الفصل الثاني

الشرق الغامض والعداء

إن مصطلح «الشرق الأوسط» ابتكره أدميرال أمريكي عام ١٩٠٢، وقبل ذلك كان الأمريكيون والأوروبيون يتحدَّثون عن المنطقة مشيرين إليها بكلمة «الشرق». وكان هذا المصطلح يشير، دون تحديد دقيق، إلى مساحة الأرض الممتدة ما بين المغرب ومصر، ثم تنحني عبْر الجزيرة العربية نحو الشام قبل أن تصل في النهاية إلى تركيا. ولكن هذا التقسيم لم يقُم تمامًا على جغرافية المكان؛ فالدار البيضاء مثلًا تقع إلى غرب مدريد ومارسيليا وروما. لذلك يمكننا القول إن مصطلح الشرق كان يصف إقليمًا تجمعه حضارةٌ مميزة، وأساليبُ حكم وهياكل اجتماعية وأنماط من العمارة والملبَس. وكان سكان تلك المنطقة معروفين للغربيِّين بمسمياتٍ عدة؛ العرب، وأهل الشام، والجزائريين، والبربر، والأتراك، وكان الاعتقاد السائد أنهم معادون للغرب ويتحدَّثون لغةً ذات وقعٍ غريب على الأذن الأمريكية. أما ما كان يميز الشرق أكثرَ من مواصفاته السياسية والفنية أو اللغوية فكان هذا الدِّين المسمَّى الإسلام. كان الأمريكيون في القرن الثامن عشر ينظرون إلى أتباع تلك العقيدةِ باعتبارهم «الآخر» المختلِف عنهم تمامًا. كانوا من وجهةِ نظرهم كتلةً غريبة غير متناسقة، وينحدرون من حضارة عظيمة انهارت منذ زمن طويل، إلى جانب أنهم بدائيون، يتميزون بالعنف والقسوة.

سراب واعد وخادع

انتقلت الصورُ السلبية عن الشرق من العالم القديم إلى العالم الجديد في أذهان المهاجرين الأوروبيِّين الأوائل. شرع كريستوفر كولومبوس في اكتشافِ طريق جديد إلى الأرض المقدَّسة في عام ١٤٩٢؛ بل إنه اصطحب معه مترجمًا عربيًا لهذا الغرض، ومن ثَم فإن «كلَّ ما أجمعه من مكاسبَ نتيجةَ هذا المسعى يجب أن يخصَّص لغزو القدس.» بعد مرور ما يزيد قليلًا على قرن من الزمان، سافر جورج سانديز — الذي صار وزيرَ المالية في مستعمرة فرجينيا — إلى الشرق الأوسط ووجده منطقةً مملوءة بالوحشية والقذارة. وقال: «أعتقد أنه لا يوجد مكانٌ كهذا في العالم يَعِد مَن يراه بالكثير … ولكنه يخيِّب توقعاتِ زائريه.» شارك حاكم فرجينيا جون سميث سانديز في رأيه، وكان الأول قد حارب قبل ذلك بصفته مرتزقًا ضد العثمانيين. وكانت درعه تحمل رسمًا يمثل رءوس الأعداء التي حصدها. وقد وصلت فكرةُ تفوُّق الغرب على الشرق مع المهاجرين إلى بليموث إلى جانب أفكارٍ مبدئية عن الديمقراطية والعدل الاجتماعي. وكانت هناك صخرة قرب المستعمرة، قيل إنه كتب عليها: «تنهار الأمم الشرقية وينتهي مجدُها، وتقوم الإمبراطورية حيث تغرُب الشمس.»

