الفصل السابع والعشرون

الانسجام والهيمنة

درست الفصول السابقة بالتفصيل الطرقَ المختلفة التي تفاعلت بها الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط منذ عام ١٧٧٦. وكان الهدف هو توضيح ثراء وجوهر هذا التاريخ واستكشاف أسس انخراط أمريكا في المنطقة اليوم. وكان هناك هدفٌ آخر هو ملء الفراغ في الكتابات التي تناولت العلاقة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط في الأعوام المائة والخمسين التي تفصل بين الثورة الأمريكية ونهاية الحرب العالمية الثانية.

يتناول هذا القسم الأخير العقودَ الستة الأخيرة، بدءًا من بوادر الحرب الباردة وحتى الحرب في العراق، وهو زمن انخراط أمريكي مكثَّف في الشرق الأوسط. وعلى عكس الفترة ما بين ١٧٧٦–١٩٤٥، التي يوجد عنها أعمالٌ قليلة نسبيًّا، فقد صدر عددٌ هائل من الكتب والمقالات عن المرحلة المعاصرة. وأُجريت العديد من الدراسات الجيدة حول المساعي الأمريكية للتوسط في إحلال السلام بين العرب والإسرائيليِّين قبل حرب ١٩٧٣ — على سبيل المثال — أو حول تطوير التحالف السعودي الأمريكي في الخمسينيات والستينيات، ولن تضيف أيُّ أبحاث جديدة الكثير إليها. ومن ناحية أخرى، يعوق غيابُ أي وثائق حكومية — التي تعدُّ أساسَ أي بحث جاد — تحليلَ الأحداث الرئيسية للثلاثين عامًا الماضية؛ إذ إنها لا تزال تعدُّ سريةً ولا يُسمح بنشرها. وأيُّ محاولة لفهم التورط الأمريكي في الشرق الأوسط من عام ١٩٤٨ حتى الوقت الحاضر تخاطر إما بتكرار ما كُتِب بالفعل، أو افتراض ما لم نعرفه جيدًا حتى الآن.

وفي ضوء هذه الصعاب، يحاول هذا الجزء الأخير تقديمَ نظرة شاملة على التوجهات ونقاط التحول الخطيرة التي حدثت في هذه الفترة، وليس دراسة عميقة وشاملة عنها. ويركز على علاقة الاستمرارية التي تربط بين فترةِ ما بعد الحرب العالمية الثانية من هذا التاريخ وبين المراحل المبكِّرة عنها، وأيضًا على فكرة القوة والإيمان والخيال المستمرة. وسنوضِّح كيف أن واضعي السياسات الأمريكيِّين حاولوا التعاملَ مع العديد من التحديات نفسها التي واجهها أسلافهم خلال فترةِ ما قبل الحرب، وكيف جاهدوا مثلهم للتوفيق بين مصالحهم الاستراتيجية والأيديولوجية في المنطقة. وفي غضون ذلك ظلت الصور الخيالية عن الشرق الأوسط تمثل أساسَ الثقافة الأمريكية الشعبية.

وبالتركيز على استمرارِ انخراط أمريكا في هذه المنطقة الحيوية، وبوضع انخراطها الحالي هناك في إطار تاريخي، يهدُف هذا الفصل إلى تعميق فهمِ طبيعة العلاقات بين أمريكا والشرق الأوسط. والهدف من هذا هو أن نجعل بإمكان الأمريكيِّين القراءة حول القتال في العراق وسماع صدى صوت حروب البربر وعملية الشعلة، أو تتبُّع الجهود الرئاسية للتوسط بين الفلسطينيِّين والإسرائيليِّين ورؤية ظلال تيدي روزفلت وودرو ويلسون. وسيعرف القارئ أن نفس الأوهام التي أغرَت جون ليديارد باستكشاف الشرق الأوسط لا تزال تغري الأمريكيِّين بحضور أفلام تتحدَّث عن الشرق الأوسط. فبعد أكثرَ من مائتي عام، ظل التفاعل بين الولايات المتحدة وشعوب وأراضي الشرق الأوسط نابضًا بالحياة ومتعدِّد الجوانب وديناميكيًّا وعميقًا بصورة ملحوظة.

ما بين الشيوعية والقومية

لبعض الوقت، بدا أن هاري ترومان قد نجح في تحقيق التوافق بين مكانة أمريكا الجديدة بعدِّها القوةَ المسيطرة في الشرق الأوسط ودورها التقليدي محرِّرةً وصانعةَ سلام. وعلى أملِ علاج الجِراح التي أحدثها تأسيس الدولة اليهودية، ساند الرئيس جهود الأمم المتحدة لتحقيق السلام بين إسرائيل والعرب. ووقع عبء تنفيذ تلك المهمة على رالف بانش، المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى فلسطين، الذي كان نجمًا من نجوم كرة السلة بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس ومحررًا قديرًا وأحد أول الأمريكيِّين الأفارقة الذين حصلوا على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد. وقد قال بانش الذي كان لبقًا وصريحًا في حديثه للوفدَين العربي والإسرائيلي اللذين كانا يتناولان العشاءَ معه على جزيرة رودس: «انظروا إلى هذه الأطباق الرائعة! إذا توصلتم إلى اتفاق، فسيحصل كلٌّ منكم على واحد منها ليأخذها وهو عائد إلى منزله، أما إذا لم تتفقوا، فسأحطِّمها على رءوسكم!» وبحلول شهر يوليو ١٩٤٩، كان بانش قد نجح في التوصل إلى هدنةٍ بين إسرائيل والدول العربية المجاورة مصر ولبنان والأردن وسوريا، وأسَّس سابقة لمعاهدات أكثرَ استمرارية. وقد أوصلته إنجازاته للحصول على جائزة نوبل للسلام، وبدَت كأنها تعيد لأمريكا سُمعتها وسيطًا ذا مبادئ.1

سعى ترومان أيضًا إلى تحقيق توازن بين مخاوف الحرب الباردة ومدِّ القومية المتصاعد في الشرق الأوسط. وجاء أول اختبار لشجاعة الرئيس في إيران؛ حيث أعلن رئيس الوزراء محمد مصدق، وهو محامٍ يبلغ من العمر سبعين عامًا تلقَّى تعليمه في سويسرا، أعلن نفسه نصيرًا للشعب وعدوًّا لكل صور الهيمنة الأجنبية. وعمل على إبعاد بلاده عن النفوذ السوفييتي، لكنه راوغ أيضًا لإخراج البريطانيِّين من إيران عن طريق تأميم شركة النفط الأنجلو إيرانية.

كان مصدق من دعاة حركة عدم الانحياز، التي تكوَّنت أساسًا من دولٍ نامية أعلنت حيادَها في الحرب الباردة، ولم تنضم إلى الاتحاد السوفييتي ولا الغرب. كان من الممكن أن يثير هذا الموقف عداء الولايات المتحدة بسهولة، ولكن على عكس ذلك أصبح مصدق بطلًا لدى الأمريكيِّين. فقد كانت إيران، في عيون كثير من الأمريكيِّين، لا تزال بلدًا من كتاب «ألف ليلة وليلة» الفاتن. واستمروا في التهافت على حضور أفلام خيالية عن الشرق الأوسط، مثل «ابن علي بابا» (١٩٥٢)، و«الرحلة السابعة لسندباد» (١٩٥٣)، وكذلك مسرحية «قسمت» («المصير» باللغة التركية) المؤثِّرة التي عُرضت على أحد مسارح برودواي عام ١٩٥٣، وفيها كان الخليفة الغارق في الحب يدندن لجارية عراقية رشيقة: «خذي بيدي، فأنا غريب في الجنة». وظل الأمريكيون مفتونين بأسطورة الرجل من الشرق الأوسط الذي كان محبًّا للحرية، وبدا أن مصدق يجسِّد هذه الشخصية. ولهذا قارنته الصحافة الأمريكية بتوماس بين وجيفرسون، واختارته مجلة تايم ليكون «رجل العام» لسنة ١٩٥١. ودعا ترومان رئيس الوزراء إلى البيت الأبيض، وساند مَطالبه بأحقيته في النفط الإيراني، مما أثار غضب بريطانيا.

جاء مثال آخر على قدرة ترومان على تحقيق التوازن مع المصالح الاستراتيجية والأيديولوجية في مصر. فهناك أيضًا حشدت الحركة الوطنية قواها لطرد البريطانيِّين، وحلِّ مجلس النواب، والإطاحة بالملك فاروق. وفي مشاهد تذكِّر بثورة عرابي قبل ذلك بسبعين عامًا، عصف محدِثو الشغب بشوارع القاهرة والإسكندرية في يناير ١٩٥٢، مضرمين النيرانَ في المباني التي يمتلكها أجانب. وكان من بين المنشآت الكلاسيكية التي دُمرت فندق شيبرد، الذي استضاف مارك توين في يوم من الأيام. وخشي ترومان من أن يستغل الاتحاد السوفييتي هذه الفوضى للتدخل سياسيًّا في مصر. فكلَّف كيرميت روزفلت وعملاء آخرين من وكالة الاستخبارات المركزية بالبحث عن شخصية وطنية مصرية، أي «بيلي جراهام مسلم»، يمكنها إعادةُ النظام إلى البلاد وضمها إلى منظمة دفاع عن الشرق الأوسط على طراز حلف الناتو. وقادهم هذا البحث إلى خليةٍ تطلق على نفسها «الضباط الأحرار» كانت تخطِّط لتنفيذ انقلابٍ وإلى قائدهم وهو مقدَّم في الرابعة والثلاثين من عمره، اسمه جمال عبد الناصر.2

كان ناصر فصيحًا وشديد الوسامة ويبدو مثل نسخة حديثة من عرابي، وكان كذلك بطلًا خرج من صفحات كتاب «ألف ليلة وليلة». وكان أيضًا نتاجَ الأفكار الوطنية التي أدخلها المحاربون الأمريكيون الذين شاركوا في الحرب الأهلية إلى مصر، وكذلك العرب خريجو الكلية السورية البروتستانتية. وبدا أن ناصر بالفعل هو القائد الذي تسعى وكالة الاستخبارات المركزية، لأول مرة في عملياتها في الشرق الأوسط، إلى تنصيبه، وأكَّدت الوكالة له ولزملائه المتآمرين دعمَ أمريكا السرِّي لهم. وبعد أن بثَّ هذا الدعم الشجاعةَ في عروقهم، استولى الضباط على المباني الحكومية في ٢٣ يوليو ١٩٥٢، وقاموا بحل مجلس النواب، وأرسلوا الملك فاروق على متن يخت إلى أوروبا. شعر البريطانيون بالذعر لما حدث، ولكن الولايات المتحدة اعترفت فورًا بنظام الحكم الجديد، وبادرت بإقامة مباحثات مع ناصر.

وبحلول العام الأخير لرئاسة ترومان، كان قد نجح في التوسط بين العرب والإسرائيليِّين، ومساندة الحركات الوطنية، ووقف العدوان السوفييتي. وبدا فجأةً وكأن «السلام الأمريكي» في الشرق الأوسط قريب المنال. ولكن ثبت أن هذا مجرد سراب. فقد أعلنت الدول العربية أن الهدنة لم تكن أكثرَ من هدنة مؤقتة، وأن حالة الحرب مستمرة بينهم وبين إسرائيل. ومنعت مصر سفن الشحن المتجهة إلى إسرائيل من عبور قناة السويس، أو من عبور مضيق تيران عند مدخل البحر الأحمر، إلى ميناء إسرائيل الجنوبي إيلات. ومنع الأردنيون الإسرائيليِّين من دخول المدينة القديمة في القدس الشرقية، التي تُعَد موطن أقدس المعابد اليهودية، الحائط الغربي (حائط البراق)، خارقةً بذلك الهدنة. ومن ناحيتها رفضت إسرائيل إعادةَ اللاجئين الفلسطينيِّين بدون اتفاق سلام، وثأرت لتسلل الفلسطينيِّين عبر حدودها بغارات واسعة النطاق على الأراضي العربية.

ومرة أخرى امتلأت الأرض التي يقدِّسها الملايين بالمركبات المحترقة والجثث التي اخترقها الرصاص. ولم تكن المشاهد في المناطق الأخرى من الشرق الأوسط أقل رعبًا. فقد اضطرب جزءٌ كبير من المنطقة من المغرب إلى العراق بمظاهرات وطنية وهجمات متقطعة ضد السلطات الفرنسية والبريطانية. وتزامنت هذه الاضطرابات مع تجدُّد الاستفزازات السوفييتية ضد العراق وإيران، وبقرار الكرملين بتبني الحركات الوطنية في الشرق الأوسط، التي نأى بنفسه عنها من قبلُ باعتبارها حركات «برجوازية خانعة»، كحلفاء طبيعيِّين لها في الحرب الباردة. وعرَّض التقاءُ الشيوعية والحركات الوطنية المتطرفة نفطَ الشرق الأوسط، الذي كان الغرب يعتمد عليه من أجل رفاهيته، بل وحتى بقائه، للخطر.

كان عجزُ الحلفاء الغربيِّين عن تحقيق الاستقرار، فضلًا عن حل الصراعات العديدة التي كانت تهزُّ الشرق الأوسط واضحًا منذ عام ١٩٥٠، عندما أصدرت بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة «الإعلان الثلاثي». وقد اعترفت الوثيقة ضمنيًّا بتصاعد إحباط وخيبة أمل القوى الثلاث في مجهودات السلام العربي الإسرائيلي، ودعت الطرفين المتنازعين إلى ضبط النفس. وبدلًا من توجيههم أسلحتهم بعضهم إلى بعض دعت القوى الثلاث كلَّ دول الشرق الأوسط إلى تصويب أسلحتها نحو عدوِّها السوفييتي المشترك عن طريق التعاون في الدفاع عن المنطقة.

وكان الإعلان الثلاثي يمثل محاولةً أخرى للتوفيق بين العناصر المتعارضة في سياسة أمريكا تجاه الشرق الأوسط. فقد صدَّقت إدارة ترومان بسذاجة أن الولايات المتحدة يمكنها أن تقيم علاقات صداقة بين كلٍّ من إسرائيل والعالم العربي، وأنه يمكنها دعمُ مطالب الاستقلال في الشرق الأوسط مع توقُّع أن تدافع فرنسا وبريطانيا عن المنطقة ضد الشيوعية. ولكن هذه الافتراضات لم يكن لها أساس، وبحلول عام ١٩٥٢، مع تصاعد التوتر العربي الإسرائيلي ونشوب الثورات الوطنية واجهت الولايات المتحدة مرةً أخرى اختيارات مؤلمة. فكان عليها إما أن تستمر في مساندة إسرائيل، وأن تزيد بذلك من حدة الغضب العربي، أو أن تتراجع عن مساندة الدولة اليهودية فتحصل بذلك على ودِّ العرب ورضاهم. وكان بإمكان أمريكا إما أن تقف بجانب بريطانيا وفرنسا في حماية الشرق الأوسط من العدوان السوفييتي، أو أن تتخلَّى عنهما لصالح الحركات الوطنية المحلية، التي كان بعضها على اتصال بالكرملين بالفعل.

ولم يكن على ترومان اتخاذ هذه القرارات. ففي يناير من عام ١٩٥٣ انتقل البيت الأبيض الديموقراطي إلى أيدٍ جمهورية، تحت قيادة بطل الحرب العالمية الثانية الجنرال السابق العريض الفكين دوايت ديفيد أيزنهاور. قال أيزنهاور، وهو من كنساس، في أول خطاب له عند تولِّي الرئاسة: «نحن الأحرار علينا أن نؤكِّد إيمانَنا من جديد.» وكانت كلمة «إيمان»، التي ظهرت ما لا يقل عن ١٤ مرة في هذا النص، تعني للرئيس الجديد الثقةَ بقدرة أمريكا على حماية الحرية في جميع أنحاء العالم مع احترام «الإرث الخاص لكل أمة». لقد حقَّقت الولايات المتحدة أخيرًا التفوقَ اللازم لنشر قيَمها حول العالم، ولكن كان هذا ينطبق على الاتحاد السوفييتي أيضًا. وكان «الإرث الخاص» لتلك الأمم، الذي لا يزال يرزح تحت حكم استعماري يحمل على الأقل للغرب كراهيةً بقدْر ما يحمل خوفًا من أي عدوان سوفييتي. وأعلن أيزنهاور أن «الإيمان يحدِّد نظرتنا الشاملة إلى الحياة»، ولكن كان هذا المنظور العالمي لا يزال يتغاضى عن التناقض بين دعم الوطنية ومحاربة الشيوعية في الشرق الأوسط الذي يزداد تعقيدًا.

دالاس

لم يكن أيزنهاور خبيرًا في السياسة الخارجية، فوكل مسئوليةَ الشرق الأوسط — وأجزاء أخرى كثيرة من العالم — إلى وزير خارجيته جون فوستر دالاس. كان دالاس صارمًا مغرورًا، وله نظرة باردة من وراء زجاج نظارته ذات الإطار الحديدي والغليون يمنع ابتسامته، وكان مشهورًا بأنه لا يعرف التعاطف. وقد وصفه ونستون تشرشل، الذي أصبح مرة أخرى رئيسًا للوزراء في أوائل الخمسينيات: «ممل، وممل، وممل». كان وزير الخارجية، الذي تخرَّج في جامعة برنستون والذي كان مشيخيًّا متدينًا، يتَّبع نهج الرئيس ويلسون في كراهيته للاستعمار، والرئيس جاكسون في تصميمه على حماية مصالح أمريكا بالخارج. وكان يَعُدُّ الشيوعية شرًّا عالميًّا، ويرى أن دول عدم الانحياز مثل الهند وإندونيسيا تشجِّع هذا الشر. وكان دالاس يَعُدُّ أيضًا القوميِّين المتطرفين خطرًا. فقال لمجلس الشيوخ: «سواء في الهند الصينية أو سيام (تايلاندا) أو المغرب أو مصر أو الجزيرة العربية أو إيران … وقعت القوى المثيرة للقلاقل في قبضة الشيوعيِّين السوفييت.» وبمشاركة أخيه آلن دالاس، المسئول السابق بوزارة الخارجية ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية، تعهَّد دالاس بتخليص الشرق الأوسط من هؤلاء الذين يمهِّدون لدخول الروس.

