الفصل السابع والعشرون

نظام سياسي متعدد الأقطاب

إن عودة السياسة القائمة على الهوية — أو السياسة القائمة على الطائفة الاجتماعية والفئة المجتمعية — للظهور في الفترة الحالية ليست سوى تعبير عن غلبة الجماعة على الفرد. وهذا ليس أمرًا مبشِّرًا بالنسبة إلى الديمقراطية الليبرالية في الهند.

عالِم الاجتماعي أندريه بيتِي، ٢٠٠٢

١

حلل الفصل السابق صعود وتأثير نوعَين من الحشد القائم على الهُويَّة؛ ذلك الخاص ﺑ «الطوائف المتخلفة الأخرى» والذي جرى على يد أحزاب مثل حزب سَماجوادي وحزب راشتريا جاناتا دال، وذلك الخاص بالهندوس والذي جرى على يد حزب بهاراتيا جاناتا. اللافت للنظر أن تسعينيات القرن الماضي قد شهدت أيضًا انتفاضةً للداليت، الاسم السابق للطوائف «المنبوذة». تزعَّم تلك الانتفاضة حزب باهوجان ساماج، الذي أسسه رائد الأعمال السياسي النابغ كانشي رام.

بعد وفاة الدكتور بي آر أمبيدكار عام ١٩٥٦، أصبح القيادي الأبرز للمنبوذين هو جاجيفان رام. كان رام عضوًا في حزب المؤتمر، وكان الفضل يرجع إليه بدرجة كبيرة في نظرة الحزب إلى الطوائف الاجتماعية الدنيا على أنها «كتلة تصويتية» حبيسة. وهذا الادعاء لم يجد تحديًا له إلا في مهاراشترا، أولًا من جانب الحزب الجمهوري الذي أسسه أمبيدكار في البداية، ثم من جانب منظمة «نمور الداليت» المتطرفة. كانت إحدى النتائج المترتبة على ذلك أنَّ مسمَّى «الداليت» — أي «المقهورين» — أصبح الاسم المفضل لدى الطوائف الاجتماعية الدنيا، عوضًا عن اسمها الرسمي «الطوائف الْمُجَدْوَلَة» أو لقب «الهاريجان» الذي أطلقه عليها غاندي.

ولكن صوتت غالبية الداليت لصالح حزب المؤتمر منذ خمسينيات القرن العشرين حتى نهاية ثمانينياته. لعقود من الزمان، كان جاجيفان رام هو من «حمل راية المطحونين ودافع عن مصالحهم». وقيل في رثائه إنَّ وفاته عام ١٩٨٨ «خلَّفت فراغًا» يكاد يكون من المستحيل ملؤه. وتابع قائلًا: «الطوائف الْمُجَدْوَلَة — التي تُشَكِّل ١٥٪ من تعداد البلاد — بتشتُّتها وافتقارها إلى التنظيم والقيادة وما تعانيه من اضطهاد؛ مصيرها … معلَّق وفي وضع خطر.»1
بحلول ذلك الوقت، كان كانشي رام (الذي لم تجمعه صلة قرابة بجاجيفان رام) نشطًا منذ أكثر من عقد من الزمان. وُلِدَ كانشي رام في البنجاب عام ١٩٣٢، والتحق بالعمل الحكومي بعد تخرجه في الجامعة، حيث عمل بمختبر في مهاراشترا، وفيه تعرَّف على كتابات بي آر أمبيدكار. وإذ تحوَّل بذلك إلى الراديكالية، استقال من وظيفته عام ١٩٧١ وأنشأ منظمةً لتمثيل الموظفين الحكوميين المنتمين إلى الطبقات المحرومة، أطلق عليها: اتحاد موظفي الجماعات المتخلفة والأقليات لعموم الهند. وطوال العقد التالي أخذ يتنقل في أنحاء الهند، مُنشِئًا فروعًا للمنظمة على مستوى المناطق والولايات. حلول مطلع الثمانينيات كانت عضوية المنظمة قد بلغت ٢٠٠ ألف، كثير منهم خريجون وطلاب دراسات عليا. كان ذلك اتحادًا عماليًّا لنخبة الطوائف الْمُجَدْوَلَة، مثَّل — حسب وصف زعيمه — «مركز فكري وبحثي» و«مستودع مواهب» و«مركز تمويل» للطبقات المقهورة ككل.2

تمثلت منطقة نمو المنظمة في شمال الهند، وتحديدًا أوتر براديش، حيث كانت اجتماعاتها الجماهيرية تجتذب في المعتاد حضورًا في حدود ١٠٠ ألف شخص أو أكثر. وبنجاح المنظمة واتت كانشي رام الجرأة لتأسيس حزب سياسي. جُرِّبَت أسماء عدة، ولكن أُطْلِقَ عليه في نهاية الأمر حزب باهوجان ساماج، حيث كانت فئة الباهوجان (أي، الأغلبية) أكثر شمولًا من فئة الداليت (المقهورين)؛ ففي حين مثَّلت الفئة الأخيرة الطوائف الْمُجَدْوَلَة أو المَنْبوذين سابقًا فقط، اشتملت الفئة الأخيرة في نطاقها إلى جانب الطوائف الْمُجَدْوَلَة على الطوائف المتخلفة والمسلمين أيضًا.

كان تطبيق التمييز الإيجابي على مدار أربعة عقود قد أنشأ طبقةً وسطى قويةً وقادرةً على التعبير عن نفسها في أوساط الطوائف الْمُجَدْوَلَة؛ ففي البداية، كانت الطوائف الْمُجَدْوَلَة تُعَيَّن بالأساس في قاع جهاز الدولة؛ حيث كانوا يشغلون الوظائف الدنيا، ولكن مع مرور الوقت، أصبح تمثيلهم أفضل في المستويات العليا، حيث عملوا مأمورين ومسئولين من الدرجة الأولى في أمانة الحكومة. وإن الأرقام الواردة في جدول ٢٧-١ لدالَّة بالتأكيد.
كانت الوظيفة الحكومية توفر الأمان الاقتصادي والمكانة الاجتماعية على حدٍّ سواء، وبحلول عام ١٩٩٥، كان أكثر من مليوني فرد من طائفة الداليت يتمتع بتلك الميزة. لا شك أنَّ معظمهم ظلوا يعيشون حياة فقيرة اقتصاديًّا وكذلك مهينة اجتماعيًّا؛ كعُمال زراعيين وكنَّاسين وعمال بناء،3 إلا أنَّه أصبح ثمة طبقة وسطى لا بأس بها تدافع عن قضيتهم. كانت تلك هي الطبقة التي تألَّف منها «اتحاد موظفي الجماعات المتخلفة والأقليات لعموم الهند»، والتي تَبَوَّأت فيما بعدُ مناصب قيادية في حزب باهوجان ساماج الذي أسسه كانشي رام. وفي هذا الصدد، كان الطريق الذي سلكته الطوائف الْمُجَدْوَلَة معاكسًا إلى حدٍّ بعيد للطريق الذي سلكته الطبقات المتخلفة الأخرى؛ فبعدما ذاقت الأخيرة السلطة السياسية، سعت إلى الحصول على السلطة الإدارية عبر تقرير مَندَل. أما الطوائف الْمُجَدْوَلَة، فقد حصلت على نصيب في الإدارة أولًا، قبل أن تُحَوِّل اهتمامها إلى السعي وراء الاضطلاع بدورٍ أكبر على ساحة السياسة الحزبية.
جدول ٢٧-١: الحالة الوظيفية للطوائف الْمُجَدْوَلَة في حكومة الهند (المصدر: نيراجا جوبال جَيال، «التفاوت الاجتماعي والحلول المؤسسية: دراسة عن اللجنة الوطنية للطوائف المجدولة والقبائل المجدولة»، ورقة بحثية مقدَّمة في مؤتمر «الشبكة المعنية بسياسة جنوب آسيا واقتصادها السياسي» بنجالور، يونيو ٢٠٠٣).
الدرجة الوظيفية عدد الموظفين المنتمين للطوائف الْمُجَدْوَلَة نسبة الوظائف التي يشغلونها إلى إجمالي عدد الوظائف
١٩٦٥ ١٩٩٥ ١٩٦٥ ١٩٩٥
الدرجة الأولى ٣١٨ ٦٦٣٧ ١٫٦٤ ١٠٫١٢
الدرجة الثانية ٨٦٤ ١٣٧٩٧ ٢٫٨٢ ١٢٫٦٧
الدرجة الثالثة ٩٦١١٤ ٣٧٨١٧٢ ٨٫٨٨ ١٦٫١٥
الدرجة الرابعة ١٠١٠٧٣ ٢٢٢١٣٨٠ ١٧٫٧٥ ٢١٫٦٠
الإجمالي ١٩٨٣٦٩ ٢٦١٩٩٨٦ ١٣٫١٧ ١٧٫٤٣
بدأ حزب باهوجان ساماج نشاطه في الانتخابات العامة لعام ١٩٨٤، فحصد أكثر من مليون صوت ولكنه لم يَحُزْ على أي مقاعد، ثم حقق نجاحًا أكبر في انتخابات مجلس الولاية في أوتر براديش؛ ففيها نجح نشطاء الحزب في استمالة جماهير الداليت، محذِّرين إياهم من أنَّ حزب المؤتمر لا يرغب إلا في متزلِّفين مطاوِعين من رجاله، بينما يُعَبِّر حزب باهوجان ساماج عن «العدالة الاجتماعية» بل «التحول الاجتماعي». فلا يمكن إلا لحزب من أبناء الداليت أنفسهم أن يُعَزِّز كبرياءهم وكرامتهم وفُرَصهم.4
حمل تلك الرسالة أبناء الداليت من المحامين والمعلمين والموظفين إلى إخوانهم الأقل حظًّا. وإلى جانب عقد الاجتماعات والتجمُّعات الجماهيرية، نشر هؤلاء المثقفون سلسلة من المنشورات الدعائية أمَدَّت الطوائف الدنيا بتاريخها البطولي الخاص. كانت تلك المنشورات مدفوعةً بقناعة مفادها أنَّه «حتى الآن معظم التاريخ الهندي كتبه البراهمة». ومن ثم صِيغَ سرد بديل، زعم أنَّ الداليت هم في الواقع من «أنشئُوا الثقافات من قبيل هارابَّا وموهينجو دارو»، ثم جاء الغزاة الآريان الذين «استولوا على أرضهم، وهجَّروهم قسرًا، واختطفوا ثقافتهم، وأوصلوهم إلى حالة من العبودية». وعلى مدار التاريخ قُوبِلَ ذلك القمع بمقاومة باسلة من جانب عمال الداليت وفلاحيهم ومُطربيهم وشعرائهم؛ فخُلِّدَت أمجادهم — الحقيقي منها والأسطوري — في كُتَيِّبات طُبِعَت ووُزِّعَت بأعداد بلغت مئات الآلاف في أوتَّر براديش خلال التسعينيات من القرن العشرين.5

تمكَّن حزب باهوجان ساماج، بإعمال أداتي التنظيم السياسي ورفع مستوى الوعي جنبًا إلى جنب، من قفز خطوات وثَّابة في أوتر براديش؛ في انتخابات مجلس الولاية لعام ١٩٩٣، فاز بعدد كبير من المقاعد بلغ ٦٧. كانت مكاسب حزب باهوجان ساماج تأتي على حساب حزب المؤتمر في معظمها؛ فذلك الحزب القائم على الداليت برز ممثِّلًا أحد الأحزاب السياسية الثلاثة الكبرى في الولاية، في حين كان الحزبان الآخران هما: حزب سَماجوادي برئاسة مولايام، وحزب بهاراتيا جاناتا ذو التوجه الهندوسي.

