الفصل العاشر

نفيرُ الإقدام إلى العلا

لولا الرِّقُ والإجحاف العنصري اللذان انتشرا حتى في الشمال المناهض للرِّق، لما زار إدوارد ويلموت بلايدن الشرق الأوسط. فقد وُلد في سانت توماس في جزر الهند الغربية الدنماركية عام ١٨٣٢، وأعدَّ نفسه ليكون بحَّارًا كوالده، لكنه رفض التخلي عن حُلمه بدراسة اللاهوت. فترك منزله وهو في سن الثامنة عشرة، وانتقل إلى نيوجيرسي، بغرض الالتحاق بكلية راتجرز الدينية. كان وسيمًا وبليغًا وذا أخلاق عالية، وهكذا كان مستوفيًا لكل متطلبات القبول بالكلية، إلا شرطًا واحدًا هو جنسه وعنصره. فقد كان إدوارد بلايدن داكنَ البشرة. وقد رفضته كلية راتجرز، وافترض هو أنه لن يجد المساواة في أيِّ مكان آخر في الولايات المتحدة، وعليه قرَّر الهجرة إلى ليبيريا.

تأسَّست ليبيريا عام ١٨١٧ ملجأً للعبيد السابقين في الولايات المتحدة، وظهرت بعدها بثلاثين عامًا دولةٌ مستقلة على غرار نموذج الجمهورية الأمريكية، لكنها أيضًا استوردت بعضَ الأفكار الأمريكية المسبقة، ومنحت مزايا خاصة لمجتمع المهاجرين الصغير وحرَّمتها على الملايين من سكان ليبيريا المحليِّين. ولكن عندما وافقت الكنيسة المشيخية على انضمامه إليها اختار بلايدن الابتعادَ عن قبائل ليبيريا المحلية. وتوغَّل في غرب أفريقيا، إلى سيراليون والمناطق التي تشكِّل نيجيريا اليوم. وهناك لأول مرة واجه دِينًا مختلفًا، هو الإسلام، وكان بلايدن يجهل تمامًا كلَّ شيء عنه.

وسرعان ما عرف بلايدن أن المسلمين الأفارقة «يعتمدون على أنفسهم، وأنهم أشخاص منتِجون، ومستقلون ومسيطرون ومساندون دون هيمنة وطن أم». وقال بلايدن إن من مزايا الإسلام أنه أنقذ أهل تلك البلاد من الروحانيات المُبالغ فيها، بتعليمهم ومنحهم الثقةَ اللازمة للفخر بأنفسهم. أما الأهمُّ من وجهة نظر بلايدن فكان أن الحضارة الإسلامية التي وصلت إلى هؤلاء الأفارقة «عن طريق المبعوثين العرب» الذين كانوا ذوي لون بشرة وخلفية ثقافية مشابهة جعلت منهم درعًا واقية ضد صائدي العبيد ومتتبِّعيهم، الذين كانوا في غالبيتهم من الوثنيين، حسب رأيه.

تأثَّر بلايدن كثيرًا بما رآه من الإسلام، فتوقَّف عن الاستمرار في أي مجهودات بروتستانتية أخرى، ووهب نفسَه لمدِّ الجسور بين المسلمين والمسيحيِّين في أفريقيا. وآمَن أنه عندما تترسَّخ تلك العلاقة يمكن لأفريقيا أن تقوم بدور الرابط بين المجتمعات القديمة في الشرق الأوسط وبين الحضارة الغربية، وأن ذلك سوف يمثِّل حافزًا «لتدمير العنصرية … وإعادة الوفاق بين الأمم». وزادت زيارات بلايدن لمصر ولبنان وسوريا من التزامه بتحقيق حُلمه.

لم تتضمَّن رؤيته هذه المسلمين والمسيحيِّين وحدَهم، بل ضمَّت اليهود أيضًا، حيث كان بلايدن ينظر إليهم «بكل احترام ورهبة». وكان قد اكتسب هذا الاحترام من نشأته وسط المجتمع اليهودي في سانت توماس، وفي مراحلَ لاحقة من حياته آمن بلايدن أن اليهود مصيرهم إلى التحالف مع السود لبثِّ روح الأخوة في العالم أجمع. وآمن أيضًا أن إعادة تأسيس الدولة اليهودية في فلسطين سيصبح مثالًا وقدوةً للتحرُّر الأفريقي. وكتب يقول: «أنا جادٌّ … في تقديم الرجاء إلى بني إسرائيل أن يتذكروا موطنَ إقامتهم الأول وحياتهم، وأن يساعدوا إثيوبيا في مدِّ يدها إلى الرب.»

عمِل بلايدن في مرحلةٍ لاحقة وزيرًا لخارجية ليبيريا وسفيرًا لها في بريطانيا، بالإضافة إلى أنه عمِل محررًا وأستاذًا متميزًا للكلاسيكيات. وقد كان يطمح في أن يكون محررًا للعبيد، مثل إبراهام لنكولن وغيره من المنادين بإلغاء الرِّق. فقال في إحدى زياراته المتعدِّدة للولايات المتحدة: «لن يكون مؤلِّف قصة العبد الهارب بيل هو مَن سيخلِّده التاريخ، بل كاتب «وثيقة التحرر». ولن تكون ذكرى جيف ديفيز هي مثال الإثارة للإنسانية، بل ذكريات ما يسمَّى بجنون جون براون.»1

أما الأجيال التالية فشهِدت لبلايدن بكثير من التقدير بسبب أفكاره الملهِمة عن الاتحاد والترابط الأفريقي وحركة المسلمين السود. ولكنَّ القليلين منهم اعتبروه قدوة ومثالًا لمعاصريه البروتستانت في الشرق الأوسط، لأنهم كانوا جميعًا بيضَ البشرة وغير مقتنعين بالدِّين الإسلامي. ومع ذلك، فمن خلال طاقته وحيويته وإصراره وحُلمه بأن ترتبط شعوب الشرق الأوسط كلُّها يومًا ما في شبكة من المثاليات المشتركة، فيمكن القول إن بلايدن يمثِّل تلك الحركة بالفعل. وسعى المبشِّرون مثل بلايدن إلى توحيد شعوب الشرق الأوسط عن طريق بثِّ قيم مشتركة وهويات جديدة. وكانوا هم أيضًا بدورهم يطمحون إلى تحويل الآلام والعذاب الذي تسبَّبت فيه الكراهية العنصرية في الولايات المتحدة إلى قوة لتحسين العالم أجمع. فحسب قولهم لن يدقَّ النفير لحنَ التقهقر أبدًا، وظهر ذلك عن طريق «ترنيمة دعوة الجمهورية للمعركة» التي لم تدْعُ فقط إلى الانتصار على عدم المساواة في الولايات المتحدة، بل إلى «عصر جديد من المشاعر الطيبة نحو الشرق الأوسط».

