مقدمة

الطريق إلى المجد

من شجرة صَنَوبر بيضاءَ كبيرةٍ نحتَ جون ليديارد قارِبًا بيديه وأبحر به في نهر كونيتيكت. كان شابًّا قويًّا يجدِّف وشعره البني ينسدل على ظهره، وأنفه الأقنى يتجه نحو مقدمة القارب. ووسط المياه التي ارتفع منسوبُها نتيجةً لذوبان الثلوج في الربيع أبحر ليديارد مئات الأميال نحو مصبِّ نهر كونيتيكت على المحيط الأطلنطي، وكان عليه اجتياز مسافات شاسعة قبل أن يبلغ غايته، وهي بلادٌ تعجُّ بأطلالٍ كالمتاهات وصحارٍ تلفحها الشمس الحارقة. ولم يكن جون ليديارد يعلم في ذلك الوقت من عام ١٧٧٣ بأنه سيصبح أولَ مواطن في الولايات المتحدة المستقلة يستكشف منطقةَ الشرق الأوسط، ويسجِّل انطباعاته عنها، ويقرِّبها إلى أذهان الأمريكيِّين.

لم يكن اهتمام ليديارد في ذاك الربيع منصبًّا على الوصول إلى الشرق الأوسط، بل كان يرغب في الهروب من رقابة القسِّ إليعازر ويلوك رئيس جامعة دارتموث المستبد. وكان ويلوك قد اقتنع بأن ليديارد — الذي يعيش على الحدود في نيو هامبشير، والذي عاش ذات مرة بين قبائل الإيروكوي — يمكن أن يصبح قسًّا ومبشِّرًا عظيمًا؛ لذا ضغط عليه للالتحاق بالجامعة. أما ليديارد ابنُ الثالثة والعشرين فكان ولعُه بالاستكشاف يفوق كثيرًا ولعَه بدراسة اللاهوت. وكان يتوق إلى المغامرة، ليصبح — كما كتبَ ذات مرة إلى والدته الأرملة — «أكبر رحالة في التاريخ … غريب الأطوار، نسيج وحدِه، سريع الحركة، غامض، محب للاستطلاع … شامخ كالشهاب.» استمرَّ ليديارد في الدراسة فصلًا دراسيًّا واحدًا في دارتموث قبل أن يبحر بقاربه على نهر كونيتيكت، متجهًا نحو المحيط والعالم.1

لم تكن بداية رحلة ليديارد واعدةً؛ فقد كان بحَّارًا عاديًّا على متن سفينة تجارية متجهة إلى جزر الهند الغربية. ولم تكن الحياة على ظهر السفن المملوءة بالفئران في أواخر القرن الثامن عشر ممتعةً بأي صورة من الصور، وعندما استدارت السفينة شرقًا تجاه البحر الأبيض، قرَّر ليديارد أن يهرُب من جديد. فغادر السفينةَ عند جبل طارق في يوليو ١٧٧٦، وانضم إلى جنود البحرية البريطانية. وفي الشهر نفسِه دخلت بريطانيا الحرب ضد مستعمراتها الأمريكية المتمرِّدة التي كانت عندئذٍ قد اتَّحدت تحت اسم الولايات المتحدة، وكان من الممكن أن يجد ليديارد نفسَه في مواجهة أبناء بلده. ولكن شاء القدَر ألا يخدمَ على بارجة حربية، بل على السفينة «ريزولوشن» التي كان قائدها جيمس كوك أشهر قبطان إنجليزي.

كان كوك — مكتشف تاهيتي وجزر هاواي — يستعد في ذلك الوقت لرحلته الثالثة حول العالم، عابرًا المحيطَ الهادئ ومتجهًا نحو سواحل أوريجون وألاسكا بحثًا عن ممرٍّ بحري عبْر القارة، هو الممر الشمالي الغربي الأسطوري. كان ليديارد يدوِّن مذكِّراته خلال الرحلة، واصفًا بكل حيوية سكانَ بحر الجنوب الذين قابلهم والوشم يغطي أجسادهم، وكذلك محاربي هاواي الذين هاجموا وقتلوا كابتن كوك في ١٤ فبراير ١٧٧٩. ولكن لم تستطِع بشاعةُ هذا الحادث أن تقلِّل من جمال منطقة أوريجون المملوءة بالغابات والواقعة على الساحل الشمالي الأمريكي. كان ليديارد تواقًا إلى العودة إلى تلك المنطقة، وتحقيق ثروة من خلال بيع الفِراء. لذا اتَّخذ أولَ خطوة في طريق تحقيق حُلمه بأن غادر السفينة عند شواطئ لونج أيلاند في ١٧٨٢، ورجع إلى موطنه الأصلي.