وبعد كانشي رام، حلت محله في زعامة الحزب إحدى تلامذته التي تُدعَى ماياواتي. وُلِدَت ماياواتي عام ١٩٥٦ في نيودلهي، لوالدٍ يعمل في وظيفة حكومية. كانت تطمح إلى الالتحاق بدائرة الخدمة المدنية الهندية المرموقة، لكنَّها إذ التقت كانشي رام في تجمُّع جماهيري لاتحاد موظفي الجماعات المتخلفة والأقليات لعموم الهند، قرَّرت دخول مجال السياسة. وقد جذبت الانتباه في المؤتمرات الشعبية بمهاراتها الخطابية، حيث وجَّهت معظم تعليقاتها الساخرة اللاذعة ضد حزب المؤتمر المنافس. فبحلول التسعينيات كانت قد أصبحت الواجهة العامة لحزب باهوجان ساماج. وإدراكًا منها لاستحالة وصول الداليت إلى السلطة بمفردهم، سعت إلى إقامة تحالفات بين مختلف الطوائف الاجتماعية ومختلف الأحزاب. في عام ١٩٩٥، أصبحت رئيسة الوزراء في أوتر براديش؛ مما جعلها أول شخص ينتمي للداليت وثاني امرأة تشغل هذا المنصب في كبرى ولايات الهند. أمضت حينها فترةً وجيزة في هذا المنصب؛ لكنها أمضت فيه فتراتٍ أخرى أطول.

في السبعينيات كتب الصحفي الخبير بشئون الهند جيمس كاميرون مشيرًا إلى أنَّ النساء البارزات في الحياة العامة الهندية جئن جميعًا من طبقات عليا ناطقة بالإنجليزية. وقال كاميرون معلِّقًا: «ليس في الماضي ولا الحاضر نموذج لامرأةٍ من طبقة عاملة تشتغل في السياسة الهندية، ويصعب معرفة متى يمكن لهذا أن يحدث.» في غضون عقدين من الزمان، جاء الرد على حديثه — أو ربما الأجدر أن نقول: الدحض له — عندما أصبحت امرأة مولودة لأسرة من الداليت رئيسةَ وزراء أكبر ولايات الهند تعدادًا.6
وأصبح صوت الداليت مسموعًا في أجزاء أخرى من البلاد أيضًا؛ فكما كتب عالِم الاجتماع أندريه بيتِي: «السمة الأهم للطوائف الْمُجَدْوَلَة في الهند المعاصرة هي زيادة بروزها.» فهي كانت «لا تزال تعاني الاستغلال والقهر والوصم، لكنَّ وجودها في المجتمع الهندي لم يعد تجاهله ممكنًا».7
الداليت الذين كانوا يومًا ما خاضعين إلى جانب كونهم مكبوتين، صاروا عارفين لحقوقهم بموجب الدستور الهندي، ومستعدين للمحاربة من أجلها، بل إن رائد الدستور الهندي — بي آر أمبيدكار — أصبح رمز الداليت ومصدر إلهامهم في كل مكان. وكتب أحد علماء الأنثروبولوجيا أنَّ «التماثيل والصور والملصقات واللافتات التي تحمل صورة الدكتور أمبيدكار منتشرة في جميع أنحاء تاميل نادو، والقاعات والمدارس والجامعات المُسَمَّاة باسمه تَيَمُّنًا به كثيرة، وحتى معارضو أيديولوجيته لا يجدون مفرًّا من نسخ صوره والانتساب إلى تراثه».8 وكان الوضع مشابهًا في معظم ولايات الاتحاد الهندي الأخرى؛ فحيثما كان سكن الداليت أو عملهم، انتشرت صور أمبيدكار في كل مكان: في أُطُر أنيقة مطوَّقة بالزهور في حب، وموضوعة في أماكن بارزة في القرى الصغيرة والمنازل والمتاجر وأماكن العمل. وفي الوقت نفسه — تحت ضغط جماعات الداليت — نُصِبَت تماثيل لأمبيدكار في أماكن عامة في البلدات والمدن: عند التقاطعات المرورية الرئيسية، وأمام محطات القطار، وفي الحدائق العامة. كان الزعيم يُصَوَّر واقفًا في كبرياء وشموخ، ممسِكًا في يمينه بنسخة من الدستور الذي صاغه.9

٢

في ضوء هذا الظهور من جانب الطوائف الدنيا واستماتة اليمين الهندوسي في تأكيد حقوقه، استمر بي في ناراسيمها راو في منصبه كرئيس للوزراء، وإن كان على نحوٍ أضعف من ذي قبل. لقد حمَّله كثيرون مسئولية تدمير مسجد بابري، إذ حاجج منتقدوه بأنه كان عليه أن يطلب من الرئيس الاحتكام للمادة ٣٥٦ وإسقاط حكومة كَليان سينج الطائفية على نحوٍ واضح في أوتر براديش. وحاول بعض كبار رجال حزب المؤتمر إزاحته، وعندما فشلوا، تركوا الحزب لنشر مشروعاتهم السياسية.

ورغم ضعفه السياسي وشخصيته التي تبدو متحفظة، فقد أدخل ناراسيمها راو إصلاحات جذرية في السياسة الاقتصادية. كما اتخذ خطواتٍ جريئة في السياسة الخارجية. فعلى سبيل المثال، سعى بجدية لتحسين علاقات الهند مع دول جنوب شرق آسيا. كان يقف وراء ذلك إدراك للقوة الاقتصادية المتزايدة لتلك المنطقة، غير أنه بُرر على نحو تكتيكي باعتباره عودة إلى سياسات جواهر لال نهرو التي تشمل كل البلدان الآسيوية.10 ففي عهده، أقامت الهند لأول مرة علاقاتٍ دبلوماسية مع إسرائيل، وحدث تقارب أكبر بين الهند والولايات المتحدة، بعد عقود من العلاقات الفاترة بين تلك الديمقراطيتَين المتباعدتَين.11

كان ناراسيمها راو، طَوال مسيرته السياسية، تابعًا مخلصًا، إن لم يكن متملقًا، لعائلة نهرو-غاندي. لكنه عندما أصبح رئيس وزراء، بدأ يبين أنه يستطيع أن يكون صاحب شخصيةٍ مستقلة. في الأشهر الأولى له في السلطة، كان يزور بانتظام سونيا غاندي، أرملة راجيف غاندي. لكن بمرور الوقت، أصبحت تلك الزيارات أقل تواترًا.

في عام ١٩٩٤، احتفلت الهند، والعالم أجمع، بالذكرى اﻟ ١٢٥ لميلاد المهاتما غاندي. وللاحتفاء بتلك المناسبة، أعلن ناراسيمها راو عن إنشاء جائزة غاندي للسلام. لم يكن إعجاب روا بالمهاتما غاندي محل شك. لكنه بإنشائه لتلك الجائزة، ربما كان يوجه إهانةً خفية لأسرة تحمل هذا الاسم لكنها لا تمت بصلة للزعيم الهندي الكبير. إذ كان أحد أول الأعمال التي قام بها راجيف غاندي عند توليه رئاسة الوزراء إنشاء جائزة باسم أمه، ادعت حكومته أنها ستصبح ذات مكانةٍ عالية مثل جائزة نوبل للسلام. لقد كانت قيمة جائزة إنديرا غاندي ٢٥ لاخ روبية. وأعلن ناراسيمها راو أن جائزة غاندي للسلام ستكون قيمتها أربعة أمثال هذا المبلغ.

٣

لكن إحدى مُبادَرات ناراسيمها راو كان يرجع الفضل فيها على نحوٍ مباشر إلى راجيف غاندي. وتَمثَّلت في إقرار التعديل الثالث والسبعين والتعديل الرابع والسبعين للدستور. نص التعديل الثالث والسبعون على ضرورة إنشاء مؤسسات حكومية محلية على مستوى القرية والتعلقة والمنطقة، وأقر التعديل الرابع والسبعون الأمرَ ذاته بالنسبة للبلدات والمدن، وتقرَّر اختيار شاغلي تلك المناصب عبر الاقتراع العام للراشدين. وعلى جميع المستويات، حُجِزَ ثُلُث المقاعد للنساء، كما حُجِزَت مقاعد أخرى للطوائف الاجتماعية الْمُجَدْوَلَة والقبائل الْمُجَدْوَلَة.

كان «حكم البنشايات» — أو الحكم الذاتي للقرى — شاغلًا دائمًا للمهاتما غاندي، إلا أنَّ كلًّا من جواهر لال نهرو وإنديرا غاندي تردَّدا في تفويض السلطة للمستويات الدنيا، وإن اختلفت أسبابهما: فالأول شعر أن ذلك لا يتلاءم مع عملية التنمية الاقتصادية، بينما كان لدى الأخيرة تفضيل عامٌّ للمركزية. في ستينيات القرن العشرين، كان لكلٍّ من راجستان ومهاراشترا تجربة مع مجالس القرى والمناطق، إلا أنَّ أولى المحاولات الجادة لإنشاء مجالس على مستوى القرى جرت في غرب البنغال، بعد صعود الجبهة اليسارية إلى السلطة عام ١٩٧٧. وارتقت حكومة جاناتا بالعملية إلى مستوًى أعلى في كارناتاكا، حيث فوَّضت بين عامي ١٩٨٣ و١٩٨٧ مسئوليات مهمة للمؤسسات المحلية.

