الفصل السادس

المصير الحتمي للشرق الأوسط

الجرأة التي أظهرها المبشِّرون عند تحدي بورتر كانت دليلًا على ظهور تحالف جديد بين قادة الكنيسة ومتَّخذي القرار في الولايات المتحدة. فحركةُ التبشير كانت قد نمَت بصورة واضحة منذ أوائل العشرينيات من القرن التاسع عشر، عندما فشل أوائل مبعوثيها إلى الشرق الأوسط، ليفي بارسونز وبليني فيسك، في جذبِ متحولين إلى ديانتهم، ثم ماتا مِيتةً مؤلمة. وحتى الإنجازات المتواضعة لخلفاء فيسك، إسحاق بيرد وويليام جوديل وإيلي سميث، فيما يخصُّ تأسيس مدارس في سوريا كان من الصعب إرجاعها إلى قدرة المبشِّرين فقط، حيث لم يكن لها أي تأثير على السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. فالطريقة التي أُرسل بواسطتها مجموعاتٌ صغيرة من الرجال والنساء آلافَ الأميال تتخلَّلها مناطقُ وطُرق وعرة، هي التي أدَّت إلى نجاح تحويل علاقة بلادهم مع المنطقة بأكملها، وكذلك تغيير المنطقة ذاتها. ويُعتبر هذا الوضع قصةً مثيرة بحق. إنها ملحمة مملوءة بالمشقة والدماء.

قواعد انطلاق الشمس والصليب

في بداية عام ١٨٢٧ كان المبشِّرون قد نجحوا عن طريق مدارسهم في ترسيخ مركزهم في سوريا، ولكن الهدف النهائي لتحويل فلسطين إلى البروتستانتية كان لا يزال بعيدَ المنال. وفي تلك السنة قرَّر المجلس الأمريكي والجمعية النسائية للترويج للمسيحية ببوسطن أن يرسلا بعثةً أخرى إلى القدس، يترأسها قسٌّ في الثلاثين من عمره من بركيشايرز اسمه جوسيا برور. وقد قال عنه أحد أساتذته: «يتميز بهدوء الطبع والتواضع والقدرة على إصدار أحكام جيدة، وورعٌ وتقي لا تشوبه شائبة.» كُلِّف برور إذن باستكمال مهمة بارسونز وفيسك، اللذين فشلا في تأسيس قاعدة دائمة في المدينة المقدَّسة، وأيضًا في البدء بتجميع اليهود معًا. «كانت أمهاتنا المهاجرات سيفرحن كثيرًا … إذا عرفن أن … بناتهن سيعاودن إرسالَ الإنجيل إلى القدس!» هذا ما أعلنه برور وهو يرحل من ماساتشوستس؛ فقد كان واثقًا بقدرته على استبدال «العلم الأبيض رمز السلام بالعلم العثماني الأحمر الدموي» على جدران القدس.

ولكنَّ السلام كان آخر شيء اكتشفه برور في فلسطين؛ فقد وصل إلى تلك البلاد بعد الهزيمة العثمانية المدوِّية في نافارينو عام ١٨٢٧، وكانت الهزيمة إيذانًا ببدء تفكُّك الدولة. وكانت الغالبية العظمى من الفلسطينيِّين المسلمين في ذلك الوقت لا يزالون ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم رعايا للدولة العثمانية، ويدينون بالولاء لها، وكانوا لا يزالون يعتبرون كلَّ الغربيِّين، سواء الأمريكيون أو الأوروبيون، من «الفرنجة» الذين يهدِّدون الدولة الإسلامية. وباءت جميع محاولات برور بالفشل لإقناع السكان المحليين بأن البحرية الأمريكية لم تَعُد حتى موجودة بنافارينو، وبأن الولايات المتحدة تحترم السيادة العثمانية. ولم تقنعهم مظاهرُ الود والنيات الحسنة نحو الثقافة الإسلامية التي أظهرها برور أثناء توزيع نسخ من العهد الجديد. وبعد طرده من قريتين في منطقة طبرية، وبعد أن ملأ القُمل جسدَه وأصابت العلل جسده، بتَر برور مهمَّته. وعاد إلى بوسطن محاطًا بالخزي والعار والفشل.1

ومع ذلك فقد ظلَّ الأمل يراود المجلسَ الأمريكي في أن تُؤسَّس محطة أو قاعدة في القدس. وأشار كبار السن في المجلس إلى تحسُّن الأحوال في البلاد المقدَّسة منذ عام ١٨٣١، وهي السنة التي أرسل فيها محمد علي — مدفوعًا بغضبه بسبب رفض الدولة العثمانية تعويضَه عن خسائره في نافارينو — جنودًا مصريِّين لغزو سوريا وفلسطين. ومُنح المصريون — أصحاب الحداثة — مزايا غير مسبوقة للملل غير المسلمة في المنطقة، واستغلالًا منه لذلك الموقف الأفضل نسبيًّا، وافق المجلس على إرسال بعثة أخرى إلى فلسطين. واختير لقيادتها هذه المرة ويليام وإليزا تومسون، وهما زوجان شابان تقابلا في جامعة برينستون، بمدينة نيوجيرسي، حيث كان هو يدرُس الإنجيل وكانت هي تقوم بتدريسه. تزوَّج الاثنان عام ١٨٣٣ وتطوَّعا من فورهما مبشِّرَين.

لم يرحِّب جميع سكان فلسطين بإصلاحات محمد علي. فالأغلبية المسلمة عارضت الحقوق المساوية للمسلمين التي منحتها مصر للمسيحيِّين واليهود المحليين، وعارضت الانفتاحَ الذي أظهرته مصر تجاه الأجانب. وتصاعد الغضب ضد المحتلين، وبعد محاولات لفرض الضرائب على الفلاحين المسلمين وتجنيدهم إجباريًّا في الجيش المصري، تحوَّل هذا الغضب إلى ثورة عارمة. ووصلت المجازر وحمَّامات الدم إلى قمتها في فلسطين عام ١٨٣٤، وتزامن ذلك مع وصول آل تومسون إلى القدس.

كانت إليزا عندئذٍ حاملًا في شهرها التاسع وغير قادرة على الهروب من المدينة. ولم يكن أمام ويليام تومسون من خيار سوى تركها بالمدينة ومحاولة العثور على أي مساعدة في يافا. وانتابه القلق وهو يسمع شائعات عن أعمال العنف بالمدينة قائلًا: «لم أسمع حرفًا واحدًا عن مسز تومسون منذ غادرت القدس.» كانت إليزا قد حبست نفسَها في المنزل، وقد أصابها الرعب من «زئير المدافع وتهدُّم الجدران وصرخات الجيران ورعب الخدَم والتوقُّع المستمر للمجازر». ومع ذلك، فقد أنجبت صبيًّا أسمته توماس. وعاد الأب في ٢٢ من يوليو، متتبعًا قافلةَ إمدادات مصرية، ليجد القدس أطلالًا وزوجتَه مريضة للغاية. ثم وافتها المنية بعد ذلك بأسبوعين.

