الفصل الثامن عشر

تحرُّك أم جمود؟

عبر المحيط الأطلسي البارد، وفي ليلة ٢٥ من فبراير عام ١٩١٧، كانت السفينة البخارية «لاكونيا» تتجه نحو ليفربول. كانت السفينة التابعة لخطوط كونارد للشحن تحمل ١٨٠٠٠ طنٍّ من المؤن والمعدَّات الحربية، و٢١٦ بحَّارًا، و٧٣ مسافرًا، كان ستة منهم أمريكيِّين. وكان كلُّ مَن على متن السفينة يعي أن الرحلة تحمل بعض المخاطر. كانت ألمانيا قد قرَّرت حديثًا البدء بهجوم غير محدود بالغواصات ضد السفن التجارية الأمريكية، وكان هذا أكبر وأخطر تهديد لأسطول النقل البحري الأمريكي منذ حروب الساحل البربري. وفي الساعة العاشرة والنصف وقرب سواحل أيرلندا، حطَّمت طوربيداتٌ ألمانية مقدِّمة السفينة «لاكونيا»، ودمَّرت غرفة المحركات. ويتذكَّر فلويد جيبونز، الصحفي بجريدة «شيكاجو هيرالد تريبيون» أن «الأمر كان أشبه بالكابوس الجنوني» وهو يصف الهجوم العنيف على قوارب النجاة، عندما أمر القبطان بمغادرة السفينة. وبعدها بأربعين دقيقة كانت السفينة «لاكونيا» قد غرقت. وقال جيبونز في مذكِّراته: «كانت السفينة تغرق سريعًا، وارتفعت بعد ذلك مقدِّمتها في الهواء. ثم انزلقت ببطء مبتعدةً عن الأنظار، كانت تتلاشى في منظر مذهل.» ومن بين اثنين وعشرين شخصًا قُتلوا في هذا الهجوم، كان هناك اثنان من الأمريكيِّين، أم وابنتها.

بعد ذلك بخمسة أسابيع، في الثاني من أبريل، طلب الرئيس ويلسون — الذي كان قد أُعيد انتخابه بناء على برنامجٍ يضمن حيادَ أمريكا — من مجلس النواب إعلانَ الحرب. وقد اتهم ألمانيا بخوض «حرب ضد الإنسانية»، منددًا «بالتدمير التام والشامل لحياة المدنيِّين من الرجال والنساء والأطفال». واتهمها أيضًا بالقيام «بأعمالٍ تسيء إلى جذور الحياة الإنسانية وأسسها». وأنكر ويلسون أن يكون للولايات المتحدة أيُّ طموحات مادية أو إقليمية في الحرب. بل أعلن أنها تطمح فقط إلى الحفاظ على الحقوق العالمية، وإلى حفظ الديمقراطية، وضمان مستقبل السلام عن طريق انسجام الأمم الديمقراطية. وأنهى ويلسون كلامه بأن أمريكا «تتشرَّف بتقديم دمائها وقوَّتها من أجل المبادئ التي منحتها وجودها وسعادتها والسلام الذي تقدِّره كثيرًا».

وحسب الأعراف الدولية، وتماشيًا مع نمط الحرب العالمية الأولى، عندما كانت إحدى الدول تعلن الحربَ على دولة أخرى، فإنها كانت بذلك تعلن الحرب أيضًا على حلفاء تلك الدولة. وأما أمريكا، فقد كان ذلك يعني إعلانَ حالة الحرب على كل القوى المركزية، ومن بينها بلغاريا، وإمبراطورية النمسا والمجر، وتركيا. ولكن الرئيس عبَّر في خطابه بوضوح عن رفضه حمل أي ضغينة تجاه حلفاء ألمانيا، ولم يُشِر بالمرة إلى تركيا. وبدلًا من ذلك قال «إننا ندخل هذه الحرب فقط مضطرين لأنه لا يوجد أي أسلوب آخر يمكِّننا من الدفاع عن حقوقنا». وكان المعنى الذي يقصده واضحًا؛ فالقوات الأمريكية كانت قد أُجبرت على القتال في خنادق أوروبا، لكنها لن تُجبر على ذلك في صحاري وشواطئ الشرق الأوسط.

