الفصل الثاني عشر

الصحوة

أصبح بإمكان الأمريكيِّين الآن أن يتخيلوا ويحلُموا. فقد اتحدوا بعد انشقاقٍ حادٍّ، كما كانوا على أعتاب ثورة صناعية ثانية، أقوى بكثير من الأولى، وأصبح لديهم إنتاجٌ نوعي ذو ثِقَل أدَّى إلى ريادتهم العالمَ في مجال تصدير الآلات والمنسوجات والبترول. وزاد عدد السكان بسبب موجات الهجرة إلى البلاد بنسبة ٤٠٪ في العقود التالية للحرب الأهلية، وانتشروا في ٣٧ ولاية. ومع انتشار الشعب الأمريكي الرحيب، فقد كان مترابطًا عن طريق أكثر من ربع مليون ميل من السكك الحديدية وخطوط التلغراف. وفي بداية عام ١٨٨٠ أُضيف إلى كل هذا ١٣٣٠٠٠ هاتف أيضًا. وفي مجال إنتاج الصلب كانت المصانع الأمريكية تسدُّ بطموحها الكبير الفجوةَ بينها وبين أوروبا، وتقوم بتوزيع نصيبٍ متنامٍ من إنتاجها نحو مجال التسليح والمركبات الحربية. ولم يكن تمازُج كلِّ هذه الطاقة ينحصر داخل أمريكا الشمالية فقط. فالآن، ومع استقرار حدودها الغربية، وجَّهت البلاد اهتمامها إلى ما وراء حدود قارتها، أي نحو أمريكا الوسطى والمحيط الهادي والشرق الأقصى. وإذا كانت الولايات المتحدة لم تكن قد وصلت بعدُ لتصبح قوة استعمارية على قَدَم المساواة مع فرنسا وبريطانيا، فإنه كان لها دورٌ مهم وحيوي في الشئون الدولية.

فيما يتعلَّق بالشرق الشرق الأوسط كان الدور التقليدي لأمريكا هو دَور المحرِّرة والداعمة لحقوق الأقليات، والمساعِدة على استقلال الأقاليم العثمانية كاليونان والمجر. وبسبب الثَّمن الباهظ الذي دفعه الشعب الأمريكي في سبيل اتحاده واستقلاله، شعر بحقِّه — بل بواجبه — في ضمان هذه المزايا للشعوب الأخرى أيضًا. وكانت هذه المساعدات مدعومةً الآن بقوة اقتصادية وعسكرية. فمع ارتباط إعادة التعمير ببعض الفساد، ومع استمرار الأحكام المسبقة ضد الأمريكيِّين السود في الشمال والتشريعات العنصرية في الجنوب، ثم القضاء نهائيًّا على قبائل السكان الأصليِّين من الهنود الحمر في الغرب، تمكَّن الأمريكيون من جلبِ الحرية إلى الشرق الأوسط.