وسعى راجيف غاندي، عندما كان رئيسًا للوزراء بين عامي ١٩٨٤ و١٩٨٩، إلى إقامة نظام للحكم الذاتي المحلي على مستوى الهند كلها. مثَّل اهتمامه في جزء منه رضوخًا لحركات الاستقلال المحلي، التي نادت بتوسيع نطاق مشاركة السلطة والنفوذ، إلا أنَّ اهتمامه استند أيضًا إلى حسابات سياسية؛ مفادها أنَّه في حين أنَّ حزب المؤتمر كان يقود الحكومة المركزية، فقد سيطرت على حكومات الولايات أحزاب معادية له، فكان من شأن حكم البنشايات أن يسمح لنيودلهي بتخطِّي تلك الأحزاب والتعامل مع القاعدة الشعبية مباشرةً، حيث تخصِّص لها نسبة من التمويل الذي كان يُحوَّل إلى إدارة الولاية مسبقًا.12
آتت العملية التي بدأها راجيف غاندي ثمارها بعد وفاته، عندما استعاد حزب المؤتمر مقاليد السلطة في نيودلهي. أثناء المشاورات السابقة على إقرار التعديلين الدستوريين، أعربت حكومات الولايات عن قلقها إزاء تقويض سلطتها؛ فمنح التعديلان الصادران في النهاية كل ولاية على حدة حرية التصرُّف بشأن تحديد وظائف مجالس القرى وسلطاتها في إقليمها. تباينت تصرُّفات الولايات تباينًا واسعًا من حيث المقاصد والتبعات؛ إذ عهدت بعض الولايات إلى مجالس القرى بالمسئولية عن الأعمال التنموية بكافة أوجهها — في مجالات الري والتعليم والصحة وشَقِّ الطرق وما إلى ذلك — وحوَّلت إليها التمويل بما يتناسب مع مسئولياتها، بينما كان لولايات أخرى رؤية أقلُّ سخاءً فيما يتعلق بوظائف مؤسساتها المحلية وتمويلها.13
بادئ ذي بدء، تصدَّرت غرب البنغال تجربة حكم البنشايات، ولكن فيما بعد تسلَّمت الدفة الولاية الأخرى ذات الحضور الشيوعي القوي: كيرالا. وعندما وصلت الجبهة الديمقراطية اليسارية إلى السلطة عام ١٩٩٦، قررت تخصيص ما بين ٣٥٪ و٤٠٪ من تمويل الخطط لبرامج تُصمِّمها وتنفذها المؤسسات المحلية. وفي جميع أنحاء الولاية، شُجِّعَت مجالس القرى على عقد اجتماعات، يتفاعل فيها أهل القرية مع المسئولين والخبراء الفنيين لتحديد أولوياتهم بأنفسهم؛ فأُعِدَّت مئات الخطط المختصة بمناطق محلية بعينها، وكانت تسلِّط الضوء عادةً على الإدارة الواعية للموارد الطبيعية، مثل: التربة والمياه والغابات.14
في كيرالا، كما في غرب البنغال، يستند الترويج لحكم البنشايات إلى خليط متذبذب من المثالية والانتهازية. من ناحية، يعتقد المثقفون والنشطاء اليساريون أنَّه بتفويض السلطة، يتمكَّن أهل القرى من إنفاق الأموال العامة على مشروعات ذات صلة باحتياجاتهم، عوضًا عن أن يخضعوا لتوجيهات تأتي لهم من أعلى. كما أنَّ اللامركزية من المعروف عنها أنها تقلل فرص الفساد في المنظومة، ومن ثَم يزيد قدر الأموال المُنفَقة فعليًّا على المشروعات التنموية. ومن ناحية أخرى، كان المفترض في الرؤية الغاندية الأصلية لحكم البنشايات أن تكون «ديمقراطية لا حزبية» يُنتخَب فيها القرويون الأكثر احترامًا (أو مقدرةً) بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية. ولكن في الممارسة العملية، أصبحت العملية مُسَيَّسة للغاية؛ ففي كيرالا، وبدرجة أكبر في غرب البنغال، رأى الحزب الشيوعي الماركسي في حكم البنشايات أداةً لإحكام قبضته على الريف، فسلطة مجالس القرى ومسئوليها لا تُفرَض عليهم ومن أجلهم فحسب، وإنما — وهو الأهم — لحشد الأصوات أثناء انتخابات مجلس الولاية والبرلمان.15
لحكمِ البنشايات تأثيرٌ عميق على العلاقات بين الطوائف الاجتماعية؛ ففي أوتَّر براديش، حيث الداليت أصحاب صوت مسموع ومنظَّمون، أصبحت الطوائف الاجتماعية المسيطرة تضطر الآن إلى تقاسم السلطة على المستوى المحلي مع الفئات التي كانت أقل حظًّا منها على مَرِّ التاريخ. وفي أوريسا، حيث الداليت أكثر إذعانًا، اسْتُبعِدوا من المشاركة في كثير من مجالس القرى (في انتهاك للقانون). وفي تاميل نادو، أدى تشكُّل مجالس القرى إلى زيادة حدة الصراعات القائمة بين ملاك الأراضي من طائفة التيفَر والداليت. ونحو خُمس رؤساء المجالس يجب أن يكونوا من الداليت، لكنَّ هؤلاء في أغلب الأحيان يجدون افْتِئاتًا من الطوائف الاجتماعية العليا على سلطتهم. وبالمِثل، على الرغم من أنَّ بعض رئيسات المجالس يتصرَّفن على نحو مستقل، فأُخريات منهن لا يمثلن أكثر من بوق لرجال في أسرتهن أو طائفتهن الاجتماعية.16

٤

في حياة جواهر لال نهرو، كان حزب المؤتمر يقود الحكومة المركزية دائمًا، ومن بين أحزاب المعارضة كافة لم يتمكن أحد سوى الشيوعيين في كيرالا من الوصول إلى السلطة في الولايات. إلا أنَّه بدءًا من انتخابات عام ١٩٦٧، أصبح المشهد السياسي في الهند أكثر تنوُّعًا؛ فقد تزايد عدد حكومات الولايات التي سقطت في أيدي أحزاب غير حزب المؤتمر. وفي عام ١٩٧٧ وصلت أول حكومة من خارج حزب المؤتمر إلى السلطة في دلهي، ثم شَهِدَت الثمانينيات استعادة حزب المؤتمر السلطة في المركز، لكنه خَسِرَها مرة أخرى في نهاية العقد.

تبدَّى هذا الاتجاه المتنامي نحو لامركزية النظام السياسي في صعود الحكومات الائتلافية. فحزب جاناتا الذي وصل إلى سُدَّة الحكم عام ١٩٧٧ كان هو نفسه ائتلافًا مكوَّنًا من أربعة أحزاب مختلفة. وجاءت ثاني حكومة من خارج حزب المؤتمر من الجبهة الوطنية، التي جاءت إلى السلطة عام ١٩٨٩. كانت تلك الحكومة مكوَّنة من سبعة عناصر متمايزة وكانت رغم ذلك حكومة أقلية.17

في عام ١٩٩١ — الانتخابات التي أُجْرِيَت عقب اغتيال راجيف غاندي — رَبِحَ حزب المؤتمر ٢٤٤ مقعدًا. كان أكبر حزب قائم بذاته في البرلمان بفارق لا بأس به عن تابعيه، ولكنه رغم ذلك كان ينقصه نحو ثلاثين مقعدًا لتكوين أغلبية. إلا أنَّ الدعم — المتحقق من خلال الإقناع أو غيره من الوسائل — الذي حصل عليه من النواب المستقلين ومن حزب جهارخاند موكتي مُرتشا (جبهة تحرير جهارخاند)، أتاح له البقاء في السلطة لفترة كاملة مدتها خمسة أعوام.

في انتخابات ١٩٩٦ انخفض عدد مقاعد حزب المؤتمر إلى ١٤٠ مقعدًا؛ فاستقال بي في ناراسيمها راو من منصب رئيس الوزراء، وبعد فترة قصيرة استقال من منصب رئيس الحزب أيضًا. ربح حزب بهاراتيا جاناتا ١٦١ مَقعدًا، ليصبح أكبر حزب يحصل على أصوات في البرلمان. واتباعًا للإجراء المتعارف عليه، دعا الرئيسُ الحزبَ لتشكيل الحكومة. كان مرشح الحزب لمنصب رئيس الوزراء أتَل بِهاري فَجبايي. كان فَجبايي يُعتبر أكثر «اعتدالًا» من قائد حركة أيوديا، لال كريشنا أدفاني. فقد كانت لديه شخصيةٌ ودودة واجتماعية، وكان معروفًا عنه روحه المرحة، وقد ذهب حتى إلى حد الثناء على جواهر لال نهرو الذي كان مكروهًا بشدة من جانب اليمين الهندوسي.

ربح حزب بهاراتيا جاناتا ١٦١ مقعدًا وكان على بعد أكثر من مائة مقعد حتى يحصل على أغلبية في البرلمان. لم يكن بإمكانه جذب أعدادٍ كافية من المقاعد إلى جانبه، وبعد ١٣ يومًا فقط لها في السلطة، سقطت حكومة فَجبايي. وحل محل حزب بهاراتيا جاناتا الجبهة المتحدة، وهي عبارة عن ائتلاف من الأحزاب الاشتراكية والإقليمية، الذي كان يتضمن الحزب الشيوعي الهندي وليس الحزب الشيوعي الهندي الماركسي الأكبر. واختار حزب المؤتمر دعم الائتلاف من الخارج، كما فعل الحزب الشيوعي الهندي الماركسي.

كان مرشح الجبهة المتحدة لرئاسة الوزراء هو إتش دي ديفي جودا، الذي كان يشغل حينها منصب رئيس وزراء ولاية كارناتاكا. كان ينتمي جودا للفصيل الأكبر في الجبهة وهو جاناتا دال. وبعد عشرة أشهر رئيسًا لوزراء الهند، حلَّ محله إندر كومار جوجرال. كانت الهند حينها قد تَعاقَب على شَغل منصب رئاسة الوزراء فيها ١٢ شخصًا؛ خمسة منهم كانوا أعضاء عاملين في حزب المؤتمر، في حين كان ستة آخرون أعضاء سابقين، ولفتراتٍ طويلة، في نفس الحزب. وهكذا، فإن رئيس الوزراء الهندي الوحيد الذي لم يكن حتى ذلك الحين عضوًا في حزب المؤتمر هو أتَل بِهاري فَجبايي، الذي بقي في منصبه ١٣ يومًا فقط في ١٩٩٦.