كان أول هدف لهذه الحملة هو محمد مصدق. ففي عام ١٩٥٣، طرح رئيس الوزراء الإيراني عباءةَ الود والتعاون جانبًا، وظهر في صورة رجل إيران القوي. فقطع العلاقات مع بريطانيا، واستولى على الجيش، وعقدَ تحالفات مع حزب توده الشيوعي. واضطُر الشاه محمد رضا، الشاه غير المؤثِّر الموالي للغرب، أن يفرَّ من البلاد. وفي نظر دالاس كانت تلك الأحداث تنبئ بالسقوط الوشيك للخليج العربي برُمَّته إلى ائتلاف وطني شيوعي، وخسارة نفط الشرق الأوسط الذي لا يمكن تعويضه. وكان دالاس عاقدَ العزم على منع هذه الكارثة، فتعاون مع بريطانيا في التخطيط للإطاحة بمصدق. ونفَّذ تلك العملية، التي كانت تحمل الاسم الكودي «أجاكس»، كيرميت روزفلت ضابط وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، بمساعدة لوي هندرسون، الذي كان يتقلَّد في ذلك الوقت منصبَ سفير أمريكا في طهران، والجنرال نورمان شوارتزكوف، الذين كانوا جميعًا يساندون التيار الوطني الإيراني في الماضي. شنَّ المتآمرون هجومًا شرسًا على مصدق في الصحافة الإيرانية، وحرَّضوا على أعمال الشغب ضد الحكومة في الشوارع. وهدَّدت الحرب الأهلية بتقسيم إيران، عندما نجحت الخطة أجاكس في ١٩ أغسطس ١٩٥٣. فاستعاد الشاه عرشه وتخلَّص من المئات من مؤيدي مصدق. ووُضِعَ رئيس الوزراء المخلوع تحت الإقامة الجبرية بمنزله حتى وفاته عام ١٩٦٧.3

وكان الانقلاب الإيراني سابقةً لإطاحة وكالة الاستخبارات المركزية المنظَّم برئيس جواتيمالا جاكوبو أربنز جوزمان عام ١٩٥٤. ومع ذلك فقد استمرت الولايات المتحدة في دعم الحركات الوطنية في البلدان التي لم ترَ أن استيلاء الشيوعيِّين عليها أمر خطير، وكان ذلك يحدث حتى على حساب حلفائها الأوروبيين. وهذا ما حدث في شمال أفريقيا. فقد أكَّدت وزارة الخارجية عام ١٩٥٥: «لا يمكننا أن نمنح الفرنسيِّين المساندة التي يرغبون فيها من أجل سياساتهم في شمال أفريقيا، دون حصد عداوة الشعوب المحلية.» وقال عضو مجلس الشيوخ الجمهوري من ولاية نيفادا جورج مالون غاضبًا: «الفرنسيون يديرون دولةً بوليسية في شمال أفريقيا»، وهاجم الولايات المتحدة بسبب تورُّطها في «أعمال مساندة الرِّق الاستعماري القذرة» عن طريق مساعدة فرنسا. وفي الواقع مارست الولايات المتحدة ضغوطًا من أجل إعادة الملك محمد الخامس ملك المغرب والوطني التونسي حبيب بورقيبة، اللذين نفاهما الفرنسيون من البلاد، وساعدت بلديهما على تحقيق الاستقلال عام ١٩٥٦. وحثَّت إدارة الرئيس أيزنهاور فرنسا أيضًا على ضبط النفس في قمعها للوطنيِّين الجزائريين. وقال الرئيس: «نظرًا لأن الولايات المتحدة قد قطعت شوطًا في محاولة حماية استقلال الدول العربية، فإنها لم تكن ترغب في مساندة الموقف الفرنسي الذي قد يدمر كلَّ ما حققناه من قبل.»

وترسَّخ الاستياء من دور أمريكا في الانقلاب ضد مصدق بين كثير من الإيرانيين، ولكن نما شعور بالمرارة في بريطانيا وفرنسا بسبب دعم أمريكا لاستقلال دول الشرق الأوسط الأخرى. وأظهر أحد كبار المسئولين البريطانيِّين أسفه على أن «بعض الأمريكيِّين يرون دائمًا شخصيةَ جورج واشنطن تظهر في كل حركة منشقة أو ثورية»، وانتقد آخر «الحُلم المثالي» بتكوين «سلسلة من الدول الإسلامية المستقلة من المحيط الأطلسي حتى المحيط الهندي، تتعاون بامتنان مع المحرِّرين الأمريكيِّين.» وانتقد اللواء الفرنسي ألفونس جوين «المؤامرة الكبرى» التي «اجتمع فيها التعصب الديني والخوف من الأجانب في الشرق الأوسط مع المعاداة الأمريكية للاستعمار» لطرد الفرنسيِّين من شمال أفريقيا.4
كان الإحباط بسبب سياسات أمريكا المتردِّدة في الشرق الأوسط يثير الأوروبيِّين باستمرار، وفي النهاية انفجر الموقف في مصر. فقد توطَّدت العلاقات بين الولايات المتحدة ومجلس الضباط الأحرار تحت إدارة أيزنهاور. وعندما عاد دالاس من جولة في القاهرة وغيرها من عواصم الشرق الأوسط في مايو ١٩٥٣، أعلن مساندته لمطالب ناصر بالانسحاب الكامل للقوات البريطانية من مصر. وكتب أيزنهاور إلى تشرشل: «من ملاحظات فوستر الشخصية، توصَّلت إلى أنه يجب اتخاذ خطوةٍ ما قريبًا للتوفيق بين الحد الأدنى لاحتياجاتنا الدفاعية والمشاعر الوطنية القوية لحكومة مصر وشعبها.» وكان دالاس مقتنعًا بأن مصر ستنضم طواعيةً إلى منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط بعد تحرُّرها من بريطانيا. ولكن البريطانيِّين كانوا يؤمنون بأن «ناصر» معادٍ للغرب بطبيعته، وأن الولايات المتحدة بدعمها له ستقلل من شأن منظمة الدفاع بدلًا من تقويتها. واشتكى دالاس قائلًا: «الموقف الاستعماري القديم تجاه السكان المحليِّين سيقودهم إلى أيدي الشيوعيِّين.» وفي حين كان الجنود البريطانيون يتعرضون لهجمات متكررة من رجال حروب العصابات المصريين، كثَّف دالاس ضغوطه على لندن. وأخيرًا في يوليو عام ١٩٥٤، أذعن تشرشل ووافق على إجلاء جميع القوات البريطانية من مصر. وبذلك انتهت فترة احتلال دامت سبعين عامًا نتجت جزئيًّا عن صعود وانهيار أسعار القطن في أثناء الحرب الأهلية وبعدها.5

ولكن مصر لم تنضم إلى منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط. وفسَّر ناصر ذلك بأنه ما زال هناك عائق آخر أمام عضوية مصر في المنظمة: وهو الصراع مع إسرائيل. فقد كانت الصِّدامات بين القوات المصرية والإسرائيلية قد تصاعدت في أعقاب انسحاب القوات البريطانية، وهدَّدت بإشعال المنطقة بأسرها. وقال ناصر لدالاس إنَّ على أمريكا تقييدَ الإسرائيليِّين وإجبارهم على التخلي عن بعض المناطق عربونًا للسلام، وعندها ستنضم مصر بالتأكيد إلى منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط.

وأُعجب دالاس كثيرًا بهذا العرض. فقد كان، على غرار العديد من مسئولي وزارة الخارجية الذين كانوا من نسل مبشِّرين، يكره الدولةَ اليهودية، وكان يطلِق عليها «العبء الثقيل»، وكان بصفةٍ عامة متعاطفًا مع العرب. وقد اتفق مع وزارة الخارجية في تقييمها بأن إسرائيل يمكنها تحقيقُ السلام عن طريق التنازل عن مناطقَ كثيرة للعرب. ولكن السلام من وجهة نظر دالاس لم يكن وسيلةً لضمان الدفاع عن الشرق الأوسط فحسب، بل غايةً سامية في حد ذاته. ونظرًا لأن تربيته الدينية كانت تجعله يشعر بارتباط خاص بفلسطين، فقد شعر الوزير أنه ملزم أخلاقيًّا، إن لم يكن مفوَّضًا إلهيًّا، بأن يعيد السكينة إلى الأرض المقدَّسة.

قاد المزيج من هذه الدوافع الاستراتيجية والدينية دالاس إلى دعوة البريطانيِّين بعد أسابيع فقط من مساعدته على إجلائهم عن مصر، إلى المشاركة في محاولة للتوسط بين مصر وإسرائيل. وبنهاية عام ١٩٥٤، كان فريق تخطيط أنجلو أمريكي قد وضع خطة أطلق عليها «ألفا»، وهي خطة سريَّة تتنازل إسرائيل بمقتضاها عن مناطقَ لمصر، وتَعِدُ مصر في المقابل بعدم الاعتداء على إسرائيل. وكما هو متوقَّع رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بن جوريون الاقتراح، وبرَّر ذلك بأن مصر يجب ألا تكافأ على اعتداءات عام ١٩٤٨، ولكن دالاس كان مستعدًّا للضغط عليه للالتزام بالخطة. وكان كل ما يحتاج إليه هو موافقة ناصر.

كان الزعيم المصري في ذلك الوقت قد بدأ لتوه مشروعًا طموحًا لترسيخ مكانته الهامة في الساحة السياسية العربية، وريادته في حركة عدم الانحياز، جنبًا إلى جنب مع جواهر لال نهرو، رئيس وزراء الهند. وقد أضاع الهدفُ الأول أيَّ فرصة لأن يعقد ناصر اتفاق سلام مع عدو العرب اللدود، في حين نفى الهدفُ الثاني أيَّ إمكانية لعضوية مصر في المنظمة. وبعد أن رفض ناصر شروط الخطة «ألفا»، عارض تحالف بريطانيا العسكري مع تركيا وباكستان وإيران والعراق، ما يطلق عليه «حلف بغداد»، وبادر بالاعتراف بالصين الشعبية. وفي سبتمبر عام ١٩٥٥ اشترى كمياتٍ ضخمة من الأسلحة السوفييتية عبر تشيكوسلوفاكيا. ومع ذلك، قام دالاس بمبادرة سلام ثانية، سُميت هذه المرة «جاما»؛ وفيها قام مبعوث رئاسي خاص برحلات مكُّوكية بين ناصر وبن جوريون في محاولة لترتيب عقد اجتماع بينهما. ووصل هذا المبعوث، وهو وزير الدفاع السابق روبرت بي أندرسون، إلى المنطقة في أوائل ربيع عام ١٩٥٦ ليجد أن ناصر ليست لديه أيُّ نية لمناقشة السلام، وليس مهتمًّا كثيرًا باستقباله.

فقام دالاس، الذي غضب غضبًا شديدًا بسبب هذه الإهانة، بالموافقة على عملية أخرى، سُميت «أوميجا»، صُمِّمت لتغيير النظام الحاكم في مصر بأي وسيلة سوى الاغتيال. وبالإضافة إلى تقوية الحكومات الصديقة في الأردن ولبنان، والتخطيط لانقلابٍ موالٍ للغرب في سوريا، سعت الخطة «أوميجا» إلى الإعلاء من شأن الملك سعود ليحل محل ناصر قائدًا للعرب. أما أقسى بنود أوميجا فكان منْعَ المساعدات الأمريكية لتشييد السد العالي بأسوان. وكان هذا المشروع، الذي اقترحه لأول مرة المستكشفُ العسكري الأمريكي إيراستوس سبارو بيردي عام ١٨٧٤، هو مصدر فخر الحاكم المصري.6
ولكنَّ ناصر رفض الانصياع للعقوبات، وفي يوم ٢٣ يوليو عام ١٩٥٦ أذهل العالم بإعلان تأميم شركة قناة السويس. وكانت تلك الضربة موجَّهة، كما فسَّر ناصر، إلى «الاستغلاليِّين والمستعمرين وعملاء الإمبريالية» الذين تآمروا لتقليل شأن مصر عن طريق إعاقة انتشار نفوذها ومنع تمويل السد العالي بأسوان. وأصبح ناصر في نظر البريطانيِّين، وهم من كبار حملة الأسهم في شركة قناة السويس، هتلر آخرَ، وشبَّهوا استيلاءه على قناة السويس باستيلاء النازيِّين على النمسا. وتعهَّد رئيس الوزراء البريطاني أنطوني إيدن قائلًا: «هدفي هو التخلص من الكولونيل ناصر ونظام حكمه.» وكان ناصر أيضًا يموِّل رجال حرب العصابات الجزائريِّين، وهو الأمر الذي لم يجعله محبوبًا لدى الفرنسيِّين. وحذَّر وزير الخارجية كريستيان بينو من باريس من أنه إذا أفلتت مصر بخطة التأميم، فإن فرنسا سيتقلص شأنها إلى قوة من الدرجة الثالثة، وستصبح أوروبا «معتمدة تمامًا على مشاعر العرب الودية».7 وبدأ القادة الفرنسيون والبريطانيون على الفور في وضع خطةٍ لهجوم عسكري ضد مصر، وسعَوا إلى الحصول، ضمنًا أو صراحة، على ضوءٍ أخضر من الولايات المتحدة لشن الهجوم.

وضعت أزمةُ قناة السويس الولايات المتحدة مرةً أخرى في مواجهة خيارات صعبة: إما مساندة زعيم قومي من دول عدم الانحياز تربطه علاقات قوية بموسكو، أو الوقوف إلى جانب القوتين القادرتين على حماية الشرق الأوسط. وقد منح الأمريكيون المخاوفَ الاستراتيجية الأولوية على حساب تلك الأخلاقية في إيران، بالتواطؤ مع بريطانيا لخلع مصدق، ولكن في حالة مصر تغلَّب الجانب الأيديولوجي عليهم. فادَّعى دالاس أن الصراع ليس بين ناصر والغرب، بل بين الحركات القومية في الشرق الأوسط والاستعمار الأوروبي. وكان من رأيه أنه «لا يمكن توقُّع أن تنحاز الولايات المتحدة مائةً بالمائة إما مع القوى الاستعمارية أو القوة التي تهتم فقط بمشكلة الحصول على الاستقلال التام بأسرع طريقة ممكنة.» ومع أنه أكَّد سرًّا لبريطانيا وفرنسا أنه لم يستبعد قط خيار استخدام القوة ضد مصر، فقد عارض دالاس علانيةً أي لجوء لاستخدام السلاح.

واعترض إيدن قائلًا: «هذا الاستخفاف بالحلفاء يدمِّر الشراكة الحقيقية.» وفي الواقع اتهم بينو الولايات المتحدة بالتعاون مع الكرملين لإبقاء ناصر في السلطة، ومنع ظهور ديموقراطية مصرية حقيقية. وبسبب غضبها من حديث دالاس المخادع بدأت فرنسا سرًّا في تسليح إسرائيل وتشجيعها على مهاجمة مصر أولًا. ورحَّب بن جوريون بالاقتراح؛ إذ كان مقتنعًا أن جيش ناصر الذي سلَّحه السوفييت يمثل خطرًا قاتلًا على الدولة اليهودية. وفي البداية تردَّدت بريطانيا، التي لم تتقبل قط فكرةَ وجود إسرائيل، ولكن بحلول شهر سبتمبر انضمت أيضًا إلى المؤامرة. وكانت الخطة تقتضي أن توجِّه القوات الإسرائيلية الضربةَ الأولى بالقرب من قناة السويس، وتوجد بذلك ذريعة لتدخل فرنسا وإنجلترا «لحماية» المجرى المائي الحيوي.

وبمجرد بزوغ شمس يوم ٢٩ أكتوبر ١٩٥٦ امتلأت السماء فوق ممر متلا بسيناء، الذي يبعُد ٢٥ ميلًا عن القناة، بمظلات هابطة. وبعد هبوطهم خاض جنود المظلات الإسرائيليون معركةً شرسة مع الوحدات المصرية في الممر، في حين قامت قوات إسرائيلية مدرعة بتدمير قوات الدفاع المصرية في طريقها إلى السويس وغزة. وعندها هدَّدت فرنسا وبريطانيا بالتدخل عسكريًّا إذا لم تنسحب جميع القوات الإسرائيلية والمصرية من منطقة القناة. وكما هو متوقَّع، رفضت مصر هذا الإنذار، فاستعد أسطول فرنسي-إنجليزي للإبحار. وأكَّد إيدن لدالاس أن هذا الغزو الجماعي ليس «عودة لمفاهيم الاستعمار والاحتلال القديمة»، لكنه محاولة «لتقوية أضعف نقطة في خط الدفاع ضد الشيوعية.» ولكن دالاس كان يستشيط غضبًا. واتهم حلفاءهم في الحرب العالمية الثانية بالتصرف بوحشية تفوق وحشيةَ السوفييت الذين كانت دباباتهم في ذلك الوقت تقمع ثورةً ضد الشيوعية في المجر. وصاح الوزير قائلًا: «الولايات المتحدة ستبقى أو تندثر على أساس مصير الاستعمار. في حالة النصر أو الخسارة، سنشارك في مصير فرنسا وبريطانيا.»

