الفصل الأول

تهديدٌ قاتلٌ ومخزٍ

فجأةً في عام ١٧٧٦ صار الأمريكيون وحدَهم، وقبل ذلك كان التجار من العالم الجديد يبحرون عبْر المحيطات في سفنهم وقواربهم ومراكبهم الشراعية ولا يخشون أحدًا؛ فهم على ثقةٍ بأن أقوى بحرية في التاريخ تقوم على حمايتهم. ولكن هذا الشعور بالأمان بُدِّد بين ليلة وضحاها عندما اشتعلت الثورة؛ فالبحرية البريطانية الضخمة التي كانت تحمي التجارةَ الأمريكية ضد أيِّ مخاطرَ أصبحت عدوَّها اللدود. ولأن الولايات المتحدة لم تكن تملك أسطولًا خاصًّا بها يقوم على حمايتها، فقد كانت سفنها تتعرَّض للهجوم بدءًا من اللحظة التي تغادر فيها مراسيها لتبحر في عَرض البِحار بلا حول ولا قوة.

إن غياب القوات البحرية لم يهدِّد البحَّارة الأمريكيِّين فحسب، بل هدَّد بقاء البلاد نفسِها. فقد كانت أمريكا في القرن الثامن عشر دولةً بحرية تعتمد إلى حدٍّ بعيد على التجارة الخارجية؛ لأن معظم المدن الأمريكية كانت تتمركز على الساحل الشرقي، فضلًا عن توفُّر الموانئ الطبيعية وتمتُّعها بوفرة من أفضل أنواع الأخشاب اللازمة لصناعة السفن. وكانت أيُّ ضربة لهذه التجارة تعني ضربةً قوية للولايات المتحدة الناشئة، خاصة في ذلك الوقت الذي كانت تصارع فيه من أجل الحفاظ على استقلالها الهشِّ ضد خطر الإفلاس الذي تواجهه. وفي حين كانت الجيوش الأمريكية تحارب الجيشَ البريطاني الذي يفوقها خبرةً وتدريبًا وعتادًا هو الجيش البريطاني، حافظت المستعمرَات السابقة على طُرُقها البحرية بكلِّ ما أُوتيت من قوة. وكان أحد هذه الطرق البحرية يتَّجه جنوبًا إلى جزر الهند الغربية، ولكنَّ طريقًا آخر لا يقل أهميةً كان يمتد عبْر المحيط الأطلنطي شرقًا إلى موانئ البحر المتوسط.

يمتد حوض البحر المتوسط من صخرة جبل طارق إلى سواحل الشام وسواحل الأناضول، وكان يُعَد حينذاك إحدى المناطق القليلة في العالم التي ظلَّت بمنأًى عن الهيمنة الأوروبية، حيث كان بمقدور التجار الأمريكيِّين السعي وراء تحقيق ثروة بكل حرية. ومع أن الرحلة من أمريكا الشمالية حتى البحر المتوسط نادرًا ما كانت ممتعة، حيث كانت تتطلَّب الإبحارَ ستة أسابيعَ على متن سفن باردة مزدحمة وغير صحية، فإن الأرباح عادةً ما كانت تفوق المصاعب. وكان التجار المحليون يرحِّبون بسرورٍ بمقايضة منتَجات الشرق من الزبيب والتين والأطعمة الشرقية بمنتَجات العالم الجديد من الأخشاب والتبغ والسُّكر، وكانت تجارة الخمور المعروفة باسم «بوسطن بارتيكيلر» من أنجح التجارات، وكان أحفاد المهاجرين الأوائل إلى نيو إنجلاند يَصنعونها ويبادلونها ببراميلَ من الأفيون التركي، الذي كان المستعمرون يصدِّرونه إلى كانتون والصين، أو يعودون به إلى الولايات المتحدة لاستعماله في الأغراض العلاجية. وفي سبعينيات القرن الثامن عشر كان خُمس الصادرات السنوية للمستعمَرات تقريبًا يذهب إلى موانئ البحر المتوسط على متنِ أكثرَ من مائة سفينة أمريكية. وقال أحدُ رجال الأعمال البريطانيِّين تعليقًا على ذلك: «اذهبوا حيث شئتم، فلن تجدوا ميناء صغيرًا ولا كبيرًا … إلا وفيه أمريكي … يجتهد في مساومة السكان المحليين.»1

قبل الثورة، كان الخطر الأوحد الذي يهدِّد تجارة الولايات المتحدة الحيوية في البحر المتوسط يأتي من الشرق الأوسط. فقد كان القراصنة العرب — الذين يُطلقون على أنفسهم اسم «المجاهدين» — يهاجمون السفنَ الغربية ويستولون على حمولاتها ويأسِرون أطقمها. كان هؤلاء «القراصنة» — كما أطلق عليهم الأمريكيون الأوائل — يبحرون من إمبراطورية المغرب المستقلة والمناطق العثمانية شبه المستقلة كطرابلس وتونس والجزائر، وهي منطقةٌ شرق أوسطية معروفة في مجموعها في اللغة العربية باسم «المغرب العربي». أما الغربيون فأطلقوا عليها اسمًا مختلفًا، وهو اسمٌ يشير إلى الجشع والقسوة، فقد أطلقوا عليها اسم «منطقة البربر».

ظلَّ هؤلاء البربر كابوسَ أوروبا منذ القرن الثاني عشر حتى القرن الثامن عشر. وكان معظم الرجال الذين يأسِرهم القراصنة — ومنهم ميجيل دي سيربانتيس الذي استقى مسرحيتَه الأولى من محنته في الأسر — يباعون عبيدًا محكومًا عليهم بالأشغال الشاقة القاتلة في المناجم والسفن. أما النساء الأوروبيات — اللائي كان جمالهن الأشقر موضعَ تقدير كبير — فكن يجلِبن أفضلَ الأسعار في سوق الجواري. كان الهرب شبهَ مستحيل، وهناك قصةٌ عن سيدة تُدعى ماريا مارتن، وهي مواطنةٌ بريطانية اختطفها القراصنة الجزائريون، وقالت إنهم خلعوا عنها ملابسَها وأخضعوها لتفتيشٍ شامل، ثم قيَّدوها بسلسلة في زنزانة مظلمة مدةً تزيد على سنتين، كلُّ هذا لمجرد أنها رفضت أن تصبح مِلْك يمين. دفع اليأسُ بعض هؤلاء الأسرى إلى إعلان إسلامهم، وقضَوا مدةَ أسْرِهم في العمل مستشارين وأطباءَ، وانضم آخرون إلى أسطول القراصنة خونةً مرتدِّين. ولكن ظل معظمهم في حالةِ انتظارٍ يائسٍ أملًا أن تفتديَهم عائلاتهم من الأسْرِ، فلم يكن يملِك الفدية الباهظة إلا قليلٌ منهم.2
ومع أن ضربات قراصنة شمال أفريقيا كانت موجَّهة بصورة أساسية ضد الأوروبيين، فإنهم بين الحين والحين كانوا يوجِّهون ضرباتهم إلى ضحايا من العالم الجديد. وقد وقع أولُ هجوم موثَّق عام ١٦٢٥ عندما استولى قراصنةٌ مغاربة على سفينة تجارية قادمة من مستعمرات أمريكا الشمالية. وبعد ذلك بعشرين عامًا صدَّ بحَّارة من كامبردج بولاية ماساتشوستس هجومًا جزائريًّا، لكنَّ الجزائر استولت على سفينة أخرى من ماساتشوستس وثلاث عشرة سفينة من فرجينيا عام ١٦٧٨. وكان من بين الأسرى الإنجليز الذين افتدتهم بلادهم من الأسر عام ١٦٨٠ — وعددهم ٣٩٠ أسيرًا — أحد عشر من سكان نيو إنجلاند ونيويورك. وقال حاكم ولاية ماساتشوستس، سيمون برادستريت، في بيانٍ له: «كنَّا قد فقدنا بالفعل خمس أو ست سفن، استولى عليها القراصنة، ولا يزال المزيد من مواطنينا يعانون ذلَّ الأسْر.» كان جوشوا جي واحدًا من هؤلاء، وهو تاجرٌ من بوسطن عانى «محنًا وآلامًا» — عملًا بالسخرة، وتعذيبًا، وإيذاء جسديًّا من آنٍ لآخر — وذلك خلال سبع سنوات قضاها في الأسْر، وقد ذرف الرجل «دموع الفرح … وشكرَ ربَّه … على رحمته الواسعة» عندما فُكَّ أسْره.3

غير أن هجمات القراصنة ضد سفن العالم الجديد شهِدت تراجعًا في القرن الثامن عشر، بعد أن أصبحت السفن الأمريكية تحت حماية الأسطول البريطاني الذي كان يتمدَّد بسرعة، ويتمتَّع بالتفوق التكنولوجي. وكانت مراكب القراصنة ذات الشراع الواحد وسفنهم الصغيرة لا تحمل الواحدةُ منها أكثرَ من عشرين مدفعًا وبضع عشرات من الرجال المسلَّحين. مما جعلهم يفكِّرون مرتين قبل الهجوم على سفينةٍ تحميها سفنُ البحرية الملَكية، التي تحمل الواحدة منها في المتوسط ٨٥٠ رجلًا ومائة مدفع. لم يزِد شمال أفريقيا في نظر البريطانيِّين عن ذبابة لا تكاد تستحق هجومًا بسفينة واحدة، فضلًا عن شن حرب. ولجأت لندن — بدلًا من مقاومة القراصنة — إلى تملُّق الدول البربرية بدفع «رسوم» سنوية، وهو بديلٌ مهذَّب لكلمة «إتاوة». حصل القراصنة على هذه الرشوةِ مقابل عدم المساس بالسفن البريطانية. فتحوَّل اهتمامهم إلى قوًى أقلَّ فتكًا، كالبرتغال والدنمارك وإسبانيا.

