الفصل الثالث عشر

فجر الإمبراطوريات

استيقظ أهالي الإسكندرية عند شروق شمس يوم ١١ يوليو عام ١٨٨٢، وهم يرون ظلالًا تنذر بسوء، تمتد عبر أفق البحر المتوسط. وكانت أخبار هذا المشهد الشبيه بالسراب قد انتشرت بسرعة في المدينة، وسرعان ما كانت حشود من المواطنين الفضوليِّين تتجمع عند رصيف الميناء. ونظر الفلاحون والموظفون والتجار في صمتٍ تام إلى الخيالات الرابضة وراء الميناء، في حين كانت مجموعات من جنود المدفعية تتجه مسرعة لمدافعها. وكان كثيرون منهم يعون جيدًا أن تاريخ أمتهم، إن لم يكن تاريخ الشرق الأوسط بأجمعه، على وشْك التغير والتحول. فقد كانت التقلبات والاضطرابات السياسية التي هزَّت مصر وشرخت كبرياءها وأحلامها في الاستقلال، قد تفجَّرت.

وكانت تلك الارتجافات قد ازدادت حدَّتها في السنوات الثلاث الأخيرة، التي أعلنت القوى الأوروبية خلالها أيضًا إفلاسَ مصر، وطردت الخديوي إسماعيل، وأحلَّت ابنه توفيق «الطيِّع» بدلًا منه. وأثار هذا التدخل السافر في الشئون المصرية معارضةً بين صفوف الوطنيين المصريِّين الذين تزايدت أعدادهم، بقيادة الزعيم أحمد عرابي الذي كان يتمتع بحضور طاغٍ لدى الجماهير. كان أحمد عرابي من أصولٍ ريفية، وذا خلفية إسلامية صارمة، وكان قوي البنية، ذا أنف عريض وشواربَ كثيفة. وكان يشغَل أعلى منصب وصل إليه مصري في الجيش، وقد أقسم أن تكون «مصر للمصريين»، وسعى إلى طرد النُّخبة التركية التي كانت لا تزال تسيطر على الجيش المصري، وتحرير مصر من كل ديونها الأجنبية. لذلك تآمر الخديوي ودائنوه الأوروبيون على اعتقال عرابي. ولكن ذلك ما كان ليخرس «عُرابي» أو يردِعه. وبحلول عام ١٨٨٢ كان عرابي يهدِّد بخلع الخديوي، وقامت المظاهرات في القاهرة والإسكندرية لمناصرته، ثم امتدَّت إلى قناة السويس. وخوفًا على أمن مواطنيها في مصر، والأهم من ذلك، على أمن قناة السويس، قرَّرت بريطانيا أن تتدخل.

وفي يوم من أيام شهر يوليو، وتبيَّن أنها سفن حربية بريطانية. وفي تمام الساعة السابعة إلا عشر دقائق صباحًا أضاءت أنوارٌ مبهرة ظهورَ تلك السفن، وبعدها بثوانٍ قليلة ومع فرقعات عالية وانفجارات تصمُّ الآذان أُلْقِي وابل من القنابل على الحارات الملتوية والحدائق الأنيقة في مدينة الإسكندرية. وتفرَّق المشاهدون الواقفون على أرصفة الميناء، وخلت شوارع المدينة المكتظة عادة. ولكن الجيش المصري صمد في مواقعه، قذفت مدافعه — التي تعدَّت المائة والتي كانت مخبأةً في مخابئَ خدعت العدوَّ، شيَّدها قدامى محاربي الحرب الأهلية الأمريكية — سفنَ البحرية البريطانية. ومع ذلك لم تستطِع الإسكندرية بكل تحصيناتها المهيبة مقاومةَ الضرب المنظَّم من سفن البحرية الملكية المدرعة. وأُسكِتت مدفعية الشاطئ واحدة وراء الأخرى، وتفرَّق المدافعون عنها الذين بدَت عليهم المعاناة من صدمة القذائف. وبحلول الساعة الخامسة والنصف بعد الظهر كانت المعركة قد انتهت. وكان المئات من البشر — من بينهم جنود ومدنيون — قد قُتلوا، وجُرح أضعاف هذا العدد. وبدأ الاحتلال البريطاني لمصر، الذي كان مقدَّرًا له أن يستمر ٧٢ عامًا.

تراث متضارب

مع أنَّ غزو مصر كان أمرًا رهيبًا، فإنه كان فقط أحدَ الأحداث المهمة التي تمثل مرحلة واحدة في عمليةٍ استعمارية طويلة، كان من نتائجها احتلال ربع مساحة الكرة الأرضية، منها سب ة ملايين ميل مربع احتلتها بريطانيا وفرنسا وحدَهما. وكانت سيطرة أوروبا على أجزاء كبيرة من الأرض وعدد كبير من الشعوب تمثِّل للولايات المتحدة معضلةً رئيسية، خاصة في الشرق الأوسط. فإذا كان على أمريكا أثناء حرب الاستقلال اليونانية أن تختار بين حماية مصالحها الاستراتيجية مع تركيا وبين الحفاظ على مبادئها الديمقراطية، فإنه كان يتعيَّن عليها الآن أن تختار بين نوعين من العقائد: دينية ومدنية، فهل كان على الأمريكيِّين أن ينحازوا إلى جانب أوروبا المسيحية ضد الإسلام، الذي من المفترَض أنه عندهم دِين متخلِّف ومنحط؟ أم إلى جانب ضحايا نفس الاستعمار الذي كانت الولايات المتحدة قد اقتنصت منه حريتها؟ وهل كانت الولايات المتحدة، وهي الداعية إلى حرية شعوب الشرق الأوسط تستطيع التنديدَ بأوروبا صراحةً، في الوقت الذي كان الأمريكيون فيه يستقرون نهائيًّا في قارتهم ويتطلعون إلى الحصول على مناطقَ في البحر الكاريبي والمحيط الهادئ؟

بدأ الأمريكيون في طرحِ هذه الأسئلة المحيرة بدءًا من عام ١٨٢٩، عندما غزا الفرنسيون الجزائرَ. فقد رفض ديفيد بورتر، الذي كان قد اختير قنصلًا للولايات المتحدة في مدينة الجزائر، أن يخدم تحت الاحتلال الفرنسي؛ لذلك عُيِّن في إسطنبول. وأرسلت وزارة الخارجية هنري لي ليحل محلَّ بورتر. كان هنري لي حفيد الوطني الثوري ريتشارد هنري لي. وأعلن القنصل الجديد احترامه «للفرنسيِّين الذين حاربوا بجانب الأمريكيِّين تحت لواء الجنرال واشنطن»، وكان يكره القراصنة الجزائريِّين كراهيةً عميقة، وقال متذكرًا: «لا أظن أنني قد شعرت بتوهُّج وفخر ناتج عن الانتصار، أكثرَ مما كان عندما رأيت الجيوش المسيحية المنتصِرة … تسوق أفواجَ البربر أمامها».

