الفصل السادس عشر

منطقة أُعيدَ تسميتها وتنظيمها

ظهر مصطلح «الشرق الأوسط» أولَ مرة في طبعة سبتمبر عام ١٩٠٢ من مجلة «ناشونال ريفيو» التي تصدُر في لندن، وكان عنوان المقال هو «الخليج العربي في العلاقات الدولية». وكانت المجلة تصدُر في بريطانيا العظمى، ولكن محرِّرها كان مواطنًا أمريكيًّا من الولايات المتحدة. وبصفته ضابطًا شابًّا على السفينة الأمريكية «إروكوا»، أبحر ألفريد ثاير ميهين عام ١٨٦٧ حول شبه الجزيرة العربية وبهرته استراتيجية المنطقة بصفتها ملتقى طرق بين ثلاث قارات. ولقرون طويلة، كان الغربيون يشيرون إلى البلاد التي كانت تحت حكم المسلمين ما بين فاس وكابول وبغداد وبلجراد باسم المشرق. والآن، بانفتاح اليابان والصين على الغرب وتصاعُد الصراعات الاستعمارية في آسيا والمحيط الهادي، ظهرت الحاجة إلى التفرقة بين الشرق الأدنى والشرق الأقصى من ناحية، وبين الشرق الأدنى وبلغاريا والبلقان ومناطق شبه الجزيرة العربية وفارس والخليج العربي من ناحية أخرى.

لم يلبِّ ميهين فقط تلك الحاجة، لكنه كوَّن أيضًا مفهومًا استراتيجيًّا جديدًا تمامًا. وبدلًا من الوجود على ظهر سفينة، أصبح ميهين يوجد في فصول الدراسة، وأصبح من أعظم المنظِّرين البحريِّين في زمنه. وفي كتابه الكلاسيكي «القوة البحرية والولايات المتحدة» (١٨٩٧)، ركَّز على الصلة بين وضع الدول العظمى والسيطرة على التجارة الدولية عن طريق الأساطيل البحرية الضخمة. وكان ميهين يرى أنه للحفاظ على طرقِ الاتصال والتجارة بين الشرق والغرب، يجب على تلك القوى أن تحكم «عنق الأراضي التي تربط آسيا بأفريقيا، التي تتضمَّن الجزء الآسيوي من تركيا وفارس ومصر والحوض الشرقي للبحر المتوسط»، وهي المنطقة التي أسماها الشرق الأوسط. وكانت الدولة التي ستنجح في السيطرة على الشرق الأوسط هذا: قناته وسواحله ومحطَّات الفحم به، ستفوز بالسباق من أجل الشرق الأقصى الأبعد والأكثر ربحًا، وعلى ذلك ستسيطر على العالم أجمع.1
كانت توصيات ميهين موجَّهة لبريطانيا، التي كانت القوة البحرية المسيطرة في ذلك الحين، لكن كان لها أيضًا مغزًى ومعنى متصاعد للولايات المتحدة. وباقتراب القرن الجديد، كانت أمريكا قد تفوَّقت على أوروبا في استهلاك الطاقة وفي مجموع المخرجات الصناعية، وكانت تتفوق على بريطانيا في التجارة الخارجية. وكان سكانها قد وصل عددهم إلى ٦٤ مليونًا — وكان التالي لعدد سكان روسيا مباشرة — يستخرجون الفحم والحديد والذهب والفضة، ويقطعون الأشجار والخشب أكثرَ من أي دولة أخرى في العالم. وكان إنتاج أمريكا من الصلب أكثرَ من إنتاج بريطانيا وألمانيا مجتمعتين. ولأنه لم يكن لها أيُّ أعداء رئيسيِّين في الخارج، ولأن قادتها كانوا رؤساء يمتلكون سلطاتٍ واسعة في السياسة الخارجية، فقد كان الشعب الأمريكي مهيأ لتحدي أوروبا على الصدارة والأولوية في الشرق الأقصى وفي الشرق الأوسط، الذي كانت حدوده قد وُضِعت حديثًا.2

وكانت إحدى علامات النفوذ الأمريكي المتزايد في المنطقة هي التوسُّع الثابت من حيث الحجم والتنوُّع في التجارة. فكانت الولايات المتحدة التي ختمت القرن العشرين باعتبارها أكبرَ مستهلك لبترول الشرق الأوسط هي نفسها الولايات المتحدة التي كانت عام ١٩٠٠ تمدُّ المنطقة بالكثير من البترول والكيروسين. وليس أقل مفارقةً من ذلك أن الدولة التي اشتهرت يومًا ما بتبغها الجيد قد بدأت في استيراد التبغ التركي لأول نوع أمريكي من السجائر، الذي كانت تزيِّن علبته صورةُ جمل. ومع ذلك فقد فاقت الصادرات الأمريكية للشرق الأوسط وارداتها منه بنسبة ١٤:١. لذا قال القنصل البريطاني في إسطنبول، تشارلز ديكنسن في تقرير له: «تدعو صحف … إنجلترا وألمانيا والنمسا إلى الانتباه إلى حقيقة واقعة، هي أن منافسًا تجاريًّا جديدًا وخطيرًا قد دخل الحلبة»، وأضاف أنه من بين البضائع التي كانت متوافرة في الوكالة الأمريكية الشرقية كان هناك «أثاث مكتبي ومنزلي … وأجهزة كهربائية، وآلات من شتى الأنواع، وآلات طباعة … وكلها معروضة بشكل جذاب للغاية».

وفي الوقت الذي فرضت فيه دواعي نمو النشاط التبشيري وجودًا أكبرَ للبحرية الأمريكية في الشرق الأوسط، تطلَّبت التجارة النامية أيضًا حمايةً أكبر من السفن الحربية الأمريكية. وفي حين كانت السفن الحربية مثل «كنتاكي» و«جورج واشنطن» تقوم بزيارات متفرقة للموانئ العثمانية، كانت سفن الرأس الرخامي وسان فرانسيسكو تجوب سواحلَ شرق البحر المتوسط وتقوم بمراقبتها بصفة دورية. وكما لو كانت تنفِّذ تعليمات ميهين، كانت البحرية الأمريكية قد بدأت في تصنيع ١٦ سفينة حربية كوَّنت في النهاية «الأسطول الأبيض العظيم»، الذي كان أولَّ قوة قتالية أمريكية عالمية.

