلَة والقبائل الْمُجَدْوَلَة، وتعهَّدت بإيلاء «اهتمام وجهد متواصلين في سبيل هذه القضية». وبعد بضعة أيام، في الخطاب الذي ألقته بمناسبة عيد الاستقلال من فوق أسوار القلعة الحمراء، اختصَّت بالذِّكر «رجال الصناعة ورجال الأعمال» الذين واتتهم جرأة الحديث عن العمال غير المنضبطين مع استمرارهم في «تحقيق أرباح كبيرة وتقاضي رواتب ضخمة».46
لقيت تلك الرؤى صدًى لدى من يُدْعَون «الشباب المتمرِّدين» في حزب المؤتمر، الذين كونوا فصيلًا اشتراكيًّا داخل الحزب. واستخدموا المنبر البرلماني لطرح أسئلة محرِجة على أكثر الوزراء محافظَة. ووجَّه أحد هؤلاء الشباب — تشاندرا شيكار — اتهامات بالفساد ضد كانتي، ابن مورارجي ديساي. وألمح أيضًا إلى أنَّ وزير المالية أصدر تراخيص على نحو مخالف إلى إحدى المؤسسات الصناعية الكبيرة. واعتُقِد أنَّه كان يتحدث بالوكالة عن رئيسة الوزراء، وعلى أي حال، فقد امتنعت عن توبيخه على اتهاماته.47
كتب أحد مدوني السيرة الذاتية للسيدة غاندي أنها خلال عامي ١٩٦٨ و١٩٦٩ كانت «زعيمة محبطة؛ فهي لم تكن قوية بما يكفي لتحدي تنظيم حزب المؤتمر، ولا كانت مندفِعة بما يكفي للاستقالة».48 ثم واتتها الفرصة في صيف ١٩٦٩، عندما تُوُفِّيَ الدكتور ذاكر حسين في منتصف فترة رئاسته للجمهورية. كانت النقابة ترغب في الاستعاضة عنه بأحد رجالها؛ إن سانجيفا ريدِّي، رئيس سابق لمجلس الشعب ورئيس وزراء ولاية أندرا براديش سابقًا. إلا أنَّ السيدة غاندي آثرت نائب الرئيس؛ في في جيري، زعيم عُمَّالي ربطتها به علاقة طيبة جدًّا.
وفي الأسبوع الأول من يوليو ١٩٦٩، اجتمعت لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند في بنجالور. وقبل توجُّه رئيسة الوزراء إلى ذلك الاجتماع، يبدو أنَّ بي إن هاكسَر أخبرها أنَّ «السبيل الأمثل لكسر شوكة النقابة هو تحويل الصراع على السلطة الشخصية إلى صراع أيديولوجي».49 ففي بنجالور، أبدت السيدة غاندي صراحةً انحيازها إلى صف جناح الشباب المتمردين باقتراحها التأميم الفوري للبنوك الكبرى. وعارضت كذلك ترشيح سانجيفا ريدِّي لرئاسة الجمهورية، ولكن اعتراضها رُفِضَ بأغلبية اللجنة العاملة.
وعند عودة السيدة غاندي إلى دلهي، أعفت مورارجي ديساي من وزارة المالية؛ فقد كان معروفًا بمعارضته تأميم البنوك، وقال للبرلمان ذات مرة إنَّ ذلك من شأنه أنْ «يُمَثِّل عبئًا بالغًا على الموارد الإدارية للحكومة دون التطرُّق للمشكلات الأساسية». وكان ديساي يعتقد أنَّ سيطرة الدولة على البنوك من شأنه أن يخفض الموارد المتاحة للنمو الاقتصادي ويزيد البيروقراطية والروتين الحكومي.50
بعد إعفاء ديساي من وزارة المالية، أصدرت السيدة غاندي مرسومًا ينص على تولِّي الدولة إدارة أربعة عشر بنكًا خاصًّا. وبرَّرت تلك الخطوة عبر إذاعة «أول إنديا راديو» قائلةً إنَّ الهند «دولة عريقة ولكنها ديمقراطية شابة، عليها أن تظل يقظة دائمًا لكي تَحُول دون سيطرة قلة على النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي». وكان ذلك يستلزم «ألا تخضع البنوك الكبرى للرقابة الاجتماعية فحسب وإنما للملكية العامة أيضًا»، حتى يتسنَّى تقديمها الائتمان لا إلى الشركات الكبرى فحسب وإنما إلى «ملايين المزارعين والحرفيين وغيرهم من أصحاب المهن الحرة».51
وادَّعَت رئيسة الوزراء في بيان للصحافة أنَّه كان ثمة «تأييد كبير في أنحاء البلاد» للتأميم؛ فقد حَظِيَ بتأييد ٩٥٪ من الناس، بينما لم تعارضه سوى الصحف الكبيرة التي تُمَثِّل مصالح رجال الأعمال. إلا أنَّ مجلة «ثوت» الأسبوعية الصغيرة المستقلة أشارت إلى أنَّ ذلك قد يكون مَسْعًى شخصيًّا مُتَدَثِّرًا بثياب معركة أيديولوجية؛ فالسيدة غاندي «اختارت أن تتبنى موقفًا راديكاليًّا فجأة كخطوة تكتيكية في إطار سعيها الشخصي إلى السيطرة داخل حزب المؤتمر». وأضافت المجلة أنها تأمل الآن في «إظهار نفسها في صورة الشخصية القومية التي لا تحتاج إلى حزب المؤتمر بقدر حاجته هو إليها».52
قُدِّم طعن على قرار تأميم البنوك في المحكمة العليا، حيث أُقِرَّ بصحته، ولكن حكم المحكمة أُبْطِل على الفور بإصدار الحكومة مرسومًا جديدًا، مُوَقَّعًا من رئيس الجمهورية هذه المرة. وخلال الأشهر الستة الأولى من سيطرة الدولة على قطاع البنوك، شَهِدَ القطاع توسُّعًا هائلًا؛ حيث افتُتِح ١١٠٠ فرع جديد، نسبة كبيرة منهم في مناطق ريفية نائية لم تصلها خدمة الائتمان الرسمي مسبقًا قط.53

