الفصل السابع عشر

متابعون للكارثة

كتب المؤلف الروائي فيليب روث: «التاريخ هو حيث يؤرَّخ كلُّ شيء غير متوقَّع في زمانه في صفحة باعتباره أمرًا حتميًّا.» وقد تنبأ عدد قليل من المراقبين في صيف ١٩١٤ بأن إعلان إمبراطورية النمسا والمجر للحرب على صربيا سيؤدي إلى إشعال سلسلة من ردود الفعل الحتمية التي سارعت فيها روسيا إلى الدفاع عن صربيا، وسارعت ألمانيا إلى نجدة النمسا. ولم يتنبأ أحدٌ بأن فرنسا ستسارع إلى التحالف مع روسيا، وأن تأخذ بريطانيا جانب فرنسا. وكذلك لم يتنبأ أحد بأن تفشل مجهودات تركيا في الابتعاد عن النزاعات والصراعات، وأن تُقاد إلى تحالف مع ألمانيا وإمبراطورية النمسا والمجر — اللتين كانتا قوًى مركزية حينئذٍ — ضد التحالف الثلاثي لروسيا وبريطانيا وفرنسا. ولكن حدَثت الصدمة غير المتوقَّعة. فقد اشتعلت الحرب العالمية الأولى، وهو الطوفان الذي استمر أربع سنوات كاملة، وأدَّى إلى انهيار إمبراطوريات، وإلى حدوث تحوُّل جذري في الشرق الأوسط. وخلَص روث إلى أن «الخوف من المجهول هو ما يخفيه علم التاريخ، وهو ما يحوِّل الكارثة إلى ملحمة بطولية».

تابع الأمريكيون هذا الاتجاه الحتمي نحو الحرب باندهاش ممتزج بالتباعد. فهم أيضًا كانوا مندهشين بسبب سلسلة الأحداث غير المتوقَّعة التي أدَّت إلى تلك الكارثة، ولكن على عكس الأوروبيِّين والأتراك، لم يكن الأمريكيون يتحملون أيًّا من العواقب بسبب قِصَر نظرهم. وعملًا بمبدأ التجاهل الأمريكي المعتاد للنزاعات الأجنبية، أقسم الرئيس وودرو ويلسون على الحفاظ على الحياد التام بين المتنازعين، وعلى الاحتفاظ بعلاقات جيدة، إن لم تكن ودودة أو حارة، مع كل الأطراف.

ولكن تبيَّن أن الاحتفاظ بعلاقات صداقة مع تركيا أمرٌ معقَّد؛ لأن العلاقات بين الولايات المتحدة والباب العالي كانت قد اهترأت منذ زمن. وكان المصدر الدائم للاحتكاكات هو اضطهاد الأرمن المسيحيِّين. ومع أن مجموعة من شباب الأتراك المحدَثين — الذين كان العديد منهم من خريجي كلية روبرت — كانوا قد استولوا على السلطة في إسطنبول عام ١٩٠٨، ووعدوا بحقوقٍ متساوية لكل مواطني الدولة، فلم يكد يمرُّ عام واحد إلا واستؤنفت مجازرُ الأرمن مرةً أخرى. فقد قامت القوات التركية بذبحِ أكثر من ٣٠٠٠٠ منهم في جنوب ووسط الأناضول. حتى قالت هيلين ديفنبورت جيبونز، زوجةُ مراسل جريدة «نيويورك هيرالد» في طرسوس: «الفَرق الوحيد بين الأتراك القدامى وشباب الأتراك هو أن شباب الأتراك أكثر نشاطًا واجتهادًا في مذابحهم.» وسرعان ما انهار الحكم الجمهوري الظاهري في تركيا، واستولى المجلس العسكري على الحكم في عام ١٩١١. وكان ردُّ فعل أمريكا هو إظهار اشمئزازها من هذه الأحداث، ولإظهار وتسجيل اعتراضها، أرسلت السفينتين الحربيتين «مونتانا» و«نورث كارولينا» في استعراضٍ للقوة قبالة السواحل التركية.1

وكاد الغضب حول المذابح الأرمينية أن يؤديَ إلى قطعِ العلاقات الأمريكية التركية، لكن ازدهار التجارة بينهما حال دون ذلك. وكان التعاون الاقتصادي بين الولايات المتحدة والدولة العثمانية قد توسَّع كثيرًا منذ بداية القرن، وبحلول عام ١٩١٤ كان نصيب أمريكا وحدها نحو ٢٣٪ من الصادرات التركية. فبجانب التبغ والتين وعِرق السوس (الذي كانت أمريكا تستورد منه ٥٠٠٠٠ طنٍّ سنويًّا لاستخدامها في صناعة الحلوى واللبان)، كان الأمريكيون يسعون وراء منتَج جديد من منتجات الشرق الأوسط، هو البترول. ومع أن الولايات المتحدة ظلَّت المنتِج الأكبر للبترول، ومصدرة لمشتقاته إلى الشرق الأوسط، فإن الآبار المحلية لم تَعُد كافية لتلبية طلب الصناعة الأمريكية، ومالكي السيارات، والجيش. وقد بدأت شركة ستاندارد أويل للبترول من نيوجيرسي في التنقيب في بلاد الرافدين بدايةً من عام ١٩١٠، وذلك بناءً على أدلةٍ على وجود مخزون بترولي ضخم في الشرق الأوسط. وبعدها بثلاث سنوات، حصل فرع الشركة بنيويورك على حقوق التنقيب والحفر في سوريا وفلسطين وأجزاء من آسيا الصغرى. وكانت البنية الأساسية لمضخات البترول قد تأسَّست، وكان التنقيب قد بدأ عندما نشِبت الحرب العالمية.

