الفصل التاسع عشر

ميلاد حركة أمريكية

كان تحوُّل عدد كبير من اليهود الأمريكيِّين إلى صهاينة أمريكيِّين عمليةً بطيئة ومليئة بالاضطرابات. وكانت أسباب ذلك التقلب لا علاقة لها بوجود شعب آخر في فلسطين، بل لأسباب خاصة بالجالية اليهودية. فخوفًا من إثارة المشاعر المعادية للسامية الراكدة تحت سطح المجتمع الأمريكي، كان غالبية اليهود ما زالوا ينظرون إلى فكرة إعادة تكوين دولة يهودية باعتبارها فكرة غير عصرية، إن لم تكن خطيرة. وحذَّر الحاخام الإصلاحي الشهير رودلف جروسمان عام ١٨٩٧ من أن «الصهيونية تُعدُّ ضربةً قاتلة لوطنية وولاء اليهود للبلد الذي يعيشون تحت حمايته». وكانَ جوليوس كان، عضو مجلس النواب عن كاليفورنيا، وعضو الجالية الإصلاحية، يخشى أيضًا من أن تُعرِّض الصهيونية اليهودَ الأمريكيِّين لاتهامات «بأنهم مجرد مقيمين مؤقتين في الولايات المتحدة، يستغلون المزايا التي يحصلون عليها بالإقامة هناك، وهدفهم النهائي هو أن يصبحوا فلسطينيِّين ومقيمين في الدولة اليهودية».

كانت مشاعر العداء للسامية لا تقتصر على اليهود الإصلاحيِّين. فقد كان اليهود الأرثوذكس يعارضون تلك الحركة أيضًا — ليس بسبب تركيزها على الدولة اليهودية، ولكن بسبب صبغتها العلمانية. فقد كان الصهاينة يمثلون «أكثر الأعداء الذين ظهروا بين الشعب اليهودي إرهابًا»، وذلك حسب ما قالت الجمعية الأرثوذكسية أجوداث إسرائيل. وقال الحاخام الشهير شالوم دوف بير شنيرسن إن «جلَّ رغبتهم … التخلص من فكرة التوراة … والتمسك بقوميتهم فقط». وأما الصفوف المتنامية من اليهود الاشتراكيِّين الذين لم يكونوا يرون أنفسهم كأفراد في شعب متميز، بل كأعضاء من طبقة العمال الكادحة الدولية، فكانت الصهيونية عندهم أيضًا فكرة مبغوضة. كانت كراهية فكرة الصهيونية أحدَ الأفكار القليلة بالفعل التي التفَّ حولها اليهود الأمريكيون في أوائل عام ١٩٠٠.

كانت الأحداث العنيفة مطلوبة لفصل ولو جزءًا صغيرًا من هذا المجتمع عن موقفه المعارض للصهيونية. وكانت المذابح الروسية في ثمانينيات القرن التاسع عشر، التي لقي فيها عشرات الآلاف من اليهود حتفهم، قد أقنعت اليهود الأمريكيِّين بحاجتهم إلى نشاط متعاون ومنسَّق، في حين ذكَّرتهم محاكمة دريفوس في التسعينيات من القرن التاسع عشر في فرنسا بأن معاداة السامية مستمرة في التقيح حتى في أوروبا التي يفترض أنها متنورة. وبسبب نظرة غرب أوروبا غير المرحِّبة، واكتظاظ المدن الأمريكية بالمهاجرين، بدأ قادة اليهود الأمريكيون في التفكير في خيارات أخرى. وكان أحد تلك الخيارات هي فلسطين، التي كانت ذات أجواء قاسية وبها مشكلات سياسية. وكتب أوسكار ستراوس، السفير السابق في إسطنبول، إلى سيمون وولف، القنصل الأمريكي السابق في الإسكندرية: «أنا أؤيد أيَّ مخرج لأي جزء من اليهود الروس. فأي فشل، مهما عظُم، لا يمكنه أن ينتِج وضعًا مشابهًا للوضع اليهودي في روسيا.» ولكن مساندة إعادة استيطان اليهود الروس في الأرض المقدَّسة كان أمرًا، وتحويل تلك الأرض إلى دولة يهودية — وهو تحرُّك عارضه كلٌّ من «ستراوس» و«وولف» — كان أمرًا آخر تمامًا. لذلك كان أدولف أوكس ذاته، الذي قام بتغطية المذابح الأرمينية على الصفحات الأولى لجريدة «نيويورك تايمز»، هو مَن سعى إلى منع كل المقالات عن الصهيونية.

ومع ذلك ازداد عدد أتباع الصهيونية، خاصة بين اليهود الشرقيِّين الوافدين حديثًا إلى الولايات المتحدة. وعام ١٨٩٧ تكوَّن اتحاد الصهاينة الأمريكيِّين. وعلى عكس الاتحادات الصهيونية في روسيا وبولندا التي كانت تحض أعضاءها على الانتقال إلى فلسطين، لم يدعُ الاتحاد الأمريكي قط إلى هجرة اليهود من الولايات المتحدة. بل ظلت الصهيونية كما كانت في مفهوم إيما لازاروس: ملجأ وواحة ليهود أوروبا المضطهدين. وقال ريتشارد جوتهايل، أستاذ الساميَّات بجامعة كولومبيا، الذي كان أول رئيس للاتحاد الصهيوني: «إننا نؤمن أن مثل هذا الوطن من الطبيعي أن يكون في بلد آبائهم.» وأضاف: «ولكن هذا لا يعني ضرورة عودة كل اليهود إلى فلسطين.» وكان من بين أنشط تلاميذ جوتهايل تلميذٌ اسمه ستيفن وايز، وكان أحد الحاخامات الإصلاحيِّين القلائل الداعين إلى تكوين «مجتمع يهودي صغير داخل فلسطين»، كما قال إن اليهود الأمريكيِّين «لا يشتاقون إلى فلسطين»، لكنهم «يفضِّلون منْحَ ولائهم لهذا البلد الذي يمكنه وحده تلبيةَ مطلبهم في الحرية». أما هؤلاء اليهود الذين غادروا الولايات المتحدة بالفعل متجهين إلى فلسطين — ومن بينهم جولدا مايرسون (مائير فيما بعد) وهنرييتا زولد، وكلتاهما ستُعرض شخصيتها في فصل لاحق — فقد كانوا من القلة النادرة.1

ورغم نجاح فكرة الصهيونية في إعادة تعريف ذاتها بمصطلحات أمريكية خالصة، فإنها بإعادة إحياء الدولة اليهودية جذبت فقط جزءًا من اليهود الأمريكيِّين. فمن بين نحو ثلاثة ملايين يهودي كانوا يعيشون في الولايات المتحدة عام ١٩١٤، سدَّد ١٥ ألفًا فقط مستحقات الاتحاد الصهيوني، الذي كانت ميزانيته بالكاد تتعدى ١٢٠٠٠ دولار. وظلَّت الصهيونية حركةً أوروبية بصورة أساسية، يقع مركزها الرئيسي في مدينة برلين. ويبدو أن السؤال الذي طرحه مؤسسها تيودور هيرتزل: «هل سينسى يهود أمريكا … في جنة الحرية التي يعيشون فيها، ما يرزح إخوانهم تحته من عبودية ثقيلة؟» قد كُتِب عليه أن يظل بلا إجابة.