وفي الخمسين عامًا التالية، ثار جدل كبير بين الأمريكيِّين حول احتلال أوروبا أجزاءً من الشرق الأوسط. فذكريات الزائرين الأمريكيِّين للمنطقة كانت متخمةً بآراءٍ تؤيد تفكيك الدولة العثمانية وتقسيمها بين بريطانيا وفرنسا. وكان هذا الحنين هو ما يطمح إليه بصورة خاصة كثيرٌ من المبشِّرين الأمريكيين، الذين كان العديد منهم يتمتَّع بحماية القنصليات الأوروبية، والذين كانوا ينظرون إلى القوى الاستعمارية على أنها رسل الإرادة الإلهية. فقال المبشِّر القديم جوناس كينج عام ١٨٦٥، مشيرًا إلى تزايد النفوذ البريطاني في مصر وانتهاكات فرنسا لشمال أفريقيا: «اليد التي تحرِّك العالم فقط يمكنها أن تحقِّق كلَّ ذلك.» ولكن في حين كان الأمريكيون عامةً يعبِّرون عن دعمهم لاحتلال أوروبا للشرق الأوسط، كان بعضهم الآخر يقوم بمظاهرات احتجاجية. فأعلن ريتشارد هنتون من كنساس، وهو قائد وحدة جنود مشاة أمريكيِّين سود في الحرب الأهلية، أنه «في حين يتعيَّن على الولايات المتحدة أن تقود عمليةَ تجديد وتحديث آسيا، فإنه لا يمكننا أن نتبع خطوات أبناء عمومتنا الأوروبيين، وأن نصبح معتدين عدوانيِّين مثلهم». وندَّد القس جورج بوتس «بغزوات أوروبا الدموية» للشرق باعتبارها «ذنبًا قوميًّا كبيرًا، يبرِّر … انتقامًا مؤلمًا … (من ﷲ)». وفي حديثٍ أجرَته معه جريدة «نيويورك تايمز» في نوفمبر عام ١٨٥٢، ذكَّر بوتس، وكان من المشيخيِّين، الأمريكيِّين «بواجب الأمريكيِّين بصفتهم شعبًا عادلًا … يخشى ﷲ، نحو معاملة الأمم الأخرى بصفتهم جيرانًا لهم، وألا يقلِّدوا شهوة أوروبا التوسعية».1

ازداد تناقضُ الموقف الأمريكي تجاه الاستعمار في الشرق الأوسط عمقًا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، عندما كانت المنطقة تعانى اضطراباتٍ سياسية مطوَّلة. وفي حين كان الأوروبيون يناقشون المسألةَ الشرقية، أي ما إذا كان عليهم أن يحافظوا على «رجل أوروبا المريض» كما كانوا يطلقون بازدراء على تركيا، أو تقسيمها إلى أجزاء عديدة بطريقةٍ آمنة، كانت الحركات الوطنية من قبرص وحتى البلقان تسعى إلى التحرر من الحكم العثماني. وفي محاولةٍ لوقف — أو على الأقل مراقبة — هذا الانهيار، اجتمعت القوى العظمى في برلين عام ١٨٧٨. وهناك منحت بريطانيا حقَّ السيطرة على قبرص، وضمنت روسيا استقلال صربيا وبلغاريا. وبدا وكأن الوضع الدولي آخذٌ في الاستقرار، ولكنه كان استقرارًا مؤقتًا فقط. فسرعان ما بدأت ألمانيا في إرسال مستشارين حربيِّين لإسطنبول، في حين ادعت إيطاليا أن لها حقًّا في ليبيا. وانهارت اتفاقية برلين بعد ثلاث سنوات فقط، أي في أبريل عام ١٨٨١، عندما عبرت القوات الفرنسية من الجزائر إلى تونس، واستولت على مدينة تونس، ووضعت البلاد بأكملها تحت الوصاية الفرنسية الدائمة.

وقال الدكتور جورج واشنطن فيش، القنصلُ الأمريكي في تونس، متنهدًا: «يبدو وكأن الفرنسيِّين سيستقرون هنا.» كان فيش وهو جرَّاح سابق في جيش الاتحاد، في الخامسة والستين من عمره. وبعد وفاة زوجته وطفليه بمرض التيفود انتهج الدبلوماسية مهنةً. وكان يمكن لهذه الأحداث أن تجعل منه رجلًا متحجِّر المشاعر، ولكن رؤية القوات الفرنسية وهي تعذِّب أهل تونس المسالمين كانت تخيفه وتستفزه، فقال معترضًا: «أقولها بكل صراحة ووضوح … الفرنسيون … يستغلون الحكومةَ التونسية لمصالحهم الخاصة.» ولكن على عكس فيش، كانت الصحافة الأمريكية تكاد تنفجر فرحًا بالهجوم الفرنسي، فقالت صحف نيويورك: «كلما خضع بلدٌ حكامُه سيئون لسيطرة الأوروبيين، تأكَّد أن الحضارة هي التي ستفوز.» أما مجلة «هاربرز»، فمدحت «الحملة السريعة الرائعة التي أثارت الخيال وأحيت ذكريات فترات مجيدة من الماضي البعيد».2