ظلَّت السفن الأمريكية تتمتع بالحماية حتى صدور إعلان الاستقلال عام ١٧٧٦. وسرعان ما أصبحت سفن الولايات المتحدة مستهدَفة، ليس فقط من قِبل قراصنة شمال أفريقيا، بل — وهو الأسوأ — وإنما أيضًا من الأسطول البريطاني الذي كان فيما مضى يعمل على حمايتها. ومع ذلك تمكَّنت البحرية الأمريكية الناشئة من مواجهةِ تلك التحديات تحت قيادة القباطنة الشجعان من أمثال جون بول جونز، وأيضًا بمساعدة السفن الحربية الفرنسية. ولكن بانتهاء الحرب عام ١٧٨٣ كانت معظم السفن الحربية الأمريكية قد أُسِرت أو بِيعت أو غرقت. وكانت الولايات المتحدة لا تكاد تستطيع الدفاعَ عن سواحلها، فضلًا عن حماية تجارتها عبْر البِحار. وقال بيرس لونج عضو الكونجرس عن ولاية نيو هامبشير، ومعه كلُّ الحق: «لسنا الآن في حالةٍ تسمح لنا أن نخوض حربًا ضد أي دولة، خاصة ضد دولةٍ [الجزائر] لا نتوقَّع منها سوى ضربات عنيفة.» وكان الأسطول الجزائري الصغير المكوَّن من تسع بوارج حربية كبيرة وخمسين قاربًا مسلَّحًا يتفوَّق على نظيره الأمريكي في التسليح تفوقًا كبيرًا. وأكَّد ذلك اللورد شيفيلد البريطاني، وهو المُعارض الشهير لاستقلال الولايات المتحدة، قائلًا: «لا يستطيع الأمريكيون حمايةَ أنفسهم [من البربر]؛ إذ لا يمكنهم أن يزعموا أن لديهم أسطولًا بحريًّا.»

أمريكا عاجزة عن الرد

كان اللورد شيفيلد يملك أسبابًا وجيهةً للشماتة بالولايات المتحدة. فلم يكن بالإمكان تكوينُ أسطول بحري لأي دولة إلا عن طريق حكومة مركزية قوية، وهو ما كان ينقص الولايات المتحدة. فقد كانت ولاياتها مرتبطة ارتباطًا ضعيفًا بعضها ببعض من خلال بنود اتفاقية الاتحاد الكونفيدرالي، ولم تكن الولايات تستطيع أن تفرض ضرائبَ قومية، فضلًا عن تكوين جيشٍ موحَّد. بل إن بنود الاتفاقية كانت تعارض تمامًا تكوينَ أسطول بحري دائم في أوقات السِّلم. وفي حين كانت الكونفيدرالية تسمح نظريًّا لأية ولاية «تعاني هجمات القراصنة» بامتلاك بعض السفن الحربية للدفاع عن نفسِها، فإن أيًّا من الولايات لم يكن لديها فعليًّا القدرةُ على بناء قوة عسكرية تكفي لصد هجمات البرابرة. هذا بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة لم تكن تستطيع أن تخوض حربًا ضد شمال أفريقيا إلا بموافقة تسعٍ من بين ثلاث عشرة ولاية تملك كلٌّ منها الحقَّ في ممارسة «سيادتها وحريتها واستقلالها».

لم يكن الأمريكيون يرغبون في التخلي عن الامتيازات التي تتمتَّع بها ولاياتهم في سبيل تقديم جبهة موحَّدة للعالم، وعزَّز ذلك نفورهم من الشئون الدولية عامة. وقد حذَّر جورج واشنطن قائلًا: «لا يمكن أن نثقَ بأي دولة إلا فيما يخدُم مصالحها الخاصة»، ومن وجهة نظر الأمريكيِّين كانت الدول الأوروبية أقلَّ الدول التي يمكن الوثوق بها. فالخوف من الانجراف في شئونٍ أجنبية أدَّى إلى معارضة الكثير من الأمريكيِّين لإنشاء أسطول بحري قد يدخل في مواجهة مع الأساطيل الأوروبية، أو الأسوأ من ذلك، يوجِّه مدافعه إلى المؤسَّسات الديمقراطية الوليدة للأمة الأمريكية. وبعد نجاتهم بشقِّ الأنفُس من مواجهة أحدِ أساطيل أوروبا (الأسطول البريطاني)، خشي كثيرٌ من الأمريكيِّين أيَّ قوة بحرية، حتى لو كانت أسطولَهم. كان هناك أيضًا جانبٌ مالي لتلك المعارضة؛ فبناء السفن الحربية يكلِّف أموالًا باهظة، وكانت الخزانة الأمريكية ترزح تحت وطأة ديون الحرب الهائلة، ولم تكن قادرة على تحمُّل مزيد من الأعباء.4

•••

أجبر نقصُ البوارج الحربية وعدم وجود تفويض ببنائها الولايات المتحدة على أن تتغلَّب على نفورها من السياسة الأوروبية، وتطلُب عونَ حلفائها الثوريِّين في فرنسا. كان على فرنسا — وفقًا لاتفاقية التحالف التي وقَّعتها مع الولايات المتحدة عام ١٧٧٨ — «أن تبذُل ما في وُسعها … لحماية … سفن الولايات المتحدة ومواطنيها وبضائعها … ضد الهجمات وأعمال العنف والسلب … التي ترتكبها دولُ البربر.» ولكن عندما طالبت الولايات المتحدة فرنسا بتنفيذ ذلك الاتفاقِ كانت الاستجابة سلبية. فقد حرص الزعماء الفرنسيون على ترويج تجارتهم ودعمِها في البحر المتوسط، وخشُوا تأثيرَ المنافسة الأمريكية على الموانئ الفرنسية الجنوبية؛ تولون ونيس ومرسيليا. وانتهى الفرنسيون إلى أنه «لا توجد مصلحةٌ لفرنسا في منحِ الأمريكيِّين إبحارًا هادئًا وآمنًا في البحر المتوسط»، وقوبل الطلبُ الأمريكي بالرفض.

بعد هذا الخذلان الفرنسي أصبح الأمريكيون فريسةً سهلة للقراصنة. ففي سبتمبر ١٧٨٣ طاردت سفنُ القراصنة الجزائريِّين قافلةَ سفن أمريكية في طريق عودتها إلى الولايات المتحدة بعد إجراء مباحثات سلام مع بريطانيا. وقال بينجامين فرانكلين ساخرًا: «إذا لم يكن هناك قراصنةٌ جزائريون، فمن مصلحة بريطانيا أن تخلقهم خلقًا»، مرددًا بذلك اعتقادًا سائدًا لدى الأمريكيِّين بأن بريطانيا تدفع للقراصنة سرًّا. والحقيقة أن قراصنة شمال أفريقيا لم يكونوا بحاجةٍ إلى تشجيع من بريطانيا أو غيرها من دول أوروبا لمهاجمة سفن الولايات المتحدة التي أصبحت بلا سندٍ من حلفاء أو سلاح، ولا تملِك حتى القدرة المالية لدفعِ الإتاوة.5
ظهرت جرأةُ قراصنة شمال أفريقيا واستهتارهم في مهاجمة السفن الأمريكية في أكتوبر ١٧٨٤، عندما هاجموا السفينةَ «بيتسي». فقد كانت تلك السفينة التي تصل حمولتها إلى ٣٠٠ طن تبحِر من بوسطن إلى جزر تينيريف التي تبعُد مسافة ١٠٠ ميل من سواحل شمال أفريقيا عندما واجهت سفينةً مجهولةَ الهوية. وباستخدام صفٍّ من المجاديف المزدوجة تمكَّنت تلك السفينة الخفيفة من الاقتراب من «بيتسي»، ووضعت جانبها في مواجهة جانب السفينة «بيتسي» التي أثقلتها حمولتها، ثم بدأ القراصنة بصدورهم العارية وعماماتهم وسراويلهم الفضفاضة في الهجوم على بيتسي والانتشار فيها، «وسيوفهم بين أسنانهم ومسدَّساتهم المحشوة في أحزمتهم»، كما وصفهم أحدُ البحَّارة الأمريكيِّين. وذكر شاهد آخر أنهم «أشاروا إلينا جميعًا بالسير إلى الأمام، مؤكدين لنا بلغاتٍ عديدة أننا إن لم نطِع أوامرهم فسيقتلوننا جميعًا.» وجرَّدوا أفرادَ طاقم السفينة من معظم ملابسهم، واستولوا على جميع مقتنياتهم، قبل أن يحبسوهم في مخزنِ السفينة، تمهيدًا لبيعهم في سوق العبيد بالمغرب.6

بعد ثلاثة أشهر من الاستيلاء على بيتسي استولت الجزائر على سفينتين أمريكيتين أخريين، هما دوفين وماريا. وأسرَت واحدًا وعشرين فردًا من أفراد الطاقم الأمريكيِّين، الذين قُيدوا بالأغلال ثم سيقوا في موكبٍ تحيط به الحشود الهاتفة في شماتة حتى بلاط الداي حسن، الذي قيل إنه بصقَ في وجوههم، وقال: «الآن ظفرتُ بكم أيها الكلاب المسيحيون، سأجعلكم تأكلون الأحجار.» ويذكر أحدُ البحَّارة واسمه جيمس ليندر كاثكارت، وكان عمره حينئذٍ ١٧ عامًا، أنهم وُضِعوا في قبوٍ «مظلِم تمامًا … حيث ينام العبيد على عمقِ أربعة طوابق تحت الأرض … والكثير منهم عراة تقريبًا، أما الباقون فلم يكن يستُرهم في الشتاء القارس إلا بطانية بالية.» كانت الوجبة اليومية — حسب قوله — مكوَّنة من ١٥ أوقية من الخبز، وكان أقلُّ قدْر من المقاومة يُعاقب بالجلد بالعصا على القدمين أو بقطع الرأس أو بالإعدام بالخازوق.