كانت قوة الأسطول الأبيض العظيم ونفوذه في الشرق الأوسط أمرًا تنبأ به جورج برنارد شو، الكاتب المسرحي الأيرلندي البريطاني؛ ففي مسرحيته الكوميدية باسم «تحوُّل الكابتن براسباوند»، التي كتبها عام ١٨٩٩ وتقع أحداثها في المغرب، قدَّم شو شخصية هاملين كيرني، وهو «أمريكي من الغرب … قوي البنية، تتصارع كل دول العالم القديم في شرايينه». ويطالب كيرني، وهو قبطان بحري، بالإفراج الفوري عن اثنين من الرعايا البريطانيِّين كان يؤمن بأن شيخًا متعصبًا ضد المسيحيِّين قد أخذهما رهينة. ويخبر السلطان بلباقة أنه «ما دام البحث سيكون بالمدافع الرشاشة، فإن العودة الفورية للبريطانيِّين … ستوفِّر الكثير من المتاعب على كل الأطراف». وينجح هذا التهديد، فيُفْرَج فورًا عن الأسيرين. ويختم شو مسرحيته ببعض التأملات في شخصية كيرني: «فالعالم يفكِّر إلى حدٍّ بعيد في مستقبله الذي بين يديه، ويفكِّر بانبهارٍ فيما سيصل إليه في قرن أو اثنين».3

ولم يكن على شو أن ينتظر كلَّ هذه المدة ليقابل تجسيدًا واقعيًّا لشخصية القبطان كيرني. ففي سبتمبر عام ١٩٠١ قام فوضوي مسلح وقاتل محترف باغتيال ويليام ماكينلي. وتولى نائبه المشاكس المولع بالقتال منصبَ رئيس الولايات المتحدة من بعده.

رجلٌ لكل المهن

محب للطبيعة. قائد شجاع. صياد ومزارع. مستكشف مقدام. مؤلف ودقيق الملاحظة، وحماسي. كانت كل تلك الصفات مكتوبة على النُّصْب التذكاري لروزفلت في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي بنيويورك. وكانت بالفعل المهن والاهتمامات والإنجازات التي حقَّقها هذا الرئيس السادس والعشرون للولايات المتحدة تفوق قدرة استيعاب أي شخص طبيعي، فضلًا عن شخص بدأ حياته مدللًا مريضًا. ومع ذلك فمن الممكن إطالة تلك القائمة لتتضمن تسميةً إضافية، هي: خبير بشئون الشرق الأوسط. ويمكن إرجاع هذه الخبرة إلى نوفمبر عام ١٨٧٢، عندما قام الصبي ذو الأربعة عشر عامًا، المبكِّر النضج — الذي كان يُطلق عليه عندئذٍ تيدي — برحلة مع أسرته إلى مصر وسوريا وفلسطين.

ومثل العديد من المسافرين الأمريكيِّين من قبله، انبهر روزفلت بفكرة الشرق الأوسط. فكتب في مذكِّراته عن أول نظرة ألقاها على الساحل المصري: «كم نظرت إليه! هذه هي مصر، بلد أحلامي … بلد كان عريقًا عندما كانت روما في بداية نشأتها، وكان عريقًا عندما جرى احتلال طروادة! كان منظرًا يوقظ ألفَ فكرة في الأذهان، وهو ما حدَث بالفعل.» كان وصف هذا المراهق للإسكندرية يشبه إلى حدٍّ بعيد وصفَ كل الأمريكيِّين الذين زاروا المدينة في القرن التاسع عشر: الفوضى ومواكب الأجناس المختلفة وأزياؤها. وشاهد روزفلت أيضًا «لمحة من الآثار المصرية القديمة التي يعجز أيُّ لسان عن وصفها». فقال: «انتابتني مشاعرُ مختلفة، لكنني لم أقُل شيئًا. فأنت لا تستطيع التعبير عن نفسك في مثل هذه المناسبات.»

وقامت الأسرة بالجولة التقليدية المعتادة على ضفاف النيل، وتقابلت مع رالف والدو إيمرسون وتناولت معه الغداء، وقامت أيضًا بممارسة تقليد أمريكي يقضي بذبحِ ما اصطادوه من النهر. وقام تيدي باصطياد سمكة وحشوها وتحنيطها، وكانت تلك أولَ عينة من مجموعة علمية كبيرة عُرفت قيمتها العالية فيما بعدُ. وظهرت أيضًا قدرته على التفاوض، التي خدمته كثيرًا في حياته الدبلوماسية. فقد أخذ يفاوض البائعين على شراء طيور السمان في السوق. وقال فخورًا: «العرب يتكلمون كثيرًا.» وفيما بعدُ، سار على خطى مارك توين عن طريق عبور سوريا وفلسطين على ظهر حصان. وكما هو متوقَّع من شخص يحضُر مدرسة الأحد بالكنيسة الهولندية الإصلاحية بانتظام، فإن الشاب روزفلت كان متأثرًا إلى حد بعيد بالأماكن المقدسة التي شاهدها، ليس فقط المسيحية منها، ولكن أيضًا بمسجد عمر وحائط المبكى. ولكن — مثل توين أيضًا — وجد روزفلت القدس «مدينة صغيرة للغاية» ونهر الأردن ضيقًا بدرجة مخيِّبة للآمال، «وهو ما نطلق عليه «نُهير» في أمريكا».

وعاد روزفلت من الرحلة مريضًا بالربو، لكنَّ مرضه زاده إصرارًا عن ذي قبل على تقوية جسده وزيادة قوة تحمُّله. وعاد ومعه أيضًا حسٌّ أقوى بالشرق الأوسط امتزج بمرور الوقت باهتماماته بالخرافات والأساطير، بالإضافة إلى أنه لوَّن تفكيره الاستراتيجي. وكشف أيضًا عن جانبٍ عنيف من شخصيته بصفته مساعدًا لوزير البحرية عام ١٨٩٨، قبل التطوع للحرب في كوبا عندما قال: «إسبانيا وتركيا هما القوتان اللتان أتمنى تدميرهما أكثرَ من أي شيء آخر في العالم.»