ومع أن الولايات المتحدة كانت تفخَر في بداياتها بالتسامح الديني، فإن هذا التسامح نادرًا ما كان يمتد إلى الإسلام، الذي لم يكن يُعَدُّ دينًا على الإطلاق. وكان كثير من رجال الدين البارزين، من أمثال كوتون ماثير وجوناثان إدواردز، يندِّدون بالإسلام بوصفه عقيدةً باطلة وفاسدة أخلاقيًّا. وكان صامويل لانجدون، رئيس جامعة هارفارد، يرى أن محمدًا من الأنبياء الكذبة، بل الأسوأ «أنه رسول الشيطان». ازداد هذا الانطباع السلبي عن الإسلام رسوخًا عن طريق الترجمات المغرِضة للقرآن. فكانت ترجمة ألكسندر روس المنشورة عام ١٦٤٩ تهدُف إلى كشف «المتناقضات والتجديف والكلام الفاحش والقصص الخيالية المضحكة» في ذلك الكتاب، بحيث يمكن للمسيحي «أن يعرف أعداءه معرفةً أفضلَ … فيتمكَّن من التغلُّب عليهم». وبالمثل كانت الترجمة التي وضعها المحامي جورج سيلز عام ١٧٣٤ تهدُف إلى تمكين البروتستانت من «مهاجمة القرآن بنجاح» وتأمُل في «أن يكون القدَر قد احتفظ لهم بمجد القضاء على الإسلام». كان أكثر كتب الحِقبة الاستعمارية شعبيةً عن محمد هو الكتاب الذي ألَّفه همفري بريدو عام ١٦٩٧، وكان الغرض منه واضحًا في عنوانه: «فضحُ حقيقةِ المحتال».1

انعكس هذا المزيجُ من الحقائق والمعلومات المضلِّلة عن الشرق الأوسط الذي تعرَّض له الأمريكيون إبَّان الاستعمار على أول قصة قصيرة كُتبت في العالم الجديد، وهي كوميديا ساخرة بعنوان «رحلة حج بابا بومبو إلى مكة». كُتبت هذه القصة عام ١٧٧٠ بقلم فيليب فرينو وهيو هنري براكنبريدج، وهما زميلا دراسة لجيمس ماديسون بجامعة برينستون. تصف هذه القصة كيفيةَ ظهور النبي محمد أمامَ طالبٍ غشَّاش اسمه بومبو، فيأمره أن «يغير ديانته ويتحوَّل إلى الإسلام، ويصبح مسلمًا حقيقيًّا». فيرتدي بومبو زيًّا إسلاميًّا، ويذهب في رحلةٍ ستةَ أسابيع إلى الحرم النبوي الذي دُفن فيه النبي. وهناك يغسل الزائرُ يديه وقدميه، ويخلع بقيةَ ملابسه. قال: «سجدتُ على الصعيد الخالي، عاريًا، مولِّيًا وجهي ناحيةَ الشرق، أستجدي النبيَّ أن يغفرَ لي خطاياي.» ويبدو واضحًا في النص أن براكنريدج وفرينو كان عندهما بعض المعرفة بالطقوس الإسلامية، لكنهما أخطآ في تصوير محمد فشبَّهاه بيسوع المسيح الذي ما زال يظهر أحيانًا للتائبين ويمنحهم الخلاصَ مع أنه مدفون في ضريح مقدَّس. ويستجيب محمد بالفعل لدعاء بومبو وصلواته فيغفر له خطاياه، ويمكِّنه في النهاية من العودة إلى نيوجيرسي.

وصلت الصورُ السلبية عن الشرق الأوسط أيضًا عن طريق مذكِّرات الدبلوماسيِّين والرحَّالة الأوروبيين، التي نُشر منها أكثرُ من مائة مذكِّرة بنهاية القرن الثامن عشر. ومع أن معظم هذه الكتب وُضعت بالفرنسية، فإن بعضها، ومنها كتاب جيمس بروس «رحلات لاكتشاف منبع النيل»، كانت متاحةً للقارئ الإنجليزي. وكانت هذه الكتب ترسم صورةً للشرق الأوسط على أنه مكانٌ غريب، رومانسي وخطير في آنٍ واحد. وتصِف نساءه بأنهن لعوبات، ورجاله بأنهم متحرِّرون ونبلاء. ومع ذلك كان كتَّاب آخرون مثل الجغرافي ليو أفريكانوس في القرن السادس عشر، وهو مسلِم تحوَّل إلى الكاثوليكية، يصف شعوبَ المنطقة بأنهم «همجيون، وغارقون في الغنائم والأسلاب، يفقئون أعينَ سجنائهم المسيحيِّين ويقطعون أيديهم وأرجلهم». أما الانطباعات الأكثر عدلًا عن الشرق فجاءت من الرحَّالتين الفرنسيين؛ سافاري وفولني، وبأقلام الكتَّاب الكلاسيكيِّين؛ هيرودوت وثوسيديدس وهوميروس. ومع ذلك فباستثناء اللمحات التي يمكن اقتناصها من التجَّار الذين كانوا يتاجرون في المنطقة أو من العبيد المتحدثين بالعربية، فإن الأمريكيِّين في عصر ليديارد لم يكن لديهم إلا قدرٌ ضئيل جدًّا من المعلومات عن الشرق الأوسط، وكانت المعلومات القليلة التي يملكونها مضلِّلة، إلى جانب أنها كانت غير موضوعية بصورة مخزية.2