بذور الخردل

كانت حركة التبشير في الولايات المتحدة ترتبط تقليديًّا بالدعوة إلى وقف الرِّق، وكان التسامح بشأن الاختلافات العنصرية والعِرقية من بين القيم التي جلبها البروتستانت معهم إلى الشرق الأوسط. وكما قال هنري جيسوب «إذا كان الرب يقبل أعضاءَ الآلة السياسية للحزب الديمقراطي جنبًا إلى جنب مع الجمهوريِّين السود»، فيمكن بالتأكيد لمدارس التبشير أن تقبل كلَّ الطلبة، بصرفِ النظر عن العِرق أو الجنس. فمن وجهة النظر التبشيرية، جاءت الحرب الأهلية انتقامًا متأخرًا للغاية بسبب عدم تقبُّل كل الأجناس وعدم المساواة بينهم، وخطوة نحو إصلاح هذا الوضع. وكتب جاستين بركنز من الموصل: «هذا الصراع الكبير كان بالفعل … طريقةَ الرب في دفعنا نحو التخلص من واحد من أكبر الشرور التي أصابت العالم. فالحرب ضرورية للوصول إلى الحريات، وحتى لحياة أمتنا.» وقدَّر إدوارد جوي موريس، سفير أمريكا لدى الباب العالي، أن من بين ١٥٠ مبشِّرًا كانوا يخدمون في الشرق الأوسط وقتَ اندلاع الحرب، لم يتعاطف أحدٌ مع الانفصاليِّين، ولا حتى هؤلاء الذين كان الجنوب يرحِّب بهم.

وبينما دفعت الحرب بمعظم الأمريكيِّين إلى توجيه اهتمامهم للداخل، مركِّزين على أزمتهم الداخلية، ومتجاهلين تمامًا الشئونَ الدولية، منح ذلك الصراعُ المبشِّرين دافعًا إضافيًّا. وتنبأ سكرتير المجلس الأمريكي روفوس أندرسون، بناءً على اعتقاد راسخ، بأن «التاريخ سيذكر تلك الحرب على نحوٍ رائع». ومع الاستقطاعات الكبيرة في الميزانية ونقص عدد المتطوعين في سنٍّ مناسبة بسبب تجنيدهم في الجيش، فإن حركة التبشير في الشرق الأوسط قد ازدهرت. ففي مصر مثلًا، التي كانت بلدًا تجاهله المبشِّرون البروتستانت فترةً طويلة، أبحر القس جون هوج وعائلته لمسافة ١١٦٠ ميلًا في النيل وقاموا بزيارة ٦٣ قرية وألقَوا مواعظَ على ما يقرُب من ٧٠٠٠ شخص. وعند وصولهم إلى أسيوط، وهي مدينة قبطية في منتصف المسافة بين القاهرة وأسوان، أسَّس هوج مدرسةً للبنات أصبحت فيما بعدُ أحد أرقى المؤسَّسات التعليمية في مصر. وافتتحت ماري بريسكو بالدوين مدرسةً أخرى في يافا، وكانت ماري سيدةً بسيطة من فرجينيا، قدَّم لها قائد بحرية الاتحاد ديفيد فاراجوت، الابن المتبنَّى ليديفيد بورتر، التمويلَ اللازم. أما الرائدة النسائية ماري ميلز باتريك فأسَّست كلية نسائية في إسطنبول. وافتتح زوجان من الكويكرز هما إيلي وسيبيل جونز، اللذان اعتنيا بالجرحى الشماليِّين في أثناء الحرب، مدرسةَ الأصدقاء الأمريكيِّين في رام ﷲ، فيما يسمَّى اليوم الضفة الغربية. وبنهاية الحرب الأهلية، كان في سوريا وحدَها ٣٣ مدرسة تبشيرية ينتظم ألف طالب بالدراسة بها، ٢٠٪ منهم من البنات.2

وجاء في تقريرٍ للسفير موريس: «تمتَّع المبشِّرون في الشرق الأوسط بحريةٍ ووعي لم يتمتَّع بهما الخارجون على الدِّين المؤسَّس في بعض أكثر الممالك تنويرًا في أوروبا.» واستغلالًا لهذا الانفتاح، توسَّع الأمريكيون البروتستانت في نشاطاتهم في المنطقة. فزاد عدد المدارس والمستشفيات والكنائس، لدرجةِ أنه بحلول عام ١٨٧٠ شعرت طائفةُ الأمريكيِّين البروتستانت بضرورة تقسيم الشرق الأوسط إلى ساحاتٍ منفصلة لعملياتها. وعلى ذلك تولَّى الأبرشانيون مسئوليةَ العمل التبشيري في تركيا، في حين كانت مصر وسوريا وإيران من نصيب المشيخيِّين. أما أصغر الكنائس، وهي الكنيسة الهولندية الإصلاحية، فتُركت لها أقلُّ المناطق سكانًا وأقلها وعودًا، وهي الجزيرة العربية والخليج العربي.

وهكذا كان الشرق الأوسط مفتوحًا تمامًا أمام المبشِّرين، كما لم يحدُث من قبل في فترةِ ما قبل الحرب الأهلية، رغم نفور قطاع كبير من السكان الأصليِّين، بل وكراهيتهم الشديدة، لوجود المبشِّرين بينهم. واستمرَّت الكنائس الشرقية في رفض الأمريكيِّين، ونعتتهم بالمحدَثين المتعجرفين، واحتُقروا لذلك السبب. ووعظ البطريرك القبطي القس هوج قائلًا: «لقد كان لدينا الإنجيل قبل أن توجد أمريكا. ولسنا بحاجة إلى تعاليمكم.» ولم تحقِّق مجهودات البروتستانت نجاحًا يُذكر في تحويل اليهود إلى البروتستانتية، وظلوا ممنوعين من محاولة تحويل المسلمين. واشتكى تقريرٌ مشيخي في فترة السبعينيات من القرن التاسع من أن «المسلمين والرهبان وأهالي موسكو يرفضوننا بكل قوة.» ولم يكن لدى الوعاظ إلا أملٌ ضئيل في تغيُّر الموقف، حتى من قِبل حكوماتهم. وحفاظًا على سياسة ديفيد بورتر الأصلية بتجنُّب أي احتكاكات غير ضرورية مع الباب العالي، ذكَّرت وزارة الخارجية المبشِّرين بأن «أي أجنبي معارض للقوانين العثمانية ليس مضطرًّا إلى العيش تحتها». أما هؤلاء المضطرون إلى ذلك «فعليهم أن يتحمَّلوا قسوةَ وضعهم وأن يحسبوا حسابَ ذلك». وظهر مدى قسوة هذا الوضع عام ١٨٦٢، عندما اغتيل اثنان من المبشِّرين الأمريكيِّين؛ أحدهما في مدينة أدرنة والآخر في مدينة الإسكندرونة بتركيا.3

