الفصل الرابع عشر

تقوى الإمبراطورية

أصبح تمثال الحرية رمزًا مميزًا للأمريكيِّين، تمامًا مثل النص المدوَّن على قاعدته: «أعطوني المتعبين والفقراء، والحشود التي تتوق للتنفُّس في حرية». هذه هي الكلمات المنتقاة من البيت الثاني من قصيدة «التمثال العملاق الجديد» التي كتبتها إيما لازاروس، وهي شاعرة يهودية من نيويورك، ومع كونها وطنية بلا حدود، إلا أنها لم تظهر في البداية أيَّ اهتمام بالدِّين أو بالشرق الأوسط.

وقد انتهت هذه اللامبالاة للازاروس عام ١٨٨١، عندما أعطى القيصر الروسي موافقته على تنفيذ مذابح مدبَّرة ضد قرى اليهود، وراح ضحيتَها الآلاف. وتزامنت هذه الوحشية مع ذروة المستقبل العملي للشاعرة ذات الثلاثين عامًا؛ فقد كانت تكتب الشعر منذ سن السابعة عشرة. ولكن عند ذلك الوقت فقط كان إنتاجها قد بدأ في نيلِ المديح والثناء من عامة القراء، بالإضافة إلى كبار أدباء ذلك العصر مثال إيمرسون وهنري جيمس ووالت ويتمان.

كانت لازاروس داكنةَ البشرة ومفعمة بالحيوية والنشاط، ذات أنف بارز وسِمات أرستقراطية ورِثتها من أسلافها اليهود الشرقيِّين. ولم تنكر لازاروس قط تراثَها، لكنها لم تحتفِ به أيضًا. لكن أخبار المذابح والوحشية في روسيا وعدم مبالاة العالم بما يجري هناك حفَّزها فجأةً على إعادة فحص جذورها والبحث عن حلٍّ لِما كان يسمَّى حينئذٍ ﺑ «المشكلة اليهودية». وقد انتهت إلى أن الحل يكمُن في تكوين «وطن لمن لا وطن لهم، وهدف للحائرين، وملجأ للمضطهدين، ودولة لعديمي الهوية» في فلسطين. وفجأةً أصبحت لازاروس تكتب نوعًا مختلفًا من الشعر، وهو نوع كان يحث بني جِلدتها على «تذكُّر مجد غضب المكابيِّين» و«استيقظي يا إسرائيل استيقظي!»

المصباح والباب الذهبي

لم تكن لازاروس هي اليهوديةَ الوحيدة التي مرَّت بحالة تحوُّل وطني في الثمانينيات من القرن التاسع عشر. فالصهيونية أو الإيمان بحق الشعب اليهودي في أرض بني إسرائيل كانت تُنبِت جذورًا لها بين يهود شرق أوروبا. وكانت جماعات صغيرة من الصهاينة قد هاجرت إلى فلسطين واستقرت في أرضها القاحلة غير المرحِّبة بهم. وعلى عكس ٢٦٠٠٠ يهودي كانوا مقيمين في البلد بالفعل، ومعظمهم من الحاخامات أو التجار الحضريين، حاول المستوطنون الجدد إعادةَ تعريف اليهود بالحياة الزراعية، وهو نفس الهدف الذي سعى إليه الأمريكيون البروتستانت، أمثال كلوريندا ماينور وجورج آدامز، بغرضِ إعدادهم للحكم.

ظلَّت الحماسة للصهيونية مقصورةً على أوروبا، في حين لم يكن لها وجود يُذكر بين اليهود الأمريكيين. وكانت الثمانينيات من القرن التاسع عشر بمنزلة بداية فترة الهجرة اليهودية المكثَّفة إلى الولايات المتحدة. فقد دخل أكثرُ من مليونين ونصف المليون أوروبي شرقي البلاد، وكان العديد منهم يبحرون أمام تمثال الحرية في طريقهم إلى «الأرض الممهَّدة بالذهب». ومع أن هؤلاء القادمين الجدد كانوا أكثرَ تقليديًّا من اليهود الألمان الذين كانوا قد استقروا في أمريكا في فترة سابقة من نفس القرن، فإنهم كانوا مشغولين للغاية بالاندماج في أرض الميعاد الجديدة، مما ألهاهم عن التفكير في العودة إلى أرضِ الميعاد القديمة الأصلية. وقد أسهم هؤلاء اليهود الأمريكيون إسهامًا كبيرًا في دعم بني دينهم في فلسطين. حيث بنى مموِّلون مثل يهوذا تورو، رجل الخير الشهير من نيو أورلينز، أولَ الأحياء الحديثة في القدس، أما ناثان ستراوس، الشريك في ماسيز، فقد اشترى الأرض التي أطلقت إسرائيل عليها اسم مدينة ناتنيا؛ تيمُّنًا باسمه وأُقيمت على تلك الأرض، والمدينة لا تزال قائمةً وتحمل الاسم نفسه إلى اليوم. ولكن معظم أعضاء الجالية الأمريكية اليهودية لم يكونوا مستعدين لوهب حياتهم للصهيونية، مفضِّلين على ذلك السكن الضيِّق والعمل في الورش في المدن الأمريكية على صحاري فلسطين ومستنقعاتها.

ولكنَّ عدم الاهتمام اليهودي بالصهيونية لم يثبط همَّة إيما لازاروس. وقد أكَّدت أن فلسطين ستكون هي الملجأ لليهود الأوروبيِّين المضطهدين، ولكنها لن يكون لها نفس المعنى لليهود الذين ينعمون بالحرية في الولايات المتحدة. وإن هؤلاء سيستمرون في الإقامة في المدن الأمريكية الرئيسية، والأفضل من ذلك سوف ينعمون «بتجديد شبابهم وسط سهول المراعي في تكساس والوديان الذهبية لجبال سييرا». وحتى بدون الدعم الأمريكي كانت لازاروس واثقةً من أن إقامة دولة جديدة سيكون بمنزلة «مركز أساسي» للشعب اليهودي بأسْرِه، وسيمنحه «دافعًا في محكمة الدول» وصبغة إنسانية عن طريق كونه مثالًا للسلام والحياد. وكتبت: «سيحقِّق العالم مكاسب، تمامًا مثلما سيحقِّق بنو إسرائيل مكاسب.»

ولكنَّ تأكيدات لازاروس لم تحقِّق لليهود الأمريكيِّين الراحةَ المنشودة، فقد كان هؤلاء يخشون انتشارَ العداء للسامية على الدوام. وكانت هناك خشيةٌ ثانية وهي أن تؤدي مساندتهم للصهيونية إلى زرعِ بذور الشك فيما يخص ولاءهم للولايات المتحدة. لذلك أكَّدت اجتماعات اتحاد الإصلاح عام ١٨٨٥ على ما يأتي: «نحن لا نعتبر أنفسنا أمة، بل مجتمعًا دينيًّا. لذلك لا ندعو إلى العودة إلى فلسطين ولا إحياءً … للدولة اليهودية.» وألقى العالِم اليهودي المحافظ إبرام إيزاك محاضرةً على لازاروس، قال فيها: «إنه من غير الحكمة الدعوة إلى جنسيةٍ وهوية منفصلة … في وقت قد يكوِّن فيه المعادون للسامية انطباعًا بأن اليهود … هم فقط الفلسطينيون والساميون والشرقيون.» وذكرها بأن الصهيونية لها علاقة بإعادة الإحياء، وهو مفهوم مسيحي يهدف إلى تحويل كل اليهود إلى المسيحية.

ولكن مرة أخرى لم تقف مثل تلك الملحوظات العنيفة حائلًا في وجه لازاروس بل دفعها ذلك إلى القيام بحملةٍ لامرأة واحدة من أجل حقوق اليهود، في العمل «عمالةً فنية ومحاربين ومزارعين» في دولتهم الخاصة المستقلة. وأسَّست جمعية تحسين أحوال اليهود الشرقيِّين وتهجيرهم، وروَّجت للصهيونية عن طريق شعرها ونثرها الحماسيِّين. وقد أخبرت صديقة لها أن «فكرة الدولة اليهودية، تفتح أمامنا منظورًا واسعًا فيما يتعلق بالماضي والمستقبل»، وهي فكرة كانت حيةً للغاية في تلك اللحظة، بحيث طردت كل الموضوعات الأخرى من ذهنها. كانت لازاروس من أشد مؤيدي الاستعمار التنويري، وكانت تتطلع إلى اليوم المنتظَر الذي تغزو فيه أوروبا الشرقَ الأوسط، فتزيح بذلك عن الولايات المتحدة عبءَ تحرير الأرض المقدسة. وقد ثابرت على الإيمان بأن اليهود الأمريكيِّين سيتغلبون في النهاية على تردُّدهم وينضمون إليها في رفع المصباح على «الباب الذهبي» لفلسطين — كما جاء في قصيدة «التمثال العملاق الجديد».

كان تفاؤل لازاروس في غيرِ موضعه. فقد بقيت وحدَها في قيادة حملتها من أجل فلسطين يهودية. أما مجتمعها الخيالي فقد تبخَّر في الهواء، بسبب نقص التمويل والأعضاء. وفي سبتمبر عام ١٨٨٧ مرِضت الشاعرة بالسرطان على ما يبدو، وماتت بعد ذلك بشهرين.

ويبدو أن تراث لازاروس الخاص بالصهيونية قد اندثر معها. فقد فشلت الحركة في نيل أيِّ احترام أو تحالف أو دعم، ولو من جزء صغير من اليهود الأمريكيِّين. ومن بين المائتي مندوب للمؤتمر الصهيوني الأول الذي عُقد في بازل بسويسرا عام ١٨٩٧ — وهو اجتماع شبِّه عندئذٍ بالمؤتمر الدستوري في فيلادلفيا والرسو عند صخرة بليموث — رحَّب به فقط أربعة أفراد من أمريكا الشمالية.1 وهكذا أصبح على حُلم إعادة السيادة لليهود في فلسطين أن ينتظر قليلًا لجذب انتباه يهود أمريكا. ولكن الملايين من بني وطنهم من غير اليهود ظلُّوا على هوسهم به. وكان حبُّ الشعب اليهودي هو دافعهم وحافزهم الأكبر، ليس هدفًا في حد ذاته، بل وسيلة للإسراع بعودة المسيح.