ومع أن الصهاينة الأمريكيِّين كانوا ضئيلي الحجم قليلي العدد بحسب الإحصاءات، فإنهم كان لهم تأثير واسع النطاق، لا يتناسب مع أعدادهم القليلة. فقد نجح قادتهم، الذين تميزوا بالبلاغة والموهبة، من أمثال جوتهايل ووايز وفيليكس فرانكفورتر، في الوصول إلى متخذي القرار الأمريكيِّين وإلى الخيرين من اليهود، الذين كانوا على استعداد للتعاون مع الصهاينة لإنقاذ اليهود، رغم معارضتهم فكرةَ إقامة دولة يهودية. وعلى عكس اليهود المهمَّشين في أوروبا، الذين كانت الصهيونية تمثل حلًّا لإحساسهم المتفاقم بعدم الأمان، كان هؤلاء اليهود الأمريكيون الممتزجون في نسيج المجتمع ينظرون إلى الصهيونية باعتبارها تعبيرًا عن ثقة متزايدة يستشعرونها بصفتهم مواطنين أمريكيِّين. وكانت نفس الإجراءات العلمانية والتحديثية التي تؤدي إلى تغريب المسيحيِّين الأمريكيِّين وإبعادهم عن فكرة إعادة استيطان اليهود في فلسطين هي التي تحرِّر وتقوِّي وتشجِّع العديد من اليهود الأمريكيِّين على تبنيها. فعن طريق التغلُّب على مشاعر العداء للسامية، والأعداد المحدودة للقبول في الجامعات، والقيود الاجتماعية، كان اليهود قد نجحوا في كسر معاقل السلطة البروتستانتية ليصبحوا أفرادًا محترمين — وإن لم يكونوا مقبولين تمامًا — في الطبقة العليا الأمريكية. ومثل غيرهم من الأقليات التي كانت قد نجحت في الامتزاج بأهل البلد الأصليين، كان اليهود الأمريكيون لا يرون تناقضًا بين الفخر بعِرقهم والولاء لعَلَم بلادهم. وتساءل الأستاذ الجامعي جوتهايل: «هل يُعدُّ الأمريكي الألماني أمريكيًّا بدرجة أقلَّ لأنه يتحدَّث الألمانية ويهتم بإخوانه الألمان في موطنه الأصلي؟ وهل الأمريكي الأيرلندي أمريكيًّا بدرجة أقلَّ لأنه يجمع الأموال لمساعدة إخوانه المناضلين في جرين آيل؟»2

لم يكن من بين هذا النسل الناشئ من اليهود الأمريكيِّين المتعلمين تعليمًا متميزًا والمترابطين معًا، مَن هو أكثر فعالية من لويس ديمبتز برانديس في المزج بين الأهداف الصهيونية وأهداف الولايات المتحدة. سمِّي برانديس على اسم عمٍّ له كان قد ساعد على ترشيح لنكولن رئيسًا عام ١٨٦٠ وكان قد وُلِد في قلب ولاية كنتاكي الأمريكية، ولم تكن له أي علاقة بالعادات اليهودية أو الدِّين اليهودي، فكان يَعُدُّ نفسه أمريكيًّا خالصًا. كتب عنه وايز فيما بعد: «أصالة الرأي وسلامة الفكر والوضوح والنبل كانت كلها من صفاته. ما رأيته إلا وشكرت ﷲ على وجوده بيننا.» كان أيضًا وسيمًا وله ملامح جميلة وذكيًّا ذكاء خارقًا. وقد أنهى دراسته المدرسية في سن الرابعة عشرة، وكان الأول على دفعته بكلية حقوق جامعة هارفارد بعدها بست سنوات فقط. كان النجاح طبيعيًّا لبرانديس، بوصفه أستاذًا للقانون ومحاميًا. وعندما وصل إلى مرحلة منتصف العمر، كان قد أسَّس سمعة باعتباره شخصًا لطيفًا كيِّسًا، وإن يكن أحيانًا متسلطًا، يمتلك تفانيًا والتزامًا بمبادئ المساواة العنصرية والاجتماعية، وبدور أمريكا في تحرير العالم.

آمن برانديس بانسجام هذه القناعات تمامًا مع الصهيونية. وقد التقى تلك الفكرة في البداية في جامعة هارفارد، حيث تم تكوين جمعية صهيونية، رغم القيود المحكمة المفروضة ضد التحاق اليهود، وقام بتشجيعها عددٌ من الأساتذة المؤمنين بفكرة الاستعادية. ورأى المحامي الشاب توازيًا بين سكان الحدود العاملين بجِد في أمريكا الاستعمارية والرواد الصهاينة في فلسطين؛ «الآباء الحُجاج اليهود، الذين يجب ألا يجد أبناء الآباء الأمريكيِّين صعوبةً في فهمهم والتعاطف معهم». وحين كان يقوم بالتحكيم في إضراب عمال يهود بشركة نسيج في نيويورك عام ١٩١٠، تعرَّف برانديس لأول مرة على تقاليد شعبه ومنظورهم. واستنتج من ذلك أن اليهود كانوا ديمقراطيِّين بطبيعتهم، «ويمتلكون حسًّا أخلاقيًّا عاليًا، وأيضًا حسًّا عميقًا بأخوَّة البشر»، وعلى ذلك يستحقون الحفاظ على هويتهم العِرقية والقومية. وبعد ذلك بسنتين، أثناء حديثٍ مع جاكوب دي هاس، وهو زميل قديم لهيرتزل، وكان قد أصبح محرِّر جريدة صهيونية في بوسطن، سمِع برانديس عن المزرعة الصهيونية التجريبية التي كانت وزارة الزراعة قد ساعدت على تأسيسها قُرب حيفا، وسمع عن القومية اليهودية لعمِّه ديمبتز. وقد أثارت أهداف «أولئك الحالمين» إعجابه، فقرَّر الانضمام إلى الاتحاد الصهيوني. وعام ١٩١٤، وكانت سنُّه حينها ٥٨ عامًا، انتُخب بالإجماع رئيسًا له.