ترك هذا الافتقار الشديد إلى أي معرفة حقيقية بالشرق الأوسط فراغًا كان من السهل جدًّا ملؤه بإشاعاتٍ عن المنطقة، لا تدور فقط حول عدائها المزعوم للغرب وكلِّ ما يمُت له بصلة، وإنما تتحدَّث أيضًا عن عجائبه المبهرة التي لا حدَّ لها. وكانت صورة المنطقة باعتبارها مركزًا للمُتع الحسية والبصرية مستقاةً من مصادرَ عديدة، وكان أكثرها ثراءً متوفرًا على أرفف كتب أمريكا قبل الاستقلال. وكان الإنجيل — وهو نصٌّ كان يعرفه كل الأمريكيِّين الأوائل تقريبًا معرفةً وثيقة، وينظرون إليه باعتباره حقيقةً راسخة — هو المصدرَ الرئيسي للخيالات عن الشرق الأوسط. وكان العهدان القديم والجديد يقدِّمان صورةً شاملة للأهرامات والمعابد والحدائق المعلَّقة والواحات والصحاري، وكانت المقاطع التي تصف هذه العجائبَ تثير عند قراءتها في كنائس بنسلفانيا بأجوائها الكئيبة أو في المنازل التي تعصف بها الرياح في المناطق الحدودية؛ أحلامًا عن الشرق الأوسط حتى بداخل أكثرِ المسيحيِّين تشددًا. فكان الكثيرون يحلمون برؤية هذه العجائب بأنفسهم.

في المرتبة التالية للإنجيل، كان كتاب «ألف ليلة وليلة» من أكثرِ الكتب شيوعًا بين الأمريكيِّين الأوائل. وكان أيضًا مصدرًا خصبًا لما يحيط بالشرق الأوسط من أوهام. يتألَّف الكتاب من مجموعة من القصص الرومانسية الفارسية في العصور الوسطى، وظهرت أول ترجمة إنجليزية له في عام ١٧٠٨، وحقَّقت شعبيةً كبيرة في الإمبراطورية البريطانية لا سيما المستعمرات الأمريكية. ولم يكن من الصعب معرفةُ أسباب ذلك؛ فمغامرات علي بابا والسندباد وعلاء الدين ومعاناة شهرزاد وهي تحكي القصص خوفًا على حياتها كانت تنقل الأمريكيِّين من حياتهم الشاقة إلى عالمٍ مثير من الكنوز المخبأة والبُسط الطائرة والجواري الحِسان المختبئات خلف نقابٍ يزيدهن إثارةً. ويمكن للمرء أن يتخيَّل النشوة الحسية التي تثيرها مثل تلك الكتابات في رجال دين نيو إنجلاند أو رجال الدولة الصارمين عند قراءة مقطع كالمقطع الآتي من مقدِّمة الكتاب:
وفجأة انفتح باب سرِّي لقصر السلطان، وخرجت منه عشرون امرأة، تتوسطهن السلطانة … خلعت النساء نُقُبَهن وأرديتَهن الطويلة، ليتمتعن بحريةٍ أكبر، أمام عشرة من الخدم السود … وأخذ كلٌّ منهم عشيقته. أما السلطانة فلم تقف طويلًا وحدها، بل صفَّقت بيديها … وفورًا ظهر لها عبدٌ أسود … جرى ناحيتها مسرعًا، واستمرَّت هذه الجماعة معًا حتى منتصف الليل، وبعد أن اغتسلوا جميعًا في بحيرة كبيرة … ارتدوا ملابسهم ودلفوا مرةً أخرى إلى داخل القصر.3
أضفت عجائب الكتاب المقدَّس والمثيرات الحسية على الشرق الأوسط جوًّا كالأحلام، ولكن هل كان ذلك يكفي لجذب الغربيِّين إلى زيارة المنطقة والمخاطرة بمواجهة سِماتها الأخرى الأقلَّ إثارةً وجاذبية؟ كانت إجابة غالبية الأمريكيِّين أكثرَ مباشرةً من الأوروبيين للغاية: الشرق الأوسط يمثِّل لهم فرصةً للتحرك. وباعتبار الأمريكيِّين مواطني دولة مشهورة باحترام الفردية والنشاط، وشعبًا محبًّا للحركة بحيث جعل حتى كراسيه «هزازة» — كما لاحظ أحدُ الأجانب — فإنهم كانوا يعشقون الحركة ويتوقون للمغامرة. لذلك كان هناك آلافُ المغامرين الأمريكيِّين التواقين إلى البحث عن مساحاتٍ واسعة ومناطق جديدة. ولم تكن المساحات الشاسعة لقارة أمريكا الشمالية كافيةً لبعضهم لإشباع حبِّهم للمغامرة والتَّرحال. فكانوا لا ينظرون فقط إلى البرِّية غرب نهر أوهايو وما وراء المسيسبي، ولكنهم كانوا يتطلَّعون أيضًا إلى الاتجاه المضاد، نحو الشرق. فالشرق كان يعني لهم أكثرَ من الخيال؛ فقد كان أفقًا بلا حدود، ينتظر الاستكشافَ والمغامرة. وأما الأمريكيون من أمثال جون ليديارد المغامر الرومانسي، فكان الشرق الأوسط يمثِّل الحدود النهائية المنشودة عندهم.4