كانت حكومة الجبهة المتحدة تجربةً هشة وغير مستقرة. فنظرًا لأنها كانت تفتقد الأغلبية، أو الإرادة، لم تستطع إحداث تغييراتٍ كبيرة في السياسات، حتى وإن كانت قد رغبت في ذلك. في نفس الوقت، بعد خروج راو، كان حزب المؤتمر قد أقنع أرملة راجيف غاندي، سونيا، بالانضمام للحزب. وُلدت سونيا في إيطاليا، ونشأت كاثوليكية، ثم تزوجت أحد أفراد العائلة السياسية الأولى في الهند، ولكن لم يكن لديها أي طموحٍ سياسيٍّ خاص بها. وفي عام ١٩٨١، أبدت معارضةً شديدة لفكرة دخول زوجها مجال السياسة. وعندما تُوفي بعد عشرة أعوام، انعزلت في بيتها مع أسرتها. لكنها الآن خرجت من الظل، ولم تستطع مقاومة الرغبة في استعادة المكانة السياسية البارزة لأسرتها.18

٥

في السنوات الأولى بعد استقلال الهند، قدَّمت الجروح الناجمة عن التقسيم مبرِّرًا لاستماتة اليمين الهندوسي في تأكيد حقوقه؛ حيث نشطت منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج بصفة خاصة، ولكن حزب جانا سانج لم يربح سوى ثلاثة مقاعد في انتخابات عام ١٩٥٢، وأبدى المعلِّقون على الموقف استعدادًا لتوقيع شهادة وفاة حزب تجرَّأ على إقامة سياسته على الدين في ظل دولة حديثة علمانية ديمقراطية. وكتب السياسي الاشتراكي أشوكا مِهتا أنَّ النعرة الطائفية الهندوسية «أثبتت ضعفها تارتين: تارة في انتخابات عام ١٩٤٦ وتارة أخرى في انتخابات ١٩٥١-١٩٥٢». وكان على ثقة بأنَّ «شبحها طُرِد للأبد الآن».19 وكتب الزوجان الكاتبان تايا وموريس زينكين أنَّ «الهندوس متسامحون جدًّا». فقد أثبتت نتائج الانتخابات أنَّ «الطائفية الهندية مُنِيَت بهزيمة نكراء»، بل «بذلك فشلت الطائفية، بصفة نهائية على الأرجح».20

كان معلِّقون آخرون أقل تفاؤلًا؛ فقد اعتقد الزعيم الكشميري الشيخ عبد الله، أنَّ جواهر لال نهرو بالأساس هو مَن أبقى الدولة الهندية والسياسة الهندية على مسار العلمانية. وكان قلقًا مما سوف يحدث بعد رحيله. فبعد وفاة نهرو راح نفوذ حزب جانا سانج يتنامى شيئًا فشيئًا؛ فقد فاز بخمسة وعشرين مقعدًا في مجلس الشعب الهندي في عام ١٩٦٧، واثنين وعشرين مقعدًا في ١٩٧١، وبذلك حافظ على مركزه إلى حد ما على الرغم من «موجة إنديرا» التي تسيَّدت عام ١٩٧١. وفيما بعد، أدت مشاركة الحزب في حركة جايا براكاش نارايان، واعتقال قادته أثناء فترة الطوارئ، ودور الحزب في حكومة جاناتا، إلى زيادة أهميته وحضوره على الساحة. ثم تراجع مرة أخرى، وعاد تحت اسم جديد — حزب بهاراتيا جاناتا — ليفوز بمقعدين في انتخابات عام ١٩٨٤. فحتى أتَل بِهاري فَجبايي، الذي كان عضوًا في البرلمان منذ عام ١٩٥٧، فشل في الفوز بفترة جديدة.

ومرة أخرى أُعْلِنَ انتهاء عهد السياسة القائمة على الدين. ومرة أخرى، قِيلَ إنَّ الهندوس لن يحتملوا سيطرة التزمُّت الديني على إخوانهم، وكتب عالما سياسة أمريكيان قائلين: «السمة الأبرز في السياسة الهندية هي صمود النزعة الوسطية.» وإلى جانب النزعة الهندية الطبيعية إزاء الاعتدال، كان على حزب بهاراتيا جاناتا مواجهة تفتُّت جمهور الناخبين أيضًا على أساس الطائفة الاجتماعية والإقليم؛ ومن ثم كان الوصول إلى نتيجة مفادها أنَّ «قاعدة الدعم الممنوحة لحزب طائفي قومي، يمثل الأغلبية الهندوسية، قاعدة وهمية».21
ثم جاءت أحداث التسعينيات لتنسف تلك النبوءات. فالقضية الكبرى في ذلك العقد كانت في الواقع صعود النزعة الطائفية الهندوسية، كما تبيَّن بوضوح في عدد المقاعد التي فاز بها حزب بهاراتيا جاناتا في الانتخابات العامة المتعاقبة. وكما ذكر أشوك سينجهال، القيادي في المجلس الهندوسي العالمي، في عام ١٩٩٤، فإنَّ تدمير مسجد بابري كان «عاملًا محفِّزًا لعملية الاستقطاب الأيديولوجية شبه المكتملة».22
وإلى جانب مسرح السياسة الحزبية الرسمي، كان ثمة تَحَوُّل جارٍ أيضًا على أرض الواقع؛ ففي البلدات والقرى بمختلف أنحاء شمال الهند، كان التغيير جاريًا في ملامح العلاقة بين الهندوس والمسلمين؛ ففيما مضى كان أعضاء المجتمعين يعيشون جنبًا إلى جنب، وبعضهم يتاجر مع بعض، بل إنهم كانوا يتصادقون ويلعبون معًا. صحيح أنَّهم أيضًا كانوا يتنافسون ويدخلون في نزاعات؛ إذ كان كلٌّ منهما يرى نفسه متفوقًا على الآخر دينيًّا، وكان لكلٍّ منهما ذكريات — سواء حقيقية أم خيالية — عن تعرُّضه للإساءة أو الضرر على يد الآخر. إلا أنَّ مُوجِبات التعايش استتبعت أنَّ تلك الانقسامات كانت الأنشطة المشتركة بينهما تُبَدِّدها أو تحتويها، إلا أنَّه مع اندلاع أعمال الشغب التي أشعلت حركة أيوديا فتيلها، حلت العداوة الصريحة محل العلاقات المتذبذبة؛ فصارت العدائية والتشكك هما السمتين الحاكمتين — وقد يقول البعض: الوحيدتين — في العلاقة بين الهندوس والمسلمين.23

نظرًا لأنَّ المسلمين كانوا أقل عددًا وأسوأ حالًا بصفة عامة من الناحية الاقتصادية، فقد كانت خسارتهم أكبر بتعكُّر صفو العلاقات؛ ففي معظم أحداث الشغب، كان عدد القتلى من المسلمين أكبر من عدد القتلى من الهندوس، وأُحْرِقَت منازل أكثر للمسلمين من الهندوس، وسقط مسلمو الهند جميعًا فريسة شعور عميق بانعدام الأمن. وسخرية الهندوس المتعصبين وقولهم إنَّ المسلمين ينبغي أن يذهبوا إلى باكستان أورثَاهم شعورًا بالضعف والغُبن. وقد عبَّر الشاعر خضر محيي الدين المسلم المتحدِّث باللغة التيلوجوية عن مشاعر المسلم الهندي العادي في عقد تسعينيات القرن الماضي المضطرب بأسلوب مثير للمشاعر، فقال إنَّه من ناحيةٍ يقول الهندوس للمسلم إنه عليه أن يعتبر:

ديني مؤامرة
صلاة الجماعة مؤامرة
استلقائي ساكنًا مؤامرة
محاولتي الاستيقاظ مؤامرة
رغبتي في تكوين أصدقاء مؤامرة
جهلي، تخلُّفي، مؤامرة.

وقال خضر إنَّه من ناحية أخرى:

ليست مؤامرة
جعلي [من قبل الهندوس] لاجئًا
في مسقط رأسي نفسه.

•••

ليست مؤامرة
أن يُسَمَّم الهواء الذي أتنفسه
والمكان الذي أعيش فيه.

•••

وليست مؤامرة بالتأكيد
أن أُمَزَّق إربًا
ثم يتخيلون وطنًا غير ممزَّق.
كان المسلم مُطالَبًا على الدوام بإثبات ولائه للهند، فكما تبيَّن لخضر محيي الدين: «مباريات الكركيت تزن وطنيتي وتقيسها.» فعندما تلعب الهند مباراة أمام باكستان، كان المسلمون يُطالبون برفع علم البلاد أمام منازلهم، وأنْ يشجعوا الفريق الوطني جهرًا وعلنًا. وعلى حد تعبير الشاعر: «لا يهم حبي لبلدي، ما يهم هو مدى كُرهي للبلد الآخر.»24
مثَّل استقطاب المجتمَعين انتصارًا لسانج باريفار، وهو الاسم الجامع الذي تُعرَف به مجموعة المنظمات القائمة حول منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج وحزب بهاراتيا جاناتا. طوال العقود الخمسة الأولى منذ استقلال الهند، ظلَّت أيديولوجية سانج باريفار ثابتة إلى حدٍّ بعيد. وعلى حد علمي، فإنَّ أفضل تلخيص لتلك الأيديولوجية يظهر في السرد الشامل الذي كتبه دي آر جويال عن تاريخ منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج. فطبقًا لجويال، تتمثل المعتقدات الأساسية لما تسميه سانج باريفار «هندوتفا» (الحركة القومية الهندوسية) في الآتي:
لقد عاش الهندوس في الهند منذ الأزل؛ الهندوس هم الأمة لأنَّ الثقافة والحضارة والحياة كلها وليدة إسهامهم وحدهم، غير الهندوس إما غزاة أو ضيوف، ولا يمكن معاملتهم على قدم المساواة ما لم يتبنَّوا التقاليد والثقافة الهندوسية، وما إلى ذلك. غير الهندوس — ولا سيما المسلمون والمسيحيون — أظهروا العداء لكل شيء هندوسي، ومن ثَم ينبغي معاملتهم على أنهم مصدر تهديد. إن حرية هذا البلد وتقدُّمه من حرية الهندوس وتقدُّمهم. وتاريخ الهند هو تاريخ كفاح الهندوس لحماية دينهم وثقافتهم وصونهما من اعتداء أولئك الأجانب؛ التهديد مستمر لأن السلطة في أيدي أشخاص لا يؤمنون بأنَّ تلك الأمة أمة هندوسية. من يتحدثون عن الوحدة الوطنية بوصفها وحدة جميع من يعيشون في هذا البلد مدفوعون بالرغبة الأنانية في السيطرة على أصوات الأقليات ومن ثم فهُم خونة. وحدة الهندوس وتضامنهم هما الضرورة المُلِحَّة في هذه الساعة؛ لأن الهندوس مُحاطون بالأعداء من كل جانب. لا بد للهندوس من تطوير قدرتهم على الرد الجماعي، والهجوم خير وسيلة للدفاع. انعدام الوحدة هو السبب الأساسي لمشكلات الهندوس كافة، وقد وُلِدَت سانج باريفار برسالة إلهية مفادها تحقيق هذه الوحدة.25

وأضاف جويال أنَّه «دون خوف من معارضة يمكن القول بأنه لا شيء قِيلَ أكثر مما سبق في فروع منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج خلال ٧٤ عامًا مضت على نشأتها».