كان صديقًا لكلٍّ من ألفريد ثاير ميهين والقس جوسياه سترونج. لذلك كان بداخله إيمان شبه صوفي بمميزات القوة البحرية، وكذلك إيمان قوي بحق أمريكا الذي لا يُنازع في استخدام تلك الميزات. فقد كانت الدول في رأيه مثل الأفراد: بعضها ضعيف وبعضها قوي. وكان يقع على عاتق تلك الأخيرة واجب الدفاع عن الضعيفة. وكانت بعض الشعوب البربرية وشبه البربرية غير مؤهَّلة لحماية حقوق الأجانب قُبالة حقوق أبنائها، أو حماية مواطنيها ضد الأجانب، بحيث يكون على الدول «ذات الشرف والاستقامة» واجب حمايتها. لذلك أثنى روزفلت على بريطانيا لأخذها بثأر مقتل جينرال جوردون على يد قوى إسلامية في السودان عام ١٨٩٨، من أجل هزيمة مَن يمارسون «التعصب والطغيان والتشدُّد وعدم التسامح الديني». وكان من رأيه أن الولايات المتحدة عليها واجب التدخل لمصلحة الأرمن وغيرهم من شعوب أوروبا الشرقية المهدَّدة «بسوط الأتراك البغيض».4

وقبل دخول البيت الأبيض، ركَّز روزفلت على أمريكا الجنوبية والشرق الأقصى على وجه الخصوص، مستثنيًا الشرقَ الأوسط من خططه تمامًا. وظلَّت هذه المنطقة من وجهة نظره هامشية بالنسبة إلى المصالح الأمريكية، ومصدرًا لعدد قليل من البضائع ذات القيمة، وحكرًا على النفوذ الأوروبي فقط. ومن المفارقات الغريبة أنه بعد أيام فقط من توليه الرئاسةَ جاء أول اختبار حقيقي لفلسفة روزفلت فيما يخص الشئون الخارجية من الدولة العثمانية، وهو نفس الكيان الذي كان يتطلع إلى تدميره.

فقد علِم روزفلت أن عصاباتٍ بلغارية كانت قد اختطفت مبشِّرة أمريكية هي إيلين ستون ومعها كاترينا تسيلكا، الزوجة الحامل لأحد خريجي المدارس التبشيرية. وكان المختطفون، مع ارتدائهم الزيَّ التركي يتحدَّثون لغة تركية ركيكة، حيث في الحقيقة الأمر كانوا من المحليِّين الذين يحاولون تمويل ثورتهم ضد تركيا. وقد طالبوا الولايات المتحدة بذهبٍ قيمته ١٠٠٠٠٠ دولار، ومنحوا الحكومةَ الأمريكية مهلة مدتها ١٨ يومًا للسداد، متناسين إسهامات أمريكا السابقة في صراع بلغاريا من أجل الاستقلال.

شكَّكت هذه الحادثة روزفلت في حسِّه بالواجب النبيل نحو الشعوب المضطهدة، وأجبرته على التعاون مع العثمانيِّين «غير المتحضرين» ضد البلغار الساعين لحريتهم. ولم يكن في الإمكان القيامُ بأكثر من إعلان أن «شعب الولايات المتحدة غاضب إلى أقصى درجة» بسبب اختطاف السيدتين حتى يتم إطلاق سراحهما. وفكَّر روزفلت في إرسال زوارق حربية إلى المنطقة، أو إنزال قوات عسكرية فيها. لكنَّ ردَّ فعل الشعب الأمريكي لم يكن واضحًا فيما يتعلَّق بتدخل عسكري أمريكي بعد وفاة ماكينلي بوقت قصير لهذه الدرجة. وكان من المحتمل أن يقوم المختطِفون — إذا شعروا بمحاولة لإنقاذ الرهينتين — بقتلهما فورًا. ولم يكن بإمكان الرئيس حتى أن يخصِّص أموالًا لفدية تسيلكا وستون؛ لأن ذلك كان من حق مجلس النواب فقط. ومثلما وجد جورج واشنطن نفسه عام ١٧٩٠ بلا حول ولا قوة لاستعادة الرهائن الأمريكيِّين في الجزائر، كذلك لم يكن أمام روزفلت سوى الانتظار من دون القيام بأي محاولة، وأن يقوم الشعب الأمريكي بجمع تبرُّعات لدفع فدية الرهينتين.

ومن حسن الطالع أن انهمرت التبرعات. فالصورة التي رسمتها الصحافة لستون على أنها فتاة ساذجة بريئة قد أثَّرت في الجمهور، رغم أنها كانت في الحقيقة في أواسط العمر ومملة وتشبه ناظرات المدارس، لكنَّ الأمريكيِّين قدَّموا إسهامات وتبرعات سخية لإنقاذها. واتصل جورج وشبورن، رئيس كلية روبرت كوليدج، بالاتصال بالمختطفين، وأقنعهم بمد المهلة. وجاءت أنباء الإفراج عن الأسيرتين في الأول من مارس ١٩٠٢، وقد صاحبها احتفال صاخب من الأمريكيِّين في جميع أنحاء الولايات المتحدة، ولكن الرئيس كان يغلي ويزبد في داخله. وقال متمتمًا: «ليس من شأن النساء أن يخرجن للتبشير في هذه البلاد الوحشية»، وأقسم ألا يكون مقيَّد اليدين هكذا مرةً أخرى.5

ولم يمر أكثرُ من عام إلا وكان قرار روزفلت هذا يتعرَّض لتحدٍّ ثانٍ، ومرة أخرى كان ذلك في الشرق الأوسط. ففي ٢٧ من أغسطس عام ١٩٠٣ وصلت إلى واشنطن أنباءٌ تفيد اغتيال نائب القنصل الأمريكي في بيروت. وكان الضحية ويليام ماجي ليسين، وهو ابن لمبشِّر من براتسبرج بمينسوتا في الثلاثين من عمره، يقال إنه قد اعترض على الهجمات التركية المتجدِّدة ضد الأرمن والمبشِّرين الأمريكيِّين الذين حاولوا الدفاع عنهم. وعندها لم يتردَّد الرئيس: ففي اليوم التالي أصدر أوامره للسفن الحربية «سان فرانسيسكو» و«بروكلين» و«ماكياس» بالتوجُّه بأقصى سرعة إلى لبنان. وكانت النية هي المطالبة بالاعتقال الفوري لقاتلي الدبلوماسي الأمريكي ومعاقبتهم، ويكون ذلك برهانًا للأمريكيِّين لنفاد صبر الرئيس روزفلت مع الباب العالي. ولكن قبل وصول السفن نمى إلى علم البيت الأبيض أن ماج ليسين حيٌّ يُرزق. فقد كانت رصاصة طائشة قد مرقَت بقرب أذن الدبلوماسي أثناء أحد الأفراح العربية، لكنها لحسن الحظ لم تصبه.