ومع أن قرار الولايات المتحدة بعدم خوض حرب ضد تركيا كان محاطًا بالمبادئ، فإنه كان في الحقيقة نتاجَ ثقلٍ كبير للحقائق والوقائع. إذ لم يكن ويلسون مقتنعًا بأن لدى الولايات المتحدة من الأسباب ما يكفي لإعلان مثل تلك الحرب. وقال: «إنهم [الأتراك] لا يعيقون الطريقَ المباشر للخطوات التنفيذية الضرورية.» ومن ناحية أخرى، كان الرئيس وأعضاء آخرون من إدارته يؤمنون بأن إسطنبول كانت تتلقى أوامرها مباشرةً من برلين، وأن أي محاولة للتمييز بين الاثنين تُعدُّ زائفة. وأكَّد كبير مستشاري السياسة الخارجية العقيد إدوارد ماندل هاوس أن «الإمبراطورية المركزية تمتد من بحر البلطيق إلى مضيق الدردنيل، وأن أي شيء يأتي من مسئول في الحكومة التركية فهو موضع شك أنه بإملاء من ألمانيا.» وقد ثبتت صحة هذا الافتراض، عندما قطعت تركيا علاقاتها مع الولايات المتحدة، ردًّا على إعلان أمريكا الحرب على ألمانيا.

ومع ذلك، وحتى حينما كان السفير الأمريكي يغادر العاصمة التركية، كان الأتراك يقومون بحركات مبهمة لاسترضاء الولايات المتحدة. فتساءل جاويد باشا، وزير المالية: «ما الذي نتوقَّع أن نجنيه من مشاركتنا في حرب ضد الولايات المتحدة؟ لا شيء على الإطلاق.» وأشار إلى أن أمريكا هي الوحيدة من بين القوى الكبرى التي لم يكن لها مطامع في الأراضي التركية، وأنها «أمل تركيا الوحيد» لإعادة التعمير في فترةِ ما بعد الحرب. وأصرَّ طلعت باشا على أن الصداقة التركية الأمريكية مستمرة، بصرف النظر عن اشتراك أمريكا في الحرب من عدمه، وأمر برقابة ومصادرة أي كتابات تتضمن مشاعرَ عدائية ضد الأمريكيِّين، خاصة من الصحافة المملوكة والمراقبة من قِبل الدولة. وخلَص السفير الأمريكي إلكوس إلى أن «علاقاتنا مع تركيا ستظل طبيعية، وربما أكثر وديةً مما سبق. وتركيا لن تعلن الحرب على أمريكا».1

وحتى إذا كانت تركيا قد أظهرت عداء للولايات المتحدة، وكان تحالفها مع ألمانيا أمرًا لا يمكن تجاهله، فإن كيفية اشتراك القوات الأمريكية في حرب الشرق الأوسط كان لا يزال أمرًا غامضًا مبهمًا. وكان إلكوس واثقًا بأن المدن التركية الرئيسية يمكن ضربها بسهولة من البحر، ومن ثَم غزو الدولة كلها بسهولة. فكتب في إحدى المقالات: «تركيا هي حلقة الوصل الأضعف في سلسلة القوى المركزية، وهي على وشْك الانهيار. إن شعب تركيا يحتاج فقط إلى مبرِّر وذريعة لإجباره [على التوقيع على] معاهدة سلام منفصلة.» وقد اتفق معه في ذلك بعض كبار العسكريِّين الأمريكيِّين، مؤكدين على العديد من المزايا السياسية والعسكرية التي يمكن للبلاد تحقيقها عن طريق المساهمة بقوات في مسرح عمليات الشرق الأوسط.