أمريكي من كونيتيكت في مصر

وصل ليديارد إلى تلك الحدود في الأسبوع الأول من يوليو ١٧٨٨، عندما رست سفينته في الإسكندرية بمصر، كان ميناء متربًا شديدَ الازدحام، يتكدَّس فيه ستة آلاف نسمة، كانت المدينة خامدةً لكن تعمُّها الفوضى في نفس الوقت، ولم تكن تحمل أثرًا لمجدِها الغابر، ولم تكن تحمل ملامحَ أساطير الشرق الأوسط التي كانت تملأ خيال ليديارد. ولذلك كتب في بداية خطاب إلى جيفرسون: «يبدو منظر الإسكندرية عامةً أكثرَ بؤسًا مما كنت أتخيَّل». وكانت المآسي التي يعانيها سكانُها أكثرَ من أن يحصيَها؛ «الفقر والسطو والقتل والشغب والتعصُّب الأعمى والاضطهاد والأوبئة القاتلة».

كان الانهيار الذي شهِده ليديارد عرَضًا من الأعراض التي أصابت الإمبراطورية العثمانية، التي كانت مصر لا تزال جزءًا منها في أواخر القرن الثامن عشر. وكثيرًا ما كان الغربيون يطلقون عليها تركيا أو الباب العالي (نسبةً إلى بابِ قصرِ كبيرِ الوزراء)، نشأت هذه الإمبراطورية في القرن الرابع عشر وتوسَّعت بانتظامٍ لتسيطر على الشرق الأوسط بأكمله، إلى جانب أجزاءٍ كبيرة من آسيا الوسطى وشرق أوروبا. وكان الجيش العثماني القوي قد قام بغزوات متكررة ضد أوروبا المسيحية انتهت بحصارِ فيينا عام ١٦٨٣. ولكن هذا الهجوم كان نقطةَ القمة للإمبراطورية التي بدأت بعدها في الانهيار. وفي ثمانينيات القرن الثامن عشر أفلَ نجمُ العثمانيِّين ولم يعودوا أشباحًا تخيف الغربَ كما كانوا من قبل. فأهلُ فيينا الذين كانوا يصابون بالرعب لمجرد ذكرِ «جماعات البربر» و«الأتراك المتوحشون» عندما وقفوا على أبوابِ مدينتهم، أصبحوا اليوم يتمتَّعون بأحدثِ صيحات الملابس التركية، ويرتادون المسرحَ لمشاهدة «اختطاف من جناح الحريم»، وهي أوبرا كوميدية من تلحين موتسارت تدور حول عملية إنقاذ امرأة إسبانية من جناح حريم عثماني.