١٠

تحوَّل الانتباه آنذاك إلى انتخاب رئيس جديد، وهي العملية التي تتم بتصويت جميع أعضاء البرلمان والمجالس التشريعية للولايات. كان المرشح الرسمي لحزب المؤتمر هو سانجيفا ريدِّي. وقرَّر في في جيري أن يترشح كمستقل. ورشحَّت المعارضة سي دي دشموك، موظف الخدمة المدنية والوزير الاتحادي السابق. وفي انتهاك للممارسات الحزبية والانضباط الحزبي، قرَّرت رئيسة الوزراء دعم في في جيري. لم يُعلَن ذلك القرار على الملأ، ولكنه نُقِل إلى أتباعها، الذين طافوا بالأعضاء الأصغر سنًّا في حزب المؤتمر طالبين منهم التصويت لصالح جيري. آنذاك ألَحَّ رئيس حزب المؤتمر — إس نيجالِنجابَّا — على رئيسة الوزراء لكي تصدر إعلانًا رسميًّا بدعم ريدِّي. وعندما رفضت، تحدَّث إلى زعماء حزبي جانا سانج وسواتنترا، طالبًا إليهم تحويل ولائهم من سوبَّا راو إلى ريدِّي؛ فاستغل معسكر السيدة غاندي هذه الخطوة، مُتَّهِمًا نيجالِنجابَّا بمخالطة العدو، و«قدَّم طلبًا رسميًّا» بعقد اجتماع للجنة حزب المؤتمر لعموم الهند، لكنه قوبِل بالرفض.