وكان العداء من قِبل السكان المحليِّين مثبطًا لعزائم المبشِّرين بالفعل، لكنه لم يفتَّ في عضُدهم كما فعل فشلهم في تحويل أي أشخاص إلى معتقداتهم. فأربعة عقود من العمل الشاق من قِبل الأمريكيِّين لم تتمكن من إنقاذ سوى ٣٠ روحًا في سوريا كلها وعدد مماثل في الأناضول. وكان متوسط تكلفة كل مرتدٍّ تقترب من ١٦٠٠٠ دولار، حسب تقدير الكاتب بينارد تيلور، «وهو مبلغ كان يمكن أن يحوِّل إلى المسيحية عشرة أضعاف عدد الوثنيِّين الإنجليز». وهناك كاتب آخرُ، هو هنري فيلد، قرَّر أن «إرساليات التبشير المسيحية لا تترك أثرًا قويًّا على المسلمين أكثرَ من أثر هواء الصحراء على منحدرات جبل سيناء»، وأن «المتحولين من المسيحية إلى الإسلام في يوم واحد يزيد عددهم على مجموع المتحوِّلين الذين نجح المبشِّرون في تحويلهم من الإسلام إلى المسيحية في قرنٍ كامل». وردًّا على تلك الإحصائيات الكئيبة، ذكَّر المجلس الأمريكي المبشِّرين بالصعوبات التي تغلَّبوا عليها من قبلُ في الشرق الأوسط، وذكَّرهم أيضًا بالاستفادة الكبيرة التي ستعود عليهم من تلك المنطقة. وفي كلماتٍ يبدو أنها مستقاة من تجارب الحرب الأهلية، تحدَّث قادة التبشير عن «خوض غمار الحرب ضد قلاع الإسلام والأرثوذكسية التي عفا عليها الزمن. فمن ساحات الحرب نفسها تظهر نداءات وصرخات استغاثة مرةً أخرى من القلة الضعيفة غير القادرة على تحمُّل … قوى الظلام والإثم.»

ولكنَّ قرقعة السيوف لم تتمكَّن من التغطية على فشل البروتستانت في إعادة تشكيل الشرق الأوسط على نمط طقوسهم، أو في وقف الجدل حول تعليم الشعوب المحلية التي ليس لديها أيُّ نية أو استعداد لقبول المسيح. واستمرَّ أعضاء المجلس في الإصرار على أن مهمة المبشِّر هي تحقيق الخلاص، وليس إنشاء وإدارة المدارس والمستشفيات، في حين كان البروتستانت يرون أن عملَهم «نصف الدنيوي» لم يكن أقلَّ إلحاحًا وضرورة أخلاقية، بل هو وسيلة «لبث النور» في الشرق الأوسط.4

أما الجدل الدائر حول المدارس التبشيرية فكان مكثفًا بصورةٍ خاصة في إسطنبول، حيث سعى سيروس هاملين — الذي شُوهد آخرَ مرة وهو يدرِّس للطلبة الأرمن كيفيةَ صُنع الخبز والأفران كجزء من تعليمهم — إلى إنشاء أول جامعة حديثة في المنطقة. وبدءًا من عام ١٨٦٠ قدَّم هاملين التماسًا إلى السلطات العثمانية للسماح له بافتتاح مدرسة جديدة موسَّعة، ولكن السلطان — تحت ضغطٍ من الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية — اعترض على هذا الطلب. ومن حسن الطالع أن قائد البحرية فاراجوت زار إسطنبول ضيفًا شخصيًّا على السلطان، ونجح في استخراج التصاريح اللازمة له. وشرع هاملين في شراء قطعة أرض للجامعة في تلال بيبيك المطلَّة على بحر البوسفور، ثم حصل على مجموعةٍ من الكتب من جامعة هارفارد. وبقيت أمامه عقبةٌ واحدة، وهي أكبر العقبات، ألا وهي: المجلس الأمريكي الذي رفض تمويلَ أي مؤسَّسات دنيوية.

وبناءً على ذلك استقال هاملين من المجلس، وفي مايو عام ١٨٦١ عاد إلى الولايات المتحدة بنيةِ جمعِ تبرعات للجامعة بنفسه. وكان يأمُل في إمكانية الاعتماد على معارف ابن عمِّه هانيبال هاملين، أولِ نائب للرئيس لنكولن. لكنه أصيب بالإحباط للمرة الثانية، وهذه المرة كانت بسبب نشوب الحرب. واعترف هاملين بأنه «لا أحدَ يرغب في إلقاء نقوده في مشروعٍ به مخاطرة كبيرة في بلدٍ أجنبي، عندما يكون بلده نفسه في خطر». وعاد أدراجه إلى إسطنبول يائسًا وحزينًا، لكن عند مروره بمدينة باريس، تصادف أن التقى بروبرت راينلاندر روبرت، وهو رجلٌ خيِّر من مدينة نيويورك. تأثَّر روبرت بأمل هاملين وحُلمه بنفس قدرِ تأثُّره بهاملين نفسه، فقدَّم له منحةً مبدئية بمبلغ ٣٠٠٠٠ دولار؛ وكانت تلك الدفعة الأولى من مئات الآلاف من الدولارات لبدء البناء. وبدأ هاملين بالعمل، فأسَّس قواعدَ لإحدى القاعات، التي سُميت فيما بعدُ باسمه. وكان هذا أول بناء في الشرق الأوسط يقام بعوارضَ مصنوعة في أمريكا.

فتحت كلية روبرت أبوابها عام ١٨٦٣، وهي السنة نفسها التي دارت فيها معاركُ جيتيسبرج وفيكسبرج وشيكاموجا، وسجَّل بها أربعة طلاب فقط أسماءهم. ولكن سرعان ما ارتفع هذا الرقم إلى أكثر من مائة طالب، عندما حصلت المدرسة على تصريح رسمي من السلطان عبد العزيز وعلى توثيقٍ من مجلس الأوصياء. ومع أن الدراسة بالكلية كانت تتَّجه أساسًا نحو العلوم التطبيقية والهندسية (أدخل أحدُ أساتذتها التلغرافَ إلى الشرق الأوسط)، فإن الكلية كانت أيضًا جسرًا ومعبرًا لنقل وتوصيل الأفكار الغربية إلى الشرق الأوسط، وتشكيل أجيال جديدة من المحدَثين الأتراك. ومن بين خرِّيجيها كان خمسة من رؤساء الوزارة في المستقبل، منهم أول رئيسة وزراء للبلاد. وقال هاملين وهو يشاهد إنجازه: «لقد أثبت هذا العمل أنه يملِك عونًا إلهيًّا يفيض على مَن حوله؛ فهي بذرة الخردل التي تحوَّلت إلى شجرة مثمرة.»5

ولكن هاملين لم يكن المبشِّر الوحيد الشاهد على ازدهار التعليم على النمط الأمريكي في الشرق الأوسط. فقد بُنِيَت جامعة ثانية، في وقت لاحق في بيروت كان لها نفس القدْر من التأثير الإيجابي، وكانت نتيجةً لمجهودات دانييل بليس.

كتب دانييل بليس عن أول نظرةٍ ألقاها على السكان المحليِّين في الشرق الأوسط عام ١٨٥٥؛ سواء كانوا من العرب أو الأرمن أو اليهود، فقال: «كانت وجوههم خاليةً من أي تعبير. ومن الصعب تصوُّر أن بعضهم لديه روح.» كان بليس قد قدِم إلى المنطقة مع زوجته آبي لافتتاح إرسالية في القرى العربية النائية في جبل لبنان، وهي مهمة تطلبت قدرةً هائلة على تحمُّل المشاق. ولكن القوة البدنية كانت فقط واحدةً من بين العديد من الصفات التي كان يتمتَّع بها بليس. وكان بليس قد أصبح يتيمًا مثل هاملين في سن مبكرة، وعمل في عدة مزارع ومصانع في فيرمونت، قبل أن يحصُل على منحة بكلية أمهرست. وفي سن السابعة والثلاثين آنذاك، كان يسير وسط جبالٍ تعلوها الثلوج للوصول إلى غايته. ونجح في خمس سنوات، في تعلُّم العربية وتأسيس مدارس ابتدائية منفصلة للبنات والبنين.

