الفصل الخامس عشر

الأساطير الإمبراطورية

كان بإمكان شخصين حديثي الزواج من ستوكتون بكاليفورنيا أو معلِّمة متقاعدة من باترسون بنيوجرسي أثناء زيارتهم شيكاجو في صيف عام ١٨٩٣ مشاهدة أروع مشاهد الأبَّهة والفخامة التي تضاهي ما عُرض في أي زمان على الأمريكيِّين في قارتهم. فعلى امتداد ستة أفدنة مملوءة بالحدائق اليابانية والممرات المائية المحاطة بالأزهار والمطاعم التي تستوعب سبعة آلاف شخص استضاف معرض كولومبيا العالمي ٦٥ ألف عرض. وقد ذكرت مجلة «سينشري» أن أرض المعارض «توهَّجت بحيوية الأفراد الذين مرَّروا شعلة الحضارة عبر المحيط وكان تأثيرهم العاطفي والرومانسي واضحًا على العالم أجمع.»

ومع أن المعرض في ظاهره كان قد أقيم لإحياء الذكرى الأربعمائة لاكتشاف كولومبس للعالم الجديد، إلا أن المعرض كان يحتفل ضمنيًّا بتحوُّل أمريكا من مجتمع زراعي بصورة رئيسية إلى قوة صناعية لها شأنها، كما كان يهدُف أيضًا إلى الترويح عن عدد كبير من العمال ليصرف نظرهم عما أصابهم من جراء ذلك التحول. وكان مخطِّطو المعرض يسعون إلى إضفاء إحساس بقدْر مشترك من الفخر لكل الأمريكيِّين لتبوُّء بلادهم تلك المكانة العالمية. وتلهَّف الأمريكيون على الاحتفال والتسلية والإثارة حيث حضروا زَرافاتٍ ووُحْدانًا إلى شيكاجو، ليس فقط من كاليفورنيا ونيو جرسي، بل أيضًا من ٤٣ ولاية ومقاطعة، ووصل مجموع الحضور ٢٧,٥ مليونًا.

وكان من بين الحضور الزوجان من ستوكتون والمدرِّسة المتقاعدة من باترسون، قدِموا وهم يركبون القطار مثلهم مثل معظم الزائرين، واتجهوا جميعًا شرقًا نحو «المدينة البيضاء» بقاعاتها للفنون الجميلة ومبانيها المائتين، التي كان لا يفوق أطولها سوى عجلة المهندس جورج فيريس التي وصل ارتفاعها إلى ٢٦٤ قدمًا. ومن هناك كان بإمكانهم التجوُّل في سرادقات خُصِّصت لاستعراض التقدُّم في مجالات النقل والتصنيع والكهرباء، في حين عَرضت سرادقات أخرى ثقافات ٢٣ دولة أجنبية وإنجازات السيدات الأمريكيات. وكان الشعور بالنشوة يسري في أجسامهم عند رؤية خريطة الولايات المتحدة المصنوعة بالكامل من المخللات أو لرؤية تمثال فارس نُحت بإبداع من البرقوق.1 وكان بإمكانهم اختلاسُ النظر إلى الصور المتحركة عن طريق الآلة العصرية للصور التلفزيونية التي استحدثها توماس إديسون، والإحساس بالتضاؤل أمام أكبر مدفع في العالم وهو المدفع الذي صنعه كروب ويزن ربع مليون رطل. وبين أن يحدِّقوا، وهم فاغرو الأفواه، في أحدث الاختراعات «الإنسانية» في مجال عقوبة الإعدام؛ أي الكرسي الكهربائي. وكان في حالة استرخاء على ضفاف بحيرة تحفها أشجار الصفصاف أو فوق المنطقة الفسيحة ذات الأعمدة الكلاسيكية المطلَّة على بحيرة ميشيجان، وهم يتناولون وجباتٍ أمريكية خفيفة: بسكويتًا ناشفًا وقِطعًا صغيرة من بسكويت القمح، والهمبورجر والحلوى. ولاحقًا، بعد غروب الشمس، كانوا يحملقون مذهولين؛ حيث أضاء نحو ٢٠٠ ألف مصباح متوهج، تعمل ﺑ ١٢٧ محركًا.