النُّصْب التذكاري المتغاضَى عنه

بحلول العَقد الأخير من القرن التاسع عشر كانت المسيحية في الولايات المتحدة قد وصلت إلى قمة «السيادة البروتستانتية»، وهو مصطلح وضعه العلماء لوصف الفترة التي تدخَّل الدِّين فيها في كل مناحي الحياة والمجتمع. وكانت كنيسة الحي ونشاطاتها المختلفة — الخدمات والصلوات والمقابلات الاجتماعية ومدارس الأحد — قد أصبحت محور الحياة الأمريكية. وتكاتفت شعوب الكنائس لجمع التبرُّعات للإرساليات في الخارج، وللترحيب بالوعاظ المتجولين الزائرين للمنطقة. ولكن فيما وراء الأبعاد الإقليمية كان الدِّين في أمريكا ينتشر على نطاق قومي أوسع. وبمساعدة صحافة نشطة، أصبح بإمكان رجال الدين المشاهير الوصولُ إلى ملايين القراء أسبوعيًّا، إن لم يكن يوميًّا، ناشرين مواعظهم وكتاباتهم.

أحدُ أشهر هؤلاء وأكثرهم احترامًا كان دي ويت تالماج، وهو شخصية إنجيلية، ذو عينين عميقتين وفم ينمُّ عن الإصرار، وأنف منضبط الزوايا. كان قسًّا لمعبد بروكلين الشهير ومستشارًا للرئيس جروفر كليفلاند؛ لذلك كان له قاعدة واسعة من الحضور لمواعظه ومحاضراته. وكانت هذه تشمل نطاقًا واسعًا، بدءًا بالعلاقة بين الدِّين والدنيا إلى مغريات الإجازات الصيفية. ومع ذلك فإنه لم يهتم بأي موضوع قدْر اهتمامه الذي وصل إلى حدِّ الهوس بفلسطين. فقال: «قرأت عن هذا الموضوع، وتحدَّثت عنه ووعظت عنه وغنَّيت عنه وصليت عنه وحلَمت به حتى وصلت توقعاتي إلى ما يشبه جبال الهيمالايا في قمتها.»

وأخيرًا أرضى تالماج شوقَه للأرض المقدسة، في الأول من ديسمبر عام ١٨٨٩، عندما غادر بسفينة بخارية إلى سواحل يافا. وقد جاء، مثل معظم رجال الدين المسيحيِّين في تلك الأيام، وبداخله كراهية ﻟ «لعنة الأمم، هذا العجوز القديم الأزل»؛ أي الإمبراطورية العثمانية. وكان يكنُّ أيضًا كراهية للإسلام، الذي ندَّد به باعتباره غير أخلاقي بالنسبة إلى الحضارة الغربية. ولكن تالمان، الذي كان من أشد أنصار الإحياء، لم يكن مهتمًّا بالوضع الحالي لفلسطين تحت الحكم الإسلامي بقدرِ اهتمامه بمستقبلها باعتبارها دولة اليهود. وقد شهد أن «كل أصابع القدَر في تلك الأيام تشير إلى استعادة اليهود لفلسطين»، وتنبأ بأن اليهود العائدين سيحوِّلون ذلك البلد من أرض مقفرة جرداء إلى جنة عدن ثقافيًّا واقتصاديًّا.

ومع أن تالمان كان مهتمًّا بصورة أساسية بالتحرُّر، فإن مفهومه للدولة اليهودية كان شبيهًا بمفهوم إيما لازاروس. فهو أيضًا كان يعرف أهميةَ وضرورة العثور على ملجأ للاجئين اليهود من روسيا وشرق أوروبا؛ حيث تنبأ بأن مظاهر العداء للسامية سرعان ما «ستتضاعف أضعافًا مضاعفة». وقد اتفق أيضًا مع لازاروس على أن يهود الولايات المتحدة لن يُتوقَّع منهم أن يهاجروا. وقال: «سيكون من الجنون أن يتركوا رفاهيات المدن الأمريكية حيث يعتبرون من أفضل المواطنين، ويعبُروا بحرَين لبدء حياتهم من الصفر في بلد غريب عليهم.» وبدلًا من ذلك كان اليهود الأمريكيون سيتحالفون مع الأمريكيين المسيحيِّين في بذلِ مجهود على مستوى العالم أجمعَ للتأثير على السياسات الحكومية تجاه الشرق الأوسط. وعلى الأقل في هذا الصدد كان مختلفًا عن لازاروس. ففي حين افترضت الشاعرة أن أوروبا ستخلِّص فلسطين من العثمانيِّين، آمن القس بأن أمريكا يجب أن تقود العالم في استخلاص الأرض المقدسة من براثن الإسلام.2

الاقتراح القائل بأن تقود الولايات المتحدة مجهوداتٍ دولية لتحرير فلسطين من الحكم الإسلامي، وأن تعمل على استقرار اليهود فيها، كان يبدو بالتأكيد وهمًا في فترات الحرب الأهلية أو ما قبلها. ولكنَّ أمريكا في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر كانت قد اختلفت تمامًا، بعد أن أصبحت عملاقًا صناعيًّا له الحق في الاستئثار بمركز عالمي. لذلك كان من الطبيعي أن يضم تالماج مجهوداتِه إلى مجهودات أحد هؤلاء الماليين الصاعدين، وهو عملاق العقارات ويليام يوجين بلاكستون، في السعي وراء تحقيق حُلمه في أن تقوم أمريكا بتحرير أرض فلسطين.

وُلد بلاكستون في آدامز بنيويورك عام ١٨٤١، وعلَّم نفسه بنفسه، وكوَّن نفسه بنفسه. وعندما أتم ثلاثين عامًا، كان قد كوَّن إمبراطورية عقارات، ومعها كان لديه وقت للسعي وراء اهتماماته الحقيقية البروتستانتية. وفي عام ١٨٧٨، حضر مؤتمر نياجرا، الموجَّه لعودة اليهود إلى فلسطين، وخرج منه متعصبًا بشدة لفكرة إعادة اليهود إليها. وكانت النتيجة «المسيح عائد»، وهو كتاب خرج فيه بلاكستون عن العقيدة التقليدية، عن طريق إعفاء اليهود من شرط التحوُّل للمسيحية قبل أو بعد تجمُّعهم. وتساءل فيه: «هل نندِّد — نحن المسيحيِّين — باليهود بسبب عدم قبولهم للدليل الذي تأكَّد عبر التاريخ بأن المسيح هو العائد المنتظَر، ونرفض الدليل الآخر بأن عودته الثانية وشيكة؟» وقد أصبح هذا المجلد، الذي تُرْجِم فيما بعد إلى ٣٦ لغة، وطُبع منه حوالي مليون نسخة، أحدَ أهم أبحاث هذا العصر. ولكن الإنجازات الأدبية كانت تعني القليل لبلاكستون. ومع مظهره الخادع وصلعته، فقد كانت لديه خططٌ أكبر. وبعد استكماله جولة في فلسطين عام ١٨٨٨، بدأ في تنفيذها.

وفي مذكرة قدَّمها بلاكستون للرئيس بنجامين هاريسون ووزير الخارجية جيمس بلين يوم ٥ من مارس عام ١٨٩١ كتب يقول: «نحن نؤمن بأن هذا هو الوقت المناسب لكل الأمم، وخاصة الأمم المسيحية الأوروبية، لإظهار التعاطف مع إسرائيل. فهناك مليونا يهودي روسي يناشدون تعاطفنا معهم ويناشدون كذلك عدلَنا وإنسانيتنا»، وهم في أشد الحاجة إلى ملجأ في فلسطين. وكما كانت أوروبا قد نجحت في فصل صربيا وبلغاريا عن الدولة العثمانية، كان أيضًا بإمكان الولايات المتحدة أن تحرِّر فلسطين من أجل اليهود. وكل ما على الرئيس هو أن يقوم بالدعوة إلى عقد مؤتمر دولي للقادة، يتضمَّن أباطرة ألمانيا والنمسا والمجر، وفيكتوريا ملكة بريطانيا لتقرير أفضل السبل لتحقيق هذا الهدف. «منذ أيام حكم كسرى ملك فارس لم يقدَّر … لأي آدمي مثل تلك الفرصة لتحقيق أهداف الرب فيما يخص شعبه القديم المختار.»