وأصبح البترول في نهاية الأمر مصدرَ هوس بالنسبة إلى صانعي السياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، ولكن عشيةَ الحرب العالمية الأولى كان الاهتمام الرئيسي للبلاد في المنطقة لا يزال خيريًّا. فقد كان عدد مؤسَّسات الإرساليات الأمريكية قد تضاعف بصورةٍ مذهلة فترة ما قبل الحرب، وأصبح يتضمَّن مستشفياتٍ وكليات على مستوًى عالمي، بالإضافة إلى ما يزيد على ٤٠٠ مدرسة. وكانت هذه المؤسَّسات تندمج بعمقٍ في نسيج المجتمع العثماني، ولا تخدم المسيحيِّين فقط، بل الطبقة الراقية من الأتراك أيضًا. وقد كتب وزير الخارجية الأمريكية ويليام جيننجز براين إلى السفير الأمريكي في إسطنبول في أكتوبر عام ١٩١٤: «أنا ممتنٌّ للغاية لسماع أن ترتيباتٍ قد تمَّت لتعليم شقيق وزير الحربية التركي وأبنائه في كلية روبرت. هذه إشارة ممتازة.» وكان براين يأمُل أنه عن طريق تلقي تعليم أمريكي سيتمكَّن الأتراك أيضًا من تعلُّم تقبُّل الأرمينيِّين وغيرهم من الأقليات في الشرق الأوسط، مع إعادة البلاد إلى مسارها الديمقراطي السابق.2
ولكنَّ نشوب الحرب أدَّى إلى تقوية الهيمنة العسكرية في إسطنبول، وهدَّد سلامة المؤسَّسات الأمريكية هناك. لذلك قامت إدارة الرئيس ويلسون — «من أجل مصلحة الإنسانية وليس لأي اعتبارات سياسية» — بحثِّ تركيا على إعلان حيادها في ذلك الصراع. وحذَّر الدبلوماسيون الأمريكيون من أن الأتراك ليسوا على قدمِ المساواة مع الحلفاء المسيطرين على البحر المتوسط، الذين بإمكانهم ببساطة الاستيلاءُ على المدن الساحلية، من سميرنا إلى يافا. ولكنَّ هذه النصيحة لم تَجِد أيَّ صدًى. فما إن انضمت تركيا إلى القوى المركزية إلا وبادرت بحملةٍ لطردِ كلِّ المواطنين الفرنسيِّين والبريطانيِّين من الدولة العثمانية. وأبطلت المعاهدات التي ظلت قرونًا طويلة تمنح مزايا خاصةً للغربيِّين في الدولة العثمانية، وأُلغي التعامل باللغة الإنجليزية باعتبارها «لغة معادية». وقد تحوَّل وضعُ الأمريكيِّين المضطرب في الشرق الأوسط بالفعل إلى مرحلة الخطر عندما أعلنت الحكومة التركية حربًا مقدَّسة أو جهادًا ضد جميع الحلفاء المسيحيِّين.3

وخوفًا من حدوثِ مذابحَ يقوم بها المسلمون الهائجون، ناشدت الإرساليات واشنطن أن تساعدها. وأوضح رئيس الكلية السورية البروتستانتية دانييل بليس الوضعَ لوزير الخارجية براين، مؤكدًا «ضرورةَ وأهمية حماية حياة الأمريكيِّين وممتلكاتهم»، وحثَّه على إرسال سفن حربية أمريكية إلى بيروت وسميرنا فورًا. وتوالت نداءات مماثلة من يافا والقدس، التي أرسلت تقريرًا باستيلاء قوات الأتراك على كمٍّ كبير من المؤن، و«بسيادة إرهاب حربي وعسكري». وردًّا على ذلك، أرسل وودرو ويلسون السفينتين الحربيتين نورث كارولينا وتينيسي بإمدادات ومؤن وأموال ضرورية للإرساليات. وزادت مخاوفُ أمريكا عندما انطلقت قذائف تركية من سميرنا على مقدمة السفينة «تينيسي». وفي ١٢ ديسمبر وافق ويلسون على إجراءٍ ينصح كلَّ الأمريكيِّين بمغادرة الشرق الأوسط «من أي مكان لا يشعرون فيه بالأمن أو السلامة».

وفي غضون ذلك زادت حدةُ الاختلافات على المستوى الدبلوماسي، عن طريق تبادُل متلاحق للكلمات اللاذعة بين الحكومتين. وحذَّرت واشنطن من أنه «إذا حدثت أيُّ مجازر منظَّمة، فإن الحكومة التركية ستفقد حسنَ سُمعتها ومصداقيتها لدى الولايات المتحدة»، وحذَّرت أيضًا من أن «فقدان حياة أي شخص أو ممتلكات من الإرساليات» سيفجر ردودَ فعل أمريكية عنيفة. وأقسم جمال باشا، الحاكم العسكري الشهير لسوريا بدوره أنه «مقابل كل مسلم يُقتل في الغارات التي تُشَنُّ على المدن سيُقتل ثلاثة من الرعايا الفرنسيِّين أو البريطانيِّين»، وأخلى مسئوليته تمامًا «في حالةِ ما إذا أدَّت الغارات إلى مذابحَ ضد المسيحيِّين». وردَّت الصحافة الأمريكية بهجومٍ غاضب على تركيا، وأصدرت نداءاتٍ بضرورة استيلاء الفرنسيِّين والبريطانيِّين على الشرق الأوسط. وفي رسالةٍ مشحونة بالغضب إلى جريدة «واشنطن ستار»، اتَّهم السفير أحمد رستم بك الولايات المتحدة بالنفاق بسبب إدانتها لتركيا وتغاضيها عن روسيا، «التي منحت العالم عشرين مذبحة، وليس واحدة فقط، ضد الجنس اليهودي البريء»، وأيضًا تغاضيها عن الفرنسيِّين «الذين يقومون بحرق الجزائريِّين المحاربين من أجل الاستقلال»، وأيضًا لتغاضيها عن البريطانيِّين «الذين يعاقبون المتمرِّدين الهنود بنسفهم ببنادقهم نسفًا». وذكَّر رستم الأمريكيِّين أيضًا بالمذابح «اليومية» ضد الزنوج في بلادهم، وبتعذيبهم للمتمردين الفلبينيِّين. وبناءً على ذلك أعلن أن رستم شخصية غير مرغوب فيها، فاضطُر إلى مغادرة البلاد.