يقول ممثِّل ولاية فرجينيا الوطني الغيور ريتشارد هنري لي، أحدُ المشاركين في التوقيع على وثيقة الاستقلال: «اللعنة ألف مرة على القراصنة الجزائريِّين الذين أعلنوا الحربَ على تجارتنا.» أما وزير الشئون الخارجية، جون جاي، فحذَّر من أن «الشر المستطير» للبرابرة لا يهدِّد فقط تجارة الولايات المتحدة، بل يكشف أيضًا ضَعفها التام أمام القوى الأوروبية المتربصة. وأدَّت بعض التقارير التي لا أساسَ لها من الصحة لبعض الصحف عن هجمات القراصنة على سفنٍ أمريكية إلى تصاعدِ المخاوف. فقال جون بول جونز الذي عُرف برباطة الجأش معبِّرًا عن قلقه: «الجزائريون يبحرون في مجموعات متفرقة مكوَّنة من ست أو ثماني سفن، ويصلون إلى الجزر الغربية.» ومع كل هذه الهجمات — الحقيقية والخيالية — فإن الولايات المتحدة لم تفكِّر مرة واحدة في أن تثأر من القراصنة. وفيما عدا طرد ثلاثة من يهود فرجينيا بتهمة التجسس لمصلحة شمال أفريقيا، ظلَّت الولايات المتحدة على سلبيتها.

كانت الولايات المتحدة قد حصلت على استقلالها للتو، وواجهت بالفعل أولَ تهديد أجنبي خطير من الشرق الأوسط. ولم يكن الاستيلاء على السفن «بيتسي» و«دوفين» و«ماريا» إلا بدايةً للعديد من حوادث الاختطاف والأسْر التي واجهتها الولايات المتحدة بعد ذلك في المنطقة. غير أن أزمة البربر أثارت تساؤلاتٍ أساسية حول طبيعة الولايات المتحدة وهويتها وفرص بقائها؛ فهل تستطيع الولايات الأمريكية البقاء إذا حاولت مواجهة هذا الخطر، كلٌّ منها على حدة، أم عليها أن تتحد معًا في دفاع مشترك فعَّال؟ وهل يحذو الأمريكيون حذوَ أوروبا في دفعِ رشوة للقراصنة، أم يتمرَّدون على هذا الأسلوب ويبادرون بالتصدي لهم؟ ومع أن الإجابة عن تلك التساؤلات قد تبدو اليومَ واضحة، فإنها لم تكن كذلك في أواخر القرن الثامن عشر. «لن يكون من السهل دعوةُ جميع الولايات للعمل معًا أمةً واحدة؛ فأمريكا عاجزة عن الرَّد.» هكذا قال لورد شيفيلد ساخرًا.7

براءة أم استقلال؟

كان على الأمريكيِّين أولًا قبل أن يتمكَّنوا من إثبات خطأ شيفيلد، أن يخوضوا في مناقشاتٍ مطوَّلة ومضنية حول جوهر دستور بلادهم وشخصيتها. وكان من بين أكثر المشاركين حماسةً في هذا الجدال توماس جيفرسون، الحاكم السابق لفرجينيا وواحد من أهم مَن أسهموا في وضع إعلان الاستقلال. كان جيفرسون أحدَ ملاك الأراضي الذين يعيشون في الأقاليم، ولم يذهب قط أبعدَ من باريس، ولم يشارك في أي حرب، ومع ذلك أصرَّ توماس جيفرسون على أنه يفهم الشرق الأوسط والحاجة إلى مواجهته بالقوة.

كان توماس جيفرسون مزيجًا من المتناقضات، شأنه شأن بلاده التي كانت تناهض السياسة الأوروبية لكنها متعطشة إلى التجارة الخارجية، وتتوق إلى الوحدة القومية إلا أنها تسعى إلى حماية استقلال الولايات، وتلتزم بحقوق الإنسان لكنها تنكر أحقيةَ السود وأهل البلاد الأصليِّين في التمتُّع بهذه الحقوق. كان جيفرسون مسرفًا في التأنُّق أحيانًا ورثَّ المظهرِ أحيانًا أخرى، ثرثارًا تارةً وصموتًا تارة أخرى، وكان يدَّعي أنه رجل من عامة الشعب وهو يعيش في مَعزِل عنهم بضيعة مونتيتشيللو الفخمة. وكان من بين المتناقضات العديدة التي حيَّرت كتَّاب سيرته الصراعُ بين الجانب المتخاذل في شخصيته والجانب المنادي بالمساواة، وبين تمسُّكه بالنظام الجمهوري واعتناقه فلسفةَ أبيقور، وبين حبه للسلام وحماسته الشديدة للثورة الفرنسية الدموية. كان جيفرسون كما كتب المؤرخ جوزيف إليس «يجمع بين العمق الشديد والسطحية المتناهية، بين العلم الغزير والسذاجة غير العادية، بين البصيرة الثاقبة في قراءته للآخرين والقدرة المخيفة على خداع الذات.»

كان تناقض جيفرسون أبرزَ ما يكون في مواقفه تجاه القراصنة البربر. فقد كان هو شخصيًّا يمتلك عبيدًا سودًا من أصول أفريقية، وكان يستغل واحدةً منهم — هي سالي هيمنجز — جنسيًّا، لكنه لم يستطِع قط تقبُّل فكرة امتلاك الأفارقة لعبيدٍ بيض، أو انتهاكهم حرمةَ النساء البيض. وقد قرأ القرآن وعديدًا من الكتب عن الشرق الأوسط، بل إنه حتى حاول تعليمَ نفسه بعض اللغة العربية، لكنه اعتبر كلًّا من المنطقة وديانتها الأساسية شيئين غريبين عن عالمه، بل لا يمتَّان إليه بصلة.

ولكن ظلَّ موقف جيفرسون ثابتًا لا يتزحزح في أمرٍ واحد. فقد كان يؤمن أن الأمريكيِّين المعتزِّين بكرامتهم، الحريصين على أموالهم، يفضِّلون «حشْد السفن والرجال لمحاربة القراصنة بالقوة على جمع الأموال لرشوتهم». وقد تحوَّلت هذه النزعة الفريدة بالطبع إلى «موقفٍ ثابت ومستقل» كان جيفرسون يأمُل أن تتسم به السياسةُ الخارجية الأمريكية، موقفٍ يقوم على رفض الرضوخ للابتزاز؛ فردعُ البربر بدلًا من مهادنتهم سيحمي الاقتصاد الأمريكي ويبعث رسالةً واضحة إلى أي قوًى أخرى قد تناصب أمريكا العداء. قال جيفرسون: «سننال بهذا الموقف احترامَ أوروبا. والاحترام يعني حمايةَ المصالح.»8
في خريف عام ١٧٨٤ كان جيفرسون يشغَل منصب «مبعوث» أمريكا لدى فرنسا (كان للقب السفير وقعٌ ملكي في آذان الأمريكيِّين الثوريين) وممثلها في عديد من القصور الملكية الأوروبية. وقد أوصى أولًا بأن تتحد الولايات في مواجهة البربر مع إسبانيا والبرتغال ونابولي والدنمارك والسويد وفرنسا. وكانت الأساطيل البحرية المشتركة لتلك الدول ستحتفظ بوجود دائم على ساحل شمال أفريقيا، مما يجبر أهلها على التوقُّف عن القرصنة والاشتغال بمهنٍ سلمية بدلًا منها، كالزراعة مثلًا كما اقترح جيفرسون. ولكن بسبب عدم ثقته في ردِّ فعل أوروبا على هذه المبادرة القادمة من الولايات المتحدة الحديثة النشأة، طلب جيفرسون عونَ الماركيز دي لافاييت، النبيل الفرنسي الذي ساعد الثورة الأمريكية. روَّج لافاييت لتلك المبادرة على أفضلِ وجه، ولكن الاستجابات كان معظمها سلبيًّا. وفي حين أبدى عددٌ من الممالك اهتمامًا بالمبدأ، فإنها رفضت أن تُسهم بسفنها في أي تحالف، واستمرَّت في دفعِ الإتاوة للقراصنة. أما الفرنسيون فرفضوا فكرةَ التحالف في حد ذاتها.9
كانت استجابة الولايات الأمريكية للاقتراح أكثرَ إحباطًا بالنسبة إلى جيفرسون. فقد رفض الكونجرس بكل عناد تخصيصَ المليوني دولار اللازمة — وفقًا لحسابات جيفرسون — لبناء أسطولٍ يحمل ١٥٠ مدفعًا. وخصَّص الأعضاء بدلًا من ذلك ٧٠ ألف دولار لشراء ما أسماه الوزير جاي «نفوذ … القصور الملكية، التي ينتشر فيها الفساد والمحسوبية». وانهارت آمال جيفرسون. فصفات «الشرف والحرص» التي كان يظن أنها ستمنع الأمريكيِّين من الخضوع للبربر، على غرار الأوروبيين، أثبتت أنها دوافعُ غير كافية. وكان يبدو أن الأمر يحتاج إلى مزيدٍ من أعمال السلب والنهب حتى يقتنع أهل بلاده بضرورة توحيد أمَّتهم والدفاع عن أنفسهم، وعلَّق جيفرسون قائلًا: «لا بد أن ترى الولايات العصا. بل ربما يجب استخدامها مع البعض منهم.» وفي غضون ذلك لم يكن بمقدور جيفرسون سوى مواصلةِ تقديم الرشاوى للجزائريين، ولكن بمنتهى التقزُّز.10
ولتنفيذ تلك الصفقة الحسَّاسة وقعَ اختيار الكونجرس على جون لامب، وهو رجلُ أعمال من كونيتيكت ليست لديه أي خبرة دبلوماسية، لكنه عمِل من قبلُ في تجارة البِغال في منطقة البحر المتوسط. وكان جيفرسون قلِقًا بشأنه لأن «سلوكه ومظهره لا ينبئان بخير». لكنه عزَّى نفسه فيما بعدُ بالأمل في كون لامب «رجلًا عاقلًا لديه بعض المواهب التي قد تساعد في التفاوض». لكن سرعان ما ظهر افتقارُ لامب إلى الكفاءة في اللحظة التي وطئت فيها قدماه أرضَ الجزائر في فبراير ١٧٨٦. فقد ضلَّله القنصل الفرنسي جون بابتيست دي كيرسي الذي كان يساند الولايات المتحدة ويشجبها سرًّا أمام الداي حسن. وفشل لامب في ضمان الإفراج عن أسير أمريكي واحد. وتلقَّى بدلًا من ذلك مطالباتٍ بفدًى إضافية، من بينها صورةٌ للجنرال واشنطن، الذي اعترف الداي بإعجابه به. أما قبطان السفينة «دوفين» الأسير ريتشارد أوبراين، الذي كان شاهدًا على ذلك الخزي، فقد قال: «أتمنَّى ألا أرى الكابتن لامب في بلاد البربر مرةً أخرى إلا لشراء البِغال والجياد.»11