وفي حين كانت الطائرات الفرنسية والبريطانية تقذف المطارات المصرية، كان الأمريكيون والسوفييت يوافقون على قرارٍ صادر من الجمعية العامة يندِّد بالعدوان على مصر ويفوِّض نشر قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة على طول شاطئ القناة. وتجاهلت القوات البريطانية والفرنسية القرار، وهبطت على الأراضي المصرية في ٥ نوفمبر بنيةِ احتلال القناة خلال أسبوع. ولكن بعد يومين ووسط مقاومة مصرية عنيفة، هدَّد السوفييت بالتدخل عسكريًّا ضد الغزاة، ومارست الولايات المتحدة ضغوطًا اقتصادية شديدة على بريطانيا. وبعد أن بثَّ هذا الذعرَ في عروقها، اضطُرت الحملة الفرنسية-الإنجليزية إلى الانسحاب تجرُّ أذيالَ الخيبة، تاركةً قناة السويس تحت سيطرة مصرية خالصة. وأذعنت إسرائيل أيضًا تحت تهديد العقوبات الأمريكية وسحبت قواتها من سيناء وغزة. وعلى الرغم من استمرار قوات الأمم المتحدة في حفظ السلام في تلك المناطق، ومع أن السفن الإسرائيلية أصبحت تمرُّ دون عائق خلال مضيق تيران، فقد اعتبر العرب انسحابَ إسرائيل انتصارًا لهم. ونتيجةً لما قامت به الولايات المتحدة، برز ناصر من أزمة السويس في صورة قائد المنطقة بلا منازع.8

وبدافعِ مفاهيمَ رومانسيةٍ عن القومية في الشرق الأوسط وعقيدةٍ مناوئة للاستعمار، اتَّحدت الولايات المتحدة مع عدوِّها السوفييتي الدائم ضد أصدقائها الأوروبيِّين وأنقذت ديكتاتورًا مصريًّا كان دالاس قد خطَّط لخلعه. وفي مقابل اتِّباعها هذا النهج المتعرج، حصدت أمريكا الازدراءَ من الاتحاد السوفييتي، وحِدَّةً وقسوة من بريطانيا وفرنسا، وعداءً من الكثير من العرب. وبدلًا من التعبير عن امتنانه للدولة التي أنقذته، شجب ناصر الولايات المتحدة باعتبارها القوةَ الاستعمارية الجديدة في الشرق الأوسط. وقال أنور السادات، المتحدث الرسمي الشاب باسم ناصر: «هناك ما يحث الولايات المتحدة على أن تستوليَ على مكان بريطانيا وفرنسا المفلستين العاجزتين، وعلى فرض نفوذها على الشرق الأوسط.» وفي غضون عام واحد من أزمة قناة السويس، كانت الحماسة والمد الناصري يضعفان الحكومات الموالية للغرب في المنطقة.

ولكن أمريكا في الواقع كانت لا حول لها ولا قوة في مقاومة هذا الهجوم. فبعد أن استكمل أيزنهاور العملَ الذي بدأه ترومان في تخليص الشرق الأوسط من الاستعمار الأوروبي، وجد نفسه الآن مثقلًا بأعباء حلفائه، ولكن دون وسيلة لحمل هذه الأعباء. ولم تكن الولايات المتحدة تحتفظ بقوات كبيرة في الشرق الأوسط، ولم يكن لديها أساس قانوني للتدخل بقوة في المنطقة. وقال أيزنهاور لدالاس: «علينا إما أن نتصرف الآن أو نغادر الشرق الأوسط. وخسارة هذه المنطقة بسبب السلبية ستكون أسوأ بكثير من الخسارة في الصين، بسبب موقع [الشرق الأوسط] الاستراتيجي.» ومثل ترومان من قبله، كان أيزنهاور بحاجة إلى مبدأ. وهكذا طلب الرئيس من الكونجرس في ٥ يناير ١٩٥٧ أن يمنحه ٤٠٠ مليون دولار للمساعدة في تحصين دول الشرق الأوسط ضد أي دولة «تسيطر عليها الشيوعية الدولية»، وأن يسمح له بإرسال قوات أمريكية للدفاع عنها. وأكَّد قائلًا: «نادرًا ما حدث في التاريخ أن اختُبر مدى التزام أمة بمبادئها بهذه القسوة كما يحدث لنا»، ووافق الكونجرس بأغلبية ساحقة.

وبالفعل تعرَّض التزام أمريكا للاختبار في صيف عام ١٩٥٨، عندما أطاحت الجماهير في بغداد بالحكومة العراقية بوحشية، ومزَّقت علانيةً جسدَي الملك ورئيس وزرائه. كما واجهت الحكومات المحافظة في الأردن ولبنان ثوراتٍ مناوئةً للغرب. وخوفًا من فكرة استيلاء مصري بدعم سوفييتي على الشرق الأوسط برُمَّته، عاد أيزنهاور يستعين بمبدئه. فأُرسلت طائرات تابعة لسلاح الجو الأمريكي لإعادة تموين جنود المظلات البريطانيِّين الذين كانوا يتدخلون في الأردن، وأُرسلت قوات أمريكية لدعم الحكومة اللبنانية المحاصرة. وفي صباح يوم حارق من أيام يوليو، انتشر نحو ٨٥٠٠ من الجنود الأمريكيِّين على الشواطئ بالقرب من بيروت. وعلى عكس مواقف الهبوط الأمريكي البرمائي السابقة في المنطقة، لم يواجه الأمريكيون هذه المرة أي مقاومة. وجاء آلاف المتفرجين لمشاهدة عملية الإنزال، كما جاء عشراتٌ من باعة الطعام والهدايا التذكارية الذين كانوا ينادون على بضاعتهم أمام الجنود الخارجين من البحر على شرائها.

وهكذا مثَّلت عملية لبنان نهايةً مشئومة لفترة معقَّدة في سياسات أمريكا في الشرق الأوسط. فقد تعاونت الولايات المتحدة أولًا مع بريطانيا للإطاحة بقائدٍ ذي شعبية واسعة في إيران، ثم ضغطت على بريطانيا للجلاء عن مصر؛ وساندت الحركات القومية في شمال أفريقيا ضد فرنسا، ولكنها خطَّطت للإطاحة بناصر، راعي الحركات القومية؛ وأنقذت ناصر من غزو فرنسي-بريطاني في السويس، ثم تدخَّلت بعدها مع بريطانيا لحماية الحكومات العربية من ناصر. لقد نفَّذت إدارة أيزنهاور، وهي ممزَّقة بين تناقض مبادئها وسياساتها التي يفرضها الواقع، سلسلةً محيِّرة من الأفعال المتناقضة في المنطقة، مثيرةً حنق حلفائها ومستفزَّة عداء أعدائها أكثر. ومع ذلك كان الأمريكيون يعتقدون أن حكومتهم قد تصرَّفت كما ينبغي وبحكمة في إيران وشمال أفريقيا ومصر، محافظةً على مصالحها الحيوية ومروِّجة لمبادئها الديمقراطية. وظلوا، كما صوَّرهم مارك توين ذات مرة بأنهم أبرياء في الخارج في الشرق الأوسط، مع أنهم أحيانًا كانوا يتصرفون وكأنهم «مخرِّبون أمريكيون».

وانعكست البراءة والسذاجة التي استمر الأمريكيون في النظر بها إلى الشرق الأوسط الغامض أخلاقيًّا الذي يزداد تعقيدًا، في فيلم بن هور، وهو فيلمٌ أنتجته هوليود في ١٩٥٩. وكان الفيلم، المقتبَس من رواية كُتبت قبل ذلك بثمانين عامًا بقلم لو والاس، سفير أمريكا لدى الباب العالي، إعادةً لفيلمٍ صامت سابق، لكن هذه النسخة الجديدة كانت تحتوي على رسالة سياسية حزينة. قام سيناريو الفيلم على شخصية جودا بن هور، وهو أميرٌ يهودي وطني، يصادق شيخًا عربيًّا اسمه إلدريم، ويقاومان معًا عدوَّهما المشترك، ميسالا الضابط الروماني. وفي الفيلم يلقي إلدريم (الذي قام بدوره الممثل البريطاني هيو جريفيث) بدوره في الحوار بلهجة شرق أوسطية عامة، ولكن بن هور (تشارلتون هيستون) يتحدث مثل أي أمريكي من الغرب الأوسط — الدمج مرة أخرى بين الأمريكي الجديد واليهودي القديم. أما الرومان فكانت لهجتهم أقربَ إلى النبلاء البريطانيِّين. وكما هو متوقَّع انتصر جودا وإلدريم، وكسرا شوكةَ ميسالا الحاقد.9 ولكن في الشرق الأوسط الحقيقي لم تكن هناك علاقةٌ قوية بين إسرائيل اليهودية القومية وحكومة الولايات المتحدة، كما لم يكن العرب يكنُّون أيَّ عواطف لأي منهما. بالإضافة إلى أنه بالنسبة إلى الكثيرين من سكان المنطقة كان ضباط القوى الاستعمارية ليسوا بريطانيين، بل أمريكيِّون بكل وضوح.

ولكن سرعان ما سمعت شعوب الشرق الأوسط تغيرًا جديدًا في نبرة خطاب الولايات المتحدة، وهو تغيُّر جمع بين دماثة العالم القديم وواجبات النبل الحديثة. ووصف هذا الصوت الجديد رؤيةً مختلفة لعلاقات أميركا بالمنطقة، وشراكةً قائمة على المساواة وليس الهيمنة، وعلى الحلول السلمية للصراعات، والاحترام المتبادل بين القادة. وكان صدى هذا الصوت الذي وصل إلى المصريِّين والأردنيِّين والفلسطينيِّين والإسرائيليِّين على السواء هو اللكنةَ المميزة لبراهمة بوسطن التي كان جون فيتزجيرالد كينيدي يتحدث بها.

كاميلوت يأتي إلى الشرق الأوسط

رغم نشأته على مبدأي الكاثوليكية الرومانية، اعتنق كينيدي المفهوم البروتستانتي لأمريكا «منارةً للأمل»، والالتزام التبشيري بنشر القيم الأمريكية في جميع أنحاء العالم وتشجيع استقلال الشعوب. وكان كينيدي قد أعلن وهو لا يزال عضوًا في مجلس الشيوخ: «الاختبار الأهم للسياسة الخارجية الأمريكية اليوم هو كيف نواجه الإمبريالية. وفي هذا الاختبار تحديدًا دون غيره ستحكم الملايين من الشعوب غير المقيَّدة بأيديولوجيا في آسيا وأفريقيا على هذه الأمة بصورة مصيرية.» وفي الشرق الأوسط، كان بإمكان أمريكا مواجهةُ هذا الاختبار عن طريق دعم الحركات الوطنية القليلة الباقية التي كان لا يزال يتعيَّن عليها أن تنجح في التخلص من الحكم الأوروبي، وعن طريق التوصل إلى طريقة للتعايش مع نظم الحكم التي نالت استقلالها حديثًا والتي كانت لا تزال غير منحازة. وبوصوله إلى السلطة في يناير ١٩٦١، دعم كينيدي مطلبَ الجزائر للحصول على الاستقلال عن فرنسا وأعاد النظر في عداوة أمريكا لناصر.

وكان من أول ما قام به كينيدي بعد توليه منصبَه هو كتابة رسالة للزعيم المصري، عارضًا عليه إحياء الصداقة بين البلدين التي كانت قد نشأت بعد الحرب الأهلية. وذكَّر كينيدي ناصر بأن الولايات المتحدة كانت في يوم من الأيام مثل العالم العربي: مجموعة من المستعمرات المحرَّرة التي تتوق إلى التجمع في كيان واحد. وهنأ ناصر بعيد تكوين الجمهورية العربية المتحدة، وهو الاتحاد القصير الأجل بين مصر وسوريا، في ٢٢ فبراير، وهو «تاريخ ميلاد رئيسنا الأول، جورج واشنطن». وقد قوبل خطابه على الفور بود وحماسة. وعبَّر ناصر عن «رضاه وتقديره العميقين» لرسالة كينيدي، مؤكدًا «الحبَّ والإعجاب» اللذين ينظر بهما هو وشعبه الأمريكيِّين دائمًا.

ويبدو أن كاميلوت، وهو بلاط الملك آرثر الذي أصبحت الإدارة المثالية غالبًا ما يتم تشبيهها به، قد فتحت فصلًا جديدًا ووديًّا في علاقات الشرق الأوسط بأمريكا. وكان من أبرز مظاهر هذا النبل المساعداتُ الاقتصادية الضخمة وشحنات القمح؛ وسرعان ما أصبح ٦٠٪ من المصريِّين يتلقَّون خبزهم اليومي هديةً من الولايات المتحدة. وقد اتضح إحياء الصداقة بين ناصر والولايات المتحدة، ونزعة أمريكا الرومانسية المستمرة لشخصية البدوي الذي لا تثقل كاهله أيُّ أعباء في صناعة السينما في الفيلم الكلاسيكي «لورنس العرب»، وهو من أبرزِ ما أُنتج في عام ١٩٦٢. وفي أحد المشاهد المميزة يعلن صحفي أمريكي شديد الثقة بنفسه اسمه بنتلي، كان من الواضح أنه يجسِّد شخصية لويل توماس، مساندتَه للأمير فيصل ولصراع العرب من أجل الاستقلال في الحرب العالمية الأولى. فيقول بينتلي لفيصل: «جلالتك، كنا نحن الأمريكيِّين في يومٍ ما شعبًا استعماريًّا، ومن الطبيعي أن نشعر بالتعاطف مع أي شعب في أي مكان يصارع من أجل حريته.» فيجيبه الأمير، الذي يلعب دوره الممثل الوقور أليك جينيس، قائلًا: «أمرٌ مُرضٍ للغاية.»

وعلى أي حال، فقد تباعد واقع الشرق الأوسط عن أسطورة هوليوود مرةً أخرى في عام ١٩٦٢ نفسه، بانهيار مبادرة كينيدي في مصر. وقد بدأ الانهيار بالإطاحة بإمام اليمن الموالي للغرب على يدِ مجموعة من الضباط الأحرار المقرَّبين من ناصر. وعندما تدخلت المملكة السعودية لإعادة الملَكية، ردَّ ناصر بإرسال عشرات الآلاف من قواته إلى اليمن. وبدأت الطائرات المصرية أيضًا في قصف أهدافٍ سعودية، بعضها بالغاز المسمَّم. وكان مشهد الجيش المسلَّح بسلاح سوفييتي ويستشير مستشارين سوفييت وهو يقترب من مخزون النفط الذي يعتمد عليه اقتصاد أمريكا أثار غضب إدارة كينيدي، التي لم تكن قد أفاقت تمامًا بعدُ من أزمة الصواريخ الكوبية. ومع أن كينيدي لم يكن يميل لمصلحة السعوديين، الذين كان يشعر أنهم «يمثلون بوجهٍ ما الأمسَ وليس الغد»؛ فقد كان عليه أن يختار بين تصالحه مع الناصرية والدفاعِ عن الخليج العربي. وفي النهاية، فُرض عليه الخيار عندما قام ناصر بانتهاك وقف إطلاق النار الذي توسَّطت فيه أمريكا. وفي نوفمبر ١٩٦٣، أي بعد عامين من إرسال أول خطاب له إلى القاهرة، أرسل كينيدي طائرات حربية للدفاع عن الرياض.10

بعد أن خابت محاولات كينيدي في إقامة علاقات ودية مع ناصر، أعاد تركيزَ قواه على إسرائيل وخلافها المستمر مع العرب. فمنذ فشلِ عمليتَي «ألفا» و«جاما» في الخمسينيات، توصَّل واضعو السياسات الأمريكيون إلى أنه لا توجد أي فرصة للسلام في المنطقة. وقرروا بدلًا من هذا إبقاءَ الصراع العربي الإسرائيلي «مجمدًا»، بمنع نشوب حرب أخرى. وقد أضفى الأمريكيون الطابع الخيالي على هذا الصراع لجذلهم بصورة آري بن كنعان في فيلم «الخروج» الذي لاقى رواجًا شديدًا في عام ١٩٦٠، والذي لعب دوره الممثل بول نيومان المفتول العضلات، حيث كان يقود الإسرائيليِّين الشجعان في مواجهة العرب غير الشجعان الذين لا يتصفون بصفات الأبطال. ولكن كينيدي، الذي لم ينسَ قط العنف الذي شهده وهو شاب في القدس في عام ١٩٣٩، كان له منظور أكثر اختلافًا. وكخطوة أولى تجاه حلِّ هذا النزاع، اقترح إعادةَ توطين آلاف اللاجئين الفلسطينيِّين في وادي الأردن القاحل، الذي ستُستخدم مياه نهر الأردن في رَيِّه. ولكن أعاق بن جوريون تنفيذَ ذلك الاقتراح معارضًا أن تتشارك إسرائيل أهمَّ مورد مائي مع أعدائها، في حين رفض القادة العرب مجردَ التفكير في أي تعاون مع إسرائيل. وبعد أن أصيب كينيدي بالإحباط بسبب فشل محاولته لإحلال السلام، وجَّه مجهوداته نحو منع إراقة المزيد من الدماء بين العرب وإسرائيل. وكان قلقًا خاصة من إنتاج إسرائيل السرِّي للأسلحة النووية، وهو مشروع كان يخشى أن يسرِّع من نشوب سباق تسلُّح لا يمكن كبحُ جماحه في الشرق الأوسط.

قال كينيدي لبن جوريون أثناء مقابلتهما في فندق والدورف أستوريا بنيويورك في مايو ١٩٦١: «لا يكفي أن تكونَ المرأة عفيفة فحسب، بل أن يدُل مظهرها على ذلك أيضًا.» وكان الرئيس يتمتع بعلاقات ممتازة مع الجالية اليهودية الأمريكية، التي كان دعمها سببًا في وصوله إلى السلطة بفارق صغير أثناء انتخابات ١٩٦٠، كذا كانت علاقاته مع إسرائيل وديةً بوضوح للجميع. ولكن بصورة غير رسمية، رفض كينيدي الادعاءَ بأن إسرائيل تطوِّر قوة نووية لأغراض سلمية فقط، وثار على رفض بن جوريون السماح لمفتشين أمريكيِّين بالتحقُّق من «نزاهة» المفاعل الإسرائيلي في ديمونة. ونصح كينيدي بن جوريون الأكبر سنًّا والأقصر قامة والأقل جاذبية بكثير بأنه «من مصلحتنا المشتركة ألا تعتقد أيُّ دولة أن إسرائيل تسهم في إنتاج الأسلحة الذرية.» ولكن رجل الدولة الإسرائيلي الأكثر حنكةً أمَّن مخاوف الرئيس جانبًا. فطمأن مضيِّفه إلى نوايا إسرائيل السلمية وهو يخبره كيف أن ناصر إذا ما حدث وانتصر «سيفعل باليهود ما فعله هتلر بهم».