لم يكن برانديس صاحبَ فكر جديد أو مبتكر حول أمور القومية اليهودية. فقال مرددًا كلماتِ وايز وجوتهايل وأفكارهما: «لا يوجد تناقضٌ بين الولاء لأمريكا والولاء لليهودية. فكل يهودي أمريكي يساعد على تقدُّم المستوطنات اليهودية في فلسطين … حتى لو لم يكن هو ولا نسله سيقيمون هناك أبدًا … سيصبح إنسانًا أفضل وأمريكيًّا أفضل عن طريق قيامه بذلك.» كان الصهاينة الأوروبيون، الذين فضَّلوا بناء المستوطنات البسيطة على الأفكار التجريدية، يرون أن برانديس مرتبط بصورة مبالغ فيها بالنظريات، وغير مستعد لتغيير رأيه من خلال الحقائق الواقعية.3 ولكن في حين كان الأوروبيون يمدون تلك المستوطنات بالمعاول والمجاريف، كان برانديس، الصهيوني الأمريكي النموذجي، يمد الحركة بأكثرِ ما كانت تحتاج إليه؛ أي بالسلطة والقوة. فقد كان برانديس مستشارًا قريبًا من ويلسون، وسرعان ما أصبح أولَ قاضٍ يهودي في المحكمة العليا. لذلك كانت له اتصالات بأعلى مستويات الدوائر في الحكومة الأمريكية. وبانتقال مركز الصهيونية العالمية من مدينة برلين المحاربة إلى مدينة نيويورك المحايدة، أصبح هذا المدخل ضروريًّا ليس فقط لإنعاش الأحوال الاقتصادية ليهود فلسطين، بل لبقائهم أحياءً في كثير من الأحيان أيضًا.

صهيون الجديد ينقذ القديم

كان اليهود الفلسطينيون قد عاشوا طويلًا تحت ظروفٍ غير مستقرة، غير موثوق بهم وكثيرًا ما عاشوا تحت الاضطهاد. وكانت السلطات التركية لا تفرِّق بين الجالية الدينية اليهودية القديمة المعوزة، والجالية الجديدة — «اليشوف» — من المزارعين الصهاينة. بل إنها كانت تظن أن كل اليهود يتآمرون ويخطِّطون لتكوين دولة مستقلة والانفصال عن الإمبراطورية العثمانية. لذلك سعى الباب العالي إلى تقليص هجرة اليهود وشرائهم للأراضي في فلسطين، وهي سياساتٌ اعتبرتها الولايات المتحدة سياساتٍ عنصرية. ولكن الإجراءات المعادية لليهود استمرَّت في فلسطين في الأعوام التي انتهت بعام ١٩١٤، وتكثَّفت في الحرب. ومِثل الأرمن، تم اتهام اليهود بالتجسُّس لمصلحة الحلفاء وتمهيد الطريق لهم، وهُدِّدوا بمصيرٍ مماثل. ومع التحذير بمخاطر ذلك على المسيحيِّين الفرنسيِّين والبريطانيِّين والروس الذين مكثوا في فلسطين، تنبَّأ لانسينج بأنه ستكون هناك «مذبحة عامة لكل اليهود».

وبالفعل بدَت الأحداث في فلسطين وكأنها تتجه نحو كارثة كبرى. وكتب القس أوتيس جليزبروك، القنصل الأمريكي في القدس، بالتفصيل عن أعمال نهب وسلب وتخريب على نطاق واسع ضد يهود المنطقة، بالإضافة إلى الاستيلاء على ممتلكاتهم وإغلاق مصارفهم. وكانت السلطات التركية قد جرَّدت المستوطنات اليهودية من أسلحتها الدفاعية، مع تسليح القبائل العربية المجاورة وتشجيعها على شن حرب مقدَّسة ضد الكفار. ومع أن اللغة العبرية لم تكن من لغات الحلفاء، إلا أنها حُرِّمت ومُنع استخدامها أيضًا، ومن بينها أيُّ أختام عبرية أو فواتير تمثِّل عروضَ أسعار لعمليات تجارية داخلية بين «اليشوف». ومع ذلك كان أكثر تلك القرارات تدميرًا هو قرار الطرد المزمع لنحو ٥٠ ألف يهودي روسي؛ أي ثلاثة أرباع الجالية اليهودية كلها، الذين كان الأتراك يعتبرونهم الآن من الأعداء. وحذَّر جليزبروك من أن تدمير المشروع الصهيوني يبدو وشيكًا، وكان جليزبروك قسًّا سابقًا من جورجيا، وأستاذًا بكلية اللاهوت بجامعة برينستون، وقد عيَّنه الرئيس ويلسون شخصيًّا. وكان يخشى من أن «ضربة قوية» ستوجَّه قريبًا إلى «الطموحات الدينية لليهود في العالم أجمع» وإلى «رسالة الأمل التي جعلتهم يشعرون فجأة بالروح القومية».

ولأن الدول الغربية الأخرى كانت إمَّا متحالفة معًا أو في حرب ضد تركيا، ولأن اليهود الأوروبيِّين كانوا منقسمين حسب ساحات القتال ومنشغلين بالبقاء على قيد الحياة، لم يتبقَّ سوى قوة واحدة يمكن ليهود فلسطين اللجوء إليها. وكانوا يتضرعون: «باسم الأرض المقدَّسة وباسم الكتاب الذي أحيينا لغته والذي نسعى لتحقيق روحه، فإننا نناشد الأمةَ الأمريكية القوية النبيلة أن تستخدم نفوذها لإنقاذ مشروع المستوطنات اليهودية في فلسطين».