بذلك انتهت أولُ مبادرة دبلوماسية لأمريكا في الشرق الأوسط بالفشل، ولكن هذا الفشل في الجزائر لم يثبِّط الولايات المتحدة عن السعي وراء عقدِ اتفاقات مع دول البربر الأخرى. بل الواقع أنه حين كان لامب يهين نفسه ويذلها أمام الداي، كان أمريكي آخر يحاول التفاوضَ مع طرابلس، المدينة الرئيسية في ليبيا الحديثة. وحانت الفرصة عندما عرض الممثل الشخصي لباشا طرابلس — وهو واحد من النبلاء يُدعى عبد الرحمن الأجار — أن يستضيف جون آدامز، مبعوثَ الولايات المتحدة لدى بريطانيا، في منزله بلندن. تردَّد آدامز في قبول الدعوة خوفًا من أن تدور المناقشة فقط عن الإتاوة، ولكنَّ الأنباء عن تصاعُد المخاطر التي تهدِّد التجارة الأمريكية في البحر المتوسط أقنعته بالحاجة إلى عقدِ اتفاق سلام على الأقل مع دولة واحدة في شمال أفريقيا.

بدا عبد الرحمن باشا لأول وهلة عجيبًا وهمجيًّا في أعينِ آدامز الناقدة، وبدت هيئته «مشئومة» توحي «بالطاعون والحرب». ولكن هذا النفور المبدئي زال عندما رحَّب الباشا بضيفه بغليون وفنجان صغير من القهوة المركَّزة. وبمزيج من الإسبانية والإيطالية والفرنسية سأل الباشا آدامز عن بلاده الجديدة، فأجاب المبعوث سعيدًا بوصفٍ مفصَّل لحكومة بلاده وشعبها وطقسها وأراضيها. علَّق عبد الرحمن باشا قائلًا إن هذا «شيء عظيم»، لكنه أدهش آدامز عندما واصل دون توقُّف واصفًا الولايات المتحدة بأنها «عدو طرابلس». وقال الباشا إن دول البربر «تسيطر على البحر المتوسط، ولا تستطيع دولةٌ أن تبحر فيه دون عقد اتفاقية سلام معها». وفوق هذا وذاك، فإن ثَمن هذا السلام هو ٣٠ ألف جنيه، إضافةً إلى جنيه للباشا شخصيًّا. وكان مثلُ هذا المبلغ ضروريًّا لإرضاء تونس، حسب تقديرات عبد الرحمن، وضعفه للمغرب والجزائر. وكان مجموع تلك المبالغ يصل إلى نحو مليون دولار، وهو ما يمثِّل تقريبًا عُشر ميزانية أمريكا السنوية.12
كتب آدامز مذهولًا: «مجرَّد القراءة عمَّا جرى في تلك المقابلة يُعَدُّ جُرحًا في كرامة الكونجرس لا يمكن شفاؤه، وقد يكون أكثر لياقةً أن نكتبه … لمسرح نيويورك.» ولأن آدامز كان مشهورًا بالغرور، فقد كان هادرًا في غضبه بسبب صفاقة عبد الرحمن باشا الذي يمثِّل دولة قوية، لكنها بدائية، خاصة إذا قورنت بالولايات المتحدة المستنيرة. وحزن آدامز بسبب أن «المسيحية جعلت كلَّ البحَّارة جبناء حسب معايير المسلمين». كما أبدى حزنه أيضًا على أنه سيجري إرضاء «طغاة بلا مشاعرَ لا يهتمون بحياة رعاياهم أكثرَ مما يهتمون بالديدان التي تزحف على شجرة تفاح». وشارك آدامز جيفرسون اعتقادَه بأن أفضلَ السبل للحفاظ على كرامة أمريكا هو قتال القراصنة، لكنه ظل يتشكك في الجدوى الاقتصادية للحرب. وعندما وضع آدامز في حساباته الخسائر التي ستتكبَّدها التجارة البحرية للولايات المتحدة، وارتفاع أسعار التأمين، وفداحة الدَّين الأمريكي، خلَص إلى أنه من الآمن أن تقدِّم أمريكا «هدية واحدة قيمتها مائتا ألف جنيه» بدلًا من المخاطرة بخسارة «مليون جنيه سنويًّا في التجارة». وأكَّد آدامز: «لن نحارب البربر إلا إذا قرَّرنا أن نحاربهم إلى الأبد» وحتى القضاء عليهم، ولكنه خشي أن تكون محاربة القراصنة أمرًا «شديدًا لا يتحمَّله شعبنا».13

اعترف جيفرسون الناطق بلسان الشعب بأن لديه وعيًا «بالنزعة» الأمريكية أكبر من آدامز «المنعزل»؛ لذا ظلَّ على ثقته بأن الشعب الأمريكي سيحارب شمال أفريقيا إذا أُتيحت له الوسائل الكافية وتُرك له الخيار. غير أن جيفرسون — بوصفه رجل دولة — لم يستبعد إمكانيةَ الحل الدبلوماسي لمشكلات القرصنة ضد أمريكا، إذا أُتيحت الفرصة لذلك. ومَن ثم انضم جيفرسون في مارس ١٧٨٥ إلى آدامز في لندن في محاولةٍ أخيرة لمنع نشوب «حرب عالمية مروِّعة» وللتوصل إلى اتفاقٍ مع طرابلس.

وأمام عبد الرحمن باشا أعاد الأمريكيون مرةً أخرى التأكيدَ على مشاعر الود التي تكنُّها الولايات المتحدة لكل دول العالم ومنها طرابلس. وقالا إن الشعب الأمريكي يحاول جاهدًا تجنُّب إراقة الدماء، وأنه مستعد من أجل هذا للدخول في اتفاقية صداقة دائمة مع طرابلس بشروطٍ غير مجحفة. كان يبدو أن عبد الرحمن باشا ينصت باهتمام لهذين المبعوثين. ولكن عندما جاء دوره في الحديث، كرَّر فقط مطالبته بالمليون دولار. ثم عبَّر عن مبدأ سيصبح يومًا ما مألوفًا للأمريكيِّين، لكنه أثار ذهول هؤلاء الأمريكيِّين الأوائل؛ إذ قال:

مكتوب في القرآن أنَّ كل الأمم التي لا تعترف بهيمنة المسلمين تُعدُّ آثمة، وأنه من حق المسلمين وواجبهم أن يقاتلوا مَن تطوله أيديهم منهم، وأن يجعلوا كلَّ أسراهم عبيدًا، وأنَّ مَن يُقتل من المسلمين في تلك الحرب فمصيره الجنة.

كان آدامز قد سمِع ما يكفي. فقد عرف أن الشيء الوحيد الذي يقود أهلَ شمال أفريقيا هو الطمع، وأن التفاوض لا يؤدي إلا إلى «إثارة شهية هؤلاء البربر» ويجلِب الخزيَ على الولايات المتحدة. ولكن بسبب عدم ثقته بمدى استعداد أمريكا للقتال ظلَّ آدامز يرى أن الرشوة هي الحل الوحيد أمام بلاده. وخلَص جيفرسون إلى نتيجةٍ مُفادها «أنه لو أُرْسِل ملاك في هذه المهمة لمَا استطاع أن يفعل أيَّ شيء» لإرضاء أهل طرابلس؛ لذلك عارض أي مساعٍ أخرى لإغرائهم بالمال. لكن جيفرسون دأب أيضًا على تأكيد أن الأمريكيِّين سيحملون السلاح للدفاع عن كرامتهم وسعادتهم، وأن السلام مع البربر لن يكون ممكنًا إلا «عن طريق الحرب».14
أراد الكونجرس — الذي كان لا يزال مترنحًا من أثر الثورة — أن يتجنَّب الحرب، فأصدر في يونيو ١٧٨٦ أوامره لجيفرسون وآدامز وفرانكلين بالتفاوض على اتفاق سلام مع المغرب. ادعى حاكم تلك الإمبراطورية، سيدي محمد بن عبد ﷲ، أنه أولُ ملِك يعترف باستقلال الولايات المتحدة، وأولُ زعيم مسلم يسعى إلى معاهدة رسمية مع تلك الجمهورية الناشئة. ولكن الكونجرس تباطأ ونجح في إثارة حفيظة الإمبراطور، وردًّا على ذلك بدأ المغاربة في الاستيلاء على السفن الأمريكية، بدءًا ﺑ «بيتسي» في أكتوبر ١٧٨٤. وقد لفَت ذلك انتباه الأمريكيِّين، فشدَّ فرانكلين وجيفرسون وآدامز الرِّحال «مسلَّحين فقط ببراءتهم وبغصن زيتون» في محاولةٍ لامتصاص غضب الإمبراطور. وفي مقابل هدية قيمتها ٢٠ ألف دولار ضَمِن المفاوِضون إطلاقَ سراح بيتسي واتفاقية سلام وصداقة وتبادُل إشارات السفن. وبذلك بدأ أطول عَقد ممتد في تاريخ الدبلوماسية الأمريكية، وهو أيضًا أولُ عَقد يحمل كتابة عربية وتاريخًا هجريًّا (شهر رمضان من عام ١٢٠٠ للهجرة). وأصبحت القنصلية الأمريكية في طنجة — التي أُقيمت بمقتضى هذه الاتفاقية — بذلك أقدَم مبنًى دبلوماسي أمريكي والأثرَ الوطني الوحيد لأمريكا في الخارج.15

ومع أن جيفرسون كان أحدَ المشاركين في إبرام الاتفاقية مع المغرب، فقد كان يخشى أن تظل الاتفاقية بلا مغزًى، ما دامت أمريكا تنقصها «الخزانة العامة والقوة العامة» الضروريتان لضمان الالتزام ببنود الاتفاقية. لذلك أوصى بوقف أيِّ مفاوضات أخرى مع شمال أفريقيا حتى تتخذ الولايات المتحدة «خطوات … قد تصحِّح فكرتَهم … عن عجز الحكومة الفيدرالية». وفي تلك الأثناء أسرعت دول البربر الأخرى في تقليد أسلوب المغرب في انتزاع التنازلات الأمريكية. فما إن أُفرج عن بيتسي إلا وكانت قد استُهدفت مرةً أخرى، هذه المرة من تونس، وجرى تغيير اسمها رسميًّا إلى ماشودا.