وبدلًا من التوجُّه إلى أرض المعارض، كان بمقدور السائحين التوجُّه شمالًا إلى منتزهٍ ممتد يُدعى «ميدواي بليزانس». وهنا، أشكالٌ من الترفيه العادي بانتظارهم مثل الألعاب الكرنفالية والعروض الغريبة وعروض «وايلد ويست» التي يشارك فيها بافلو بيل كودي، ومحترفة الرماية آن أوكلي، وأكثر من مائتي فارس أمريكي وهندي. وعلى طول «ميدواي»، يوجد أكثر عنصر جذب على الإطلاق. فبتجاوز جولات المناطيد، وعمليات إعادة إنتاج باسيليكا وبلارني كاسل لسانت بيتر، بتجاهل المرشدين والباعة الجائلين، قد يدخل مواطنو كاليفورنيا ونيوجيرسي — وسط شيكاجو — الشرق الأوسط.

هوراشيو من الجزائر

تذكَّر عددٌ من الأمريكيِّين عام ١٨٩٣ بكثير من البهجة والسرور السرادقاتِ المغربية والمصرية في المعرض المئوي بفيلادلفيا قبل ذلك بستة عشر عامًا. وكان كثيرون منهم يرحِّبون بفرصة مشاهدتهما مرة أخرى، وإعادة هذه التجربة المليئة بغموض الشرق. ولكن فيما يخص سول بلوم، الذي كان طفلًا صغيرًا عام ١٨٧٦، لم تنبُع فكرة إحضار الشرق الأوسط إلى أمريكا من معرض فيلادلفيا، بل من جريدة جزائرية تصدر في باريس.

كان أصغرَ ابن من بين ستة أبناء ليهوديَّين أرثوذكسيَّين مهاجرَين من بولندا، وقد ترعرع بلوم في سان فرانسيسكو، لكنه لم يتلقَّ أي تعليم رسمي. وفي سن السابعة بدأ العمل في مصنع للفُرش، لكنه سرعان ما تحول إلى أعمال أخرى، منها الدعاية والإعلان، والعقارات ثم أكثرها إثراء، وهو المسرح. وببلوغه التاسعة عشرة كان قد أصبح رجلًا ثريًّا، فقرر أن يقوم بجولة في أوروبا، وكانت تلك إجازته الأولى منذ بدأ العمل. فزار العاصمة الفرنسية عام ١٨٨٩، وتجوَّل فاغر الفم في المعرض الدولي بها، وكان أكبر المعارض التي أُقيمت على الإطلاق، وبه عروض لعجائب تقنية وطبيعية، ولكن أكثرها تأثيرًا كانت تلك العجائب المفترَض أنها مستوردة من الشرق الأوسط. فقد قلَّد المهندسون الفرنسيون شوارعَ القاهرة تقليدًا دقيقًا — حتى إن المباني دُهنت لتبدوَ قذرة كما هي في الواقع — إضافةً إلى قرية جزائرية شوارعها ضيقة ومتعرِّجة. وامتلأ بلوم إعجابًا. وبعد مرور ستين عامًا قال متذكرًا: «لقد أدركت أن شابًّا طويلًا نحيفًا من العرب ذا موهبة في ابتلاع السيوف عبَّر عن ثقافةٍ كانت عندي أعلى مرتبةً من العُروض التي تقوم بها مجموعة من المزارعين السويسريِّين الجادين، الذين يقضون يومهم في صناعة الجبن والشوكولاتة بالحليب. فالصلابة الروحية للعرض فاقت بكثير قوةَ الإثارة العاطفية التي يبثُّها نسيج من الكنفاه من مرحلةِ ما قبل عصر النهضة.»