ولكن لم يكن من السهل تهدئة روزفلت. فحتى وإن كان ماج ليسين سالمًا، فإن المبشِّرين كانوا ما زالوا في خطر. وعلى ذلك اتخذت السفن الحربية مواقعها في ميناء بيروت، ووجهت أضواءها الكاشفة على المدينة، وهدَّدت بفرض حصار عليها حتى يضمن الأتراك سلامةَ كلِّ المبشِّرين الأمريكيِّين العاملين في سوريا. وجرى تسليح ٥٠٠ من مشاة البحرية الأمريكية وإعدادهم للنزول إلى بيروت، تحسبًا لإمكانية رفض الباب العالي تلك المطالب.

وعندما علِم شكيب بك، السفير العثماني في واشنطن، بأنباء الهجوم الوشيك، دخل هائجًا دون استئذان على مكتب وزير الخارجية هاي. وتساءل معترضًا: «لقد سمحنا للمبشِّرين بحرياتٍ عديدة في بلادنا، فماذا كانت النتيجة؟» فبدلًا من التعبير عن شكرها وامتنانها، كانت الإرساليات قد خطَّطت «لمحو بلاده من خريطة العالم»، عن طريق تشجيع الأرمن على الثورة. وتساءل الدبلوماسي: «لنفترض أني أسَّست … مدرسة للأمريكيِّين الزنوج، فهل يقول المعلِّمون لهم … إنهم يجب ألا يُذعِنوا للإعدام شنقًا من دون محاكمة وأن يثوروا على تلك الأوضاع؟ هل تعتقد أنني سأبقى طويلًا في ذلك البلد أو أن مدرستي ستزدهر؟»

وفشِلت اعتراضات شكيب في إقناع روزفلت بالعدول عن خطته. فاستقرت السفن الحربية الأمريكية عدة أسابيع قرب بيروت، وفي الأعوام التالية كانت تعود إلى الشرق الأوسط، وإلى سميرنا بالتحديد. وأصدر الرئيس إليها تعليماتٍ بالبقاء في حالة تأهُّب مستمر على السواحل التركية، تذكرةً بالتزام أمريكا بحماية كل المواطنين المقيمين في الشرق الأوسط.6

ومع أن قضيتَي ستون وماج ليسين كانتا تُقلِقان روزفلت، فإنهما كانتا تمثِّلان مجرَّد تحدٍّ رهيب لهيبته في المنطقة، وفرصة لممارسة دبلوماسيته المبنية على أساس المواجهة بالسفن الحربية. وقد بدأت هذه المأساة في طنجة مساء يوم ١٨ من مايو عام ١٩٠٤، عندما هجمت عصابة من مائتين من رجال القبائل المسلَّحين على منزل رجل الأعمال البهيج ابن الأربع والستين عامًا، أيون بيرديكاريس، ونهبته. وقد وصفه القنصل الأمريكي بأنه «أشهر مواطن أمريكي في المدينة». ضرب المهاجمون خَدَم بيرديكاريس وأخذوه عَنوة هو وابن زوجته، ثم اصطحبوهما على ظهر الجياد في الطريق الوعر إلى جبال ريف رهائنَ. وقد أصبحا من ساعتها سجينين لرئيس قبيلة بربري مهيب وإن كان ضئيل الحجم، وهو المعروف في المنطقة باسم محمد رسول الله. وقد عُرف في الولايات المتحدة اختصارًا ﺑ «النبي محمد».

وقد أقسم رايسولي «بكل مقدَّساتنا» أن أسيريه لن يمسَّهما أيُّ ضرر إذا أحجما عن محاولات الهرب، وقال رايسولي لسجينه بيرديكاريس إنه لا يستهدف الولايات المتحدة، ولكن يطلب العدالة من سلطان المغرب عبد العزيز، الذي كان قد اضطَّهد قبائل جبال ريف فتراتٍ طويلة. وكان رايسولي يرغب في وضع نهاية لذلك السلب والنهب، إضافةً إلى رغبته في الحصول على تعويض عن الانتهاكات السابقة، في شكل فدية كبيرة. وكما هو متوقَّع رفض السلطان تلك المطالب، مما أجبر رايسولي على تعديل موقفه. فصرَّح بأنه لن يُفرج عن بيرديكاريس حتى تطالب واشنطن المغرب بتحقيق تلك المطالب.

كان وزير الخارجية جون هاي مشهورًا بشجاعته في معالجة ثورة الملاكمين التي وقعت في الصين عام ١٩٠٠، ومطالبته «بباب مفتوح» للتجارة الأمريكية في الشرق الأقصى، لكنه لم يكن يمتلك صبرًا كافيًا لرايسولي. فقد رفض شروط رئيس القبيلة واصفًا إياها بكلمة واحدة بأنها: «منافية للعقل»، ثم أصدر تعليماته للقنصل الأمريكي في طنجة بتجنُّب «كلِّ ما من شأنه أن يُعدَّ … تشجيعًا على الابتزاز». وأصرَّ روزفلت أيضًا على أن الولايات المتحدة «لن تنزل عند مطالب هؤلاء اللصوص المغاربة»، ودعا بريطانيا وفرنسا إلى الانضمام إليه في تحالف مسلَّح لتحرير بيرديكاريس. ولكن البريطانيِّين والفرنسيِّين رفضوا عرضه، بل اتخذ الفرنسيون خطوةً إضافية بتقوية دفاعات طنجة ضد أي هجوم أمريكي محتمل.