قبل الانتخابات الرئاسية — التي كان من المُزْمَع عقدُها في ٢٠ أغسطس ١٩٦٩ — بأربعة أيام، تحدَّثت السيدة غاندي أخيرًا؛ فطلبت «تصويت الضمير». وكانت تلك دعوة لأعضاء حزب المؤتمر لكي يتحدَّوا المنظومة التي يتبعونها ويُصَوِّتوا للمرشح المنافس. وكان ذلك ما فعلوه، بأعداد كبيرة. صَوَّتَ كثير من أعضاء الحزب القدامى لصالح ريدِّي، ولكن في نهاية المطاف فاز جيري، في الجولة الثانية؛ فآنذاك بدأت مراسلات مريرة بين رئيس حزب المؤتمر ورئيسة الوزراء. وأخيرًا، في يوم ١٢ نوفمبر، فُصِلَت السيدة غاندي من حزب المؤتمر بدعوى «عدم الانضباط». بحلول ذلك الوقت كان كثير من نواب البرلمان قد انحازوا إلى صفها؛ ففي ديسمبر، أُقيمت جلستان متنافستان لحزب المؤتمر؛ حيث انعقدت جلسة الحزب الأصلي في أحمد أباد، بينما انعقدت جلسة منافسه في بومباي. وأصبح هذان الحزبان يُعرفان بحزب المؤتمر «أوه» وحزب المؤتمر «آر». وقِيلَ إن الحرفين يرمزان إلى لفظتي Organization وRequisitionist؛ أو «التنظيمي» و«المُطالِب». وفي رؤية أخرى، رمزا إلى لفظتي Old وReform؛ أو «القديم» و«الإصلاحي».54
عند فصل السيدة غاندي من حزب المؤتمر، اتهمها نيجالِنجابَّا بتشجيع عبادة الشخصية، والترويج لنفسها مع تجاوز الحزب والأُمَّة. وأشار إلى أنَّ تاريخ القرن العشرين:
حافِل بنماذج المآسي التي تَحِلُّ بالديمقراطية عندما يسقط زعيم، بلغ سُدَّة الحكم معتليًا موجة شعبية أو بدعم منظمة ديمقراطية، ضحية النرجسية السياسية ويتلقى تشجيعًا من زمرة من المُتَزَلِّفين المُجَرَّدين من المبادئ الذين يستخدمون الفساد والإرهاب لتكميم أفواه المعارضة ومحاولة جعل الرأي العام صدًى للسلطة. وحزب المؤتمر بوصفه تنظيمًا مُكَرَّسًا للديمقراطية والاشتراكية عليه محاربة مثل هذه الاتجاهات.55
قضى نيجالِنجابَّا عمره كله عضوًا في حزب المؤتمر: كان رجلًا من أصل ريفي انضمَّ إلى حركة التحرير وهو شابٌّ يافع؛ فكان هو مؤسس الحزب في ميسور، وخدم بعد ذلك ثلاث فترات في منصب رئيس وزراء تلك الولاية؛56 فلم يكن ثمة شك في التزامه تجاه الحزب والديمقراطية. لكن «الاشتراكية» كانت أمرًا آخر؛ فحركة تأميم البنوك عضَّدت ادِّعاء غريمته اعتناقها الاشتراكية، بينما أضعفت محاولة نيجالِنجابَّا استمالة حزبي جانا سانج وسواتنترا ادعاءه هو. وتَكَرَّس ذلك التناقض باطِّراد في الخُطَب التي ألقتها السيدة غاندي والرسائل التي حملت اسمها، وإن كانتا في الواقع صنيعة أيدي بي إن هاكسَر وزملائه. وفيها قُدِّمَت رئيسة الوزراء في صورة معتنِقة الاشتراكية في الاقتصاد والعلمانية في أمور الدين، ونصيرة الفقراء وتنمية الدولة ككُل. وفي المقابل قِيلَ إنَّ رئيس الحزب كان يشجع الرأسمالية في الاقتصاد والنزعة الطائفية في الدين.57
كُلِّلَ ذلك العرض بنجاح ملحوظ؛ فمن بين ٧٠٥ أعضاء في لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند، حضر ٤٤٦ جلسة حزب المؤتمر «آر»، ومن بين ٤٢٩ نائبًا برلمانيًّا من حزب المؤتمر (في المجلسين)، انضم ٣١٠ إلى معسكر رئيسة الوزراء. كان مائتان وعشرون عضوًا منهم نوابًا في مجلس الولايات؛ فكان حزب المؤتمر «آر» يحتاج إلى خمسة وأربعين مقعدًا للوصول إلى أغلبية؛ فتحوَّل إلى النواب المستقلين والحزب الشيوعي الهندي لسد الفجوة. وقد سَعِدَ الحزب الشيوعي الهندي بالانضمام إليه؛ إِذِ ارْتَأَى في تحول السيدة غاندي إلى اليسار فرصة لتوسيع نفوذه. وفي أغسطس ١٩٦٩، كتب صحفي مؤثر من المُقَرَّبين إلى الحزب الشيوعي الهندي، مُعلِّقًا على المعركة الدائرة داخل حزب المؤتمر: «لقد مُزِّقَت مزاعم النقابة إرَبًا. وثمة مدٌّ في شئون الدولة كمد البحر.» وأضاف: «وليس ثمة شك يُذكَر في أنَّ السيدة إنديرا غاندي تغتنم الفرصة في عنفوانها … فالمد يرمز إلى الجماهير المتحمسة من مختلف مناحي الحياة الذين يتوافدون إلى منزل رئيسة الوزراء كل يوم. هذا ليس مجرد ولع عادي بالنظر إلى وجه جميل، وإنما هم يُمَثِّلون تأكيدًا جديدًا لقوة الشعب.» ثم أعرب الصحفي عن تطلُّعه قُدُمًا إلى «إعمال أجندة اقتصادية راديكالية واتخاذ موقف حازم من الطائفية».58
في موقف مشابه، في الفترة ما بين ١٩٥٠–١٩٥٢، انتظر جواهر لال نهرو الوقت المناسب؛ فعندما واجهه التحدي المحافظ من جانب تندن وشركائه، عمل مع الحزب على تنفيذ رغبته عوضًا عن تقسيمه. ولكن الآن، مثلما قال أحد المراقبين المطَّلِعين، السيدة غاندي «أظهرت خروجًا غريبًا على تقاليد حزب المؤتمر». فعلى النقيض من النهج التصاعدي التدريجي لنهرو وشاستري، «مثَّلت هي نموذجًا قاسيًا جديدًا؛ فقد أذهلت الناس ببراعتها في التقييم البارد، واختيارها الحصيف للتوقيت، وأدائها الدرامي الغني بالدلالات، وفوق هذا كله قدرتها على القتال حتى النهاية، حتى إلى حد إحداث صَدْع في الحزب ذي الرابعة والثمانين عامًا».59