في خريف عام ١٩١٤ كانت العلاقات الأمريكية التركية على وشْك الانهيار التام، عندما تحسَّنت فجأةً وبصورة ملحوظة. فخوفًا من إبعاد بلد غربي غير مشارك في الحرب، أصرَّ كبار المسئولين في إسطنبول على أنهم «لم يشكُّوا قطُّ في صداقة أمريكا الحقيقية لتركيا» وأن الولايات المتحدة «ستظل القوة الكبرى الوحيدة التي ليس لها أيُّ غرض خفي تجاه تركيا». وأعادت تركيا الوضعَ المتميز الذي كان يتمتَّع به رجال الأعمال الأمريكيون، واعتذرت عن أي مضايقات واجهها المبشِّرون. ومع أن اللغة الإنجليزية كانت لا تزال محظورة، فإن مواطني الولايات المتحدة كان مسموحًا لهم من الآن فصاعدًا أن يتراسلوا باللغة «الأمريكية». وقامت واشنطن من جانبها بإلغاء مخطَّط لإجلاء مواطنيها من الشرق الأوسط، وعرضت بدلًا من ذلك أن ترسل ١٣ مستشفًى متحركًا تابعًا للصليب الأحمر، للعناية بالمرضى والمصابين الأتراك. واستمر القناصل الثمانية والأربعون في تركيا في مناصبهم، واستمر الممثلون الأتراك في سان فرانسيسكو وشيكاجو وبوسطن ونيويورك في مواقعهم. وبانتهاء العام كان الحلفاء قد استعدُّوا للنزول بكثافة في شبه جزيرة جاليبولي التركية — وهي خطوة فاشلة كلَّفتهم ربع مليون قتيل، وأطالت الصراع والقتال في الشرق الأوسط سنواتٍ عديدة — ولكنَّ الأمريكيِّين اكتفَوا بالوقوف على الحياد، دون تدخُّل.4

ولكن لم يكن بإمكان الأمريكيِّين أن يظلوا منسلخين إلى الأبد. فقد انضمت الولايات المتحدة إلى الصراع في الشرق الأوسط، وفُرض عليها التحرك على عدة مستويات: دبلوماسيًّا وإنسانيًّا، وحتى عسكريًّا. وتصارعت الاعتبارات الدينية والاستراتيجية مرةً أخرى على الهيمنة على إقرار سياسات أمريكا تجاه المنطقة، في حين اختفت تمامًا أيُّ أوهام شعبية حول الشرق الأوسط، بعد أن غطَّت عليها المجاعات والمذابح.

أبشعُ الجرائم في تاريخ الإنسانية

حكَت التقارير الأولى — بدءًا من ديسمبر عام ١٩١٤ — عن مذابحَ تُقام ضد المسيحيِّين في بيتليس بشرق تركيا، بالإضافة إلى شنقِ المئات من الأرمن في شوارع إرزيروم. وجُنِّد الذكور الأرمن من سن العشرين إلى الستين في كتائب أشغال إجبارية، لتشييد الطُّرق وحمل المؤن للجيش التركي. وفي الشهر التالي، وبعد هزيمتهم أمام القوات الروسية في القوقاز، خفَّفت القوات التركية من وقعِ الهزيمة عن طريق نهب المدن الأرمنية وإعدام العمال الأرمن. وفي أوائل الربيع، حاصر الجنود الأتراك مدينةَ فان الأرمنية بشرق الأناضول، وبدءوا أولَ حملة من حملاتٍ لا حصرَ لها من عمليات النقل والترحيل القصري المكثَّفة. واستمرت المذابح واتجهت غربًا نحو إسطنبول، حيث شنقت قوات الأمن في يوم ٢٤ من أبريل ٢٥٠ قائدًا أرمنيًّا، وحرقت الأحياءَ الأرمنية. وأبلغ وزير الداخلية طلعت باشا البطريرك الأرمنيَّ أنه «لا يوجد مكان للمسيحيِّين في تركيا» ونصحه وأتباعَ كنيسته «بالخروج من البلد».5

ولم يكن هذا تهديدًا أجوفَ، حسب شهادات شهود أمريكيِّين. فشهد ليسلي ديفيز، القنصل الأمريكي في خربوط بشرق الأناضول، الذي تلقَّى تعليمه في جامعة كورنيل، في أوائل عام ١٩١٥ أنه يبدو أن «المسلمين في تعصُّبهم مصرون ليس فقط على القضاء على المسيحيِّين، بل أيضًا على إزالة أي أثر لدينهم و… حضارتهم». ووصف جيسي جاكسون، نظير ديفيز في حلب بسوريا، سلسلةً لا نهاية لها من قطارات السكك الحديدية المكدَّسة بالأرمن الذين أُجبروا على الرحيل، وقدَّر أنه لن يُقدَّر البقاء لأكثر من ١٥٪ منهم في هذه الرحلة. وتذكَّرت آنا هارلو بيرج، وهي شاهدةٌ أمريكية أخرى على هذه القطارات، تذكَّرت أنها شاهدت «رجالًا ونساء كبارًا في السن وأمهات شابات وأطفالهن الرُّضع … والصغار، كلهم مكوَّمون معًا مثل الخراف أو الخنازير؛ أي إنهم كانوا بشرًا يتلقون معاملةً أسوأ من الماشية». وفي أورميا، وصف المبشِّر ويليام شيد إعدامَ الحاكم جودت بك ٨٠٠ قروي، معظمهم من كبار السن والشابات، وقد قيل عن هذا الحاكم أنه كان يسعد بدقِّ حُدوة الجياد في أقدام ضحاياه. وكان مبشِّر من الجيل الثالث هو هنري ريجز قد قسَّم التعذيبَ أنواعًا: «الضرب والتجويع، وخلع الأسنان، والكي بالحديد الساخن، وغرز أدوات حادة في الوجه، وحرق الشَّعر والذقن»، وكلها أنواع من التعذيب كان الأرمن في جنوب شرق تركيا يتعرضون لها. وفي تقرير من القوقاز، كتب د. ريتشارد هيل أنه رأى «أطفالًا … يموتون بالمئات، وكانت أمهاتهم المقهورات يرمينهم في الحقول، بحيث لا يرين عذابهم وهم يموتون».