وظل موضوع قدرات إسرائيل الذرية، الذي لم يُحَل، مصدرًا للخلاف في علاقة كينيدي بإسرائيل. وفي محاولة لتهدئة مخاوف بن جوريون من مصر، عرض الرئيس إمداده بصواريخ هوك أرض-جو، في سابقة لمبيعات الأسلحة الأمريكية لإسرائيل. ونشر بن جوريون تلك الصواريخ حول ديمونة فقط، واستمر في منع التفتيش الأمريكي. وبحلول صيف عام ١٩٦٣، كان كينيدي الذي تملَّك منه الغضب يحذِّر الإسرائيليِّين من أن علاقاتهم بالولايات المتحدة معرَّضة «لخطر شديد» بسبب عنادهم في المسألة النووية.11

وقد شرع جاك كينيدي في تمييز سياساته تجاه الشرق الأوسط عن سياسات سابقه فقط ليصيبه الإحباط مرةً تلو الأخرى. فقد جاهد للتصالح مع ناصر وإلى عقد اتفاق على عدم انتشار الأسلحة النووية مع بن جوريون، لكنه تعرَّض للصد بوقاحة من الجانبين. وظل الصلح العربي الإسرائيلي حُلمًا أمريكيًّا يصعب تحقيقه. وفي النهاية أجبرت خيبات الأمل المتكررة كينيدي على التخلي عن سياساته الفاضلة لمصلحة معايير عهد أيزنهاور لحماية المنطقة من الشيوعية ولضمان استمرار تدفُّق النفط. وفشل سحرُ كاميلوت في الشرق الأوسط، ربما أوضح من أي عالم آخر.

كان الرئيس، الذي هبط في مطار لوف فيلد في دالاس في صباح يوم ٢٢ نوفمبر ١٩٦٣، قد يئس من تحقيق أي تقدم في أي مجال من مجالات العلاقات الأمريكية مع الشرق الأوسط. وسيتذكَّر كثيرون اغتيال كينيدي في وقت لاحق من ذلك اليوم باعتباره نقطةَ تحوُّل في تاريخ الولايات المتحدة، مفجِّرة فيضانًا من التغييرات الثورية داخل المجتمع الأمريكي وسلسلة من الكوارث في مجال الشئون الخارجية للدولة. وعلى أي حال، لم يكن لكل هذه الاضطرابات أثر يُذكر على علاقة أمريكا بالشرق الأوسط. فقد انحدرت أنظمةُ ما بعد الاستعمار في كلٍّ من مصر وسوريا والعراق إلى أنظمة دكتاتورية عسكرية قمعية، معادية للغرب ولبعضها بعضًا. ورسمت الخطوط الفاصلة بين الحكام الذين يدعمهم السوفييت مثل ناصر، والأنظمة الملكية الموالية للغرب في الأردن والخليج العربي، بصورة قاطعة. وربما كان العامة لا يزالون مسحورين بمشهد باربرا إيدن وهي لا تكاد ترتدي شيئًا وتخرج من مصباحٍ يشبه مصباح علاء الدين في مسلسل تليفزيوني كوميدي في منتصف الستينيات يحمل اسم «أحلُم بجني»، ولكنَّ واضعي السياسات الأمريكيِّين سئموا مثل هذه الأساطير. وقبل أن تنتهي عند حائط برلين، التهمت الجبهة في الحرب الباردة أدغال فيتنام الوحشية سريعًا إلى واحات وتلال الشرق الأوسط التي تبدو مسالمةً بطريقة خادعة.

من ألامو إلى العلمين

لم يكن الرئيس السادس والثلاثون رومانسيَّ الرؤية. بل كان طموحًا بصورة يصعُب فهمهما، وداهيةً، وعلى القدْر نفسه من الإصرار في كفاحه من أجل الحقوق المدنية في بلاده وفي صراعه الذي انتهى نهايةً مريرة ضد الشيوعية في جنوب شرق آسيا، ولم يبدُ على ليندون باينز جونسون أيٌّ من ولع كينيدي بأوهام الشرق الأوسط. كما كانت الأحداث في المنطقة لا تدعو إلى الاستغراق في أحلام اليقظة. فقد كان ناصر يشن حربًا دعائية ضارية ضد حليفتي أمريكا الأردن والسعودية، ويتعاون على نحوٍ سافر مع السوفييت، ويلح من أجل إغلاق قاعدة ويلوس الجوية التي كانت تُعدُّ المصدر الاستراتيجي الوحيد لقوة أمريكا في ليبيا. وفي نوفمبر ١٩٦٤ قام مشاغبون في القاهرة بإحراق مكتبة السفارة الأمريكية. وعندما احتجَّ السفير الأمريكي على هذا التخريب المتعمَّد، قال له ناصر «اذهب واشرب من البحر»، وهدَّده «بقطع لسان» كلِّ مَن يتحدث بسوء عن مصر. وقال: «لن نقبل بلطجةَ رعاة البقر» مشيرًا إلى الرئيس الأمريكي الذي ترجع جذوره إلى تكساس. وردًّا على ذلك أوقف جونسون كل شحنات القمح إلى مصر.12
وأسلوب جونسون المتعنت تجاه المنطقة لم يمنعه من إظهار عاطفة مفرطة تجاه إسرائيل. فقد قال لدبلوماسي إسرائيلي بعد وقت قصير من اغتيال كينيدي: «لقد خسرتم صديقًا عظيمًا. ولكنكم حصلتم على صديقٍ أفضل.» وكان بعض أقرب مستشاري الرئيس الجديد من اليهود الأمريكيِّين، ولهم آراء معلنة موالية لإسرائيل، منهم وكيل وزارة الخارجية يوجين روستو، وسفير أمريكا لدى الأمم المتحدة آرثر جولدبرج. وعلى المستوى السياسي، كانت مشاعر جونسون تجاه إسرائيل تنبع من امتنانه للدعم الكبير الذي استمر اليهود الأمريكيون في إظهاره للحزب الديموقراطي، وقد استمرت هذه العاطفة الجياشة رغم معارضة اليهود الأمريكيِّين المتصاعدة لحرب فيتنام. أما السبب الأعمق لسياسات جونسون الموالية لإسرائيل فكان يكمُن في الدِّين. فقد نصحه جَده المعمداني الصارم «اعتنِ باليهود، فهم شعب ﷲ المختار»، كما حذَّرته عمَّته قائلة: «إذا دُمرت إسرائيل، فسينتهي العالم.» وعلى عكس ذلك، استمرت وزارة الخارجية في التحذير من أن علاقة أمريكا بإسرائيل ستُبعد العرب وتهدِّد إمدادات النفط، ولكن الرئيس استمر على موقفه. فبالنسبة إليه كانت إسرائيل مثلَ قلعة آلامو حديثة، محاطة من كل الجهات بأعداءٍ لا يعرفون الرحمة، أما ناصر فكان إعادةَ تجسيد لسانتا آنا، اللواء المكسيكي الذي حاصر تلك القلعة.13

وأصبح هذا التشبيه مناسبًا بدرجة مخيفة في ١٥ مايو ١٩٦٧، وهو اليوم الذي جعل فيه ناصر بلدَه تستعد للحرب. فقد كان التوتر يتصاعد في المنطقة بدرجةٍ لا يمكن منعها نتيجةَ هجمات رجال العصابات الفلسطينيِّين على إسرائيل التي كانت تنفِّذها منظمة فتح التي تدعمها سوريا، بقيادة مهندس سابق حليق الوجه رابط الجأش اسمه ياسر عرفات. وردًّا على هذا التحدي لزعامة مصر للعالم العربي، أسَّس ناصر حركةً منافِسة، هي منظمة التحرير الفلسطينية، وأصدر إليها تعليماتٍ بتنفيذ عمليات خاصة بها. وأدى الانتقام الإسرائيلي ردًّا على تلك العمليات إلى صِدامات واسعة النطاق مع القوات السورية على مرتفعات الجولان، المطلة على شمال إسرائيل، وفي النهاية إلى ادعاءات سوفييتية بغزوٍ إسرائيلي وشيك لسوريا. ومع أن ناصر سريعًا ما تحقَّق من عدم صحة هذه التوقعات، فقد استغلَّها مبرِّرًا لإجلاء قوات حفظ السلام التي كانت الأمم المتحدة قد احتفظت بها في سيناء وقطاع غزة منذ انتهاء أزمة قناة السويس. وبعدها بأسبوع واحد، أغلق ناصر مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية، وعقدَ معاهدات عسكرية مع الأردن وسوريا والعراق. وقامت مظاهرات حاشدة في جميع أنحاء العالم العربي، داعيةً إلى حرب شاملة. وأعلن الرئيس العراقي عارف: «هدفنا واضح، وهو مسح إسرائيل من على الخريطة.»

ولكن مَن سيطلق النار أولًا؟ فمع وجود نحو نصف مليون جندي عربي على حدودها، وتشجيع السوفييت لهم بالهجوم، كانت إسرائيل تواجه موقفًا مصيريًّا. فبدأت المستشفيات الإسرائيلية تخزِّن الضمادات وأكياس الدم بسرعة واضطراب، في حين قامت السلطات الدينية بحفر آلاف القبور للضحايا المتوقَّع سقوطهم في الحرب القادمة. وزاد القرار المفاجئ الذي اتخذته فرنسا، الحليفُ السابق لإسرائيل، بالتحول إلى مناصرة العرب من احتياج إسرائيل إلى التخلص من الخطر الذي يمثله ناصر فورًا. ولكن كان كلٌّ من ليفي إشكول، وهو رئيس وزراء إسرائيل المتَّزِن العقل غير المثير للاهتمام، وأبا إيبان وزير الخارجية المهذب، كانا قلقين من ردِّ الفعل الأمريكي. فهل كانت الولايات المتحدة ستتصرف كما فعلت في ١٩٥٦، وتنقذ ناصر وتجبر الإسرائيليِّين على التراجع؟

ومع أن جونسون كان يشارك الإسرائيليِّين قلقهم، فقد عارض في الواقع توجيهَ ضربة وقائية، خشيةَ أن تجرَّ الشرق الأوسط بأكمله، وربما العالَم كله، إلى الحرب. وقال لأبا إيبان مرةً بعد الأخرى في البيت الأبيض في ٢٦ مايو إن «إسرائيل لن تكون وحدَها إلا إذا قرَّرت أن تذهب وحدَها.» وحذَّره وزير الخارجية دين راسك من أنه «إذا أطلقت إسرائيل النار أولًا، فعليها أن تنسى الولايات المتحدة.» وفي محاولة يائسة لتجنُّب حرب محفوفة بالمخاطر، اقترح الرئيس جمع أسطول من السفن من ٢٤ دولة والإبحار بها عبر مضيق تيران المغلق إلى إيلات. فإذا فتح المصريون النيران على القافلة، تقوم سفن وطائرات الأسطول السادس الأمريكي بقصف أهداف استراتيجية في مصر. وأُعجب الإسرائيليون بالخطة، التي أطلق عليها سرًّا «ريجاتا»، ووافقوا على إرجاء هجومهم لمنح جونسون وقتًا لتنفيذها. ولكن الكونجرس الذي كان يترنَّح بسبب تورُّط أمريكا في فيتنام، أحجم عن تنفيذ أي عملية قد تؤدي إلى أي وضع خارجي معقَّد. أما الأوروبيون فرفضوا الاقتراح تمامًا، رفضًا يذكِّر برفض أسلافهم الانضمامَ إلى اتحادٍ بقيادة الولايات المتحدة ضد القراصنة البربر. واعترف جونسون لمساعديه مشيرًا إلى الإسرائيليِّين: «لقد فشلت. سيفعلونها، سيبدءون الهجوم. ولا يمكننا القيام بشيء إزاء ذلك.»

جاء عزاء جونسون الوحيد من أجهزة الاستخبارات الأمريكية التي تنبأت بأن إسرائيل ستتغلَّب بسرعة على مصر أو أي اتحاد من الجيوش العربية. وقد أكَّد الإسرائيليون بقوة تلك النبوءة. ففي هجوم مفاجئ بدأ في الثامنة من صباح يوم ٥ يونيو، هاجمت الطائرات الإسرائيلية وقصفت الطائرات الحربية المصرية، التي لم يغادر معظمها الأرض، مدمِّرين ٢٨٦ طائرة منها. وقامت الدبابات الإسرائيلية والوحدات الميكانيكية باختراق الخطوط المصرية المحصَّنة في سيناء وغزة. وعملًا باتفاقياتها مع ناصر، انضمت القوات السورية والأردنية إلى القتال، لتدمِّرها الهجمات الإسرائيلية المضادة. وامتد طابور طويل من المركبات المصرية المدمَّرة على طول سيناء، في حين كانت القوات السورية والأردنية المتقهقرة تجرُّ ذيلًا من دخان الدبابات المحترقة والرِّفاق الذين سقطوا على مرتفعات الجولان وعلى طول الضفة الغربية وشرق القدس. وعلى النقيض، كان الجنود الإسرائيليون يرفعون العلمَ الإسرائيلي على قمة جبل الشيخ، ويخوضون مياه قناة السويس رافعين أسلحتهم، ويرقصون، وعلى أكتافهم أحزمةُ الذخيرة بدلًا من شيلان الصلاة، أمام الحائط الغربي.

أثنى جونسون، سرًّا على الأقل، على انتصار إسرائيل. وفي حين كان يؤكد للسوفييت أن أمريكا لا تدخر جهدًا لوقف القتال، كان الرئيس في الحقيقة يراوغ لتأجيل الموافقة على وقف إطلاق النار بقرارٍ من الأمم المتحدة حتى يتأكد من هزيمة العرب. وحتى بعد أن أطلقت الطائرات النفاثة وزوارق الصواريخ الإسرائيلية النارَ خطأ على سفينة التجسس الأمريكية «يو إس إس ليبرتي» يوم ٨ يونيو، فقتلت ٣٤ بحَّارًا وأصابت ١٧١ آخرين، ظل موقف الرئيس مواليًا لإسرائيل بشدة. واختُبِر ولاؤه لإسرائيل مرة أخرى في اليوم التالي عندما أعلن السوفييت، في تحرُّك شبيه بأزمة ١٩٥٦، نيتَهم التدخل عسكريًّا. ولكن جونسون لم يطرِف له جَفن. وأصدر تعليماته لمستشاريه قائلًا: «ابحثوا عن موقع الأسطول السادس بالتحديد، وأخبروه بتحويل اتجاهه فورًا.» وتراجع السوفييت واستمروا في مشاهدة إسرائيل تكمل هزيمتها النكراء على العرب.

كانت حرب الأيام الستة، كما عُرفت في إسرائيل والغرب، تمثِّل أكبرَ انتصار عسكري في الشرق الأوسط منذ هزيمة بريطانيا للألمان في العلمين قبل ذلك بخمسة وعشرين عامًا. وفجأةً أصبحت إسرائيل تسيطر على منطقةٍ تعادل أكثر من ثلاثة أضعاف مساحتها الأصلية، ووضعت على الأقل مليوني عربي فلسطيني من سكان شرق القدس والضفة الغربية وغزة تحت الاحتلال. وكانت معظم نتائج الحرب الجغرافية والسياسية والإنسانية تعود إلى قرارات جونسون، وأيضًا مجهودات السلام التي تبِعت القتال. فبمجرد أن قُبل وقف إطلاق النار، طلب الرئيس من وكيل وزارة الخارجية روستو أن يضع خطةَ سلام شامل. وقال روستو لفريق عمله: «دعونا لا ننسى أن أي أزمة هي فرصة أيضًا. فالكثير من الأنماط تصبح مرنة، وتُفتح الأبواب. أطلِقوا لخيالكم العِنان.»14

كانت المعادلة الأمريكية تدعو إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة مقابل اعتراف العرب بحق كل دول المنطقة أن تعيش في سلام «داخل حدود آمنة معترف بها». كما أشار الاقتراح أيضًا إلى الحاجة إلى «تسوية عادلة» لمشكلة اللاجئين الفلسطينيِّين. وعُدَّ ذلك الاقتراح دليلَ قرار الأمم المتحدة رقم ٢٤٢، الصادر في نوفمبر، ونقطةَ بداية لما أصبح معروفًا بعملية السلام. وعلى أي حال، لم تبدُ فرص نجاح المبادرة مبشِّرة. فمع أن إسرائيل عرضت التخلي عن سيناء ومرتفعات الجولان بالكامل مقابل اتفاقيات سلام رسمية مع مصر وسوريا، فقد ضمَّت أيضًا القدس الشرقية بصورة منفردة. وأصدرت الدول العربية في اجتماعها في الخرطوم «اللاءات الثلاث» الشهيرة: لا مفاوضات مع إسرائيل، لا سلام معها، ولا اعتراف بها. وكان الفلسطينيون غاضبين بسبب إهمال القرار ٢٤٢ ذكْرَ حقِّهم في تقرير مصيرهم، وقرروا الاستمرار في الصراع المسلح لمحو إسرائيل. وستقود تلك المجهودات منظمة التحرير الفلسطينية التي، بعد تحرُّرها من السيطرة المصرية، انضمت تحت لواء فتح ورئاسة ياسر عرفات.

كانت حرب ١٩٦٧، التي لا تزال أصداؤها تهزُّ المنطقة، نقطةً أساسية في تكوين الشرق الأوسط الحديث. لقد عانت القومية العربية، وهي أيديولوجية علمانية إلى حد كبير، نكسةً لن تتعافى منها أبدًا، وهو ما سرَّع ظهورَ منافسها التطرُّف الإسلامي. وعلى النقيض، زادت قوة الصهيونية بانتصار إسرائيل، وتدفَّقت في عروق الشعب اليهودي موجةٌ قوية من الحماسة الدينية بعد اتحاده من جديد مع وطنه الروحي في القدس والضفة الغربية. وكانت الحرب أيضًا بالغة الأهمية في علاقة أمريكا بالمنطقة. ففي نظر ملايين الأمريكيِّين الإنجيليِّين الذين كانوا يقدِّرون إسرائيل باعتبارها تحقيقًا لنبوءات الإنجيل، كانت حرب الأيام الستة تدخلًا إلهيًّا للإسراع بقدوم عصر المسيح. ولكن هذا الانتصار أقنع واضعي السياسات الأمريكيِّين أيضًا، الذين كان العديد منهم من قبلُ لا ينصحون بإقامة علاقات قوية مع الدولة اليهودية، أن ينظروا إلى إسرائيل باعتبارها كتيبةَ أمريكا الصغيرة القوية في الحرب الباردة.

ولم يخفَ على العرب تحوُّل إسرائيل في عيون الأمريكيِّين من صديق بعيد إلى حليف فعلي. فرغم مجهودات جونسون لتحقيق السلام وإعادة أراضيهم المغتصَبة، تبِعت ست دول عربية مصر في قطع علاقاتها بواشنطن. وبدأ ناصر شنَّ حرب استنزاف، كانت القوات المصرية والإسرائيلية فيها تواجه بعضها عبْر قناة السويس وتتبادل يوميًّا وابلًا من القذائف ذات القوة التفجيرية الشديدة ونيران القناصة والقصف الجوي. ومن الأردن كانت وحدات منظمة التحرير الفلسطينية تقصف بانتظام المدن والمستوطنات الإسرائيلية الحدودية. وإذا كان الهدف من تلك الهجمات هو إعاقة العلاقات التي تزداد قوة بين القدس وواشنطن، فقد أدَّت إلى العكس تمامًا. فقد باع جونسون ١٥٠ طائرة حربية للقوات الجوية الإسرائيلية، مكملًا بذلك العمليةَ التي حلت الولايات المتحدة بها محلَّ فرنسا باعتبارها المورِّد الرئيسي للسلاح لإسرائيل.