وكانت الاستجابة لهذا النداء تمثِّل مشكلة معقَّدة للولايات المتحدة؛ فقد كانت دولةً على الحياد، وليس لديها أي مبرِّر للتدخل في أي منطقة عثمانية، وبالأخص فلسطين. وعلى عكس الأنشطة التبشيرية والطبية والثقافية القديمة في مناطقَ أخرى من الشرق الأوسط، كان لدى الأمريكيِّين وجودٌ محدود فقط في فلسطين. ولكنَّ مجرد عدم وجود مؤسسات لم يكن ليوقف أو يردع رئيسًا له صلاتٌ دينية قوية بالأرض المقدَّسة وبالشعب المختار. كما لم يستطِع ويلسون، الذي لم يكن فقط رجلًا روحانيًّا بل سياسيًّا ماكرًا أيضًا، تفويتَ تلك الفرصة لاستقطاب أصوات اليهود الأمريكيين، الذين كانت أصواتهم قد أصبحت ذات ثِقَل وتأثير في الانتخابات. فقال أثناء حملته الانتخابية عام ١٩١٢: «إذا أُتيحت لي الفرصة للمساعدة في إعادة استيطان الشعب اليهودي في فلسطين فسأقوم بذلك بكل تأكيد»4

ولم يكن هذا وعدًا فارغًا، كما أثبت ويلسون بعد انتخابه بفترة قصيرة. فقد أخبر مورجنتاو أن «أي شيء يمكنك القيام به من أجل مصيرٍ أفضل لإخوانك في الدِّين سينعكس بالإيجاب على أمريكا. ويمكنك أن تعتمد على الدعم الكامل ومساندة الإدارة الأمريكية.» وقد ثبت فعليًّا ضرورة هذا الدعم بعد أن قام يهودٌ أمريكيون أثرياء بالتبرُّع بمئات الآلاف من الدولارات من أجل الإغاثة ومن أجل طوارئ طبية وأغذية في فلسطين، ولكنهم مُنعوا من توصيلها بسبب حصار الحلفاء وبسبب المقاومة التركية للصهيونية. وبموافقة ويلسون، قام برانديس بتنشيط آليات العلاقات الخارجية لأمريكا؛ بعثتها الرسمية، ونظَّم الاتصالات بها، وشفراتها، وجنَّدها لخدمة القضية الصهيونية. وكان المسئولون الأتراك يتلقون تأكيداتٍ بولاء الصهاينة غير المشروط وغير المحدود، وكانوا حذرين من أن الشعب الأمريكي سيحمِّلهم شخصيًّا «المسئولية عن حياة وممتلكات اليهود والمسيحيِّين في حالة حدوث أي مذبحة أو سلب أو نهب». ووعدت تركيا البريطانيِّين والفرنسيِّين بأن الطعام والذهب والبنزين المقدَّم لليهود لن يُحَوَّل إلى المجهود الحربي التركي. وبعد استرضاء جميع الأطراف، حُمِّلَت المؤن على سفن البحرية الأمريكية ونُقلت إلى يافا لتوزيعها. ومُلئت بعض هذه السفن في رحلة العودة بمنتجاتٍ من المستوطنات اليهودية — خمور الكرمل وبرتقال — من أجل تصديرها.

ومع كل التعقيدات، فإن إدخال وإخراج الشحنات من فلسطين كان أقلَّ إرهاقًا من نقل اليهود «الأعداء» بجوازات سفر روسية أو أي جنسيات أخرى من الحلفاء. وعن طريق تدخُّل مورجنتاو، مُنِح هؤلاء اليهود مهلةٌ قدرها شهر واحد للتخلي عن جنسيتهم الأصلية ليصبحوا مواطنين عثمانيِّين. وقبِل العديد منهم هذا الخيار، ولكنَّ آخرين إما فضلوا النفي على الجنسية التركية، أو لم يتمكنوا من دفع قيمة التجنُّس وهي عشرة دولارات. ومرة أخرى تدخَّل برانديس والصهاينة الأمريكيون ونظَّموا نقل هؤلاء اليهود المعرَّضين للخطر إلى مصر، التي كانت تحت الوصاية البريطانية. واشتركت أربع سفن تابعة للبحرية الأمريكية ومعها عدد من السفن التي تحمل أعلامًا حيادية في عملية الإنقاذ، وظلَّت مدة سبعة أشهر تتنقل في بحار مناطق الحرب ما بين يافا والإسكندرية. وفي أغسطس من عام ١٩١٥، قدَّمت لجنةٌ تمثِّل الستة آلاف يهودي الذين أُنْقِذوا ونُقلوا على متن السفينة «تينيسي» لقبطانها صينيةً فضيةً هدية، قائلين إنها تقديرٌ لعملٍ نبيل «سيبقى طويلًا في أذهان الشعب اليهودي وذاكرته». وردَّ القبطان بنتون ديكر بإعلان أن الصهيونية «بلا شك هي إحدى كبرى الحركات في العالم»، وقبِل الهدية باسم الشعب الأمريكي «الذي يقف في تلك الأوقات الحالكة المضطربة إلى جانب مصالح الإنسانية».

وبعدما كان اليهود يستقلون السفن في يافا، كثيرًا ما كانت تلك السفن تنطلق شمالًا نحو بيروت، لتستقلها أعدادٌ من المبشِّرين والحجاج وأساتذة الكلية السورية البروتستانتية. وبذلك كان يتقابل على متن السفن الحربية — رمز القوة الأمريكية — أبناءُ مسيحيي القرن التاسع عشر المساندين لإعادة استيطان اليهود في فلسطين ويهود القرن العشرين الذين كانوا الآن بصدد تلبية وتنفيذ تلك الدعوة. ومن بين تلك الفئة الأخيرة كان ألكسندر وريفكا آرنسن، وهما أخٌ وأخته من المزرعة التجريبية الصهيونية، كانا قد اتُّهما بالانتماء إلى شبكة تجسس لمصلحة البريطانيين. واضطُرا إلى الهرب إلى لبنان، حيث آوتهما عائلة بليس، حتى تمكَّنا أخيرًا من الصعود على متن السفينة الأمريكية «دي موين». وتذكَّر ألكسندر أن «صيحةَ وداعٍ عالية صدرت من اللاجئين» حين همَّت السفينة بمغادرة الميناء، و«هي صيحةٌ امتزج فيها الترحيب بالحرية بالخوف والأمل في المستقبل». رفعت السفينة أعلامها، في حين وقف ركَّابها «الذين تحركت مشاعرهم بأحاسيسَ قوية بالحب والاحترام» في صمت.

ولكن العقوبات ضد يهود فلسطين استمرَّت، وازدادت سوءًا بتقدُّم الحرب. وأثناء تراجع الجنود الأتراك أمام القوات البريطانية كانوا ينهبون مزارعَ اليهود المجردة من كل شيء أصلًا، ثم قاموا بطرد البقية الباقية من اليهود الموجودين في يافا. وكان استمرار اليشوف وبقاؤهم يرجع بصورةٍ أساسية إلى تدخُّل الولايات المتحدة وإلى مخاوف تركيا من استفزاز الولايات المتحدة. واعترف تقرير للجمعية الصهيونية عام ١٩٢١ بأن «أمريكا كانت هي الدولة الوحيدة التي تمكَّنت من إنقاذ فلسطين من الانهيار التام إلى الأبد».5 وبذلك لم تكن الولايات المتحدة قد قامت فقط بالحفاظ على الأسس الاقتصادية والاجتماعية للدولة اليهودية المستقبلية، بل قامت أيضًا بإنقاذ العديد من قادتها، ومنهم ناشط شابٌّ من العمال اسمه ديفيد بن جوريون.