وكتب تومسون في وصف فلسطين: «بلد مهدَّمة وبقايا بشَر. أما نهر الأردن فلا يستحقُّ حتى تسميته بنهر في أمريكا.» ولكن شكاواه لم تقلِّل من همَّة المبشِّرين الآخرين ومحاولتهم العملَ في القدس. فوصل جورج وايتنج وبيتسي تيلدن بعد فترة قليلة من وفاة إليزا تومسون، لكن لم يستطِع أيٌّ منهما تحمُّل المشقة وشظف العيش فيها. وتكشَّفت فلسطين الساحرة الواردة في الإنجيل عن «بلد للشياطين، ملعونة وغير مباركة» في رأي المبشِّر الرائد إسحاق بيرد. وبنهاية عام ١٨٣٤، اضطُر المجلس الأمريكي إلى الاعتراف بأنه لم يمكن «تحويل روح واحدة من الضلال إلى الهداية وطريق الرب». ثم قرَّر وقفَ أي رحلات تبشيرية إلى فلسطين. ومن هنا تحوَّل اهتمام المبشِّرين إلى موقعٍ آخر في الشرق الأوسط، ألا وهو على وجه الخصوص المنطقة التي تحيط بجبل لبنان.2

استمرَّت عائلتا بيرد وجوديل في التوسُّع في مدارسهما وبناء مدارس جديدة في بيروت وما حولها، ولكن الأحوال في المدينة بدأت في التدهور بعد الغزو المصري عام ١٨٣١. ونشِبت معاركُ بين الموارنة المساندين للمصريِّين والدروز الذين استمروا على ولائهم للباب العالي، مما نتج عنه تبادُل للنيران وصل إلى حدِّ خوف الأمريكيِّين من الخروج من منازلهم أو حتى الجلوس بقرب النوافذ. واستغل الموارنة أيضًا تلك الفوضى لزيادة لعناتهم ضد البروتستانتية وإظهار معارضتهم للمدارس البروتستانتية. واعترض ويليام جوديل قائلًا: «يُظهِر الأتراك … سماتٍ شخصية أفضلَ بكثير من المسيحيين. ففكرة التصرُّف بشرف تبدو بعيدة للغاية عن قلوب المسيحيين.» كان المبشِّرون منعزلين ومهدَّدين؛ لذلك انتهوا إلى خلاصة أنه لا يمكنهم البقاءُ في لبنان. وبدءًا بعائلة بيرد جرى ترحيلهم على سفينة نمساوية، حتى تمكَّنت المجموعة كلُّها من الهرب.

أصبح الأمريكيون لا يحتملون الوضعَ في سوريا وفلسطين، ولكن في سميرنا، التي كانت مدينةً ذات أغلبية مسيحية، ومدخل المبشِّرين إلى الشرق الأوسط، كان الوضع أيضًا قد أصبح عدائيًّا. وكانت المحاولة الأولى لتأسيس قاعدة دائمة في سميرنا على يد متسلق الجبال الهاوي إلناثان جريدلي عام ١٨٢٦ قد فشلت بعد أن ذهب هذا القس الشاب لتسلُّق الجبال فأصيب بداء الرئة ومات. أما بديل جريدلي فكان دانيال تمبل، الذي ظهر في وصفِ أحدِ كتَّاب السيرة أنه كان «سوداويًّا غامضًا ومتعجرفًا»، وتقليديًّا محافظًا عنيدًا. لقد تسلَّق السلَّم من أوله من الفقر في الريف إلى الحصول على منحٍ في جامعات دارتموث وأندوفر. ولكن لا شيء في نيو إنجلاند كان قد أعدَّ تمبل للشرق الأوسط، حيث لقيت زوجته حتفها مسمومة هي واثنان من أطفالهما الأربعة. وعاد المبشِّر محطَّمًا إلى أمريكا، مع ابنيه الناجيَين، فكتب يقول: «مجرد فكرة تعليمهم في هذا الجزء المقفِر المحروم من العالم يثير أعصابي ويصيبني بالتوتر.»

ومع ذلك تمكَّن تمبل من التغلُّب على نفوره من الشرق الأوسط، وفي عام ١٨٣٣ أبحر مرةً أخرى إلى سميرنا، هذه المرة مع زوجته الجديدة ومعهما مطبعة. وسرعان ما كانت أناجيله وكتبه تدرَّس في مدرسة للبنات المسيحيات التي قام جوشوا برور بتأسيسها، وهو نفس الشخص الذي تراجع عن فلسطين قبل ذلك بخمس سنوات، وكانت تقوم على رعاية المدرسة في ذلك الحين جمعيةُ سيدات ميسوري في نيو هيفين. وتساءل برور: «إن لم يفتح السيفُ بابًا … أمام مبشِّر مسيحي في بلد مسلم، ألا يمكننا أن نأمُل أن يقوم بذلك التطوُّر التدريجي للحضارة؟» وقد وضحت الإجابةُ بحلول عام ١٨٣٨، وعندئذٍ كانت أكثر من مائتي فتاة قد سُجِّلن في المدرسة.3

ظل نجاح المبشِّرين في سميرنا استثنائيًّا، وظل انعدام الحد الأدنى من الأمان يقف عائقًا أمام مجهودات التبشير في أي بلد من بلاد العثمانيِّين الأخرى. لذلك وضع المجلس الأمريكي عينَه على منطقةِ ما وراء حدود الإمبراطورية، وهي منطقة بحيرة يورميا شمال غرب إيران، وعلى مجتمع المسيحيِّين السُّريان الذين كانت الشائعات تقول إنهم يعيشون هناك. ووقعت مهمةُ الوصول إلى تلك المجموعة الغامضة على عاتق هاريسون جراي أوتيس دوايت، وكان خريجًا حديثًا في جامعة أندوفر، كما وقعت أيضًا على عاتق المبشِّر اللبناني الخبير إيلي سميث. فتقابل الرجلان في سميرنا في مايو ١٨٣٠، متخفِّيَين في عمامات وعباءات، وحدَّدا هدفًا لهما أن يصبحا «أول أمريكيَّين يَطآن أرضَ أرمينيا».

ولكن كان أمامهما طريق مملوء بالمصاعب والمشاق، توجَّها شرقًا نحو إرزوروم. وسارا ثلاثة أسابيع عبْر أراضٍ لا تصلها المياه، دون رؤية أي قرية. واشتكى سميث العالِم الضعيف البنية من اضطراره إلى النوم في حظائر الحيوانات، «محاطًا بكل أنواع القاذورات»، ومن اضطراره أيضًا إلى الاستيقاظ وهو يعاني حرارةً مرتفعة وعيناه كليلتان. ثم أصيب بمرض الكوليرا على أبواب مدينة تيفليس، ولم يَعُد يستطيع السيرَ، واضطُر دوايت إلى ربطه في عربةٍ يجرها حمار. وأخيرًا وصل الأمريكيان إلى هدفهما ودخلا أرميا منهكَين في مارس.

بدَت المدينة في البداية، مقارنةً ببيروت والقدس غير المستقرتين، وكأنها جنةُ عدن. فتحْت حكمِ أسرة قاجار المنفتحة نسبيًّا كانت فارس تعيش فترةً من الاستقرار الداخلي متحرِّرة من تدخلات القوى العظمى، مثل روسيا وبريطانيا. في أرميا وجد المبشِّران أن الحكومة لا تتدخل في العظات التي يلقيانها، وأن دِين السُّريان القائم على الإنجيل لا يختلف كثيرًا عن معتقداتهم. وعبَّر سميث عن سعادته قائلًا: «شعرت برغبة أكبر في الاستقرار بينهم فورًا … أكثر من أي شعب آخر رأيته من قبل.»