ومع أن هذه التطورات لم تكن تشجِّع على بدء مجهودات توسط بين الطرفين، فقد بدا أنها تزيد من تصميم جونسون على بذل جهود سلام كبرى في الشرق الأوسط عام ١٩٦٨. وتأكَّدت الحاجة إلى مثل هذه المبادرة باغتيال روبرت إف كينيدي، الأخ الأصغر للرئيس السابق وأحد المنافسين على الرئاسة، على يد فلسطينيٍّ مضطربٍ اسمه سرحان سرحان. وقد حدث الاغتيال في الذكرى السنوية الأولى لحرب الأيام الستة، ولكن في ذلك الوقت كان جونسون قد خرج من سباق الرئاسة، ضحيةَ النتائج المحلية لحرب فيتنام. وبذلك انتهت فترة رئاسة جونسون التي كانت فترةً مضطربة تنافست فيها اعتبارات الحرب الباردة مع الدوافع الدينية في رسمِ سياسات أمريكا في الشرق الأوسط. وعلى أي حال، لن يلعب الإيمان سوى دور بسيط، أو لن يكون له دور على الإطلاق في تشكيل موقف الإدارة التالية تجاه المنطقة، وكذلك الأوهام الخيالية. فمنذ عام ١٩٦٩ أفسح الإيمان والخيال المجالَ أمام تركيزٍ عقلاني شبهِ أعمى على القوة.

ميترنيخ أمريكي في الشرق الأوسط

كان الشرق الأوسط الذي ورِثه ريتشارد ميلهاوس نيكسون مكانًا كئيبًا ممزَّقًا أيديولوجيًّا دمَّرته الحرب، ولكن الرئيس كان يملك شخصيةً كئيبة غير مترابطة تناسبه. ومع أنه نشأ في عائلة تقيَّة تنتمي إلى جمعية الأصدقاء الدينية، فإنَّ الدِّين لم يكن له دور يُذكر في تعامل نيكسون مع شئون الشرق الأوسط. بل كان إحساسه بالتهديد السوفييتي الذي يواجه المنطقة والقوة التي تحتاج إليها أمريكا لمواجهة هذا التهديد فقط هو ما يحدِّد سياساته. وأصبحت كل الأهداف الأخرى، من تحقيق سلام عربي إسرائيلي أو توسيع قاعدة التفاهم العربي الأمريكي، تأتي بعد مقتضيات الحرب الباردة في تفكير نيكسون الكئيب.

كان يشارك نيكسون نظرتَه للعالم إلى حدٍّ بعيد مستشاره لشئون الأمن القومي العبقري الغامض دكتور هنري إيه كيسنجر. كان كيسنجر يعلم مخاطرَ الفوضى السياسية، وكذلك، على النقيض، القيمة السامية للاستقرار؛ إذ إنه كان مراهقًا يهوديًّا لاجئًا من ألمانيا النازية. وكان بطلُ رسالته للحصول على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد هو ميترنيخ، الأمير النمساوي البارع الذي تمكَّن من الحفاظ على مصالح بلاده طوال فترة الاضطرابات العنيفة في أوروبا في عصرِ ما بعد نابليون، والحفاظ على توازنٍ يعمل بصورة ممتازة بين القوى. وسعى كيسنجر لتكرار إنجازات ميترنيخ على نطاق عالمي، مقويًا دورَ أمريكا عالميًّا، ومحققًا توازنًا دائمًا مع موسكو.

ولم يكن هذا بالتحدي الهيِّن على الإطلاق، خاصة في الشرق الأوسط.

وفسَّر نيكسون ذلك قائلًا: «الفَرق بين هدفنا وهدف السوفييت في الشرق الأوسط بسيطٌ للغاية. نحن نريد السلام وهم يريدون الشرق الأوسط.» لذلك سعت الإدارة الأمريكية إلى منعِ نشوب حرب عربية إسرائيلية أخرى، كانت ستجعل العربَ أكثرَ اعتمادًا على السلاح السوفييتي والمستشارين السوفييت، وأيضًا لحماية الحكومات الصديقة في كلٍّ من الأردن وإيران والمملكة السعودية. كما كان أمن إسرائيل يشغَل ذهن الرئيس أيضًا. وكان ارتباطه بالدولة اليهودية لا يعود إلى ميراثه من جمعية الأصدقاء الدينية، أو إلى رغبته في الحصول على دعم الناخبين اليهود؛ فقد صوَّت أقل من ٨٪ من يهود أمريكا لصالحه، ولكن مرة أخرى إلى حاجته لصد السوفييت. فقد قال لوفد من كبار المشرعين: «إسرائيل هي أكبر صِمام أمان فعَّال في الوقت الحاضر لقوة الشرق الأوسط للسوفييت. وأنا أساند إسرائيل لأن هذا في مصلحة الولايات المتحدة.» ولكن نيكسون كان يؤمن أيضًا أن إسرائيل عندما تشعر بالأمان في تحالفها مع أمريكا ستتحمل المخاطرَ اللازمة للتوصل إلى سلام. وبعد أقلَّ من عام من توليه منصبَه، فوَّض الرئيس وزير خارجيته ويليام بي روجرز في التوسط لإنهاء القتال بين مصر وإسرائيل، وللضغط على إسرائيل لقبول اتفاق الأرض مقابل السلام على أساس قرار الأمم المتحدة رقم ٢٤٢. وتماشيًا مع روح تخفيف حدة التوتر الدولي، دعا نيكسون السوفييت إلى المشاركة في رعاية المبادرة.

كان نيكسون قد شرع في اتباع نهجٍ محسوب ويؤدي إلى تغيرات في الشرق الأوسط، ولكن الأحداث اجتمعت لتُخرِج تطوُّر هذا النهج عن مساره. ففي ليبيا أطاح العقيد الجريء والموهوم غالبًا معمر القذافي بالملك إدريس وأغلق قاعدة ويلوس الجوية، وعقد تحالفاتٍ قوية مع الكرملين. وتدفَّقت الأسلحة السوفييتية على الجزائر والسودان، وانتشر آلاف المستشارين من الجيش الأحمر في مصر واليمن الجنوبي وسوريا والعراق. وتمكَّن روجرز من التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار بين مصر وإسرائيل، ولكن ناصر خرقه بنقل صواريخ سوفييتية الصنع إلى منطقة الهدنة. وسعِدت رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير — أو سابقًا جولدا مايرسون من ميلووكي — بتلقي مساعدة روجرز في إنهاء حرب الاستنزاف، ورحَّبت بلهفةٍ بعرض نيكسون بيعها مزيدًا من الأسلحة. ولكنها رفضت التخلي عن الأراضي التي استولت عليها إسرائيل في ١٩٦٧ مقابل أي شيء أقلَّ من السلام الكامل. وكان ناصر لا يزال رافضًا لفكرة التفاوض مع إسرائيل، فضلًا عن فكرة التصالح معها.15

وتمثَّل فشلُ الإدارة الأمريكية في تحقيق الحد الأدنى من أهدافها السياسية في الشرق الأوسط في تصاعد الفوضى في الأردن. فقد كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد أسَّست دولة فعلية داخل الدولة في الأردن، وكانت ترسل بانتظام رجال العصابات عبْر نهر الأردن إلى الضفة الغربية المحتلة، وتطلق الصواريخ على المستوطنات الحدودية الإسرائيلية. وكانت إسرائيل تردُّ بعنف على هذه الغارات، مما أدخلها مجددًا في دائرةٍ لا تنتهي من العنف المتصاعد. ولكن التوتر اتخذ منحًى دوليًّا أشدَّ حدةً في ٦ سبتمبر ١٩٧٠، عندما ترصَّد رجال العصابات الفلسطينيون لثلاث طائرات تابعة لشركات ترانس وورلد أيرلاينز، وسويس إير، وبان آم، واختطفوها وأجبروها على الهبوط في الصحراء الأردنية. واحتجز المختطفون ٥٤ رهينة، منهم ٣٤ من الأمريكيِّين، واحتجزوهم في مخبأ في عمان. ثم قاموا بتوصيل متفجرات تحت الطائرات وفجَّروها مصوِّرين إياها بآلات تصوير.

أشعلت هذه التفجيرات المواجهةَ التي كانت تغلي تحت السطح منذ وقت طويل بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهي الفترة التي يطلِق عليها الفلسطينيون «أيلول الأسود». فقد نشِب قتال عنيف بين الميلشيا الفلسطينية والقوات الموالية للملك حسين ملكِ الأردن الصغير الجسم. وسرعان ما تغلَّبت القوات الملكية على المتمردين، ولكن هدَّد السوريون بالتدخل لمصلحة الفلسطينيِّين. واستنجد حسين المذعور بالولايات المتحدة لتنقذه من الجيش السوري الذي يتفوَّق عليه في العدد، لكن الإدارة الأمريكية رفضت. فمع أن نيكسون كان معجبًا بالملك حسين ومقدِّرًا لقيمة الأردن في الحرب الباردة، فقد كان يخشى أن تؤدي أيُّ محاولة لمساعدة المملكة الأردنية عسكريًّا إلى استفزاز السوفييت للتدخل مع سوريا، مما قد يؤدي إلى صِدامٍ مباشر بين القوى العظمى. ولم يتبقَّ سوى خيار واحد. وعبْر خط هاتف سرِّي كان قد وُصِل بين البيت الأبيض والسفارة الإسرائيلية سأل كيسنجر السفير إسحاق رابين، الذي كان رئيس الأركان الإسرائيلي خلال حرب الأيام الستة وابن أحد مواطني نيويورك فيما مضى، عما إذا كانت إسرائيل ستحرِّك جيشها إلى شمال الأردن لوقف تقدُّم السوريين. أي إنه كان يطلب من القوات اليهودية التضحيةَ بحياتها من أجل ملكٍ عربي ومن أجل أمن الولايات المتحدة. ونقل رابين الطلب إلى مائير في القدس، التي وافقت عليه فورًا.

كانت المساعدة الإسرائيلية، كما اتضح فيما بعدُ، غيرَ ضرورية. فقد دمَّرت الطائرات الأردنية النفاثة تشكيلاتِ الدبابات السورية وهي تعبُر الحدود. ونُفي عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى لبنان، واستمر الملك حسين في حكمه بصفته الملكَ الهاشمي المظفَّر. ولكن البيت الأبيض مع ذلك سيظل يتذكَّر لوقت طويل استعدادَ إسرائيل للقتال بناءً على طلب أمريكا. وعلى مدار السنوات الثلاث التالية تضاعفت المساعدات العسكرية الأمريكية إلى الدولة اليهودية عشرة أضعاف، وتوقَّفت تمامًا أي ضغوط على إسرائيل للتنازل عن الأراضي.

وقد ترك التحالف الناشئ بين إسرائيل والقوة العظمى البارزة في العالم انطباعًا مؤثرًا على الحكام العرب. ففي حين كان الاتحاد السوفييتي يمدُّهم بعُدة وعتاد الحرب، كانت الولايات المتحدة وحدَها هي القادرة على تقديم النفوذ الدبلوماسي اللازم لانتزاع الأراضي العربية المحتلة من قبضة إسرائيل. لكن عددًا قليلًا فقط من القادة العرب هو مَن فهِم هذا التغيُّر الدقيق، كان أخطرهم أنور السادات. لقد كان الكثيرون ينظرون إلى السادات الأسمر البشرة الطويل الجسد النحيف، الذي ارتقى إلى سُدة الحكم بعد وفاة ناصر إثر تعرُّضه لأزمة قلبية انتابته وهو يحاول حلَّ أزمة أيلول الأسود، على أنه تابع ضعيف. وكانت أحاديثه المعادية للولايات المتحدة كثيرةً للغاية. ولكن سرعان ما سيتضح أن السادات سياسي محنَّك بعيد النظر، رجل له رؤية وقادر على التنبؤ بأهمية إبعاد الأمريكيِّين عن إسرائيل وجذبهم إلى صف العرب مرةً أخرى. وأدرك السادات أن الطريق إلى سيناء لا يمرُّ عبْر دمشق أو موسكو، بل من خلال عاصمة الولايات المتحدة.

لم يضيِّع السادات وقتًا في توضيح إمكانية تعاونه مع واشنطن. فأبلغ نيكسون قائلًا: «تكون مخطئًا لو ظننت أن [مصر] تخضع للنفوذ السوفييتي»، وأكَّد له أنه إذا «أثبتت الولايات المتحدة صداقتها لنا، فسنقابل صداقتها بعشرة أضعاف من الود والصداقة.» وأشار السادات أيضًا إلى أنه في مقابل عقد اتفاق مؤقَّت يسهِّل إعادةَ فتح قناة السويس المغلقة منذ حرب الأيام الستة، وعودةَ عدد رمزي من القوات المصرية إلى سيناء، فإنه على استعداد لطرد المستشارين السوفييت من مصر. وقال: «لا يوجد سببٌ يجبر العرب على التحيز إلى الاتحاد السوفييتي. فشعبي يفضِّل الغرب.» وأطلق السادات على عام ١٩٧١ عام الحسم، مؤكدًا أن الاتجاه الذي ستسلكه مصر، سواء أكان نحو السلام أم نحو الحرب، يتوقف أساسًا على أمريكا.

كان نيكسون يتوق للغاية لاستكشاف نوايا السادات، ولكن الأحداث، على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي، تآمرت مرةً أخرى لإعاقته. فقد تجنَّبت الإدارة أي سياسات قد تؤدي إلى إثارة غضب موسكو، وهي التي كانت غارقةً لأذنيها في مفاوضاتٍ سرية لإنهاء حرب فيتنام، وفي محاولات للوصول إلى اتفاق مع السوفييت لوضع حد للأسلحة النووية. وبدلًا من هذا تعاهدت القوى الكبرى في مايو ١٩٧١ على العمل معًا لإيجاد تسوية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي. ولكن بعدها بعام واحد فقط طرد السادات فجأةً نحو ١٥٠٠٠ مستشار سوفييتي من مصر، ولكن هذه الضربة المفاجأة فشلت في إحداث أي تغيير في السياسة الأمريكية. فقد كان حلُّ الأزمة الدولية مع السوفييت لا يزال له الأولوية على السلام العربي الإسرائيلي.

وتضاءلت فرص أي تقدُّم دبلوماسي أكثر وأكثر على مدار عام ١٩٧٢. وكان من بين أكبر العقبات أمام السلام عمليات منظمة التحرير الفلسطينية وغيرها من المنظمات الفلسطينية التي حظيت عقب هزيمة ١٩٦٧ بمكانة بطولية جديدة في نظر العرب. وقد شنَّ الفلسطينيون، الذين كانوا متلهفين لزيادة هذه الشعبية وجذب انتباه العالم إلى قضيتهم، سلسلةً من الهجمات التي تزداد دمويةً ضد أهداف إسرائيلية. وبلغت تلك الهجمات ذروتها في سبتمبر ١٩٧٢، عندما قتل أعضاءٌ مقنَّعون من مجموعة «أيلول الأسود» — وهي فرع من منظمة التحرير الفلسطينية سُميت على اسم حرب العام السابق في الأردن — ١١ رياضيًّا إسرائيليًّا في دورة الألعاب الأوليمبية بميونيخ. وكانت مذبحة ميونيخ هي أول هجمة إرهابية كبرى تُبث مباشرة على التليفزيون، وشاهدها كثيرون في أمريكا. كما كانت نذيرًا لعنفٍ أكثرَ دموية يلوح في الأفق. ولكن كان ردُّ فعل نيكسون لما حدث في ميونيخ غير مبالٍ، فرفض التنديد بالعرب أو السوفييت المساندين لمنظمة التحرير الفلسطينية، أو حتى تنكيس العلم على البيت الأبيض رثاءً للموتى. فقد كان الأكثر أهميةً للرئيس في ذلك الوقت هو الحاجة إلى مواجهة الاتهامات بوجود فساد يضرب بجذوره إلى حدود بعيدة في البيت الأبيض، واتهامات بأن فريق عمله قد سطا على مكاتب اللجنة القومية للحزب الديموقراطي في فندق ووترجيت بواشنطن.

وما دامت الولايات المتحدة ملتزمةً بدبلوماسية مشتركة مع السوفييت، ومع اشتعال الموقف في جزء كبير من الشرق الأوسط، والرئيس الأمريكي موثوق اليدين سياسيًّا، لم يأمُل السادات في تحقيق اتفاق عن طريق المفاوضات. واقترح كيسنجر، الذي خلف روجرز وزيرًا للخارجية في سبتمبر ١٩٧٣، عمليةً تدريجية مكوَّنة من عدة خطوات من التزام مصر بالأمن الإسرائيلي واعتراف إسرائيل بسيادة مصر على سيناء، ولكن مجهوداته جاءت متأخرة.16 ففي الثانية من بعد ظهر يوم السادس من أكتوبر، بعد يوم واحد من مناقشة كيسنجر خطتَه مع وزير الخارجية المصري، شنَّت مصر الحرب.