ولكن من وجهة نظر ويلسون كانت مهمة التدخل في الشرق الأوسط أصعبَ بكثير. فالجيش لم يكن مستعدًّا بالمرة للقتال على أي جبهة، وبالأخص إذا كانت تلك الجبهة تبعُد عن الوطن ضعف مسافة البعد عن أوروبا، وفي بيئة غير مألوفة بالمرة. فخطوط الإمداد والتموين والاتصال ستكون طويلة وممتدة للغاية، ومكشوفة أمام هجمات الغواصات. وحتى إذا تيسَّر إنزال القوات بنجاح في الشرق الأوسط، فما هي الضمانات لأن يؤدي هذا التدخل إلى النصر؟ ومع أن الحلفاء كانوا قد حققوا بعض الانتصارات الحيوية عام ١٩١٧، ومنها الاستيلاء على بغداد، فإن الجيش التركي كان أبعد ما يكون عن الهزيمة. فلمواجهة تهديد أمريكي جديد، كان الأتراك سيسعون في الأغلب إلى مشاركةٍ أكبرَ من جانب ألمانيا، وسيقومان معًا بمقاومة مشتركة قوية وصامدة. وإذا كان ويلسون قد رأى أي فرصة أو احتمال لانتصارٍ بريطاني أمريكي في المنطقة، فإنه كان يرى أيضًا احتمالًا لأن يلقى مئات الآلاف من الجنود الأمريكيِّين حتفَهم جنبًا إلى جنب مع إخوانهم البريطانيِّين، تحت تراب ورمال الشرق الأوسط.

وبسبب التعقيدات الفنية المرتبطة بالهجوم على تركيا، وبسبب عدم قيام تركيا بهجوم أو عدوان صريح، فإن أهم الأسباب التي دعت إلى تدخل عسكري أمريكي في الشرق الأوسط كانت إنسانية. إذ كان الأتراك قد ذبحوا مليون شخص، وبدَوا وكأنهم على أتمِّ الاستعداد لقتل المزيد. وقال كورنيليوس فان إنجرت، وهو دبلوماسي أمريكي سابق في الشرق الأوسط، إن حمَّام الدم هذا سيتوقف فقط بتدخُّل مكثَّف من جانب الولايات المتحدة. وأضاف: «إن هجومًا قويًا ومستمرًّا فقط على فلسطين والعراق هو ما سيحقق هذا الهدف.» وكتب ويليام نسبت تشامبرز، المبشِّر الأبرشاني، إلى الرئيس ويلسون من مدينة أضنة التركية، معبرًا عن أمنيته أن «تقوم دولة قوية كالولايات المتحدة بهجوم بري وبحري، يجعل الأتراك لا يجرءون أبدًا على العودة إلى مثل هذه الجرائم البشعة، وأن أمريكا، وهي تحمل في يدها سلاحًا قويًّا والإنجيل في يدها الأخرى» ستأتي لنجدة الأرمن. أما أكثر الأمريكيِّين رغبةً في القتال فكان الرئيس السابق لكلية مدينة نيويورك، جون فينلي، الذي كان أيضًا رئيسَ هيئة الصليب الأحمر في فلسطين وقت الحرب، والذي قال: «يا أمريكا، لا يجب أن ترسلي الصليبَ الأحمر فقط إلى هذه الجبهة. بل يجب أن ترسلي ما قال المسيح إنه جاء ليأتي به، أي السيف، وأن تشتركي مع قوى العدل ضد شياطين القسوة والتعذيب.»

لكنَّ الدعوة إلى شن حرب ضد تركيا بوازع الضمير لم تقتصر فقط على الأمريكيِّين العاملين في المنطقة. فأعضاء مجلسي النواب والشيوخ من الحزبين الديمقراطي والجمهوري كانوا أيضًا يدعون الرئيس إلى القيام بخطوة رادعة. فأعلن هنري كابوت لودج، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب: «أنا بصفتي أمريكيًّا سأكون آسفًا … عندما تنتهي هذه الحرب … ثم نظهر في مجلس عصبة الأمم ونحن لا نزال أصدقاء لتركيا.» وصرَّح المتحدث باسم المجلس جيمس بوشامب كلارك وهو من الجمهوريِّين بأن «الوضع الشاذ الحالي … مدمِّر للمعنويات تمامًا. فمن السخافة أن نحاربَ نصف العدوِّ ونترك نصفه الآخر». وقال زعيم الأقلية، فريدريك جيليت: «كانت تحركات تركيا في الحرب من الوضاعة بحيث إنني لا أعتقد أننا يجب أن نتردَّد … في إعلان الحرب عليها.» وتوقَّعت جريدة «نيويورك تايمز» أنه لا يوجد عضو في مجلس الشيوخ أو النواب يؤيد حفظ السلام مع تركيا.