ومع أن الولايات المتحدة كانت قد أوشكت في ذلك الوقت على أن تحصُل على استقلالها، فإن جيشها ظلَّ في حالة تأهُّب للحرب، وكان يمكن أن يخدم ليديارد بين صفوفه، ولكنه كان قد ركن إلى الدَّعة ولم يرغب في التطوع. فقد رأى نفسه «يتنقل في الحياة … بين طرفَي نقيض» هما السعادة والتعاسة، «وأنه كائن لا ينتمي إلى أي ميدان ولا يصلح لأي مجال». نشر ليديارد مذكِّراته عن رحلة الكابتن كوك، وأصبحت أولَ كتاب في أدب الرحلات يُطبع في الولايات المتحدة، ويُعَد ذلك الكتاب — بمعاييرِ القرن الثامن عشر — من الكتبِ الأكثر مبيعًا. وفي سنِّ الثالثة والثلاثين كان ليديارد قد رأى من العالَم ومن القارة الأمريكية أكثرَ من أي شخص آخر عاش في تلك الفترة. ومع ذلك ظلَّ عقله معلَّقًا بأوريجون، وبحُلمه في إقامة مركز لتجارة الفِراء. وعندما فشل في إيجاد مؤيدين لمشروعه في الولايات المتحدة، ترك ليديارد بلاده مرةً أخرى ليبحر عام ١٧٨٥ إلى فرنسا.

كان ليديارد يجسِّد روح الرُّواد الأوائل التي كان يقدِّرها الفرنسيون في ذلك الوقت، مما مكَّنه من التعرُّف بعدد من كبار الشخصيات في باريس. وصادق ليديارد أيضًا بينجامين فرانكلين، أولَ سفير أمريكي في فرنسا، بالإضافة إلى الثوري المتَّقد حماسةً توم بين، وبطل البحرية جون بول جونز. أما أعمقُ علاقاته وأكثرها تأثيرًا فكانت مع رجل أرستقراطي لم يكن يشترك — فيما يبدو — إلا في صفاتٍ قليلة مع هذا البحَّار البسيط الذي كان يعيش في الغابات.

«حين كنت في باريس تعرَّفت بجون ليديارد … رجل عبقري غزير العلم يتحلَّى بالجرأة والشجاعة الفائقة.» هذا ما كتبه توماس جيفرسون، الذي كان قد خلف فرانكلين سفيرًا للولايات المتحدة بفرنسا. وكان جيفرسون طويلَ القامة نحيفًا فاتح البشرة، وهذه الصفات تمثِّل تناقضًا تامًّا مع صفات هذا الرحَّالة المفتول العضلات الذي عركته الظروف والمغامرات. ومع ذلك توثَّقت علاقتهما سريعًا. كان جيفرسون يرى في ليديارد «رجل الحقيقة، صاحب الشجاعة الفائقة والشخصية المغامِرة الجوالة». وفي ردِّه على هذا الثناء والمديح، أطلق ليديارد على جيفرسون «أخي وأبي وصديقي».2

كان جيفرسون مفتونًا بوصف ليديارد لأوريجون وسال لُعابه لفكرة أنه قد يعثر على مجرًى مائي بين هذه المنطقة والساحل الشرقي للولايات المتحدة. وقد أقنع ليديارد بالعودة إلى أوريجون عن طريق روسيا ومضيق بيرنج، ثم البحث عن هذا الممر الشمالي الغربي الأسطوري. وطلبَ جيفرسون من الإمبراطورة الروسية كاثرين العظيمة أن تسمح لليديارد بالعبور سالمًا عبْر بلادها. ولم توافق كاثرين على هذا المشروع، معتبرةً إياه «خيالًا»، ولكن هذا التشكك من جانبها لم يثنِ ليديارد. وفي شتاء ١٧٨٧ انطلق ليديارد في رحلته من ستوكهولم إلى سانت بطرسبرج، ثم أكمل رحلته بالقارب والزلاجة الثلجية مسافة ثلاثة آلاف ميل من الجليد نحو شرق سيبيريا. وهناك ألقى عملاء كاثرين القبضَ عليه، وجرى ترحيله من روسيا.