كان الهجوم قد فاجأ الولايات المتحدة تمامًا؛ إذ تم بالتنسيق مع هجوم سوري على مرتفعات الجولان المحتلة. وكان اهتمام البلد بالكامل منصبًّا على قضية ووترجيت، وتركَ نيكسون، الذي عاد إلى منزله في فلوريدا، الكثيرَ من صنع القرارات في يد كيسنجر. وكان الوزير قد تقبَّل تقديرات أجهزة الاستخبارات بأن فرص الحرب في الشرق الأوسط ضئيلة للغاية، وقد اشتكى أحد المسئولين الأمريكيِّين من أن «الإسرائيليِّين قاموا بإجراء عملية غسيل مخٍّ لنا، بعد أن أجرَوا عملية غسيل مخ لأنفسهم»، ونجح السادات في تضليله. ولم تكن الصدمة التي تعرَّض لها الإسرائيليون أخفَّ؛ فقد كان معظمهم يقضون هذا اليوم في منازلهم أو في المعبد يحتفلون بأقدس يوم لدى اليهود، وهو يوم الغفران. وكانت رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير قد تلقَّت قبلها تحذيراتٍ عن الهجوم، وفكَّرت في توجيه ضربة استباقية لمصر كما فعلت في ١٩٦٧، ولكن كيسنجر أقنعها بالعدول عن ذلك. مبرِّرًا ذلك بأن المجتمع الدولي لم يَعُد ينظر إلى إسرائيل باعتبارها داود يحارب جالوت العربي؛ ولذلك فسيشجب إسرائيل لأنها باغية. ووافقته مائير، وكان ثَمن قرارها هذا باهظًا للغاية. فتحتَ مظلةٍ كثيفة ومحكمة من قذائف المدفعية وصواريخ أرض جو، قام نحو ٨٠ ألفًا من القوات المصرية بالهجوم على جسور ومعديات عبر قناة السويس. وسحقوا القوات الإسرائيلية غير المستعدة والأقل منهم عددًا، ورسَّخوا وجودهم في سيناء. في تلك الأثناء كانت مئات الدبابات السورية تحرث حقول الألغام والحصون على مرتفعات الجولان. وعاد مشهد الطرق الصحراوية المليئة بالدبابات المحترقة والجثث المتفحمة مرة أخرى، ولكن هذه المرة كانت معظم الخسائر على الجانب الإسرائيلي.

كانت حرب يوم الغفران، أو كما سمَّاها العرب حرب أكتوبر، اختبارًا قاسيًا لأسلوب كيسنجر الواقعي لفهم سياسات الشرق الأوسط. وكانت له ثلاثة أهداف خلال تلك الأزمة: وقف إراقة الدماء بأقصى سرعة، ومنع السوفييت من تحقيق أي مزايا سياسية من الأزمة، ووضع أساس لوساطة أمريكية بعد الحرب. وكانت الولايات المتحدة ستضع ثِقلها الدبلوماسي وراء جهود الأمم المتحدة للتوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار ولاستعراض قوَّتها العسكرية لتمنع السوفييت من التدخل في الحرب. ومع أنه كان من المتوقَّع أن تلمَّ إسرائيل شعثَها وتصد الغزاة العرب سريعًا؛ فقد أخذت الإدارة الأمريكية على عاتقها أنها ستقدِّم تنازلات عن أجزاءٍ كبيرة من الأرض عند وقف القتال. وقال كيسنجر: «لم يكن بإمكاننا أن نجعل سياساتنا رهنًا بإسرائيل»، مؤكدًا أن النزعة المعادية لأمريكا في العالم العربي في مصلحة إسرائيل، إلا أنها تمثل «كارثة» بالنسبة إلى الولايات المتحدة.

ولكن الأحداث في الميدان لم تتماشَ مرةً أخرى مع الأجندة الأمريكية. إذ لم يقع الهجوم الإسرائيلي المضاد المتوقَّع، وسرعان ما اكتشفت الدولة اليهودية التي تستعد للحرب نقصَ إمداداتها نقصًا كبيرًا. وعلى النقيض كان العرب يتلقَّون شحنات مستمرة من السلاح والذخيرة من السوفييت. وأخذ كيسنجر يفكِّر فيما إذا كان عليه أن يردَّ على ذلك التحرك السوفييتي أم لا؛ وزعمت وزارة الدفاع أن إعادة تسليح إسرائيل ستضر بالمجهودات الحربية الأمريكية في فيتنام. ولكن فكرة انتصار السلاح الشيوعي كانت مخيفةً بما يكفي لإخراج ريتشارد نيكسون من عزلته. وأصدر الرئيس أوامره قائلًا: «مهما كانت التكلفة، أنقذوا إسرائيل.» وبناءً على ذلك قطعت طائرات جالاكسي وستارليفتر مسافة ستة الآلاف ميل إلى تل أبيب نحو ٣٠٠ مرة، في عمليةٍ تحمل اسم «نيكل جراس»، ونقلت أكثر من ٢٢٠٠٠ طن من الذخيرة الحربية. وقلبت القوات الإسرائيلية المزودة بالسلاح الكِفةَ بعناد، طاردةً القوات السورية مرة أخرى إلى دمشق خلال أسبوع، ومحاصرةً القوات المصرية في سيناء.

ورحَّبت واشنطن في البداية بهذا التحول في أرض المعركة، حتى تسبَّبت في نتيجتين مشئومتين غير متوقعتين. فأولًا، قام منتجو النفط العرب، الذين تلقَّت عائلاتهم العلاج على يد أطباء مبشِّرين أمريكيِّين، وامتلأت خزائن أموالهم بأموال شركات النفط الأمريكي وحرص كل رئيس أمريكي على حمايتهم، بقطع إمدادات النفط عن الولايات المتحدة وغيرها من الدول الصناعية، ردًّا على مساندتها لإسرائيل. فأغلقت كل خطوط الإنتاج ومحطات الكهرباء، وانتظرت طوابيرُ طويلة من السيارات وخزاناتها خالية من الوقود في محطات الوقود الفارغة بدورها في جميع أنحاء أمريكا. ولكن الأسوأ من استخدام العرب لسلاح النفط كان قرار السوفييت بوضع قواتهم الأرضية والبحرية في حالة تأهُّب قصوى، مهدِّدين بقتال نووي.

وفجأةً كان على الولايات المتحدة أن تواجه شبحَ اقتصادٍ أمريكي مصاب بالشلل بسبب نقص الوقود، وكابوسًا أسوأ هو حرب عالمية مع روسيا. وأذعن كيسنجر قائلًا: «ربما علينا أن نواجه السوفييت. علينا أن نكون بصلابة الحديد الآن.» وإثباتًا لهذا العناد أُعلنت حالة الاستعداد للحرب من الدرجة الثالثة للقوات الأمريكية في أوروبا وللأسطول السادس في شرق البحر المتوسط. وفي الوقت نفسه مارس البيت الأبيض ضغوطًا مكثفة على الإسرائيليِّين لوقف تقدُّمهم نحو دمشق ولتخفيف قبضتهم على الجيش المصري. وانهارت عدة محاولات لوقف إطلاق النار، وكانت السفن الحربية الأمريكية والسوفييتية على شفا الالتحام في معركة. ولكن بحلول ٢٨ أكتوبر كان الجنود الإسرائيليون يقدِّمون زجاجات المياه لنظرائهم المصريِّين ويتعاونون معهم في اتخاذ إجراءات للحد من التوتر. وأصدر مجلس الأمن قراره رقم ٣٣٨، داعيًا إلى «سلام دائم وعادل» على أساس القرار رقم ٢٤٢، وممهدًا لمؤتمر دولي لتحقيق ذلك. وقدَّم كيسنجر تقريره لنيكسون وهو مبتهج قائلًا: «كان ذلك انتصارًا رائعًا.»17

وربما كان وزير الخارجية مبالغًا قليلًا في مدح نفسه. فبسبب تركيز الولايات المتحدة على عواملَ استراتيجية عالمية فقط تقريبًا، فشلت في منع صراع إقليمي، وبتوانيها في الجهود الدبلوماسية ربما تكون قد سرَّعت بنشوبها. ولقي نحو ١٥ ألفًا حتفَهم، وأكثر من ٢٥٠٠ إسرائيلي. كما كشفت الحرب النقابَ عن صدوع خطيرة بين الحلفاء الغربيين، حيث قامت عدة دول أعضاء في منظمة حلف شمال الأطلنطي بإغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات الأمريكية المتوجهة إلى إسرائيل. وعلَّق كيسنجر فيما بعدُ على ذلك قائلًا: «كان الأوروبيون يتصرفون كالضباع. وكان سلوكهم مخزيًا للغاية.»

هل كان يمكن أن تكفي الواقعية وحدَها لإصلاح هذا الدمار وتمهيد الطريق أمام تحقيق السلام؟ جاءت الإجابة المثبطة في جنيف في ديسمبر ١٩٧٣ حيث عقد المؤتمر الدولي للسلام. فقد رفضت الوفود العربية مناقشةَ تسوية سياسية قبل الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي المحتلة، وقاطعت سوريا الجلسات تمامًا. وفي تلك الأثناء كانت أسعار النفط قد قفزت لما يقرُب من ٤٠٠٪ بسبب الحظر العربي، ونفَّذت المنظمات الفلسطينية التي أُبعدت عن حضور المؤتمر مذابحَ في مدينتين في شمال إسرائيل. كانت هذه هي البيئة غير المستقرة التي نفَّذ فيها كيسنجر أدقَّ مهامه الدبلوماسية.

بعد خمسين عامًا من ابتعاد وزارة الخارجية عن تعيين يهودٍ مهاجرين من ألمانيا مثل سيمون وولف وأوسكار ستراوس وهنري مورجنتاو وسطاءَ بين أمريكا والعالم الإسلامي، واستبدالهم بأبناء المبشِّرين، كان يهودي أمريكي مولود في ألمانيا يقوم بالوساطة في الشرق الأوسط. وباستخدام الوسائل التي أسَّسها روبرت بي. أندرسون في الخمسينيات، كان الوزير يقوم برحلات مكُّوكية بين العواصم العربية والعاصمة الإسرائيلية في محاولاتٍ تدريجية لفصل الجيوش المتحاربة. ولكن على عكس أندرسون الذي كان يسافر دون الإعلان عن ذلك، كان كيسنجر يسافر علنًا. فكان يومه يبدأ عادةً بزيارة للقاهرة وتلقي قبلات تحية من السادات، يتبعها توقُّف في دمشق، وتقبيل الرئيس السوري حافظ الأسد، ثم ينتهي بزيارة لتل أبيب، حيث يعانق رئيسة الوزراء جولدا مائير، التي تمازحه قائلة: «لم أكن أعلم أنك تقبِّل النساء أيضًا يا سيادة الوزير!» ولكن وراء تلك اللقاءات الودية، كانت المفاوضات متوترة، خاصة مع الإسرائيليِّين، الذين كان كيسنجر كثيرًا ما يُضطر إلى تهديدهم ليذعنوا له. وكانت النتيجة التوصل لاتفاقيات لفصل القوات على الجبهتين المصرية والسورية، وتجديد العلاقات الدبلوماسية بين أمريكا والعالم العربي.

وبعد أن شدَّت هذه النجاحات من أزر كيسنجر، كان مستعدًّا للمضي قُدمًا نحو اتفاقيات عربية إسرائيلية بعيدة المدى والتأثير، ولكن العقبات ظهرت في طريقه. وصل نيكسون، الذي كان في أشد الحاجة لفترة راحة من فضيحة ووترجيت وللاستمتاع بآخر نجاحاته الدبلوماسية، إلى الشرق الأوسط في يونيو ١٩٧٤. وخرجت جماهيرُ حاشدة لاستقبال الرئيس في مصر وسوريا والأردن والمملكة العربية السعودية، وعامله الإسرائيليون باحترام. ولكن هذا التملُّق لم يساعد كثيرًا على تحسين موقفه في وطنه، واستقال نيكسون بعد عودته بوقت قصير. ولم يكن لخلفه، جيرالد فورد الذي كان دمث الخلق ولكن تعوزه الألمعية، خبرةٌ كافية في إدارة شئون البلاد، وغير محنَّك بصفة عامة في أمور الشرق الأوسط. أما جولدا مائير التي استقالت بعد نيكسون بأربعة أشهر فخلفها إسحاق رابين، الذي كان سياسيًّا هادئًا بصورةٍ خادعة والذي أثبت أنه على القدْر نفسه من الشراسة عندما يتعلق الأمر بموضوع الأرض. وأثمر المزيج غير المتناسق لفورد ورابين أسوأ أزمة في علاقة أمريكا بإسرائيل منذ أزمة السويس، وذلك عندما أعلن فورد عن «إعادة تقييم» الدعم الأمريكي للدولة اليهودية. وردَّ رابين بحشد لجنة العلاقات العامة الأمريكية الإسرائيلية، وهي اللوبي المساند لإسرائيل، ضد الرئيس الأمريكي. ومع أن اللجنة تأسَّست في عام ١٩٥٣، فإنها لم تحقِّق النفوذَ المالي والسياسي الكافي للتأثير على رأي الكونجرس إلا في منتصف السبعينيات. وألغى فورد «إعادة التقييم» عندما قوبل بالمعارضة من جناحي الكونجرس بسبب ضغوط تلك اللجنة.

ومع ذلك، نجح كيسنجر، الذي ظل يشغَل منصب وزير الخارجية في عهد الرئيس فورد، في التوسط لعقد معاهدة ثانية بين مصر وإسرائيل في سبتمبر ١٩٧٥. ووافقت إسرائيل بمقتضاها على التراجع عن مناطقَ أخرى من سيناء مقابل تعهُّد مصر بإيقاف حالة الحرب معها وضمانات أمنية أمريكية. ولا يعود الفضل في نجاح عقد الاتفاق إلى منهج كيسنجر الذي يقتدي فيه بميترنيخ بقدرِ ما يعود إلى رغبةٍ عميقة لدى إسرائيل ومصر في السلام. وهناك مثالٌ آخر أسوأ شهرة لدبلوماسية كيسنجر العقلانية غير المتحيزة في الشرق الأوسط في العام نفسه أثناء خلاف حدودي بين إيران والعراق، عندما شجَّع الوزير سرًّا أكرادَ العراق على الثورة ضد الحكم العراقي. وبالفعل تمرَّد الأكراد، ولكن الشاه وصدَّام حسين سرعان ما حلَّا خلافاتهما، وتفرَّغ الجيش العراقي لقمع التمرد. وناشد الأكراد كيسنجر أن يساعدهم، ولكن وزير الخارجية لم يستجِب لهم. وقال: «يجب ألا نخلط بين الأعمال السرية والعمل التبشيري.»18

وعلى مدارِ سبع سنوات خلال فترة رئاسة نيكسون وفورد تعرَّضت الولايات المتحدة لاضطرابات قاسية في الشرق الأوسط. فقد واجهت إعصارًا من المعارك والانقلابات والمقاطعات وتجنَّبت نزاعات مع السوفييت. وسعى الرئيسان إلى استعادة مكانة أمريكا في العالم العربي وتقييد مكانة روسيا، وفي الوقت نفسه تحقيق توازن استراتيجي دقيق. وكانت إنجازاتهم في النهاية مبهرة. فقد أُعيدت مصر، الدولة العربية الزعيمة، إلى المدار الأمريكي، واحتُوي النفوذ السوفييتي في المنطقة، مع أنه استمر قويًّا في كلٍّ من سوريا والعراق وليبيا. ووقَّع العرب والإسرائيليون لأول مرة منذ الهدنة عام ١٩٤٩ اتفاقياتٍ دبلوماسية، ورفضوا فكرةَ اللجوء إلى الحرب. وكان السلام ممكنًا في نظر العديد من أطراف النزاع، ولكن ليس تحت رقابة الأمم المتحدة أو الاتحاد السوفييتي، بل فقط تحت رعاية الولايات المتحدة.

ورغم ذلك ظلَّ السلام وجهةً بعيدة كان على القادة الأمريكيِّين أن يقطعوا مسافةً طويلة إليها. فكانت إسرائيل قد بدأت بالفعل في بناء مستوطنات في المناطق التي احتلتها في عام ١٩٦٧، في إشارة إلى رفضها للتنازلات التي أشار إليها القرار رقم ٢٤٢. وأرسل حافظ الأسد ٤٠ ألف جندي سوري إلى لبنان الذي مزَّقته الحرب الأهلية، بادئًا بذلك فترةَ احتلال عنيفة دامت ثلاثين عامًا. وسرعان ما طالت الأمريكيِّين أيضًا يدُ الإرهاب الذي بدأ ضد الإسرائيليِّين. فاختطفت منظمة التحرير الفلسطينية كليو آلين نويل الابن، سفير أمريكا في السودان والقائم بأعماله جورج كيرتيس مور، ثم قتلتهم في مارس ١٩٧٣، وكان أحد مطالبها إطلاق سراح سرحان سرحان. وبعد ذلك بثلاث سنوات قتل مسلحون فلسطينيون السفيرَ فرانسيس ميلوي والمستشار الاقتصادي روبرت وارنج في بيروت. وفي الثامن من سبتمبر ١٩٧٤، فُجِّرت طائرة تابعة لشركة ترانس وورلد إيرلاينز في طريقها من تل أبيب إلى نيويورك في الجو بقنبلة وُضعت في حجرة البضائع، وقُتل جميع ركابها البالغ عددهم ٨٨ شخصًا. وكان المتطرفون الإسلاميون يستشيطون غضبًا في جميع أنحاء المنطقة، وزاد من غضبهم فشلُ العرب في هزيمة إسرائيل عسكريًّا، وأيضًا بسبب سيطرة النُّظم الديكتاتورية التي كانت أمريكا تساند بعضها. وكان الحصول على هدنات مؤقتة في مثل هذه البيئة، فضلًا عن «سلام أمريكي»، لا يتطلب واقعيةً فقط، بل أخلاقًا وخيالًا أيضًا. وهذه المواصفات بالتحديد هي ما ميَّز خليفة فورد، الذي كان أكثرَ رئيسٍ يقوده الإيمان ومشبَّعًا بالخيال حتى اليوم.

شمامسة وعمداء وشاهات

كان جيمي كارتر قد عمل في عدة مجالات قبل انتخابه الرئيسَ التاسع والثلاثين لأمريكا؛ فقد كان مزارعًا للفول السوداني، وفردًا في طاقم العمل بالغواصات تلقى تدريباته في أنابوليس، وكان محافظًا لجورجيا. وطوال تلك المراحل استمر كارتر مسيحيًّا مؤمنًا، وشمَّاسًا معمدانيًّا، ويواظب على قراءة الإنجيل يوميًّا. وقد اعترف قائلًا: «أريد أن أملأ حياتي بالمسيح أكثرَ من أي شيء آخر — حتى السياسة.» واستمر ذلك الورَع حتى بعد دخول كارتر البيتَ الأبيض في يناير ١٩٧٧. وعلى غرار وودرو ويلسون، كان يحلُم بتأسيس «أخوَّة في الإيمان» في العلاقات الدولية، وباتباع سياسة إنسانية في الخارج. وغالبًا ما كان أسلوبه «البابوي» تجاه الشئون الخارجية يبدو غريبًا بالنسبة إلى قادة العالم، حتى أولئك الذين كانوا يشاركونه استقامته. ويتذكَّر البابا يوحنا بولس الثاني: «بعد قضاء ساعتين مع الرئيس كارتر، انتابني شعور بأن قائدَين دينيَّين كانا يتحاوران.»