وقد أصرَّ القادة الأتراك وقتَها — كما يصرُّ قادتهم اليوم — على أن تعذيب الأرمن كان نتيجةَ العنف الذي ساد كل جبهات الحرب العالمية الأولى. ويدَّعون أيضًا أن الأرمن كانوا يتعاطفون مع الحلفاء، ويتعاونون مع الغزاة الروس. وفي الحقيقة أن معظم المذابح لم تقع بالقرب من ميادين القتال، وظلَّت الأغلبية الساحقة من الأرمن على ولائها للدولة التركية. ويتَّفق معظم المراقبين المعاصرين على أن المذابح كانت نادرًا ما ترتبط بالحرب، بل كانت تمثل برنامجًا مخططًا ومنفذًا بنظام لإبادة شعب بالكامل. وبالفعل، كان الجنود الأتراك يقودون قرًى أرمنية كاملة نحو أنهارٍ متجمِّدة، ويحرقونهم في كنائس يشعلون النار بها، أو ببساطة يسيِّرونهم نحو الصحاري ويتركونهم يلقون حتفهم عطشًا هناك، في سابقة على الإبادة العِرقية التي قام بها النازيون تجاه اليهود بعد ذلك بخمسة وعشرين عامًا. وكتب طلعت باشا في رسالة أرسلت في سبتمبر عام ١٩١٥: «قرَّرت الحكومة التركية أن تدمِّر تمامًا كل الأشخاص (الأرمن) المشار إليهم المقيمين في تركيا. إذ لا بد أن ينتهيَ وجودهم تمامًا … ولا يُوضع الجنس أو السن أو أي نوازع للضمير في الاعتبار.» وبنهاية الصيف، كان حوالي ٨٠٠٠٠٠ أرميني قد قُتلوا، وأُجبِر عدد آخر لا حصرَ له على التحول قسرًا إلى الإسلام».6

وعلى عكس أعمال وحشية سابقة ارتُكِبَت في بلاد العثمانيين، وظهرت تفاصيلها ببطء، كانت أخبار التطهير العرقي للأرمن تنتقل الآن وبسرعة بالتلغراف والهاتف إلى الغرب. وكان وصف عنف ووحشية الأتراك، وصور الضحايا تُنشر على نطاق واسع. وتحت ضغط هذا الكشف اضطُرت بريطانيا وفرنسا وروسيا إلى إصدار بيان مشترك في ٢٤ من مايو تتعهَّد فيه بتحميل القادة الأتراك ومَن يتعاون معهم «مسئولية شخصية عن هذه المجازر». ولكن لأن جيوشها كانت متورطة في حرب راكدة، ولأن مواطنيها كانوا قد طُردوا من الشرق الأوسط، لم يكن بإمكان الحلفاء التدخل عسكريًّا أو إنسانيًّا. وحتى نداء البابا بنيديكت الخامس عشر الذي أرسله مباشرة إلى السلطان محمد الخامس لم يكن له تأثير يُذكر، من حيث إثارة أي مشاعر عطف وشفقة أو رحمة تجاه الأرمن.

وكان الأمريكيون من بين الغربيِّين القلائل الذين استجابوا لتلك الكارثة، وذلك بسبب اهتمامهم بشئون الأرمن منذ زمن طويل. ففي خربوط، قام الزوجان المبشِّران تاك وهنري أكنسن بتقليد الدعاة الأمريكيِّين الأوائل إلى إلغاء الرِّق وتحرير العبيد، وذلك عن طريق تسيير قطار أنفاق لتهريب الأرمن إلى كردستان. وفي نفس الوقت في مدينة وان، كان د. كلارنس وإليزابيت أشر والممرضتان جريزل ماكلارين وميرتل أو شاين يعملون بلا هوادة لرعاية المئات من المصابين والمرضى الذين امتلأت بهم عياداتهم، وكذلك في العناية بالأرمن الهاربين إلى روسيا، وهم «متعبون وجوعى ويصرخون ويولولون كالأطفال الجوعى التائهين». وقد توفيت إليزابيت أشر متأثرةً بمرض التيفود، وكاد زوجها يموت بنفس المرض. لكنه تمكَّن من إرسال رسالة استغاثة إلى وزارة الخارجية يحذِّر فيها من أن «حياة الأمريكيِّين في خطر» ويناشد حكومة الولايات المتحدة سرعة التحرك.