١١

بعد تأميم البنوك، تحوَّلت السيدة غاندي إلى إلغاء امتيازات الأمراء؛ فعندما دُمِجَت ولايات هؤلاء الأمراء في الاتحاد الهندي، أُعطوا ضمانة دستورية بأنَّهم سوف يحتفظون بألقابهم وجواهرهم وقصورهم، وسوف يتقاضون مُخصَّصات سنوية متناسبة مع حجم ولاياتهم، ويُعفَون من الضرائب المركزية ورسوم الاستيراد؛ ففي ظل وجود عدد كبير جدًّا من الهنود بهذه الدرجة من الفقر، استُشعِر أنَّ تلك الامتيازات صارت «غير مناسبة لا للمكان ولا الزمان»، بحسب تعبير بي إن هاكسَر، ولكنها حَظِيَت بتأييد واسع النطاق من داخل دائرة معارفه وخارجها.60
منذ يوليو ١٩٦٧، مرَّرت لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند قرارًا طالَب بإلغاء الألقاب والمخصَّصات السنوية. وأعدَّت وزارة الداخلية مذكرة مفصَّلة، موصيةً باتخاذ إجراء تشريعي لا تنفيذي في هذا الصدد؛ فطُلِبَ إلى وزير الداخلية — واي بي تشافان — بدء المفاوضات مع الأمراء، الذين مثَّلهم في تلك المحادثات المهراجا درانجادرا. وكان يُؤْمَل أن يكون الأمراء متقبِّلين للتغيير، وإلا وجب تمرير تعديل دستوري.61
عقد تشافان والمهراجا عدة اجتماعات مطوَّلة عام ١٩٦٨، ولكن دون التوصل إلى تسوية. وعلى أي حال فإن الصراع على السلطة داخل حزب المؤتمر استبعد اتِّخاذ أي إجراء متسرِّع؛ فكثير من أعضاء البرلمان كانوا إما أمراء أو خاضعين لسيطرة أمراء، وكانت أصوات أولئك الأعضاء لازمة من أجل إنجاح مرشَّح السيدة غاندي الرئاسي؛ فبعد انتخاب جيري، واصلت الحكومة محادثاتها مع الأمراء، وثبت أن كل طرف لا يقل تصلُّبًا في موقفه عن الآخر. وعند بلوغ تلك المرحلة، في ديسمبر ١٩٦٩، أرسل أمير نوانَجار اقتراحًا مثيرًا للاهتمام إلى نيودلهي؛ فقد انتقد الطرفين: الأمراء لتبنِّيهم «موقفًا متعنِّتًا لا يتزحزح»، والحكومة «لنكوصها عن التزاماتها وتطميناتها الدستورية». واقترح الأمير، للخروج من ذلك الطريق المسدود، أن تلغي الحكومة امتيازات الأمراء، مع إعطائهم ما يعادل عشرين عامًا من المخصصات السنوية؛ ٢٥٪ منها نقدًا، و٢٥٪ في صورة سندات تُسَدَّد بعد مرور عشرين عامًا، و٥٠٪ إلى صندوق خيري عام يديره الحاكم. ويكون هدف ذلك الصندوق هو تشجيع الرياضة، وتعليم الطوائف المتخلفة، وفي المقام الأول: حماية «حياتنا البرية الآيلة بخطًى سريعة إلى الزوال».62