وإذا كان الأمريكيون قد انقسموا في ردود أفعالهم تجاه الاحتلال الفرنسي للجزائر وتونس، فإنهم كانوا أكثرَ اتحادًا في حكمهم على احتلال بريطانيا لمصر. فعلى عكس شمال أفريقيا، لم تكن مصر قد شنَّت قط حربًا على الولايات المتحدة؛ لذلك ظلَّت العلاقات بين البلدين ممتازة، في حين كانت بريطانيا قد حاربت الولايات المتحدة مرتين. ومن ناحيةٍ أخرى، كانت الولايات المتحدة تنظر إلى مصر دائمًا باعتبارها ضمن دائرة نفوذها، وظهر ذلك عن طريق اهتمامها بإنشاء مؤسسات تعليمية وثقافية فيها، مع عدم اهتمامها بقناة السويس على الإطلاق. وتبعًا لعدم الاهتمام ذلك كان الرؤساء الأمريكيون من جرانت إلى جارفيلد يرفضون طلبَ مصر بمساعدتها ضد المطامع البريطانية. وأعلن مساعد وزير الخارجية ويليام هنتر في عام ١٨٧٩ أنه «سيكون من جنون حكومتنا أن تتدخَّل في مسألة الديون المصرية»، وأضاف: «لا يوجد رجل في أمريكا يهتم بتخليص مصر من محنتها.»

وأثار قذف الإسكندرية بالقنابل تياراتٍ من المواقف الأمريكية المتناقضة، القائمة على التعاطف مرة والاشمئزاز من المستعمرين مرةً أخرى. ومدح القس فيليب شاف من نيويورك الهجوم البريطاني باعتباره «انتصار الصليب على الهلال»، ولكن جريدة «لوس أنجلوس تايمز» ندَّدت به باعتباره «تصرفًا بربريًّا مخزيًا». وتنبأ يوليسيس جرانت بأن بريطانيا ستحرِّر مصر في يوم من الأيام، كما حرَّر الاتحاد الأمريكي الزنوج، ولكنَّ الجنرال آدم بادو، المساعدَ الحربي للرئيس جرانت، شجَب أيضًا الغزو «انتقادًا للأمة الإنجليزية وغضبًا على حضارة هذا العصر». وتجلَّى عمق هذا التناقض في جريدة «نيويورك تايمز» التي مدحت هزيمةَ «العرب المتعصبين … الذين قد يتبعون خليفةً جديدًا في حرب مقدَّسة»، لكنها أيضًا ندَّدت «بالخزي المستمر» لإنجلترا، التي تحارب مرةً أخرى «من أجل ضرائب دون تمثيل دبلوماسي».3

وأجبر هجوم بريطانيا على مصر الولايات المتحدة مرةً أخرى على الاختيار بين ولائها للحضارة الغربية من ناحية، والتراث الأمريكي المناهض للاستعمار من ناحية أخرى. فهل كان الأمريكيون على استعداد للوقوف بجانب مبادئهم المناهضة للاستعمار على حساب مصالحهم التوسُّعية العالمية؟ كان معظم الأمريكيِّين يفكِّرون في هذه المعضلات الأخلاقية، وهم يتابعون الأحداثَ في مصر التي تبعُد عنهم آلاف الأميال. وكان آخرون شهودًا على الغزو البريطاني، ولم يكن بإمكانهم التفكيرُ في هذا الأمر. فبالنسبة إليهم كان هذا التناقض ترفًا بعيدَ المنال.

جني ثمار الزوبعة التي تمرُّ على مصر

عندما نشِبت الأزمة في مصر كان تشارلز شاييه لونج، الضابط الأمريكي المتأنق الذي حاول الاشتهار عن طريق استكشاف أفريقيا، قد فرغ لتوه من دراسة القانون، وعُيِّن في منصب دبلوماسي بالإسكندرية. وبناءً على طلب وزارة الخارجية، انضم إلى أربعة زوارق حربية، ملحقة بالأسطول البريطاني المتجه إلى مصر. وكانت مهمته هي إجلاء الجالية الأمريكية الصغيرة في الإسكندرية، في حالة نشوب أعمال عنف على نطاق واسع في المدينة. ومع أن السفن الحربية الأمريكية لم تكن مشارِكة في الهجوم، فإن مجرد وجودها في المياه الإقليمية المصرية في شهر يوليو من ذلك العام، وهي تتبادل التحيةَ مع المدمِّرات البريطانية، كان إشارةً على مدى اقتناع واشنطن بأن خضوع مصر أمرٌ لا مفر منه.

ومن على جسر السفينة الأمريكية «جالينا» راقبَ شاييه لونج التبادلَ العنيف للنيران بين البريطانيِّين والمصريِّين. ولكن سرعان ما انتهى هذا المشهد الملحمي باندلاع النيران في المدينة، وهو ما دفع الآلاف من سكانها نحو البحر. واستغلالًا لهزيمة الجيش المصري، كان مثيرو الشَّغب قد هاجموا أكثرَ أحياء الإسكندرية أناقةً، مدمِّرين ومضرمين النار في المنازل وقاتلين أيَّ شخص يعتبرونه أجنبيًّا، سواء كان فرنسيًّا أو إيطاليًّا، مسيحيًّا أرثوذكسيًّا أو يهوديًّا. ووقف القادة البريطانيون بلا حول ولا قوة غير قادرين على وقف أعمال العنف تلك. فقد كانت لديهم أوامر بضرب المدينة فقط، وليس احتلالها. ولكن شاييه لونج لم يستطِع الوقوفَ متفرجًا فقط. فجمع قوةً قوامها ١٦٠ متطوعًا وبحَّارًا وضابطًا بحريًّا ومعهم بنادقهم ومسدساتهم، في محاولةٍ لحماية القنصلية الأمريكية وإنقاذ أكبر عدد ممكن من الناجين.

كانت أولى القوات وصولًا إلى الشاطئ في حركة الإغارة البريطانية هي القوة الأمريكية، وكان المشهد الذي قابلها مروِّعًا. ويحكي شاييه لونج: «كان في البحر عدد كبير من الجثث البشعة المنظر لرجال ونساء وأطفال منتفخة ومليئة بالهواء.» وقد لاحظ أن معظم الضحايا كانوا من «يهود الشام» الذين ذُبحوا أثناء فرارهم من منازلهم المحترقة، ولكن من بين الوفيات التي قُدرت بأربعمائة، كان هناك أيضًا عددٌ من المسيحيِّين اليونانيِّين والأرمن. «وكان يجري اختطاف الرجال والنساء والأطفال، وتوثيقهم بالحبال، ثم سحلهم عبر الشوارع. وبعد تعذيب رهيب وتمثيل بهم كانوا يُقتلون، وتُعرض لحومهم للبيع في مزاد هزلي ساخر.»