على الرغم من بقاء أيديولوجية المنظمة كما هي، فمع مرور الوقت حدث نمو هائل في تنظيمها من حيث قوتها وتأثيرها. فبعدما كانت يومًا هيئة ذكورية خالصة، فتحت جناحًا خاصًّا للنساء، حُثَّت تلميذات المدارس وربَّات المنازل على الانضمام إليه. وبعدما كانت مقتصرة على شمال الهند، أنشأت فروعًا نشطة في ولايات لم يكن لها فيها أي وجود مسبقًا. وفي كل مكان، كُيِّفَت الأيديولوجية المحورية للمنظمة مع السياق المحلي؛ ففي جوجارات احْتُفِيَ بإعادة بناء معبد سومناث العتيق باعتباره دليلًا على الهندوسية المتحدة قوية العزيمة. وفي أوريسا، انصَبَّ التركيز على معبد جاجاناث، الذي استخدمته المنظمة لبناء الجسور بين الهويات الهندوسية على المستوى المحلي وعلى مستوى الهند قاطبة. وكان ثمة تأكيد خاص على العمل في المناطق القبلية، وعلى «استعادة» الأديفاسي و«إعادتهم» إلى كنف الهندوسية؛ ففُتِحت مدارس يمكن فيها لصبية القبائل تعلُّم اللغة السنسكريتية والتعرُّف على الأساطير الهندوسية. وكانت المنظمة تعمل جاهدة وقت وقوع الكوارث الطبيعية؛ فقد كانت تجلب الحبوب عندما تشِحُّ الأمطار وتعيد بناء المنازل بعد وقوع أي زلزال.26
ومع نمو التنظيم، وجدت أيديولوجية المنظمة تعبيرًا أشمل عنها من خلال استراتيجية انتخابية جديدة. فقد كان إم إس جُلوالكَر يرى أنَّ ذبح الأبقار هو القضية التي يمكن لسانج باريفار أن تستهلَّ بها كفاحًا على مستوى الدولة.27 تلك الخطة باءت بالفشل، إلا أنَّ الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها حزب المؤتمر قدَّمت لهم على طبق من فِضَّة قضيةً أكثر تحريكًا للمشاعر؛ فعندما سعت حكومة راجيف غاندي إلى استرضاء المتعصِّبين المسلمين بإبطال حكم المحكمة العليا في قضية شاه بانو، صار في مقدور الراديكاليين الهندوس أن يدفعوا بحجة — مقنعة أكثر من أي وقت مضى — مفادها (مع كامل الاحترام لكلمات دي آر جويال الواردة سابقًا) أنَّ الحكام الحاليين «مدفوعون بالرغبة الأنانية في السيطرة على أصوات الأقليات»، وفي سبيل مواجهة ذلك «وحدة الهندوس وتضامنهم هما الضرورة المُلِحَّة في هذه الساعة». وثبت أيضًا أنَّ «غير الهندوس إما غزاة أو ضيوف» من إحجام المسلمين العنيد عن تسليم مسجد بابري؛ فقد مثَّل البناء في حد ذاته إهانة مستمرة للكبرياء الهندوسي، وتذكيرًا بغيضًا بأيام عبوديتهم الماضية، التي لم يتغلبوا عليها تمامًا بعد، فكان عدم السماح لهم بإقامة دار عبادة لإلههم المحبوب رام لا لشيء سوى أنَّ «الهندوس مُحاطون بالأعداء من كل جانب»: أعداء من الداخل، مثل الساسة الذين يسترضون المسلمين، وأعداء من الخارج، مثل الدولة المسلمة الباغية (باكستان)، التي خاضت ثلاث حروب ضدهم. فمن أجل بناء معبد رام، وأيضًا من أجل حماية أنفسهم بصفة أعَمَّ، كان على الهندوس «تطوير قدرتهم على الرد الجماعي» وإدراك أنَّ «الهجوم خير وسيلة للدفاع».

دعونا نُضِفْ إلى العبارات التي اقتبسناها من تلخيص دي آر جويال بالفعل السطر الأخير بالغ الأهمية: «انعدام الوحدة هو السبب الأساسي لمشكلات الهندوس كافة، وقد وُلِدَت سانج باريفار برسالة إلهية مفادها تحقيق هذه الوحدة.»

في حركة رام، تلقَّت رسالة منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج دعمًا من المنظمات الشقيقة لها، لا سيما المجلس الهندوسي العالمي الذي تبنَّى القضية في الأصل. وإضافةً إليه كانت منظمة بَجرانج دال، المُسَمَّاة تَيَمُّنًا بالإله القرد هانومان التابع شديد الإخلاص لرام (وكان يُطلَق عليه أيضًا بَجرانج بالي). كانت تلك المنظمة تتألف من شباب غاضبين، غير مُعَدِّين لغرض «حماية» معبودهم (كما يُفْتَرَض أنَّ هانومان فعل) وإنما للتخلص من أي شخص يقف في طريقهم. وأخيرًا، كان هناك حزب شيف سِنا، الذي كان في الواقع حزبًا منفصلًا تمامًا؛ أفكاره وأساليبه أكثر تطرُّفًا حتى من أفكار وأساليب المجلس الهندوسي العالمي ومنظمة بجرانج دال. فقد كان أعضاء هذا الحزب يميلون إلى نعت المسلمين بأوصاف من قبيل «الثعابين السامة» و«الخونة» ونصحهم بالانتقال إلى باكستان.28

بحلول الثمانينيات، لم يعد من الممكن أن تظل منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج توصَف بأنَّها هيئة ذكورية أو متركِّزة في شمال الهند. فقد سعت إلى اجتذاب النساء ومناطق أخرى من الهند، إلا أنَّها لم تتخلص من وصفها بمنظمة «البراهمة والبانيا» — التي تقودها وتسيطر عليها النخبة، من الطوائف الهندوسية المتعلِّمة في المعتاد — إلا عبر حركة رام. فخلال أول ستين عامًا بعد نشأة المنظمة كانت تسترشد ببراهمة مهاراشتريين؛ أولًا كيه بي هيدجوار، ثم إم إس جُلوالكَر، وأخيرًا بالا صاحب ديوراس. ثم عُيِّنَ شخص غير برهمي من أوتَّر براديش — راجندرا سينج — رئيسًا للمنظمة في مارس ١٩٩٤. لم يكن ذلك مجرد رضوخ للنقاش الذي دار بشأن لجنة مندل، وإنما كان إقرارًا أيضًا بالدور الرئيسي الذي اضطلعت به الطوائف الاجتماعية المتخلفة في حركة أيوديا؛ فقد كان معظم أعضاء شيف سِنا والمجلس الهندوسي العالمي من طوائف اجتماعية وسطى، كما اشتملا أيضًا على عدد لا بأس به من الداليت.

من خلال هذه القاعدة متزايدة الاتساع — من حيث المنطقة والنوع ولا سيما الطائفة الاجتماعية — نشأ ما يمكن تسميته عن إنصاف: «الكتلة التصويتية الأكبر على الإطلاق». ففي بدايات الجدل حول مسألة أيوديا، خلال عامي ١٩٨٥ و١٩٨٦، كان زعماء المجلس الهندوسي العالمي ميَّالين للإشارة إلى المسألة باعتبارها مسألةً تطول «مشاعر ٦٠٠ مليون هندوسي». ومع مرور الزمن، وبقاء المسألة دون حل، أسفرت التغيُّرات الديموغرافية عن تضخُّم طبيعي في الأرقام؛ فأصبحت «الستمائة مليون» «سبعمائة مليون»، بل حتى «ثمانمائة مليون». كان ذلك غرورًا منهم بالتأكيد؛ فالمجلس الهندوسي العالمي ومنظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج لم يكونا يتحدثان بلسان أغلبية الهندوس، لكن الظاهر أنهما تحدثا بلسان عدد كافٍ من الهندوس للسماح لواجهتهما السياسية، حزب بهاراتيا جاناتا، بأن يصبح أكبر حزب سياسي قائم بذاته في البرلمان الهندي.

في التسعينيات، عَرَّفَ حزب بهاراتيا جاناتا الأجندة السياسية بطريقة كان حزب المؤتمر قد اتَّبعها في الخمسينيات والستينيات. ومن ثم اكتسب خلاف على مكان في مدينة صغيرة بشمال الهند أهمية كاسحة في حياة الأمة. وأصبح الخطاب السياسي في المجمل تستحوذ عليه مسائل الهوية الدينية عوضًا عن التنمية الاقتصادية أو الإصلاح الاجتماعي. أما حزب المؤتمر — إذ راح يفقد سيطرته على الحكومة، وتقل مقاعده في البرلمان — فأصبح دوره ينحصر في الرد على النقاشات التي يطرحها حزب بهاراتيا جاناتا. وفي بادرة يائسة، استعان الحزب بسونيا أرملة راجيف غاندي — التي كانت آنذاك تعيش في عُزلة مع أسرتها في دلهي — لكي ترأس الحزب. وبعدما تولت سونيا غاندي رئاسة الحزب عام ١٩٩٨، لم تألُ جهدًا لتبديد صورة حزبها كحزب «معادٍ للهندوسية». فكانت تزور المعابد بانتظام، بل بلغ بها الأمر حد المشاركة في الحج الهندوسي الأكبر «كومبه ميلا»، الذي يُعْقَد كل اثني عشر عامًا، وفيه يستحم عشرات الملايين من الهندوس في نهر الجانج في الله أباد.29
في حين أنَّ النزاع في أيوديا ظل محور اهتمام سانج باريفار، فقد تبنَّت حملات أخرى في تسعينيات القرن العشرين؛ إذ حدَّدت مواقع أخرى زعمت أنَّ المسلمين استولوا فيها على مزارات هندوسية، على سبيل المثال، مَتهورا وباناراس وبلدة دهار في ماديا براديش وتلال بابا بودان في منطقة تشيكماجَلور بكارناتاكا. ثم أُنشئت حركات — متفاوتة النجاح — من أجل «استعادة» تلك المواقع من أيدي «الدُّخلاء». وفي الوقت نفسه، شُنَّت هجمات على المبشِّرين المسيحيين، لا سيما العاملون منهم في المناطق القبلية، وأُحْرِقَت كنائس وضُرِبَ قساوسة في كلٍّ من جوجارات وماديا براديش، وأُحْرِقَ مبشِّرٌ أستراليٌّ حيًّا في أوريسا مع ولديه، واكْتُشِفَ فيما بعد أنَّ مرتكب الجريمة كان عضوًا في تنظيم بَجرانج دال يُدْعَى دارا سينج.30 وعلى الرغم من أنَّ الهندوس مثَّلوا أغلبية كبيرة في الهند، أصرَّت منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج على أنَّ غلبة الهندوس مُهَدَّدة بسبب الحملات التبشيرية المسيحية من ناحية وبسبب كِبَر حجم الأُسَر المسلمة من ناحية أخرى، الذي يُعزَى إلى ممارسة تعدد الزوجات.31

أُديرَت تلك الحملات في مناطق مختلفة من الهند، أحيانًا تحت قيادة منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج، وأحيانًا أخرى بمبادرة المجلس الهندوسي العالمي أو حزب شيف سِنا، إلا أنَّه كان ثمة نمَط أساسي للحملات كلها؛ ففي كل حالة، كانت إحدى جماعات الأقليات الدينية — المسلمون أو المسيحيون — تُستَهدَف، وتُتَّهَم بإيذاء مشاعر الهندوس أو بأنها تعمل لحساب قوة أجنبية. كانت شيطنة الآخر مقدمة ضرورية لحشد الناس؛ ومن ثم تنمية روح تضامن جماعية في مجتمع هندوسي منقسم منذ زمن.