وكان بليس قد أظهر مرةً أخرى إصرارَ المبشِّرين على ترك أثرٍ دائم في الشرق الأوسط، بصرف النظر عن المخاطر التي يواجهونها. ولكن قوَّتهم تلك لم تستطِع أن تحميهم من القتال المستمر الذي نشِب بين الموارنة والدروز في عام ١٨٦٠. فقد أجبرت أعمالُ العنف معظمَ المبشِّرين في سوريا — ومن بينهم بليس — على البحث عن ملجأ في بيروت. ومن هناك، وبرغم فقره اتَّصل بليس بعدد من البروتستانت القدامى، مثل ويليام تومسون وهنري جيسوب وهاريسون دوايت، وزار مدارسَهم بنفسه. فرأى كيف أن كثيرًا من طلبتهم يغادرون بلادهم فور تخرُّجهم، متجهين إلى أمريكا. ولاحظ أنه من وجهةِ نظر هؤلاء أن «أرض الميعاد لا تُعَدُّ غربَ نهر الأردن وشرقه، بل غرب نهر الميسيسيبي وشرقه». وفي عكس هذا الاتجاه، دعا بليس إلى منهجٍ دراسي يبث في الطلبة حبَّ الوطن والالتزام بالواجب نحو المجتمع. ودعا إلى تدريب المعلمين المحليِّين في أقرب فرصة، وأن تكون لغة التعليم والتدريب هي العربية.

في أول يوم من أيام عام ١٨٦٢، قدَّم بليس للمجلس الأمريكي اقتراحَه بتأسيس أول كلية حديثة في العالم العربي. وقد قوبل اقتراحه هذا بفتورٍ تام، ونظر روفوس أندرسون إلى المشروع باعتباره انحرافًا آخرَ عن مجهودات التبشير، لكنه من ناحية أخرى قدَّر قيمته في إعادة الحيوية للقاعدة السورية، وهما «خياران أحلاهما مرٌّ». وفي النهاية حصل المشروع على موافقة المجلس، ولكن كان على بليس أن يجمع مبلغ ١٠٠٠٠٠ دولار بنفسه، وقد جمعها من مساهماتِ عدد من المتبرِّعين البريطانيِّين والأمريكيِّين، من بينهم السيدة فرانكلين ديلانو، وهي من عائلة أستور، التي تُعدُّ من أقدم العائلات في بوسطن، والعمة الكبرى للرئيس الثاني والثلاثين. وبهذه المَبالغ اشترى بليس قطعةَ أرض مطلَّة على خليج سان جورج، كانت «بيتًا للضِّباع ومجمَّع قُمامة لأحشاء الذبائح». واستأجر فصولًا مدرسية في مبانٍ قائمة بالفعل. وبعد ذلك بأربع سنوات، وضع المبشِّرون في بيروت حجرَ الأساس للكلية السورية البروتستانتية الجديدة، التي كان بليس أولَ رئيس لها. ومما لا شك فيه أنه أصاب معظمَ أعضاء المجلس في أمريكا بصدمةٍ عندما قال: «إن الرجل، سواء أكان أبيضَ أم أسودَ أم أصفرَ، يهوديًّا أو مسلمًا أو مسيحيًّا أو حتى وثنيًّا، يمكنه دخول الكلية والتمتُّع بمزاياها … ثم الخروج منها مؤمنًا بربٍّ واحد أو عدة أرباب أو غير مؤمن بأي ربٍّ على الإطلاق.»6

لكنه أضاف بعد ذلك: «سيكون من المستحيل على أي شخص أن يستمر معنا طويلًا دون أن يعلم أننا نؤمن بأننا على حق، وأن يتعرف على أسبابنا للإيمان بذلك.» وكان بليس بذلك يعترف بما كان يعرفه هاملين وهوج ومعظم المبشِّرين بالفعل، لكن لا أحدَ منهم كانت لديه الجرأة على التصريح به. فبسبب فشلِ الأمريكيِّين في نقل معتقداتهم الروحانية إلى الشرق الأوسط، كان عليهم أن يَقنعوا ببثِّ الأفكار الدنيوية بشأن الوطنية والجمهورية والحفاظ على الحريات الفردية. وقد ضربت هذه المبادئ بجذورها بين طلبة الكلية، الذين زاد عددهم من ١٦ طالبًا إلى عدة آلاف، وعن طريقهم انتشرت في المنطقة بأسْرِها. ومن بين الخريجين الأوائل كان يعقوب صروف وفارس نمر، رائدا الصحافة الحديثة في مصر، والدكتور شبلي شميل، المناظر الدارويني والمعلِّق الاجتماعي، وناصف اليازجي وبطرس البستاني واضعا القواميس، اللذان حدَّثا اللغةَ العربية المكتوبة. وفي معرض تقريظ إنجازاتهم في محاضرةٍ ألقاها على طلبة الكلية عام ١٨٦٦، قال إدوارد ويلموت بلايدن إنه «يتطلع إلى اليوم الذي يمكن فيه إرسال الطلبة من ليبيريا إلى سوريا لتعلُّم اللغة العربية، وستسهم الكلية السورية في بثِّ البروتستانتية ليس فقط في غرب وجنوب آسيا، بل أيضًا في شمال وغرب أفريقيا».

أما أكبر إسهامات الكلية تأثيرًا واستمرارًا فلم تكن إسهاماتها الأدبية، بل السياسية. فحسب رأي جيسوب كانت «رسالتها العظيمة» هي تكوين «فينيقيا جديدة وسوريا جديدة»، مبنية على الأخوة والولاء للوطن الأم. وقد استند هذا الهدف إلى فكرةٍ جديدة، مُفادها أن الشعوب المختلفة لسوريا تشكِّل قومية عربية منفصلة. فقال أحدُ رجال الاستخبارات الخاصة بالهيئات التبشيرية المعاصرة في تلك الفترة: «لا يمكن لأي شخص أن ينظر إلى الأتراك السِّمان غير الجذابين، ثم يشعر أن العربَ المملوئين بالحيوية والإحساس، سكان الجبال الأشداء والبدو الرُّحل، خُلقوا ليكونوا رعاياهم.» كانت الغالبية العظمى من السوريِّين لا تعرف نفسَها حسب قوميتها، ولكن حسب دِينها أو قبيلتها أو إقليمها؛ بنفس هذا الترتيب. وكان الأمل ضعيفًا في أي انسجام أو ترابط، وأضعف في أي اتحاد ضروري للحصول على الاستقلال.