بعد استقرارهما، أسَّس الأمريكيان مدرسةً، سرعان ما كان أربعون طالبًا يتلقَّون فيها دروسًا في الرياضيات والإنشاء باللغة الإنجليزية والترانيم. ووصل مبشِّرون جدد لدعم المحطة أو القاعدة الدائمة؛ جاستين وشارلوت بيركنز عام ١٨٣٢، وبعدها بثلاث سنوات وصل أساهيل وجوديث جرانت. وكان أساهيل في الثامنة والعشرين من عمره، من يوتيكا، نيويورك، داكنَ البشرة، متوسِّط الطول، وذا طاقة غير تقليدية، «كانت عيناه تلمعان، وكان تعامله لطيفًا مملوءًا بالحماسة». وكان أيضًا طبيبًا ابتدع تقليدًا للمبشِّرين، وهو تقديمُ رعاية طبية مجانية لشعوب الشرق الأوسط. في عامه الأول في أرميا، عالج جرانت عشرة آلاف مريض. وكان يتذكَّر بفخرٍ أن «المرضى والمشلولين والمكفوفين كانوا يتجمعون بالمئات، وسرعان ما انتشر صيتي إلى الخارج في البلاد المجاورة».

لم يُتِح صبرُ جرانت له علاج المرضى فحسب، بل أتاح له أيضًا فرصةَ استكشاف الأماكن المقفِرة في الجنوب وحتى كردستان، مواجهًا العصابات، بحثًا عن مزيد من السُّريان. وعندما عاد إلى الولايات المتحدة عام ١٨٤٠، أكَّد الطبيب للمجلس أن قاعدة أرميا تزدهر، وأنه يجب إرسال بعثة جديدة إلى ما يُطلَق عليه اليوم العراق. فوافق المجلس وأرسل كولبي ميتشيل وآيبل هندزديل مع زوجتيهما إلى الموصل.4

كان البروتستانت الأمريكيون قد سجَّلوا أولَ انتصار لهم في الشرق الأوسط بلا منازع، ولكن بعدها بدأت عدةُ كوارث معًا؛ أصابت حمَّى التيفويد آل ميتشيل بالاضطراب وشبه العمى، وكان ذلك بعد تعرُّضهم لعاصفة رملية. ومع أنَّ آل هندزديل تمكَّنوا من الوصول إلى الموصل، فإنهم كانوا غيرَ قادرين على القيام بأي نشاط بسبب سوء حالتهم. وبسبب الأمراض أيضًا توفِّيت إليزابيث دوايت وابنها جون وأطفال آل بيركنز الخمسة، وكانت شارلوت بيركنز تشكو الصرعَ، فعادت إلى الولايات المتحدة. أما سارة سميث، زوجة إيلي، فلقيت حتفَها في حادثة غرق سفينة قرب قبرص، وتوفيت زوجته الثانية، ماري وارد تشابين، بالدوسنتاريا.

واعترف إيلي سميث بكثير، وهو لا يشير إلى أرميا فقط، بل إلى الشرق الأوسط بأكمله فقال: «يُعَدُّ تدهور الصحة وقِصر الحياة من التضحيات الضرورية للعمل في مجال التبشير.» وكانت النساء — اللاتي ضعُفت صحتهن بشدة بعد ولادة الأطفال — يتعرضن أكثرَ من غيرهن لمشكلات صحية وللوفاة. فكتبت ماري فان لينيب، التي كانت قد غادرت هارتفورد، كونيتيكت عام ١٨٤٣ لتذهب إلى الأناضول: «أخشى أحيانًا أن يكون المرض عقابًا من ﷲ بسبب عدم شكري للبركة التي منحها لي. وأحاول أن أصلي لكي أكون أكثرَ استعدادًا للمعاناة.» وكان المبشِّرون عرضةً لهجوم العصابات، ولم تكن الحكومة العثمانية تقدِّم لهم سوى حماية ضعيفة للغاية لا يُعتدُّ بها. وقال ويليام جوديل هازئًا تعليقًا على ذلك: «دائمًا ما تكون قبَّعة المرء أكثرَ أمانًا في الولايات المتحدة من رأسه بأكملها في تركيا.» ولكن ظل المرض هو أكثر القتلة كفاءةً، ومسئولًا عن معدَّل وفيات المبشِّرين الأمريكيِّين في الشرق الأوسط بصورة تعدَّت بكثير معدلات وفيات المستعمرين على الجانب الغربي. وكان ثلث المبشِّرين الذين غادروا الولايات المتحدة متجهين للشرق الأوسط بين عامي ١٨٢١ و١٨٤٦ قد توفُّوا أثناء خدمتهم. وتوفِّي معظمهم بعد وصولهم بفترة قصيرة. وكان يقال للمبشِّرين الشباب المغادرين: «تقترب ساعةُ الموت عندما تغادرون سواحل بلادكم، مع احتمال ألا تروها مرة أخرى أبدًا.» أما ماري فان لينيب فقد توفيت في السنة الأولى من وصولها.

إنَّ ما بدا رؤيةً براقة لقواعدَ دائمة تحت شمس الشرق الأوسط أصبح لا نتيجة له سوى المعاناة والموت، وبذلك تحوَّلت المحطات إلى قواعدَ تبشيرية. وحتى أساهيل جرانت لم ينجُ من هذا المصير. ففي فترة قصيرة فقدَ هذا الطبيب زوجته واثنين من أبنائه الثلاثة. لكنه تمكَّن مع ذلك من الاحتفاظ بإيمانه ومن تأسيسِ بعثةٍ قُرب الموصل، لكن تلك البعثة أيضًا كان مصيرها الدمار. ففي أواخر ربيع عام ١٨٤٣ هاجم الأتراكُ والأكرادُ المواطنين السُّريان هناك، وقتلوا منهم ثمانمائة وشرَّدوا الآلاف. واعترض جرانت على اتهام المبشِّرين بأنهم هم مَن أثاروا هذه المذبحة وبدءوها، عن طريق تشجيع المجتمع إلى السعي وراء الاستقلال عن حكم المسلمين. وأعلن جرانت، وهو يجاهد من أجل تهدئة السُّريان، وربما نفسه أيضًا: «ليكن لنا عزاءً أننا كنَّا عاملًا محددًا ومؤثرًا — إلى حدٍّ ما — في إثارة الاهتمام بالصلاة ومغزاها.»

ولكن كيف تمكَّن المبشِّرون — في وجه كل تلك المتاعب والهزائم — من التمتُّع بهذا التأثير في الولايات المتحدة، وإلى حدٍّ بعيد، من تحديد سياسات بلادهم عبْر البحار؟ وما العوامل التي مكَّنت الأمريكيِّين من التعافي من هزائمهم المؤلمة، وإعادة تنظيم صفوفهم، وإعادة بناء كلِّ ما دُمِّر؟ قال دليلٌ عربي ذات مرة موبخًا ومنتقدًا مبشِّرًا كان قد وصل لتوه: «تعتقدون أيها الأمريكيون أن بإمكانكم القيامَ بأي شيء يمكن للمال شراؤه أو للقوة أن تحقِّقه. ولكن لا يمكنكم التغلُّب على ﷲ تعالى.»5 وكان القسُّ يتفق معه بالتأكيد على أن ﷲ لا يمكن التغلب عليه، لكنه كان يؤمن أيضًا بأن التصميم والإرادة والثروة يمكنها أن تحقِّق المعجزات، خاصة في الشرق الأوسط.