٦

إن كان هناك تنامٍ في نزعة التطرف من جانب الهندوس في قلب الهند، فقد كان هناك تصاعد في نزعة التطرُّف من جانب المسلمين في ولايةٍ حدوديةٍ مهمة. وتلك الولاية كانت، بالتأكيد، كشمير.

بحلول منتصف التسعينيات، كان حزب المجاهدين قد انضم إلى رَكْبه مئات كثيرة من المجاهدين الضيوف، الذين يحملون ولاءات إلى جماعات متباينة، كلها كان لها مقر في باكستان، وكلها مارست الصورة المتزمتة الأصولية من الإسلام، التي كانت تُدَرَّس في المدارس الإسلامية المتعددة بذلك البلد.

فخلال عقد الثمانينيات، جرت أَسلَمَة المجتمع الباكستاني على قدم وساق. وعند ميلاد دولة باكستان عام ١٩٤٧، لم يكن بها سوى ١٣٦ مدرسة إسلامية، وبحلول عام ٢٠٠٠ كان عدد تلك المدارس قد بلغ ٣٠ ألفًا فيها. وحسبما كتب طارق علي، كانت تلك المدارس «حَضَّانات عقائدية مُصَمَّمة لإنتاج المتطرفين». ففي ذلك الوقت كانت باكستان تتفاخر بامتلاكها ما يصل إلى ثمانية وخمسين حزبًا سياسيًّا إسلاميًّا وأربع وعشرين ميليشيا دينية مسلحة، وكان معظم أعضاؤهما نِتاج منظومة المدارس الإسلامية.32
أَدَّى تكثيف المشاعر الدينية في باكستان إلى تعميق التزامها بمسألة «تحرير» كشمير. تحدَّث الوعاظ في المساجد والمدارس الإسلامية مرارًا وتكرارًا عن الظلم الذي تمارسه الهند في وادي كشمير، وحثُّوا أتباعهم على الانضمام إلى صفوف المجاهدين هناك. استُميل الشباب على هذا النحو للانضمام إلى جماعات من قبيل جماعة «لَشكر طيبة» (عسكر طيبة)، التي سرعان ما اضطلعت بدور بارز في الكفاح المسلَّح. كان الهدف القريب هو ضم كشمير إلى دولة باكستان؛ فهذا «واجب ديني لا على شعب باكستان فحسب، وإنما على الأمة الإسلامية بأسرها». وتمثَّل الهدف الأشمل في استثارة حرب أهلية في الهند. فكما قال رئيس جماعة لَشكر طيبة — حافظ محمد سعيد — في فخر، إنهم كانوا يهدفون إلى «إنشاء شبكة مجاهدين في جميع أنحاء الهند» تستجلب، عند تكوُّنها، «بداية تفكُّك الهند».33 وقال سعيد لصحفي أمريكي: «القصاص فَرْض علينا، فقد هزمنا القوة العظمى الروسية في أفغانستان، ويمكننا هزيمة القوات الهندية أيضًا. الله معنا في حربنا، وإذا ما شرعنا في الجهاد، فلا يمكن لقوة أن تقف أمامنا.» وفي حديث لمراسل صحفي باكستاني، ادَّعى سعيد قائلًا إن «معركتنا مستمرة حتى إذا تحرَّرت كشمير. فلا يزال علينا الانتقام [من الهند] من أجل [خسارة] باكستان الشرقية».34
ربما لم تكن تلك العدائية والكراهية مفاجئة. فمن وجهة نظر الجهاديين، كانت الهند بلاد الكفار، ولكن واقع الأمر أنَّهم أنزلوا عقابهم ببعض إخوانهم في الدين أيضًا؛ فقد قتلوا نشطاء من حزب المؤتمر الوطني الكشميري، الذي كان يرغب في الحصول على الحكم الذاتي داخل الهند، ومن الجبهة الوطنية لتحرير جامو وكشمير، التي رغبت في الاستقلال عوضًا عن الاندماج مع باكستان، ومن حزب المؤتمر الشعبي الذي دعا إلى اجتناب العنف.35 وضيَّق الأصوليون الخِناق أيضًا على مصادر بهجة الناس؛ فأُغلِقَت دور العرض السينمائي وصالات ألعاب الفيديو، وحُظِرَ شرب الخمر والتدخين. ووزَّعت الجماعات المسلحة منشوراتٍ تأمر النساء بتغطية أنفسهن من قمم رءوسهن إلى أخامص أقدامهن بارتداء البرقع الأسود الطويل. كان ارتداء البرقع منافيًا للتقاليد الكشميرية؛ ففيها كان كثير من النساء لا يرتدين الحجاب أصلًا، وإضافةً لذلك، كانت تكلفة البرقع الواحد ألفي روبية؛ فأشار المعلقون الساخرون إلى احتمال وقوف الخياطين وتجار الأقمشة وراء تلك الخطوة. إلا أنَّ محاولات وحشية جرت لفرض ارتدائه، وأُلْقِيَت الأحماض الحارقة على النساء اللائي لم يَنْصَعن.36
إلا أنَّ الهدف الرئيسي الذي صَبَّ عليه الأصوليون جامَ غضبهم كان الدولةَ الهنديةَ ورموزها. فلم يكن يمر أسبوع دون هجوم انتحاري على إحدى نقاط الجيش أو معسكرات الشرطة. وبغية وقف تلك الهجمات أو التصدِّي لها، نُقِلَ مزيد من القوات إلى الوادي؛ فأصبحت خنادق الجيش منتشرة في كل ركن من شوارع سريناجار، وصار للجيش الهندي «وجود مهيب ومنتشر في كل مكان» في كشمير، بل حتى أصبح «حكومة موازية»؛ فلم يكن المتوقع منه هو حفظ الأمن والنظام فحسب، وإنما إدارة المستشفيات والمطارات ومحطات الحافلات والمراكز السياحية أيضًا، فقد تخلَّت حكومة الولاية عن معظم مهامها. وبحلول عام ١٩٩٥، لم يتبقَّ في كشمير سوى مؤسستين عاملتين فقط؛ هما الجيش الهندي من جهة وشبكة الجماعات الجهادية من جهة أخرى.37

وإذ أصبح الوادي يشبه منطقة محتلة، تكتَّل الشعور الشعبي في صف القضية الجهادية. فاختلط الإرهابيون بسهولة بسكَّان المكان، وكانوا يُمنَحون المأوى قبل عملياتهم أو بعدها. وعندما كان رجال الأمن الهنود يُقتَلون في التفجيرات، كانت قوات الأمن ترد بانتقام شديد أحيانًا؛ فيداهم الجنود القرى النائية على حين غرة، بحثًا عن الإرهابيين، وعندما لا يجدون أيًّا منهم يوسِعون الفلاحين ضربًا عوضًا عنهم. وسُجِّلَ أيضًا عدد كبير من الوفيات أثناء الاحتجاز.

كانت هذه الحرب التي بدت لا نهائية باهظة التكلفة. فوفقًا لأحد التقديرات، تُوفِّيَ نحو ١٢ ألف مدني في عقد التسعينيات في ظروف غير طبيعية؛ حيث قُتِل ثلاثة أرباعهم على يد مسلحين، بينما سقط الباقون ضحية النيران المتبادلة. زعمت قوات الأمن أنها قتلت ١٣٤٠٠ مُسلَّح وفقدت ٣١٠٠ من رجالها. ونظرًا للكثافة السكانية المنخفضة، كان هذا العدد من الوفيات في كشمير معادِلًا لمقتل ٤ ملايين هنديٍّ في البلد ككل.38 تناثر الضحايا في جميع أنحاء ذلك الوادي الجميل الذي ازداد هَجْر سكانه له يومًا بعد يوم، إلا أنَّ معظمهم كانوا شبابًا كشميريين بلغوا سن الرشد في ذلك العقد الملعون. وفيما بعد، زار الصحفي مُزَمِّل جليل — الذي كاد هو نفسه أن ينضم إلى المقاتلين — مقبرةً على مقربة من القرية التي وُلِدَ فيها، ووجد أنَّ واحدًا وعشرين من شواهد القبور كانت لأصدقائه ورفاقه في المدرسة.39
كما كتب جيمس بوكَن، في الأعوام التي تلت عام ١٩٩٠:
تآمر المسلمون الكشميريون مع الحكومة الهندية للقضاء على التعقيدات التي انطوت عليها الحضارة الكشميرية. فقد زال العالم الذي كانت تعيش فيه: حكومة الولاية والطبقة السياسية، وسيادة القانون، وتقريبًا جميع … سكان الوادي الهندوس، والمشروبات الكحولية، ودور السينما، ومباريات الكريكيت، والخروج في نزهات تحت ضوء القمر في حقول الزعفران، والمدارس، والجامعات، والصحافة المستقلة، والسائحين و… البنوك. وفي ظل هذا الاختزال للواقع المدني، معالِم كشمير … أُعيد ترسيمها؛ فلم تَعُدْ هي … البحيرات والحدائق المغولية … ولا الانتصارات التي تحكي عنها القصص في الزراعة والحرف اليدوية وفنون الطهي الكشميرية، وإنما أصبحت كيانين متواجهين دون وسيط: المسجد ومعسكر الجيش.40

خلال عقد التسعينيات، مع تنامي قوة النزعة الأصولية الهندوسية في سائر أنحاء الهند، تصاعدت وتيرة النزعة الأصولية الإسلامية في كشمير. بدأت العمليتان كل على حدة، لكنَّ كلًّا منهما عزَّزت الأخرى ومنحتها المشروعية. فمع كل نوبة شغب تثيرها حركة أيوديا، كانت العناصر الراديكالية في وادي كشمير تجد سهولة أكبر في تصوير الهند على أنها دولة تُدار بواسطة الهندوس ومن أجلهم. وكلما قُتِلَ مدنيون أبرياء أو جنود هنود في الوادي، تسنَّى لمنظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج الإشارة إلى دور باكستان في تأجيج المشكلات داخل حدود الهند. وثمة حادثتان محوريتان مثَّلتا العلامتين المميزتين — إنْ جاز التعبير — لحقبة التنافس الأصولي تلك؛ هما: تدمير مسجد بابري والهجرة الجماعية للبانديت الكشميريين. فهل يمكن للمرء أن يضع ثقته في دولة عجزت عن الوفاء بالتزامها بحماية دار عبادة عتيق؟ وهل يمكن للمرء وضع ثقته في مجتمع طرد بتلك القسوة معتنقي ديانة أخرى؟ تردَّدت التساؤلات من هذا القبيل في أنحاء شبه القارة الهندية، على لسان هنود لا حصر لهم لم يُعرَف عنهم مسبقًا التفكير من منظور الدين والعقيدة.