وكما هو متوقَّع، سرعان ما وضع تالماج توقيعَه على المذكرة، ولكن على غير المتوقَّع قام بذلك أيضًا أكثر من ٤٠٠ من المشاهير؛ رجال دين ورجال أعمال وصحفيِّين وساسة. لم تكن هذه شخصياتٍ مثيرة للجدل ولا ثانوية، لكنها كانت تمثِّل قمة الهرم الأمريكي؛ ماليًّا وسياسيًّا وثقافيًّا: فكان منهم جون روكفلر وتشارلز سكربنر وبيربرينت مورجان وقاضي المحكمة العليا ميلفيل فولر وعضو مجلس النواب ويليام ماكنلي. ووقَّع عليها أيضًا عشراتٌ من اليهود، مما جعل تلك أولَ سابقة يتعاون فيها أشخاص من هاتين العقيدتين على دعم ادعاء حق اليهود في فلسطين.3

ومع أن توصيات بلاكستون كانت متطرِّفة، فإن مذكِّرته كانت في حقيقتها تتماشى مع سياسة أمريكا منذ أمد طويل. فعلى مدارِ ما يقرُب من عَقد كامل، أي منذ حدوث المذابح الروسية عام ١٨٨١، كانت واشنطن تحثُّ الباب العالي على فتح فلسطين أمام هجرة اليهود. وقد أصدرت وزارة الخارجية تعليماتها للسفير الأمريكي في إسطنبول، ليو والاس، بمناقشة الأمر شخصيًّا مع السلطان عبد الحميد الثاني. ولأنه كان مؤمنًا بإعادة إحياء السيادة اليهودية على فلسطين، فإن والاس لم يتردَّد لحظة في الضغط من أجل إعادة استيطان اليهود في فلسطين. وكان خلفاؤه؛ أوسكار ستراوس وسولومون هيرش — مع أنهما من اليهود المعادين للصهيونية — قد تابعا الموضوع أيضًا. ولكن لم يُكتب لمحاولاتهما الاستمرار. كانت الدولة العثمانية تخشى الصهيونيةَ وأي مجهودات ومحاولات تُبذل لتفكيك الإمبراطورية، ولها كلُّ الحق في ذلك؛ لذلك وضعت قيودًا تعسفية متشددة على هجرة اليهود إلى فلسطين. وقد ندَّد الدبلوماسيون الأمريكيون بهذه الإجراءات، ووصفوها بأنها «تعسفية … وضد الدستور الأمريكي تمامًا»، ولكن كل ذلك لم يُجدِ نفعًا. ومن جانبها لم تظهِر القوى الأوروبية أيَّ ميل أو استعداد للتدخل لمصلحة اللاجئين، أو لتقليد الموقف الأمريكي تجاه فلسطين.

وبسبب منْعِ الأوروبيِّين دعمَهم ومساندتهم لمذكرة بلاكستون ومعارضة العثمانيين الصريحة لها، امتنع هاريسون عن اتخاذ أيِّ خطوات عنيفة أو متطرفة في موضوع فلسطين. واستمر بلاكستون في الترويج للقيادة الأمريكية لمساندة الحملة من أجل الدولة اليهودية، ولكن لا هاريسون ولا الرؤساء التالون له، كليفلاند وماكينلي، استجابوا له. وكما يحدُث كثيرًا في تجربة أمريكا مع الشرق الأوسط، فإن الحقيقة عند رجلٍ ثبَتَ أنها خيالٌ ووهم عند رجل آخر، في حين أن السياسة تحدِّدها دائمًا القوة.4

ولكنَّ رفْضَ الإدارات المتتالية لدعم تكوين دولة يهودية لم يثنِ أعدادًا كبيرة من المسيحيِّين الأمريكيِّين عن عزمهم، ولم يمنعهم من الاستمرار في تقدير الفكرة والإعجاب بها، وقد بدأ بعضهم في وصف أنفسهم بأنهم صهاينة، مثل بلاكستون. ولكن بين جمهور العامة كانت الحماسة الصريحة لإعادة إحياء اليهود تتقلص بوضوح. فالكنيستان المنهجية والمشيخية كانتا تنجذبان نحو الاتجاه السائد للأغلبية وتتخليان عن كثير من تعاليمهما المعبِّرة عن الإيمان بالعصر الألفي السعيد، ومن بينها فكرةُ إعادة إحياء السيادة اليهودية على فلسطين. وكانت البروتستانتية الأمريكية عامة تتحرك بعيدًا عن الحماسة لفكرة الإحياء التي استولت عليها منذ أواخر القرن الثامن عشر، وتعود مرة أخرى إلى ممارساتٍ أكثر تقليدية. ومع أن تجديد السيادة اليهودية على فلسطين ظل حُلمًا للعديد من الأمريكيين، فإن الإحساس بضرورته وأهميته كان قد ضعُف كثيرًا.

هذا الضَّعف الذي أصاب الحماسة لفكرة الإحياء والانتقال من البروتستانتية إلى أشكالٍ أكثرَ تقليدية من العبادة ظهر بجلاء من المحاولة الأخيرة لتكوين مستعمرة أو مستوطنة أمريكية في فلسطين. وقد دارت الملحمة هذه المرة حول عائلة سبافورد وتابعيها، وحول دبلوماسي أمريكي، هو سيلاه ميريل، الذي أصبح خَصمهم اللدود.

كلُّ ما يتعلَّق بروحي فهو على ما يُرام

كان آل سبافورد — هوراشيو وآنا — زوجين محترمين يذهبان إلى الكنيسة بانتظام، ويعيشان في شيكاجو، وصديقين مقربين من ويليام بلاكستون. وقد نجيا من الحريق الكبير عام ١٨٧١، فبدأت آنا وأربع من بناتها رحلةً ترفيهية إلى بريطانيا، ولكن السفينة غرقت عند اصطدامها بسفينة أخرى، وفُقدت الفتيات الأربع. وبعدها بقليل، توفِّي ابنهما الوحيد مريضًا بالحمَّى القرمزية. وقال هوراشيو وهو مدمَّر لكن يملؤه الإيمان: «عندما تتوالى الأحزان الكبيرة، ومهما كان قدَري، فقد علمتني أن أقول كلَّ شيء يتعلق بروحي على ما يُرام، وهي ترنيمة لا يزال الكثير من البروتستانت يتغنَّون بها. وقرَّر آل سبافورد أن يحولا مأساتهما الشخصية إلى قوة روحية، فأسَّسا مذهبًا جديدًا هو مذهب «الذين لا يُقهرون»، وقرَّرا الانتقال إلى القدس.

ولكن مرَّ عَقد كامل قبل أن تصل العائلة مع ١٢ من أتباعها إلى يافا. وتوجَّهت المجموعة من فورها إلى القدس «مستقلة مرْكبات أمريكية الصنع» كانت في يوم من الأيام ملكًا لمستوطنة آدامز المنكوبة. ولكنَّ فشَلَ تلك المستوطنة قبل ذلك بخمسة عشر عامًا لم يثنِ مجموعةَ آل سبافورد عن محاولة تأسيس مستوطنتهم الخاصة في القدس. فاستأجر الحجاج منزلًا كبيرًا خارج أسوار المدينة القديمة، وشرعوا في صناعة المنسوجات والمنتجات الخشبية والطوب. وسرعان ما افتتحوا هم أيضًا مدرسةً للبنات ومتجرًا يبيع تذكارات للأرض المقدسة. وعُرفت هذه المستوطنة باسم «المستوطنة الأمريكية الجديدة»، وسرعان ما أصبحت مزارًا سياحيًّا. وكان من بين زوارها مشاهيرُ من أمثال الجنرال البريطاني تشارلز «الصيني» جوردون، وكان في طريقه إلى السودان، حيث قتله المحاربون المسلمون فيما بعد. وتذكَّر أحدُ آل سبافورد قائلًا: «لقد علمني كيف أشتم.»

ومثل الأمريكيِّين الأوائل الذين استوطنوا فلسطين، سعى «الذين لا يُقهرون» إلى تقليد حياة المسيح، «رجل الآلام»، الذي عانى كثيرًا على الأرض، وحصل على مجد السماوات فيما بعد. وقد كانوا يتطلعون بدورهم إلى تحقق نبوءات الإنجيل، خاصة تلك المتعلِّقة بعودة اليهود إلى وطنهم الأم. ولكن على عكس مَن سبقوهم، لم تشعر مجموعة سبافورد بأي ضرورة أو ضغوط للمساعدة في إعداد اليهود للتجمُّع والعودة، أو لتعليمهم الزراعة. فقد كان يكفيهم تسلُّق جبل الزيتون يوميًّا، وهم يحملون معهم فقط الشاي والكعك. وقد اعترفوا «أنهم يتمنَّون أن يكونوا أولَ مَن يقدِّم المرطِّبات للمسيح عند عودته».5

تميَّزت المستوطنة الأمريكية أيضًا بأنها استمرت، ولم تشهد مصيرَ المَزارع السابقة، فلم تشهد مجاعة قط، ولا أمراضًا ولا عصابات. ومع أن بناء المستوطنة تزامن مع فترة حُكم عبد الحميد الثاني الذي كان يكره الغربيِّين ويعاديهم، فإن «الذين لا يُقهرون» تمتَّعوا بعلاقات ممتازة مع الحاكم العثماني للقدس، ومع الجاليات الدينية الأخرى الأقدم بالمدينة. وقد واجهت مجموعةُ سبافورد عدوًّا واحدًا حقيقيًّا، ومن سخرية القدَر أنه كان أمريكيًّا.

كان يحمل درجةَ الدكتوراه في اللاهوت، وقسًّا في أسطول للأمريكيِّين السود في الحرب الأهلية. لذلك كان سيلاه ميريل يبدو وكأنه يشترك في الكثير من الأمور مع «الذين لا يُقهرون»، وكان يشترك معهم في تسامحهم وتقواهم وشجاعتهم. وشاركهم أيضًا في حب فلسطين. وبدءًا من عام ١٨٨٢ عمِل فتراتٍ عدة قنصلًا لأمريكا في القدس، وفي ربع القرن التالي كتب عددًا من الكتب عن تاريخ الأرض المقدَّسة وطبوغرافيتها وآثارها. ومع ذلك فقد كان وجهه الطيب الأبوي ونظارته التي تجعله شبيهًا بالمثقفين ووجه يخبئ ميلًا إلى البخل، واقتناعًا بأنه لا يوجد مكانٌ للمستوطنة الأمريكية أو أفكارها الهدامة في هذا البلد.