انتفاض المسيحية

بدأت موجة التحوُّل للمبشِّرين عام ١٨٤٠، عندما قامت القوى الأوروبية — خوفًا على تكامل الدولة العثمانية وتماسكها — بطرد الجنود المصريِّين من سوريا وفلسطين. وأُعيد الاستقرار نسبيًّا إلى المنطقة، ولكن دون المساس بالحقوق التي مُنحت للأقليات تحت حكم محمد علي. بل على العكس؛ فتعبيرًا عن شكره للأوروبيِّين لإعادتهم أقاليمَه إلى دولته، تعهَّد السلطان عبد المجيد باحترام «حرية وممتلكات وشرف كل واحد من الرعايا، دون النظر إلى ديانته». وسمح للأجانب أيضًا بالإقامة بصورة دائمة في القدس، وجرى أخيرًا الاعترافُ بالمواطنين البروتستانت في الدولة باعتبارهم أصحابَ ملة شرعية. أما المبشِّرون، فلم تكن هذه التطورات إلا من عمل الرب. وقد قال أحدهم: «منذ سنوات قليلة كان لا يزال هناك تعصُّب عنيد … وروح لا تهدأ للمطاردة والفرقة، أما الآن فيوجد تسامحٌ وقبول تام!»

كان لتيسير المعوِّقات تأثيرٌ فوري على أنشطة المبشِّرين في سوريا وجبل لبنان. فتمكَّن آل بيرد وجوديل من إعادة ترسيخ وضعهم في بيروت، والترحيب بجيل جديد من البروتستانت، بقيادة ويليام إيدي وهنري جيساب. وبعد عودته إلى لبنان قادمًا من أرميا بدأ إيلي سميث في إعداد ترجمة عربية للإنجيل، وفي تطوير أول مطبعة ذات حروف متحركة باللغة العربية، أسماها «الأمريكية العربية». وفي عَقد من الزمان كانت مطابع سميث تُنتِج خمسين ألف مجلد سنويًّا بأربع عشرة لغة محلية، تتضمَّن ترجماتٍ لكتاب «ابنة بائع اللبن» و«تقدُّم الحجاج»، اللذين كانا أول كتابَي قراءة للمرحلة الابتدائية. وكانت الهزيمة الوحيدة التي مُني بها سميث من محاولته مواءمة الموسيقى المحلية مع الطقوس الدينية البروتستانتية. واعترف بأنه «ليس وحدَه مَن وجد غِناء العرب غير موسيقي في آذانه، بل وجد الموسيقيون الغربيون أيضًا أنه … من المستحيل … تقليدُ نغماتهم».6

•••

كان النجاح الجديد الذي حقَّقه المبشِّرون ناتجًا عن الظروف المحسَّنة في الشرق الأوسط، لكنه كان أيضًا نتاجًا للتغييرات الجذرية في الولايات المتحدة. فقد شهِدت فترة الأربعينيات من القرن التاسع عشر بزوغ أيديولوجية «القدَر الجلي»، وهي نسخةٌ أكبرُ وأكثر تطرفًا من ادعاء الكويكرز القديم بأن الرب منحهم حقًّا في أرض الميعاد الجديدة، الذي برَّر به الأمريكيون غزوهم لقارة أمريكا الشمالية كلِّها. وتحت هذه الراية، قام مواطنو أمريكا البالغ عددهم ١٧ مليونًا بالانتشار في ربوع الولايات الست والعشرين وفي المناطق الشاسعة غرب نهر الميسيسيبي وشمال نهر ريو جراندي، مقتلعين مجتمعاتِ الأمريكيِّين الأصليِّين من جذورها، ومطاردين المكسيكيِّين في طريقهم. ولكن كان لهذا المفهوم بُعد تعليمي على العالم أجمع. فحسب قول الصحفي النيويوركي جون أوساليفان، الذي وضع هذا المصطلح، فإن القدَر الجلي أوجب على أمريكا أيضًا أن «تؤسِّس على الأرض خلاصَ الإنسان وأخلاقياته» لنشر مبادئها الدينية والدنيوية في الخارج.

تواءم البُعد التعليمي العالمي لفكرة أو مبدأ المصير الحتمي مع حسِّ المبشِّرين بالهدف، وأعاد الطاقة والحيوية للحركة في أكثر نقاطها إظلامًا. وقال دوايت مارش، رئيسُ بعثة الموصل: «إن قدَر أمريكا مرتبط بقدَر العالم، ولن تكون أمريكا بمأمن إلا بخلاص الإنسانية.» وقد ألهمت التبشِريين الحركةُ الدءوبة المنتشرة بأمريكا وروحُ البحث العلمي التي شهدتها. كانت هذه هي أمريكا؛ المستحدثات العلمية الخارقة، وتكنولوجيا تشارلز جوديير للإطارات المطاطية، وحركة النُّحاس التي يُعتمد عليها للساعات التي اخترعها تشونسي جيروم. وكان من بين المنتجات الحديثة التي أدخلها المبشِّرون الأمريكيون إلى الشرق الأوسط آلات التصوير وماكينات الخياطة وأداة ثورية للاتصال من اختراع ابن أحد أعضاء المجلس الأمريكي، هو صامويل مورس. وقد اعترف ويليام جوديل بأنه «يجب إعطاء صدمات للسكان المحليِّين؛ إذ تبدو تلك الصدمات وكأنها تحرِّكهم خطوةً للأمام نحو الألفية الجديدة».

ولكن الأكثر أهميةً من النواحي الفنية التقنية كانت صورة القوة العسكرية التي أظهرتها الولايات المتحدة في فترة المصير الحتمي، وقد أثَّرت في المبشِّرين كثيرًا. وكما أعلن إيلي سميث، فإن شعوب الشرق الأوسط «يجب أن تعلم أننا دولةٌ قوية، ولا توجد طريقةٌ أخرى لإعلامهم هذا إلا أن نُشعِرهم بذلك مباشرة». ومِثل المبشِّرين على الحدود الأمريكية، الذين كانوا يستعينون بمشاة الجيش الأمريكي عندما يتهدَّدهم خطر الهنود الحمر، كان سميث وزملاؤه من البروتستانت يستعينون بالحكومة الفيدرالية ودبلوماسييها وحتى بسفنها الحربية لحمايتهم من غضب الحكام المسلمين. فعندما جاء دابني كار خلفًا لديفيد بورتر سفيرًا لأمريكا في إسطنبول عام ١٨٤٢، أعلن عزمَه حمايةَ المبشِّرين «بكلِّ ما في وسعه»، وإذا اقتضت الضرورة «عن طريق استدعاء الأسطول الأمريكي في البحر المتوسط كلِّه إلى بيروت». كان كار، أحدُ أحفاد توماس جيفرسون، ملتزمًا بما صرَّح به. فبعد سنة كانت السفينة «إنديبيندنس» تقوم بجولة كبيرة في الموانئ السورية والمصرية. وكانت الأوامر الصادرة إليها تقضي «بالاستعلام عن مدى الأمان والازدهار الذي تشعر به البعثاتُ التبشيرية … وبمدِّها بكل المساعدات التي تطلبها».