وكان أكثرَ منه صراحةً في انتقاد الحياد الأمريكي الرئيسُ السابق المثير للجدل تيودور روزفلت. فقال بصوتٍ مدوٍّ: «علينا أن نعلن الحرب على تركيا دون أي تأخير.» وبتأكيده أن الإمبراطورية التركية كانت قد «تعدَّت حتى ظلم وجور ألمانيا نفسها عن طريق ما فعلته بالرعايا المسيحيِّين في آسيا»، حذَّر روزفلت من أن شعار «تهيئة العالم من أجل الديمقراطية» سيتحول إلى شعارٍ أجوف بسبب السلبية الأمريكية في الشرق الأوسط. وأضاف معللًا: «لدينا فرصة وحيدة للتدخل بقوة السلاح لصالح الشعوب التي تئنُّ تحت نِير الحكم التركي. فسيكون الأمر مهانةً دائمة لأمتنا إذا استمر فشلنا هذا.»2

ولكن توصيات لودج وروزفلت وآخرين بإعلان الحرب لاقت معارضةً من أمريكي آخر كان قبل الحرب قد دعا إلى نهاية الإمبراطورية العثمانية. ففي خطاب إلى ويلسون من صديقه الوفي وعرَّابه السياسي وزميله في جامعة برينستون، كتب كليفلاند دودج يقول: «أنا متردِّد في التدخل في شئون الدولة.» وبعد الاعتذار عن ردِّه الصارم هذا، عارض دودج فكرةَ خوض حرب ضد تركيا، محذرًا من انتقام واسع المدى ضد الأمريكيِّين العاملين هناك، ومن مذابحَ متصاعدة ضد الشعوب التي يحاول الأمريكيون حمايتها. وأضاف هذا الرجل الإنساني: «سيكون إعلان الحرب … أمرًا خطيرًا على مصالحنا. ومن بين كل القصص التي نسمعها نرى أن الأتراك يعاملون أبناءنا معاملة طيبة، بل ودودة.» وأكَّد دودج أن آراءه قد تكوَّنت بصرف النظر عن سلامة ابنته، التي كانت تقوم بالتدريس في كلية روبرت، أو سلامة ابنه، الذي كان يعمل في بيروت. فاهتمامه الوحيد كان يدور حول الحفاظ على «المؤسسات العظيمة للتعليم والتبشير وأعمال الإغاثة في الإمبراطورية التركية».

ورد ويلسون متعاطفًا مع «كل كلمة» من خطاب دودج. فقال: «لقد فكَّرت أكثر من مرة فى عائلتك المقيمة في تركيا، ويعترينى قلقٌ عميق بشأنهم … وقلبي معك!» ولكن نبذ أمريكيون آخرون المخاوفَ التي أثارها دودج، واعترضوا بشدة على رد ويلسون. فقال روزفلت: «نحن متهمون بخَصلة خاصة من خصال النفاق الممقوتة عندما نقرُّ بصداقتنا لأرمينيا وغيرها من الشعوب المضطهَدة في تركيا، ثم لا نحارب تركيا من أجلهم.» وأضاف مؤكدًا: «لقد كانت مذبحة الأرمن من أكبر جرائم هذه الحرب، وسلبيتنا في التعامل مع تركيا بهذا الشأن يعني تغاضينا عنها.» واتهم رئيس الأركان، الذي كان قد أرسل أكثرَ من مرة سفنًا حربية أمريكية إلى الشرق الأوسط لحماية المبشِّرين وإنقاذ المختطفين والأسرى، اتهم الآن الكنيسة والعاملين في مؤسسات الإغاثة «بالإهمال المعنوي الجسيم» بسبب عدم مغادرتهم المنطقة حين كان ذلك باستطاعتهم، وبسبب إحباطهم للتدخل الأمريكي. وقال يوبِّخ دودج: «وجود المبشِّرين التابعين لنا … لم يمنع تركيا من ذبحِ ما يتراوح بين نصف مليون إلى مليون أرمني وسوري ويوناني ويهودي. وإعلاننا الحرب الآن لن يُصلِح ولا واحد بالمائة من الأضرار التي لحِقت بنا من جراء تقاعسنا عن خوض الحرب فيما مضى.»