وكانت هذه التجربة بمنزلة فرصة، ليس فقط لذهن بلوم، بل أيضًا لحسِّه التجاري. فقال: «كنت أعلم أنه لم يُرَ شيء مثل هؤلاء الراقصين ولاعبي الأكروبات وآكلي الزجاج وبالعي العقارب في النصف الغربي من الكرة الأرضية، وكنت واثقًا بأنه يمكنني أن أحقِّق ثروة بهم ومعهم في الولايات المتحدة.» كان بلوم قصيرَ القامة (خمسة أقدام وست بوصات فقط)، ولم يكن بلوم ضخمَ الجثة، وكانت ابتسامته الواسعة وأنفه الكبير الحجم يبدوان وكأنهما يضغطان على عينيه الضيقتين، كان شخصية مجهولة لدي الفرنسيِّين ويجهل اللغةَ الفرنسية تمامًا؛ لذلك بدا وكأنه لا يمكن أن يحقِّق نجاحًا في باريس في نهاية القرن. ومع ذلك فقد كانت نفس قوة الإقناع التي جعلت منه رجلًا ثريًّا في أمريكا هي التي مكَّنته من احتكار عرض القرية الجزائرية مدةَ سنتين مقابل ألف دولار. وكان هذا العَقد يمنحه حقَّ القيام بجولة عالمية، ولكن بلوم لم تكن لديه النية لاستغلال تلك النقطة. إذ قال: «بقية العالم عليه أن ينتظر حتى آتي بالقرية الجزائرية إلى أمريكا.»

ولكنَّ محاولة حثِّ الفرنسيِّين على نبذِ اتفاقهم مع الجزائريِّين أثبتت أنها أقلُّ صعوبةً لبلوم من إقناع رؤساء معرض شيكاجو الأجلَّاء باستضافتهم. فقد كان منظمو المعرض ينظرون إلى «ميدواي بلايزنس» باعتبارها منتزهًا ثقافيًّا، وليس مقرًّا لإقامة المهرجانات. لذلك منحوا حقَّ تطويره لعالِم في الأعراق البشرية من جامعة هارفارد. ويتذكَّر بلوم: «كان اختيار هذا السيد الشقي … لمنصب إقامة الحفلات والتسلية، يشبه اختيارَ ألبرت أينشتاين مديرًا لسيرك بارنوم وبيلي.» ومع ذلك، فبعد تعيينه مديرًا للمنطقة الترفيهية بالمعرض، كان بلوم يحاول إقناعَ المشرفين أن القرية يمكن أن تُدِرَّ ربحًا وتكون تثقيفية في آنٍ واحد. واستطرد في اقتراحه ألا يقام عرضٌ للجزائريِّين وحدَهم، بل للمصريِّين والمغاربة والتوانسة والسودانيِّين والأتراك أيضًا. كانت ستُعرض جميعها في عرضٍ يُطلَق عليه اسم «العالَم المحمدي» ويكون موقعه وسطَ ميدواي، على مسافة قصيرة من عجلة فيريس.2

وعلى مدى ثمانين عامًا، بدءًا من تعيين موردخاي نوح قنصلًا لأمريكا في تونس وإدوين دي ليون في مصر، ومرورًا بتعيين أوسكار ستراوس وسولومون هيرش سفيرَين لدى الباب العالي، كانت الولايات المتحدة تنظر إلى مواطنيها اليهود باعتبارهم جسرًا طبيعيًّا إلى الشرق الأوسط. والآن، ومع أن دافعه الوحيد كان تجاريًّا، فإن أمريكيًّا يهوديًّا آخرَ كان يؤدي هذا الغرض ويلعب هذا الدور من جديد. وعلى عكس أبناء دينه العاملين بالخارج، لم يكن لبلوم أيُّ اهتمام باستعراض قوة بلاده في الشرق الأوسط، أو بتأمين ممثِّلي العقيدة الأمريكية هناك. بل كان هدفه هو إتاحة عجائب وثقافات الشرق الأوسط لعدد كبير من الأمريكيِّين، مما يمكِّنهم من رؤية أحلامهم ولمسها بأيديهم.