هذه المخازي لم تؤرِّق جيفرسون فقط، بل أرَّقت جورج واشنطن أيضًا، وهو أكثرُ أمريكي نال الاحترام عبْر الزمن. كافح واشنطن للتغلُّب على ضَعف بلاده وقلة حيلتها عام ١٧٧٦، وأحسَّ «بأعمقِ مشاعر الخزي» وهو يرى أمريكا وقد «أصبحت تدفع الجزية لتلك العصابات، التي لا يتكلَّف محوها من وجه الأرض أكثرَ من نصف المبلغ الذي تلقَّته إتاوةً». وكان واشنطن يعتقد — على غرارِ جيفرسون — أن الشعب الأمريكي يفضِّل مواجهة البربر على الرضوخ للابتزاز، لكن لا تزال تنقصه سفنٌ حربية للقتال. وقال لرفيق السلاح السابق لافاييت: «إني أتضرَّع إلى السماء أن يكون لنا أسطولٌ بحري لتأديب أعداء الإنسانية هؤلاء، أو سحقهم تمامًا.»

مع ذلك ظلَّت الحقيقة الواقعة هي أن الولايات المتحدة لا تمتلك أسطولًا حربيًّا، ولا حتى وثيقة دستورية لتكوين أسطولٍ حربي، فكتب محرِّر جريدة «سنتينل»، بنجامين راسل، لجون آدامز: «من دون نظام حكم قومي سنصبح عمَّا قريب نهبًا لكل دول الأرض.» وكتب الكابتن أوبراين بمناسبة مرور عامين على سجنه في سجون جزائرية مع واحد وعشرين من طاقم السفينتين دوفين وماريا: «فاقت آلامنا كلَّ ما يمكن أن تتخيَّله.» وساد شعورٌ عام بالغضب والمهانة، وعبَّر ديفيد همفريز، مساعد الجنرال واشنطن أثناء الحرب، والدبلوماسي والشاعر المخضرم، عن ذلك الشعور بأبياتِ شعر قال فيها:

«انظر أي مستقبل مظلم يحطِّم فرحتنا!
وأي صفاقة وجرأة تدمِّر تجارتنا؟
يا إلهي! العصابات التي تملأ أمواج بحارِك
قد استولت على سفننا، وجعلت من رجالنا الأحرار عبيدًا.»16
وبدافع من صورة البحَّارة المسجونين في شمال أفريقيا والسفن الأمريكية المهدَّدة بالخطر، اجتمع مندوبون من ١٢ ولاية من الولايات الثلاث عشرة في فيلادلفيا في مايو ١٧٨٧. وكان الغرض من هذا الاجتماع هو التفكيرَ في إحلالِ ميثاق وطني ذي صيغة أكثرَ قوميةً محلَّ البنود الكونفيدرالية المعمول بها، وذلك لتدارك نقاط الضَّعف التي أدَّت إلى إذلال الولايات المتحدة أمام البربر. وكان الرئيس الشرفي لهذا المؤتمر الدستوري هو جورج واشنطن، الذي دعا ممثلي الولايات إلى الابتعاد عن «أي حديث عن عقابِ الجزائريِّين حتى تتبلور حكمةُ الاتحاد وقوَّته ويجري تطبيقهما بصورةٍ أفضل». لم يكن من السهل تجاهُل هذا المطلب من بطل الثورة، فتجنَّب المشاركون في المؤتمر أيَّ إشارة إلى البربر. ولكن بصفتهم مواطنين في دولةٍ تعتمد على التجارة، لم يتمكَّنوا تمامًا من تجاهُل مسألة تكوين أسطول بحري لحماية تلك التجارة. وتحدَّث جيمس ماديسون — الأرستقراطي الفيرجيني الضئيل الجسد الذي كان المجلس يعتبره أكثرَ المشاركين ديناميكيةً — بالنيابة عن الكثيرين عندما كرَّر الحديثَ عن مخاوفه من وجود أسطول بحري قوي، لكنه اعترف بحاجة أمريكا الماسة إلى قوةٍ بحرية. فقال: «الضَّعف يجلِب الذل. وأفضلُ طريقة لتجنُّب الخطر هو أن تكون لدينا المقدرة على مواجهته.»17
ومع محاولات التهوين من شأن العلاقة بين الشرق الأوسط والاتحاد الأمريكي أثناء المؤتمر الدستوري، فإن هذه العلاقة ظهرت بوضوح في المناقشات الساخنة التي جرَت على مستوى الولايات حول إقرار الدستور المقترَح. وذكر القس توماس ثاتشر أن «استعباد بحَّارتنا … في الجزائر يكفي لإقناعِ أكثر المتشككين بيننا بحاجتنا إلى حكومة عامة». وقال ناثانيل سارجنت إنه من «السخف» التفكير في أن الولايات المتحدة يمكنها أن تستمر تحت البنود غير الفاعلة لاتفاقية الاتحاد الكونفيدرالي، وأن تستمر في الدفاع عن نفسها ضد «قراصنة أعالي البِحار.» وبدأ دعم الدستور كإطار لحماية التجارة الأمريكية عبْر البلاد كلها، وليس فقط في نيو إنجلاند البحرية. وتساءل هيو ويليامسون من نورث كارولاينا، وهو طبيب وعالِم فلك شهير: «ما الذي يمنع القراصنة الجزائريِّين من الرسوِّ على سواحلنا وأسرِ مواطنينا واسترقاقهم؟» أما جورج نيكولاس، المحامي من كنتاكي، فتساءل: «ألا يمكن أن يستوليَ الجزائريون على سفننا؟ ألا يمكنهم … نهب سفننا وتدمير تجارتنا دون مشقة؟» وكانت الإجابة الوحيدة من وجهة نظريهما لمنعِ حدوث ذلك هي الاتحاد.18
لكن هذا المنطق القوي لم يبدِّد مخاوفَ هؤلاء الذين كانوا لا يزالون يخشون توسُّع السلطة المركزية؛ لذا أصبح كثيرٌ من المناقشات طويلًا ومشحونًا بالعَداء. وفي دفاعٍ مستميت عن الدستور انضم ماديسون إلى كلٍّ من جون جاي وألكسندر هاملتون من نيويورك في كتابة سلسلة من المقالات سُميت فيما بعدُ «الأوراق الفيدرالية». وكانت هذه أيضًا تؤكِّد على الرابطة الأساسية بين السفن التجارية والسفن الحربية. وكتب هاملتون صاحبُ العقلية التجارية الواقعية: «إذا أردنا أن نكون شعبًا يعمل بالتجارة … فعلينا أن نسعى إلى امتلاك أسطول بحري في أقرب فرصة.» (الأوراق الفيدرالية، المقالة رقم ٢٤). وحذَّر من أنه بدون «أسطول بحري متَّحد … ذي مكانة محترمة … فإن العبقرية التجارية والبحرية الأمريكية ستضيع تمامًا». (المقالة رقم ١١). وفي إشارةٍ خاصة إلى تهديدات شمال أفريقيا أكَّد ماديسون (في المقالة رقم ٤١) أن الاتحاد وحدَه هو الذي يستطيع أن يحفظ «القوة البحرية» للأمة من «جشع القراصنة والبربر». وتكشف الرسائل الخاصة لجاي منهجًا أكثرَ شراسة؛ إذ قال: «كلما أُسيئت معاملتنا في الخارج، ازداد اتحادنا وتآزرنا في الداخل.» بل إنه رحَّب بهجمات القراصنة التي ستَضطرُّ الولاياتِ إلى التكاتف ضد «مخاطر القراصنة الجزائريين وقراصنة تونس وطرابلس».19

وكانت هناك محاولةٌ أكثر جرأة، وإن نسيَها الكثيرون، لجعل الشرق الأوسط يدافع عن الدستور، وكان صاحبها هو بيتر ماركو. كان يُطلق عليه «بيتر الشاعر»؛ وُلد بيتر في سان كروا وتلقَّى تعليمه في أكسفورد، وكان يشتهر بكونه واحدًا من أبرزِ شعراء فيلادلفيا وكتَّابها الصحفيين. وفي بداية مناقشات إقرار الدستور عام ١٧٨٧ نشر روايةً هزلية عنوانها «الجاسوس الجزائري في بنسلفانيا»، وفيها يقوم عميلٌ جزائري اسمه محمد بالتجسُّس على الدفاعات الأمريكية، ومن خلال ذلك يمتدح ماركو الحريات الاقتصادية والسياسية في الولايات المتحدة، لكنه يسخر من تفكُّك الولايات الأمريكية. فيقول: «البلاد ينخر فيها التفكُّك والانشقاق، ويمكن نهبُها بلا أدنى مشقة، وأسرُ شبابها وفتياتها.» وللإسراع بتدمير أمريكا، جعل ماركو محمدًا يوصي بالاستيلاء على رود أيلاند — الولاية الوحيدة التي قاطعت مؤتمرَ الدستور — وتحويلها إلى قاعدةٍ لعمليات القرصنة الجزائرية.