ولكن الولايات المتحدة لم تكن لديها أي نية للتدخل بين الأتراك والأرمن. ومع أن الصحافة الأمريكية كانت تقوم بتغطية المذابح على صفحاتها الأولى؛ إذ كتبت الكثير من العناوين تقول «وزارة الخارجية تكشف اغتصاب ربع مليون سيدة»، وفي حين كانت نيويورك مسرحًا للمسيرات والمظاهرات المناهضة للأتراك، كانت الحكومة تتصرف بحيطة وحذر تجاه تلك المذابح. فقد افترضت إدارة الرئيس ويلسون أن أي انتقاد صريح لتركيا قد يؤدي إلى الانتقام من المواطنين الأمريكيِّين والمؤسَّسات الأمريكية في شتى أنحاء الشرق الأوسط، فيتدمر قرن كامل من العمل والمجهودات الجادة. وكانت هناك مخاوفُ من أن يقوم العامة — المهتاجون بسبب تقارير الفظائع التي تُرتَكَب — بالضغط من أجل اضطلاع أمريكا بدور فعَّال أكثر في الحرب. وطالب وزير الخارجية الأمريكي براين الحكومةَ الألمانية بهدوء أن تساعد في حماية «غير المحاربين والأجانب غير المسلمين» من «فورات التعصب الديني بين المسلمين»، لكنه أحجم عن الاعتراض رسميًّا لدى الباب العالي.7

الآن كانت مخاطر الانجراف في الحرب بصورة غير مباشرة — عن طريق الباب الخلفي للشرق الأوسط — تُوزَن مقابل المخاطر المعنوية لمراقبة عمليات الإبادة العرقية بكل سلبية. تعيَّن مقارنة قيمة المدارس والمستشفيات التبشيرية الأمريكية بقيمة حياة الناس الذين كانت تلك المؤسسات تهدُف إلى خدمتهم.

داعٍ إلى الأمركة

كان أحد الأمريكيِّين، وهو هنري مورجنتاو، مصرًّا على محاولة إيجاد تصالح بين تلك المصالح المتضاربة، وعلى حل الصراعات في سياسات بلاده تجاه الشرق الأوسط. ولكن مؤهلاته للقيام بذلك لم تكن مبشِّرة. إذ لم يكن يملك أيَّ خبرات دبلوماسية، ولم يكن قد عمل في المنطقة من قبل. وبالإضافة إلى ذلك، كان دِينه يضعه في موقف حرج، ليس فقط عند التعامل مع الحكام المسلمين، بل مع العديد من المسئولين في الولايات المتحدة أيضًا. ولكن مورجنتاو كان قد اعتاد ألا تقف أمامه أيُّ عقبة، وهو الألمانيُّ اليهوديُّ الذي هاجر إلى نيويورك مع والديه وإخوته الأحد عشر عام ١٨٧٠، عندما كان في الثانية عشرة من عمره، ولم يكن عندها يعرف كلمةً واحدة من اللغة الإنجليزية.

ولكن بعد ذلك بعامين دخل مورجنتاو مدرسةَ مدينة نيويورك، ثم تخرَّج بعدها في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا. وحقَّق نجاحًا مذهلًا في عمله محاميًا ورجل أعمال، وأصبح زعيمًا للجالية اليهودية الإصلاحية بنيويورك، ومتبرعًا سخيًّا للحزب الديمقراطي. وعندما وصل إلى مرحلة منتصف العمر، وأصبح له لحية بيضاء مشذَّبة ويرتدي نظارة فضية لا إطار لها، كان مورجنتاو قد أصبح له شكل أَبويٌّ، كما كان محبًّا للاقتباس من الإنجيل. وكان مغرمًا بصورة خاصة بالرسل، وبتركيزهم على العدل الاجتماعي والأعمال الخيرية، وكان معجبًا بمبادئ جمعية الأصدقاء القائمة على الوسطية والعدل والعمل الجاد. وادَّعى مورجنتاو أن «الضمير» وليس «الكرامة» هو الدافع والمحرِّك وراء تصرفاته، وأن «عقيدته الحقيقية هي خدمة الديمقراطية».

كان من أنصار الرئيس ويلسون؛ لذلك افترض أنه سيشغل منصبًا حكوميًا بعد فوز الديمقراطيين عام ١٩١٢، ولكن الرئيس المنتخَب كانت له خطط أخرى بشأنه. ومثل اليهوديين الأمريكيين الشهيرين أوسكار ستراوس وسولومون هيرش من قبله، كان مورجنتاو سيتولى منصب سفير أمريكا إلى تركيا. ولكن على عكس سابقيه، الذين فرحوا كثيرًا بهذا المنصب، كان افتراض أن اليهود يمثِّلون جسرًا طبيعيًّا بين المسلمين الأتراك والمسيحيِّين الأمريكيِّين يستفز مورجنتاو. فقال: «هل يمكن أن يقال لأي معمداني أو بروتستانتي منهجي شهير إن هناك «منصبًا» ينتظر طائفته، فليبحث من بينها عن شخص مناسب ليشغله؟» وردًّا على ذلك قام ويلسون بطمأنة مورجنتاو إلى أن إسطنبول «هي النقطة التي يتركز عندها اهتمام اليهود الأمريكيِّين بمصلحة اليهود في فلسطين، وأنه لا يمكن لأحد أن يحل محلَّ يهودي في هذا المنصب».8 ومع أن مورجنتاو شخصيًّا لم يكن صهيونيًّا، فإنه كان مهتمًّا للغاية بالمحنة التي يمر بها أبناء ديانته، وكان متحمسًا للغاية أيضًا لإرضاء رئيسه، فقبِل المنصبَ.