الشرق الأوسط في ميدواي

افتُتح المعرض رسميًّا في الأول من مايو عام ١٨٩٣، وسط ترحيب دولي. وألقى كلمةَ الافتتاح جروفر كليفلاند. وكان كثيرٌ من هياكل المعرض وإنشاءاته لم يُستكمل بعدُ، ولكنَّ الجزء الخاص بالشرق الأوسط في ميدواي كان متخَمًا بالزائرين. ففي القرية الجزائرية، قامت عشرات الشابات من ذوات البشَرة الخمرية المرتديات سراويلَ شفافةً لا تخبئ شيئًا، وصديرياتٍ مزركشةً زاهية، يُنزِلن نقابهن أثناء مروره. وقد علَّق «بلوم» فيما بعدُ قائلًا: «أشكُّ كثيرًا في أنَّ أي شيء شبيه بذلك يمكن أن يُرى في الجزائر، لكنني لم أكن مهتمًّا بتلك التفاهات في ذلك الوقت». ولم تكن أيضًا الأعداد الغفيرة من الزوار الأمريكيِّين الذين جاءوا إلى الموقع مبالين. كانوا غير مبالين بالشرق الأوسط الحقيقي؛ لأن اهتمامهم الأساسي كان تأكيد أوهامهم من الخرافات والأساطير الكامنة في أذهانهم حول تلك المنطقة التي كانت تفرخها «ألف ليلة وليلة»، ورسومات إيرفنج وميلفيل وتوين.

وفي معرض ميدواي بشيكاجو دبَّت الحياة فجأة في تلك الأساطير الخرافية. وكان العروسان القادمان من كاليفورنيا والمدرِّسة المتقاعدة القادمة من نيوجيرسي يقتربون من الحشد ويلمَحون قمم المآذن، والأعلام الحريرية والخيام المتعددة الألوان. ويسمعون القس إيجلستون الفيرجيني، يقول بازدراء وثورة على تلك المشاهد: «دفٌّ صغير ينبعث منه صراخ مخيف (يقال له موسيقى) من فتياتٍ غير أمريكيات.» وسرعان ما كانوا يقابلون مشهدًا مشابهًا للمشهد الأول الذي كان جون ليديارد قد وصفه منذ أكثر مائة عام: شوارع مكتظة بشعوبٍ شرقية ترتدي أزياء مثيرة: عرب وأقباط وأرمن ويهود، وكلهم يثرثرون بألسنة مختلفة. وكان أصحاب المتاجر المرتدون عماماتٍ بيضاء وأحذية مذهبة يبيعون السجاد والسيوف وغيرها من التذكارات «الأصيلة». في حين كانت سيدات لابسات أغطية للرأس يحملن أواني الماء فوق رءوسهن. وكتبت إحدى السائحات مشيرةً إلى نفسها باسم السيدة مارك ستيفنز: «كانت ذكريات قصص الطفولة عن يوسف وإخوته، وابنة فرعون وخادماتها وهن منحنيات على موسى الرضيع تمرُّ أمامنا. وبقليل من الخيال كان حُلمنا عن الشرق يتحقَّق أمام أعيننا.»

وقفت السيدة ستيفنز مشدوهةً منبهرة، ولم يكن لديها أيُّ اهتمام لتقصي عدد الذين جاءوا من الشرق الأوسط بالفعل، وكم عدد الممثلين الذين جيء بهم من جاليات شرق أوسطية في شيكاجو. ولكن جوستاف جوبي، مراسل جريدة «سينشري» لم يكن سهلَ القياد ولا الرضا إلى هذه الدرجة، فأكَّد أنه «في منطقة ميدواي الترفيهية يوجد أكبر مجموعة من الأشياء المزيفة والمقلَّدة في العالم». وقال كوبي إن كل شيء كان مزيفًا وعلى وجه الخصوص تلك الشخصية التي ترتدي ثوبًا خشنًا وتلعب دورَ أعظمِ «صوفي مسلم»، وأنه من دواعي فخري أن ذلك الممثل كان أمريكيًّا.