العَلَم الأمريكي في إمبراطورية الهلال

مع الغموض الذي أحاط إلى حدٍّ ما بالوثائق المسجَّلة رسميًّا عن تلك الفترة، فإن أول أمريكي حاول مساعدةَ العرب على تحقيق استقلالهم كان يقيم في سوريا عام ١٨٦٨. فقد قاد تشارلز لامار وأندرو رومر والكولونيل أوريلي، وكلُّهم من محاربي الحرب الأهلية القدامى، ثمانين عربيًّا في ثورة ضد الحُكم العثماني. كان المتمردون مسلَّحين بالبنادق ومدافع الهاون، واشتبكوا مع قوة عثمانية قُرب مدينة حماة بسوريا. كان القتال عنيفًا، وبعد أن قُتلت إبل المتمرِّدين، أُسِرَ رومر ولامار. ووُضِعا في زنزانة ضيقة ورطبة بجانب المراحيض، ثم أُرسلا مقيَّدين إلى إسطنبول، حيث سُجنوا عدة شهور. وانتاب القنصل الأمريكي في دمشق أغسطس جونسون القلق من أن يترك هذا الحادث انطباعًا لدى شعوب الشرق الأوسط بأن «الأمريكيِّين يتعاطفون مع … مساعي الانقلاب على الحكومات الدكتاتورية» ويشجِّعون على التمرُّد. وأكَّد جونسون أنه على عكس القوى الأوروبية، فإن رسالةَ أمريكا للمنطقة هي «رسالة إنسانية وليست سياسية».1
وقد أثبَت تصريح جونسون صوابه؛ فقد انتشرت بالفعل صورةُ الأمريكيِّين باعتبارهم محاربين من أجل الحريات. وبحلول أواخر الستينيات من القرن التاسع عشر كانت القوى الوطنية المحارِبة ضد العثمانيِّين في جزيرة كريت تناشد مجلسَ النواب الأمريكي تقديمَ معونات عسكرية وإنسانية لها. وطلب البهائيون في بغداد مساعدةَ الأمريكيِّين في إنقاذ قائدهم بهاء ﷲ من المنفى التركي. في تلك الأثناء كانت واشنطن قد استمرت في إظهار اهتمامها بالجاليات اليهودية في جميع أنحاء الشرق الأوسط؛ في فلسطين وفارس وشمال أفريقيا. وصرَّح الرئيس راذرفورد هيز أمام مجلس النواب في ديسمبر عام ١٨٨٠ بأن الولايات المتحدة لم «تضيِّع فرصةً تستطيع عن طريقها الضغطَ على إمبراطور المغرب من أجل احترام حقوق الرعايا اليهود هناك». وقال اليهود الممتنون في الدار البيضاء إعرابًا عن شكرهم لوزارة الخارجية الأمريكية: «إن هذا الشعب البائس يوجِّه أنظاره إلى الولايات المتحدة، الدولة العظمى الراعية للحرية والمساواة.» وصرَّح قادة اليهود بالقدس بأن «العَلَم الأمريكي سيضيء براقًا لامعًا في إمبراطورية الهلال، وسيبارك شعب ﷲ المختار في البقعة المقدَّسة لأسلافنا المشتركين في الولايات المتحدة إلى الأبد.»2
كان اهتمام الأمريكيِّين بضحايا التعصُّب والعنصرية في الشرق الأوسط أوضحَ ما يكون في بلغاريا. ومع أنها لم تُعَدَّ قط جزءًا من الشرق الأوسط، فإن بلغاريا كانت لا تزال مقاطَعة عثمانية في الوقت الذي قامت فيه القوات التركية عام ١٨٧٦ بذبح نحو ١٥٠٠٠ بلغاري مسيحي. وللتحقيق في هذا الحادث المروِّع، أرسلت وزارة الخارجية الأمريكية دبلوماسيًّا مهذبًا هو يوجين شايلر، الذي كانت له ترجمات للكاتب الروسي تورجنيف، والذي كان قد حصل على أول درجة دكتوراه من جامعة ييل. وصل شايلر إلى صوفيا وما حولها، وقال في أحدِ تقاريره اليومية بتاريخ ١٤ أغسطس: «في بانيجويشتي قتلت القواتُ النظامية ٣٠٠٠ شخص … وقد اعتدت على معظم النساء والصبيان وكبار السن من الرجال.» كما أرسل ينيواريس ألويسيوس ماكجاهان، وهو أمريكي يختلف عنه تمامًا، تقاريرَ مشابهة. كان صحفيًّا من مدينة بيدجن روست ريدج بولاية أوهايو، ذا لحية ويشبه الدُّب. وأُعيد نشر تقارير ماكجاهان ومقالاته في جريدة «نيويورك تايمز»، التي وصفت «جثث الأطفال المذبوحين بالمئات، وأكوامًا كاملة من جثث الفتيات اللاتي اغتصبن أولًا ثم قُتلن … وأيضًا الكنائس المملوءة بالجثث». وكان لشهادات شايلر وماكجاهان دورٌ فعَّال في تحويل الرأي العام الدولي ضد تركيا، وعلى تشجيع الروس على مهاجمة العثمانيِّين عام ١٨٧٨م، وهي الحرب التي فقد ماكجاهان حياته فيها بسبب إصابته بمرض التيفود. حصلت بلغاريا بعد ذلك على استقلالها، وقد وضعَ شايلر مسوَّدة دستورها، بالتعاون مع عدد من خريجي كلية روبرت كوليدج، وهي المدرسة الأمريكية في البوسفور.3