كان دودج وروزفلت يتنازعان على أفضل الطرق لمعارضة الدكتاتورية وحفظ حقوق الأقليات، وحول أفضل طرق الحفاظ على قواعد العقيدة الأمريكية عن طريق الحفاظ على وسطائها الرئيسيِّين، وهم المبشِّرون. ولكن الاعتبارات التقليدية للقوة، مثل البترول وطرق التجارة، ومناطق النفوذ، التي كانت تجبر القوى الأوروبية على شن حرب ضد تركيا والسعي وراء غزو مناطقها نادرًا ما أُقحِمَت في ذلك الجدل الأمريكي الداخلي. فقد كان السؤال الجوهري المحوري عند الأمريكيِّين بسيطًا وهو: كيف يمكن للولايات المتحدة أن تتصرف بصورة إنسانية؟

وفي النهاية انحاز ويلسون إلى جانب دودج. كان الرئيس ابنًا لقس مشيخي، ورجلًا ملتزمًا للغاية، تكوَّنت نظرته الشاملة في مجال التبشير، فلم يستطِع أن يتخلى عن الأمريكيِّين الذين كانوا يجازفون بحياتهم من أجل القيم التي كان يقدِّسها. ولم يكن بإمكانه أيضًا أن يسمح بالنتيجة شبه الأكيدة لهذا التخلي، وهي موت عدة آلاف من البشر الذين كانوا يعتمدون على الإغاثة الأمريكية من أجل الغذاء والمأوى والرعاية الطبية. وفي حين كان الرئيس يسعى نحو إعلان الحرب على إمبراطورية النمسا والمجر في ديسمبر عام ١٩١٧، وهو ما حدث بالفعل، وكان يفكر جديًّا أيضًا في شن حرب ضد بلغاريا، لكنه لم يحِد قط عن الحفاظ على الوضع القائم مع تركيا.

أحدث هذا القرار ارتباكًا واضطرابًا في صفوف البريطانيِّين والفرنسيِّين، الذين لم يفهموا كيف يمكن للولايات المتحدة أن تستفيد من حيادها، سواء عسكريًّا أو سياسيًّا، وأسباب عدم مساعدتها لهم في إلحاق الهزيمة بعدوٍّ على هذا القدْر من الخسة والوضاعة. وأصروا على أن المنطقة بحاجة إلى السلاح الأمريكي، وليس المساعدات الأمريكية. ووافقهم روزفلت على ذلك تمامًا فاشتكى قائلًا: «من المؤلم أن نظن أن الأنانية الباردة وانعدام كل الصفات الأخلاقية في ويلسون هي التي جعلتنا مجرَّد متفرجين ومتابعين لتدمير الإمبراطورية التركية، بدلًا من أن نشارك في الحرب بشجاعة.» ولكن ويلسون ظل صامدًا على موقفه. وقد تعهَّد لكليفلاند بالقيام بكل ما في وسعه لردع مجلس النواب عن «اتباع أهوائه وميوله» في شن حرب على تركيا. وأضاف: «أتمنى من كل قلبي أن أحقِّق هذا.»3

وقد نجح ويلسون بالفعل، متخطيًا معارضةً قوية من الصحافة، ومن كلا مجلسي الكونجرس، ومن قادة الجيش، ومن رئيسٍ سابق له شعبية طاغية. فلم تدخل أمريكا حربًا ضد تركيا قط. وقد كان القلق بشأن المؤسسات التبشيرية والعديد من الشعوب التي تخدمها تلك المؤسسات يفوق كل الاعتبارات الاستراتيجية الأخرى في تفكير ويلسون. ومع ذلك، فعند اتخاذ قرار بالتخلي عن استخدام القوة في الشرق الأوسط، كان الرئيس يقلل للغاية من وضع أمريكا ومقامها في المنطقة، ويحدُّ كثيرًا من قدرته على التأثير في مستقبلها.