ابن الأبرشية واليهود

كان حافز أمريكا على مساعدة يهود فلسطين إنسانيًّا في المقام الأول، وليس سياسيًّا. وتعاملت الولايات المتحدة مع مأزق اليهود كما تعاملت مع أزمة الأرمن، معتبرةً أنَّ ما حدَث لهما وحشيةٌ وظلم وقعا على شعبين يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بمصالح أمريكا الخيرية والدينية، في منطقةٍ من العالم تتمتع بمعزَّة خاصة. وكما مدَّت إدارة الرئيس ويلسون يدَ المساعدة للأرمن بصرف النظر عن طموحاتهم السياسية، قامت أيضًا بمد يد المساعدة لليشوف، دون أن تتخذ موقفًا محددًا من الصهيونية. ولكن حين كان جنود المشاة الأمريكيِّين يسيرون نحو جبهة القتال في أوروبا، وحين كان رجال الدولة الأوروبيون يعيدون سرًّا رسمَ خرائط الشرق الأوسط في مرحلةِ ما بعد الحرب، وجدت واشنطن أنه لا يمكنها البقاء على الحياد فيما يخص فلسطين.

كان الصهاينة الأمريكيون، أكثر من أي عامل آخر، مسئولين عن تحريك البيت الأبيض بعيدًا عن موقفه الحيادي. ومع بداية عام ١٩١٧، كان قادة الصهيونية، الذين أصبحوا يمثلون فئةً انتخابية سريعة النمو، يضغطون على البيت الأبيض لتبنِّي قضيتهم رسميًّا. فأخبر الكولونيل هاوس الرئيسَ ويلسون أن «اليهود من جميع الجماعات هبطوا علينا بكل قوة، ويبدو أنهم مصممون على الدخول بقوة السلاح إن لم يجرِ إدخالهم بالحسنى». ولكنَّ اليهود الأمريكيِّين لم يكونوا وحدهم مَن مارس هذه الضغوط؛ فالبروتستانت المؤمنون بإعادة اليهود إلى فلسطين كانوا يطالبون أيضًا بمصادقة رئاسية أمريكية على الصهيونية. وأعلن رئيس كلية ويتون تشارلز بلانشارد أنه «في السنوات الأخيرة أثَّرت الحركة الصهيونية كثيرًا على عدد كبير من طلاب العلوم الدينية، بدايةً لتحقيق السلسلة العظيمة من النبوءات». وانضم ويليام بلاكستون، كاتب مذكرة عام ١٨٩١ المسانِدة لإقامة دولة يهودية، إلى عدد من القساوسة البروتستانت في نشر وتوزيع التماس جديد مؤيِّد للصهيونية. وفازت جهودهم بدعم ومساندة عدد من الشخصيات العامة الهامة، من بينها نورمان هابجود، وهو مدافع عن حقوق المرأة ومحرِّر مجلة «هاربر» الأسبوعية، وكذلك بمساندة الرئيس السابق ويليام تافت. وكتب تيدي روزفلت: «يبدو لي أنه من السليم تمامًا بدءُ تأسيس دولة صهيونية حول القدس.» وأكَّد أيضًا أنه «لن يكون هناك سلام حقيقي» حتى يُمنح العرب والأرمن استقلالهم، وحتى «يُمنح اليهود حقَّ السيطرة على فلسطين».

لم تأتِ الضغوط على ويلسون للتصريح بمساندته للصهيونية علنًا فقط من داخل البلاد، بل أيضًا من الحكومة البريطانية المسانِدة للصهيونية. ومع أنه كان قد وافق سرًّا على الاتفاق مع فرنسا على وضع فلسطين تحت الانتداب الدولي، فإن وزير الخارجية البريطاني بلفور كان يأمُل في قيام الولايات المتحدة بإدارة الأرض المقدَّسة، إما وحدها أو بمشاركة بريطانيا. وكانت المزايا المزدوجة للخطة تكمُن في منح قناة السويس حمايةً أكبر، مع إشراك أمريكا رسميًّا في مساعي تأسيس وطن قومي لليهود. ولكن بلفور كان لديه أسباب أخرى أقل عقلانية للسعي وراء إعلان أمريكي بريطاني بدعم الصهيونية. فقد آمن أن مثل هذا التصريح سيُقنِع اليهود الأمريكيِّين من ذوي السلطة والنفوذ — الذين كان كثيرون منهم لا يزالون مرتبطين ثقافيًّا بألمانيا — بالمصادقة على اشتراك أمريكا في الحرب. وكان ذلك سيؤدي أيضًا إلى إقناع الشيوعيِّين الروس — الذين كانت قوَّتهم تتنامى، وكان يبدو أن عددًا كبيرًا منهم من اليهود — بعدم السعي وراء سلام منفصل.

وسعيًا وراء تحقيق تلك الأهداف — الواقعية منها والوهمية — وصل بلفور إلى الولايات المتحدة في أبريل عام ١٩١٧. وقد اتَّجهت نيَّته إلى استعراض أفكاره حول فلسطين، عن طريق حديث «رجل لرجل» مع ويلسون عن الاتفاقات السرية للحلفاء حول الشرق الأوسط. كان بلفور قد وُلِد أثناء قمة القوة البريطانية، في عام ١٨٤٨، وكانت آراؤه تقليدية ومحافظة للغاية، وكان بلفور ينتمي إلى مدرسة «مسئوليات وأعباء الرجل الأبيض» في مجال العلاقات الخارجية. وكان ذلك الموقف كثيرًا ما يثير تناقضًا في واشنطن، بالضرب على أوتار التفوق الأنجلوساكسوني من ناحية، ومعاداة الاستعمار من ناحية أخرى. ومع ذلك فلم يُظهِر الكولونيل هاوس أيًّا من مشاعر عدم الثقة تلك. وكتب، بعد علمه بخطط وزير الخارجية البريطاني: «كلها سيئة، وقد أخبرت بلفور بذلك. إنهم يجعلون من الشرق الأوسط مكانًا لتوليد حرب مستقبلية.» وكانت أشدَّ الأمور إثارةً لغضب واشمئزاز هاوس اقتراحٌ بانتداب أمريكا على فلسطين. فخمَّن أن «الإنجليز يريدون بالطبع سدَّ الطريق إلى مصر والهند، ولن يستنكفوا أن يستغلونا لتنفيذ تلك الخطة».