لم تكن الولايات المتحدة قد عبَّرت عن استيائها من الباب العالي بهذا الوضوح منذ توقيع الاتفاقية العثمانية الأمريكية قبل ذلك بخمسين عامًا. وكان الاستياء هذه المرة متبادلًا؛ فقد أعلن الباب العالي أن شايلر أصبح شخصًا غيرَ مرغوب فيه، وطُرِد من الأراضي العثمانية. ولكنَّ هذه الاحتكاكات لم تتدخل في الإجراءات الدبلوماسية اليومية بين البلدين، أو في التجارة المربحة بينهما. ففي ٤ أغسطس عام ١٨٧٣م افتتح العثمانيون أولَ سفارة للشرق الأوسط في واشنطن، في حين كانت السفن الحربية الأمريكية الزائرة لإسطنبول تُقابَل بتحيات طلقات المدافع والموسيقى العسكرية التي تؤدي السلام الوطني الأمريكي. وعام ١٨٧٧ وحدَه استوردت الولايات المتحدة ما قيمته ١٦٧٠٠٠ دولار من الأفيون والبهارات، بالإضافة إلى عدد من الأغراض من بازارات الدولة العثمانية، وأمدَّت الدولة العثمانية بما هو أكثر من ٤,٥ ملايين دولار من البترول والمعدَّات العسكرية. وقال سيروس هاملين منتشيًا في تقرير له إن تركيا أصبحت «تحصُل على بنادقها … من مدينة بروفيدنس برود أيلاند، والذخيرة من مدينة نيو هيفين بكونيتيكت!»

كان تأثير الولايات المتحدة يظهر في أجزاءٍ أبعدَ وأبعدَ من المنطقة. ففي ديسمبر عام ١٨٧٩م، أصبحت السفينة الأمريكية «تيكونديروجا» أولَ سفينة حربية أمريكية تمرُّ من مضيق هرمز متجهةً إلى الخليج العربي. وبذلك دخلت السفينة الأمريكية بسرعة ٦٠ ميلًا مجالَ ما كان يُعدُّ في السابق بحيرةً بريطانية فقط، في المجرى المائي المسمَّى شط العرب، ومنه إلى موانئ البصرة بالعراق وبوشهر بإيران. وأما عند قائد السفينة «تيكونديروجا» روبرت ويلسون شافلدت، فقد كان استعراض القوة الأمريكي هذا لا يهدُف فقط إلى فتح أسواق جديدة، ولكن أيضًا إلى الإعلان عن الأفكار الأمريكية. وأعلن شافلدت، الذي كان في السابق قائدًا للسفينة «كويكر سيتي»: «لا يوجد مكانٌ آخر في العالم يكون فيه من الضروري إظهارُ هذا القدْر من القوة … من أجل نشرِ معرفة إحدى الدول المتمدينة.»

كانت قدرة أمريكا على إثبات نفسِها في الشرق الأوسط — استراتيجيًّا وتجاريًّا وخيريًّا — قد ظهرت عن طريق حادثة دبلوماسية وقعت عام ١٨٨١م وأوشكت على التسبُّب في أزمة. كان المكان هو قصر السلطان في إسطنبول؛ حيث كان السفير الأمريكي الجديد، ليو والاس، قد وصل لتقديم مسوِّغاته. ولكن بدلًا من السماح له بدخول البلاط، اضطُر والاس إلى الانتظار عدةَ ساعات بالخارج. وشرح ترجمان والاس أن مثل هذه المعاملة السيئة تمثِّل ممارساتٍ معتادةً في القصر، تهدُف إلى تعريف الغربيِّين بمكانتهم الحقيقية.

كان لوالاس حضورٌ طاغٍ، بالرغم من النظَّارة والشوارب، وكان قد قاد جيوش الاتحاد في بعض أكثر معارك الحرب الأهلية دموية، وعندما كان حاكمًا لنيو مكسيكو، طارد ذات مرة المجرمَ بيلي ذي كيد. وبالإضافة إلى شجاعته، كانت لوالاس آراءٌ دينية قوية. وعندما كانت تلك الآراء تجتمع مع خياله الخصب كانت النتيجة إلهامًا لكتابة رواية حقَّقت مبيعات هائلة، هي «بن هور». كان والاس رجلًا اعتاد احترام الآخرين والحصول على احترامهم، ولم يعتَد الإهانات. والآن كأنه عاد إلى أرض المعركة، اقتحم والاس صفوف حراس القصر، ثم اقتحم الغرفة الإمبراطورية، وسار مباشرةً نحو السلطان.