كان امتزاج البعثات الدينية والسلطة الدنيوية علامةً من علامات فترة المصير الحتمي في كل من أمريكا الشمالية والشرق الأوسط. ومع ذلك وعلى عكس البعثات التي كثيرًا ما كانت تشكِّل نواةَ قلاعٍ ومدن المستقبل في الغرب الأمريكي، فإن المحطات أو القواعد الدائمة التي أسَّسها البروتستانت الأمريكان في الشرق الأوسط لم تكن قط نواةً لمطامع في أراضيه. ولم ترتبط قط بمصالحَ تجارية، كما كان الأمر مع المبشِّرين في هاواي. وكان غياب أي أجندة أو مطامع استعمارية أو اقتصادية هو ما يميز المبشِّرين في الشرق الأوسط، ليس عن زملائهم في الولايات المتحدة فقط، بل أيضًا عن الوعاظ الأوروبيِّين الذين كثيرًا ما كانوا عملاء لحكوماتهم في تلك البلاد. لذلك خلَص قنصل فرنسي في بيروت بعد تمحيص دقيق إلى أنه «مقتنع أن الدافع الوحيد لوجود الأمريكيِّين في الشرق الأوسط دينيٌّ بحت، وأنا ببساطة لا أرى أيَّ دافع سياسي خفي أو شرير».

كان المبشِّرون الأمريكيون في الشرق الأوسط يرون المصيرَ الحتمي ليس فقط نموذجًا لغزو المناطق، بل ضمانًا لجذب الأرواح والأذهان. واستمروا في الاستهزاء بالإسلام باعتباره دينًا رجعيًّا مضللًا، ورفضوا أيضًا كلَّ صور المسيحية الشرقية باعتبارها متخلِّفة وعفا عليها الزمن. كان منهجهم نحو شعوب المنطقة وثقافاتها مملوءًا بالعجرفة، مع أن تعاليهم كانت مشوبةً بطيبة القلب. وأمام حشدٍ من اللبنانيِّين الغاضبين، أعلن ويليام جوديل بكل صدقٍ «لقد جئنا بكلِّ ما أوتينا من طيبة قلب بغرض رفع شعوبكم … من حالة الجهل والانحطاط والموت التي تعيشونها».

كان ملايين الأمريكيِّين في ذلك الوقت يساندون مجهودات الخلاص هذه. وبدءًا بحملات صغيرة بعد حروب البربر، ازدهرت حركةُ المبشِّرين في العقود الأربعة حتى وقت وقوع الحرب الأهلية، وتحوَّلت إلى شغفٍ على المستوى القومي. وانهال الدعم على البعثات التبشيرية ليس فقط من الكنائس عبر البلاد، بل أيضًا من الصحافة والكونجرس وحتى من البيت الأبيض. وبإلهام من رؤية المصير الحتمي، فإنَّ عمال المصانع والمزارعين وخريجي المدارس الصغيرة وخريجي الجامعات الرائدة، الشماليون منهم والجنوبيون على السواء، تطوَّعوا لمهامِّ التبشير بالبروتستانتية في الخارج. لذلك لم يكن هناك عامةً نقصٌ في المتطوعين. وربما يكون أكبر دليل على تأثير المصير الحتمي على مشروعات التبشير هو الميزانية السنوية للمجلس الأمريكي، التي ارتفعت من ١٠٠٠٠ دولار في عهد فيسك وبارسونز إلى ٢٥٠٠٠٠ بحلول منتصف القرن.7

كان تأثير الظروف المحسِّنة للمبشِّرين العاملين في الشرق الأوسط مع الحيوية التي عادت إلى حماسة البروتستانت أوضحَ ما يكون في حالة سيروس هاملين. فقد وُلد في ماين عام ١٨١١، وأصبح يتيمًا في سنٍّ مبكرة مما اضطره إلى العمل مساعدًا في المزارع. إلى جانب ذلك درس أيضًا، وفاز في النهاية بمنحة لكلية بودوين؛ حيث أصبح الطالب المفضَّل لهنري وادزورث لونجفيلو، وتخرَّج الأولَ على فصله. كان وسيمًا للغاية، وإن كان شاربه غريبًا للغاية أيضًا. لذلك كان هاملين يمثل نموذجًا لعصر المصير الحتمي. ولذلك أيضًا وصف بأنه «ذو إرادة حديدية، ينزِع إلى الشجار، وديكتاتور». لكنه لم يعمل بالوعظ الديني، بل أعدَّ نفسه للعمل في مجال التبشير، لكنه بيَّت في نفسه أن يجمع بين التبشير للبروتستانتينية وعبقرية عصر الثورة الصناعية. فالصناعة — عند هاملين — كانت أكثرَ من مجرد إجراء للإنتاج؛ بل كانت أيضًا أداةً لتطهير الأرواح. وصل هاملين إلى إسطنبول عام ١٨٤٠، وشرع فورًا في تعليم الشباب المحلي مبادئَ الرياضيات وقواعد اللغة الإنجليزية وتعريفهم ببعض طقوس المسيحية.

تزامن وصوله مع الانفتاح الذي قام به السلطان على الغرب. ونتيجةً لذلك، حصل هاملين على موافقةٍ بتأسيس مدرسته في بيبيك، التي تبعُد عن إسطنبول خمسة أميال. وفي بداية عام ١٨٤٢، كان هناك أربعون تلميذًا مسجَّلون في المدرسة، يقضون نصفَ اليوم في قاعات الدرس والنصف الآخر في تصميم أفران ومصائد للفئران ويعملون على تشغيل طواحين الدقيق. كانت المقاومة الوحيدة لهذا المنهج الحديث تأتي من البطريرك الأرمني، الذي كان معظم التلاميذ من رعيته، ومن المزارعين المسلمين الذين كانوا يلقون الحجارة على المدرسة، مما جعل بها «ثقوب»، على حدِّ قول هاملين. ومع ذلك فقد تمكَّن من إصلاح الخسائر ومن مصالحة البطريرك، وأخبر هاملين المجلس، وهو راضٍ تمامًا، أنه قد ترك أثرًا دائمًا على التعليم العثماني. وأثار روحًا عامة للفضول العلمي، وأكَّد أن «الشرق الراكد بدأ يتغيَّر»، ولكن دون أن يلاحظ كم هذا التغيير. لم يكن لدى هاملين أيُّ فكرة عن أن مدرسته المتواضعة ستتحول يومًا ما إلى أول جامعة تركية حديثة.8

•••

تعافى المبشِّرون الأمريكيون تمامًا من وضعهم حيث شارفوا على الفَناء التام في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر. وبنهاية فترةِ ما قبل الحرب كانت أحوالهم مزدهرة؛ إذ كان مئات المسلمين والمسيحيِّين واليهود يدرسون في مؤسساتٍ تبشيرية في جميع أنحاء الدولة العثمانية، ويقرءون كتبًا تُخرِجها المطابع الدينية الأمريكية، ويتشربون بالأفكار الأمريكية. وشرح المعلِّم المصري الرائد الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي الوضعَ قائلًا: «هذا البلد (الولايات المتحدة) من أعظم الدول المتحضرة في العالم. فسكانها … قد حرَّروا أنفسهم من قبضة الإنجليز وأصبحوا أحرارًا ومستقلين اعتمادًا على أنفسهم … ومسموح لديهم باتباع كل العقائد والأديان.» واستجابةً لطلب السلطان عبد المجيد، قام المبشِّرون أيضًا بتأسيس مدرسة على الطراز الأمريكي للتدريب العسكري. وتمكَّن هؤلاء الضباط الشباب [الأتراك] — عن طريق المهارات اللغوية التي اكتسبوها — من قراءة أحدثِ النشرات العسكرية الأمريكية، بالإضافة إلى أكثرِ الأعمال إثارةً لجيفرسون وهاملتون وباين.