واندفع الأمريكيون إلى جحيم النيران. وتمكَّنوا من إطفاء بعض الحرائق الخطيرة، ومن تطويق مبنى القنصلية وتحويله إلى مستشفًى ومخبأ مؤقت. ثم قاموا بدوريات حراسة في المدينة، مما أعاد إليها بعضَ النظام، حتى بدأت طلائع القوات البريطانية أخيرًا في الهبوط بعدها بأربعة أيام. وفي أثناء تلك الفترة، كان ثلاثمائة من اللاجئين قد أرسلوا إلى السفن المنتظرة. وشهد قبطان إحدى السفن الأمريكية واسمُها كوينبوج قائلًا: «حبستُهم جميعًا في مؤخرة السفينة؛ الفرنسيِّين والإيطاليِّين واليونانيِّين والأتراكَ والسوريِّين. وكان بينهم ثلاثة من الأمريكيِّين؛ اثنان من المبشِّرين وأحد القضاة.»

من أجل هذه العملية الجريئة، تلقَّت الولايات المتحدة الشكرَ من عدد من الدول الأوروبية. وأظهرت بريطانيا على وجه الخصوص تقديرها «للبحَّارة والضباط البحريِّين الذين أسهموا … في الحفاظ على الأرواح والممتلكات بالإسكندرية … عندما سقطت في أيدي العصابات ومشعلي الحرائق». ولكن لم تؤيد أي حكومة من تلك الحكومات اقتراحَ شاييه لونج بإعادة تسمية حي القنصليات الذي أُعيد بناؤه من «حي القنصليات» إلى «حي الولايات المتحدة». ولم تؤيد أيٌّ منها اقتراحَه بإقامة لوحة تذكارية «تخليدًا لذكرى الأمريكيِّين … الذين أنقذوا حياةَ العديد من المسيحيِّين وأنقذوا مدينة الإسكندرية». ومع أن مكتشِف بحيرة كايوجا والمنابع الأوغندية للنيل عبَّر عن رغبته في الاستمرار بالعمل في القنصلية الأمريكية بالإسكندرية، فإنه نُقل إلى كوريا. وكما شرح أحد الضباط البحريِّين الذين صادقوا شاييه لونج، فإنه يبدو أن طلبَه بالبقاء في مصر قد ضاع في خضم أوراقِ تزايدِ المصالح الدولية لأمريكا. وقال: «نحن نسيطر على نصف العالم، ورغمًا عنا نجد أنفسنا متورِّطين في المصالح الاستعمارية للنصف الآخر.»4

ومهما كانت خيبةُ أمل شاييه لونج بسبب ردود الفعل الفاترة لدوره في الغزو البريطاني، فإنه لم يعبِّر عن أي تحفُّظات على الهجوم ذاته. وقد شعر أن الخديوي كان حاكمًا فاسدًا غير فعَّال، وأن الوطنيِّين المصريِّين ما هم إلا مجموعة من المتعصبين الرِّعاع. ولم يشاركه في هذه الأحكام كلُّ الأمريكيِّين المقيمين في مصر. وتبنَّى رجلان على الأخص، وكلاهما دبلوماسي، موقفًا معاكسًا للغاية.

كان إلبرت إيلي فارمان، القنصل الأمريكي بالإسكندرية، الذي كان قد حصل على «إبرة كليوباترا» لنيويورك ببراعة شديدة، غاضبًا للغاية بسبب الأحكام الظالمة التي رآها تُمارس ضد مصر. وقد أعدَّ فارمان قائمة بأسماء عدد من منفِّذي هذه الجرائم، من بينهم «العبقري الشرير فرديناند دي ليسيبس والمصرفيِّين اليهود أشباه شايلوك» (شخصية المرابي اليهودي في مسرحية «تاجر البندقية» لشكسبير)، الذين أغرقوا البلاد في الديون. ولكنَّ أعظم استياءاته كانت ضد «القوى الأوروبية العدوانية» التي بدا أنها مصرة على «إلحاق أكبر الضرر بالبلاد الضعيفة والصغيرة». ومنذ عام ١٨٧٩ تنبأ فورمان بأن بريطانيا وفرنسا سرعان ما ستشعلان الاضطرابات الداخلية في مصر، مختلقتين مبرِّرات للغزو. وفيما بعدُ ادَّعى أن اضطرابات عام ١٨٨٢ كانت «بتحريضٍ من أحد الرعايا البريطانيِّين».

وعلى قدرِ استيائه من بريطانيا العظمى، عبَّر فارمان عن تقديره غير المحدود لأحمد عرابي. كان فارمان بذلك ممثلًا لعدد متنامٍ من الدبلوماسيِّين الأمريكيِّين المتعاطفين مع الوطنية المصرية الذين يمقتون الاستعمارَ البريطاني. وكان من المؤمنين بالصورة الرومانسية للعربي المحب للحرية، وهي الفكرة المفضَّلة بين الرحَّالة الأمريكيِّين، بدءًا بجون ليديارد وحتى مارك توين. فمن وجهة نظر فارمان كان عرابي — ويعني اسمه ساكن الصحراء — بطلًا كبيرًا، فقال: «لم يكن هناك وطني أكثرُ شعبية … ولم يكن هناك وطني بعيدًا تمامًا عن أي دوافع أو طموح شخصي مثله. فقد كان مثلًا وقدوة لشعبه.»