ولكن الولايات المتحدة قدَّمت نموذجًا لتحقيق ذلك التضامن. فالبلد الذي كان مكوَّنًا من عدة ولايات وعديد من الأعراق، كان قد نجح في الحصول على حريته من إمبراطورية عالمية، وحارب للحفاظ على تلك الوحدة. وكان بليس يأمُل في أن «يمتلك كلُّ المسيحيِّين في الإمبراطورية التركية الروحَ التي كان يمتلكها الأمريكيون عام ١٧٧٥!» وتحقَّق أمله. فقد تزايدت أعداد خريجي الكلية السورية البروتستانتية المعتنقين للنموذج الأمريكي، وأعلنوا أنفسهم أنصارًا للعروبة. وبالتعاون مع جيرانهم المسلمين، الذين كانوا يشتركون معهم في ماضٍ وتراث ثقافي مشترك، عمل هؤلاء النشطاء على جمع كل البلاد العربية معًا في دولة واحدة ذات سيادة. وكتب المؤرخ العربي الشهير جورج أنطونيوس أن الكلية قدَّمت «الانفعال الفكري» المطلوب من أجل «إعادة صحوة العرب»، وهي صحوة غيَّرت سياسات المنطقة بصورةٍ جذرية. وبسبب فشلهم في تحويل أهالي تلك المناطق إلى بروتستانت، وعن طريق تلبية متطلبات الإيمان بالمدنية الأمريكية، كان المبشِّرون قد ساعدوا في تشكيل هوية جديدة تمامًا في الشرق الأوسط. فبعد خمسين سنة من دفع قراصنة شمال أفريقيا للأمريكيِّين لتكوين ولايات متحدة فيدرالية متميزة، كان المعلِّمون الأمريكيون يدفعون الشعوبَ المختلفة في الشرق الأوسط إلى التوحُّد في أمة عربية فريدة من نوعها.7

•••

ومع ذلك فقد ظلَّ مبشِّرون آخرون على رفضهم التخلي عن هدفهم التبشيري الأصلي، وهو الدعوة إلى البروتستانتية. واستمرَّ هؤلاء في التمتُّع بمساندة «قطاع كبير وذكي من الشعب الأمريكي»، وذلك حسب قول ويليام هنري سيوارد، الذي كان هو نفسه من أكبر المساندين لإرساليات التبشير. وقرَّر وزير الخارجية، المعروف أيضًا بتعاطفه مع فكرة إعادة اليهود إلى فلسطين، أن يمدَّ الحماية الأمريكية إلى يهود الشرق الأوسط. فبعد سلسلة من المذابح المدبَّرة ضد يهود المغرب عام ١٨٦٣، أصدر أوامره إلى القنصل الأمريكي في طنجة «بالقيام بكلِّ ما في وسعه من مجهود وسلطة» لحماية «بني إسرائيل المغاربة» من «الوحشية البربرية» لحكوماتهم.

ومثل العديد من الأمريكيِّين، ثابر سيوارد على الإيمان بقرب عودة المسيح، رغم الكوارث المحيطة بالأمة. ومن وجهة نظر بعض المبشِّرين الأمريكيِّين البروتستانت كانت المجازر التي حاقت بأمريكا أخيرًا قد أثبتت أن الإيمان وحدَه ليس كافيًا. فالمسيحي الملتزم — في عُرفهم — يجب ألا يتوقَ فقط إلى الخلاص، بل يجب أن يعمل من أجله. وقد حفَّزت هذه القناعة أحدَ الأمريكيِّين، وهو جورج آدامز، على قيادة عشرات من أتباعه إلى فلسطين، بهدف استعمار البلد وإعادة السيادة إلى اليهود وإعداد العالم للسلام.8

على أجنحة النسر

معلوماتنا عن حياة جورج آدامز المبكِّرة متناثرة وغير مترابطة. فتقول أفضلُ الروايات أن مكان ميلاده هو مدينة أوكسفورد، بولاية نيوجيرسي، عام ١٨١١ أو ١٨١٣. وكان ابنًا لمزارع، وتدرَّب ليكون خياطًا. ولكن عندما بلغ الثلاثين من عمره، كان جورج آدامز قد نبذ مهنتَه ليقوم بالعمل في مسرح شكسبير، وابتعد عن موطنه كثيرًا. وصفه معارفه بأنه يبدو ذكيًّا مشاكسًا، ذو بنية متوسطة وعينين سوداوين وشعر داكن. «كانت شفتاه مزمومتين مغلقتين كالمحارة المغلقة»، وعيناه قريبتين إحداهما من الأخرى للغاية. وكان أيضًا مدمنًا للخمر، وبعد ظهوره المتكرر ثمِلًا أثناء العروض المسرحية، مُنِع تمامًا من الظهور على خشبة المسرح.

عند هذه النقطة لا يبدو آدامز أفضلَ مرشَّح لقيادة حركة إحياء في فلسطين، خاصة أنه كان شخصًا لا يملك أيَّ معتقدات دينية. بدأت رحلتُه مع الإيمان عام ١٨٤٤، عندما تحوَّل آدامز إلى المورمونية. وقد جمعته صداقةٌ بأورسون هايد، أولِ مبعوث من المورمون إلى القدس، وكان يحلُم بتكرار وتقليد رحلة حج هايد إلى الأرض المقدَّسة. ولكن قبل مغادرته كان قد طُرد من الكنيسة، بسبب فجوره واختلاسه بعضَ الأموال، ثم ظهر بعد ذلك مرة أخرى في مدينة سبرنجفيلد بولاية ماساتشوستس، وكان قد أصبح قسًّا من أتباع كامبل. لكن سرعان ما طُرِد وجُرِّد من الرداء الكنسي مرةً أخرى بسبب عصبيته الشديدة. فهرب آدامز من سُمعته السيئة، وانتقل إلى مدينة إنديان ريفر بماين. وتزوَّج بسيدة من أهالي البلدة، قوية الإرادة والبنية، وأسَّس كنيسة المسيح الخاصة به. ومن منبره وعلى صفحات نشرته الشهرية «سيف الحق ورسول السلام» تنبأ آدامز بالعودة الثانية، أثناء عصر الإخاء والازدهار المالي. وقد كان شرط ظهور هذا العصر الذهبي من وجهة نظره هو إعادة اليهود إلى فلسطين. فقال: «حُكمُ المسيحِ على الأرض وعودة اليهود إلى أرض كنعان على وشْك الحدوث قريبًا جدًّا.»

وبدءًا من عام ١٨٦٢، حين كانت قوات الاتحاد والانفصاليِّين يطعن بعضها بعضًا في حقول شيلوه وأنتيتام، ظل جورج آدامز في ماين، يمشِّط الولاية بحثًا عن متطوعين. وكان ينادي في اجتماعات الإحياء، وشعره الطويل يتطاير في الهواء ونظرة داكنة تتراقص في عينيه: «عمَّا قريب ستنفض فلسطين عن نفسها ترابَ الزمن وستنهض وتتلألأ في مجدها، كما كانت في الماضي!» وأخيرًا توجَّه إلى الأرض المقدَّسة، وأخذ معه مديرَ مكتب بريد المدينة، أبراهام ماكنزي، لتقييم مدى تقبُّله ومعايشته لفكرة الاستيطان. وكان تقريرهما متخمًا بالثناء. فقد ادعى آدامز أن تربة فلسطين ممتازة، وأن جوَّها مشابه تمامًا لجو ولاية كاليفورنيا. وبمساعدة الاختراعات الأمريكية الحديثة، مثل «لوح قالب جونسون المتحرِّك» و«مثقاب سميث المتميز ذو الحركة المزدوجة» فإنه بإمكان البلد أن يستقبل سنويًّا آلافَ المستوطنين وجماعات من السياح. وأصبح بالإمكان إعادةُ تعليم اليهود الزراعةَ والفلاحة.