ندَّد ميريل بآل سبافورديت — كما كان يطلق عليهم — ونعتهم بأنهم كفرة ونصابون، متهمًا إياهم باختطاف الشباب وغسل مخِّهم، واتهمهم، على الأقل في مناسبة واحدة، بمهاجمته بنيةِ قتله. وحثَّ سكان القدس ألا يشتروا منهم أيَّ بضائع، وأخبر السياح بضرورة تجنُّب متجر المستوطنة. وقال: «إنهم يكرهون حكومة الولايات المتحدة … وكل الأمريكيِّين … المقيمين في القدس خارج دائرتهم.» وقدَّم القنصل أيضًا وثائقَ من سكانٍ سابقين في المستوطنة يشهدون فيها «بممارسات فسق» يشجِّع عليها آل سبافورد، منها وضع الأفراد غير المتزوجين معًا في حجرات مظلمة، ثم إجبارهم على الاعتراف بخطيئتهم.

وتصاعد الغليان بعد أن قرَّر ميريل — وهو عالِم آثار هاوٍ — أن يحفر في منطقة تاريخية خارج أسوار المدينة القديمة، تصادف أنها تتضمَّن أيضًا مقبرة المستوطنة الأمريكية. ومع أنه ادَّعى فيما بعدُ أنه نقلَ المقابر والرُّفات بكل ضمير، فإن عائلة سبافورد المصدومة اشتكت من عثورها على عظام هوراشيو سبافورد وقد أُخرجت من باطن الأرض وتناثرت هنا وهناك. قاسى ميريل من سرطان الحلق ومن اعتراضات مساندي المستوطنة الأمريكية، فاستقال في النهاية. ولكن في ذلك الوقت كانت تلك الجالية قد اندمجت مع مجموعةٍ سويدية وفقدَت هويتها الأمريكية المميزة. وأُعيد تأثيث المنزل فندقًا ومطعمًا، وقد أضحى بعد ذلك الحدَث بقرن كامل الضاحيةَ السكنية المفضَّلة للصحفيين الأجانب. وبذلك أصبحت كل عداوة ميريل بلا طائل.

لم يَفُق عداوةَ ميريل للمستوطنة الأمريكية إلا كراهيته لليهود وحركة الصهيونية الناشئة. ومرة أخرى — باعتباره أستاذًا سابقًا للعبرية بجامعة أندوفر ورجلًا مشتقًّا اسمُه الأولُ من العبرية — كان يُتوقَّع من ميريل أن يتعاطف مع اللاجئين اليهود ومع مجهوداتهم لتأسيس دولة. ولكن اليهود — حسب قول ميريل — كانوا ملامين على كثير من المعاناة التي لاقوها. فشخصيتهم وانعدام «عادات النظافة والتصرُّفات الحضارية» لديهم كانت هي السبب وراء إثارة المذابح الروسية والحركات المعادية لليهود في أماكنَ أخرى. وكان يقول: «اليهودي لا يحتاج إلى معاملة لينة طيبة … بل يحتاج إلى أن يعرف مكانه وحدوده في هذا العالم.» وطلبت منه وزارة الخارجية الأمريكية أن يقدِّم آراءه بشأن مذكِّرة بلاكستون، فرفضها ميريل باعتبارها «أحدَ أكثر الخطط التي عُرضت على الجمهور جموحًا». ووصف اليهود بأنهم متخلفون بسبب «طقوسهم التافهة» وأنهم يهتمون فقط بجمع المال، وتنبأ أن معظمهم لن يستقر أبدًا في فلسطين التي لا ترحِّب بهم ولا تمنحهم أيَّ مكسب، حتى لو مُنحوا تلك الفرصة. وانتهى القنصل إلى حثِّ الولايات المتحدة على تجنُّب أي اتصال بالصهيونية ووقف أي نوع من أنواع التعاطف معهم. «فهم جنسٌ ضعيف يمكن أن تصنع منهم جنودًا أو مستوطنين أو مواطنين عاملين.»6

•••

وباحتقار سيلاه ميريل لسعادة آل سبافورد بالألفية الجديدة وعدم تعاطفه بالمرة مع الصهيونية كان يعكس بعضَ الآراء التي كانت تكتسب شعبيةً بين معظم الأمريكيين البروتستانت. ومع ذلك كانت أشكال إحيائية من العبادات لا تزال لها شعبية كبيرة في الولايات المتحدة. وكذلك الأمر لمعاداة السامية؛ فمع أنها كانت مقبولة سرًّا، فإنها كانت غير مقبولة علنًا. وكان الدعم والتأييد لفكرة إعادة سيادة اليهود على فلسطين قد أصبح أقلَّ حماسة، لكنه استمر على انتشاره. وكان ميريل يعكس وجهةَ نظر الرأي العام المتعلقة بمثل تلك الموضوعات بدرجةٍ أقل من رجل أمريكا المفضَّل، مارك توين. ومع أن توين كان كثيرًا ما يهجو البروتستانت في كتاباته، فإنه احتفظ باحترام دفين «للدِّين القديم»، وفي حين كشفت كتاباته تحيزًا ضد اليهود، فقد نفى هو أيَّ عداوة لهم. وكان موقف توين من الصهيونية غيرَ معروف قبل عام ١٨٩٧، عندما بدأ زيارةً إلى فيينا استغرقت سنتين. وفي تلك الفترة وجد توين أن الناس يظنونه من اليهود. واتصل أيضًا بشخصيات يهودية شهيرة، منهم تيودور هيرتزل، الصحفي وكاتب المسرحيات وأبو الحركة الصهيونية.

وتزامن وصول توين إلى فيينا مع خاتمة فضيحة درايفوس المدوية. كان ضابطًا في الجيش الفرنسي واتُّهِم زورًا بالتجسس لمصلحة ألمانيا، وكان يهوديًّا يَعُدُّ نفسه فرنسيًّا أكثر من كونه يهوديًّا؛ لذلك أصبح ألفريد درايفوس محورَ اهتمام المعادين للسامية وهجومهم، وهو الهجوم الذي شنَّه الجيش والكنيسة الكاثوليكية وغيرهما من العناصر المحافظة. وكان صيتُ محاكمة درايفوس قد ذاع وانتشر في أوروبا، خاصةً في النمسا، حيث كان العداء للسامية قد أصبح قانونيًّا باعتباره إعلامًا صحفيًّا واتجاهًا سياسيًّا.

وبصرف النظر عن تحفُّظات توين على اليهود، فقد صُدم بالسب والتشهير الذي حدَث ضد درايفوس. فقد جاء إلى فيينا لمرافقة ابنته كلارا، وهي موسيقية متزوجة من يهودي نمساوي. وعن طريقها تمكَّن من مقابلة العديد من مثقفي المدينة اليهود، ومنهم سيجموند فرويد، الفيلسوف والمعالِج النفسي الصاعد. وهكذا تعرَّف توين على مساوئ المعاداة للسامية، مع أنها لم تكن بالوضوح الذي كانت عليه عندما أصبح هو ذاته هدفًا لها. فقد لاحظت صحافة فيينا أنَّ اسمه الأول — صامويل — مفضَّل بين اليهود، وأن أنفه كان كبيرًا ومعقوفًا. لذلك أطلقت عليه «اليهودي مارك توين».

وردَّ توين عليها بمقالٍ ساخر بعنوان «فيما يخص اليهود»، وفيه هاجم حقيقةَ أن عددًا قليلًا من المسيحيِّين وقفوا علنًا لمناصرة أبناء عمومتهم الروحيين. وكانت محاكمة درايفوس مقزِّزة بصورةٍ خاصة. فقال عنها: «إنها غير إنجليزية، وغير أمريكية، إنها فرنسية.» وقد أوشك توين على نسيان سياسته، عندما أشار إلى حب اليهود المفترَض للمال، وتردُّدهم في خدمة بلادهم أثناء الحرب — وقد اعتذر لاحقًا عن هذه الزلات — لكنه عَوَّض ذلك عن طريق مدح ذكاء وثقافة اليهود. وقال: «الفرْق بين ذهن المسيحي المتوسط وذهن اليهودي المتوسط هو الفرق بين ذهن الضفدع الصغير وذهن رئيس الأساقفة. وهو جنس رائع، بل أعتقد أنه أفضل الأجناس التي أخرجتها الدنيا.»

ظهر انجذاب توين الجديد لليهود عن طريق اهتمامه بهيرتزل. فأثناء تغطيته محاكمةَ درايفوس لإحدى صحف فيينا، أصبح مقتنعًا أن اليهود لن يتمكنوا أبدًا من الانسجام والتمازج في أوروبا، بل أصبح واجبًا عليهم أن يهاجروا ويجدوا دولةً مستقلة لهم. لذلك دعا إلى المؤتمر اليهودي الأول، ونشر رؤيته لكيان سياسي مستقبلي، في كتاب «الدولة اليهودية». وكان هيرتزل وتوين قد تقابلا مرةً سابقة، لفترة قصيرة، في حفل استقبال في باريس عام ١٨٩٤. وكان هيرتزل محبطًا بسبب «رؤيته لرجل قصير … مهتز قليلًا … صاحب نظرة خاوية وخدود متهدِّلة»، بدلًا من الرجل الكوميدي ذي الصدر العريض الذي كان قد تخيَّله. وقد بلغ به الأمر إلى عدم التعرُّف على كاتب توم سوير وهاكلبري فين الإنجليزي الهوية.