وفي تكرارٍ لتجارب العديد من المبعوثين الأمريكيِّين إلى الشرق الأوسط، وجد مورجنتاو في البداية عاصمةَ الدولة العثمانية «فاسدة ومتدهورة للغاية»، وكأنها مشهدٌ من مشاهد كتاب «ألف ليلة وليلة». فكتب يقول: «من المؤكَّد أن هذه ستكون تجربة مثيرة للغاية لي.» ولكنَّ عامًا واحدًا آخر بعدها كان كافيًا لإصابته بخيبة أمل وإحباط، بسبب الآليات السياسية للأتراك وإدمانهم على «الغش والخداع والإرهاب والاغتيال». ولكن كما تغيَّرت صورة تركيا في ذهنه، كذلك تغيَّرت فكرته عن المبشِّرين البروتستانت الأمريكيِّين العاملين في الشرق الأوسط. وتذكَّر قائلًا: «كانت لدي حتى الآن فكرة مبهمة عن أن المبشِّرين دعاة متحمسون لدِين طائفي. ولكني اكتشفت أنهم في الحقيقة دعاةُ حضارة، ويمثلون نماذج للروح الأمريكية في أفضل حالاتها.» وسرعان ما اندهش السفير عندما وجد نفسه يتصرف باعتباره ممثلًا للمبشِّرين لدى الباب العالي، ويساعدهم على نشر «بشارة الأمركة». وتغيَّرت صورة الأرمن في عينَي مورجنتاو، من «تجار سجَّاد» كما عرفهم في نيويورك إلى شعبٍ يشبه اليهود كثيرًا، متمسكًا بدينه بصورةٍ لا تتزعزع ومملوءًا بالفخر بثقافته.

وكوَّن المسئولون الأتراك والمبشِّرون الأمريكيون والأرمن معًا مثلثًا معقدًا وخطيرًا، وجب على مورجنتاو أن يناور من حوله. فقال: «ها أنا ذا يهودي يمثِّل أكبرَ أمة مسيحية في العالم في عاصمة أكبر أمة مسلمة ستصبح عما قريب بسبب موقعها الاستراتيجي أحد مراكز الدبلوماسية العالمية. ها هي ذي إمبراطورية متدهورة، تتمسك في أنفاسها الأخيرة بتلابيب شعوب أخرى داخل قبضتها المميتة.»9 وكانت مجابهة تلك التحديات قد أثبتَت أنها صعبة للغاية، حتى تحت الظروف السلمية. وبنشوب الحرب وتصاعد الأدلة على المذابح أصبحت تلك المهمة ضخمة وهائلة.
كانت التقارير تصل إلى مكتب مورجنتاو يوميًّا في البداية، ثم على مدار الساعة. فقد أخبره القنصل ديفيز بخبر إغلاق المدارس التبشيرية في خربوط، ووصف جاكسون «خطة نهب واسعة النطاق» ضد الشعب الأرميني في حلب. وحكى القنصلان أوسكار هايزر في مدينة طرابزون ودبليو بيتر في مدينة سمسون عن ترحيل جماعي وعن إطلاق للنار وعن بواخر صغيرة تغادر متجهةً إلى البحر الأسود القريب محمَّلة بالأرمن، لكنها كانت تعود خاوية. وشاهد لويس أينستاين، وهو دبلوماسي أمريكي يهودي بالسفارة الأمريكية في إسطنبول، شاهد امرأةً تركية تستعير مسدس أحد الضباط، ثم تطلق النار على رأس لاجئ أرميني مارٍّ من أمامها، فقط من أجل اللَّهو والتسلية. ولكن مُحي العديد من قصص التعذيب وأعمال العنف ضد الأرمن من قِبل الرقابة التركية، وقال وزير الداخلية طلعت بك عن البقية إنها مجرد إشاعات أو حالات فردية «لعنف الغوغاء». وتناوب المسئولون الألمان نفيَ حدوث أي مذابح وإخلاء مسئوليتهم عنها. ولكن بحلول شهر يوليو كان تدفُّق الأخبار وتدفُّق الناجين الأرمن الذين جاءوا إلى مكتبه قد أقنع مورجنتاو بأن الحكومة التركية قد بدأت في اتباع سياسة متعمَّدة «للإبادة العرقية». وفي رسالة إلى وزير الخارجية الجديد روبرت لانسنج أعدَّ مورجنتاو قائمة «بحالات التعذيب الفظيع والترحيل والطرد الجماعي، وحالات الاغتصاب والنهب والمذابح العديدة» التي تهدُف إلى إبادة الشعب الأرميني. وحذَّر مورجنتاو من «مآسٍ وأمراض ومجاعات ومذابح لا حصر لها ستمرُّ دون حساب» إلا إذا تدخَّلت أمريكا.10

وكان رد فعل أمريكا على برقية مورجنتاو مليئًا بالقلق، لكنه لم يتعدَّ ذلك. ومع أنه يقال إن ويلسون أخبر صديقًا مبشِّرًا له بأنه «يمكنك أن تتأكد من أننا نقوم بكلِّ ما في وسعنا دبلوماسيًّا لوقف هذه العمليات البشعة»، فإن سياسة أمريكا ظلَّت سياسةَ حياد وعدم تدخل. وعبَّر لانسنج، بشكلٍّ متزمت لا يمكن تصوره، عن تعاطفه مع قلق الأتراك في فترة الحرب وعن استيائهم من «عدم ولاء الأرمن المعلوم للحكومة العثمانية». وعلى أقصى حد، كانت الإدارة الأمريكية على استعداد لإبلاغ الباب العالي بأن أعمال العنف «أثارت مشاعر قوية لدى الشعب الأمريكي» وأن استمرارها سيؤدي إلى «تهديد للمشاعر الطيبة التي تكنها الولايات المتحدة لتركيا». وفشل ذلك التصريح في كشف مدى جدية وحرج الوضع، وهو ما كان مورجنتاو يحتاج إليه بشدة. وقد انتهى إلى أنه لا شيء «أقل من استخدام القوة هو ما يناسب هذا الوضع»، وصمَّم على التصرف اعتمادًا على نفسه.