وعن طريق هذه الأنباء السعيدة، تمكَّن آدامز من تجنيد ١٥٦ أمريكيًّا لمساندة قضيته؛ فنانين وصيادين ومزارعين وتجار مع زوجاتهم وأولادهم. وقد غيَّر اسمه إلى جورج واشنطن جوشوا آدامز، ثم أخذ يصيح: «العودة العظيمة، كما تنبأ بها الرسل والحواريون، بدأت الآن.» ونصح آدامز أتباعه بوضع مدخراتهم معًا، وكان مجموعها ٤٢ دولارًا، لتسديد مصاريف السفر إلى فلسطين.9

•••

ومع أن آدامز كان، من دون شك، غريبًا فإنه مَثَّل أفكارًا استمرت في شغْل قطاعات رئيسية من المجتمع الأمريكي، ومن بينهم بعض الشخصيات المرموقة. وفي اجتماع مع أبراهام لنكولن عام ١٨٦٣، اعترض رجل الكنيسة القيادي هنري ونتورث مونك على واقع أن اليهود، على عكس الزنوج، لا يزالون في وضعٍ يجب تحريرهم منه. وقال: «لا يمكن أن يكون هناك سلامٌ دائم في العالم إلا إذا كفَّرت الدول المتحضرة … عن ألفي سنة من اضطهاد اليهود … وذلك عن طريق إعادتهم إلى وطنهم القومي في فلسطين.» ومع أنه لم يُعرف عن الرئيس لنكولن قط أنه كان متدينًا، فإنه وافق على الفور، وقال: «إعادة اليهود إلى وطنهم القومي في فلسطين … حُلم نبيل يشترك فيه كثير من الأمريكيِّين.» وأضاف أنه عندما نفوز في الحرب، سيتمكَّن الأمريكيون مرة أخرى من «رؤية الرؤيا وحُلم الأحلام»، وقيادة العالم لتحقيقها.

أشارت ملحوظاتُ لنكولن إلى مدى جاذبية فكرة إعادة اليهود إلى وطنهم لدى قطاع عريض من الأمريكيِّين، واستمرَّت فلسطين بدرجة كبيرة هوسًا قوميًّا. وكان هذا الهوس قد هدأ قليلًا بسبب نشوب الحرب، لكنه عاد بكل قوة بعد انتهائها. وبعد سنتين من اغتيال لنكولن، لاحظ فيكتور بوبوشيه، القنصلُ الأمريكي في القدس الذي كان جنديًّا اتحاديًّا سابقًا وفقد ساقًا في معركة كولد هاربور، أن ٥٠٠ من الأمريكيِّين كانوا قد دخلوا فلسطين في الثمانية عشر شهرًا السابقة، وأن الرحلات إلى فلسطين كانت محجوزة بالكامل، نتيجةَ تأجُّج مشاعر الحجيج ورغبتهم في زيادة معرفتهم بالبلد. واعترف الأسقف وعضو مجلس النواب هنري وايت وارن بعد وصوله إلى يافا بأن «هذا أول بلد أشعر فيه أنني في بلدي، مع أنني لم أبقَ قط في بلد مختلف عن بلدي بهذا القدْر». وكتب مراسل الحرب الأهلية الشهير جون راسل يانج: «أنت تأتي إلى الأرض المقدَّسة بشعور وكأنك تعود إلى منزلك. فبصورةٍ ما تشعر أنك تنتمي إلى هنا.» وأصبح بالإمكان زيادةُ معرفة الأمريكيِّين بفلسطين، وهي المعرفة التي وجدت جذورها في القراءة اليومية للإنجيل، عن طريق الاشتراك في جمعية استكشاف فلسطين، المتخصِّصة في دراسة جغرافية الأرض المقدَّسة. وكان بإمكانهم أيضًا زيارةُ حديقة فلسطين، التي كان فيها نماذج للمزارات الرئيسية — الناصرة وبيت لحم والقدس — التي شُيدت على ضفاف بحيرة إيري. وتفاخرت مجلةُ هاربر قائلة: «نحن نعرف أكثرَ بكثير عن بلد اليهود، من العرب الجهلة الذين يحكمونها.»10

ولكنَّ الانشغال بفلسطين والإيمان بعودتها إلى اليهود في النهاية لم يكونا شيئًا واحدًا. فكما سخِر هيرمان ميلفيل من واردر كريسون وآل ديكسون، كان رفض رجال الدِّين المرموقين، خاصةً من الكنائس التي لها شعبية كبيرة، لفكرة إعادة اليهود. وقد يقال إن القس وارن شعر بأنه في وطنه الثاني في فلسطين. وكتب فيليب شاف من كلية اللاهوت الاتحادية بحماسة عن أول مرة وقعت عيناه فيها على القدس عام ١٨٧٨. وبعدها بفقرة واحدة دعا إلى تدمير «الأحياء القذرة الكئيبة للمدينة» وكان يعني بها الأحياءَ اليهودية. أما وارن وشاف، فكانت الحال البائسة لليهود عنده دليلًا على تحقُّق نبوءة الإنجيل، وعقابًا لهم على رفضهم للمسيح. وبدا «تقرير برينستون» وكأنه يتحدَّث نيابةً عنهم وعن غيرهم من الوزراء المحافظين عام ١٨٦٦، عندما ندَّد بفكرة إعادة اليهود لأنها «خاطئة للغاية» وضد «كل تعاليم العهد الجديد … ومضرة بمصالح الدِّين الحقيقي».

لم يحقِّق المعارضون لفكرة الإعادة، رغم أصواتهم العالية وهجومهم الشرس شيئًا، فلم يستطيعوا تحصيلَ قوة ولا شعبية المدافعين عن الفكرة. وكان من بين هؤلاء المشيخي ناثانييل كلارك بيرت من أوهايو، الذي عاد من رحلة إلى فلسطين عام ١٨٦٧، وهو يدعو ﷲ «أن يعود اليهود إلى البلد الذي كان يومًا ما بلدهم، بوعد من ﷲ وهِبة منه». وفي العام التالي، تنبأ قسٌّ من فيلادلفيا، هو هنري رايلي، أن «شعب ﷲ سيتجمع قريبًا من شتاته بين الأمم، وسيعود إلى سيادة فلسطين». وفي مجال الكتب خاصة، تمتَّع مساندو حكم اليهود لفلسطين بتفوُّق واضح على معارضي الفكرة. ففي مذكِّراتها التي حققت أعلى المبيعات، وكانت بعنوان «الحاج في سوريا»، عبَّرت سارة باركلي جونسون، ابنة المبشِّر جيمس تيرنر باركلي، عن أملها في أن تشهد في يوم من الأيام «الجنس اليهودي … عائدًا إلى مدينته القديمة … وبلد أسلافه من قبل» وأن تعود فلسطين إلى «أصحابها الأحق بها». أما كتاب ويليام برايم «حياة الخيام في الأرض المقدَّسة» الذي حقَّق انتشارًا أكبر، فكان مجموع مذكِّرات تجارب الكاتب في فلسطين. وباعتباره محرِّر جريدة «نيويورك جورنال أو فكوميرس» كتب برايم متفائلًا إن ماضي البلاد كان «مغطًّى بهالة مقدَّسة»، وتخيَّل كيفية منح الدولة اليهودية المستقبلية مؤنًا غذائية «مستوردة من يافا تحملها الجِمال من بلادِ ما وراء البحار».