كان اجتماعهما التالي بعد ذلك بأربع سنوات في فيينا، وقد أثبت أنه أكثر إرضاءً للطرفين معًا، وليس فقط لهيرتزل. وكان من الواضح انبهار توين بالصحفي ذي الشخصية القيادية الجذابة الذي تحوَّل إلى صاحب رؤية، ذي عينين داكنتين ولحية كثيفة مربعة، والذي كثيرًا ما كان يذكِّره بتمثال مايكل أنجلو للنبي موسى. وبعد حضور افتتاح مسرحية هيرتزل «الضاحية الفقيرة الجديدة»، وهي قصة يهودي اسمه صامويل يرفضه المجتمع المسيحي، عرض توين على هيرتزل أن يقوم بترجمة هذه المأساة من أجل عرضها على مسارح نيويورك. وأظهر احترامًا للحركة التي كان هيرتزل قد أسَّسها. وبطريقته الساخرة أظهر توين مساندتَه للاقتراح القائل بتكوين دولة يهودية عن طريق إظهار معارضته لها. فقال: «إذا كان هذا التجمُّع في فلسطين لأكثر العقول دهاءً في العالم سيكون على أرض بلد حر، فأعتقد أنه من الحكمة وقفُ هذا المشروع، فليس من العقل أن نسمح للجنس اليهودي بالتعرف على مدى قوَّته. لأنه إذا كانت الجياد ستعرف مدى قوَّتها، فليس من الحكمة أن نركبها بعد ذلك.»7

لم يتمكَّن توين من ترجمة «الضاحية الفقيرة الجديدة». وبدلًا من ذلك حوَّل اهتمامه إلى انتقاد قمع أمريكا للثورة الوطنية في الفلبين وإلى التنديد بالاستعمار. ولكن توين لم ينظر إلى الاستيطان الصهيوني في فلسطين على أنه صورة من صور الاستعمار. ولم يندِّد بالتعديات البريطانية والفرنسية في أماكنَ أخرى من الشرق الأوسط. وفي هذا الصدد أيضًا كانت آراؤه تمثل آراءَ معظم الأمريكيِّين في فترة انتهاء القرن وبداية القرن التالي. وسواء كانوا مساندين للاستعمار أو مناهضين له، فإن معظمهم كان لا يزال يتطلَّع إلى اليوم الذي يتحرَّر فيه الشرق الأوسط من حُكم الطاغية ليحذوَ حذو الولايات المتحدة ويتشبَّه بها. ولم يكن هذا التحول بالضرورة ليحدُث عن طريق الغزو، ولكن بالأعمال الخيرية والعمل الجاد للوعاظ والمعلمين والأطباء. وربما كانت هذه هي نهاية القرن البروتستانتي، ولكنَّ عددًا كبيرًا من الأمريكيِّين كان لا يزال يساند إرسالياتها.

رسل إلى الإسلام

في سنوات ما بين ١٨٨٥ و١٨٩٥ كانت ميزانية المؤسسات التبشيرية للشرق الأوسط قد تضاعفت سبعة أضعاف. فبالإضافة إلى أكثر من ٤٠٠ مدرسة وتِسع كليات ينتظم فيها أكثر من ٢٠٠٠٠ طالب، كانت تلك الأموال تذهب أيضًا إلى تسعة مستشفيات وعشر صيدليات تعالج ما يقرُب من ٤٠٠٠٠ مريض سنويًّا. وإضافة إلى الدوريات والجرائد والأناجيل الصادرة بخمس لغات من لغات الشرق الأوسط، كانت المطابع الأمريكية تخرِج قُرابة أربعة ملايين كتاب دراسي حول موضوعاتٍ تتنوَّع ما بين الفلك وطب الأسنان والطباعة وفلسفة الأخلاق.

وكانت مساهمات المبشِّرين لرفع المستوى الأخلاقي والتعليمي في الشرق الأوسط قد أصبحت مصدرًا لفخر الأمريكيِّين ومعيارًا لقياس أعمالهم الخيرية مقارنةً بالاستعمار والجشع الأوروبي. وكتب أحدُ الأمريكيين، هو سيمون وولف، من القنصلية الأمريكية بالقاهرة: «لا يمكن أن نثنيَ ثناءً كافيًا على مواطنينا من الرجال والنساء الأتقياء الذين يقومون … بواجبهم … بغير خوف هنا، وسط الرمال والشمس الحارقة. مجرد ذكر الولايات المتحدة أو الأمريكيِّين يمثِّل جوازَ سفر إلى قلوب المصريِّين وثقتهم.» وأكَّد أحد خلفاء وولف، وهو لويس إيدينج، هذه المقولة بقوله: «إن الأمريكيِّين يحتلون مصر تمامًا كما تحتلها إنجلترا.» وأضاف إيدينج أن «بريطانيا طوَّرت البلاد اقتصاديًّا، والولايات المتحدة شكَّلت سكانها على هيئة مواطنين.»8

وكذلك كان المبشِّرون يستمتعون بهذه الإنجازات ويفخرون بها، ولكنَّ فشلهم في تحقيق هدفهم الأصلي — وهو الخلاص — كان لا يزال يؤلمهم. وقد اعترف هنري جيسوب، عميد الأمريكيِّين البروتستانت في لبنان، قائلًا: «في الحرب ضد الإسلام نضع فقط دروعنا، ولسنا على أي استعداد للتلويح بأعلام النصر بعد.» كان جيسوب يلمِّح إلى حقيقة أنه مع تأسيس أكثر من ١٠٠ كنيسة وعملِ أكثر من ٢٠٠ مبشِّر في جميع أنحاء الدولة العثمانية، فإن مجموع المتحولين إلى المسيحية ظل قليلًا للغاية. وهاجر الكثير منهم فيما بعدُ إلى الولايات المتحدة، حتى إن الكلية السورية البروتستانتية، التي كان ينقصها أساتذة يتحدثون العربية، غيَّرت لغةَ التدريس بها لتصبح الإنجليزية.

إن الشرق الأوسط يتميز بأنه لم تؤثِّر فيه أيُّ مغريات ثقافية أو مادية تأثيرًا فعالًا لإبعاد سكانه عن معتقداتهم التقليدية وتبنِّي المعتقدات الأمريكية البروتستانتية. وعلى عكس الشرق الأقصى، حيث كانت الخدمات التي يقدِّمها المبشِّرون الأمريكيون تسهِّل لهم عمليةَ تحويل السكان المحليين، فإن شعوب الشرق الأوسط لم ترَ أيَّ تناقض بين تسلُّم الإرشادات والرعاية الطبية من البروتستانت والاحتفاظ بعقيدتهم الأصلية. وقد اشتكى طبيبٌ مغتاظ من أنه «لم يدخل أحدٌ مستشفى الإرسالية وهو بحاجة إلى علاج بدني بقدْر حاجته إلى علاج روحي، عن طريق التعرف أكثرَ على يسوع المسيح».

وتجلَّى فشل المبشِّرين في حالة ألكسندر راسيل ويب. فقد كان هذا النيويوركي في السابق قنصلًا لدى الفلبين، وتحوَّل من المشيخية إلى الإسلام عام ١٨٨٨. ثم عاد إلى مسقط رأسه بعدها بخمس سنوات، في صحة جيدة ومطلِقًا لحيتَه ولابسًا عمامة. وشرع في تأسيس أحدِ أول المساجد في أمريكا، بالإضافة إلى جرائد إسلامية. لم تكن مجهودات ويب لتحويل الولايات المتحدة إلى الاسلام أكثرَ نجاحًا من محاولات المبشِّرين لتنصير الشرق الأوسط. ولكنَّ حمْلَته أكَّدت التحديات التي يواجهها البروتستانت من إسلام شامخ يجذب إليه تابعين جددًا.

كان هذا الامتناع الإسلامي يمثل عائقًا لمجهودات التبشير؛ لذلك قرَّر بعض الأمريكيِّين أن يصبحوا «مبشِّرين جددًا»، وهو مصطلح اخترعه هوارد بليس، الذي كان قد خلَف والده رئيسًا للكلية السورية البروتستانتية. وكان الهدف الآن هو الدعوة إلى إنجيل «اجتماعي»، يعرِض المسيح كلما وأينما أُتيحت الفرصة، «بصرف النظر عن النتيجة أو الأثر في أي ارتباطات كنسية». ومن وجهة نظر بليس ودائرته من رجال الدِّين القابعين في راحة واسترخاء في بيروت كان هذا التعريف الجديد للدور التبشيري يعني أن المؤسسات الدينية والطبية يمكنها أن تستمر في التوسُّع، حتى على حساب الأنشطة البروتستانتية البحتة. وقد يتقبَّل الشرق الأوسط يومًا ما الولايات المتحدة سياسيًّا وثقافيًّا، ولكن من الناحية الروحية سيكون دائمًا إسلاميًّا.

لم يكن كلُّ المبشِّرين مستعدين لتبنِّي هذه الدعوة الاجتماعية الحديثة، والتخلي عن سعيهم وراء متحوِّلين جدد. وكان الكثيرون منهم لا يزالون على استعداد للتقدم إلى الأمام وإنجيلهم في يدهم إلى أبعد المناطق، وهم يواجهون قُطَّاع الطُّرق والأمراض.9 وبالفعل شهدت العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر مجهودات مضاعفة لتأسيس قواعدَ ومحطاتٍ في شرق الأناضول وفارس والسودان.

ولكن لم يكن هناك بروتستانتي واحد قد وطئ الجزيرة العربية. فهي مساحة شاسعة، شمسها حارقة وبلا ماء، تعادل مساحة الولايات المتحدة غرب الميسيسيبي، وتضم الجزيرة العربية اليوم اليمن والمملكة السعودية والإمارات في الخليج العربي. وفي التسعينيات من القرن التاسع عشر، كانت الجزيرة العربية جزءًا من الدولة العثمانية بالاسم. وكانت أيضًا مهدَ المدن المقدَّسة مكة والمدينة، وكذلك مهدًا للطائفة الإسلامية المعروفة باسم الوهابية. وقد كوَّنت تلك الحركة تحالفًا مع آل سعود، وهو ما دعم المحاربين الوهابيِّين في معاركهم ضد القبائل الصحراوية الأخرى. بيئة كهذه ما كانت لتستقبل أبدًا شخصًا أمريكيًّا يسعى إلى تحويل المسلمين إلى حواريِّين للمسيح. ولكن هذه بالضبط كانت طموحات صامويل مارينوس زويمر، وهو مبشِّر في الثالثة والعشرين من عمره، من فريزلاند، ميشيجان.