كان انهيار الإمبراطورية أوضحَ ما يكون في الأقاليم الناطقة بالعربية. وهذه الدول التي كانت يومًا ما ممالكَ ثرية ومتنوِّرة ومهدَ روَّاد عالميِّين في العلوم والرياضيات؛ قد أصبحت في نهاية القرن الثامن عشر مجرَّد مناطقَ متخلِّفة شبه إقطاعية. ولم يُصِب التغييرُ حياةَ القطاع العريض من السكان إلا قليلًا منذ العصور الوسطى. فلم تكن هناك مطابعُ ولا ساعات ولا مؤسسات علمية حديثة. كانت الطُّرق الممهَّدة نادرة، وبسبب عدم وجود سلطة مركزية قوية كان المسافرون معرَّضين لمخاطرَ كثيرة. ولم يجرؤ على اقتحام هذه المنطقة الخطِرة إلا قليلٌ من الأوروبيين، وكان وجودهم ينحصر في المدن الساحلية، حيث كانوا يعيشون تحت حماية قنصلياتهم. أما السكان المحليون فلم تكن لديهم هذه الميزة، فبعد ضَعف السيطرة العثمانية، أصبح الفلاحون تحت رحمة حكام الأقاليم وعصابات اللصوص.

وكانت الأوضاع سيئةً بصورةٍ خاصة في مصر. فقد كان نحو ثلاثة أو أربعة ملايين نسمة لا يملِكون إلا ما يقيم أودَهم، وكانت الأمراض والمجاعات تفتك بهم سنويًّا. وبدلًا من محاولة التغلُّب على تلك المآسي، كان حكام الدولة العثمانية يعيشون في صراعٍ دائم على السلطة مع أسرة المماليك المحليين، كانوا يدمِّرون القرى ويدوسون بأقدامهم الفلاحين التعساء. وعام ١٧٨٨، عندما كان موتسارت على وشْك تأليف أوبرا ثانية تقع أحداثها الخيالية في الشرق الأوسط، هي أوبرا «الناي السحري»، وبعد قليل من وضعِ الولايات المتحدة لهرمٍ على الجانب الخلفي لخاتمها الرسمي، كانت مصر — مهد الحضارة — قد وصلت إلى أدنى درجات الانحطاط.5

كانت هذه هي مصر المتدهورة التي قابلها ليديارد في الإسكندرية، ومع ذلك فقد رفض ليديارد أن يصدِّق أن انهيار المدينة كان مثالًا على انهيار البلد كلِّه، فرحل إلى القاهرة بحثًا عن الشرق الأوسط الأسطوري. استغرقت الرحلة خمسةَ أيام في النيل، وهي تجربة كان يتوق لها بشدة، لكنه هنا أيضًا أُصيبَ بالإحباط. وتساءل: «هل هذا هو النهر العظيم ملِك الأنهار، الذي تحوَّل إلى إحدى عجائب الدنيا؟!» لم يكن النهر في تقديره الشخصي يزيد على نهر كونيتيكت إلا قليلًا.

وفي القاهرة قدَّم ليديارد خطابَ اعتماده الملكي إلى سنيور روزيتي، قنصل فينيسيا القائم بمصالح بريطانيا في المدينة، وعلِم ليديارد أنه كما يشير الغربيون إلى كل شعوب الشرق الأوسط ﺑ «الشرقيين»، فإن مسلِمي الشرق الأوسط ينظرون إلى الأوروبيِّين والأمريكيِّين باعتبارهم «فرنجة»، وهو لفظٌ أطلقوه عليهم منذ عهد الحملات الصليبية. ونصحَه القنصل من أجل سلامته بألا يكثرَ من الظهور وأن يسافر مرتديًا الزي الوطني لأهل البلد. وكانت فكرةُ أن يخفيَ المسيحي هويَّته فقط لإرضاء المسلمين فكرةً «مذلة ومهينة ومؤلمة للغاية» من وجهة نظر ليديارد. وقد شكا لجيفرسون من «العار الذي يلحق بأبناء أوروبا؛ إذ يُضطرون إلى تحمُّل تلك العجرفة على يد عصابات من المتعصبين الجهلة»، ومع ذلك فقد عمِل ليديارد في النهاية بنصيحةِ القنصل. فاستبدل بسرواله الأوروبي الضيِّق وقبَّعته الغربية سروالًا شرقيًّا وعمامة، ونجح بذلك في قضاء ثلاثة أشهر مثمرة في استكشاف النيل دون مضايقات.