كان هوس أمريكا بفلسطين يزداد تفاقمًا بعد الحرب الأهلية، وزادت معه النزعة الرومانسية بشأن إعادة اليهود. واعترف مقالٌ في جريدة «نيويورك تايمز» بأن «الكثير قد قيل لعدة أجيال من اليهود حول استعادتهم للقدس، وكيف أنه أمرٌ مقبول للغاية أن يفكِّر المرء في أنهم سيقومون بذلك أخيرًا. فهم حقًّا يستحقون القدس». قليل فقط من الأمريكيِّين هو مَن تبنَّى هذا الشعور أكثر من جورج آدامز وأتباع كنيسته، الذين قاموا في أغسطس عام ١٨٦٦ بركوب السفينة «نيللي تشابين» المتجهة إلى فلسطين. وأعلن آدامز: «أبناء أفرايم يتجمَّعون من أجل العودة.»11

•••

استغرقت الرحلة من بوسطن إلى يافا ٤٢ يومًا؛ أي نحو ضِعف المدة المعتادة. ومع ذلك فقد رفض أيٌّ من الحجيج أن يشتكيَ، وأقسم أحدهم أنه «يفضِّل أن يجلس وحدَه على لوح خشبي وأن يصاب بدُوار البحر وتبِعاته عن أن يفوِّت رحلةً لفلسطين». ولكنَّ مِحَنًا أكثر قسوة كانت بانتظارهم بعد رسوِّ السفينة «نيللي تشابين». فبعد الانهيار العنيف الذي شهدته مستوطنة آل ديكسون، والخلاف الذي أحدَثه ذلك مع الولايات المتحدة، قرَّرت الحكومة العثمانية ألا تسمح بتأسيس أي قواعد أو مستوطنات بروتستانتية أخرى. لذلك اضطُر الحجاج المرافقون لآدامز إلى إقامة مخيم على الشاطئ، بين أكوام نُفايات الجزارين المحليِّين وقبور مائتين من ضحايا وباء الكوليرا الأخير. وقال أحد كتَّاب اليوميات منهم: «التنفس وسط هذا الكمِّ الكبير من النُّفايات المتحللة كان أمرًا سيئًا للغاية. فقد كان الشاطئ وكأنه مرحاض للعالم بأسره».

ومع كل هذه المنغِّصات، ظلَّت الروح المعنوية للأمريكيِّين مرتفعة. فقد وجد بحَّارة السفينة «تيكانديروجا»، الذين كانوا في استراحة على شاطئ يافا في سبتمبر عام ١٨٦٦، أن المستوطنين كانوا لا يزالون متفائلين بشأن فرصهم في النجاح. ووصف آدامز بكثير من الإثارة خططَ إنشاء مدينة على النمط الأمريكي، بها «كنائس وفنادق وكليتان»، بالإضافة إلى إعادة بناء المعبد، الذي لا بد أن يكون كاهنه الأكبر عضوًا من أسرة روتشيلد. وقد بدأت الخطوة الأولى نحو تحقيق هذه الرؤية أوائل عام ١٨٦٧، عندما منح نائبُ القنصل الأمريكي هيرمان لوفنتال، وهو ألماني يهودي متحول إلى المسيحية، منح المجموعةَ عشرة أفدنة من الأرض الصالحة للزراعة خارج نطاق المدينة. ومع أن ذلك كان أقلَّ بكثير من الثلاثة ملايين فدان التي وعدَهم آدامز بها، فإن المستوطنين شرعوا في العمل فورًا. وفي أيام، كان ١٧ منزلًا سابقة التجهيز مستوردة من ماين قد أُعيد تركيبها، وشُيِّد مبنًى للاجتماعات. وأعلن آدامز، الذي أطلق على نفسه لقب «الرئيس آدامز» وهو يرفع العَلم الأمريكي «في كل يوم من أيام الرب»: «لقد أصبحنا نحن أهالي المستوطنة متحررين من أي حكومة على الأرض.»

ولكن سرعان ما هاجمت العصابات محصولَ المزارعين، وعندما حلَّ الشتاء كانوا مهدَّدين بمجاعة. وشُوهد آدامز أكثرَ من مرة وهو ثملٌ، ويتجادل بعنف مع زوجته، ويندِّد بلوفنتال واصفًا إياه «بالوحش في شكل إنسان، ويهودي خبيث … يعارض أيَّ تقدُّم مسيحي». وبعد أقلَّ من ستة أشهر من نزولهم الأرضَ المقدَّسة كان ١٧ أمريكيًّا قد لقوا حتفَهم، ضحايا للدوسنتاريا والتعرُّض للأجواء غير الملائمة. وقال آدامز يطمئن بقيةَ الناجين، الذين كان معظمهم قد بدأ يشكِّك في علاجاته: «ضعوا ثقتَكم في ﷲ واستخدموا قليلًا من الخمور.»

ووصلت تقاريرُ متناقضة بشأن بؤس المستوطنين إلى الولايات المتحدة. ففي خطاب إلى جريدة «نيويورك تايمز»، نفى أحدُ المستوطنين الادعاءات القائلة إن هذا المجتمع الصغير يواجه الفشل، وأصرَّ على أن «السيد آدامز يتمتَّع بسمعة حسنة بين اللاتينيين واليونانيِّين والأرمن والمارون والأتراك والعرب واليهود والمسلمين». وجاء خبرٌ آخر في جريدة «بانجور تايمز» أن العرب كانوا «أفضلَ أصدقائنا» ويظن أنه «أمرٌ رائع أن يعيش الشخص في بلدٍ عاش فيه يومًا ما الرسلُ والبطاركة والمسيح ذاته». ولكنَّ مقالات أخرى كشفت عن ماضي آدامز ووصفته ﺑ «المغامر الأفَّاق الشقي». ووصفت شائعاتٌ متناقضة المستوطنين تارةً بأنهم متورطون في حرب أهلية مصغرة، وتارةً بأنهم يمارسون الحب الحر.