وحذَّر مورجنتاو طلعت بك قائلًا: «شعبنا لن ينسى هذه المذابح. فأنتم تتحدَّون أيَّ فكرة عن العدل كما نفهمه في بلادنا.» ولكن وزير الداخلية لم يحرك ساكنًا. فلم يَعُد يحاول إخفاء قتل الأرمن بلا تمييز أو حتى سعادته بمداه. وقال: «لقد أنجزت الكثير في مجال حلِّ المشكلة الأرمينية في ثلاثة أشهر، أكثر بكثير مما أنجزه السلطان عبد الحميد في ثلاثين عامًا!» وسأل طلعت بك مورجنتاو عن الأسباب التي حدَت به، وهو اليهودي، إلى القلق والاهتمام بأسلوب معاملة المسيحيِّين. وشرح له مورجنتاو أنه يتصرف «ليس باعتباره يهوديًّا، ولكن كسفير أمريكي، وليس باسم أي عِرق أو دين، بل فقط كإنسان». ولكن طلعت كان أقلَّ اهتمامًا بدوافع مورجنتاو عن اهتمامه ببوالص التأمين الأمريكية التي كان يدَّعي أن الكثير من الأرمن يمتلكونها. فقال: «كلهم ميتون الآن، والحكومة هي المستفيدة.»11

أوصلت هذه الغلظة مورجنتاو إلى حالة من الغليان، فكان على شفا الانفجار. وكتب يقول: «من الصعب أن أتحكَّم في نفسي!» ومع ذلك، وباعتباره ممثلًا لدولة صديقة، وممنوعًا من التدخل في شئون دولة ذات سيادة، فإن القنوات المتاحة له للتعبير عن ذلك الغضب كانت قليلة ومحدودة للغاية. وفي أفضل الحالات كان بإمكانه أن يحاول رفع معاناة الأرمن أو التخفيف منها عن طريق طلب المساعدة من جيمس بارتون، سكرتير المجلس الأمريكي للبعثات الخارجية، وكذلك مساعدة رجل الخير كليفلاند دودج. اقترح مورجنتاو إنشاء صندوق ضخم لشراء الغذاء والملابس ومأوى مؤقت للناجين من المذابح. وتجاوب كلٌّ من دودج وبارتون بحماسة وجنَّدا معارفهما من ذوي النفوذ لتكوين لجنة حول أعمال العنف ضد الأرمن. وتأسَّس مجلس إدارة هذه اللجنة، بالتعاون مع الأسقف الكنسي ديفيد جرير والقادة اليهود أوسكار ستراوس وأيزاك (إسحاق) سيليجمان. وجرى ضم القائد الصهيوني الأمريكي الحاخام ستيفن فايتس جنبًا إلى جنب مع تشارلز كرين، وهو أحد دعاة ومناصري القومية العربية. وفي ردِّ فعل للعجز السياسي لبلادهم، اتَّحد الأمريكيون بصورة غير مسبوقة. وتمكَّنت هذه المؤسسة — التي ضُمَّت فيما بعد لمجلس النواب تحت اسم «لجنة إغاثة الشرق الأدنى» — من جمع ١٠٠ مليون دولار، وهو ما يوازي مليار دولار اليوم.

ومع ذلك فلم يتوقَّف مورجنتاو عند مجرد جمع التبرعات. فعن طريق صداقته بأدولف أوكس، ناشر جريدة «نيويورك تايمز»، تأكَّد من استمرار تغطية صحفية مكثَّفة للمذابح، وصلت إلى ١٤٥ مقالًا عام ١٩١٥ وحده. وتبرَّع بمليون دولار من ماله الخاص لإعادة توطين أكثر من ٥٠٠ ألف لاجئ في الغرب الأمريكي. وقال مورجنتاو، ربما متأثرًا بتجربته الشخصية في الهجرة: «قد تكون الولايات المتحدة هي موسى الذي يقود الشعب الأرمني للخروج من هذا العذاب. فهو شعب نظيف ومنتِج ونشيط وذكي، وأفضل فئات المهاجرين والمزارعين والعمال.» ولكن في النهاية رفضت تركيا — وليست الولايات المتحدة — هذه الخطة.12
في تلك الأثناء كان إيقاع إبادة الأرمن يتسارع. فقضت مذبحةٌ دبَّرها مزارعون أتراك في مدينة مارسيوان على الكلية الأمريكية ومدرسة البنات، فوُضِع الكثير من التلاميذ في حفر وأُطلقت النار عليهم. ويتذكَّر القس جورج وايت، مدير المدرسة المولود في أيوا: «طلبت مجموعة من تلاميذ المدرسة السماح لهم بالغناء قبل أن يموتوا، وغنوا أغنية: «اقتربنا يا رب منك» قبل إطلاق النيران عليهم.» وببلاغة اكتسبها من عمله صحفيًّا سابقًا، وصف ليسلي ديفيز الطريقَ إلى بحيرة كولجك، وهي من منابع نهر دجلة، وهو محفوف «بأيدٍ وسيقان وحتى رءوس ظاهرة من الأرض. وقد نهشت الكلاب معظمها». أما تحت سطح الماء، فلاحظ وجود «مئات من الجثث والكثير من العظام»، بالإضافة إلى تلك الملقاة على الشواطئ، وقدُرها كلها نحو عشرة آلاف جثة. وللحفاظ على ذخيرتهم، كان الأتراك يلجئون كثيرًا إلى السهام والسيوف والفئوس للتخلُّص من ضحاياهم. وذكر الناجون رؤيتهم طوابيرَ كاملة من الشابات صُلِبْنَ عرايا، وآخرين مُثِّل بهم لهوًا ولعبًا. وتذكَّرت ميرتل شين في بيتليس: «كانت النساء الهاربات يعدن ليشحذن على أبوابنا، وقد قطعت أصابعهن أو أيديهن، أو شُوهت وجوههن أو أجسادهن.»13

كانت تلك المشاهد الكابوسية كثيرًا ما تصبح أكبرَ من احتمال مشاهديها. فقد كان والتر جيديس مثلًا، وهو وكيل لاستيراد عِرق السوس من نيويورك، في زيارة عمل لحلب، فشاهد آلاف الأرمن الذين رُحِّلوا، وقد ماتوا من أثر التعرُّض للأوضاع غير الصحية وبسبب الجوع. وعاد إلى سميرنا فقدَّم تقريرًا عن هذه المشاهد، وأطلق النار على رأسه. وكذلك أصيب مبشِّر أمريكي اسمه إف إتش ليسلي، والذي كان يحل محلَّ القنصل الأمريكي في مدينة أورفا في الجنوب الشرقي لتركيا، بمرض عقلي واعتل جسده، بسب مجهوداته التي لم تؤتِ ثمارًا لإنقاذ الأطفال والنساء الأرمن. وقد قُبِض عليه وعُذِّب بتهمة مساعدة اللاجئين؛ فانتحر في السجن.