في جميع تلك الرحلات، أثبت ليديارد أنه مراقبٌ دقيق لتضاريس مصر ومعالمها؛ فقد سجَّل ارتفاع الأهرامات ومدى الامتداد العمراني، وحاول التكهُّن بطول القوافل. وتعاطفَ ليديارد مع أحوال العامة، مقدِّرًا أنها «أدنى من أحوال أيِّ مكان غير متمدن». ودفعه فضوله أيضًا إلى ساحات المعارك بين جيوش المماليك والعثمانيين، التي لم تكن قد انتهت إلى نتيجةٍ حاسمة في ذلك الوقت. وبسبب شعور القائد المملوكي بالإحباط لهذه النتيجة غير الحاسمة طلب من ليديارد أخيرًا أن يقود جيوشَه. وعلَّق الأمريكي على ذلك قائلًا: «هذا أبعدُ ما يمكن أن يصل إليه أمريكي من كونيتيكت؛ أن يُعرض عليه الاضطلاع بدور في الحرب الأهلية بمصر.»

لقد أحزن ليديارد كثيرًا مدى التدهور الذي وصلت إليه مصر، وألقى باللوم في ذلك على روسيا، بسبب إضعافها لتركيا، وربما كان ذلك بعضًا من بقايا نقمته على كاثرين «إمبراطورة روسيا»، لكنه ألقى باللوم أيضًا على المسلمين بسبب «إيمانهم بالخرافات ولكونهم مجموعة من عصابات الحرب»، وعلى الإسلام «الذي أضرَّهم أكثرَ من أي شيء آخر» أيضًا. وكان معجبًا من ناحيةٍ أخرى بقدرة المسلمين على المزجِ بين التقوى والتجارة، وأبدى إعجابه أيضًا ﺑ «ارتباطهم القوي بالحرية». وكانت صورةُ البدوي الراكبِ الجمل الذي لا توقِفه حكومةٌ ولا حدود — وهي صورة مشابهة لصورة المغامر الاستعماري أولًا، ثم راعي البقر الأمريكي فيما بعدُ — موضوعًا ونمطًا مكررًا في الكتابات الأمريكية عن الشرق الأوسط، ولها تأثيرٌ مستمر على سياسة الولايات المتحدة في المنطقة.

غير أن ليديارد لم يجد في الشرق الأوسط شيئًا من الخيال باستثناء أسطورة البدوي المحب للحرية، ولم يجد بالتأكيد شيئًا من حكاياتِ ألف ليلة وليلة. وشكا لجيفرسون قائلًا: «لا شيءَ يستحق السخرية أكثر من الخرافات الشعرية والنثرية التي تحكي عن هذا البلد.» وقارن بين الأشجار اللامعة و«الهواء المحمَّل بالتراب والحرارة، والحشرات والناموس والعناكب والذباب والبرص والحمَّى والعمى المنتشر بشدة». ومثل جيفرسون كان ليديارد ينظر إلى مجتمع الشرق الأوسط باعتباره مرآةً تعكس ما يحدُث في أمريكا، فمقابل الكراهية والظلام في الشرق الأوسط يوجد التنوير الأمريكي. فكتب: «مصر جميلة، ولكن على الورق فقط.»