ساعدت المنشورات من أمثال «الأوراق الفيدرالية» و«الجاسوس الجزائري» على ترجيح كِفة الفيدراليين. ومكَّن الدستور — الذي أُقر رسميًّا في ٤ مارس ١٧٨٩ — الكونجرس من إعلان الحرب «ومن تكوين أسطول بحري والمحافظة عليه». ولعِب تهديدٌ قادم من الشرق الأوسط دورًا ملموسًا في تكوين ولايات متحدة فعليًّا، أي أمة متماسكة متكاتفة قادرة على الدفاع ليس عن حدودها فحسب، بل أيضًا عن مصالحها الاقتصادية الحيوية بالخارج. «وهكذا وبطريقةٍ غير مباشرة كان الداي الجزائري العنيف واحدًا من الآباء المؤسِّسين للدستور الأمريكي»، حسبما كتب مؤرخ الدبلوماسية الأمريكية توماس بيلي. وكان موضوع استخدام الأمريكيِّين لقواهم الاتحادية للقتال من عدمه موضوعًا لا يزال محلَّ تساؤل.20 فقد استمرَّت جماعاتٌ في التعبير عن رفضِها لفكرة إنشاء أسطول بحري خشيةَ الدخول في مواجهاتٍ أجنبية. وتردَّد الكثيرون أيضًا بشأنِ حمل السلاح تحت أي ظرف، مفضِّلين مبدأ «البراءة وغصن الزيتون» أمام البربر على أيِّ موقف يتَّسم بالاستقلال والكرامة.

العجز والغضب

كان توماس جيفرسون يذرَع غرفةَ مكتبه في برودواي بنيويورك جيئةً وذهابًا، محاولًا أن يجد حلًّا لرفض أمريكا استخدام قوَّتها. فبعد مغادرته باريس في نهاية عام ١٧٨٩، قَبِل جيفرسون منصبَ وزير الخارجية، وهو منصب منحه راتبًا سنويًّا يقدَّر بثلاثة آلاف وخمسمائة دولار، وخمسة من المساعدين، وجعله المسئول الأول عن حل أزمة البربر. لم تؤثِّر هذه الترقية تأثيرًا يُذكر في رأي جيفرسون بشأن القراصنة، أو «كلاب البحر» كما كان يسمِّيهم، أو «عصابة وضيعة من اللصوص». كان جيفرسون مثالًا للأمريكيِّين الذين كانوا ينظرون إلى المنطقة فيما بعدُ باعتبارها مرتعًا للطغيان والفساد والتخلف، أي صورة النقيض لما يعيشون فيه من ديمقراطية وثقافة وطهارة. وكانت عصابة من المجاهدين المسلمين المصرِّين على استرقاق البحَّارة الأمريكيِّين الأبرياء تستحق في نظره طلقاتِ المدافع لا أجولةَ الذهب، ولكن بسبب معارضة الرأي العام الأمريكي لاستخدام القوة، لم يكن أمام جيفرسون خيارٌ سوى الاستمرار في المفاوضات مع شمال أفريقيا من أجل إطلاق سراح الأسرى.

وعن طريق وساطة بعض الرهبان الفرنسيِّين الأعضاء في جماعة دينية هدفُها افتداء العبيد المسيحيين، عرض جيفرسون على الجزائريِّين فديةً مخفَّضة للغاية، بالإضافة إلى هدايا متنوِّعة. ولكن الداي رفض هذه المبادرات، وعندما حظرت سلطات الثورة الفرنسية أنشطةَ جماعة الرهبان المسيحيين، فقدَ جيفرسون وساطتهم. ومرَّت شهورٌ تلقَّى فيها خطاباتٍ مفعمة بالألم من السجناء الأمريكيِّين الذين كان العديد منهم مرضى يوشكون على الموت بالطاعون. وبسبب معاناته من «القلق المستمر على أسرانا» شعر الوزير أن السياسة الأمريكية قد وصلت إلى طريق مسدود؛ فهي تملك وسائلَ دستورية لمحاربة البربر، لكنها لا تزال غير راغبة في استخدامها، وبذلك كانت «معلَّقة بين العجز والغضب».

وأخيرًا في ديسمبر ١٧٩٠، أوصى جيفرسون — بعد أن أصابه الإحباط — بأن تخوض أمريكا الحرب. وبرَّر ذلك للكونجرس قائلًا: «تحرير مواطنينا مرتبطٌ ارتباطًا شديدًا بتحرير تجارتنا في البحر المتوسط. والمعاناة التي يمرُّ بها كلاهما ترجع إلى السببِ نفسه، والخطوات التي ستُتخذ من أجل حل إحدى المشكلتين قد … تتضمَّن حل المشكلة الأخرى.» كان جيفرسون قد دافع في السابق عن حق الكونجرس في تقرير السياسة الخارجية، مشبِّهًا الامتيازات المقصورةَ على الرئيس في هذا المجال بسلطات الباشا الجزائري، لكنه في هذا الموقف ندِم على ذلك الدعم. وكان مجلس الشيوخ قد رفض للمرة الثانية دعوةَ جيفرسون للحرب، لكنه خصَّص مبلغ ١٤٠ ألف دولار لدفع الإتاوة والفديات. أما مهمة تقديم هذه الرشوة فوقعت على عاتق وزير الخارجية.21
أذعن جيفرسون على مضض، لكنه اختار مبعوثَه رجلًا يعرف أنه لن يشتريَ قط السلامَ مع البربر. كان هذا الرجل قبطانَ السفينة «بيتسي» وأول ضابط أمريكي يرفع علم الثورة، إنه جون بول جونز الذي اشتهر بأنه قبطانٌ ماهر، وإن كان متقلِّب المزاج. وتقديرًا لخدماته للولايات المتحدة أثناء حرب الاستقلال ساعده جيفرسون في الانضمام إلى البحرية الروسية. وحقَّق جونز انتصاراتٍ رائعة على بحرية الأتراك العثمانيين، ونشأت لديه كراهيةٌ عميقة لحكام الشرق الأوسط. وكان يؤمن بأن إعلانَ الحرب على القراصنة هو السبيل الوحيد ليصبح الأمريكيون «شعبًا عظيمًا يستحق الحرية». كانت خطة جيفرسون تقضي بإرسال جونز إلى الجزائر ومعه ٢٥ ألف دولار، وهو مبلغٌ ضئيل كان الداي سيرفضه بالتأكيد. وعندها يغضب الكونجرس ويقرِّر تخصيصَ اعتمادات مالية كافية لتكوين حامية بحرية تتمركز دائمًا في البحر المتوسط، كان تفكير جيفرسون يتَّجه إلى أن «جون بول جونز ومعه ست سفن حربية سيدمرون تجارةَ القراصنة تدميرًا شاملًا ويمزقونهم إربًا». فأرسل أوامره إلى فندق باريس حيث يقيم جونز، لكنها وصلت بعد فوات الأوان. فقد أُصيب القبطان بمرض غامض وفارق الحياة عن عمر يناهز الخامسة والأربعين.22

وقع اختيار جيفرسون التالي على توماس باركلي مبعوثًا له، وكان أحدَ مَن شاركوا في المفاوضات مع المغرب، وقد وصل حتى لشبونة قبل أن يقع هو الآخر فريسةً للمرض. أما المبعوث الثالث ديفيد همفريز، فكان هو نفس الشاعر المحارب الذي قال: «يا إلهي، العصابات التي تعجُّ بها بِحارك، قد استولت على سفننا … وجعلت أحرارنا عبيدًا!» وصل همفريز إلى جبل طارق، ليفاجأ بأن الجزائريِّين قد استولوا على ١١ سفينة أمريكية، وأسروا ١١٩ بحَّارًا. فلم يبدُ منطقيًّا أن يطالب بحرية طاقم بحَّارة دوفين وماريا والجزائرُ مستمرة في أسرِ آخرين؛ لذلك عاد همفريز أدراجه إلى الوطن.