لم يكن فارمان وحدَه المعجب بعرابي. كان من المعجبين به أيضًا سيمون وولف، القنصل الأمريكي في القاهرة. كان أحدَث مثال للتقليد المؤكِّد على إسناد المناصب الدبلوماسية في الشرق الأوسط للأمريكيِّين اليهود وولف الذي وُلد في بافاريا، وهو كاتب سيرة موردخاي نوح، بالإضافة إلى عمله محاميًا في واشنطن الذي جعله وثيقَ الصلة بكلٍّ من الرئيسين لنكولن وجرانت. وقد عُيِّن في البيت الأبيض قبل اغتيال الرئيس جيمس جارفيلد بيوم واحد، وكان الذي اغتيال هو أيضًا محاميًا غاضبًا بسبب فشله في الحصول على منصب قنصلي؛ وقد وصل وولف إلى مصر في ٩ سبتمبر عام ١٨٨١، وهو اليوم الذي ثار فيه عرابي.5

كان قادمًا جديدًا إلى البلاد ويعاني مرضًا في مَعِدته آلمه وعذَّبه طوال فترة إقامته وعمله في مصر، وقد قرَّر وولف «أن يأخذ جانب الحيطة والحذر في تعاملاته وأن يتحسَّس طريقه على مهل وبتؤدة». واستشعر أن الأوروبيِّين سينتهزون أيَّ فرصة وأقلَّ استفزاز لاحتلال مصر، وأنهم أثناء ذلك سيقومون بإشعال شرارة مذبحة للأجانب المقيمين فيها. وقد أخبر وزارة الخارجية أنه «هنا على رقعة الشطرنج المحدودة هذه تُمارس لعبة الدبلوماسية الأوروبية»، مؤكدًا أنه من واجب أمريكا أن تحمي مواطنيها المقيمين في مصر، وأن تسعى إلى تجنُّب وقوع كارثة. وقد وضع وولف هذه الأهداف نصبَ عينيه، فطلب وجود ثلاث سفن حربية أمريكية قبالة الساحل المصري، وسعى إلى عقد اتصالات مع عرابي.

عُقد الاجتماع يوم ١١ نوفمبر في منزل الجنرال تشارلز ستون، الذي أصبح المستشار الوحيد المتبقي في مصر. كان وولف ذا بنية متينة ورأس حليق وأنف بارز وشارب مرتفع لأعلى. وقد لاحظ أن هناك شبهًا بينه وبين عرابي، ولكن التشابه لم يكن جسديًّا أو ظاهريًّا فقط. فقد كان وولف يشارك عرابي إيمانَه بأن المصريِّين هم «أصحاب الأرض» وأنهم يستحقون التحرُّر من الظلم والطغيان. وبعد تأكيده له أن الولايات المتحدة «ليست متورطة بأي صورة في سياسة الهلال الخصيب أو أوروبا» وأنه يتحدَّث إليه «كأخٍ في الإنسانية … وفرد من بلد حر … قاسى شعبه بدوره الطغيان وذاق مرارة الاستبداد»، حثَّ وولف عرابي على أن يُظهِر بعضَ المرونة وأن يحذر «حصان طروادة المتمثِّل في النفوذ الفرنسي والإنجليزي». ثم ألقى القنصل خطابًا كان مميزًا للغاية، حتى بمعايير القرن التاسع عشر، قال فيه: «باعتباري يهوديًّا من بني إسرائيل، وأخًا للفرع العربي في الأسرة الإنسانية، فإنني أقدِّر تمامًا كلَّ ما يصبو إليه المصريون. وأشعر بكثير من الامتنان للمسلمين لاستضافتهم وحمايتهم لنا وللحرية التي تمتَّع بها إخواني سنواتٍ عديدة في الدول الإسلامية.»

تأثَّر عرابي بهذا الاعتراف، ووعد بتطبيق «الإدارة والحكمة» وأكبر قدرٍ من ضبط النفس. وسعِد وولف بذلك أيَّما سعادة. فقال: «يندُر أن تجد مصريًّا لا يعرف … أن الولايات المتحدة صديقةٌ لهم، وأننا لسنا هنا لننهب ونستعبِد، ولكن لنساعد ونشجِّع.»6 ولكن بحلول نهاية فصل الربيع، كان التفاؤل الذي راود القنصل في الخريف يبدو بلا أساس. فمهما كان مدى ضبط النفس الذي أظهره عرابي، فإنه لم يكن كافيًا لوقف تدهور السياسة الداخلية في مصر، ولا لمنع تبرير البريطانيِّين لغزوهم لها. وفي المعركة التالية، أُجليَ الرعايا الأمريكيِّون من المدينة، باستثناء عائلة واحدة، هي عائلة الجنرال ستون.

كان تشارلز ستون آنذاك في الثامنة والخمسين من عمره، وفي بزته الرسمية الفضية ذات الضفائر الذهبية على نمط فاندايك، وأوسمته اللامعة، كان يمثِّل صورةَ رجل الدولة العجوز من ناحية، ونفوذًا قويًّا غير رسمي من ناحية أخرى. ولكن وراء هذه الواجهة الرائعة كانت ترقد شخصية بسيطة في غاية الولاء للقضايا التي كان يؤمن بها. وفي مصر كان ستون قد رأى ضباطه يُطعن في سيرتهم وتُشوَّه سمعتُهم ويُطْرَدون، ورأى محبوبه الخديوي إسماعيل منفيًّا. ومع ذلك فقد ظل وفيًّا لخليفة إسماعيل، ووقف إلى جانبه عندما هدَّد ثوارُ عرابي بإحراق قصر الخديوي والسفن الحربية البريطانية القريبة من السواحل المصرية.

كان للجنرال ستون تحالفٌ آخر لا يهتز. فقد ترمَّل في الحرب الأهلية، وتزوج مرة أخرى من سيدة من لويزيانا اسمُها جيني، وأنجبا أربعة أطفال. وقد فرَّق نشوب الأزمة بين أفراد تلك العائلة، مخلفًا ستون وابنه جون ابن الثلاثة عشر عامًا في الإسكندرية، بعيدًا عن جيني والبنات المراهقات الثلاث في القاهرة. وفجأةً كان على الجنرال اختيار أحد أمرين إما التخلي عن الخديوي توفيق من أجل العودة إلى عائلته أو البقاء مع الخديوي وترْك نساء العائلة يدافعن عن أنفسهن. وقد اختار البقاءَ على أمل أن ينجح في إقناع البريطانيِّين بعدم الغزو، أو إذا فشل في ذلك، فقد ينجح في إقناعهم بعدم إطلاق النار قبل إجلاء الأجانب المقيمين بالمدينة الذين يبلغ عددهم ٨٠٠٠ شخص.