كان أمير نوانَجار يرى أنَّ تلك الخطة «تليق بكرامة الأمة». مررت السيدة غاندي المقترح إلى وزير الداخلية، مشيرةً إلى أنَّه «مدفوع بغرض بنَّاء». لكنه لم يأتِ بشيء. وفي ١٨ مايو ١٩٧٠ — آخر يوم في جلسة البرلمان الصيفية — قدَّم واي بي تشافان مشروع قانون يدعو لإدخال تعديل دستوري يلغي امتيازات الأمراء. طُرِحَ مشروع القانون للنقاش في الدورة التالية، ووصفته السيدة غاندي بأنه «خطوة مهمة على طريق تعزيز تحوُّل مجتمعنا إلى الديمقراطية».

أقرَّ مجلس الشعب مشروع القانون بأغلبية الثلثين الواجبة؛ بموافقة ٣٣٦ عضوًا ومعارضة ١٥٥. إلا أنَّ الاقتراح رُفِضَ في مجلس الولايات بفارق صوت واحد. والظاهر أنَّ رئيسة الوزارة توقعت ذلك التصويت المعارض في الغرفة العليا من البرلمان الهندي؛ إذ سرعان ما صدر أمر رئاسي بسحب الاعتراف بالأمراء.

بعد أربعة أيام، يوم ١١ سبتمبر ١٩٧٠، تقدَّم مجموعة من المهراجات بطعن في الأمر الرئاسي أمام المحكمة العليا. عُرِضَت القضية على هيئة المحكمة الكلية برئاسة رئيس القضاة، وحكمت في ١١ ديسمبر بأنَّ ذلك الأمر تعسُّفي ومتنافٍ مع روح الدستور. رأى بعض الخبراء القانونيين في حكم المحكمة انتصارًا للديمقراطية، بينما رآه الراديكاليون اليساريون مُتَّسِقًا مع «ميل المحكمة العليا لحماية المصالح المكتسبَة».

وفيما يتعلق بتأميم البنوك أيضًا، كانت المحكمة قد وضعت عراقيل. هذا التحدي الجديد لسلطة رئيسة الوزراء دفعها إلى حلِّ البرلمان وطلبت تفويضًا من الشعب. كان المجلس لا تزال أمامه سنة على انقضاء مدته؛ فشرحت السيدة غاندي قرارها عبر إذاعة «أول إنديا راديو» قائلةً إنَّه في حين أنَّ حكومتها سعت إلى «كفالة حياة أفضل للسواد الأعظم من شعبنا وإشباع تطلُّعاتهم إلى نظام اجتماعي عادل … فإنَّ القوى الرجعية لم تتردَّد في إعاقتها بكل طريقة ممكنة».63

١٢

كان ثمة جبهة واحدة على الأقل تحمل أنباءً طيبة لحكومة السيدة غاندي؛ فقد كانت الاستراتيجية الزراعية الجديدة قد بدأت تؤتي ثمارها. عام ١٩٦٧ ضرب البلاد جفاف شديد، أثَّر على ولاية بيهار بصفة خاصة، لكن العام التالي شهد محصولًا وافرًا من الحبوب الغذائية، بلغ ٩٥ مليون طن إجمالًا. كان معظم تلك الزيادة يُعْزَى إلى البنجاب وهاريانا، اللتين زرع فلَّاحوهما أنواع القمح القصيرة الجديدة التي طوَّرها العلماء الهنود من نماذج مكسيكية. إلا أنَّ أنواع الأرز الجديدة كانت أيضًا على ما يُرام، وكذلك القطن والفول السوداني.