وبجانب محاولات تحويل أهالي الشرق الأوسط عن عقيدتهم وتعليمهم قام المبشِّرون أيضًا بتنوير أبناء بلدهم في الوطن. فعن طريق رسائلهم ومقالاتهم وتقاريرهم التي لا يُحصى عددها، قدَّم المبشِّرون البروتستانت للأمريكيِّين صورًا للحياة في الشرق الأوسط كانت أكثرَ تفصيلًا — وأقلَّ بريقًا — من أي قصص من الإنجيل أو من كتاب «ألف ليلة وليلة». وقامت المراسلات التبشيرية أيضًا بدور المصدر الرئيسي لإدوارد سالزبري من جامعة ييل، الذي أصبح عام ١٨٤١ أولَ أستاذ أمريكي للغة العربية، وأصبح أيضًا أولَ أستاذ للجمعية الأمريكية الشرقية، التي أُسِّسَت في العام التالي بهدف دراسة ثقافات الشرق الأوسط القديمة والحالية. وانضم سالزبري بدوره إلى المبشِّرين في الترويج للتعليم التقدُّمي في سوريا وغيرها من الأقاليم العثمانية. وقد شهِد هذا العالم بأن «بلاد الغرب، ومنها بلادنا نحن، تَدين بتنوُّع ثقافاتها للشرق، وقد آنَ الأوان لرد هذا الدَّين».

ومع إنجازاتهم المذهلة، استمر المبشِّرون في مواجهة عدة أخطار في الشرق الأوسط، وفي معالجة إحباطات يومية. فاشتكى ويليام إيدي المقيمُ في بيروت على سبيل المثال من «عدم وجود سكك حديدية هنا؛ فتُنقل الأحمال والأفكار عن طريق قوافل الجِمال». ولم تأتِ أكبر المعارضات للمبشِّرين من الشرق الأوسط، بل من المجلس الأمريكي ذاته. إذ استشعر الكثيرون من كبار السن فيه أن التركيزَ على الكتب المدرسية والطب قد حجب الهدف الأساسي من البعثات التبشيرية، وهو الخلاص. وخلَص الدكتور جون ثورنتون كيركلاند، الرئيسُ السابق لجامعة هارفارد، بعد زيارة لسوريا عام ١٨٤٢ إلى أنه «إذا قُدِّمت المسيحية للبشَر بصورتها البسيطة دون تقنيات المدارس، فقد تلقى قبولًا أكثرَ وأشمل». وأجاب المبشِّرون بأن هذه الخدمات تساعد على كسب ثقة السكان المحليِّين، مع تهيئة الأجواء الفكرية والمادية التي قد تدفعهم إلى التحول إلى البروتستانتية في المستقبل. وكان لكيركلاند زوجةٌ، هي إليزابيث التي سنتعرَّف عليها باعتبارها رحَّالة رائدة إلى الشرق الأوسط، اختلفت إليزابيث مع زوجها ومع المجلس، وانحازت إلى جانب المبشِّرين. وأكَّدت ذلك بقولها: «هؤلاء الناس (تقصد المبشِّرين) قد وجَّهوا اهتمامهم نحو تأسيس المدارس كإعداد وتمهيد (لأهل تلك البلاد) لدخول المسيحية. وبصورةٍ عامة فإنَّ المبشِّرين الأمريكيِّين يحظون بدرجاتٍ قصوى من الاحترام.»9

ولم يحسِم هذه المسألةَ المجلس الأمريكي ولا المبشِّرون، ولكن حسمتها شعوب الشرق الأوسط، عن طريق مطالباتها المتصاعدة بالتعليم الحديث وخدمات الرعاية الصحية. ومع عدم استجابتهم لرسالة المبشِّرين الدينية، فإنهم ظلوا على تقديرهم لأعمالهم الخيرية وتقبَّلوا وجودهم بينهم. واستغلالًا لذلك الانفتاح، أصبحت أعداد متزايدة من الأمريكيِّين تتبع مشاعرها التلقائية إلى المنطقة. وكان من بينهم نوعان من الأنماط الممتزجة، المبشِّر العالِم، والمبشِّر الجندي، وكان كلاهما يرحل إلى الشرق الأوسط، الذي أصبح أكثرَ المناطق تقديرًا من قِبل الأمريكيِّين، بحثًا عن المعرفة وقدسية الحياة.

مغامرات في الجنة المقدَّسة

تمطَّى الراكب على سَنام الجمل ونظر إلى الأجواء الحارة المترِبة مضيِّقًا عينيه. لم يكن بالمغامر التقليدي، فلم يكن عريضَ الصدر كجون ليديارد أو مهيبًا كجورج إنجليش، كان إدوارد روبنسون في السادسة والأربعين، بدينًا قصيرَ النظر، وكان أستاذًا للكتابات الدينية بكلية الوحدة للدراسات الدينية بنيويورك. ومثل سراب الصحراء الخادع، كانت صورة روبنسون كرجل ضعيف صورةً خاطئة للغاية. بل الواقع أنه كان قادرًا على ركوب الجياد ثماني ساعات متواصلة تحت أشعة الشمس الحارقة وهو يراجع إنجيله وبوصلته. وكان قد قضى الشهر الأخير في عبور جبال سيناء الوعرة دون شكوى، منبهرًا «بغرابتها وعظمتها»، ومذكرًا نفسه أن هذه هي نفس القمم التي عبَرها موسى وبنو إسرائيل. وأخيرًا، في مارس ١٨٣٨ استعدَّ روبنسون للخروج من الصحراء ودخول بلد «رومانسي ومثير». نظر من نظارته المتَّسخة، فرأى المياه اللازوردية لخليج العقبة. أما وراءها فرأى أرض اليهودية، واعترف قائلًا: «مع أنني لست عاطفيًّا، فإنني لم أستطِع منعَ نفسي من الانفجار بالبكاء.»

كان روبنسون جزءًا من طابور طويل من الأمريكيِّين الذين كانوا يأتون أفواجًا إلى البلد المقدَّسة في الحِقب السابقة على الحرب الأهلية. وللتكيُّف مع هذه الكثافة، عيَّنت الولايات المتحدة وكلاء قنصليِّين في ست مدن فلسطينية رئيسية، مما جعله أكبرَ تمثيل لبلدٍ غربي في المنطقة. ولكن كانت هذه القنصليات متخمةً بهجوم من المبشِّرين والسائحين والمستعمرين والباحثين، وكلهم منجذبون إلى خبر التسامح الذي يُعامل به الأجانب في فلسطين، وبسبب الوصف المبهر لعجائبها.