كان الخيار أصعبَ بالنسبة إلى ويلسون، الذي كان من أشد المعجبين ببريطانيا منذ زمن طويل، لكن كان له ردُّ فعل سلبي أيضًا. فقد بدت له اتفاقية سايكس بيكو، وهي الاتفاقية الأوروبية السرية لتقسيم الإمبراطورية العثمانية، مثل علامة شاي تجارية، فقال: «[إنها] مثال جيد للدبلوماسية القديمة، ويمكنها أن تؤدي إلى تهدئة الحماسة [الأمريكية] للحرب. وإن شعبنا ومجلسنا النيابي لن يكافحا من أجل أي هدف أناني من جانب أي طرف مشترِك في الحرب … خاصة من أجل تقسيم المناطق، كما جرى التفكير بشأن آسيا الصغرى مثلًا.» وأضاف أن أمريكا تعارض كل المحاولات السرية والخفية لتقسيم الشرق الأوسط، ومن بينها اقتراحات بريطانيا بشأن فلسطين.6

بعد صدمة بلفور في الإدارة الأمريكية، اتَّجه إلى برانديس. وحيَّاه أثناء المقابلة قائلًا: «لقد سمعت الكثيرَ عنك، وأرغب في الحديث إليك»، وقال بلفور عن برانديس إنه ربما يكون «أكثر الأمريكان تميزًا» قابله في حياته. بل الواقع أن بلفور عرف القليل من برانديس مما لم يكن يعرفه من قبل. ومع أن الصهاينة الأمريكيِّين كانوا يفضلون بناء دولتهم القومية تحت رعايةٍ أنجلوأمريكية، فإنهم كانوا واثقين من أن الولايات المتحدة لن توافق أبدًا على أهداف بريطانيا الاستعمارية، ولن تقوم بأي دور استعماري في فلسطين. ولكن برانديس كان مؤمنًا بأن الرئيس ويلسون سيساند ويدعم أيَّ إعلان بريطاني بصيغةٍ عامة يساند الأهداف الصهيونية. وأكَّد ذلك قائلًا:

«غالبية الرأي المسيحي في هذا البلد، خاصة الكنائس البروتستانتية، تساند فكرتنا.» وكان بلفور سعيدًا بذلك كلَّ السعادة. فبالعمل عن طريق برانديس كان سيحصل على تأييد أمريكي رسمي، وإن يكن غير مباشر، لطموحات بريطانيا في الشرق الأوسط. وأعلن بلفور: «أنا صهيوني.»

واجه التحالف الوثيق بين بريطانيا والصهيونية ويلسون بمعضلة أساسية: كيف تجري معارضة الاستعمار، وفي نفس الوقت مساندة فكرة وطن قومي لليهود؟ وزاد القرار تعقيدًا بسبب مشاعر ويلسون المتناقضة نحو اليهود والصهيونية. ومع أن ويلسون كان يحترم اليهود المتميزين من أمثال برانديس وفرانكفورتر، فإنه كان يصغي أيضًا إلى المقولات الشعبية المعادية للسامية حول سلطة اليهود وحبهم للمال وطمعهم وجشعهم. لكنه كان يؤمن أيضًا بأن إعادة فلسطين لليهود لها تبِعات دينية، وليس فقط سياسية، وأنه قد قدَّر له هو، وودرو ويلسون، تسهيل لَمِّ الشمل هذا. فأخبر الحاخام وايز ذات مرة: «إنني أنا ابن الأبرشية يجب أن أكون قادرًا على المساعدة في إعادة الأرض المقدَّسة لشعبها.» وكانت محاولة التوفيق بين مشاعره المتناقضة نحو اليهود والصهيونية، وبين الصهيونية والحاجة إلى رسم سياسة خارجية مستقلة عن أوروبا، هي الشغل الشاغل لويلسون، ومن بين أولوياته الأولى، ومن بين أهم التحديات التي واجهها في الحرب وما بعدها.

واتضحت صعوبةُ التغلُّب على هذا التحدي بجلاء في ٩ من مايو ١٩١٧، في لقاءٍ استمر ٤٥ دقيقة بين ويلسون وبرانديس. وقد عبَّر الرئيس فيه عن إعجابه بالحركة الصهيونية وهدفها الخاص بإنشاء «وطن آمن قانونيًّا ورسمي للشعب اليهودي في فلسطين». وقد تعهَّد بأنه يومًا ما سيعلن تلك المشاعر على الملأ، ولكن نظرًا لواقع أن الولايات المتحدة لم تحارب تركيا وأن العديد من الحلفاء كانت لديهم خطط أخرى بشأن الشرق الأوسط، فضَّل ويلسون اتباعَ سياسة الصمت. ولكنه وعد برانديس بأنه سيضع مسوَّدة للتصريح الرئاسي بشأن الصهيونية عندما يأتي الوقت المناسب للإعلان عن ذلك.

ولكن شخصيات أخرى في الإدارة الأمريكية، وعلى رأسها وزير الخارجية روبرت لانسينج، كانت تعارض إعلان أيَّ تصريحات حول الصهيونية على الإطلاق. وقد حذَّر الكولونيل هاوس ويلسون من «العديد من المخاطر الكامنة» في إصدار مثل هذا التصريح. وكانت النتيجة سلسلة من الرسائل المتناقضة الصادرة من البيت الأبيض، بدأت بمقاومة فكرة وطن لليهود تحت رعاية البريطانيِّين، وانتهت بقبولها. ولكن في كل الأحوال طالب ويلسون بعدم ذكر دوره في المناقشات المحيطة بالوثيقة الخاصة بهذا الموضوع. ولكن يبدو أن برانديس لم يتأثَّر بهذا التحفُّظ، واستمر في التأكيد لقادة الصهيونية بأن الرئيس «متعاطف للغاية» مع قضيتهم. وأصبحت اتصالاته، حسب قول فايتسمان، «أحدَ أهم العوامل في قرار الحكومة البريطانية إعلانَ تصريحها بشأن الصهيونية».