بعد اطمئنانه على ابنه في أعقابِ نقله للأمان داخل السفن الحربية الأمريكية، قضى ستون يوم العاشر من يوليو في التوسُّل إلى الموظفين البريطانيِّين في مصر للتوسط لدى البحرية البريطانية الواقفة بعيدًا عن الشاطئ. فوجدهم «يتناولون عشاءهم في هدوء في المدينة التي كانوا على وشْك ضربِها بالقنابل، ويناقشون وهم يضحكون التأثيرَ المحتمَل لضرب الإسكندرية بالأسلحة الثقيلة». وعلِم ستون أن معظم البريطانيِّين قد تركوا المدينة، وأن ضرْبَ المدينة كان مقررًا له أن يبدأ خلال ٢٤ ساعة؛ وبذلك لم يكن من الممكن إجلاءُ كل الأجانب من القاهرة، التي تبعُد عن الإسكندرية ١٢٠ ميلًا. واجه ستون معضلةً صعبة؛ فإما أن يحذِّر زوجته بشأن المعركة الوشيكة، ويجازف بذلك بفرار جماعي من الأجانب، أو أن يبقى صامتًا ويدعو ويصلي من أجل عدم حدوث كارثة. وقال: «شعرت بأنه إذا تصارعت أربع سيدات في محطة للقطار من أجل الحصول على مقعد، في وسط مجموعة من الأوروبيِّين الخائفين، فإن فرصتهن في البقاء ستكون شبه معدومة.» ولم يرسل البرقية قط.

وبدلًا من ذلك، سارع بزيارة الثكنات والمستشفيات، والعناية بالمصابين وحثِّ الشرطة على فعل أي شيء ضد مثيري الشغب. وسادت الفوضى في كل مكان، «فكانت جماعات من النساء من كل طبقات المجتمع يجرين في كل اتجاه، وكانت الغالبية العظمى منهن … تحمل طفلًا صغيرًا وتقود أطفالًا آخرين، وفوق كل هذا كن يصطحبن رجالًا مسنِّين … يسيرون بشقِّ الأنفس». وعندما لم يكن مشغولًا بالعمل في المساعدات الإنسانية، كان ستون مستمرًّا في خدمة الخديوي، ومطلعًا على الوضع العسكري عن طريق تقارير تُهرَّب إلى القصر في صناديقِ ذخيرة أو ملفوفة في خِزانات البنادق. وخلال كل ذلك كان يفكر في نساء عائلته والمصاعب والمشقة التي لا بد أنهن يكابدنها.

وكان بالفعل محقًّا في قلقه عليهن. فبدلًا من الانضمام إلى النازحين من القاهرة، حبست نساء آل ستون أنفسَهن في المنزل ومعهن أسلحة ومؤن تكفي ثلاثة أشهر. وفي الخارج في الشوارع كانت النساء المصريات يزغردن ويرمين المنزلَ بالحجارة، في حين كان الأطفال يصرخون: «الموت للمسيحيِّين». وحتى الخدَم الذين كانوا معهن منذ زمن طويل كانوا يلعنون الأمريكيِّين. وباستثناء مصادفة جعلت ضابطًا يتمكن من الدخول عبر الحصار المفروض على المنزل، لم يكن للعائلة أيُّ اتصال بالعالم الخارجي ولم تصلهن كلمة واحدة من الجنرال ستون. كانت جيني ستون في الثالثة والأربعين من عمرها، مليئة بالحيوية، ولم تفزعها تلك الأجواء. وأعلنت: «لم يُخلَق بعدُ العربي الذي يخيفني.» وجمعت بناتها في المطبخ، وحثَّتهن على «الشجاعة وأن يواجهن الموتَ كالجنود الشجعان» وأن يحمين شرفهن بأي ثَمن. وقالت: «أتوقَّع منكن أن تحمين أنفسكن، حتى لو تطلب الأمر إطلاقَ رصاصة في قلوبكن. ولا تضطرِرْنَني إلى القيام بذلك بنفسي.»

وبعد أكثر من أسبوعين من الحبس، قرَّرت جيني أن الطريق الوحيد لحماية بناتها هو قيادتهن للخارج بنفسها. وأُصيبَ الضباط الذين سمعوا بالخطة بالذهول، واقتنعوا تمامًا بأن النساء الأربع سيُقتلن لا محالة. وذهبت تحذيراتهم هباءً. وتذكَّرت أصغر بناتها، فاني، رحلةَ العائلة بعربة الجياد وسط قلب القاهرة، قائلة: «خلقنا ضجةً وإثارة لأول مرة في حياتنا. فقد كان يبدو أن كل رجل وامرأة وطفل مندهش تمامًا لرؤية أربع سيدات مسيحيات يقدن عربتَهن بجرأة عبر شوارع القاهرة.» وفي ٨ من أغسطس وصلت سيدات آل ستون إلى بورسعيد، متعبات ومُغبَّرات، لكنهن ما زلن يتحلين بالشجاعة التامة، وهناك كان بانتظارهن الأب المتوتر المتشوق، وذراعاه مفتوحتان لاستقبالهن. وعلى متن السفينة الأمريكية «كوينبوج» احتضنهن.7

في نفس ذلك الشهر وصلت قوة بريطانية قوامها ٢٠٠٠٠ جندي تحت قيادة الجنرال جارنت ولسلي إلى الإسكندرية، تحمل أوامرَ بالقضاء على ثورة عرابي. ووقعت المعركة الحاسمة يوم ١٣ من سبتمبر عند منطقة التل الكبير؛ حيث قضى البريطانيون تقريبًا على الجيش المصري في نحو أربعين دقيقة. وأُسِر عرابي وحُكم عليه أولًا بالإعدام بتهمة التحريض على الثورة، ولكن نُفي بعدها إلى سيلان. وتلقَّى ولسلي الشكر من البرلمان وتكريمًا من الملكة، وكرَّمه الخديوي توفيق بنوط العثمانلية، وكان أعلى وسامٍ مصري حينها.