وبعد خمسة عشر عامًا كاملة من إعلان الاستقلال، كانت الولايات المتحدة لا تزال تواجه تهديداتٍ كبيرة من القراصنة البربر، وكان بعض التجار الأمريكيِّين قد تدنَّوا إلى تزوير بطاقات المرور التي كان البربر يصدرونها للدول التي تدفع لهم إتاوة، وهو ما كان يكفل الحمايةَ لسفنهم، واضطُر آخرون إلى تأجير بوارج حربية هولندية أو إسبانية بأسعار باهظة لمرافقتهم عبْر البحر المتوسط. وكان الخطر عظيمًا لدرجةِ أن وزير الخزانة ألكسندر هاميلتون تساءل «عما إذا كان من الأجدى — نظرًا للموقف مع الجزائريِّين — استدعاءُ سفينة أجنبية لنقل جون جاي إلى بريطانيا».23
غير أن الرأي العام حول موضوع البربر كان يشهد تحولًا. وكان الأمريكيون قد سئموا تهديدات الاختطاف والتكاليف الباهظة لتأمين شحناتهم، وفوق هذا وذاك، إهدارُ كرامتهم. وأقسم جورج واشطن — بوصفه الآن رئيسَ الولايات المتحدة — أن يستخدم كلَّ ما في وُسعه من أجل «تحرير هؤلاء الأسرى التُّعساء الحظ» في الجزائر. وكانت تثير قلقه أيضًا الحربُ الأخيرة في أوروبا — فرنسا الثورية ضد بريطانيا وغيرها من الدول المحافظة — بالإضافة إلى وجود سفن حربية أجنبية بالقرب من السواحل الأمريكية. لذلك صرَّح أمام الكونجرس في ديسمبر ١٧٩٣ قائلًا: «إذا أردنا تجنُّب أيِّ إهانة، فعلينا أن نكون قادرين على الرد عليها.» اتَّفق الكونجرس مع الرئيس، وقرَّر أخيرًا فتح باب المناقشة حول تكوين أسطول بحري.24

لقي الاقتراح معارضةً من بعض النواب الذين كانوا لا يزالون على رأيهم بأن بناء السفن الحربية مكلِّف للغاية، وأنها — بعد البناء — تشكِّل تهديدًا للسلام والحرية، وقال إبراهام بولدوين، نائب جورجيا، في هذا الشأن: «الرشوة وحدَها هي القادرة على شراء الأمان من الجزائريين.» في حين اعترف جون نيكولاس، نائب فرجينيا، قائلًا: «إننا لا نقوى على مواجهةِ الجزائريِّين في البحار.» وحذَّر إبراهام كلارك نائب نيوجيرسي وهو يستعرض الحاجة إلى وزيرٍ للبحرية وعدد كبير من الموظفين بالوزارة من أن «القوى الأوروبية مجتمعة ستجد في الأسطول الأمريكي ذريعةً للحرب». ولتقليل المخاطر والنفقات الأمريكية، اقترح كلارك أن «تُستأجر البحرية البرتغالية لمحاربة القراصنة».

أثارت هذه «الخطوات الجبانة» اشمئزازَ جون سميث، نائب ميريلاند، كما أنها لم تكن تتَّفق مع «معايير الجمهوريات السابقة في جميع العصور السابقة». وذكر شخص آخرُ من ميريلاند هو ويليام فانس موراي أن القراصنة «في صراعٍ مع الولايات المتحدة منذ حرب الاستقلال»، وأنهم لم يتركوا للأمريكيِّين خيارًا سوى الحرب. أما فيشر آيمز من ماساتشوستس، وكان من أشدِّ أنصار التجارة الحرة، فقد بدا متشائمًا للغاية عندما قال: «إن تجارتنا على وشْك أن تنمحي تمامًا، وإن لم نجهِّز جيشًا فيمكننا أن نتوقَّع قريبًا جدًّا وجودَ الجزائريِّين على أعتاب السواحل الأمريكية.»

وبالإضافة إلى الاعتبارات الاستراتيجية والمالية اتخذ الجدال حول الأسطول البحري بعدًا دستوريًّا، مما وضع أنصارَ تكوين حكومة مركزية قوية على المحك في مواجهة معارضيها الكثيرين. وفي تغييرٍ مفاجئ للسياسة سمح جيفرسون لمخاوفه من السلطة الفيدرالية أن تتغلَّب على رغبته الطويلة الأمد في مواجهة البربر عسكريًّا، وعارض بناء الأسطول. أما زميله وأشد المعجبين به جيمس ماديسون فتساءل عما إذا كانت البلاد تمتلِك ما يكفي من الأخشاب للقيام بهذا المشروع. وفي المقابل أيَّد الزعيم الفيدرالي جون آدامز الخطة، على غيرِ المتوقَّع؛ فلطالما شكَّك آدامز في مدى استعداد الشعب الأمريكي لمحاربة القراصنة. ولم يكن العنصر الحاسم في النهاية اقتصاديًّا ولا سياسيًّا، بل نفسيًّا. فأغلبيةُ أعضاء الكونجرس — بصرف النظر عن مشاعرهم نحو الفيدرالية — لم يعودوا يتحمَّلون الخضوعَ للبربر. وجرى إقرار القانون بأغلبية بسيطة؛ خمسون صوتًا ضد تسعة وثلاثين، وبشرط أن يتوقَّف بناءُ السفن فور تحقيق السلام مع الجزائريين.

في ٢٧ مارس ١٧٩٤ أقرَّت واشنطن قانونًا يجيز تخصيص ٦٨٨٨٨٨,٨٢ دولارًا لبناء ست بوارج حربية «تكفي لحماية تجارة الولايات المتحدة من القراصنة الجزائريين». وكانت السفن ستتمتع بالقوة والمرونة عن طريق أقصى حدٍّ للتسليح بوجود ٤٤ مدفعًا، أي أقل من نصف العدد الموجود على السفن الحربية الأوروبية، بما يعني أنها ستكون في حالة مثالية لقتال القراصنة. وبذلك وُلدت البحرية الأمريكية ولادةً متعسِّرة لكنها مشرِّفة، ولم يكن الهدف من ورائها السيطرة على البِحار، بل تحريرها.25

غير أن إنشاء الأسطول كان يسير ببطء شديد. فقد تأجَّل مشروع بناء البوارج بسبب نزاعات على العقود بين الولايات، وسرعان ما تجاوز حدودَ ميزانيته. وبدا أن القادة الأمريكيِّين الصائحين «الملايين من أجل الدفاع ولا سنت واحد من أجل الإتاوة» ردًّا على المطالبات الفرنسية لدفع إتاوة حماية، بدا كأنهم لا يزالون على استعداد للتفكير في طريقةٍ ما لدفعِ إتاوات لشمال أفريقيا. وفي تلك الأثناء كانت رسائل المساجين والأسرى تتوالى على الولايات المتحدة، وبدأت في الظهور في الصحف. فكتب صامويل كالدر، قبطان السفينة «جاي» أنه «جيء به إلى الجزائر مكبَّلًا وعاريًا وجائعًا»، وكتب صارخًا: «الموت سيكون راحةً لي ومرحبًا به أكثرَ بكثير من استمرار الوضع الحالي.» وتساءل قبطان آخرٌ هو ويليام بنروز: «ماذا ينتظر رجالنا بحق السماء؟» وحذَّر من أن الموت الوشيك لرجال طاقمه سيبقى على الدوام «وصمةَ عارٍ في جبين الولايات المتحدة ونقطة سوداء في تاريخها».

واضطُرت الحكومة — بوازع من ضميرها المتألم — أن تفتِّش عن أموالٍ للتعويض. فوعد الهولنديون ببعض القروض، ثم نكثوا بوعدهم. ثم بدأت الكنيسة والجمعيات الخيرية في جمع تبرُّعات بالمبالغ المطلوبة. وأخيرًا في صيف عام ۱۷۹٥ أُصدر أمرٌ لديفيد همفريز بمعاودةِ محاولةِ «استرضاء الداي ودفع الإتاوة» وعقدِ اتفاق سلام مع الجزائر.

كان همفريز أنيقًا ذا ملامحَ جذابة، وكان يبدو مناسبًا تمامًا للبلاط البرتغالي الذي يتَّسم بالفخامة، حيث كان يعمل مبعوثًا للولايات المتحدة. لكنه سرعان ما اكتشف أن الدبلوماسية في الغرب تختلف كثيرًا عن نظيرتها في الشرق الأوسط. كان الداي حسن فظًّا ووقحًا ومتقلِّب المزاج. وقال له: «إذا عقدتُ سلامًا مع الجميع فماذا أفعل بقراصنتي؟ إنهم بالتأكيد سيقطعون رأسي.» ولكن الخوف من الموت لم يثنِ الداي عن المطالبة بفدية خرافية قدرُها مليونا دولار مقابل إطلاق سراح الأسرى. وأصرَّ أيضًا على الحصول على سفينتين من الولايات المتحدة تحمل كلٌّ منها ٣٦ مدفعًا. وبدا أنه لا جدوى من الاستمرار في المفاوضات.26

كان همفريز — على الرغم من مظهره الرقيق — مفاوضًا بارعًا؛ فقد تمكَّن من تخفيض طلبات الداي حسن، وتمكَّن في ٥ سبتمبر ١٧٩٥ من الحصول على توقيعه على اتفاقية صداقة، لكن الاتفاقية لم تكن بحالٍ من الأحوال نصرًا لأمريكا. فحسب شروطها كانت الولايات المتحدة لا تزال مطالَبة بمنح الجزائر سفينة، بالإضافة إلى مجموعةٍ من الهدايا «٢٥ صندوقًا من أربعة أنواع مختلفة من الشاي … وستة قناطير من السُّكر المكرَّر … وبعض الخناجر الأنيقة، بالإضافة إلى صندوقٍ من المقصات … وبعض الشيلان المطرَّزة بالزهور»، وكانت قيمتها الإجمالية أكثرَ من ٦٥٠ ألف دولار.

مع ذلك رفض الداي حسن الإفراجَ عن المختطفين المسجونين حتى يتلقَّى ما طلبه مقدَّمًا. وللحصول على المال لجأت الحكومة الأمريكية إلى جويل بارلو، وهو شاعرٌ من أصدقاء همفريز كان يعيش في باريس، استخدم بارلو اتصالاته الأوروبية، لكنه فشل في جمعِ المبلغ المطلوب لإرضاء الداي. وثار الداي على بارلو ذي الأنف العريض والحاجبين الكثيفَين عندما عاد إليه خاويَ الوِّفاض. قال: «أنت كاذب وحكومتك كاذبة. سأكبِّلك بالأغلال، وأعلنُ الحرب.» وفي آخر لحظة وجد بارلو رجلَ أعمال يهوديًّا في الجزائر وافق على إقراض الولايات المتحدة المبلغَ المطلوب وسفينةً لنقل الأسرى المختطَفين.