كان واحدًا من ١٣ ابنًا لقس هولندي إصلاحي. لذلك آمن من سن مبكرة بأن قدَره هو أن يقوم بالتبشير في بلاد غريبة عبْر البحار. وفي مدرسة اللاهوت كان يحدق ساعات طويلة في بندول إيقاعٍ وضعه معلِّمه أمام الفصل، وكان كلما مات شخص في آسيا قبل أن يُنْقَذ روحه دقَّ. لذلك قرَّر زويمر أن يحقق قول الإنجيل «آه، لقد عاش إسماعيل قبلكم»، وأن يقوم بالدعوة في الجزيرة العربية. وكانت تلك المنطقة تعدُّ منذ زمن بعيد منطقةَ نفوذ هولندي خالص، ولكن الكنيسة رفضت تمويلَ إرساله إلى هناك، لاقتناعها بأن العرب لا يمكن إنقاذ روحهم أبدًا. وكان على زويمر أن يحصل على تمويل للرحلة بمجهوداته الذاتية. وتمكَّن من تحصيل معرفة مبدئية بسيطة للغاية عن قراءة الخرائط والأدوية واللغة العربية. ومتسلحًا بتلك المعرفة، انطلق زويمر في يونيو عام ١٨٩٠، متوجهًا إلى «قلب الإسلام».

توجَّه زويمر أولًا إلى القاهرة، ثم عبْر البحر الأحمر إلى جدة. ولم يكن يحمل معه متاعًا كثيرًا؛ إذ لم يكن معه سوى مجلَّدين من كتاب تشارلز دوتي «رحلات في الصحراء العربية». وقد باعهما فيما بعد لضابط بريطاني شابٍّ اسمه لورنس. وفي الطريق إلى الجنوب، ادَّعى زويمر أنه أول غربي يدخل مدينة صنعاء اليمنية. وتقديرًا لذلك، دُعي إلى الانضمام إلى الجمعية الجغرافية الملكية. ثم دار حول طرف شبه الجزيرة العربية متوجهًا شمالًا عبر الخليج العربي إلى البصرة، حيث التقى مع زميل من مدرسة اللاهوت هو جيمس كانتين، وهناك أسَّس أولَ قاعدة له.

وسرعان ما تعلَّم الأمريكيان أن الوعظ في وسط العراق المسلِم أمرٌ غير مستقر ولا ثابت. كان زويمر شابًّا أشقرَ ذا ملامح نوردية شمالية ويصل طوله إلى ستة أقدام. وقد ألقت السلطات العثمانية القبضَ عليه ووضعته تحت الحراسة ومنعته من الوعظ. ومع ذلك، فقد تمكَّن هذا «المحرِّك البخاري المرتدي للسراويل» — كما أطلَق عليه زميلٌ له — من الهرب من البصرة والانتقال إلى مسقط بعمان، ثم إلى البحرين. وتحكي مذكراته عن مقابلات عجيبة وغريبة مع رجالٍ يأكلون السحالي، ويتسلَّحون بأسلحة من بقايا الحرب الأهلية الأمريكية، وأيضًا عن لقائه بأمريكي يبحث عن الذهب في فارس. وفي أثناء رحلات زويمر سُرِق متاعه وهُدِّد بقطع رأسه، وتعرَّض للجفاف بسبب درجة الحرارة التي وصلت إلى ١٠٧ فهرنهايت. فقال: «الرحلات في بلاد العجائب لا تمر من دون مصاعب.» وبمرور الوقت، انضم إليه شقيقه الأصغر بيتر عن طريق كميل عيطاني، أحدِ المسلمين القلائل الذين تنصَّروا في بيروت، وأيضًا عن طريق المبشِّرة البريطانية إيمي ويلكس، التي أصبحت زوجته وأمَّ أبنائه الأربعة. وكانا معًا يوزِّعان الأناجيل ويرعيان المرضى ويجدان مأوًى للعبيد الهاربين. ووجدا الوقتَ لتأسيس أول طاحونة هواء في مسقط، التي جرى استيراد أجزائها من ووبون بوسكنسون.

كان تقديم الخدمات الدينية والدنيوية تقليدًا أمريكيًّا في الشرق الأوسط منذ العشرينيات من القرن التاسع عشر، ولكن تقديمها كان له ثَمن. فقد مرِضت زوجة زويمر واثنتان من بناته وشقيقه بيتر. وتوفِّي كميل عيطاني مسمومًا — حسب ظن زويمر — بيد والده. وأخيرًا، بعد التضحية بحياة كل هؤلاء ووقفِ عشرين سنة من عمره على مجهودات التبشير، اضطُر زويمر إلى الاعتراف بأن الكنيسة الهولندية الإصلاحية كانت على حق؛ فالعرب لا يمكن تحويلهم إلى المسيحية.

لذلك عاد زويمر إلى ممارسة معروفة ومعتادة بين المبشِّرين في الشرق الأوسط؛ فقد بدأ بافتتاح مدارس. وقال: «بلدٌ من دون … مثل هذه المدارس لا يمكن أن يحقِّق تقدمًا. ففي يوم من الأيام سيكون التعليم في الجزيرة العربية على ما هو عليه الآن في أمريكا.» وتبِع بناءَ المدارس بناءُ المستشفيات، وجيء بطبيب بدوام كامل من بالتيمور، هو بول هاريسون. ويذكر هاريسون فيما بعدُ أن «كلَّ ما يمكن للمبشِّر أن يقوم به هو منحُ أي مهتم صورة للحياة المسيحية وفرصة لاتباع هذا الدِّين». وكان عدم تعميد واحد من هؤلاء المرضى يمثِّل بلا شك تحديًا لإيمان هاريسون وزويمر — لكنه لم يتمكَّن من كسره تمامًا.

كان اللقب الذي أُطلق على صامويل زويمر تقديرًا له هو «الرسول إلى الإسلام»، لكنه قام أيضًا بدور تقليدي آخرَ للمبشِّرين، هو تعريف الشرق الأوسط إلى الأمريكيِّين. وقد ألَّف عشراتٍ من الكتب عن العالم الإسلامي؛ أعرافه ومنظوره ومعتقداته. وعند عودته من الجزيرة العربية دَرَّس في جامعة برينستون، وساعد على تأسيس قسم دراسات الشرق الأدنى بها. ودرست أجيال كاملة من الطلبة هناك، كان كثيرون منهم أبناء وبنات المبشِّرين، وكانوا يتخرجون فيها ليصبحوا من المهتمين بشئون الشرق الأوسط بوزارة الخارجية الأمريكية، وتنفيذيِّين في شركاتٍ أمريكية تعمل في منطقة الشرق الأوسط. وقد علَّق أحد الممولين المشاهير لتلك الإرساليات قائلًا: «المؤسسات الأمريكية الدينية الخيرية في الشرق الأدنى تميل إلى مزجِ الخدمات الدينية والتعليمية والطبية مع استثمارات الأعمال.»10 وقد تذكَّر القادة العرب تلك الخدمات في بدايات القرن التالي، عندما وجبَ عليهم الاختيار بين شركات البترول الأمريكية والبريطانية.

ومع أنَّ مهمة زويمر كان هدفُها تبشيريًّا في البداية، إلا كان لها آثار هائلة على المصالح الاقتصادية والاستراتيجية للولايات المتحدة. فالمجهودات المتواضعة لنشر المعتقدات الدينية الأمريكية في شبه الجزيرة العربية أنتجت في النهاية نفوذًا أمريكيًّا كبيرًا في المنطقة.

جنود الحملة الصليبية الأمريكية

أصبح الجمع والمزج بين الإيمان والسلطة في علاقة أمريكا بالشرق الأوسط يزداد وضوحًا قُرب نهاية القرن التاسع عشر. فكثيرًا ما كان القادة الأمريكيون المؤيدون للاستعمار يرفعون واجهةَ الدِّين لتبرير سياساتهم، في حين كان رجال الدِّين البارزون يمجِّدون الاستعمار باعتباره سلاحًا في الحرب من أجل خلاص العالم. فصرَّح جوسياه سترونج، القس الأبرشي ذو المذهب الدارويني الاجتماعي المتطرف: «ستصبح أمريكا يدَ ﷲ اليمنى في معركته ضد جهل العالم واضطهاده وذنوبه. بلدنا هذا … يجب أن يتولَّى زمامَ القيادة في الصراعات النهائية للمسيحية من أجل الاستحواذ على العالم.» وفي حملة صليبية مشتركة تعاون المبشِّرون والجنود ورجال الدولة بلا حدود بعضهم مع بعض، ليس فقط في شبه الجزيرة العربية، بل في شتى أنحاء الشرق الأوسط.

•••

هذا المزيج من السياسة الخارجية والحماسة الدينية كان واضحًا في فارس بصورة خاصة. فالمبشِّرون الأمريكيون كانوا نشطين منذ زمن طويل في أورميا وهمدان وتبريز، ولكن تلك المناطق لم تكن لها جاذبية خاصة لوزارة الخارجية. ولم تكن الاتفاقية الاقتصادية الموقَّعة بين الولايات المتحدة وفارس عام ١٨٥٦ قد فُعِّلت بعدُ، ولم تكن الدولتان قد تبادلتا السفراء قط. وتغيَّر هذا الوضع عام ١٨٨٣، عندما ناشد حكام دولة قاجار الفارسية واشنطن أن تساعدهم في مقاومة المحاولات الروسية والبريطانية للسيطرة على البلاد. واستجابت إدارة تشستر آرثر إيجابيًّا، ليس تعاطفًا مع فارس، بل خوفٌ على سلامة المبشِّرين في فترة الاضطرابات الداخلية والدولية.