وعلى العكس من ذلك كان إلبرت فارمان، منهارًا. وكتب: «كانت معركة التل الكبير أقربَ إلى المذبحة، منها إلى المعركة.» ومنحه الخديوي أيضًا وسامًا تقديرًا لخدماته لمصر، لكنه لم يستطِع احتمالَ رؤية قوات ولسلي وهي تخترق القاهرة. فحالما استكمل مسئولياته في المساعدة على تقييم الخسائر التي حاقت بالجاليات الأجنبية بمصر، عاد فارمان إلى مكتب المحاماة الخاص به في وارسو بنيويورك، وأصبح ناشطًا في مجال القضايا المدنية. غادر شاييه لونج أيضًا مصرَ وهو مملوء بالمرارة. ففي نظره كان عرابي «عسكريًّا سيئًا للغاية، ورسولًا فقيرًا للغاية». أما شعار «مصر للمصريين» فلم يكن في نظره سوى «خديعة وفخ». وغادر القاهرة أيضًا سيمون وولف، وتابع حياته محاميًا ورجلًا خيِّرًا في واشنطن، واستمر في صداقته للرئيسين ماكيلني وويلسون. وقد اشمأز وولف مما عدَّه غدْرَ البريطانيِّين بعرابي، وتنبأ بأن الشعب المصري سيثور يومًا ما ويطرد الطغاة الأوروبيِّين. وقال: «فاض الكيل، ومَن يزرع الهواء لا بد أن يحصد العواصف.»8

ومن آخر الأمريكيِّين المغادرين مصرَ كان الجنرال المهيب ستون. فمع تقليده وسام نجمة مصر تقديرًا لخدماته أثناء ثورة عرابي، فإنه شعر أن «مصر أصبحت مقاطعة بريطانية وأن أيَّ أملٍ في تكوين دولة مستقلة قد انطفأ». واستمر على قناعته أن البريطانيِّين هم المسئولون عن التحريض على مذبحة الأجانب بالإسكندرية، والاستهزاء بقوة عرابي قائدًا. وفي ديسمبر عام ١٨٨٣ أخذ ستون عائلته وما بقي من مكتبته وأوراقه — التي كان البريطانيون قد نهبوها — وعاد إلى منزله في لونج أيلاند. وتابع عمله السابق مهندسًا مدنيًّا، وسرعان ما بدأ في تحقيق أهم إنجازاته، وهو إقامة رمز خالد للأمريكيِّين ومنارةً لشعوب الشرق الأوسط.

تنوير العالم

كان المشروع من بنات أفكار رجلٍ كان ستون قد قابله في مصر، وهو نحَّات من مقاطعة الألزاس الفرنسية يصغُره بعشر سنوات، اسمه فريدريك أوجيست بارتولدي. ونشأت الفكرة في رأسه في أثناء رحلة إلى الأقصر، بسبب إعجابه الشديد بالآثار القديمة للمنطقة، التي أسماها الفنان المنبهر «كائنات جرانيتية ذات شموخ ثابت»، ولاحظ كيف تبدو عيونها «مثبتة على مستقبلٍ لا حدودَ له». في تلك اللحظة قرَّر بارتولدي الوسيم ذو الشعر الداكن أن يقلِّد هذه العظمة وهذا الجَمال، وأن يضمن من ذلك خلودَ اسمه أيضًا. وجاءه الإلهام مرة أخرى في الحفل الفخم لافتتاح قناة السويس. فقد قرَّر نحتَ تمثال يشبه فلاحة مصرية تحمل شعلةً للحرية لأعلى. كان هذا التمثال، الذي كان ارتفاعه ضِعف ارتفاع تمثال أبي الهول، سيحرس المدخل البحري لأمريكا، وربما يكون فنارةً أيضًا. وسيكون اسمه «مصر تجلِب النور لآسيا».

قضى بارتولدي عامين في رسم مسوَّدات وتكوين نماذج من الفخار لفكرته، وأيضًا في محاولة إقناع الخديوي إسماعيل بتمويلِ إقامة التمثال. ولكن بحلول عام ١٨٧١ كان إسماعيل قد أشهر إفلاسه وأصبح غير قادر على سداد ديونه، أو تمويل التمثال. وحزينًا سعى بارتولدي إلى مواساةِ نفسه عن طريق رحلة بحرية إلى الولايات المتحدة. وحين كان يبحر داخلًا إلى ميناء نيويورك، مرَّ بجزيرة بيدلو الشبيهة بالبيضة. وفجأةً لم يَرَ أمامه الموقع الجديد لتمثاله فحسب، بل رأى أيضًا معنًى جديدًا له. وأثمرت سنوات طويلة من المفاوضات عن اتفاق، يقوم الأمريكيون بموجبه بسداد تكلفة قاعدة التمثال وتسدد فرنسا تكلفة التمثال ذاته، الذي كان سيقوم ببنائه جوستاف إيفل. وتبقى فقط العثور على كبير مهندسين أمريكي لهذا المشروع. وهنا تذكَّر بارتولدي، ستون.

كان الجنرال الذي سُجن في جزيرة بيدلو في أوائل الحرب الأهلية يعرف المنطقة جيدًا. وحصل على مساعدة جيمس مورجان وصامويل لوكيت، وقد خدم كلاهما في مصر في السابق. فبدأ بإقامة قاعدة طولها ٨٩ قدمًا، وجمع ٣٥٠ قطعة من نحاس برج إيفل. ومع أن ميعاد التسليم الأصلي تزامن مع مئوية استقلال أمريكا، فإن التسليم الفعلي لم يتم إلا بعد ذلك بعَقد كامل، أي في أكتوبر عام ١٨٨٦، قبل عام واحد من وفاة ستون.

آلاف المشاهدين الذين استمعوا إلى الرئيس جروفر كليفلاند وهو يناشدهم «ألا ينسوا أن الحرية جعلت منزلها هنا» رأوا تكوينًا لا يشبه ما تخيَّله بارتولدي في مصر. فقد استُعيض عن الفلاحة المصرية بامرأة غربية الملامح. وتغيَّر اسم القطعة من «جلب النور إلى آسيا» إلى «الحرية تنير العالم». وبقيت الشعلة فقط، لم تنطفئ.