•••

وفي نفس التوقيت الذي كان ويلسون يقرِّر فيه عدمَ شن حرب على تركيا، كانت قوى التحالف تتآمر لتقسيم الأراضي العثمانية فيما بينها. فمن خلال سلسلة من الاتفاقات السرية التي بدأت باتفاقية سايكس بيكو في مايو عام ١٩١٦، وضعت بريطانيا يدها على مناطق شاسعة ما بين نهر الأردن والخليج العربي. واحتفظت فرنسا لنفسها بحق السيطرة على سوريا والموصل، وقسَّمت روسيا وإيطاليا شرق وجنوب غرب الأناضول فيما بينهما، على التوالي. وفي مجملها أكَّدت هذه الاتفاقات أنه بنهاية الحرب لن تختفي الإمبراطورية العثمانية فحسب، بل الدولة التركية ذاتها.

وكطرف غير مشترك في حرب الشرق الأوسط، كانت أمريكا تفتقد لمؤهلات المشاركة في هذه المحادثات. علاوة على ذلك، وحيث كانت أمريكا تعارض تقسيم مناطق الشرق الأوسط معارضةً شديدة دون اعتبار لرغبات سكانها، قاطعت الولايات المتحدة تلك المحادثات على أي حال. ولكن غياب أي مداخلات أمريكية في التخطيط لشرق أوسط ما بعد الحرب كان يعني أن ويلسون لن يستطيع تطبيقَ مبادئه الخاصة بالحرية والديمقراطية في المنطقة بفعالية. لا شك أنه كان جادًّا في التزامه بحماية «حقوق وحريات الأمم الصغيرة» و«تحرير العالم بأسره في نهاية المطاف» ولكن من دون شن حرب على تركيا لم يكن بإمكانه الدفاع عن حقوق دويلات الشرق الأوسط تلك، التي كان يعتبرها ضمن أقل دول العالم تحررًا.

سلام وهمي

ظهر تأثير رفض أمريكا المشاركة في الحرب في الشرق الأوسط عن طريق فشل إحدى محاولاتها لإقرار السلام فيه. فقد جاءت المبادرة في أواخر ربيع عام ١٩١٧ استجابةً لتقاريرَ تشير إلى تنامي الشعور بالتذمر تجاه تعاظم النفوذ الألماني في إسطنبول، ورغبة تركيا في اتباع سياسة خارجية مستقلة. وأشارت إحدى المصادر إلى أن المسئولين الأتراك يمكن إغراؤهم بأن يسمحوا لغواصات قوات التحالف بالمرور من مضيق الدردنيل وتدمير السفن الحربية الألمانية الراسية في بحر البوسفور.

وقد رحَّب هنري مورجنتاو بهذه الأخبار بكل حماسة. ومع أن تركيا كانت في نظره «السرطان الذي يمتص الحياة من العالم» والذي يجب «معالجته بطريقة حاسمة» فإنه كان يؤمن دائمًا بأن العلاج سيكون دبلوماسيًّا وليس عسكريًّا. كان مقتنعًا تمامًا الآن أن الأتراك قد «وصلوا إلى ذروة تذمرهم واستيائهم من سادتهم الألمان»، ومن ثَم اقترح مورجنتاو القيام بمهمة وساطة سرية. فمقابل تلقِّي ضمانات باستمرار هيمنتها وسيادتها على الأناضول والمضائق، كان على تركيا سحب قواتها من الحرب. وعبَّر لانسنج عن تشككه في نجاح هذه الخطة، وأخبر ويلسون مع ذلك بأنه «إذا كانت هناك فرصة نجاح واحدة من بين خمسين فرصة، فإنني لن أترك حجرًا إلا وقلبته، إذا كان في ذلك تقليل لقوة وسلطة ألمانيا». وكان الرئيس بدوره متشككًا، لكنه لم يرَ أيَّ خطر في القيام بالوساطة الأمريكية. وقال مفترضًا: «إذا نجحت الوساطة فسيكون ذلك عاملًا حاسمًا في الحرب. وإذا فشلت فلن يسوء الأمر أكثرَ مما كان عليه قبل ذلك.»