وعلى العكس من أسلافه، عبد المجيد وعبد العزيز، ذوَي التفكير الإصلاحي، كان عبد الحميد الثاني محافظًا للغاية ودائمَ التشكك في الغربيين. فحدَّق في هذا المقتحم الجريء الوقح، وتجاهل الترجمان الذي ركع وطلب الصفح عن فَعلة سيده الوقحة. في تلك الأثناء كان والاس قد حيَّاه تحيةً عسكرية، وأبقى يده على ذلك الوضع. ومرَّت دقائق مليئة بالتوتر قبل أن يتحوَّل تجهُّم السلطان إلى ابتسامة. ثم تقدَّم للأمام، معلنًا أن ضيفه «رجل جاد» وصافحه بحرارة.4

أُتيحت لوالاس فرصٌ أخرى للاعتراض على الممارسات العثمانية، ولإظهار قوة الشخصية الأمريكية في الشرق الأوسط. ولكن في العقود الباقية من القرن التاسع عشر لم ينبُع التحدي الحقيقي لارتفاع شأن الأمريكيِّين في المنطقة من الباب العالي، بل من القوى الأوروبية. فقد ثارت مشاعر الأوروبيِّين بسببِ ما اعتبروه تدخلًا أجنبيًّا وانتهاكًا لمنطقةٍ تُعدُّ منطقة نفوذ أوروبي حصريًّا. لذلك حاولت تلك القوى منعَ الأمريكيِّين من توسيع رقعة نفوذهم في كل أنحاء الدولة العثمانية. ومن الأمثلة المبكِّرة لهذا الاحتكاك ما حدث في مصر، عندما عارض الأوروبيون محاولةَ أحد الأمريكيِّين الحصول على تذكار شرق أوسطي ومشاركة مواطنيه في أمريكا التمتُّع به.

علامة بارزة على التقدير الدولي

لم يكن هذا أيَّ أمريكي، بل قُطب السكك الحديدية ويليام فاندربيلت، الذي كان يجسِّد مفهومَ مارك توين «لعصر الذهب»، الذي كان يعني الثروة والوفرة والتفاؤل. كان فاندربيلت قد انبهر بالتقدير الذي لاقاه جرانت في مصر. ثم نما إلى سمعِه أن باريس ولندن وروما حصلتا على مسلة مصرية قديمة، فطلب فاندربيلت من وزارة الخارجية أن تساعده في الحصول على مسلةٍ مماثلة لموطنه بمدينة نيويورك. وافقت الوزارة، وأرسلت توجيهاتٍ إلى قنصلها بالإسكندرية، إلبرت إيلي فارمان، لطلب لقاء الخديوي إسماعيل.

قال فارمان للخديوي إسماعيل: «اقترب عدد سكان الولايات المتحدة من ٥٠ مليونًا، وعما قريب سيتضاعف هذا الرقم.» وأضاف أن الكثيرين من هؤلاء سيزورون نيويورك يومًا ما، «وإذا تمَّت إقامةُ مسلة هناك … فسيتلقَون معلومةً عن تاريخها القديم، وأنها كانت هديةً من جلالته إلى الشعب الأمريكي». كان فارمان محاميًا درَس في كلية أمهرست، وترجع أصوله إلى وارسو بنيويورك، والآن، في سن الثامنة والأربعين، كانت له جبهة عالية وعينان حساستان ولحية كثيفة كلحية الفلاسفة. وفي السنوات الثلاث منذ تعيينه، كان قد عمل بالقرب من مبشِّرين أمريكيِّين للمساعدة في تحرير العبيد الأفارقة من أسيادهم المصريين، مما سبَّب الضيق والتنغيص للسلطات المحلية. ومع ذلك فقد نجح فارمان في تكوين صداقة دافئة تتميز بالصراحة مع الخديوي إسماعيل؛ لذلك لم يجد صعوبةً ولا حرَجًا في التصريح له مباشرةً برغبة فاندربيلت. وقال القنصل إن تفكير الولايات المتحدة يتجه إلى مسلتين، إحداهما في الأقصر والثانية في الكرنك.