وكانت بعض العروض تستقدِم بالفعل أفرادًا من الشرق الأوسط؛ فقد جُلب خمسة وستون رجلًا وامرأة وطفلًا من شتى أنحاء المناطق العثمانية لملء السرادق التركي. وكانوا — بالإضافة إلى مجموعةٍ من الأكشاك والمساجد ومنازل صغيرة على الطراز التركي — يساعدون على خلق أجواء شرقية مختلفة تمامًا، ومن خلالها يمكن للأمريكيِّين التجوال فيها والتحديق في السرير الفضي الخاص بالسلطانة، أو مشاهدة عرض «الشرق المتوحش» الذي كان يقدِّمه البدو الذين يرمون الرماح وهم يمتطون الجياد. وكان بإمكانهم التقليب في بضائعَ أكثر من أربعين متجرًا لبيع التذكارات في «البازار الكبير»، أو مشاهدة مسرحية تركية مع ترجمة فورية باللغة الإنجليزية، أو تدخين نارجيلة في المقهى، وهم يحتسون القهوة العربية أو عصير الليمون أو البرتقال.

كان للسرادق التركي، الذي أخرجه يهودي آخرُ هو جوزيف ليفي، شعبيةٌ واسعة. كما كان ذلك أيضًا للقصر البربري بقاعاته ذات المرايات ومتحف الشمع والرعب، والخيمة الفارسية ونموذج قبائل شمال أفريقيا. أما أكثر الأشياء جاذبيةً وإثارةً من كل ذلك فكان نموذج شوارع القاهرة مثل نموذج مدينة باريس. كان هذا نموذجًا مقلَّدًا بدقة، ليس بيد فرنسي، بل بيد مجريٍّ اسمه ماكس هيرتز؛ المهندس الخاص بالخديوي المصري. كان النموذج يظهِر النوافذ ذات المشربيات، ونافورات المياه، وسوقًا بها ستة أماكن للعرض، وتقليدًا لمسجد قايتباي، وبيت جمال الدين الياهبي، وهو تاجرٌ مصري خيالي. وجيء بمصريين حقيقيِّين لتمثيل نماذج من الحياة اليومية: ١٨٠ شخصًا يرتدون ملابسَ الدراويش وصانعي الخيام والشحاذين وقارئي الطالع. وجرى استيراد حمير وكلاب. وبالطبع جرى استيراد جِمال يمكن ركوبها مقابل خمسين سنتًا. وقال أحد راكبي الجِمال: «كانت هذه رحلة ممتعة للأحبة، ورحلة شاقة على ظهور الجِمال من ممتلئي الجسم والمحتشمين.»

أما مَن لم تكن لديه ميولٌ لمثل هذه المغامرات فقد قدَّم نموذج القاهرة له إلى جانب ما سبق معابدَ مصرية مزيَّنة من العصر الفرعوني، ونسخًا من مقابر قديمة، ومومياوات. وكان التأثير المُجمل لكل ذلك ساحرًا للغاية. فقالت السيدة ستيفنز منبهرةً: «كانت القاهرة رائعةً وهي تسبح في أشعة الشمس الذهبية وقتَ الغروب. أما عندما يظهر القمر ويلقي بضوئه الرمادي … على مبانيها العتيقة وأناسها الذين يبدو عليهم سَمت الجِد، فقد كان الزائر يشعر أنه زار مصر بالفعل.»3