أما مورجنتاو فكان يُطيق هذا العذاب؛ فقد كان المسئولون الأتراك يتباهون أمامه بأساليب التعذيب الجديدة التي ابتكروها من أجل الأرمن، والتي كان بعضها مستقًى من سجلات محاكم التفتيش الإسبانية. وادعى أنور باشا أن المساعدات الأمريكية كانت تشجِّع الأرمن على الثورة؛ لذلك سعى إلى وقفها. وكتب السفير الغاضب قائلًا: «تاريخ الإنسانية جمعاء لا يتضمن حلقات مرعبة كتلك.» فتركيا التي كانت يومًا ما جذابة تحولت إلى «مكان مرعب» له. واعترف قائلًا: «لقد استنفدت كل طاقاتي، ووجدت أن لقاءاتي اليومية مع الرجال، مهما كانوا خلوقين، لم أعُد أحتملها، خاصة إذا كنت لا أزال أشم فيهم رائحة دم نحو مليون شخص.» وبسبب اشمئزازه وإرهاقه من جراء ٢٦ شهرًا من الصراع، قدَّم مورجنتاو في النهاية استقالته.14

واستمرَّت المذابح دون هوادة. وحلَّ إبرام إلكوس، وهو محامٍ يهودي آخر من نيويورك، محلَّ مورجنتاو سفيرًا لأمريكا في تركيا، وأبلغ وزارة الخارجية الأمريكية أن الأتراك يتبعون «سياسةَ إبادة بلا رادع عن طريق أساليب التجويع والإرهاق والتعذيب والمعاملة العنيفة السيئة التي ليس لها مثيل حتى في التاريخ التركي». وفي المجمل قُتِل نحو مليون ونصف مليون أرميني عن طريق حملة الإبادة العرقية التي لم تعترف الحكومة التركية بها قط، ولم تعلن ندمَها عليها قط. ولكن إلكوس كان عليه معالجة كوارث أخرى، منها الهجمات التركية المتصاعدة ضد الجالية اليونانية في سميرنا وغرب الأناضول، بالإضافة إلى نقل وترحيل العرب من المدن الحدودية. وأكَّدت مذكرة لوزارة الخارجية الأمريكية أنه يبدو أن «السلطات التركية تتبع سياسة أتركة سوريا والبلدان العربية المجاورة»، وقدَّرت أن النية تتجه إلى ترحيل ونقل ٢٥٠٠٠٠ أسرة عربية وإحلال أسر تركية محلها.

وكأن أعمال العنف هذه لم تكن مرعبة بما يكفي؛ فقد انتشرت مجاعة رهيبة في الشرق الأوسط في ذلك الوقت. إذ لقي عدد يقدَّر بنحو ٢٠٠٠٠٠ شخص في إسطنبول وحدَها حتفَهم، وأضعاف هذا العدد في الأقاليم من مصر وحتى سوريا. كتب بايارد — وهو ابن كليفلاند دودج — رئيس الكلية السورية البروتستانتية في بيروت: «كانت الأجواء مشحونةً بأصوات الأجراس التي تُقرع من أجل الجنازات وبأصوات الأطفال الباكين والصارخين من أجل كسرة خبز يأكلونها.» ومرة أخرى تحرَّك فاعلو الخير الأمريكيون لمواجهة تلك الكارثة، مستخدمين السفن الحربية «دي موين» و«سيزر» لتوصيل الإمدادات العاجلة، في مثالٍ آخر على استخدام السلطة والقوة لخدمة العقيدة والإيمان. كان وصول تلك السفن يمثِّل لمئات الآلاف من المدنيِّين الفرقَ بين النجاة والموت المحقَّق بسبب المجاعات والأمراض. وحكَت مارجريت ماكجيلفاري، وهي متطوِّعة شابة في مطبعة الإرسالية الأمريكية بلبنان: «كانت البلد كلها تعيش فعليًّا على تلك الإعانات. كنا في سوريا نحارب في الحرب العالمية، تمامًا مثل مواطنينا المحاربين على الجبهة الغربية.» ولكن تركيا استمرت في نفي وجود أي طوارئ إنسانية في إمبراطوريتها، وكثيرًا ما أغلقت الأبواب وسدَّت الطرق أمام وصول المؤن والمساعدات. وأكَّد تقرير قنصلي أمريكي أنه «مع مجهودات لجان [الإغاثة الأمريكية]، فإن عدد الوفيات يتصاعد بسرعة رهيبة».15

رغم كل محاولات فصل الأمريكيِّين أنفسَهم عن هذا الصراع وتبعاته، فقد وجدوا أنهم وسط واحدة من أسوأ المجازر في تاريخ الشرق الأوسط، شاهدين على تصرُّفات غير إنسانية، كانت رهيبة ومقزِّزة حتى بمعايير الحرب العالمية. وقد خفَّف من حجم تلك الأفعال الشنيعة المجهودات الحثيثة التي قام بها عمال الإغاثة والمبشِّرون. ولكن قدرة الأمريكيِّين على تخفيف المعاناة في الشرق الأوسط ظلَّت محدودة باستمرار طالما نأت الولايات المتحدة بنفسها عن الحرب وعن التدخُّل وتمسَّكت بسياسة الحياد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