وقد تشجَّع بلفور بالفعل لِما اعتقد أنه مساندة ويلسون الضمنية، وعمل على وضع الصيغة النهائية للنص. وفي الثاني من نوفمبر عام ١٩١٧، نشرت الحكومة البريطانية ما أصبح فيما بعدُ أكثرَ وثائق القرن تأثيرًا وإثارة للجدل. كان وعد بلفور، كما أُطلق عليه، في الحقيقة رسالةً من بلفور إلى المالي الصهيوني ليونيل والتر روتشيلد، وكان أكثر ما ميَّز تلك الرسالة الواجبات التي فرضتها والأشخاص الذين تمكَّنت من تخطيهم. الحكومة البريطانية «نظرت بعين الرضا» إلى تأسيس دولة قومية لليهود في فلسطين، لكنها لم تَعِد بتحويل فلسطين إلى دولة يهودية ذات سيادة. بالإضافة إلى أن القادة البريطانيِّين تعهَّدوا — في تنازل لكلٍّ من وزارة الخارجية واليهود غير الصهاينة — بأن تأسيس وطن قومي لليهود لن يؤثِّر على «الحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين» أو على «الوضع الذي يتمتَّع به اليهود في أي بلد آخر».7

وعلى الرغم مما يلفُّ وعد بلفور من غموض وتنازُل، فقد فُسِّر على نطاق واسع بأنه التزام بضمان دولة يهودية، وأنه انتصار لا مثيل له للصهيونية. وآمن اليهود في جميع أنحاء العالم أنه لم يكن بالإمكان صياغةُ ذلك الوعد دون موافقة ويلسون. وقيل إن ١٠٠ ألف يهودي رقصوا شكرًا وعرفانًا بالجميل خارج القنصلية الأمريكية في مدينة أوديسا الروسية. وقام عدد آخر بنفس مظاهر الفرح أمام مقارِّ البعثات الأمريكية في اليونان والصين وأستراليا. ووصلت تلال من تلغرافات الشكر إلى البيت الأبيض.

وربما يأتي أكثر التعابير وضوحًا عن موافقة ويلسون على وعد بلفور في هيئة الدعم الأمريكي للكتيبة اليهودية. كانت هذه الكتيبة إحدى وحدات الجيش البريطاني، وكان تنظيمها يقع على عاتق قائد صهيوني شديد المراس هو فلاديمير جابوتنسكي، وكانت مكوَّنة من يهودٍ من دولٍ شتَّى. ومع أن القانون الفيدرالي كان يحرِّم على الجيوش الأجنبية التجنيد على الأراضي الأمريكية، فإن إدارة الرئيس ويلسون لم تعترض عندما بدأ جابوتنسكي في تجنيد اليهود الأمريكيِّين. ومع بن جوريون وغيره من اللاجئين الفلسطينيِّين الذين وجدوا ملجأ في الولايات المتحدة، تطوَّع ١٧٢٠ يهوديًّا أمريكيًّا، مكوِّنين بذلك أكبرَ كتيبة عِرقية في الجيش. وفي نيويورك وبالتيمور وبوسطن غنَّى المجندون النشيد القومي الصهيوني «هيكفاه» بمعنى الأمل، وهم يسيرون بجانب فِرق الموسيقى ذوي الآلات النحاسية، والخطباء السياسيِّين، وحشود من العضوات التابعات لجمعية النساء الصهيونيات «هداسا» اللاتي كن يوزعن الهدايا في الطريق إلى السفن التي كانت ستحملهم إلى معسكرات في كندا. أُسِّسَت تلك الكتيبة باعتبارها الوحدة التاسعة والثلاثين للمشاة الملكية، وهي الوحدة التي لم تشارك في القتال إلا في سبتمبر عام ١٩١٨، عندما خاضت نهر الأردن بالقرب من أريحا تحت وابل من النيران، وكان ذلك قبل وقف إطلاق النار بشهر واحد. ومع ذلك، فإنَّ مجرد وجود قوة قتالية يهودية — وكانت الأولى منذ ما يقرُب من ألفي سنة — تحمل أعلامًا وشعاراتٍ عليها نجمة داود قد منح اليشوف الذين يتعرَّضون للضغط الشديد دفعةً قوية، بالإضافة إلى أنه قدَّم نموذجًا للمؤسسات الصهيونية الدفاعية فيما بعد. وكان الأمريكيون منهم بصورة خاصة قد كوَّنوا سمعة بالشجاعة والثبات. وعلَّق جابوتنسكي على ذلك قائلًا: «جاء الأمريكيون باهتمام قوي حماسي بفلسطين، وكل ما هو فلسطيني.» ومن بين المحاربين الأمريكيِّين القدامى في تلك الكتيبة كان النحَّات جيكوب إيبستاين، وعمدة القدس المستقبلي جيرشون أجرون (أجرونسكي) ونيحيميا رابين، الذي قاد ابنه إسحاق فيما بعدُ الجيشَ والدولة اليهودية كلَّها.8

ولكن بعض الأمريكيِّين كانوا أقل سعادة بالانطباع السائد بأن هذا التصريح أو الوعد بدأ أولًا من واشنطن، وليس من لندن. فحثَّ لانسينج مثلًا الولايات المتحدة على إبقاء مسافة بينها وبين تلك السياسة، وألا تقوم بأي خطوة رسمية أو علنية لإقرارها. كانت أمريكا مهدَّدة بأن تصبح طرفًا في الاستيلاء على المناطق التركية، وفي التحالف مع الأقلية اليهودية الصهيونية ضد الأغلبية المعارضة للصهيونية. وفي كلمة أخيرة، حذَّر لانسينج من أن «العديد من الطوائف المسيحية والأفراد المسيحيِّين سيستاءون بلا شك من تحويل الأرض المقدَّسة إلى السلطة المطلقة لعِرق عُرف عنه أنه قتل المسيح».

شارك دبلوماسيون أمريكيون آخرون لانسينج في تحفظاته بشأن الصهيونية. فقد وصف صامويل إديلمان، رئيس وحدة مخابرات الشرق الأدنى بوزارة الخارجية، وكان يهوديًّا من أصلٍ ألماني، وصف الصهيونية بأنها نتاج يهود شرق أوروبا المبتذلين الذين كان لهم تأثير «ملوِّث وغير مقبول» على فلسطين. أما سفير الولايات المتحدة لدى بريطانيا، والتر هاينز بيج، فقد اعتبر الصهيونية فكرةً «عاطفية ودينية … وخيالية وشاذَّة»، وأوصى بألا تعيرها الولايات المتحدة أيَّ اهتمام أو تضعها في الاعتبار أكثرَ من ذلك. واقتنع هنري مورجنتاو أيضًا بتحذيرات لانسينج. فهو لم يكن يومًا من دعاة الصهيونية، ونادرًا ما قرَّبته معارضته من الحركة بفعل مساعيه للسلام مع تركيا، والآن كان مورجنتاو يزعم أن أي محاولة لمنح فلسطين لليهود ستثير «٤٠٠ مليون مسيحي» على الثورة.