في تلك الأثناء كان ليديارد يُعِدُّ لرحلته إلى أفريقيا. فاستشار القائد المملوكي إسماعيل بك، الذي حذَّره من قُطَّاع الطرق القادرين على التحول إلى حيواناتٍ مفترسة، ونصحه أيضًا أن يسافر بمتاعٍ قليل وألا يحمل مقتنياتٍ ثمينة. ثم حجز له مكانًا في القافلة التالية المتَّجهة إلى مدينة سِنَّار التي تبعُد أكثرَ من ألف ميل إلى الجنوب. وفي خطابه الأخير بتاريخ ١٥ نوفمبر ١٧٨٨ نصح ليديارد جيفرسون بألا يأتيَ إلى مصر أبدًا، وأن يحرق كلَّ كتابات سافاري وثوسيديدس وهوميروس — التي تصوِّر مباهجَ الشرق وعجائبه. ثم ودَّع صديقه بطريقته الدرامية المميزة قائلًا: «أنا ذاهب وحدي … لا تنسني فأنا لن أنساك … والحق أن عزائي الوحيد سيكمُن في تفكيري فيك وتذكُّرك في لحظاتي الأخيرة. فعِش سعيدًا.»6

كان هذا بالفعل الوداعَ الأخير. فقد أُصيب ليديارد بنوبة عصبية بسبب انزعاجه من تأخُّر رحيله أدَّت إلى إصابته بمرض الصفراء. ولعلاج تلك الحالة تناولَ ليديارد جرعات كبيرة من زيت الزاج (الاسم القديم لحمض الكبريتيك) ثم لجأ إلى تناولِ تركيزٍ عالٍ من الطرطير المقيِّئ (مادة سامة كانت تُستعمل قديمًا دواءً مقيِّئًا). وبدأ بعدها في تقيؤ الدماء، ثم وُضع تحت رعاية «أشهر الأطباء في القاهرة»، وبعد أربع وعشرين ساعة تُوفي الرجل الذي كان قد أكَّد لوالدته قبل وفاته بقليل أنه «يتمتَّع بكامل الصحة والعافية»، وأنه «سحق العالم تحت قدميه وسخِر من الخوف ولم يأبه للخطر».

دُفن جون ليديارد في تلال الرمال على ضفاف نهر النيل في مقبرةٍ متواضعة، لم يَعُد موقعها معروفًا اليوم. وترك وراءه مخطوطةً لم تُنشر بعنوان «تقديرًا للنساء»، وصف فيها الجنس الآخر بأنهن «لطيفاتٌ مهذَّبات كريمات عطوفات رقيقات»، لكنه لم يترك متاعًا شخصيًّا يُذكر.7 إلا أن الإنجاز الذي حقَّقه كان هائلًا. فقد كانت أول مرة يسافر فيها مواطنٌ أمريكي إلى الشرق الأوسط ويكتب تقاريرَ دقيقة عنه، وكان حينئذٍ منطقةً لا يعرفها الأمريكيون إلا عن طريق الإنجيل والقصص الخيالية.

وضَحَ تأثير هذا المثال عام ١٧٩٢، عندما عدَّد هنري بوفوي مآثرَ ليديارد في مجلة المرأة، وهي مجلة شهرية رائدة تصدر في فيلادلفيا. بدأ المقال بسلسلة من القصص العاطفية تدور حول موضوعاتٍ شرق أوسطية، قصص تشبه «ألف ليلة وليلة» عن المرأة في الشرق الأوسط التي «تصبح جريئةً صعبةَ المراس عندما تسيطر عليها عاطفة الحب مع أنها رقيقة وخجولة بصفة عامة». ولكن كانت هناك أيضًا دراسات مفيدة عن عادات المصريِّين والشراكسة والدروز ووصفًا لمدن الشرق الأوسط يؤكِّد صحة انطباعات ليديارد. فقد كتب مسافرٌ مجهول: «كلُّ مَن يتعرَّف حديثًا بهذه المناطق ينبهر بتنوُّعها، وتختفي كل فكرة كوَّنها بنفسه، لكنه يبقى غارقًا في الانبهار والدهشة.»