تمثَّلت استراتيجية سي سوبرامانيَم في تحديد المناطق التي يتوافر بها الري، ويُرَجَّح أنْ تُقْبِل جماعات المزارعين فيها على البذور الجديدة، وجرعات الأسمدة الثقيلة المصاحبة لها؛ فكانت النتائج مذهلة؛ فبين عام ١٩٦٣ وعام ١٩٦٧، قبل تجربة الأساليب الجديدة، كانت إنتاجية القمح السنوية تتراوح بين ٩ و١١ مليون طن. أما بين عام ١٩٦٧ و١٩٧٠، فصارت الإنتاجية تتراوح بين ١٦ و٢٠ مليون طن. وبالمِثل، كانت الإنتاجية السنوية من الأرز في الفترة الأولى تتراوح بين ٣٠ و٣٧ مليون طن، ثم أصبحت تتراوح بين ٣٧ و٤٢ مليون طن في الفترة الأخيرة.64
إلا أنَّ تلك الأرقام تضمنت تفاوتًا هائلًا بين المناطق؛ فقد ظلت مساحات كبيرة من الأراضي تعتمد الزراعة فيها على مياه الأمطار، حيث لا يمكن زراعة أكثر من محصول واحد في العام. ولكن على الرغم من ذلك، ساد شعور بأنَّ نُدْرة الغذاء صارت أمرًا من الماضي؛ فقد كان العلم الحديث بصدد طرد شبح نبوءة مالتوس. وفي أغسطس ١٩٦٩، كتب صحفي بريطاني قديم العهد بالهند أنَّه «لأول مرة طوال السنين التي زرت فيها هذا البلد، أجد الوضع الاقتصادي متماسكًا، ولأول مرة تَغَيَّبَ الشعور بأن الاقتصاد بأكمله يعتمد اعتمادًا شبه تام على هطول الأمطار الموسمية فحسب».65
حُلَّت مشكلة الغذاء، لكن احتمال انهيار الهند كان لا يزال قائمًا؛ وذلك ببساطة لأنَّه، كما زعم نيفيل ماكسويل وآخرون، كانت الهند متنوِّعة أكثر من اللازم؛ ففي مقالة افتتاحية بمناسبة مرور عشرين عامًا على وجود الهند كجمهورية، وصفت صحيفة «نيويورك تايمز» ذلك بأنَّه «إنجاز عظيم»، ثم أضافت أنَّ «الاتحاد والديمقراطية يتعرَّضان لضغوط متزايدة هذه الأيام، ومستقبلهما مشكوك فيه».66 إلا أنَّه بحلول ذلك الوقت كان معظم الهنود قد تقبَّلوا التنوُّع؛ فقد كانوا يرون الرابط الذي يجمع بين الأديان والأجناس والمناطق المتنوعة، وهو: تاريخ سياسي مشترك (منذ نشأة الحركة القومية)، ودستور قائم على التعدُّدِيَّة، وتقليد الانتخابات المنتظمة. وهم إضافةً إلى ذلك لم يروا في التحديات التي تطرحها الولايات خطرًا على الوحدة الوطنية؛ فكما كتب أحد المعلِّقين — رَدًّا على المتشائمين من أمثال ماكسويل — «وجود حكومة مركزية قوية لا يفضي بالضرورة إلى الديمقراطية». فالفيدرالية وحكم الأحزاب الإقليمية قد يساعدان على استدامة الديمقراطية في الهند، على عكس إندونيسيا وغانا مثلًا، حيث أسفرت جهود سوكارنو ونكروما الساعية إلى فرض حكومة مركزية قوية عن دكتاتورية.67
ومن ثم لم يكن ثمة تَخَوُّف كبير بين الهنود العقلاء من أن تكون أحداث أواخر ستينيات القرن العشرين نذيرًا بتفكك البلاد أو الاستعاضة عن السياسيين المنتخَبين بجنود عسكريين. كان حكم الجيش أمرًا مستبعَدًا تمامًا، لكن الاحتمال الباقي كان هو قيام حركة شيوعية مسلَّحة تبتلع أجزاءً كبيرة من البلاد؛ فقد تحوَّلت الثورة الخضراء إلى ثورة حمراء؛ إذ أنشأ الازدهار الزراعي استقطابًا اجتماعيًّا أيضًا. وكان لموقع ناكسَلباري أهمية؛ فقد كانت رقعةً رفيعة من أرض الهند، محشورة بين باكستان الشرقية ونيبال، على مسافة غير بعيدة من الصين، ومثَّلت المدخل الوحيد إلى ولايات الشمال الشرقي؛ فكان ذلك «حقل عمل مثالي» للشروع في ثورة، إذ كان بإمكان المرء الفرار إلى باكستان أو نيبال متى شاء، وجلب السلاح من الصين إنْ أراد. ومن ثَم تنامى القلق في نيودلهي من انتشار أولئك الشيوعيين الموالين لبكين «خارج ناكسَلباري للانضمام إلى خلاياهم في البنغال، حتى يصلوا إلى قلب كلكتا ذاته. ومن ورائهم سيقف الجيش الصيني مُهَدِّدًا على حدود الهيمالايا».68
على الجانب المقابل، كان البعض يتطلَّعون إلى الثورة المتوقعة، ومنهم الناكسَل — طبعًا — ولكن أيضًا رفاق دربهم من الغربيين؛ ففي شتاء ١٩٦٨-١٩٦٩، كتبت عالمة الأنثروبولوجيا الماركسية كاثلين جوف — أمريكية الأصل ولكنها كانت تُدَرِّس في كندا آنذاك — مقالًا اعتبرت فيه أن «أمل الهند الأكبر في التقدُّم هو قيام حركة ثورية تستقر جذورها في الريف» حيث يتواجد معظم الفقراء. وإذ تشجَّعت جوف بسبب التقدَّم الذي أحرزه الناكسَل وأيديولوجيتهم في أنحاء عدة، قالت إنَّه «يبدو أنَّ النظام البرلماني محكوم عليه بالفشل، وطريق الشيوعيين المتمرِّدين هو البديل الوحيد المبشِّر».69