وبسبب شعور الخديوي إسماعيل بالامتنان والدَّين للضباط والمعلِّمين الأمريكيين، الذين كانوا قد اشتركوا في الدفاع عن مصر ورخائها، ولأنه كان ممتلئًا بالحماسة لتقليل مكانة القوى الأوروبية التي كان مدينًا لها، عن طريق رفع مكانة الولايات المتحدة، فقد وافق إسماعيل بلا تردُّد على هذا الطلب. فذكر مسلة أكثرَ إبهارًا عن المسلتين المذكورتين، مشيرًا إلى مسلةٍ عمرها ٣٠٠٠ عام، مصنوعة من الجرانيت، كانت يومًا ما تزيِّن معبد القيصر بالإسكندرية، وهي المعروفة باسم «إبرة كليوباترا». وأضاف أنه يمكن للأمريكيِّين الحصولُ على المسلة مجانًا، باعتبارها «تذكارًا آخر للصداقة التي كانت موجودة على الدوام بين حكومتي الولايات المتحدة والخديوي».

أذهلت أنباء عرض إسماعيل أمريكا. وأكَّد فارمان أن «إبرة كليوباترا» كانت بالفعل ذات جودة أعلى وقيمة تاريخية أكبر من المسلتين الممنوحتين لبريطانيا وفرنسا، كما أن نقلها إلى نيويورك سيظل «حدثًا تاريخيًّا محفورًا في الأذهان». وأخبر الرئيس هيز مجلسَ النواب أن الهدية تمثِّل «علامة واضحة على التقدير الدولي» للأمة الأمريكية بأسرِها.

ولكن في معرض مدحه للكرم المصري، لم يفطِن الرئيس إلى التنبؤ باستياء أوروبا بسبب ما اعتبرته إغاراتٍ أمريكية على الشرق الأوسط. فأولًا، ادعى الإيطاليون أنهم يمتلكون الأرضَ المُقام عليها المسلة، واعترضوا على نقلها. ثم أصرَّت كلٌّ من بريطانيا وفرنسا على أن جميع الممتلكات المصرية، ومن بينها القطع الفنية، مملوكة لهما باعتبارها ضمانًا لديون إسماعيل لهما. واعترض فارمان قائلًا: «ليس للأوروبيِّين — الذين تمتلئ عواصمهم بكنوز مصرية قديمة — الحقُّ في قول أنه لا يجوز نقلُ قطعة واحدة إلى الولايات المتحدة.» وكان الرأي العام الأمريكي كذلك غاضبًا، فحذَّرت جريدة «نيويورك هيرالد» من أن القوى الأوروبية «ستشير إلينا بازدراء، ملمِّحة إلى أننا لن نستحق أيَّ وضع كريم إلا إذا حصلنا على تلك المسلة».

في تلك الأثناء كان التدخل الأوروبي في شئون مصر الداخلية قد ازداد، مع مطالبَ بخلع الخديوي إسماعيل. وتلقَّى الحاكم خطابًا موجهًا إلى «الخديوي السابق»، معلِمًا إياه «بعزله». وجرى استبدال هذا الحاكم الهادئ النبرة صاحب الرؤية المستقبلية، الذي كان يطمح في تحويل مصر إلى بلدٍ مستقل على النمط الغربي، والذي بنى المسارح وشقَّ القنوات، والذي جاء بالضباط الأمريكيِّين لتحديث جيشه، بابنه توفيق «الأكثر مرونة». وتم بذلك أيضًا التغاضي عن أي فرصة لأمريكا في الحصول على مسلة، ولكن فاندربيلت رفض الخضوع للإجراءات الأوروبية. فأرسل ضابطًا بحريًّا سابقًا، هو هنري هنيتشرش جورنج إلى الإسكندرية، ومعه توجيهاتٌ وإرشادات برفض كل محاولات التدخل، واستعادة المسلة فورًا.