٧

دعونا ننتقل الآن إلى ذلك الجزء الآخر المضطرب تاريخيًّا من جمهورية الهند، والمتمثل في الجزء الشمالي الشرقي. في آسام، الولاية الكبرى في المنطقة، كان قد تم التوصُّل إلى اتفاق مع قبائل بودو، سمح بإنشاء «مجلس حكم ذاتي» في المناطق التي تُشَكِّل فيها قبائل بودو أغلبية.41 غير أنَّ جبهة التحرير المتحدة لآسام ذات الميول الانفصالية كانت نشطة للغاية؛ فكانت بعض مناطق الولاية تحت السيطرة التامة للإدارة الرسمية، بينما كانت السيطرة للجبهة في مناطق أخرى؛ فأصحاب مزارع الشاي كافة تقريبًا كانوا يدفعون مبلغًا سنويًّا للمتمردين، حسب عدد العمال المعيَّنين في المزرعة والأرباح المتحققة. وبغية زيادة حجم ثرواتهم، كان المتمردون يشِنُّون غارات على البنوك؛ فأُرسِلت وحدات من الجيش لإعادة النظام؛ حيث أسرت وقتلت بعض الكوادر العليا في الجبهة، فيما عبر آخرون منهم الحدود إلى بنجلاديش.42
كانت التسعينيات عقدًا مليئًا بالاضْطِرابات بالنسبة إلى ولاية تريبورا أيضًا؛ فقد شَنَّت جماعات مسلحة تحارب من أجل حقوق القبائل هجماتٍ منتظمةً على مستوطنات البنغاليين النازحين. وهنا أيضًا كان يصعُب أحيانًا التمييز بين التمرد والإجرام الخالص؛ فكما كتب أحد الباحثين: «قَتْل الأبرياء والاختطاف والابتزاز جانب ثابت من الحياة في تريبورا، وذلك منذ سنين طويلة.» فقد سُجِّلت قرابة ألفي عملية قتل بين عامي ١٩٩٣ و٢٠٠٠، لرجال أمن ومتمردين وفي أغلب الأحيان لمدنيين.43
كان السلاح منتشرًا في كل مكان في مانيبور أيضًا، وهي ولاية أخرى صغيرة جدًّا كانت مشيخةً مستقلةً في الماضي. وهنا كان العنف نتاج الخصومات العرقية بالأساس؛ فالأغلبية السكانية المتمثلة في جماعة الميتي، التي سكنت الوادي، اشتبكت مع القبائل في المرتفعات. وكان ثمة انقسامات في المرتفعات أيضًا، بين قبيلتي تانجكول ناجا والكوكي بالأساس؛ ففي مايو ١٩٩٢ أحرق متطرفون من قبائل ناجا قُرًى تابعة للكوكي، لتبدأ بذلك حلقة قاتلة من المذابح والمذابح المضادة. وفي حين تناحرت تلك الجماعات فيما بينها، كانت كلها معادية للدولة الهندية، فكان بعض الكوكي، وعدد أكبر من التانجكول والميتي، يحلمون بتشكيل دولة مستقلة لكلٍّ منهم.44

٨

كان تاريخ الهند المستقلة، منذ البداية، عبارة عن سلسلة من الحرائق التي تشتعل في مكانٍ ما، في حين تهدأ في مكانٍ آخر. وهكذا، بينما كانت الأحداث مشتعلة في كشمير ومانيبور في تسعينيات القرن العشرين، كانت مناطق ومجتمعات كانت متمردة في السابق تتصالح مع الاتحاد الهندي. ففي ولاية ميزورام؛ فقد حدث تحول باهر في مسيرة زعماء جبهة ميزو الوطنية؛ فبعدما كانوا يومًا متمردين قابعين في الغابات، أصبحوا ساسة في الجهاز الإداري، ووجدوا طريقهم إليه عبر صناديق الاقتراع. وأتى السلام بثماره هو الآخر؛ في صورة أنابيب مياه وطرق، والأهم من ذلك كله: مدارس. في أواخر التسعينيات كانت ميزورام قد احتلت مكانة كيرالا باعتبارها الولاية صاحبة أعلى نسبة متعلمين. ومضى الاندماج مع البر الرئيسي الهندي بخُطًى وثَّابة. بدأ الميزو يتعلمون اللغة الوطنية؛ الهندية، ويتابعون الرياضة الوطنية — الكريكيت — ويلعبونها.

وحيث إنهم كانوا يتحدثون الإنجليزية بطلاقة أيضًا (اللغة الرسمية للولاية نفسها)، فقد استطاع شباب الميزو — رجالًا ونساءً — العثور على وظائف مُربِحة في قطاع الخدمات النامي، خصوصًا في الفنادق وشركات الطيران. وبدأ رئيس وزراء ميزورام، زورام تهانجا، يتحدَّث عن تحويل ولايته إلى «سويسرا الشرق». تضمَّنت رؤيته مجيء السائحين من أوروبا والبر الرئيسي الهندي، وتلقِّي الاقتصاد دفعة إضافية عبر التبادل التجاري مع دولتي بورما وبنجلاديش المجاورتين؛ بحيث يمد الميزو هذين البلدين بالفاكهة والخضراوات، ويشترون منهما الأسماك والدجاج في المقابل. دعا زورام تهانجا أيضًا إلى الاضطلاع بدور أكبر في الوصول إلى تسوية بين حكومة الهند ومتمردي ناجا وآسام؛ فصار من السهل نسيان أنَّ هذا الرجل صاحب الرؤية كان فيما مضى انفصاليًّا راديكاليًّا، يسعى إلى الاستقلال عن الهند وشغل مناصب «وزير الدفاع» و«نائب الرئيس» في «حكومة ميزو في المنفى».45

إضافةً إلى ذلك، كانت المشكلات قد حُلَّت إلى حدٍّ بعيد في ولاية البنجاب، إلا أن الطريق المفضي إلى حلها كان أكثر وعورة في هذه الحالة؛ ففي عام ١٩٨٧ فُرِضَ الحكم الرئاسي على الولاية، وتكرَّر تمديده ستة أشهر في المرة الواحدة. ونظرًا لعدم وجود سياسيين منتخَبين يشرفون على عمل الشرطة، راحت تطارد المتطرِّفين بحماس، بالأساليب السليمة والمخالفة على حد سواء؛ فشاعت معارك الأسلحة النارية، وكانت في الغالب في محيط أقسام الشرطة وفي الريف أيضًا. وفي عام ١٩٩٠ اسْتُدْعِيَ الجيش للمساعدة، ثم سُحِبَ بعد عام. وفي عام ١٩٩٢ عُقِدَت انتخابات مجلس الولاية أخيرًا، فقاطع حزب أكالي دال الانتخابات، وقُتِلَ رئيس الوزراء المنتخَب من حزب المؤتمر، بيانت سينج، في تفجير انتحاري بعد توليه منصبه بفترة ليست بالطويلة.

إلا أنَّه عام ١٩٩٣، عاد حزب أكالي دال إلى السياسة الديمقراطية بالمشاركة في انتخابات المجالس المحلية للقرى، وبعد أربعة أعوام أحرز الحزب نصرًا محقَّقًا في انتخابات مجلس الولاية. بحلول ذلك الوقت كانت نزعة التطرُّف قد بدأت تضعف على نحو ملحوظ؛ فقد أصبح بعض الإرهابيين مبتزِّين، يضغطون على المهنيين السيخ والفلاحين العاديين لإعطائهم المال، وتحوَّل المزاج العام عن فكرة إنشاء دولة خالستان المنفصلة، وبدأ السيخ يرون من جديد مزايا الانتماء إلى الهند. كان معدل النمو الزراعي قد تباطأ، لكن التجارة كانت في ازدهار، وبدأ الإعداد لإنعاش القطاع الصناعي الواهن.46
كانت إحدى العلامات على عودة الأمور إلى أوضاعها الطبيعية أنَّ حزب أكالي دال، الذي وصل إلى السلطة، بدأ أعضاؤه يتصارعون فيما بينهم؛ إذ تنافس الأفراد والفصائل على مقاليد الوزارات عالية المكانة أو الربحية؛ فسعى رئيس وزراء الولاية، براكاش سينج بادَل، إلى التغلُّب على تلك المشاحنات بالاحتفال بالذكرى الثلاثمائة لإعلان الجورو العاشر — جوبيند سينج — إنشاء «الخالصة»، أو جماعة السيخ.47 وخصَّصت حكومته ٣ مليارات روبية للاحتفالات، بينما منحتها الحكومة المركزية مليارًا آخر؛ فشُيِّدَت نُصُب تذكارية جديدة لأبطال السيخ، إضافةً إلى مدرجات رياضية ومزارات ودُور ضيافة جديدة، وكُرِّمَ المثقفون والكُتَّاب السيخ في معبد أناندبور صاحب المهيب، في حفل بهيج حضره رئيس وزراء الولاية وكذلك رئيس وزراء الدولة. وأشار أحد المُكَرَّمين — الروائي والصحفي كُشوانت سينج — في رضًا إلى أنَّ هذا «المجتمع الذي كان مُهَمَّشًا» فيما مضى، «استعاد احترامه لذاته واستأنف دوره الرائد في عملية بناء الأمة».48 إلا أن الثمن كان باهظًا؛ فوفقًا لأحد التقديرات، فاقت الخسائر في الأرواح في البنجاب ٢٠ ألفًا بين عام ١٩٨١ وعام ١٩٩٣، منهم ١٧١٤ شُرطيًّا و٧٩٤٦ إرهابيًّا و١١٦٩٠ مدنيًّا.49