كان الكثير من تلك الروايات — على أقلِّ تقدير — مبالغًا فيه؛ فقد كتب ويليام تومسون، المبشِّر الذي تحدَّثت رسائله بقسوة عن فلسطين وتركَ البلاد لاحقًا ليذهب إلى بيروت، كتب كتاب «البلد والكتاب»، وهي قصة حماسية مبهجة، بها العديد من الصور المثالية. فقد ادَّعى فيها أن بلد الإنجيل هذا لم يَعُد مقفِرًا وقاسيًا، بل جنة «من الجبال الشاهقة، المغطاة بالثلوج، ومن سهولٍ مغطاة بأزهار نضرة، بالإضافة إلى بحيرات وأنهارٍ ومجارٍ مائية جرى تعميدها بالجمال». بيع من هذا المجلَّد ثلاثون طبعة في الولايات المتحدة، وساعد على تثبيت الخيالات الشبيهة بالأحلام المحيطة بفلسطين، ولكن هذه الأجواء الغامضة كانت سريعًا ما تختفي وتتبخَّر عندما يصل الأمريكيون ويواجهون واقعًا أكثرَ كآبة، وقال القنصل الأمريكي في يافا تعليقًا على ذلك: «لا توجد دولة أخرى في العالم … كُتب عنها مثل هذا الكمِّ الكثير، وعُرف عن حقيقتها هذا الكمُّ القليل»، ملاحظًا «الحالةَ الشديدة الإثارة من التوقعات والخيالات» عن فلسطين، التي كثيرًا ما دفعت أبناءَ وطنه إلى ما عُرف ﺑ «كآبة ما بعد الحج».10

ولكن إدوارد روبنسون كان يمثِّل استثناءً لتلك القاعدة. فمع أنه كان من الأبرشانيين، فإنه لم يسمح قط للمعتقدات الدينية أن تحجُب حكمه العلمي. فقد نشأ طفلًا في مزرعةٍ بولاية كونيتيكت، وكان يحلُم بزيارة الأماكن المقدَّسة في فلسطين يومًا ما، وكشخص ناضج راشد صمَّم على التخلص من «هذا الكمِّ الضخم من التقاليد، الغريبة في مصدرها، والمريبة في سِماتها وشخصيتها» التي تحيط بتلك الأماكن. وكان التطهريون قد فرضوا خريطةَ إسرائيل القديمة على أرضهم الموعودة الجديدة أمريكا، وأصبح روبنسون الآن خلفهم ويسعى إلى إعادة التعرُّف على تلك الخريطة وحقيقتها التاريخية.

وبصحبة إيلي سميث، المبشِّر المتحدث بالعربية، توجَّه روبنسون إلى الشمال، عبر المنطقة المعروفة اليوم باسم الضفة الغربية. أصابه الريف الملوَّث «بالركود والظلام الأخلاقي» باكتئابٍ حقيقي، مِثله مثل طبيعة سكانه «الذين لا يمكن الاعتماد عليهم». ومع ذلك فقد كانت تلك المدن الحقيرة تبدو مألوفةً لروبنسون «وكأنها حُلم جديد يتحقق». وتضخَّم إحساسه بهذا الحُلم في ٤ من أبريل ١٨٣٨ — وكان يوم عيد الفصح — عندما قام مع سميث «مثل العبرانيِّين القدامى في وقت عيد الفصح اليهودي» بدخول القدس. كانت هناك مجموعةٌ من ثمانية مبشِّرين وعائلاتهم في استقبالهم، وكان هذا أكبرَ تجمُّع شهدته المدينة للبروتستانت.

ومع ذلك فلم يؤثِّر هذا في روبنسون، وفي فجر اليوم التالي كان بالخارج، مسلَّحًا بمقياس طوله مائة قدم، لقياس أسوار القدس. وباستخدام الإنجيل وغيره من كتبِ الحكايات الكلاسيكية كدليل، تعرَّف على بركة سلوان، وبالرغم من قِصَر نظره وجسده البعيد عن الرشاقة، فقد نجح روبنسون في الزحف مسافة ١٧٥٠ قدمًا في نفقٍ ضيق مملوء بالحجارة، ووصل إلى نافورة العذراء داخل المدينة القديمة. وتعرَّف أيضًا على موقع بقايا جسر ضخم، كان يوصل يومًا ما إلى معبد هيرود، الذي يُعرف اليوم باسم قوس روبنسون. خرج بعدها روبنسون إلى الريف، بحثًا عن المواقع التي وردت في الكتابات الدينية، عن قناعةٍ بأن أسماءها العربية الحالية تتضمَّن أصداءً من أسمائها العبرية الأصلية. وعلى ذلك وجد روبنسون في اسم القرية العربية «السموع» آثارًا من الاسم العبري أشْتَموع. ووجد أيضًا أن الجش هي التسمية العربية للاسم العبري جوش هالاف، وأن الجب كانت جيبون؛ حيث تمكَّن يوشع من إيقاف الشمس. وأطلق أحدُ المبشِّرين على روبنسون لقب «المعلِّم الأكبر للقياس في العالم»، وذلك بعد أن تمكَّن من استعادة ماضٍ أسطوري، ورسَّخه في واقع اليوم.

كان إدوارد روبنسون قد قام برحلةٍ استكشافية ثانية إلى فلسطين عام ١٨٥٢، ونشر مجلَّدين ضخمين من أبحاثه، وأصبح بذلك أولَ أمريكي تمنحه جمعية لندن الجغرافية الملكية ميداليةً ذهبية. وأسَّس أيضًا حقلًا معرفيًّا جديدًا تمامًا، هو علم الآثار الإنجيلي، وهو علمٌ أمريكي خالص، ولم يكن هذا العِلم متاحًا للعلماء وحدَهم، بل لرجال الدين والعامة أيضًا. وجذب لفلسطين أمريكيِّين آخرين أيضًا، مزجوا بين عقيدتهم وإيمانهم من ناحية، وبين رغبة قوية في الاستكشاف، تمامًا مثل روبنسون.11

وكان ويليام فرنسيس لينش أحدَ هؤلاء الرحَّالة، وهو قائد بحري «ومسيحي جاد ومحب للمغامرة» جاب أمريكا الجنوبية والشرق الأقصى من قبل. وكان في نفس عمر روبنسون، أي في السادسة والأربعين، ولكنه كان رشيقًا وذا عينين حادتين، أي إنه كان صورةً مثالية للفيرجيني الشجاع. في مايو ١٨٤٧ كان الملل قد بلغ به مداه، بسبب غياب أي نشاط أو تحرُّك في حرب المكسيك؛ لذلك طلب لينش إجازةً لزيارة فلسطين. واقترح أن يكون أولَ غربي يبحر بطول نهر الأردن بأكمله، من بحيرة طبرية إلى البحر الميت، «للترويج لقضية العلم وتطوير خدمات البحرية الأمريكية». أما فيما عدا القيمة العلمية والدراسية والتحفيزية فكان لينش يأمُل في أن تقوي رحلته روابطَ أمريكا بالأرض المقدَّسة، وأن يحدُث عن طريقها الإسراع بالخلاص على مستوى العالم.