وكان رئيسُ أول بعثة رسمية أمريكية إلى فارس ابنًا لمبشِّرين، وهو صامويل جرين ويلر بنجامين، كان رسامًا ومؤرخًا فنيًّا في السادسة والأربعين من عمره. وعند اقترابه من طهران، حيَّته — كما كُتب — حاشيةٌ ملكية تضمَّنت ستة محافظين وألفَ فارس واقفين «يرتدون أرقى الأزياء الأوروبية … وبها بعض لمسات الفخامة الشرقية». وبعين الفنان لاحظ ويلر تفاصيلَ الديكور والزي الفارسي، خاصة زيَّ الشاه ناصر الدين، الذي كانت أزرار معطفه مصنوعة من الماس «الذي تصل حجم الواحدة منه إلى حجم بيضة الحمامة». ولأنه كان دبلوماسيًّا متمكنًا، فقد عدَّد هذا المبعوث قائمةَ المنتجات: «الحديد والفحم والنحاس والكبريت … والقمح والذرة وقصب السُّكر والتبغ والأرز والفواكه … الاستوائية وشبه الاستوائية» التي اقترحت فارس تبادلها مع الولايات المتحدة، مقابل أسلحة أمريكية متقدمة، خاصةً بنادق جاتلنج. ولكن الولايات المتحدة ظلَّت تسوِّف وتماطِل في الاتفاق. فعدا سلامة وأمان إرساليات التبشير، كانت الولايات المتحدة قد نفضت يدَها من أي مصالح اقتصادية أو استراتيجية في الخليج العربي.11

ومع ذلك فقد اضطرَّ الوجودُ المتزايد للإرساليات في الشرق الأوسط والاستعدادُ المتنامي أيضًا للمبشِّرين للتمرُّد على السلطات المسلمة، اضطرَّا الولايات المتحدة إلى تبني سياسةٍ قائمة على القوة تجاه المنطقة. وكانت وفاة هوارد باسكرفيل (٢٤ عامًا)، وهو مبشِّر قُتل دفاعًا عن مزارعين متمردين في تبريز، هي الشرارةَ التي ولَّدت اعتراضات دبلوماسية عنيفة من واشنطن. ولم يقتصر هذا الاتجاه على فارس. ففي تركيا أيضًا نبذت الولايات المتحدة السياسةَ التي أسَّسها ديفيد بورتر في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، التي كانت تقضي بمنع الحماية عن المبشِّرين الذين يستثيرون ويستفزون الحكام المحليِّين. فكتب الكابتن تشارلز سبيري في فبراير عام ١٨٨٥، عندما كان في زورقه يستعرض قواته على سواحل الأناضول: «هؤلاء الأتراك متهمون بأنهم قاموا بشيِّ … أحد المبشِّرين على النار … في مطبخه، ومن المفترض أن نبحث نحن عن … إرضاء السلطان.» وكان الفصل بين الدِّين والدولة الذي يُتَّبع بحرص شديد في أمريكا، ينهار يومًا بعد يوم فيما يخص علاقة أمريكا بالشرق الأوسط. ورافق الكابتن سبيري السفير ليو والاس في جولة للمزارات المسيحية في شرق البحر المتوسط. ولاحظ سبيري أن «حج» والاس على حساب الدولة تمامًا.

كان البَوْن بين الأنشطة الدينية والحكومية في الشرق الأوسط يقل أكثرَ وأكثر بسبب ظهور عائلاتٍ تبشيرية قادرة على القيام بتأثير بعيد المدى على علاقات أمريكا الخارجية. وكان أبناء المبشِّرين الأصليِّين الذين جاءوا إلى المنطقة — آل بليس وآل بيرد وآل دودج وآل دوايت — يهيمنون على مؤسَّساتها الثقافية الرئيسية. وكانت لهم علاقات وثيقة بجامعاتٍ أمريكية رائدة، أهمها برينستون، وبعائلات أمريكية عريقة راقية، مثل آل روكفلر ومورجان وروزفلت. وكان المؤيدون الرئيسيون لمجهودات التبشير يعملون في الدوائر الاجتماعية نفسها التي تُوجَد فيها النخبة السياسية، ويرسلون أولادَهم إلى المدارس نفسِها ويتحالفون معهم بالمصاهرة. وعن طريق اتصالاتهم الشخصية مع متَّخذي القرار، تمكَّن المبشِّرون ومؤيدوهم من وضع البروتستانتية والدعوة إليها على رأس أولويات أمريكا في الخارج، خاصةً في الشرق الأوسط. وقال أحد القناصل في المنطقة إن تسعة أعشار وقته على الأقل كان موجهًا للتعامل مع الإرساليات وهمومها المتعددة. وقال: «حتى وزير الخارجية كان يرتجف عندما يدخل عليه رئيس إحدى جمعيات الإنجيل.»12

وكان الأمريكيون يحتفلون بقوةِ وسلطةِ ونفوذِ إرسالياتهم في الشرق الأوسط، ولكن هذه البهجة والفرحة لم يشاركهم فيها حكامُ المنطقة. فقد ازدادت شكوى العثمانيِّين من صفاقة البروتستانت، ومن وجود السفن الحربية الأمريكية على سواحلها. ثم وصل التوتر بين الولايات المتحدة والباب العالي إلى ذروته بدءًا من تسعينيات القرن التاسع عشر بسبب الإبادة الجماعية للأرمن.

•••

كان الأرمن من سلالة شعب قديم عاش في المنطقة بين البحر الأسود وبحر قزوين، وبين جبال طوروس وجبال القوقاز، وقد تحوَّلوا إلى المسيحية منذ وقت مبكر، وكانوا رسميًّا تحت الحماية العثمانية، لكنهم كثيرًا ما كان يُضطهَدون كونهم أقليةً تحت الحكم العثماني. وبسبب مستوى تعليمهم العالي ونجاحهم العملي، كانوا فئةً منبوذة من المجتمع، وكان الأتراك يشكُّون في أن ولاءهم يتجه إلى القوى المسيحية، وإلى روسيا بصورة خاصة، وكانوا يتآمرون جميعًا لتفكيك الإمبراطورية العثمانية. واندلعت تراكمات الاضطهاد العثماني والغضب الأرمني أخيرًا في ربيع عام ١٨٩٤، عندما تحركت الجيوش التركية لقمعِ تمرُّد محلي، ولكنها استمرت في هدم قرًى بأكملها وذبحِ كل سكانها. وقال تقرير القنصل الأمريكي في تريزيبوند: «قُتل أي أرمني على مرمى البصر، وسُرقت منازلهم ومتاجرهم. وكانت الجثث ملقاةً في الشوارع، وكلها تشهد بطريقةِ موتها المريعة.» وقد مات نتيجةَ ذلك ٢٠٠٠٠٠ أرمني، وهو ما يعادل ٢٠٪ من السكان ودُمِّر عدد لا يُحصى من المنازل.

وقال العنوان الرئيسي لجريدة «نيويورك تايمز» في سبتمبر عام ١٨٩٥: «هولوكوست أرمني»؛ أي مذبحة أرمنية، مستخدمةً بذلك مصطلحًا أصبح فيما بعدُ مرادفًا للإبادة العِرقية. وقد أجمعت الصحافة الأمريكية على الدعوة إلى تدخُّل سريع لحماية الأرمن و«التخلص من بقعة الغليان هذه في الدولة العثمانية، إن لم يكن بالحل السياسي فباللجوء إلى السلاح». وتبنَّى رجال الدِّين موقفًا موحدًا من قضية الأرمن، مع أن معظمهم كانوا يتبعون الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية. وقالت مجلة «العالم الكاثوليكي»: «لن تمحوَ كل العطور العربية أو تغسل اليد التركية بحيث تجعلنا نحتمل أكثرَ من ذلك قيادتهم زمامَ الأمور في شبر واحد من الأرض المسيحية»، في حين دعا القس دي ويت تالماج «السفن الحربية للقوى الغربية إلى الاقتراب إلى أقرب نقطة ممكنة من قصور القسطنطينية، وتفجير هذه الحكومة الملعونة إلى جزيئات مفتَّتة». وكان الغضب العالمي يوازي غضبَ الحزبين الأمريكيِّين في مجلس النواب؛ فقد طالب نيوتن بلانشارد، النائب الديمقراطي عن لويزيانا، بتدخُّل أمريكي لمحو «هذه البقعة من حضارة هذا العصر». أما زميله النائب الجمهوري عن إلينوي شيلبي كولوم، فقد أعلن أن «شيطان الكراهية والتعصب الملعون قد نشر الخراب والدمار والموت». وفي حملته الرئاسية لعام ١٨٩٦، عدَّ ويليام ماكينلي حمايةَ الأرمن، والاستحواذ على هاواي، وضمان استقلال كوبا عن إسبانيا، ضمن أولويات شئونه الخارجية.13

كان ردُّ الفعل الأمريكي على المذابح الأرمنية — التي كانت الأولى ضمن سلسلة من أعمال العنف التي سرعان ما انتشرت في الشرق الأوسط — له عدة مبرِّرات. فقد كان هناك نفورٌ كامن استشعره الأمريكيون نحو الإسلام، وتعاطف كامن بنفس الدرجة مع المسيحيين المضطهَدين تحت الحكم الإسلامي. وكان الرأي العام في أمريكا يميل أيضًا إلى التعاطف مع الأرمن، الذين عُرف عنهم العمل الجاد والقيم العائلية، وكان يميل إلى النظر إليهم باعتبارهم «أمريكيي الشرق». وأخيرًا، ارتبط الأرمن في ذهن الأمريكيِّين بمدارس الإرساليات التي تخرَّج فيها الكثيرون منهم، والتي كان يُنظر إليها باعتبارها امتدادًا للولايات المتحدة. وكانت بعض هذه المؤسسات قد أُضيرت للغاية خلال المذابح، مما دفع إلى مطالباتٍ بتعويضات ليس فقط للأرمن، بل بنفس القدْر للبروتستانت العاملين فى البلاد.