زمجر روزفلت وهو مفعم بالغضب قائلًا: «كنت أفضِّل أن أكون رئيسًا حقيقيًّا مدة ثلاث سنوات ونصف السنة، عن أن أكون رئيسًا صوريًّا مدة سبع سنوات ونصف السنة.» ولكنه اضطُر إلى تخفيف حدة هذا الكلام المفعم بالعظمة عندما علِم أن بيرديكاريس غادر الولايات المتحدة في أثناء الحرب الأهلية، هربًا من الخدمة العسكرية، ولم يَعُد — حتى — مواطنًا أمريكيًّا. كما أن صدى نشر هذه الواقعة سيُضعف موقفَ روزفلت أمام رايسولي، ويصيبه بالحرج في عامٍ تُجرى فيه الانتخابات. ومثل هذا المأزق كان يمكنه أن يردعَ أو يخيف أيَّ رئيس آخر غير روزفلت، لكنَّ ردَّ فعل روزفلت تمثل في إصدار أوامره إلى قوة مهمات مكوَّنة من سبع سفن حربية بالتوجه فورًا إلى سواحل المغرب.

وفي صباح ٣٠ من مايو ظهرت المقدِّمة البيضاء للسفينة الحربية «بروكلين»، وشوهدت السفينة عند السواحل المغربية قرب طنجة. وسرعان ما نزلت فرقة من مشاة البحرية الأمريكية في الميناء لحراسة القنصلية الأمريكية، في حين استعد ١٢٠٠٠ جندي آخر لاحتلال طنجة، إذا تطلب الأمر. وللمرة الرابعة في أقل من قرن (في حروب البربر، وفي الحرب الأهلية، وفي غزو بريطانيا لمصر) كانت القوات الأمريكية تتدخل في الشرق الأوسط. ولكن هذا التحرك كان مجرد تحذير، كما أوضح روزفلت للسلطان في برقية قائلًا:

يرغب الرئيس في القيام بكلِّ ما من شأنه أن يضمن إطلاق سراح بيرديكاريس. ويرغب في أن يكون مفهومًا بوضوح تام أنه إذا قُتل بيرديكاريس فإن هذه الحكومة ستطالب بالقصاص من قاتله.

نريد بيرديكاريس حيًّا أو رايسولي ميتًا.

ومن مدينة واشنطن التي ليس بيدها زمام هذا الموضوع، تحوَّل روزفلت إلى جيفرسون نشط سعيًا وراء «موقف مستقل وحاسم» تجاه الشرق الأوسط. وعلى ذلك أذعنت حكومة المغرب لضغوط روزفلت، ودفعت لرايسولي الفديةَ التي كان يطالب بها. وفي ٢٣ من يونيو أُطلِق سراح بيرديكاريس. ولم يُصَب الأسير بيرديكاريس بأي أذًى فيما عدا عظمة فخذ تحرَّكت من مكانها عندما وقع من فوق فرسه، بل إنه أثنى على مختطفه ومدحه، واصفًا إياه بأنه «أحد أكثر الشخصيات التي قابلتها جاذبيةً وإثارة للاهتمام». ولكن إعجابه الشديد كان موجهًا للبلد الذي كان قد فارقه بمحض إرادته، و«لهذا العلم وهذا الشعب، وهذا الرئيس الواقف وراء تلك البوارج على بُعد آلاف الأميال، الذي خلَّصني من ذلك».7

كانت ملحمة تدخُّل روزفلت في المغرب، مكتظة بصور فرسان يحملون سيوفًا معقوفة حادة، وأسرى لا حول لهم ولا قوة، وقوات مشاة البحرية الذين يُهرعون إلى إنقاذهم قد أثارت مرةً أخرى خيال الأمريكيِّين حول الشرق الأوسط، ملهمةً عددًا من الكتب الرومانسية، وبعد ذلك بسنين عديدة، فيلمًا في هوليوود. ولكن بالإضافة إلى إثارة وتغذية الخيالات في أمريكا، لطَّفت هذه الواقعة من الانطباع الدولي عن القوة الأمريكية. ومع أن بعض منتقدي روزفلت في الولايات المتحدة قد ادعوا أن الإدارة الأمريكية قد بالغت في إنفاقها على البحرية وفي إظهار قوَّتها عبر البحار، فإن الرئيس ظل على عناده وإصراره. وتساءل: «هل يعترضون على أن السفن الحربية الأمريكية ظهرت في الوقت المناسب في ميناء بيروت أثناء محاولة اغتيال موظف أمريكي رسمي، أم يعترضون على ظهورها في ميناء طنجة عند اختطاف مواطن أمريكي، وأنه في الحالتين جرى تصحيح الوضع ومعالجة الخطأ؟» وأضاف: «هل اعترضوا عندما تبِع زيارةَ سرب أمريكي لسميرنا الحصولُ على الامتيازات التي طال انتظارُنا لها فيما يخص المبشِّرين الأمريكيِّين في تركيا؟»

ومنح الشرق الأوسط روزفلت فرصةً أخرى للرد على منتقديه، وكان ذلك أيضًا في المغرب؛ حيث قامت منافسة حامية الوطيس بين ألمانيا وفرنسا، جرَّت معها أوروبا كلَّها إلى حرب شعواء. وقد أرادت الولايات المتحدة أن تبقى على الحياد، وأعلنت ذلك بالفعل. ولكن روزفلت، الذي كان قد فاز لتوه بجائزة نوبل بسبب وساطته في الحرب الروسية اليابانية، كان يؤمن بأنه يمكنه القيامُ بدور حمامة السلام مرة أخرى بين فرنسا وألمانيا. لذلك أصبحت الولايات المتحدة، التي لم تكن قد شاركت قبل ذلك في مؤتمرات للدول الكبرى حول الشرق الأوسط، أصبحت ترعى وتشارك في المناقشات الدائرة حول المغرب، التي عُقد اجتماع بشأنها في الجزيرة الخضراء بإسبانيا في يناير عام ١٩٠٦.