كانت حماسة كارتر الدينية واضحة أيضًا في استحواذ الشرق الأوسط على تركيزه. فقد كانت المنطقة تضم الأرض المقدسة، التي كانت دائمًا تبثُّ في صدر الرئيس الجديد عاطفة جياشة، وكانت تضم كذلك دولةَ إسرائيل التي كان يَعُدُّ مساندتها «مبدأ أخلاقيًّا مهمًّا». وقد ظلَّ لهذه الآراء شعبيةٌ كبيرة بين المسيحيِّين الإنجيليِّين، الذين أصبحت تجمُّعاتهم تفوق تلك التي في الكنائس البروتستانتية التي تمثِّل الاتجاه الرئيسي، من ناحية الحجم والنفوذ السياسي. وعادت فكرة عودة المسيحية إلى أصولها في تعاليم الكنيسة القديمة إلى الحياة مرة أخرى، وكذلك مفهوم أن الإسلام أداة يستخدمها المسيخ الدجال الذي كان منتشرًا في أمريكا عندما كانت تحت الاستعمار. ولكن كارتر كان يعارض تلك المعتقدات في نقده لسياسات إسرائيل في الضفة الغربية وغزة، وتعاطفه مع مأساة الفلسطينيِّين. وعلى عكس نيكسون وكيسنجر اللذين تعاملا مع هذا الصراع فقط من منطلق القوة، سعى كارتر إلى مصالحة المتناحرين على أساس التديُّن المشترك. وصرَّح كارتر بأن «دم إبراهيم … لا يزال يتدفَّق في عروق العرب واليهود والمسيحيِّين. والدم المُراق في الأرض المقدَّسة لا يزال يصرخ إلى الرب صرخةَ ألم من أجل السلام.»19

واستجابةً لذلك النداء تنازل كارتر عن احتكار أمريكا لعملية التوصل إلى سلام في الشرق الأوسط، التي كانت الإدارة السابقة قد حرصت على بنائها بكل دقة. ودعا السوفييت إلى الانضمام إليه في استضافة مؤتمر دولي آخر للسلام، وأعلن نيته السعي وراء انسحاب إسرائيل من كل الأراضي المحتلة. وكان أكثر ما أثار الدهشة هو تعهُّد كارتر بالحصول على «حقوق الفلسطينيِّين الشرعية»، أي تكوين دولة فلسطينية، وبالتفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية بمجرد قبولها القرار رقم ٢٤٢.

ولم تقرِّب هذه الإجراءات كارتر من قلوب القادة الإنجيليِّين الذين أعلنوا في إعلانات نُشرت على نطاق واسع: «لقد حان الوقت كي يؤكِّد المسيحيون الإنجيليون إيمانهم بنبوءة الإنجيل وبحق إسرائيل الإلهي في هذه الأرض.» كما جلبت مواقف الرئيس له عداوة مناحم بيجين، قائد ميليشيا إرجون في عام ١٩٤٨، وزعيم حزب الليكود اليميني، الذي أصبح رئيس وزراء إسرائيل المنتخَب حديثًا. ولكن في حين نجح كارتر في إبعاد الإنجيليِّين والكثير من الإسرائيليِّين، فقد فشل في إثارة إعجاب السادات. فقد أصيب الحاكم المصري بالهلع بسبب استعداد كارتر مرة أخرى لإخضاع عملية السلام لنزوات السوفييت والسوريِّين ومنظمة التحرير الفلسطينية، وبسبب معارضته الواضحة للي ذراع الإسرائيليِّين. وبدلًا من انتظار حدوث تغيير في سياسات واشنطن، فتح السادات قنواتِ اتصال سرية مباشرة مع بيجين. وأذيعت نتائج تلك المحادثات للعالم في ١٩ نوفمبر ١٩٧٧، عندما وصل السادات إلى مطار تل أبيب تحت ضوء المئات من عدسات التصوير ليصبح أولَ قائد عربي يزور الدولة اليهودية.

ولم يكن للولايات المتحدة تقريبًا أيُّ دور في هذا الحدث التاريخي، كما لم تكن شريكة في المحادثات التي تلته حول عقد معاهدة بين بيجين والسادات. ولكن المحادثات سرعان ما وصلت إلى طريقٍ مسدود، وتوصَّل الطرفان إلى أن أيَّ تقدُّم نحو السلام لا يمكن تحقيقه دون توسط أمريكا على أعلى مستوى. ومن ثَم أصبح كارتر أول رئيس أمريكي يشارك شخصيًّا في عملية التوسط في الشرق الأوسط منذ ترأس تيدي روزفلت مؤتمرَ الجزيرة الخضراء في عام ١٩٠٦، وأول مَن سمَّى نفسه «شريكًا كاملًا» مع العرب والإسرائيليِّين، سعيًا وراء إيجاد أساس مشترك.

كانت مهمة العثور على هذا الأساس شاقة للغاية. فقد طالب السادات بجلاء الإسرائيليين عن جميع الأراضي المحتلة، ومنْحِ الفلسطينيِّين حقَّ تقرير المصير. ولم يقبل بيجين مجرَّد سماع فكرة التخلي عن الضفة الغربية وغزة والجولان، وأصرَّ على احتفاظ إسرائيل بمواقعها في سيناء أيضًا. وقبِل كارتر الموقف المصري دون تحفُّظ تقريبًا وجدَّ في رفض موقف إسرائيل. وكان من أكثرِ ما أثار حنق كارتر هو المستوطنات الإسرائيلية التي كان عددها يتضاعف في الأراضي المحتلة. ويتذكَّر مستشار الأمن القومي زبجنيف برزيزنسكي قائلًا: «كنا جميعًا نشعر أن القائد المصري يخاطر لدفع عملية السلام في المنطقة، وأن بيجين يحاول إفساد تلك المحاولات.» ولكن بعيدًا عن الخلافات الخاصة بالسياسات، أوضح الرئيس وجودَ نفور شخصي من حدة بيجين وديموقراطية إسرائيل القاسية التي لا تتقيد بقوانين. وكان يفضِّل السادات بشخصيته الودودة، الذي كان غير مقيَّد في اتخاذ قراراته، والذي ينتخبه بانتظام أكثرُ من ٩٥٪ من مواطنيه؛ أي إنه نموذج آخر للبدوي النبيل الحر. وأضاف برزيزنسكي: «كان هناك بعض الإعجاب بالبطل القدوة» وهو يتذكَّر كيف أخبر كارتر السادات بأنه «على الأرجح أكثرُ رجل سياسة محبوب في الولايات المتحدة.»

وقد اتَّحد إخلاص كارتر للسلام من أجل السلام في حد ذاته، وليس وسيلةً للتقليل من شأن السوفييت، مع إعجابه بالسادات في كامب ديفيد في سبتمبر ١٩٧٨. فقد دعا قادة المصريِّين والإسرائيليِّين إلى المنتجع الرئاسي في محاولة أخيرة مكثفة للتوصل إلى حلٍّ وسطٍ بينهما. وهدَّد كارتر، وهو يقوم برحلات مكُّوكية بين المنزلين الصغيرين بدلًا من العاصمتين، بيجين بقطع المساعدات الأمريكية لإسرائيل، وتقرَّب للسادات بوعده بمزيد من الدعم. وقد أتى هذا المزيج من التحذير والسخاء بثماره، منتِجًا اتفاقيتين مرتبطتين تحملان معًا اسم «اتفاقيات كامب ديفيد». في الأولى الخاصة بتحقيق السلام بين إسرائيل ومصر، وافقت إسرائيل على الانسحاب الكامل من سيناء مقابل تطبيع العلاقات مع مصر، وهذا يشمل وضعَ حدٍّ للتحريض ضد إسرائيل في الصحافة المصرية. وقامت الولايات المتحدة بدور الضامن على الاتفاق عن طريق الاحتفاظ بمراقبين على الحدود المصرية الإسرائيلية، ومنْحِ مليارات الدولارات مساعداتٍ سنوية للبلدين. أما الاتفاقية الثانية فقدَّمت إطارًا للسلام بين إسرائيل والدول العربية الأخرى، وحلًّا للمشكلة الفلسطينية. واقتضت بأن تكون هناك فترة خمس سنوات من الحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة، تتبعها محادثاتٌ حول الوضع النهائي لتلك المناطق، وهو ما قد يؤدي في النهاية إلى إقامة دولة فلسطينية.

وأصبحت المصافحة الثلاثية التي اختتم بيجين والسادات وكارتر توقيعَ الاتفاقية بها على عشب البيت الأبيض في مارس ١٩٧٩ رمزًا لتفوق الولايات المتحدة في جهود تحقيق السلام في الشرق الأوسط وأقصى ما سيطمح الرؤساء اللاحقون إلى تحقيقه. وعلَّق كارتر قائلًا: «أصبحت اتفاقيتا كامب ديفيد الآن تقريبًا كالكتاب المقدس»، ولكن يبدو أنه كان وحدَه مَن يعتبرهما نصوصًا مقدسة. فقد وافقت إسرائيل على منح الحكم الذاتي للسكان الفلسطينيِّين المقيمين في تلك المناطق، ولكن ليس على الأرض، التي استمرت إسرائيل في زرعها بالمستوطنات. ولم يقُم المصريون قط بتطبيع العلاقات مع إسرائيل أو بإنهاء التحريض ضدها، وضد اليهود عامة، في الإعلام الحكومي. وفي غضون ذلك شجب معظم العالم العربي، بقيادة سوريا والعراق وليبيا، الاتفاقيةَ معتبرًا إياها خيانة، ومعلنين مقاطعتهم التامة لمصر. كما رفض عرفات خطةَ الحكم الذاتي، ودعا إلى اغتيال السادات. ولم يكن الإسلاميون المتطرفون، الذين كان نفوذهم يتزايد في سائر أنحاء الشرق الأوسط، أقلَّ قسوةً في التنديد بالاتفاقية. وأثناء مشاهدته عرضًا عسكريًّا في القاهرة في الذكرى الثامنة لحرب أكتوبر في عام ١٩٨١، أطلق مسلحون مصريون من جماعة الجهاد الإسلامي النارَ على السادات صائحين: «الموت للفرعون!» وهم يمزِّقون جسده بالرصاص.20

•••

جاء كارتر إلى الشرق الأوسط ملتزمًا بالمُثل المسيحية والأمريكية، ولكنه، باستثناء لحظة واحدة مبهرة على عشب البيت الأبيض، لم يستطِع تحقيق أيٍّ منها. بل ظلت المنطقة في دوامة من التوتر بين الدول العربية، وضغوط الحرب الباردة، والصِّدامات بين العرب والإسرائيليِّين، والمعارضة الأصولية المتزايدة للحكومات الاستبدادية المتقلقلة. وكانت الحالة المضطربة للشرق الأوسط في السبعينيات من الممكن أن تبدِّد أيَّ أوهام مستمرة عن المنطقة، ومنها بالتأكيد الهالة الجنسية التي كان الغربيون قد أحاطوها بها. ولكن الخرافة أثبتت مرةً أخرى أنها أكثر قدرةً على الاستمرار من الواقع، خاصةً بين كبار عمداء هوليوود صانعي الأساطير.

وقد عاد أحدُ أهم أحلام اليقظة تلك، وهو حُلم العربي الحر الذي يهرب مع فتاة غربية شقراء، ليشد انتباه الجماهير مرةً أخرى في عام ١٩٧٥. فكان فيلم «الريح والأسد» يفتخر بأنه قائم على قصة حقيقية، هي قصة اختطاف إيون بيرديكاريس على يد رئيس القبيلة البربري رايسولي قبل سبعين عامًا. ولكن مظهر رايسولي، الذي قام به الممثل الشديد الجاذبية دائمًا شون كونري، لم يكن يخدم الإثارةَ الدرامية، فبدت وكأنها تفر مع رجل أعمال في الرابعة والستين من العمر ممتلئ الجسم بدأ الصلع يشقُّ طريقَه إليه؛ لذا فقد حوَّل الفيلم إيون بيرديكاريس إلى إيدن بيرديكاريس، وهو الدور الذي أدَّته كانديس بيرجن ببراعة فائقة. واختلف الفيلم أيضًا عن التاريخ الواقعي عندما أظهر الرئيس تيدي روزفلت وهو يرسل مشاةَ البحرية الأمريكية إلى المغرب لإنقاذ بيرديكاريس، ولكن ليس قبل أن تبدأ قصةٌ رومانسية بينها وبين رايسولي الشجاع القوي.

كما كانت صورة الشرق الأوسط باعتباره عالمًا من الحياة الجنسية المبهمة التي لا تعرف حدودًا مصدرَ إلهام لواحدة من أشهر الأغنيات الأمريكية في السبعينيات، هي أغنية «منتصف الليل في الواحة» التي غنَّتها المطربة المثيرة ماريا ميلدور. وكان موضوع الأغنية هو نفسه موضوع فيلم «شيخ الجزيرة العربية» الذي عُرِض قبلها بخمسين عامًا، ولكن الاختلاف كان يكمُن فقط في أن الإغواء هذه المرة كان على يد امرأة. فكانت تقول بصوتٍ ناعم: «لن تحتاج إلى حريم يا حبيبي عندما أكون بجانبك. ولن تحتاج إلى جَمل عندما آخذك في رحلة.» ومع ذلك لم تستطِع صناعة السينما ألا تتأثر بالاضطرابات التي تهزُّ الشرق الأوسط. فالأمريكيون في السبعينيات، مثل أسلافهم قبل ذلك بمائتي عام، لم تكن تثيرهم الخيالات حول المنطقة فقط، بل كانوا يصابون بالذعر من تهديداتها. ففي الفيلم المثير «الأحد الأسود» (١٩٧٧)، ألقت هوليوود الضوءَ لأول مرة على موضوع الإرهاب الفلسطيني. ففي الفيلم يسعى خبيرُ قنابل اسمه محمد فصيل (الذي لعب دوره ممثل بوسني اسمه بيكيم فاهيمو) للانتقام من التحالف الإسرائيلي الأمريكي عن طريق تفجير مناطيد شركة جوديير فوق إحدى دورات مسابقة كرة القدم الأمريكية. ومع أن المخطَّط قد أُحبط في الدقيقة الأخيرة على يد عملاء إسرائيليِّين، فقد غَرست فكرةُ ارتكاب متطرفين من الشرق الأوسط مذابحَ جماعية على أرض أمريكية في خيال الجماهير.

تعايشت الصورتان المتناقضتان عن الشرق الأوسط، إحداهما رومانسية والأخرى واقعية بوحشية، مرةً أخرى جنبًا إلى جنب في العقل الأمريكي. ولكن كان هناك انقسامٌ جوهري في تفسير ثقافات الشرق الأوسط وسياساته يظهر في الجامعات. فقد كان هناك عالِمان بارزان يعرضان وجهتَي نظر متناقضتين عن المنطقة، إحداهما متطرفة ومتعاطفة بالشكل المعتاد، والأخرى تقليدية وانتقادية.

كان إدوارد سعيد، وهو مسيحي عربي نشأ في القاهرة والقدس، قد تلقى تعليمه الجامعي في جامعتَي برنستون وهارفارد قبل أن يصبح أستاذًا للغة الإنجليزية بجامعة كولومبيا. كان وسيمًا وفصيحًا ويتمتع بموهبة موسيقية، واشتهر بأنه ناقد أدبي ومدافع عن الحقوق الفلسطينية. وفي عام ١٩٧٨ ترك سعيد الأدبَ والسياسة ونشر كتاب «الاستشراق»، وهو هجوم على التفسيرات الأكاديمية التقليدية للشرق الأوسط. ويقول فيه إنه نظرًا «لأني لا أجد أيَّ فترة في التاريخ الأوروبي أو الأمريكي … كان يُنظر فيها … إلى الإسلام «خارجَ» إطارٍ شكَّلتْه العاطفةُ والتحيُّز والمصالح السياسية»، فقد اتهم الباحثين والأكاديميِّين الغربيِّين باختراع مكانٍ أسموه الشرق الأوسط، وهو عبارة عن «آخر» أدنى ثقافيًّا وعدواني سياسيًّا. وأكَّد سعيد أنه من خلال تشريح وتحليل هذه المنطقة سهَّل هؤلاء الخبراء على الغرب غزوَها.

تاريخيًّا، كان من الصعب مساندة نظرية سعيد، فلم يكن إدوارد سالزبوري، أولُ أستاذ للغة العربية في أمريكا في عام ١٨٤١ استعماريًّا، ومع ذلك فقد ساعد كتاب «الاستشراق» في كشف التحامل الذي طالما أفسد الكتابات الغربية عن الشرق الأوسط، كما ظهر في أعمال ميلفيل ومارك توين وإديث وارتون. كما جذب الكتاب أيضًا جيلًا من الأكاديميِّين الأمريكيِّين الذين، في ردِّ فعل على إخفاق أمريكا في فيتنام واستغلال الغرب للدول النامية، أصبحوا يتشككون في أخلاق حضارتهم. واتفقوا مع سعيد في أن حقل دراسات الشرق الأوسط لم يكن أكثرَ من ملحق للاستعمار، وأن العالم الحقيقي بشئون الشرق الأوسط هو مَن يظل «مرتبطًا ومتعاطفًا … مع العالم الإسلامي»، وهو من «يفهم … العرب جيدًا». أما أولئك الذين فشلوا في استيفاء تلك المعايير فكان يستبعدهم ويطلق عليهم «مستشرقين»، بدءًا ببرنارد لويس، أفضلِ مثال للمستشرقين.