وفي الأربعين عامًا التالية، منحت «ليدي ليبرتي ملايين المهاجرين أولَ لمحة لهم عن أمريكا، مُحيِيةً الأملَ في صدورهم من أجل حياة أفضل ومشيرة لهم باحتمالات الحرية. ولكن بالنسبة إلى المصريين، كما كان الأمر بالنسبة إلى عديد من شعوب الشرق الأوسط التي قُدر لها أن ترزح تحت نيران الحكم الأجنبي خلال تلك الفترة، لم تكن هناك أي رموز شهيرة من هذا النوع. فعلى عكس الأمريكيِّين، لم تكن لديهم أيُّ فرص للتقدُّم أو الاستقلال. لذلك تساءل أمين الريحاني، الشاعر العربي الأمريكي، الذي لعب دورًا حيويًّا في علاقات بلاده بالشرق الأوسط: «متى ستتوجَّهين جهةَ الشرق، أيتها الحرية؟ ألن يرى المستقبل أبدًا تمثالًا للحرية قُرب الأهرامات؟»9

•••

ربما كان رفع الستار عن تمثال الحرية ورسالته عن الاستقلال العالمي بمنزلة نهاية معضلة أمريكا حول الاستعمار. ومع ذلك فقد كان هذا الحدَث نفسه هو بداية هوس بإقامة المستعمرات وتكوين إمبراطورية أمريكية تمتد إلى كوبا وبورتوريكو وهاواي والفلبين. وخروجًا على تقاليدهم الراسخة بتمييز أنفسهم عن أوروبا، خاصة في مجال السياسة الخارجية، أصبح الكثير من الأمريكيِّين يؤمنون ويتبعون فلسفة أوروبية واسعة الانتشار هي فلسفة «الاشتراكية الداروينية»، التي أكَّدت تفوُّق الجنس القوقازي على كل الأجناس الأخرى. وتحت مظلة هذه الفلسفة تحمَّل البريطانيون «مسئوليةَ الرجل الأبيض»، والفرنسيون «رسالتهم الحضارية» في أفريقيا وآسيا، في حين أكَّد الأمريكيون أنَّ قدرَهم هو أن يغزوا ليس فقط قارتهم، بل أيضًا أجزاءً بعيدة من العالم.

وكان من الواضح أن الشرق الأوسط لم يكن جزءًا من هذا القدْر. فالولايات المتحدة لم تكن بها حاجة إلى غزو بلد من أجل الحصول على مكانة كقوة عالمية في المنطقة، لأنها كانت قد حصلت على تلك المكانة من دون سفك للدماء، عن طريق مؤسساتها التعليمية والطبية. وحتى إذا كانوا قد أرادوا ذلك، فإن الأمريكيِّين كانوا سيجدون صعوبةً كبيرة في الحصول على مستعمرات في منطقةٍ كان الأوروبيون يسيطرون عليها فعليًّا. ولكن في حين لم يكن للولايات المتحدة أيُّ طموحات استعمارية في الشرق الأوسط، فإن تجربتها هناك قدَّمت نموذجًا ممتازًا لتوسيع رقعة الهيمنة الأمريكية عبْر البحار. وكما قال المؤرخ جيمس فيلد فإن «المجتمعات المسلمة في شمال أفريقيا والشرق الأدنى قدَّمت المدرسة التي مورس عن طريقها المنهج الأمريكي تجاه العالم غير الغربي». وبتشجيع العمل التبشيري وتسهيل السياحة ووضع أساطيل دائمة لحماية تجارتها، وضعت أمريكا أسسَ إمبراطورياتها في البحر الكاريبي والشرق الأقصى.

ومع ذلك فإن كلَّ الأمريكيِّين لم يساندوا مشاركةَ بلادهم في السباق الاستعماري. فقد رفضت شخصياتٌ شهيرة مثل رجل الصناعة أندرو كارنيجي والفيلسوف ويليام جيمس نظريةَ الاشتراكية الداروينية وندَّدت بغزو الشعوب والدول الأجنبية. وأسَّسا معًا اتحادًا ضد الاستعمار، وحصلا على مساندة ألد أعداء الاستعمار، وهو مارك توين، ودعمه. ومع أنه اعتبر نفسه في إحدى المرات «استعماريًّا قحًّا يريد للنسر الأمريكي أن يصرخ في المحيط الهادئ» فإنه أُصيب بخيبةِ أمل بسبب قمع القوات الأمريكية العنيف للثوار الفلبينيِّين عام ١٨٩٩. وقد شعر أن الولايات المتحدة حادَت عن هدفها الأصلي في العالم، وهو تقديم الحريات بدلًا من قمعِها. وانتهى توين إلى أنه «مُعارض للاستعمار، وأعارض أيضًا أن يضع النسر الأمريكي مخالبَه على أي بلد آخر».10

ولكن وجهة نظر توين لاقت قبولًا لدى قلةٍ من الأمريكيِّين فقط. أما القطاع الأكبر منهم فأيَّد الخطط الاستعمارية وانضم إلى هوس «الجنجوإيزم»، وهي لفظة تعني «عسكرة الشئون الخارجية» وهو مصطلح أخذ يتردَّد في صراع بريطانيا مع العثمانيِّين. وكان الأمريكيون عمومًا ينظرون إلى الاستعمار باعتباره قوةً تؤدي إلى تغيير إيجابي في الشرق الأوسط، وإلى فرص محسَّنة لأنفسهم. وكانت الخطة تقضي بأن يرفع الأوروبيون النقابَ عن المنطقة، ويفتحوها أمام المشروعات الأمريكية النشطة؛ تجاريًّا وثقافيًّا وفوق كل ذلك، دينيًّا.

وكان أكبر قطاع مؤيد للاستعمار ضمن قطاعات المجتمع الأمريكي هو ما يمكن أن يُطلَق عليه اليوم «الذين يقودهم إيمانهم». فعند هؤلاء كانت السيطرة التنويرية الأوروبية على الشرق الأوسط تعني عددًا أكبرَ من المدارس وإرساليات التبشير وفرصةً لتحرير الشعوب من الحكم الإسلامي. ولم يحلُم بتلك الآمال عددٌ كبير من المسيحيِّين فقط، بل أيضًا ولأول مرة، عدد متزايد من اليهود الأمريكيِّين. فقد لاحظوا أن تمثال الحرية يتوجَّه بالفعل نحو الشرق، وعلى الأقل في خيالهم، يتوجَّه بصورة خاصة نحو فلسطين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