وشهِد بارلو في فبراير ١٧٩٧ بعد تسليم الأسرى الثمانية والثمانين في فيلادلفيا أن «رجالنا قد تصرَّفوا عامةً بدرجة من الصبر والتهذيب جعلت حالتَهم أفضلَ من حالة العبيد». ونزل كثيرٌ من أهالي المدينة إلى الميناء لتحية البحَّارة المحرَّرين، غامرين إيَّاهم بالورود ومقدِّمين لهم الكعك والمشروبات. وقال جون فوس، أحدُ هؤلاء الأسرى، معبِّرًا عن شكره: «لم تقُم أيُّ دولة مسيحية بشيء كهذا لمواطنيها الذين يجدون أنفسهم في موقف مثل موقفنا. فقد قدَّمت الولايات المتحدة مثالًا للإنسانية لكل حكومات العالم.» وكان الداي سعيدًا أيضًا، وتبرَّع بالمساعدة في الوصول إلى اتفاقاتٍ مماثلة بين الولايات المتحدة وكلٍّ من تونس وطرابلس.

كانت المدينتان على استعدادٍ للاتفاق، وسرعان ما حذتا حذوَ الجزائر في مهاجمة الأمريكيِّين أولًا، ثم التفاوض معهم من منطلق قوة. ولم يُضِع حاكم طرابلس مراد رئيس — وهو مرتدٌّ من أصلٍ اسكتلندي كان يُعرف في السابق باسم بيتر ليسلي — وقتًا فنهب ثلاث سفن أمريكية، في حين هاجم القراصنة التونسيون السفينةَ «إليزا» الآتية من بوسطن. ولأن الولايات المتحدة لم تكن تملِك سفنًا حربية، فإنها لم تتمكَّن من الرد بالقوة على تلك الهجمات، وإنما تمكَّنت فقط من إرسال بارلو إلى شمال أفريقيا من أجل جولةٍ أخرى من المفاوضات، وتمكَّن بارلو في النهاية من عقدِ اتفاقات مع كلٍّ من تونس وطرابلس، بتكلفة إجمالية ١٦٠٠٠٠ دولار.

كانت الحكومة توجِّه الآن ما يقرُب من ٢٠٪ من دخلها السنوي لدول البربر، تدفعها في شكل ذهب أو أحجار كريمة، أو — وهو الأغرب — في شكل مدافع أو ذخيرة أو سفن حربية، أي أدوات القرصنة ذاتها. وكانت المبالغ من الضخامة بحيث بدأت الدول الأوروبية في الشكوى من أن الولايات المتحدة تبالغ في تدليل القراصنة، وتتسبَّب في رفع مبالغ الفدية. وسأل بارلو جيفرسون باشمئزاز: «إلى أي مدًى سيستمر هذا النظام البربري، وإلى أين سينتهي؟» وتنبَّأ الدبلوماسي بأنها مسألةُ وقت فقط قبل أن ترفع دول القراصنة الإتاوات وتجدِّد حروبها ضد أمريكا. ولكن بدلًا من الاستماع إلى تحذيرات بارلو أعلن الكونجرس أن السلام مع شمال أفريقيا قد تحقَّق وخفَّض ميزانيةَ بناء السفن الحربية.27

ولكن خارج المجلس التشريعي كان العديد من الأمريكيِّين قد سئموا سياسةَ بلادهم القائمة على ذم القراصنة بالكلمات واسترضائهم بالرشاوى. وظهر تصاعُد حدة النقد بشكل أساسي على الفنون. ففي عام ١٧٩٧ نشرَ رويال تايلر — وهو محامٍ محترم من نيو إنجلاند يهوى كتابةَ القصص الروائية — روايةَ «الأسير الجزائري»، وهي مذكِّرات خيالية لجرَّاح على متن سفينةٍ اسمه أبدايك أندرهيل، أسرَه القراصنة واستعبدوه. يتحمَّل أندرهيل «الجوع والمرض والتعب والإهانة والجَلد، والجروح وغيرها من ألوان التعذيب الوحشي»، لكن كل هذا لم يثنِه عن ذمِّ أولئك الذين يعقدون «اتفاقات مهينة مع القراصنة»، وأولئك الذين يمدونهم بالأسلحة لانتزاع مزيد من التنازلات المهينة، وأنهى تايلر روايتَه بصرخةِ تحذير — جديرة بضمِّها إلى «الأوراق الفيدرالية» — مذكرًا الأمريكيِّين «بضرورة توحيد قوانا الفيدرالية لفرضِ احترامنا المستحَق على الأمم الأخرى» وأن يكون «هدفنا الأول هو الاتحاد فيما بيننا».

انضم كتَّاب آخرون إلى تايلر في عدمِ فهْم الأسباب التي تدعو الولايات المتحدة إلى الرضوخ لما تمليه عليها شمال أفريقيا، وهي القوية الآن بدستورها وبأسطولها البحري الذي يفترض أنها تقوم ببنائه، واعترضت سوزانا روسون، أشهرُ كاتبة مسرحية في الولايات المتحدة ومؤلِّفة مسرحية «عبيد في الجزائر، أو الصراع من أجل الحرية»، قائلة: «ماذا؟ نستسلم مذعنين؟ ونقدِّم أنفسنا عبيدًا لعصابةٍ من الأوغاد القراصنة الكفرة الأفظاظ؟» ووجَّه شاعرٌ مجهول سؤالًا مشابهًا، وهو أحدُ المشاركين في معركة بنكر هيل وأحد الأسرى في الجزائر، مقدِّمًا الإجابةَ أيضًا، فقال:

هل ما تزال كولومبيا تخشى أن يكون لها
ابنٌ حرٌّ ومواطن وطني؟
إذن وجِّهوا عدوانيتكم نحو سواحل البربر،
حرِّروا أبناءكم، وأذلوا قوةَ الأفارقة.28

وكاد الإحباط يصيب تايلر وروسون والمؤلِّف المجهول. فقد استمر الرئيس جون آدامز — الذي كان لا يزال متشككًا في استعداد الشعب الأمريكي لمقاومة البربر — في دفعِ الإتاوة لدول شمال أفريقيا، بل عيَّن بها ممثلين دائمين للولايات المتحدة. وكما لو كان يريد أن يؤكد المكانةَ المتدنية للولايات المتحدة أصبح الأسيرُ المحرَّر ريتشارد أوبراين قنصلًا في الجزائر، وأُرسل جيمس كاثكارت إلى طرابلس. وعلى العكس من ذلك لم يُعط هذا المنصب في تونس لسجينٍ سابق، بل لموظف حكومي لم تطأ قدماه من قبلُ أرضَ الشرق الأوسط، ولم يتَّخذ قط موقفًا من القراصنة. إنه ويليام إيتون، ذلك الشابُّ الذي يتَّسم بالصراحة والشجاعة، لكنه مع ذلك أصبح من ألدِّ أعداء البربر.

تسلَّم القناصل مناصبَهم في مارس ١٧٩٩ عقب تدشين أمريكا أخيرًا ثلاثًا من البوارج الست التي وافق الكونجرس على بنائها. كانت تلك السفن تحمل في المجمل ١٢٤ مدفعًا، وتحميها كتائب من سلاح البحرية الذي أُنشئ حديثًا، وبذلك كانت السفن «يونيتد ستيتس» و«كونستيتيوشن» و«كونستيليشن» تمثِّل قوةً صغيرة لكنها فعَّالة. بدأت البحرية الشابة في إثبات ذاتها بجدارة من خلالِ ما يشبه حربًا غير معلنة مع فرنسا في البحر الكاريبي، حيث حاولت البوارج الحربية لنابليون أن تسدَّ الطريق على تجارة أمريكا مع بريطانيا. اكتسبت أمريكا الثقةَ بعد الانتصارات التي حقَّقتها قرب سواحلها، وأصبحت مهيَّأة لمواجهة تحدياتٍ أكبرَ وأكثر تعقيدًا في الخارج.

ومع هذه الثقة كانت الأمة لا تزال متردِّدة بشأن استخدام قوَّتها الجديدة ضد شمال أفريقيا. وقد كتب كاثكارت في إحدى رسائله من طرابلس قائلًا: «يقول هؤلاء البربر إنهم كثيرًا ما سمِعوا عن السفن الحربية الأمريكية، لكنهم لم يروا أيًّا منها. والنتيجة التي يستخلصونها من ذلك هي إما أننا لا نملكها، أو أننا نفضِّل دفْعَ إتاواتٍ كبيرة على أن نرسلها إلى البحر المتوسط.» فهل يستمر الأمريكيون في دفعِ الإتاوة — تأسيًا بأوروبا — ويتحمَّلون العار، أم يصبحون — كما كان يتمنَّى همفريز — «واضعي نظامٍ لاستئصال شأفَة القراصنة؟»29

كان انشغال أمريكا بالشرق الأوسط حتى الآن يدور بصورةٍ أساسية حول تساؤلات عن القوة الاقتصادية والعسكرية. ولكن الشرق الأوسط لم يجذب كلَّ الأمريكيِّين لأسبابٍ تجارية أو استراتيجية؛ فقد انجذب آخرون بسبب رؤيتهم الرومانسية للمنطقة، ومن أجل رغبتهم في المغامرة والبحث عن حدودٍ جديدة. كان أول هؤلاء الأمريكيِّين هو جون ليديارد، الرحَّالة العالمي والمغامر الذي قدَّمنا له في التمهيد. فلمدة خمسة أشهر كاملة من عام ١٧٨٨ كتب ليديارد تقاريرَ مملوءةً بالحيوية عن تجاربه في مصر؛ قلبِ العالم العربي. كان وصفُه يملأ أذهان الكثيرين من الأمريكيِّين بصورٍ غريبة وواضحة عن الشرق الأوسط، ومنهم صديقُ ليديارد الحميم — ورئيسه فيما بعدُ — توماس جيفرسون. ففي السابق كان جيفرسون، مثل الغالبية العظمى من أبناء جِلدته، يرى في المنطقة معقلًا للقراصنة الكفرة البغيضين، بالإضافة إلى كونها معقلًا للعجائب. فقد كان الشرق الأوسط بالنسبة إلى جيفرسون ومعاصريه ليس مجرَّد معقلٍ للقوة فحسب، بل مسرح للخرافات والأساطير الجذابة للغاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