وقلةٌ من مسئولي الشئون الخارجية هم مَن كانوا أكثرَ صراحةً من ويليام ييل في معارضتهم للصهيونية. كان ييل في الثلاثين من عمره، ومتخرِّجًا في جامعةٍ تحمل الاسم نفسه، وكان قوي البنية وزير نساء بحسب وصفه لنفسه، دائمًا ما يحمل في جيبه «بُرجُميَّة»، وكان قد جاب الشرق الأوسط باعتباره ممثلًا لشركة ستاندارد أويل. ولكن عام ١٩١٧ ترك مجال البترول ليصبح عميلًا خاصًّا في وزارة الخارجية، ملحقًا بالجيش البريطاني في فلسطين وسوريا. وتزامن تعيينه مع إصدار وعد بلفور، وكان تقدير ييل لتأثير تلك الوثيقة محملًا بالتحيُّز وبُعد النظر. فقد وصف غضب «شباب المسلمين والحماسيِّين منهم الذين كانت خططهم لا تحمل أيَّ بشرى لسلام في فلسطين»، ووصف غرور «شباب اليهود المتحمسين» الذين يمثِّلون «النوع البغيض … من هذا العِرق، والذين كانوا في كثير من الأحوال مجموعةً من المحتالين الطائشين والجهلة». ولكن ييل تنبأ أيضًا بردة فعل من المسلمين على مستوى العالم أجمع، ضد كلٍّ من بريطانيا والولايات المتحدة، انتقامًا لمساندتهما للصهيونية. وأضاف أن «التعصب الديني والقومي» من جانب كلٍّ من اليهود والعرب سيؤدي إلى «خصومة عنيفة» في كل المجالات السياسية والاجتماعية. وتنبأ ييل في تشاؤمٍ بأنه «إذا أُسِّسَت دولة يهودية في فلسطين، فإن ذلك يجب أن يكون بقوة السلاح، وأن يُحافظ عليها بقوة السلاح أيضًا وسط شعوب عدائية للغاية».

لم يفُت الرئيس ويلسون بالطبع مثل هذه التحذيرات المتوقدة. فأخبر لانسينج أنه «لا يرغب، ولكنه مضطرٌّ إلى الموافقة» وذلك بشأن وجود مخاطر من الدعم الصريح للصهيونية. وكان من بين تلك المخاطر الرئيسية احتمالُ أن يسعى الأتراك إلى الانتقام من الإرساليات التبشيرية الأمريكية وعمال الإغاثة، وهي نفس المخاوف التي كانت قد حالت بين الولايات المتحدة والاشتراك في حرب الشرق الأوسط. ولكن ويلسون كان مؤمنًا أيضًا بأن وعد بلفور أُعلن جزئيًّا بناءً على موافقته، وأنه بمرور الوقت سيتعين عليه أن يجهر بموافقته ودعمه.

وجاءت تلك اللحظة في ٦ سبتمبر عام ١٩١٨، وهي عشية رأس السنة اليهودية. كانت الحرب في الشرق الأوسط تقترب من نهايتها، وكان التهديد للمبشِّرين الأمريكيِّين وعمال الإغاثة قد تضاءل كثيرًا. وشعر ويلسون بأنه قادرٌ على الوفاء بوعده لبرانديس. فتمنى للمواطنين اليهود سنةً سعيدة، وكانت تلك في حدِّ ذاتها حركة خارقة للعادة، فعبَّر ويلسون عن استشعاره «الرضا بالتقدُّم الذي تحقِّقه الحركة الصهيونية» في بلاده، وكذلك بالرضا عن «موافقة بريطانيا على تأسيس وطنٍ قومي للشعب اليهودي في فلسطين».9 ومع أن الرئيس الأمريكي وعد بالحفاظ على «الحقوق الدينية والمدنية» لغير اليهود في فلسطين وعلى وضع اليهود المستمرين في الشتات، فقد ربط رسميًّا بين الصهيونية والسياسة الخارجية للولايات المتحدة.

•••

منذ البدايات الأولى للصهيونية منذ مطلع القرن وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت الحركة قد حقَّقت مكاسبَ مؤثِّرة. فوصل عدد أعضاء الاتحاد الصهيوني في أمريكا إلى ٢٠٠ ألف عضو، ووصلت ميزانيتها إلى عدة ملايين من الدولارات. وكان ويلسون قد منح الحركة موافقته، وكذلك فعل العديد من الشخصيات غير اليهودية ذات النفوذ في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى بعض أهم الشخصيات اليهودية الأمريكية المبجَّلة.

كان الكثير من الفضل في تحقيق تلك الإنجازات يعود إلى الرجل الذي كان قد قضى معظم حياته بعيدًا عن أي زاوية من زوايا الحياة اليهودية. ولكن التاريخ سيذكر برانديس دائمًا باعتباره أبًا للصهيونية الأمريكية، النبيل خريج جامعة هارفارد، الذي منح الشرعية والهيبة لحركةٍ كانت تُعدُّ قبل ذلك مجرد حركة هامشية، إن لم تكن مريبة. وظل برانديس نشطًا من أجل القضية الصهيونية حتى وفاته عام ١٩٤١، وفيما بعدُ أُطلِق اسمه على إحدى المستوطَنات، وهي مستوطَنة عين هاشوفيت — أي عين القاضي — في فلسطين. وقد أثبتت مساهماته أهميتَها خلال الحرب العالمية الأولى. وبعد ذلك تغيَّرت أهداف الصهيونية. وشيئًا فشيئًا تراجعت رؤية برانديس لتأسيس وطن يهودي غير محدَّد الملامح مترابط من خلال علاقات اقتصادية وثقافية، لتُفسِح المجال أمام صراع من أجل كيان سياسي مستقل له جنسية وحدود. وظهر قادة صهاينة جدد يسعون ليس فقط إلى إيجاد مأوًى للاجئين في أرض إسرائيل، بل إلى تكوين دولة ذات سلطة وسيادة.

كانت الصهيونية تتغير، وكذلك كانت التحديات التي تواجهها. وكان أهمُّ تلك التحديات عائقًا، من الغريب أن لم يلحظه برانديس وجيله. فقد صرَّح برانديس أثناء زيارته الوحيدة لفلسطين عام ١٩١٩ أن «العرب في فلسطين لا يمثلون عائقًا جِديًّا. وفي رأيي أن المسألة العربية ستَحُلُّ نفسها بنفسها إذا عالجناها معالجةً سليمة».10 ولكنَّ أمريكيِّين آخرين، مثل لانسينج وإيدلمان وييل، كانوا قد بدءوا يختلفون مع هذه الفرضية. وكذلك كان عدد متنامٍ من العرب يختلفون معها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