وكانت التعليمات التي صدرت للمبعوثين الأمريكيِّين في المحادثات محدَّدة ودقيقة للغاية: ألا «ينحازوا إلى جانب دون الآخر»، وأن يظلوا «في مقاعد المتفرجين المتابعين» فقط، وألا يظهِروا «أيَّ اهتمام أكثر من رغبة طيبة في أن يسود السلام العالم». ولكن روزفلت ناور ببراعة من وراء الكواليس. ومع أنه كان شخصيًّا يحب القيصر الألماني المهرج فيلهيلم الثاني، فإن الرئيس روزفلت عمل على تقديم مصالح بريطانيا وفرنسا، التي شعر أنها أقرب لمصالح الولايات المتحدة. فكانت النتيجة العمل على منح فرنسا وإسبانيا الحقَّ في تنظيم أحوال المغرب ومراقبتها معًا، لكنه استثنى برلين تمامًا. وشرح روزفلت ذلك قائلًا «إنه سيكون من المفيد للغاية ولمصلحة شعب المغرب إذا تحمَّلت فرنسا مسئوليته وقامت نحوه بما قامت به نحو شعب الجزائر.» ولكنَّ الحقيقة هي أن الرئيس كان له مآربُ أخرى أكثر من مصالح المغرب. فأثناء مناقشة اتفاق متعدِّد الأطراف في الجزيرة الخضراء، قام الرئيس أيضًا بضمان مصالح بلاده التقليدية في المنطقة، ومنها حماية يهود شمال أفريقيا من الاضطهاد، وكذلك ضمان حماية التجار الأمريكيِّين من القيود والمصروفات الجائرة الظالمة.

وفي الجزيرة الخضراء، اتخذ روزفلت أولَ خطوة نحو إشراك الولايات المتحدة في المسألة الشرقية. وظلَّت المبادئ التي أكَّد عليها في المؤتمر: مساندة التحالف الفرنسي البريطاني، والحفاظ على حقوق الأقليات وحرية التجارة الأمريكية، ظلَّت هي أحجار الزاوية للدبلوماسية الأمريكية في المنطقة في الخمسين سنة التالية. وقد أثبت روزفلت أن الأمريكيِّين لم يقوموا فقط باختراع اسم «الشرق الأوسط»، بل لعبوا أيضًا دورًا بالغَ الأهمية في إعادة تشكيل المنطقة سياسيًّا وجغرافيًّا.8

تضاربٌ متكرر

كان وضع أمريكا بصفتها قوةً كبرى أمرًا شبه معترَف به دوليًّا عند نهاية رئاسة روزفلت، وقد احتفل به الأسطول الأبيض العظيم برحلة حول العالم طولها ٤٥٠٠٠ ميل. إذ قامت ٢١ سفينة على متنها ١٤٠٠٠ بحَّار بعبور بحر العرب وانحرفت إلى خليج السويس. وكانت تلك أكبرَ قوة أمريكية دخلت الشرقَ الأوسط على الإطلاق. وكان أيضًا أكبرَ أسطول يعبر قناة السويس، مغلقًا هذا المجرى المائي أمام مرور أي سفينة أخرى في الأيام الثلاثة الأولى من عام ١٩٠٩. وفي حين كانت السفن تتزوَّد بالفحم في بورسعيد، كان البحَّارة يذهبون في إجازة إلى القاهرة، يرتدون فيها الطرابيشَ الحُمر، ويلتقطون صورًا بعضهم لبعض أمام الأهرامات (انظر غلاف الكتاب). وكانوا يتجوَّلون في الأسواق على ظهور الحمير. وقال أحدهم باستمتاع: «لقد منحنا القاهرة هزةً عنيفة، لم تشهدها منذ زمن بعيد.» ولكن بحَّارة آخرين لم يستمتعوا بهذا القدْر. قال أحدهم: «كان الشحاذون والحمَّالون والمرشدون والمحتالون النصَّابون من كل جنسية تحت الشمس … يحتشدون حولنا: رجال سود وبيض وسُمر وصفر، يرتدي بعضهم أثوابًا طويلة هفهافة وبعضهم يكاد يكون عريانًا تمامًا، وكلهم يفرضون أنفسهم علينا، وقد سمعوا — بلا ريب — عن الأمريكي السهل المنال.» وقد انتهى أولُ ظهور للأسطول في الشرق الأوسط بصورة ودية، عندما عمِل مئات الأمريكيِّين والعرب جنبًا إلى جنب لاستخراج السفينة «جورجيا» التي جنحت في طين قناة السويس.9

بعد عام واحد من مرور الأسطول الأبيض العظيم بمصر زارها روزفلت شخصيًّا. وعبْر أربعة عقود كاملة، منذ زيارته الأخيرة، كانت بلاد النيل قد تغيَّرت تمامًا. فالاحتلال العسكري المحدود، الذي قالت عنه بريطانيا في يوم من الأيام إنه مؤقت، كان قد توسَّع وامتدَّ وأصبح احتلالًا دائمًا، تعترف به اتفاقية مع الفرنسيِّين، ويتخلل كل زاوية من زوايا حياةِ المصريين. ولكنَّ هذا الاحتلال كان أيضًا قد أشعل نيران الحركة الوطنية المصرية، التي كانت قد ازدهرت منذ زمن عرابي، وتحوَّلت إلى حركةٍ شملت البلاد كلَّها: الضباط والطلاب والمثقفين والمفكِّرين والزعماء الدينيِّين. وكانت المظاهرات تطالب بالاستقلال الفوري لمصر، ولذلك كثيرًا ما كانت تحدُث صِدامات بينها وبين القوات البريطانية. وصلت تلك الصِّدامات إلى قمَّتها في ٢١ من فبراير عام ١٩١٠، عندما قتل أحدُ المسلمين رئيسَ الوزراء المصري القبطي بطرس غالي، وهو جَد السكرتير العام للأمم المتحدة فيما بعد. وبعدها بخمسة أشهر وصل تيودور روزفلت إلى مصر.