أثَّرت هذه المحنة في ليديارد كثيرًا فبدا عجوزًا، لكنها لم تثنِ من عزمه ولا إصراره. وأعلن أن «الوجه الأمريكي لا يتحمَّل كما يتحمَّل القلب الأمريكي». واستمرَّ ليديارد يراسل جيفرسون، واضعًا نظرياتٍ كانت آنذاك ثورية بأن الأمريكيِّين الأصليِّين كانوا أحفادَ مهاجرين من آسيا فيما قبل التاريخ، وأن كل البشر — بصرفِ النظر عن جنسهم — ينحدرون من سلفٍ واحد. لكنه لم يتخلَّ قطُّ عن طموحه في استكشاف مناطق خارج الخريطة، وانتقل ليديارد إلى لندن بحثًا عن راعٍ جديد. وهناك لفَت انتباه الجمعية الأفريقية وسكرتيرها هنري بوفوي. وانبهر بوفوي «برجولة ليديارد، وانفتاح أساريره، وحيوية نظرات عينيه»، فاقترح على ليديارد أن يستكشفَ ضفاف النيل، من القاهرة وحتى سِنَّار في شرق السودان، وهي رحلةٌ لم يقُم بها أي غربي من قبل. وأبدى ليديارد رغبته في التحرك فورًا، ولكن بوفوي شرح له أن الجمعية قد خطَّطت رحلاتها بدقة، وأنه لن يتمكَّن من التوجه إلى مصر قبل عدة أشهر على الأقل.

استعدَّ ليديارد جسمانيًّا بالركض مسافة عشرين ميلًا، وذهنيًّا بالانكباب على خرائط الشرق الأوسط، التي كان معظمها غيرَ مستقًى من الواقع. فاتصل بالسفير الأمريكي في بريطانيا، ويليام ستيفنس سميث، واتفقا — عن طريقه — على «توظيف مواهبه وبذل جهده في سبيل خدمة وطنه»، وأن تكون استكشافاته باسم الولايات المتحدة. وأخيرًا، في ٣٠ يونيو ١٧٨٨ غادر ليديارد لندن متجهًا إلى مارسيليا بعد أن استكمل جميعَ استعدادات السفر. وقد كتب في رسالةٍ أخيرة لوالدته: «من هنا سيبدأ طريقي … عبْر البحر المتوسط … إلى القاهرة العظيمة. أما ما وراء ذلك فمجهول، وستبدأ منه اكتشافاتي. أما أين سينتهي بي المطاف وكيف، فستعلمينه إذا بقيتُ على قيد الحياة.» وكتبَ رسالة لجيفرسون يشكره فيها على صداقته وثقته، واعدًا إيَّاه بالحفاظ عليهما. تنبَّأ ليديارد قائلًا: «أنا لا أعتقد أن الجبال أو المحيطات ستقف عقبةً أمام وصولي إلى المجد. فقلبي مشتعلٌ حماسةً.»

كان جون ليديارد متجهًا إلى الشرق الأوسط، وهي منطقةٌ غارقة في الغموض. وندَر أن زارها غربيٌّ من قبل، فما بالكُ باختراق أعماقها؟ فما الذي كان يتوقَّع العثور عليه هناك، بجانب المشقة والعداوة؟ وما أوجه التشابه في التاريخ والعقيدة والثقافة التي كان يمكن أن تربط هذه البلاد البعيدة الغريبة بديمقراطية الولايات المتحدة الحديثة؟ وما المستقبل المشترك الذي قد ينتظر هذين الجزأين غير المتوافقين من العالم؛ الولايات المتحدة والشرق الأوسط؟

كانت مثل هذه الأسئلة مطروحة في ثمانينيات القرن الثامن عشر، ومع ذلك فقد استمر الأمريكيون في الإلحاح عليها منذ ذلك الحين. بينما كان ليديارد — الذي سوف نصف رحلته بالتفصيل في الفصل التالي — أولَ أمريكي يستكشف الشرق الأوسط، وواحدًا من ملايين من بني جلدته الذين سافروا عبر قرنين من الزمان إلى المنطقة ودرسوها وكتبوا عنها وحاربوها. هذا التفاعل كان لا بد أن يُحدِث تحولًا في الشرق الأوسط، لكنه أثَّر أيضًا على الولايات المتحدة، تارة بالضَّعف وتارة بالقوة وتارةً بالانقسام.

كانت رحلة ليديارد إلى الشرق الأوسط بالفعل «ممرًّا إلى المجد» له ولغيره من الأمريكيِّين، في الحاضر والماضي. وحينما رسَت سفينته في مصر، قال ليديارد: «انتبهوا، إنني أتيت بشخصيةٍ جديدة إلى العالم، وموضوعٍ جديد للتراجم والسير.»3 وكان بإمكانه أن يضيفَ «بداية لمشاركة الولايات المتحدة بصورة متميزة في الشرق الأوسط».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