ولم تكن جوف وحدها في اعتبار الشيوعية الثورية الأمل الرئيسي للهند، وربما أملها الوحيد؛ ففي ذلك الشتاء نفسه، طاف زوجان سويديان شابان، وكانا عالمي اجتماع، أنحاء الريف الهندي تَأَثُّرًا بروح عام ١٩٦٨؛ فطاف الأرض من شمالها لجنوبها، من الحقول القاحلة شرقي أوتَّر براديش إلى حقول الأرز الغنية في دلتا نهر كوفري الجنوبية. وشاهدا وَعْيًا نَقْدِيًّا جديدًا فيما بين المَقْهورين، تبدَّى في «تنامي المشاعر العدائية داخل المجتمع الهندي». فقد كان الصراع بين الطوائف الهندية في سبيله إلى التحوُّل إلى صراع بين الطبقات (كما توقعت النظرية الماركسية، وأمَلَت). ورأيا بين المفكرين تشكُّكًا (مُستحسنًا من وجهة نظرهم) إزاء الديمقراطية البرلمانية؛ فكما علَّق أحد زعماء الطلاب اليساريين: «لا ينبغي أن ننخدع بهراء الانتخابات التي تُجْرَى كل أربعة أعوام.»

وتَنَبَّأ عالما الاجتماع السويديان في كتابهما الذي ألفاه عن جولتهما في الهند بأنَّ تلك التغييرات «سوف يكون لها تبعات واسعة الانتشار على مستقبل الهند»؛ فقد أُريقَت الدماء (كما قالت النظرية الماركسية أنه يجب أن يحدث). وأضافا أن «المشاعر العدائية تبلغ أحيانًا درجة من العنف يصعب تخيُّلها». ولحسن الحظ، فإن «الحركة الثورية الجديدة … تتنامى اليوم في الهند». وكان العالمان على ثقة بأنَّه «لا يمكن أن ينتهي الفقر والقمع في الهند إلا عندما تقرر تلك الملايين من الفقراء مصيرها بأيديها». وتركا القُرَّاء مع الأمل في أنَّه «ربما كانت ناكسَلباري تُعَبِّر عن الثورة الهندية بالفعل».70

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