ومع أنه لم يَعُد رئيسًا، فإنه كان لا يزال يجذب أفواجًا من البشَر التواقين لسماع آرائه وأفكاره عن الأخلاق والشئون الدولية. ولكن تلك الآراء أصابت المصريِّين بخيبة أمل كبيرة. فقد شدَّد روزفلت على حاجة مصر لتبني مبادئ الديمقراطية والعمل الجاد والسوق الحرة، لكنه تنبأ أيضًا بأن الأمر «سيتطلب سنوات — وربما أجيالًا كاملة — قبل أن تتمكَّن مصر من الحكم الذاتي». ونصح طلاب الجامعة بالتعاون مع السلطات البريطانية، ونصح ضباط الجيش بالبقاء بعيدًا عن السياسة تمامًا. وحذَّر روزفلت من أنه في حالة مغادرة بريطانيا للأراضي المصرية، فإن النساء سيُحرمن من حقوقهن الأساسية، وسيُغتال المزيد من الأقباط. وقال لجورج أوتو تريفيليان، رجل الدولة البريطاني، وهو أيضًا مؤرِّخ للثورة الأمريكية: «الكثيرون من قادة الحركة الوطنية يثيرون صخبًا، لكنهم في الحقيقة عاطفيون فقط وضعفاء … ولا يمكن الاعتماد عليهم.» وأكَّد أن الغرب ليس لديه ما يخشاه من هؤلاء «الشرقيِّين اللابسي الزيِّ الأوروبي»، لكنَّ الخوف كله من أتباعهم من «الجماهير المسلمة … الملتزمة بطرد الأجانب، ونهب وقتل الأقباط، والعودة إلى العنف والفساد الذي تفشَّى تحت الحكم الإسلامي ذي الطابع القديم».

وفي الأغلب لم يكن روزفلت واعيًا لحقيقة أن الكثيرين من «هؤلاء القادة الوطنيِّين الصاخبين» كانوا قد تلقَّوا تعليمهم في الكلية السورية البروتستانتية في بيروت، وأن بعض كبار ضباط الجيش المصري درسوا في مدارس وكلياتٍ أسَّسها المحاربون القدامى المشاركون في الحرب الأهلية الأمريكية. وكان التوق للحرية الذي يعبِّرون عنه — ولو جزئيًّا — من صُنع الولايات المتحدة. وقد تجمَّع المئات من هؤلاء الوطنيِّين خارج الفندق الذي كان يقيم فيه الرئيس الأمريكي السابق للقيام بأول مظاهرة ضد للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وصاحوا: «يسقط روزفلت، يسقط الاحتلال.» وهاجم رئيسُ التحرير الأزهريُّ المحترم الشيخ علي يوسف روزفلت بسبب طعنه في قدرة مصر واستعدادها للحكم الذاتي، وبسبب ثنائه على القوة التي تمنع مصر من إثبات ذاتها. وتنبأ بأن مثل هذه الوقاحات سيتردد صداها في شتى أنحاء المنطقة وما وراءها؛ «لأنه عندما تُهان مصر، يستشعر كل مسلم على وجه الأرض هذه الإهانة». وعلى عكس روزفلت، تذكَّر الشيخ علي يوسف إسهامات أمريكا من أجل حرية الشرق الأوسط. وقال: «نحن نؤمن أن الأمريكيِّين لا يزالون … أصدقاء للحرية. أصدقاء الشعوب المحكومة على غير رغبتها.»

ولكنَّ مثل تلك العِظة لم يكن لها تأثيرٌ يُذكر على القائد الذي كان قد رفض أن ينصاع لرايسولي أو السلطان العثماني أو القيصر الألماني. استعاد روزفلت رحلةَ طفولته على ضفاف النيل، وأصرَّ على الثناء على «الذكاء والقدرة والحس العالي بالواجب» الذي كان البريطانيون عن طريقه يسعون إلى «التقريب بين القرن السابع (الذي يعيش فيه المصريون) والقرن العشرين الحالي». وأضاف أن هذه «المهمة الشاقة كانت أمرًا مشرفًا وساميًا لا تستطيع القيام به سوى دولة قوية وعظيمة». ومع ذلك فقد تساءل عما إذا كان بإمكان البريطانيِّين في مصر أو الفرنسيِّين في شمال أفريقيا أن يحقِّقوا في نهاية المطاف نجاحًا في مهمتهم. حتى إنه تخيَّل أنه بإمكان الولايات المتحدة القيام بتلك المهمة، في حالة فشل البريطانيِّين فيها. فقال: «سنعمل على تسيير الأمور بدقة متناهية ونظام.» ففي ذهن روزفلت كان التضارب الذي أبداه بعض الأمريكيِّين تجاه الغزوات الغربية للشرق الأوسط — بل وأيضًا تجاه الاستعمار عامة — قد تلاشى».10

•••

في تلك الأثناء كان الدافع الاستعماري يزدهر في ذهن الأوروبيِّين. ففي أكتوبر عام ١٩١١ غزت القوات الإيطالية طرابلس ودارنا، بادئةً حملة دموية استمرت عشرين عامًا لإخضاع ليبيا. وفي العام التالي استغلت فرنسا الامتيازات التي حصلت عليها بمساعدة روزفلت في الجزيرة الخضراء، وقامت بالسيطرة على المغرب. وأصبح الشرق الأوسط بأكمله، من المحيط الأطلسي إلى قناة السويس، تحت الاحتلال الأجنبي، في حين كانت عدة قوى تتنافس على السيطرة على سوريا وفلسطين والخليج العربي. وكانت ألمانيا قد حقَّقت اختراقًا في الخفاء، لكنه عميق، عن طريق تقديم أسلحة ومستشارين حربيِّين للجيش التركي، ووضع نظم للسكك الحديدية عبْر الدولة العثمانية لنقل القوات الحربية والجيوش. وكان الشرق الأوسط — حسب تعريف ميهين — قد أصبح معترفًا به كيانًا قائمًا بذاته ومنطقة متميزة، لا ترتبط دولها وشعوبها جغرافيًّا فقط، بل عن طريق سِمات مشتركة تتعلَّق بالدِّين واللغة والثقافة. وبالإضافة إلى كل ذلك، أصبح يربط بينها رباطٌ من المستعمرات والمحميات والوصايات، وكلها ترزح تحت الحكم الأوروبي.