ومِثل فاندربيلت، كان جورنج مبتدعًا ومتينَ البنية، مجسِّدًا بذلك العصر الأمريكي الجديد. حصل على تكليفٍ بصفته ضابطًا في الحرب الأهلية، وترقَّى في المناصب حتى وصل إلى مساعد للقائد، ثم أصبح قائدًا للسفينة «جيتيسبرج»، ورافق الرئيس يوليسيس جرانت في رحلته إلى الشرق الأوسط. وكان جورنج أيضًا عضوًا متحمسًا في جماعة الماسونيين، وشاركهم في ارتباطهم القوي بالآثار المصرية القديمة. عندما وصل إلى مصر في أكتوبر عام ١٨٧٩، قضى الأشهر التسعة التالية وهو يعمل على نقل المسلة وقاعدتها التي تزن خمسين طنًّا. وبمساعدة مائة من العمال المصريِّين ورافعة استخدمت يومًا لبناء جسر بروكلين، جرف ١٧٣٠ ياردة مكعبة من الأرض من حول قاعدة المسلة. وبعد خلعها سُحِبَت الإبرة، التي يصل طولها إلى سبعين قدمًا، برًّا إلى سفينة بخارية مصرية، ثم وُضِعَت داخل هيكل السفينة المحفور بطريقة خاصة لاستيعابها. وبلغت تكلفة تلك العملية أكثرَ من ١٠٠٠٠٠ دولار، ولكن فاندربيلت تكفَّل بكل المصاريف. وفي يوليو عام ١٨٨٠ كانت المسلة معدَّة للسفر.

وكتبت جريدة «نيويورك هيرالد»: «من الغريب والعجيب أن يأمُل سكان أي مدينة كبرى في السعادة من دون مسلة مصرية.» وأُضيف ثِقَل للمسلة وسُيِّرَت على مسارات حديدية، فانزلقت إلى رصيف ميناء نيويورك بالشارع الغربي الحادي والخمسين. ومن هناك قامت مجموعة مكوَّنة من ٣٢ حصانًا بجرِّها عبر المدينة إلى الشارع الخامس، فالشارع الثاني والثمانين، حيث يدخل القطار الجزءَ الغابي من متنزه سنترال بارك. وكان بانتظارها في شوقٍ شديد ٢٠٠٠٠ نيويوركي مبتهج وراء متحف متروبوليتان المبني حديثًا، وكان معهم وزير الخارجية ويليام ماكسويل إيفارتس.

كان إيفارتس ابنًا لسكرتير المجلس الأمريكي؛ لذلك نشأ ورِعًا تقيًّا ومساندًا قويًّا لإرساليات التبشير في الشرق الأوسط. قام إيفارتس ليخطب في الحشد المجتمع، لكنه في هذه المناسبة لم يخطب خُطبة دينية، بل فلسفية. فنظر إلى بحرٍ من القبعات والمظلات، وتساءل بصوتٍ عالٍ عما إذا كانت أي دولة، حتى لو كانت ثرية بالقدْر الذي يتيح لها شراءَ مسلة، يمكنها أن تقاوم قوى الانحطاط؟ وتساءل: «هل تتوقعون ازدهارًا مستمرًّا؟ هل تتوقعون أن تزيد الثروات دون أن ينحط الإنسان؟»

لكن معنى كلمات إيفارتس ضاع وسط هُتافات الجمع المحتشد. فقد كان مستمعوه مشدودين للنتائج المترتبة على تلك اللحظة أكثر من أي تأملات تاريخية، وكانوا أكثرَ وعيًا بإنجازات بلدهم في الأعوام العشرين الماضية أكثرَ من قلقهم على مستقبلها. كان الانشقاق قد أحدَث بينهم انقسامًا في أثناء الحرب الأهلية، لكن الشعب الأمريكي أصبح متحدًّا مرة أخرى ويرتفع إلى مكانة عالمية عالية ومميزة. وفي الشرق الأوسط، كما في أي مكان آخر في العالم، جرى الاعتراف بالولايات المتحدة قوةً اقتصادية وحربية عظمى. ولم تَعُد القوى الأوروبية إلى السعي للاعتراض على حق الأمريكيِّين في العمل على رعاية مصالحهم في المنطقة، أو لتأسيس علاقات مع الحكام المحليين. وقد وضُح ارتفاعُ الشأن هذا من هزة كبيرة، عندما أنزلت الرافعات المسلة التي يصل وزنها إلى ٢٢٠ طنًّا على قاعدتها الأصلية. وتمَّت إقامة المسلة راسخةً ومتجهة إلى الشرق.5

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