وبانتهاء القرن وبدء قرن جديد، سار أمريكيون آخرون على دربِ ليديارد، فرحلوا إلى الشرق الأوسط، كان أحد هؤلاء جويل روبرتس بوينسيت من تشارلستون، الذي أصبح فيما بعدُ وزيرًا للحربية، وهو أيضًا مكتشف الزهرة التي لا تزال تحمل اسمه. وعندما نزل ضيفًا على الشاه الفارسي عام ١٨٠٦، كُرِّم ورُفِّه عنه ﺑ «فتيات جميلات راقصات مرتديات سراويل حمراء طويلة، ويغطي وجوههن النِّقاب». وشاهد أيضًا «بِركة بترول» أو «أرض النار الأبدية» التي تنبَّأ بأنها ستُستخدم يومًا ما وقودًا. بعد ذلك باثني عشر عامًا نبتت في رأس جورج باريل من بوسطن «فكرة الاستماع إلى الناي الشرقي وصوتٍ عذبٍ لشقراء شركسية» بعد قراءته قصصًا خياليةً شرقية عديدة. لذلك شدَّ الرِّحال إلى الأناضول، ولكنه اكتشف أن صوت الناي يشبه «موسيقى القِرَب عندما تؤدَّى على نحوٍ سيئ» وأن الشركسيات الشقراوات يوجدن فقط في سوق الجواري. ومع ذلك ظل باريل يحثُّ الأمريكيِّين على التخلي عن «أفكارهم وتحيُّزاتهم المسبقة» السلبية عن الشرق، وأن يحذوا حذوَه في السفر إلى هناك.

أبقَت هذه الحكايات — حتى عندما كانت تزيل الغموضَ المحيط بالشرق الأوسط — على الخيالات المحيطة بالشرق الأوسط، وأغرت أعدادًا متزايدة من الرجال والنساء بالذهاب إلى سوريا وفلسطين وبلاد الرافدين. وظلَّ مَن بقي منهم في بلاده يحلُم بالمنطقة. وصدر نحو ثلاثين كتابًا عن مصر في الولايات المتحدة في الربع الأول من القرن التاسع عشر وحده، وسُمِّيت أربع مدن أمريكية على الأقل القاهرة، وثلاث مدن بغداد والمدينة. وسُمِّيت مدينتان مكة، وواحدة حلب وأخرى الجزائر. وبعد أن أزالت رحلات ليديارد الغموضَ المحيط بالشرق الأوسط، ظل الشرق الأوسط محطَّ أنظار كثير من الأمريكيِّين، سواء المغامرون أو كبارُ السياسيين، ومنهم توماس جيفرسون.

كان جيفرسون يظن طَوال الوقت أن ليديارد سيعود من مصر ويبدأ بتنفيذ خطته للسفر عبْر أمريكا على قدميه بحثًا عن الممر الشمالي الغربي. وانهارت تلك التوقعات في مارس ١٧٨٩ عندما قرأ جيفرسون خبرَ وفاة صديقه في إحدى صحف باريس. فأسرع بالكتابة إلى توم بين الذي كان قد انتقل إلى لندن طالبًا منه التأكُّد من ذلك بالتعاون مع الجمعية الأفريقية. وكتب له بين معزيًا: «… كان ليديارد عضوًا محبوبًا ومميزًا في الجمعية، وهي تنعاه بكل الأسى والأسف.» وأطرى سير جوزيف بانكس، أحدُ أهم رعاة ليديارد في لندن، مواهبَ ليديارد، مؤلفًا ومفكرًا مستنيرًا. قال: «هذا الرجل، خصبُ التفكير وواسع المدارك.»8

حقَّق جيفرسون في النهاية حُلمه بشَقِّ طريق عبْر أمريكا الشمالية، بمساعدة المستكشفَين لويس وكلارك. ولكن في الوقت الراهن كان اهتمامه برسم السياسة الخارجية لبلاده يفوق اهتمامَه باستكشاف أجزائها الداخلية. وكانت علاقات الولايات المتحدة بالشرق الأوسط من بين أهم وأعقد الموضوعات التي كانت تواجه الرئيس المستقبلي. وهنا ظهرت قيمةُ مشاهدات ليديارد. فقد مكَّنت جيفرسون من رؤيةِ المنطقة بعيونٍ أمريكية؛ ثاقبة النظر، وحرَّرته من الخيالات. فتمكَّن جيفرسون بصفته رئيسًا للولايات المتحدة من التعامل مع الشرق الأوسط على نحوٍ يخلو من الأوهام والخيالات، ويركِّز فقط على القوة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