ومع أن الولايات المتحدة كانت الآن قوةً عظمى قائمة بذاتها، فإنها كانت تنظر لمعظم تلك الأحداث بتباعدٍ يقترب من اللامبالاة وعدم الاهتمام. كانت إدارة الرئيس ويليام هوارد تافت أكثرَ اهتمامًا بوضع أمريكا في الشرق الأقصى وأمريكا الجنوبية من اهتمامها بالاحتلال الغاصب لليبيا والمغرب، وكانت أكثر تركيزًا على التجارة الخارجية، من الانشغال والقلق بشأن المحور التركي الألماني. وفي حين رحَّبت واشنطن بالانقلاب الناجح الذي قامت به مجموعةٌ من شباب الأتراك العصريِّين عام ١٩٠٨، وبالصراع من أجل الإصلاح الدستوري في إيران، فإن حماستها من أجل هذه التطورات لم تكن انعكاسًا لتعاطفها، بل تعبيرًا عن أملها في تحسين التجارة. وبالفعل، فعندما التمست الدولة العثمانية مساعدةَ تافت في متابعةِ ما قام به روزفلت من المساعدة في حل الخلافات التي حرَمتها من ٤٠٠ ألف ميل مربع من إمبراطوريتها، أقسم الرئيس الممتلئ الجسم الرابط الجأش أن يحتفظ بموقف «حيادٍ تام وعدم اهتمام سياسي تام». وقد رفض مجلس النواب حتى تخصيص تمويل لبناء سفارة أمريكية رسمية في إسطنبول. وقام السفير جون ليشمان شخصيًّا بتمويل المشروع، وتلقَّى تعويضًا عنه فقط بعد أن هزم المتحدث باسم مجلس النواب جوزيف كانون على مائدة القمار.

وكان تحوُّل أمريكا نحو الانعزالية في مواقفها تجاه الشرق الأوسط قد تجسَّد عام ١٩٠٩، عندما كوَّنت وزارة الخارجية قطاعَ شئون الشرق الأدنى. ومع أن المتعلمين في المنطقة كانوا قد بدءوا في الإشارة إلى أنفسهم باسم «الشرق أوسطيِّين»، فإن الدبلوماسيِّين الأمريكيِّين أصروا على الاحتفاظ بالاسم التقليدي للمنطقة، وضموا إليها اليونان وإيطاليا والحبشة والبلقان ضمن حدودها. وبالإضافة إلى ذلك، لم يكن بإمكان أي من موظفي قطاع شئون الشرق الأدنى التحدُّث بإحدى لغاته، أو رسم خريطة معاصرة للمنطقة. وبدلًا من التوصية بسياساتٍ لمخاطبة التقلبات العنيفة التي هزَّت الدولة العثمانية، قام القطاع بمراقبة المصالح الخاصة برجال الكنيسة ورجال الأعمال الأمريكيِّين. وبناءً على طلب مجموعة من المستثمرين الأمريكيِّين، استطلع القِطاع إمكانية شراء تل الغبطة الطوباوية، في قِطاع الجليل الفلسطيني، وهو مسرح عِظة المسيح على الجبل.

والحقيقة أن بعض الأفراد الأمريكيِّين كانوا بالفعل يسعون إلى تفاعلٍ أكبرَ مع الشرق الأوسط، ولكنَّ محاولاتهم تلك أُحبطت من قِبل أوروبا. وكانت العطاءات المقدَّمة من الشركة العثمانية الأمريكية، التي كُوِّنَت عام ١٩١٣ بغرض بناء سكك حديدية عبْر سوريا والأناضول، قد سُحقت من قِبل المستشارين الألمان للسلطان. وبنفس الطريقة، عمل الروس على طرد محامٍ أمريكي شاب مثالي اسمه مورجان شوستر، كان قد حاول إصلاحَ النظام السياسي الفارسي. وصاح موظف روسي بعد طردِ شوستر: «لقد كان مجيء الأمريكيِّين إلى هذا البلد خطأ كبيرًا. أنا أعرف ما يؤمنون به، ولن يتلاءموا مع الوضع هنا أبدًا.» ولم يتخذ البيت الأبيض ولا وزارة الخارجية أيَّ إجراءات لحماية هذه المبادرات أو للاعتراض على الإلغاء. وخلَص مساعد وزير الخارجية فرنسيس هنتنجتون ويلسون إلى أنه «سيكون من الجنون إثارةُ حَنَق أي حكومة بسبب المسألة الفارسية»، رغم أن التردُّد في التدخل كان نموذجًا لموقف أمريكا من الشرق الأوسط عامة. فقال: «إنه ليس مكانًا نضيِّع فيه ذخيرتنا.»11

ومرَّت أكثر من ثلاثين سنة منذ فجر شهر يونيو عندما ظهرت ملامح لسفن حربية بريطانية قرب السواحل المصرية. وفي تلك الفترة، كان الأمريكيون يناقشون مزايا ومثالب الاستعمار؛ فوائده الروحية والمادية مقابل مثالبه الأخلاقية. ومع أن معظمهم استمر — مثل روزفلت — في دعم الاستعمار واعتباره شرعيًّا، إن لم يكن فرضًا دينيًّا، فإن آخرين أخذوا جانبَ مارك توين في التنديدِ بسياسة الاستعمار لأنها لا تعبِّر عن الروح الأمريكية، وأمرٌ سيئ السُّمعة. وكان يمكن لهذا الجدل أن يستمر بلا نهاية لولا تدخُّل الأحداث العالمية. فمع اتجاه العالم نحو الحرب، تعيَّن على الأمريكيِّين مرة أخرى أن يتدخلوا في الشرق الأوسط للاختيار بين ولائهم للغرب أو تعاطفهم مع الشعوب المحلية، وبين البروتستانتية والعقلانية، وبين الصهيونية والقومية العربية. وحين هبطت كارثة عظيمة على المنطقة، تضاربت الآراء الأمريكية مرةً أخرى مع مقتضيات السلطة والقوة، وكُسِف الخيال تمامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