هاجر لويس، الذي كان يهوديًّا وُلد في بريطانيا، إلى الولايات المتحدة، والتحق بكلية دراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون، حيث شغَل المنصب الذي سُمي على اسم كليفلاند دودج، رجلِ الخير ذي العقلية التبشيرية. وألَّف لويس عدة كتب عن التاريخ العثماني وظهور العالم العربي، لتصبح من أول المراجع عن شئون الشرق الأوسط في أمريكا. ولكن على عكس سعيد، الذي كان يعزو معظمَ عيوب الشرق الأوسط إلى الغرب، كان لويس المهذَّب الفصيح يتهم المنطقةَ بالتسبب في كلِّ ما أصابها من ضَعف واضطراب، ثم اتهام أوروبا وأمريكا بذلك. فكتب: «مقارنةً بالعالم المسيحي، منافسِه عبر القرون، فإن العالم الإسلامي أصبح فقيرًا وضعيفًا وجاهلًا.» وأكَّد لويس أن الولايات المتحدة لا تتحمل أيَّ مسئولية عن هذه الإخفاقات، مع أنه باستطاعتها المساعدةُ في إصلاحها عن طريق إحلال جمهوريات على النمط الأمريكي محلَّ ديكتاتوريات الشرق الأوسط.

كانت هذه الادعاءات، في نظر سعيد، قمةَ الاحتقار الاستشراقي. واتَّهم لويس بافتراضِ «تأكيداتٍ سياسية جازمة في شكل جدل علمي» وبإخفاء هويَّته الحقيقية بأنه «مدافع ومروِّج تحت مظلة الاحترام الأكاديمي». وحقيقة أن لويس كان صريحًا في دعمه لإسرائيل، التي اعتبرها سعيد مثالًا على الاستعمار الغربي، أضعفَت الثقةَ في آرائه كثرًا. وردَّ لويس بوصف كتاب «الاستشراق» بأنه مأساةٌ «تتناول مشكلة حقيقية … وتهبط بها إلى مستوى الجدل السياسي والإساءة الشخصية.»21

ونشِب جدالٌ في الجامعات الأمريكية حول الأساليب المختلفة للنظر إلى الشرق الأوسط، ثم انتشر منها إلى المجتمع الأمريكي بأكمله. وكان أحد الآراء يقول إن إنشاء العيادات والجامعات وتفسير الأساطير كانت فقط مؤشراتٍ للغزو، وأنه، كي يخلِّص الأمريكيون أنفسهم من هذه الشرور، عليهم أن ينأوا بأنفسهم عن ميراث الاستعمار الأوروبي والإسرائيلي، وأن يمتنعوا عن أي استعراض للقوة. ولكن رأت مدرسة أخرى أن الأمريكيِّين قد أثرَوا المنطقة برؤيتهم ومعتقداتهم، ويمكنهم تعزيزُ ذلك أكثر بقوَّتهم، عن طريق تحرير الشرق الأوسط من الحكم الاستبدادي.

حاول جيمي كارتر أن يتخذ طريقًا وسطًا بين الطريقين المختلفين. فعبَّر عن تعاطفه مع شعوب الشرق الأوسط وتجنَّب استخدام القوة. ولكنه أصر على أن المبادئ الأمريكية يمكنها إصلاحُ الكثير من عيوب المنطقة، في حين يمكن للقوة الأمريكية، الدبلوماسية والمالية، حلُّ معظم صراعاتها المتعذَّر الوصول إلى حلٍّ لها. ولكن منهجه لم يأتِ إلا بنجاح مؤقت في التوسط بين العرب والإسرائيليين، وفشل تمامًا في جميع المواقف الأخرى. ولم يظهر مدى هذا الفشلِ بوضوح كما ظهر في إيران.

•••

رغم تعهداته بالعمل على نشرِ الحرية والديموقراطية في جميع أنحاء العالم تغاضى كارتر عن انتهاكاتِ حقوق الإنسان المنتشرة التي ترتكبها بعضُ دول الشرق الأوسط الصديقة مثل مصر والسعودية. وعلى أي حال، فلا توجد الكثير من الحكومات التي كانت تمارس هذا القدْر من القهر على شعبها باستمرار وعلى هذه العلاقة القوية بالولايات المتحدة مثلما كانت إيران. فبعد أن أعاده الانقلاب الذي نظَّمته وكالة الاستخبارات المركزية ضد مصدق عام ١٩٥٣ إلى عرشه، أثبَت الشاه أنه معادٍ شرس للسوفييت، لكنه كان أيضًا لا يعرف الرحمة مع أي إيراني يَعُدُّه غيرَ مخلص. وكان جهاز استخباراته «سافاك» يعذِّب ويصفِّي الآلاف. ومع ذلك استمرَّت إدارة كارتر في اتباع سياسة الإدارات السابقة بدعم ومساندة الشاه سياسيًّا، وزيادة رفاهية حياته المترفة، وإمداده بأحدث الأسلحة. وفي احتفال في طهران في يوم ٣١ ديسمبر ١٩٧٧، شرب كارتر نَخب إيران «جزيرةً للاستقرار» في الشرق الأوسط، ومدح قائدها على حكمته وحساسيته وبصيرته.

وظلَّت مساندة كارتر للشاه قويةً طوال عام ١٩٧٨، حتى عندما نشِبت ثورة شعبية ضده. وأخيرًا في ١٦ يناير ١٩٧٩ اضطُر الشاه إلى الفرار من البلاد، وبعدها بأسبوعين عاد آية ﷲ روح ﷲ الخوميني، الإمام الشيعي المتجهِّم الوجه الذي حرَّض على الثورة من خارج البلاد، منتصرًا من منفاه إلى طهران. وأعلن: «علاقتنا بالولايات المتحدة هي علاقة المقهور بالطاغية، وعلاقة المنهوب بالناهب.» وكانت كلماته تبثُّ شعورًا أقربَ إلى النشوة بين مؤيديه الذين لا حصر لهم، والذين لم يبدُ أن أيًّا منهم يتذكَّر دورَ أمريكا في استقلال إيران بعد الحرب العالمية الثانية. فساروا في الشوارع يهتفون «الموت لناشري الفساد الثلاثة: السادات وكارتر وبيجين!» و«الموت لإبليس الأكبر!» إشارةً إلى الولايات المتحدة.

وعلى غرار الرؤساء السابقين، ذهل كارتر من ظهور زعيم شعبي في الشرق الأوسط، لا يُظهِر ودًّا للغرب، مع أنه لم يكن قط محبًّا للسوفييت. وزادت حَيرته بسبب رفض رجل متدين مثل الخوميني احترامَ حتى حقوق الإنسان الأساسية. فكتب: «من المستحيل تقريبًا التعامل مع رجل مجنون.» وعندما يئس الرئيس من فرص التفاوض مع الجمهورية الإسلامية المعلَنة حديثًا، سمح للشاه الذي أصيب بمرض السرطان بتلقي العلاج في الولايات المتحدة. وبدَت هذه لفتةً نبيلة لمعظم الأمريكيين، وأنها أقلُّ ما يمكن أن يفعله كارتر من أجل حليف مريض ومنفيٍّ، ولكن ثارت ثائرة الإيرانيِّين من استضافة الديكتاتور الهارب الذي كانوا يَعُدُّونه مجرمَ حرب.

وفي الرابع من نوفمبر ١٩٧٩، قفز مئات من الطلاب الإيرانيِّين فوق أسوار المجمع الذي يضم السفارة الأمريكية في طهران، صائحين «ﷲ أكبر» وملوِّحين بصور الخوميني. فاقتحموا مباني السفارة والسكن، وألقَوا القبض على ٦٦ أمريكيًّا؛ دبلوماسيِّين وموظفين إداريِّين وحراس من مشاة البحرية الأمريكية ومسئولين من وكالة الاستخبارات المركزية. وقد صاح بهم أحد الطلاب: «سنعلِّمكم مَن هو ﷲ. سنعلِّم وكالة الاستخبارات المركزية ألا تتدخل في بلادنا.» ومقابل تحرير المحتجزين طالب المختطفون بتسليم الشاه ونقل ممتلكاته في أمريكا إلى طهران. كما أصروا أيضًا على أن يعتذر الرئيس الأمريكي عن قائمة طويلة من الجرائم الأمريكية ضد الشعب الإيراني، بدءًا من الإطاحة بمصدق.

واجهت كارتر في أزمة الرهائن الإيرانية، كما أصبحت تُعرف، معضلةٌ لم تكن أقلَّ ترويعًا من التي أرَّقت توماس جيفرسون قبل ذلك بمائتي عام. فكان على الرئيس إما أن يحاول التوصل إلى حلٍّ عقلاني مع الحكومة التي تنتهج نهجَ القراصنة ويشتري حرية الرهائن، أو التخلي عن أي مفاوضات واللجوء للقتال. وباتباع نهج جيفرسون، حاول كارتر أولًا فتح قنوات اتصال خلفية مع الحكومة العدوانية في الشرق الأوسط. واعترف بأن «شعب الولايات المتحدة يرغب في إقامة علاقات مع إيران قائمة على المساواة والاحترام المتبادل والصداقة»، ووافق على تكوين لجنة من الأمم المتحدة للتحقيق في الظلم الأمريكي لإيران. ولكن الخوميني رفض هذه المبادرات، متفاخرًا بكيف «قلَّلت الثورة الإيرانية من الهيمنة السياسية والاقتصادية والاستراتيجية لأمريكا في المنطقة.» وبعد أن سئم الرئيس من هذا الإيمان الفاسد، قرَّر أخيرًا اللجوء إلى القوة. فقطع علاقاته بطهران، وجمَّد أرصدتها في أمريكا، ومنع استيراد النفط الإيراني. ولكن فشلت اقتراحاته بفرض مقاطعة على نطاقٍ أكبرَ على إيران في كسب تأييد دولي، حتى من الأوروبيِّين.

في غضون ذلك، ظل الرهائن الأمريكيون في أيدي الإيرانيِّين، محتجزين في أجواء بدائية، حيث كانوا كثيرًا ما يستجوبونهم، وأحيانًا يتعرضون للتهديد بالإعدام. وبدا أن القوة وحدَها ستعيد إليهم حريتهم. درس كارتر عدةَ خيارات، بدءًا بتدمير مصافي النفط وتفجير الموانئ الإيرانية إلى إلقاء قنبلة نووية على طهران. وقرَّر في النهاية تنفيذَ عملية إنقاذ لم تكن أقلَّ جرأة من تلك التي قام بها ويليام إيتون عبر الصحراء ضد طرابلس في عام ١٨٠٥. وكانت الخطة تقضي بنقل مجموعة من رجال العمليات الخاصة الأمريكيِّين المدرَّبين على متن طائرات هليكوبتر إلى طهران، والاستيلاء على مجمع السفارة الأمريكية، ثم الفرار بالرهائن المحرَّرين.

وبدأ تدريب مكثَّف للبعثة فورًا واستمر عدة أشهر ظلَّت خلالها مكانة أمريكا في الشرق الأوسط في التدهور. وشهدت الأسابيع الأخيرة من عام ١٩٧٩ ظهورَ حركة وهابية متطرفة في المملكة السعودية، قُتِل خلالها المئات في محاولة للاستيلاء على المسجد الحرام في مكة. وفي العراق استولى صدَّام حسين، الديكتاتور العنيد الذي يدعمه السوفييت، على السلطة في انقلاب دموي، وبدأ في تصفية منافسيه. ولكن كان أسوأ الأمور على الإدارة الأمريكية هو الغزو السوفييتي لأفغانستان. إذ كان وجود حشود من الجنود والدبابات السوفييتية على طول حدود الشرق الأوسط قد أحيا كابوس ترومان باستيلاء الجيش الأحمر على الظهران وغيرها من المناطق الغنية بالنفط. وقد واجه كارتر الكونجرس قائلًا إن: «أي محاولة من قِبل قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج العربي سيُنظر إليها على أنها هجوم على المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية»، محذرًا من أن مثل هذه المحاولات سيتم «صدُّها بأي وسيلة ممكنة، ومنها القوة العسكرية.» ومرة أخرى يعلن رئيس أمريكي مذهبًا للتعامل مع الشرق الأوسط، ولكن تأثيره على الأحداث أصبح في الإمكان تجاهله الآن. واستمرت كماشة من القوى الموالية للسوفييت والقوى الإسلامية المتطرفة في محاصرة مصالح أمريكا في المنطقة، في حين استمرت معاناة الرهائن الأمريكيِّين في الأسر.

وكان الأمل الوحيد في تحسين هذا الموقف هو عملية مخلب النسر، وهي هجوم لإطلاق سراح الرهائن الأمريكيِّين، التي نُفذت ليلة ٢٤ أبريل ١٩٨٠. وبعد هبوطها في الصحراء الإيرانية، استعدَّت قوات دلتا ورجال العمليات الخاصة لملء خزانات وقود طائرات الهليكوبتر من طراز سي ستاليون للتحليق إلى طهران. ولكن عاصفة رملية مفاجئة دمَّرت طائرتين واصطدمت ثالثة بطائرة بضائع من طراز سي - ١٣٠، محدِثة كرة من اللَّهب التهمت الطائرتين. وترك الأمريكيون وراءهم سبع طائرات هليكوبتر، بعضها يحتوي وثائق سرية للغاية، بالإضافة إلى الجثث المحترقة لثمانية من الجنود الأمريكيِّين.22 وعرضت السلطات الإيرانية بعضَ الجثث في مؤتمر صحفي، وهو ما يذكِّرنا مرة أخرى بحروب البربر، عندما عرض باشا طرابلس بقايا جثث البحَّارة الأمريكيِّين الذين قُتلوا في انفجار «إنتربيد». حفَّزت تلك الوحشية جيفرسون على بدء فترة رئاسته الثانية عاقدًا العزم على هزيمة القراصنة بمساعدة ستيفن ديكاتور وغيره من المحاربين الأشداء. ولكن لم يكن لدى جيمي كارتر أي ديكاتور، ولم تكن هناك أيضًا فترة رئاسة ثانية.

فقد حجب الغبار الذي أثارته طائرات الهليكوبتر الأمريكية وهي تفرُّ من إيران والدبابات السوفييتية وهي تُخضِع أفغانستان ضوءَ إسهامات كارتر في تحقيق السلام العربي الإسرائيلي. وأصبح الناخبون في انتخابات عام ١٩٨٠ الرئاسية أقلَّ تأثرًا بسياساته النابعة من الإيمان من مخاطر إظهار الضَّعف في الشرق الأوسط. ومن المناسب أن آخرَ ما قام به كارتر في منصبه هو التفاوض لوضع نهاية لأزمة الرهائن. ولم يَعُد أسلوبه يذكِّر الأمريكيِّين بجيفرسون، بل بجون آدامز. عرض كارتر عبر الجزائر، دولة القراصنة سابقًا، بصفتها وسيطًا دفْعَ المقابل الحديث للجزية عن طريق فكِّ تجميد الأرصدة الإيرانية في الولايات المتحدة، وتأمين إيران من أي قضايا قد يرفعها الرهائن في المستقبل. ورضي الإيرانيون بذلك مؤقتًا، وأنهَوا احتجازهم للرهائن الذي دام ٤٤٤ يومًا، وهو أقل من فترة سجن القبطان بينبريدج وطاقم السفينة «فيلادلفيا» في طرابلس بمائة يوم، وإن لم يكن أقلَّ إيلامًا للأمريكيِّين.

•••

مثَّلت نهاية أزمة الرهائن انتهاءَ فصل من علاقة أمريكا بعد الحرب بالشرق الأوسط. وعلى مدار الثلاثين عامًا السابقة، تصارعت الولايات المتحدة مع تهديدين متزامنين، هما العدوان السوفييتي واشتعال الحركات الوطنية في المنطقة، وهي تشقُّ طريقها بصورة خطرة بين الاثنين. وسعَت إدارات متعاقبة إلى وضع أمريكا في صورةِ أكبرِ معادٍ للاستعمار، وفي بعض الأحيان وقفت في صف قادة محليِّين وطنيِّين في صراعهم مع بريطانيا وفرنسا. ولكنَّ كثيرًا من الناس في الشرق الأوسط كانوا لا يرون فارقًا كبيرًا بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة التي، في نظرهم، قد فاقت أوروبا في كونها أكبرَ قوة استعمارية. وكان دعم أمريكا للدولة اليهودية قد زاد من الهوة بين العرب وأمريكا، خاصة بعد حرب ١٩٦٧، عندما توقَّفت الولايات المتحدة عن النظر لإسرائيل على أنها عبء في الحرب الباردة، وبدأت تنظر إليها على أنها مصدر قوة لها. وكانت محاولات كل الرؤساء، بدءًا بترومان، لحل الصراع العربي الإسرائيلي قد أدَّت إلى تشويه صورة أمريكا في المنطقة، بدلًا من صقلها.

ومع ذلك ثابر واضعو السياسات في واشنطن على مجهوداتهم لإحلال السلام على مدار الفترة بعد عام ١٩٨٠، ومستمرين أيضًا في مساندة إسرائيل التي تكون متمردةً وعنيدة في كثير من الأحيان. وكانت الولايات المتحدة لا تزال تسعى لتحقيق توازن بين الحفاظ على هيمنتها في الشرق الأوسط وبين الحفاظ على قيَمها الأساسية. ولكن طبيعة التهديد للمصالح الأمريكية كان يتغيَّر. إذ لم ينجح الديكتاتوريون على نمط حزب البعث ولا الملوك التقليديون في انتشال شعوب المنطقة من حالة الضَّعف السياسي والاقتصادي. بل على العكس، كانت مظاهر التخلف والقهر وعدم الكفاءة العسكرية قد تضاعفت تحت حكم الأنظمة المتطرِّفة أو المحافظة. ولكن نهضت الآن حركةُ بعثٍ لتستغل الاستياء الذي ولَّده ثلاثمائة سنة من إذلال المسلمين على يد الغرب، ومن المعاناة التي سبَّبتها الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط، والصفاقة التي تسبَّبت فيها الحداثة المنحلة غير اللائقة. وبدءًا من عام ١٩٧٩ حلَّ التطرف الإسلامي محلَّ الاشتراكية الوطنية والملكية المحافظة ليكون أكثرَ قوى الشرق الأوسط السياسية حركةً وتأثيرًا، وليمثل أيضًا أكبر تحدٍّ للتفوق الأمريكي في المنطقة. وفي تلك الأثناء استمر ائتلاف الحرب الباردة مع أوروبا في التفكك، تاركًا الولايات المتحدة دون مساعدة في مواجهة هذا العدوِّ الجديد العنيد. وبعد مائتي عام من المحاضرة التي ألقاها مبعوثُ طرابلس عبد الرحمن على جيفرسون وآدامز حول فرض الإسلام محاربةَ «كل الأمم التي لا تعترف بسلطة المسلمين» كانت أمريكا ستخوض معركةً وحدَها مع المجاهدين مرةً أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