في تلك الأثناء كانت المستوطنة قد أصبحت منطقةَ جذب للسياح الأمريكيِّين. وكان رجل الصناعة الشهير في كونيتيكت تشارلز إليوت يصف المستوطنين بأنهم «غير محميِّين وكأنهم على حدود ولاية تكساس». وأعلن القسُّ هنري ويتني بيلوز أن آدامز «متعصِّب ديني صلب الرأي». ومع ذلك فقد كان مشهد المنازل المتواضعة الشبيهة بالأكواخ، ويحيط بكلٍّ منها حديقة صغيرة منسَّقة، منظرًا لا يقاوم لمراسلِ السفريات والرحلات جون سويفت. فكانت المستوطنة عنده مايفلاور حديثةً (مايفلاور هي السفينة التي كانت تقلُّ الحجاج في الماضي إلى القدس)، وكانت مجتمعًا «للأمريكيِّين الشماليِّين الحقيقيين، الذين تسلحوا بالدِّين في يد … وبالمحراث الأمريكي في اليد الأخرى»، والذين كانوا يطمحون إلى «إعادة إحياء الأرض بناءً على المبادئ الأمريكية». وقد اقتبس جون سويفت حديثَ آدامز المملوء بالتفاخر عن خططه «لبثِّ المدنية في العرب المضلَّلين» عن طريق زرعِ الديمقراطية في صفوفهم وتكوين دولة يهودية. وكانت زوجة آدامز الملقَّبة بالرئيسة، قد أكَّدت لسويفت أن الخلاص بات وشيكًا؛ لأن «النسر الأمريكي رمزَ الحرية أصبح يرفرف بجناحيه ويطير طيرانَ المجد من أحدثَ إلى أقدمِ بلد على الأرض».12

كان السؤال عمَّا إذا كان آدامز يمثل نقطةَ فخر للولايات المتحدة أم إحراجًا لها، قد عُرض في نهاية الأمر أمام وزارة الخارجية. وأرسل وزير الخارجية سيوارد صديقَه القس والتر بيدويل لاستكشاف المستوطنة. فوصل بيدويل إلى يافا في مارس عام ١٨٦٧، وباستثناء سيدة «شاحبة الوجه ومثقَّفة للغاية» كانت تريد العودةَ إلى الوطن، وجد بيدويل أن المستوطنين كانوا عامةً راضين عن حياتهم، وواثقين في مستقبلٍ مثمر ينتظرهم. وبالفعل، مقارنةً بأكوام القمامة والأكواخ في ميناء يافا، كانت المستوطنة تبدو رائعة في عيني بيدويل. ولكنَّ أغسطس جونسون، القنصل الأمريكي في دمشق، كان قد وصله انطباع مختلف تمامًا. كان متزوجًا من ابنة الكاتبة البروتستانتية سارة باركلي؛ لذلك كان منحازًا للمبشِّرين، ولكن ما رآه في يافا أصابه بالاشمئزاز. وفي خطابٍ له حذَّر الرئيس واشنطن من أنه عما قريب «سيطلب الأمريكيون من العرب الصدقة … ليتجنبوا الموتَ جوعًا في الشوارع. وعن طريق إيقاظ حواسِّهم وتحريرهم من سحرِ آدامز فقط يمكن أن يكون لهؤلاء الأمريكيِّين أملٌ ما في البقاء».

حدَثت الصحوة في الصيف، عندما كانت الوفيات بين المستوطنين قد وصلت إلى ستين شخصًا. وبسبب انهيارهم ويأسِهم نشر ٢٢ منهم «نداءً إلى القلوب الخيرة وإلى الإنسانية جمعاء» في الصحافة الأمريكية، وتوسَّلوا إلى الحكومة الفيدرالية أن تنقلهم. وسألوا القنصلَ بوبوشيه: «كيف يمكننا أن نثق في يد أو قلب أي شخص يتعثَّر في طريقه ثملًا، ولا يقدِر على قراءة كلمة الرب؟» وفي خطابٍ إلى حاكم ماين، جوشوا لورنس تشامبرلين، قالوا إنهم فقراء للغاية، لا يملكون أيَّ طعام أو دواء، وأن ممتلكاتهم سرقها «النصَّاب الشرير آدامز». وذكَّروا تشامبرلين، وهو من أبطال معركة جيتيسبرج، بأن الكثيرين منهم «قد ساروا وراء العَلَم الأمريكي في العديد من المعارك في الجنوب»، وأنهم يستحقون مساعدةَ بلادهم.

وأخيرًا أثَّرت تلك التوسلات في وزارة الخارجية، فخصَّصت ٣٠٠٠ دولار لنقل المستوطنين. وكان ذلك المبلغ يكفي فقط ستة عشر منهم، ولكنَّ آخرين وجدوا أماكنَ في سفنٍ تابعة للبحرية الأمريكية. وحذَّرهم آدامز من أن «حالهم سيتدهور وسيصبحون شحاذين وفقراء»، لكنه في النهاية رحل معهم، تحت ادعاء أنه سيجمع تبرُّعات للمجموعة في بريطانيا. وعاود الظهور بعد ذلك في كنيسة معمدانية في فيلادلفيا عام ١٨٧٣، وكان يلقي المواعظ وينفي أيَّ رابطة بينه وبين جورج واشنطن جوشوا آدامز من يافا.

وبنهاية فصل الصيف كان نحو خمسين مستوطنًا قد عادوا إلى إنديان ريفر، يملؤهم الخجل من أنفسهم. وجلب أبراهام ماكينزي معه خيمةً بدوية، وافتتح مشروعًا يبيع عن طريقه «تربة فلسطينية أصلية». ولكنَّ أربعين منهم ظلُّوا في يافا، ونجحت واحدةٌ من بينهم فقط، هي رولا فلويد، في إيجاد عمل ثابت في مجال قيادة وإرشاد السياح الأمريكيِّين في القدس. ومع أن المستوطنة عُرفت باستمرار ﺑ «الماليكان» — أي مكان الأمريكيِّين — فإن الأدفنتست الألمان اشترَوا معظمَ مبانيها. وانتقلت ملكيةُ بيت آدامز إلى بلاتون أوستينوف، وهو بارون روسي يهوى ويمتهن جمع الأنتيكات، وجد الممثِّل بيتر أوستينوف. وهكذا كُتبت نهاية أليمة أخرى لإحدى تجارب الأمريكيِّين البروتستانت لتأسيس مستعمَرة مخصَّصة لعودة اليهود إلى فلسطين. ولخَّص القنصل البريطاني في يافا، نويل تمبل مور، الموقفَ قائلًا: «فشلُ المستوطَنة الأمريكية في يافا … هو تكرارٌ لمصير تجاربَ سابقة مشابهة. ولا يبدو أن هناك أملًا في نجاح مثل هذه التجارب.»13

وبدا الأمر وكأن النسر الأمريكي، الذي كان سيوصل اليهودَ إلى السيادة في موطنهم القديم، حسب خيالات السيدة آدامز، قد طوى جناحيه. فبعد انهيار محاولات الاستيطان الأولى لهارييت ليفرمور وكلوريندا مينور وآل ديكسون، ثَبَّط تفكُّك جماعة آدامز من همةِ كثير من الأمريكيِّين البروتستانت الحالمين بالاستقرار الدائم في فلسطين. ومع ذلك فقد قامت إحدى العائلات، وهي عائلة سبافورد، التي سنستعرضها في فصلٍ لاحق، بمحاولة تكوين مستوطَنة أمريكية في القدس، في حين أسَّس مبشِّرون آخرون مدارسَ ومستشفيات في كل أنحاء البلاد. واستمر اندفاعُ الأمريكيِّين نحو فلسطين — بل إلى جميع أنحاء الشرق الأوسط — في التنامي، لا يدفعهم فقط الورعُ والتقى، ولكن شغف للمغامرة لا يهدأ ولا يفتُر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