بدأت الاضطرابات في البنجاب منذ عَقدَين، وهي فترة تُعَد طويلة بالقدر الكافي بالنسبة لسكان الولاية، ولكنها في واقع الأمر تُعَد قصيرة نسبيًّا عند النظر لولاياتٍ أخرى حافلة بالصراع في الاتحاد. كان العديد من الكشميريين يتمردون على الهنود منذ الخمسينيات؛ والعديد من فصائل ناجا منذ الأربعينيات. وفي التسعينيات، كان الفصيل المتمرد الرئيسي هو مجلس ناجالاند الاشتراكي الوطني. كان لدى مجلس ناجالاند الاشتراكي الوطني قاعدة متينة مكوَّنة من عدة آلاف مقاتل مدرَّب تدريبًا جيدًا، مقرُّهم قواعد في بورما، كانوا يشنُّون منها غارات عبر الحدود ويشتبكون مع الجيش الهندي. داخل ناجالاند حَظِيَ المتمردون بالدعم والاحترام وربما الهيبة أيضًا. وعلى أي حال، فقد كانوا يستمدون تمويلهم من تبرعاتٍ تُجْمَع من عامة الناس؛ فحتى الموظفون الحكوميون كانوا يدفعون «ضريبة» شهرية للجماعات السرية، فكانت تلك مفارقة عجيبة وإنْ كانت هندية بامتياز؛ تمثلت في دعم الدولة لجماعة مكرَّسة لتدميرها.

ولكن في منتصف التسعينيات، تمكَّنت مجموعة مكوَّنة من جماعات كَنَسِية ومنظمات مجتمع مدني تُدعى «ناجا هوهو»، من إقناع المتمردين والحكومة بإعلان وقف إطلاق النار. وفي عام ١٩٩٧، سكنت المدافع، وبدأ الطرفان المشاورات. في البداية، عُقِدَت المحادثات في بانكوك وأمستردام، ولكن مويفا وسو وافقا في النهاية على زيارة الهند، وهناك التقيا رئيس الوزراء وسافرا إلى الشمال الشرقي، لكنهم فشلوا في التوصل إلى اتفاق؛ فقد كان ثمة عقبتان هائلتان هما: إصرار المتمردين على أن تكون التسوية المُبرَمة خارج إطار دستور الهند، ومطالبتهم بدمج الأجزاء التي تعيش فيها قبائل ناجا في مانيبور وآسام وأروناجَّل براديش مع ولاية ناجالاند القائمة لتشكيل «ناجاليم» (ناجالاند الكبرى).

٩

يمثل عام ١٩٨٩ علامة فارقة في التاريخ السياسي الهندي. فقبل ذلك التاريخ، كان حزب المؤتمر كيانًا جبَّارًا لا يُقهَر، وبعد ذلك التاريخ، تحوَّلت هيمنة الحزب الواحد إلى نظام متعدد الأقطاب؛ ففي الماضي، كان حصول حزب المؤتمر على قرابة ٤٠٪ من أصوات الناخبين على المستوى الوطني يتيح له الفوز بنحو ٦٠٪ من مقاعد البرلمان، وبعد ذلك التاريخ، أصبح انخفاض عدد المقاعد التي يربحها حزب المؤتمر مرافقًا لانخفاض مطَّرِد في نسبة الأصوات التي يحصل عليها، وذلك كما يتبين من الجدول التالي:

حصة أصوات ١٩٨٩ ١٩٩١ ١٩٩٦ ١٩٩٨
حزب المؤتمر ٣٩٫٥ ٣٦٫٥ ٢٨٫٨ ٢٥٫٨
حزب بهاراتيا جاناتا ١١٫٥ ٢٠٫١ ٢٠٫٣ ٢٥٫٦

فيما بين عامي ١٩٨٩ و١٩٩٨، انخفضت حصة حزب المؤتمر من الأصوات بما يزيد عن عشر درجات مئوية، وخلال تلك الفترة زادت حصة حزب بهاراتيا جاناتا من الأصوات بالمعدل نفسه تقريبًا. إلا أنَّه في الانتخابات العامة الأربعة التي أُجرِيت في تلك السنوات، لم يحصد هذان الحزبان الكبيران سوى ٥٠٪ من الأصوات فيما بينهما. فأين ذهب النصف الثاني من الأصوات؟ الأحزاب الشيوعية — المتركِّزة في غرب البنغال وكيرالا — تحصل في المعتاد على نحو ٨٪ من الأصوات، أما أحزاب الطوائف الاجتماعية المتخلفة والداليت، ذات الحضور القوي في شمال الهند، فتحصل فيما بينها على نحو ١٦٪ من الأصوات، وأما الأحزاب الإقليمية، التي تتمتع بحضور ملحوظ في جنوب الهند وشرقها، فتحصل على نحو ١١٪ من الأصوات.

جاء تراجع حزب المؤتمر على مرحلتين. في المرحلة الأولى، التي بدأت في كيرالا عام ١٩٥٧ وبلغت أوجها في أندرا براديش عام ١٩٨٣، تحدَّت هيمنة حزب المؤتمر أحزابًا قائمة على الهويات الإقليمية واللغوية والطبقية. وفي المرحلة الثانية، التي بدأت في شمال الهند عام ١٩٦٧ وبلغت أوجها في المنطقة ذاتها في التسعينيات، خَسِرَ حزب المؤتمر أمام أحزاب قائمة على الهويات القائمة على الطائفة الاجتماعية والدين. من ناحية، تخلَّت الطوائف الاجتماعية العليا بصفة خاصة والهندوس بصفة عامة عن الحزب وانجذبت إلى حزب بهاراتيا جاناتا. ومن ناحية أخرى، آثرت الطوائف الاجتماعية الدنيا إلقاء ثقلها وراء أحزاب من قبيل حزب باهوجان ساماج برئاسة ماياواتي، وحزب سَماجوادي برئاسة مولايام. وحتى المسلمون، الذين كانوا عادةً من أشد أنصار حزب المؤتمر، استجابوا لواقعة هدم مسجد بابري بالتصويت لأحزاب أخرى.

ففيما بين عامي ١٩٤٧ و١٩٨٩، حكم الهند ستة رؤساء وزراء مختلفين. وفيما بين عامي ١٩٨٩ و١٩٩٨، حكم البلاد ستة رؤساء وزراء مختلفين. كانت الحكومات في تلك الفترة أقل استقرارًا وأكثر تعددية؛ إذ كانت تميل لأن تضم أحزابًا متعددة بدلًا من أن يهيمن عليها حزب واحد.

يُعَبِّر صعود الحكومات الائتلافية أو حكومات الأقلية عن اتساع نطاق الديمقراطية في الهند وترسَّخ جذورها. حصلت مناطق مختلفة وجماعات مختلفة على حصة أكبر في المنظومة؛ إذ فازت الأحزاب الساعية إلى تمثيلها بعدد متزايد من المقاعد، عادةً على حساب حزب المؤتمر، الذي كان يزعم خلال أول عقدين بعد الاستقلال — بقدر كبير من النجاح — أنَّه حزب لا يمثل قسمًا بعينه من الهند وإنما الهند كلها بصفة عامة.

جاء هذا الترسُّخ لجذور الديمقراطية بثمنٍ تمثَّل في تناقص اتِّساق السياسة العامة باطِّراد. فسياسات التنمية الاقتصادية والاجتماعية واسعة النطاق التي صاغها جواهر لال نهرو في الخمسينيات — التي منها تشجيع التصنيع الثقيل، وإصلاح قوانين الأحوال الشخصية البالية، وتبني سياسة خارجية مستقلة — لم يكن سيتسنى تطبيقها في ظل الكيان السياسي المفتَّت المنقسم في التسعينيات. وحتى البرامج المعنية بقطاعات محددة — مثل الدفعة التي أعطاها لال بهادور شاستري وإنديرا غاندي للتنمية الزراعية في الستينيات — كان سيصعب إتمامها في وقتنا الحالي.

ففي الماضي، عند منح الوزارات إلى الوزراء، كانت خبراتهم وقدراتهم ذات الصلة تُوضَع في الاعتبار، أما الآن فتوزيع الوزارات يتحدَّد بدرجة كبرى بضرورة إرضاء الشركاء في التحالفات السياسية، الذين يطالبون بوزارات يرون أنها مرموقة أو مربحة. ووزراء الاتحاد، في تأديتهم لمهامهم، يميلون إلى تغليب مصالح حزبهم أو ولايتهم على حساب مصالح الهند ككل.

وعندما انتهى عَقد التسعينيات، أصبح للنظام السياسي الذي كان أحادي القطب أقطابٌ عديدةٌ مختلفة. كان هناك حزب المؤتمر، الذي كانت تتراجع مكانته لكنه كان لا يزال مهمًّا، وحزب بهاراتيا جاناتا، الذي كانت أسهمه في تصاعد ولكنه لم يكن مهيمنًا على الإطلاق. كان هذان هما الحزبان «الوطنيان»، إن جاز التعبير. في تلك الأثناء، كان هناك أيضًا قطبٌ ثالث، تَمثَّل في مجموعةٍ متنوعة من الأحزاب الإقليمية والطائفية التي لم يكن بإمكان حزب المؤتمر أو حزب بهاراتيا جاناتا تجاهلها. فالآن قبل أي انتخاباتٍ عامة، كان لا بدَّ من العمل على استمالة واسترضاء الأحزاب الصغيرة، التي يمتلك كلٌّ منها قوة في ولايةٍ واحدة، قبل الانضمام إلى ائتلاف لعموم الهند؛ ومن ثَم صار — بحسب تعبير أحد المراقبين المُحنَّكين للسياسة الهندية — على «الحزبَين المتطلِّعَين إلى بلوغ مكانة «الحزب الوطني» — حزب المؤتمر وحزب بهاراتيا جاناتا — أن يتصرَّفا مثل وكلاء سلاسل مطاعم الوجبات السريعة. فهما يبيعان علامتهما التجارية إلى وكلاءَ محليين، يتخيَّرون أو يرفضون أو يساومون أو يُبدلون مواقفهم بِناءً على الظروف المحلية».50 وليس للأيديولوجية دور في هذه المساومات؛ فالمسألة كلها قائمة على الحسابات الاستراتيجية، وما يمكن استخلاصه من الحزب الوطني من قبيل مناصبَ وزارية في الحكومة المركزية أو إعاناتٍ مالية للولاية المعنية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