كان «العالَم المحمدي» يعرض أيضًا نوعًا آخر من العروض المثيرة للاستياء، وهو نوع طالما ربطه الرجال الغربيون بالشرق الأوسط. فكانت كلٌّ من شوارع القاهرة والقرية الجزائرية مجهَّزتين بمسارحَ فخمة، كان بالخيمة الفارسية قصرٌ للإثارة، كانت فيه نساء يرتدين ما يسمَّى لباسًا شرقيًّا: تنُّورات شفافة ووسط عارٍ ومجموعة كبيرة من الحُلي. وكن يقدِّمن رقصات الثعابين والشمعدانات على قرع الطبول والمزامير. فكتبت السيدة ستيفنز: «هذا الفن الراقص من بلاد النيل يتضمن شدًّا للعضلات، وهو ما يذكِّرنا بقطة تعاني حالةَ مغص»، وتتذكَّر أيضًا راقصةً أغضبها الجمهور … فهدَّدته هو والموسيقيِّين كذلك. ولكن حتى نوبات الغضب التي كان يمثِّلها هؤلاء كانت لا تعني شيئًا بجانب عبث وفُجر الراقصات الشرقيات، أو كما كان بلوم يطلِق عليهن «راقصات هزِّ البطن».

ولأن هذه العروض كانت تجذب الرجال بوجه خاص، فقد انفصل الزوج الكاليفورني عن عروسه التي بدَت شبه فاقدة للوعي، وتركها خارج مسرح هذا العرض مع المدرِّسة الساخطة. وبالداخل كان بإمكان الزوج أن يحدِّق في «عينات ونماذج من الجَمال الشرقي» وهو يتلوى في حركات مثيرة بلا ملابس تقريبًا. وقال أحد المتفرجين بعد مشاهدة «رقصة الحب»، وهي رقصةٌ فردية: «هذه هي العاطفة الحيوانية غير المصقولة للشرق، وليس العاطفة المتعفِّفة للبلدان المسيحية. فكل حركة في جسد الراقصة تمثل شاهدًا على حيوانيتها.» وكان عددٌ قليل من الراقصات هن مَن يضاهين توحُّش فهريد مهزار، سورية المولد، التي أُطلِق عليها مصر الصغيرة، وقد قيل عن رقصتها «الأصيلة» إنها «تحرم الرجل من النوم ليلًا سنواتٍ عديدة». وكان يصاحب هذا العرضَ أغنيةٌ قصيرة يعزف بلوم موسيقاها على البيانو، وقد قلَّدها بعد ذلك ساحرو ثعابين عدة في أفلام الصور المتحركة، وكانت مصر الصغيرة تبهر مشاهديها من الرجال بحركاتها المثيرة. وكما قال أحد المشاهدين لاهثًا:

هي تتلوى وهي ترقص، وترتسم على وجهها ابتسامةٌ حالمة، أما عيناها فنصف مغمضتين، وتظهر أسنانها البيضاء بين شفتين زادهما فن التجميل احمرارًا وامتلاء … حركاتها ثعبانية مبتذلة، وهي تهبط إلى أسفل فأسفل حتى تكاد تلمس أرضيةَ المسرح تتلوى، ونصف وجهها مغطًّى بمنديل يد.

ولكن لم يكن كل المشاهدين على نفس هذه الدرجة من الانبهار. فقد طالب أنتوني كومستوك، مؤسِّس «جمعية قمع الرذيلة» السمين ذو الشوارب بأن يصدِر مجلس النواب قرارًا بحرق كتاب «ألف ليلة وليلة» ومئاتٍ غيره من الكتب «الإباحية». وطالب أيضًا بمنع مثل هذه العروض. وندَّدت العجوز جوليا وارد هاو بالرقص الشرقي باعتباره «رقصة فظيعة ومن أكثر الحركات تشويهًا للبطن». ثم انتهت إلى أنه «غير لائق ولا محترم». ومع ذلك فلم تكن الغالبية العظمى من زائري المعرض يبدون أيَّ اعتراض على مصر الصغيرة، بل فضَّلوا أن يلقوا باللوم على منتقديها المتزمتين. وتساءلت جريدة «شيكاجو تريبيون» ساخرة من هاو «عما إذا كانت اعتراضات السيدات الفاضلات بسبب التعدي على الأخلاق أم بسبب خوفهن من أن تصاب الراقصات بالتهاب في الغشاء البريتوني إذا استمررن في القيام بتلك الحركات المتقلصة والملتوية.»4