غادر مورجنتاو نيويورك في ٢١ من يونيو عام ١٩١٧، فيما سمي بمحاولةٍ لتقصي مأزق اليهود الفلسطينيين. ولتأكيد هذا التبرير، رافق مورجنتاو الصهيوني الشهير فيليكس فرانكفورتر. كان فرانكفورتر أستاذًا ممتازًا وشخصية فذة بكلية حقوق جامعة هارفارد، ومستشارًا في وزارة الحربية الأمريكية في عهد الرئيس ويلسون، وكان فرانكفورتر يحتقر مورجنتاو؛ إذ كان يجده بغيضًا ومليئًا «بالتُّرهات» عن تركيا. وكان الهدف الرئيسي للرجل الحقوقي هو ضمان ألا ينجح مورجنتاو في السماح لتركيا بالخروج من الحرب وهي لا تزال مسيطرة على فلسطين. فقد كان هذا الصهيوني يأمُل أن يغزو البريطانيون الأرض المقدسة عما قريب، ثم يعملون على تحويلها إلى وطن قومي لليهود.

كان عمل فرانكفورتر مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بأشهر قائد صهيوني في ذلك الوقت، وهو الكيميائي البريطاني المولود في روسيا حاييم فايتسمان. كان أصلع وذا أنف معقوف، وله جاذبية طاغية ومركز مرموق، وكان فايتسمان قد كوَّن علاقة قوية ومتينة مع وزير الخارجية البريطاني، آرثر بلفور. ومثل العديد من البريطانيِّين الاستعاديِّين، مزج بلفور بين العقيدة الدينية الحماسية وحسٍّ قوي بالواقع السياسي؛ وعلى ذلك كان يؤمن أنه إذا مُنِح اليهودُ فلسطين فلن يأتي المسيح فقط، بل سيخدم ذلك أيضًا مصالحَ بريطانيا الاستعمارية. وكان بلفور يشارك الصهاينة اهتمامهم وقلقهم بشأن تخلي تركيا عن الحرب قبل وصول القوات البريطانية إلى القدس، وعيَّن فايتسمان المبعوث البريطاني الرسمي إلى مورجنتاو. وقال الوزير للعالم: «تحدَّث إلى مورجنتاو، واستمِرَّ في الحديث إليه حتى تقنعه بالتخلي عن مهمته.»

تقابل فايتسمان ومورجنتاو وفرانكفورتر على صخرة جبل طارق. وحضر هذه المقابلة أيضًا أرشاج شمافونيان، المستشار الأرميني للسفارة الأمريكية في تركيا. وأخبر فايتسمان مورجنتاو بكل غلظة وصراحة أن مجهوداته مبكِّرة للغاية، وأن القوى الكبرى المركزية ستفسِّر تلك المجهودات على أنها علامة على ضَعف الحلفاء، فتضاعف من التزامها لقتالهم. وضغط على مورجنتاو للحصول على ضماناتٍ بأنه «على أي حال من الأحوال لن يحدث الربط بين المؤسسة الصهيونية أو الخلط بينها وبين أضعف محاولات إقرار سلام منفصل.» فالسلام سيأتي — حسب كلام فايتسمان وتأييدًا للرأي البريطاني — ولكن فقط بعد هزيمة تركيا وتنازلها عن أرمينيا وسوريا وفلسطين.

كانت ملاحظات فايتسمان قاتلة ومخزية لمورجنتاو، وإن لم يكن ذلك بنفس القدْر الذي أحدثته الرسالة التي حملها شمافونيان. فقد قال شمافونيان إن الأتراك كانوا غاضبين بسبب حوارٍ قال فيه مورجنتاو إن الباب العالي مستعد لبيع فلسطين لليهود. واتهموه أيضًا بالتفاخر بمهمةٍ المفترَض أن تكون سرية، تتمثَّل في إثارة ردود فعل حادة في الصحافة الغربية. واعترض متحدِّث باسم الأرمن قائلًا: «هل يعني ذلك أنه يمكن الوثوق بعصبة الشباب الأتراك مرةً أخرى فيما يخص الأرمن والعرب واليهود الصهاينة؟» ونتيجةً لذلك اعتبر مورجنتاو منذ تلك اللحظة شخصًا غير مرغوب فيه في إسطنبول، وعلى أي حال، لم يكن لدى إسطنبول النيةُ لإنهاء تحالفها مع ألمانيا.