وصرَّح الخبير البروتستانتي فرديريك ديفيز جرين في دراسته الشهيرة بعنوان «المذابح الأرمنية» أو «سيف محمد» أن «سياسة حكومة الولايات المتحدة تجاه هذه الأزمة العالمية لم تفرِز أيَّ نتائج فيما يتعلَّق بقضايا الإنسانية، وهو أمر مخزٍ من وجهة نظر الشرف القومي، ويُعدُّ أمرًا انتحاريًّا فيما يتعلق بالمصالح الأمريكية». ولعلاج ذلك الفشل، استغل المبشِّرون علاقتهم الجيدة بمجلس النواب الأمريكي وبالرئيس ماكنلي. فقدَّم رئيس كلية روبرت، جورج وشبورن، طلبًا لوزير الخارجية وابن عمِّه، جون هاي، بضرورة مواجهة الأتراك مواجهةً صريحة. في نفس الوقت كان جيمس أنجيل، وهو أبرشاني متزمِّت، عمِل سفيرًا لأمريكا لدى الباب العالي، يحثُّ المجلس التشريعي على الموافقة على اتخاذ خطوات عسكرية ضد تركيا. وأصرَّ على إرسال أسطول من الزوارق الحربية فورًا «لرج نوافذ السلطان».

وأثبتت ضغوط وشبورن وأنجيل قدرتَها على الإقناع؛ ففي ديسمبر عام ١٩٠٠ اتَّجهت السفينة «كنتاكي» نحو تركيا. وبعد مائة عام تمامًا من تأكيد السفينة «جورج واشنطن» عدمَ فعالية أمريكا في الشرق الأوسط من خلال توصيل الإتاوة الجزائرية لتركيا، وصلت السفينة الحديثة «كنتاكي» إلى سميرنا، تحمل أكثرَ من خمسين مدفعًا. وكان ريد بيل كيركلاند، قبطانُ السفينة ذو الوجه الأحمر، قد حذَّر والي سميرنا صراحةً أنه «إذا استمرت تلك المذابح فسأكون ملعونًا إن لم أنسَ التعليمات الموجهة إليَّ (بضبط النفس) … وأجد ذريعةً لتدمير بعض المدن التركية، وسأقتل أيَّ تركي أقابله». ومع أن المترجم حاول تهدئةَ نبرة الخطاب، ووصل الرسالةَ بابتسامة، فإن رسالة كيركلاند كانت قد وصلت. فدفع السلطان ٨٣٠٠٠ دولار تعويضًا للمبشِّرين، وأصدر أمرًا بشراء مدمِّرة أمريكية.14

ومع ذلك فلم تكن العضلات هي الوسيلةَ الوحيدة التي لجأ إليها الأمريكيون للتعبير عن قلقهم واهتمامهم بشأن أرمينيا. فما إنْ وصلت أخبار المذابح إلى أمريكا الشمالية إلا وكانت جمعيات مساندة الضحايا تتكوَّن في كل مدينة رئيسية. ففي بوسطن، أثبتت جوليا وارد هاو، التي كان زوجها قد تطوَّع للقتال في حرب الاستقلال اليونانية عام ١٨٢٥، الذي اشتهر بصفته مؤلفًا للنشيد المفضَّل لدى قوات الاتحاد، أثبتَت قدرتها على جمْع التبرعات التي نظَّمتها جمعية أصدقاء أرمينيا المتحدين. أما الغرفة التجارية في نيويورك فكوَّنت لجنة أرمينيا الوطنية للإغاثة، وهي نخبة كان مساندوها يضمون قاضي المحكمة العليا ديفيد جوسياه برور، ورجل الخير الأمريكي اليهودي جيكوب شيف، ومنفِّذ السكك الحديدية تشوسني ديبيو. وأسهم جون روكفلر بمئات الآلاف من الدولارات لهذا المجهود، في حين تبرَّع آخرون ممن لا يملكون المال الكافي بأغطيةٍ وملاءات وملابس وأغذية. وكانت النساء الأمريكيات نشطاتٍ بصورة خاصة في هذا المجال، تدفعهن تقاريرُ عن اغتصاب آلاف الفتيات الأرمنيات واستعبادهن.

وتدفَّقت المساهمات، ولكن ظلَّت المشكلة هي كيفية توصيلها إلى الضحايا. ولإيجاد حل لتلك المشكلة، لم تتوجَّه لجنة الإغاثة إلى وزارة الخارجية أو إلى الإرساليات ولا حتى إلى البحرية الأمريكية. بل توجَّهت إلى سيدة في الرابعة والسبعين من عمرها، كانت من أكثر السيدات تميزًا في عصرها؛ إنها كلارا بارتون.

وُلدت كلارا بارتون في يوم عيد الميلاد في فترةِ رئاسة جيمس مونرو، وتربَّت في مزرعة بماساتشوستس، لكنها فيما بعدُ عمِلت مدرِّسة في واشنطن. وفي الحرب الأهلية عمِلت في وظيفة أخرى، فكانت تعتني بالجرحى الاتحاديِّين وتشرف على وصول الإمدادات وتوزيع المؤن بين القوات، وعن طريق ذلك حصلت بارتون على وضعٍ أسطوري، وأُطلق عليها «ملاك ساحة المعركة». وبعد الحرب، قامت صداقةٌ بينها وبين فريدريك دوجلاس وسوزان أنتوني، وتعاونت معهما في صراعهما من أجل المساواة بين السود والبِيض وتحسين وضع المرأة وتقليل معاناتها، وتطوَّعت في هيئة الصليب الأحمر الأوروبية الحديثة التكوين. وعادت إلى الولايات المتحدة وكلُّها إصرار على تأسيس فرع وطني لتلك الهيئة، وحقَّقت حُلمها في عام ١٨٨١ بتأسيس الصليب الأحمر الأمريكي.

بعد ذلك بخمسة عشر عامًا كانت كلارا قد تعدَّت سنَّ التقاعد بكثير، فأصبحت امرأة حكيمة ضئيلة الحجم، وكانت ابتسامتها الدائمة تجعل خدودها دائمة البروز. وكثيرًا ما كانت هذه الابتسامة حمايتها الوحيدة عندما كانت تواجه إرهاب البيروقراطية العثمانية. فقد رُفض طلبها بوضع رمز الصليب، فكان عليها أن تعرِض حملتها بوصفها مبادرة خاصة لمساعدة كل رعايا الدولة العثمانية، بصرف النظر عن ملَّتهم. وتمكَّنت من إدارة شئونها من إسطنبول تحت رقابة الجيش. ووعدت وزيرَ الخارجية العثماني ﺑ «لن أقدِّم استشارة ولا نصيحة، ولن أسمح بأي تحرُّك خفي أو سري ضد حكومته. أتوقَّع معاملة بالمثل».

ونجحت بارتون في الحصول على تعاون السلطات التام وفي توجيه سلسلة من البعثات المحمَّلة بالأغذية والأدوية إلى عمق المناطق الأرمنية. ومع أن أعضاء اللجنة الوطنية الأرمينية للإغاثة أظهروا استياءهم من حصول بارتون وحدَها على كل التقدير والثناء، واعترض بعضُ الأمريكيِّين أيضًا على المساعدات التي كانت تقدِّمها للأقليات التركية المضطهَدة في مناطقها، فإنها كوَّنت سُمعة رائعة باعتبارها «أكثر أمثلة الرحمة التي عرفها العالم الحديث كمالًا». وقامت الدولة العثمانية أيضًا بتكريمها بقلادة.

وظلت مساعدات أمريكا للأرمن مجهودًا تعاونيًّا لأعضاء كل الملل والأحزاب، في سابقةٍ لا مثيل لها، جمعت كلَّ الموارد الدينية والسياسية. وقد كانت تمثل استمرار عقود من العناية الأمريكية بأقليات الشرق الأوسط المضطهَدة، ومنها اليهود والبهائيون والمسيحيون الأرثوذكس. وفي حين آمنَ كثير من الأمريكيِّين أن قدرَهم هو السيطرة على قطاعات كبيرة من العالم، أصروا أيضًا على إنقاذ العالم من الاضطهاد والقمع. وأثنى القس سترونج على أمريكا باعتبارها «ممثلة لأكبر الحريات وأنقى أشكال المسيحية وأرقى الحضارات، التي كان قدرها أن تطبع مؤسساتها على الإنسانية جمعاء». وعلى العكس من ذلك أقسمت بارتون «أن تخرق ديكتاتورية الإبقاء على الوضع الحالي» عن طريق تحرير الشعوب المستعبَدة والتخفيف من معاناتها. كانت تفاعلات أمريكا مع الشرق الأوسط تتأرجح بين تلك الدوافع المختلفة — الاستعمارية والإنسانية — أي بين التابعين لمنهج سترونج العسكري والتابعين لمنهج كلارا بارتون الإنساني، وليس هذا في التسعينيات من القرن التاسع عشر فقط، بل على امتداد العقود التالية.15

ويبدو أن هذه العلاقة الديناميكية بين القوة والإقناع في علاقة أمريكا بالمنطقة لم تترك مجالًا لعنصر الخيال. ومع ذلك، فالحقيقة هي أن النزعات الرومانسية استمرت في تلوين نظرة الأمريكيِّين ورؤيتهم للمنطقة، وفي توجيه سلوكهم تجاهها. وبالفعل، كلما كانت نهاية القرن تقترب، كانت الأساطير حول حسية الشرق وعناصر الإثارة فيه تظهر أكثرَ وأكثر في أذهان كثير من الأمريكيين. ولم تدعم هذه الأوهام وتقوى عن طريق قراءة الروايات والمذكرات عن الشرق الأوسط، أو حتى بالسفر والتَّرحال إليه، بل عن طريق زيارة وحيدة لقلب أمريكا في وسط الغرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