•••

وأثبتت سرادقات الشرق الأوسط أنها من أكثرِ العروض جاذبيةً في المعرض، حتى إنها كانت تبيع بمقدار ٦٠٪ من التذاكر أكثرَ من الفقرة التي تليها نجاحًا، وهي عجلة فيريس. فقد سار نحو ٢,٥ مليون شخص في شوارع القاهرة، وقال التقرير الرسمي الأخير إن ٥٠٠٠٠ شخص ركبوا الجِمال. وكانت هذه تجربة ثقافية آمنة للعديد من هؤلاء الزوَّار. فقال نائب نيويورك تشونسي ديبوي: «إن إقامة هذا المعرض منحت زائريه الفرصةَ للاطلاع على أحوال هذه الشعوب البربرية شبه المتحضرة والتعرُّف عليها، من دون المرور بمشكلات ومخاطر ومشاق السفر إلى بلادهم والاتصال المباشر بهم.» وكان «معرض ميدواي نموذجًا لقدس جديدة: ترفع المعنويات وتعالج الروح» لآخرين، مثل السيدة ستيفنز. أما معظم الأمريكيِّين، ومن بينهم المدرِّسة والزوجان، فقد كان لقاؤهم بالشرق الأوسط في شيكاجو ببساطة مبهجًا للغاية. فقال جون هاي، وزير الخارجية الكئيب عادةً، وهو يضحك ضحكة مكتومة: «لقد ضحكنا من قلوبنا، وهذا المعرض يجعل حتى شيكاجو تبدو مملة للغاية.»

لذلك كان لسول بلوم كلُّ الحق في أن يفرح وينتشي. فقال: «كانت الجماهير تتدفَّق، وأصبح لديَّ منجم للذهب.» وبناء على سمعته التي جناها في شيكاجو، انتقل بلوم بعدها بقليل إلى نيويورك، وأصبح نائبًا في مجلس النواب، ولعب عن طريق هذا المنصب دورًا مهمًّا في علاقات أمريكا بالشرق الأوسط. وعندما كان بلوم يعود بذاكرته إلى الوراء كان يندم فقط على أن الرقص الشرقي الذي كان يعتبره «مثالًا للتناغم والانسجام والجمال» قد تدهور فيما بعدُ إلى عرض ساخر، وأسفه الثاني كونه فشل في الاحتفاظ لنفسه بحقوق تأليف ونشر أغنية ساحر الثعابين. وكان يفتقد صحبةَ الجزائري، وهو عملاق أسمر اسمه آرتشي وكان بمنزلة حارسه الشخصي في المعرض.