في ضوء هذه المناقشات المدمِّرة لم يرَ مورجنتاو أيَّ معنًى للاستمرار في مهمته. فأرسل برقيةً إلى واشنطن قال فيها: «الوقت غير مناسب للدخول في مفاوضات. لذلك لا أرى أي فائدة تُرجى من الذهاب إلى تركيا.» ووافقته وزارة الخارجية على ذلك، وأرسلت تعليماتها إليه بمغادرة جبل طارق على الفور. أما فرانكفورتر، فكانت التجربة عنده برُمَّتها أشبه ﺑ «حملة ميئوس منها»، وندم ويلسون بدوره على المجهودات والمحاولات المبذولة، واصفًا إياها بأنها «وهمية وفوائدها مختلف عليها، حتى إذا تم تحقيقها». وبذلك ظهرت الولايات المتحدة في أول محاولة كبيرة لها لإحلال السلام في الشرق الأوسط بمظهر الساذجة البعيدة عن اللباقة. وأثبَت مورجنتاو، منقذ الشعب الأرميني والخائب الأمل بأنه مفاوض دون مستوى التوقعات، وشخصية ساذجة وسهلة الانخداع. وكتب العقيد هاوس في مذكِّراته: «تحوَّلت رحلة مورجنتاو إلى إخفاق تام.»

فشلُ بعثة مورجنتاو ختمَ سياسة الولايات المتحدة تجاه تركيا بقية فترة الحرب العالمية الأولى، وقوَّى مركز أمريكا الحيادي في الشرق الأوسط. وظلَّ الأتراك يقدِّرون ذلك الحياد، شاكرين له، عندما تراجعت قواتهم أمام هجوم الحلفاء. وكان البريطانيون أيضًا سعداء بعدم مشاركة أمريكا لهم في المجد والانتصار، عندما دخلت قواتهم القدس في ديسمبر عام ١٩١٧. أما أسعد الأطراف على الإطلاق فكانوا المبشِّرين والعاملين في مجال الإغاثة، الذين نجَوا في الحرب، جزئيًّا بسبب الحياد الأمريكي، وكانوا يعيشون في ظل احتلال متعاطف معهم. ومن وجهة نظرهم كان انهيار الحكم العثماني في الأرض المقدسة وكأنه نبوءة بالتعويض. فقال كليفلاند دودج مخاطبًا ويلسون: «سعادتنا لا توصف في الأيام السابقة بسبب الأنباء التي وصلتنا … من فلسطين. وأنا شاكر لكم بسبب الأسلوب الحكيم الصبور الذي اتبعتموه سواء باتخاذ خطوات تنفيذية أو عدمه.»4

لم يكن المبشِّرون الأمريكيون ومساندوهم وحدهم مَن رحَّب وهتف لنتيجة الحرب. فالصهاينة أيضًا كانوا يحلِّقون في أجواء من السعادة. ولكن إذا كان الصهاينة والمبشِّرون قد سعدوا فيما سبق لنفس الأسباب — وهي فرصة إعادة فلسطين لليهود — فإنهم كانوا يحتفلون الآن لأسباب متباينة وغير متوافقة بالمرة. كان المبشِّرون قد تخلَّوا عن هدفهم الأصلي الخاص بإعادة اليهود إلى فلسطين لمصلحة القومية العربية، وكانوا يرون نهاية الحرب باعتبارها مقدِّمة لتحرير كل الدول العربية، ومنها فلسطين. أما الصهاينة، فكانوا على العكس من ذلك، يرون في هزيمة تركيا الخطوة الأولى نحو تحقيق أمل اليهود وادعاءاتهم الأحقية في أرض إسرائيل. ولم يكن الصهاينة وحدهم المتعلِّقين بذلك الأمل وتلك الرؤية. فقد كان يقف معهم ملايين الأمريكيِّين المسيحيِّين، ولأول مرة، يقف معهم أيضًا عدد صغير لكنه متنامٍ من اليهود الأمريكيِّين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