استمرَّ معرض شيكاجو ستة أشهر فقط، ولكن نموذج بلوم للشرق الأوسط — الذي أطلقت عليه مجلة «سينشري» «عاصمة هارون الرشيد الجديدة» — ظلَّ صداه يتردَّد عقودًا طويلة. وجرى تغيير اسم «رقصة البطن» إلى «هوتشي كوتشي» وزيادة درجة إثارتها، وأصبحت فقرةً ثابتة في العروض المسرحية. وتسبَّبت مصر الصغيرة في كثير من الفضائح الاجتماعية لدى الطبقة الراقية، وإلى ظهور عددٍ من النصَّابين. ورقصت أجيالٌ كاملة من الأمريكيِّين على أنغام «رقصة والتز شوارع القاهرة» وتغنَّت بأغنية «إنها لم ترَ قط شوارعَ القاهرة»، في حين غنَّى الأطفال أغنيةً تقول «سيدات فرنسا لا يرتدين ملابس داخلية»، على نفس النغمة الشرقية التي أعدَّها بلوم. وبتشجيع من نجاح معرض ميدواي أصبحت كلُّ المعارض منذ ذلك التاريخ تتضمَّن سرادقات للشرق الأوسط. وقدَّم سيرك بايلي وبارنوم والإخوة رينجلنج مواكبَ فخمة لها أسماءٌ جذابة مثيرة، مثل: «فارس: أروع عرض شرقي شوهد في أي بلد» و«حجة رومانسية رائعة وشرقية إلى مكة».5 ومن أجل استمرار الأوهام الشرق أوسطية كانت تكفي زيارةٌ واحدة لأي من هذه العروض الجذابة التي كانت تنافس بسهولة أيَّ قراءة لكتاب «ألف ليلة وليلة»، مما عمَّق من انطباع تلك الأساطير في خيال الأمريكيِّين.

•••

ربما يكون أهم إنجازات ميدواي هو تكوين الأساطير، ولكنَّ منظمي المعرض لم ينسوا قط هدفَهم الأساسي التعليمي. فبجانب الترفيه قاموا أيضًا برعاية إلقاء حوالي ٦٠٠٠ محاضرة على نطاق واسع من الموضوعات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والدينية. وشارك فيها معظمُ مشاهير المتحدِّثين والمحاضرين في البلد، منهم القس دي ويت تالماج، وأستاذ شاب من جامعة برينستون هو وودرو ويلسون، الذي تحدَّث عن ضرورة وأهمية الإصلاح الجامعي. وحضَرها أيضًا ويليام بلاكستون، الذي وزَّع مذكرةً لمصلحة إقامة دولة يهودية في فلسطين، بالإضافة إلى أحدثِ مقترحاته لحل النزاعات الدولية عن طريق التحكيم. ودعا مارك توين إلى إلقاء محاضرة عن كتاباته الخيالية، لكنه اضطُر لملازمة الفراش بسبب مرض معوي. ولكنَّ أهم محاضرة في سلسلة المحاضرات تلك كانت محاضرة لا علاقة لها بالتعليم، أو حتى بالخيال أو العقيدة، لكنها كانت تتعلَّق بتوجهات القوة والسلطة الأمريكية.

فقد قال فريدريك جاكسون تيرنر، وهو مؤرِّخ في الثانية والثلاثين من عمره من جامعة هارفارد: «سيكون من الجنون أو التسرُّع أن نؤكد أن السِّمة التوسعية للحياة الأمريكية قد توقَّفت تمامًا.» فالحقيقة أن «الطاقة العصبية التي تؤدي إلى عدم الاستقرار» التي دفعت الأمريكيِّين لغزو حدودهم وما وراءها، و«هذه الخشونة والقوة الممتزجة بالحدة والفضول والرغبة في المعرفة وتعلُّم المزيد» كانت تدفعهم إلى إخضاع مناطقَ أخرى أكبرَ فيما وراء البحار. ومع أن تيرنر كان ضئيل الحجم ويشبه صبيًّا صغيرًا، فإن صوته بدا قويًّا وهو يدعو إلى استعمار مهاجم واضح لا لبس فيه. وكانت هذه الدعوة تسير تمامًا ضد دعوات توين وأعضاء اتحاد منعِ الاستعمار، الذين كانوا يحثون الولايات المتحدة على تمييز نفسِها عن أوروبا الجشعة واتباع سياساتٍ أكثر تنويرًا وإيثارًا. ومع ذلك، فحين كانت البلاد تعبر إلى القرن العشرين وتسعى إلى مدِّ نفوذها في الشرق الأوسط ومناطق أخرى، كان صوت تيرنر، وليس صوت توين، هو المرافق لها. وكان هذا الصوت يقول: «الطاقة والحيوية الأمريكية ستظل تطالب بمساحاتٍ أوسع لممارساتها.»6

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