اختار لينش بنفسه طاقمًا مكونًا من خمسة ضباط وتسعة بحَّارة من «الشباب المفتولي العضلات المولودين في أمريكا والذين لا يتعاطون الخمر»؛ غادر لينش نيويورك متوجهًا إلى إسطنبول، وقدَّم نفسه في بلاط السلطان عبد المجيد وأحدَث ضجة برفضه خلعَ سيفه تحيةً للسلطان، ولكنه حاز رضا السلطان مرةً أخرى عندما قدَّم له كتيبًا به مجموعات صور للهنود الحمر هديةً من الرئيس جيمس بوك. ومقابل ذلك حصل لينش على فرمان أو قرار إمبراطوري يمنحه «حماية من العرب». ولكن القائد لم يعتمد على ذلك الضمان؛ لأنه عندما وصل إلى بيروت استعان بخدمات هنري جيمس أندرسون المبشِّر الطبيب. وفكَّر لينش: «في حالةِ إصابتي بطلقٍ ناري، لن يكون هناك غنًى عن الجراحة.» كما استأجر الأمريكيان عدةَ حراس من البدو أيضًا، واشترَوا ترسانةً من الأسلحة المختلفة.

حُمِّلت الأسلحة والأجهزة العلمية ومعدَّات التخييم على ظهور الدواب. من جمالٍ وغيرها، وشُحن قاربان من الحديد المجلفن على حاملات للسلاح، ثم رُبطت بظهور الجمال. وبخروجهما من مدينة أيكر الساحلية، مضت هذه القافلة العجيبة مسافةَ ثلاثين ميلًا في ريفٍ رأى الأمريكيان أنه مقفرٌ بدرجة كئيبة وغير مأهول بالسكان. ومع ذلك فقد أصرَّا على الاحتفاظ بمعنوياتهما عالية، عن طريق غناء «فلتحيا كولومبيا» (هيل كولومبيا) وأغنية «يانكي دودل» وأغنية «العلم المملوء بالنجوم» (ذا ستارسبانجلد بانر)، بالإضافة إلى معاقرة الخمر بين الحين والآخر. وكتب إدوارد مونتاجو أحد البحَّارة: «نحن الأمريكيِّين لا نتردَّد ولا نخاف؛ فنحن لا نخشى العرب المتجولين ولا تأثير الأمراض … ولا حرارة الشمس ولا رياح الصحراء الخانقة.» كان الرجال مغرمين غرامًا خاصًّا بقائدهم، الذي قال عنه مونتاجو: «أحدُ أفضل الرجال وأكثرهم إنسانيةً وفكرًا وكرَمًا.» ووصفه أيضًا بأنه بطل «ذو روح وثَّابة يتميز بها أمريكيو المولد بصورة خاصة».

بدا الأمر وكأن لينش أيضًا سعيدٌ بكلِّ ما يراه، من العَلم الأمريكي المرفرف فوق جنوده، إلى منظر بحيرة طبرية. وكانت مجرد فكرة أنه يسير على نفس السواحل التي وطئها يسوع المسيح ويلمس المياه التي سار عليها، تثيره وتملؤه بالفرح. تمامًا مثل كرَم الضيافة الذي أظهره له ولطاقمه المجتمع اليهودي القديم في مدينة طبرية. فقد دعا تاجرٌ غنيٌّ اسمه حاييم وايزمان الأمريكيِّين إلى الإقامة في منزله، واحتفى بهم ببذخ. وبعدها بأسبوع في ١٠ أبريل ١٨٤٨، ودَّع لينش ورجاله وايزمان واستقلوا القواربَ المصنوعة من المعدن.

يقول لينش: «لا بد أن المنظر من الشاطئ كان لا مثيلَ له. فالطاقم في قوارب حربية، وقلاعها الناصعة البياض مُشرَعة، وأعلامها ترفرف، وإيقاع الدفة منضبط ونحن نبحر على السواحل الخضراء الساكنة لبحيرة طبرية.» سُمِّي أحد القاربين بفاني ميسون على اسم ابنة وزير البحرية وسُمِّي الثاني فاني سكينر على اسم ابنة أحد كبار القادة، وكان تصميم القاربين المعدنيَّين يسمح لهما بمقاومة دوامات نهر الأردن الشهيرة وتياراته الجارفة. وكان هناك قاربٌ صغير بالإضافة إليهما، وأُطلق عليه اسم العم سام. لقد كان النهر بالفعل صاخبًا، وتجمَّعت جماهيرُ من السكان المحليِّين على الشاطئ للمشاهدة. ويتذكَّر لينش المحب للإثارة والمبالغة كيف كان هو وطاقمه «رحالةً مجهولين في بلاد موحشة مجهولة لا ترحِّب بهم»، حيث كانت «القبائل البربرية من العرب المحبين للقتال … تدعو المرء تلقائيًّا إلى تحسُّس سلاحه … أو القبض على مقبض سيفه».

ولكن العالِم لينش أرهق نفسه في تسجيل عمق النهر ودرجات حرارة مياهه، وفي وصف البيئة المحيطة. وحاول — مثل روبنسون — تحديدَ موقع الأحداث المذكورة في الإنجيل بدقة، خاصة أماكنَ عبور بني إسرائيل إلى أرض كنعان أو المكان الذي صارع فيه يعقوب الملاك، مع أن النتيجة لم تكن دقيقةً بالمرة. وفيما حوله يتخيَّل لينش أن هناك «أراضيَ مملوءة بذكريات مقدَّسة، وآثار أقدام المسيح الفادي، التي غذَّتها الدماء، والتي أصبحت مباركةً بوجود قبره فيها».

مرَّت ستة أيام قبل أن يقترب البحَّارة المنهكون من أريحا، وكان لينش يؤمن أنه لا يوجد مسيحي زار هذه المنطقة منذ عصر الصليبيين، وأن احتمالات اعتداءات البدو كانت عاليةً للغاية. وفي حركة مناورة تعلَّمها من المقاتلين الهنود في الغرب الأمريكي، جمع رجاله وقواربه في دائرةٍ دفاعية. وقد أثبتت هذه المناورة أنه لا ضرورة لها. ذلك لأن المتطفلين الوحيدين كانوا بعضَ الحجَّاج المسيحيين، ومنهم اثنان من الأمريكيِّين كانا قد خلعا ثيابَهما ونزلا إلى نهر الأردن للاستحمام.

بعد ذلك أكملت المجموعة العشرين ميلًا الباقيةَ على وصولها لمحطتها؛ البحر الميت، وكتب مونتاجو يقول: «الرجال يمكنهم الطفو بسهولة على سطحه، ويمكنهم نتفُ ريش دجاجة أو قراءة الصحيفة وهم طافون.» أما لينش فلم يكن في حالة مزاجية جيدة، بل انتابته كآبة بسبب جفاف الصحراء من حوله وبسبب نقص المياه العذبة، فقال: «بالتأكيد وقعت لعنة ﷲ على هذا البحر!» وكان عزاؤه الوحيد هو مياه عين جدي، التي أعاد لينش تسميتها «تكريمًا لأعظم الرجال الذين أخرجهم العالَم حتى الآن»؛ جورج واشنطن.

قضى لينش الأسابيعَ الثلاثة التالية في إجراء تجارب على مياه البحر الميت، التي اعتقد أنه قد يكون لها فوائدُ طبية، وقضاها أيضًا في استكشاف أطلالِ قمران وماسادا. ثم سار إلى الكرك في الأردن الحالية؛ حيث كان يوجد بعض المسيحيين، أبناء وأحفاد الصليبيِّين الذين افتخروا بغزوهم في يوم من الأيام، والذين كانت الأغلبية المسلمة تضطهدهم بشدة. ومع انشغاله التام فقد وجد لينش وقتًا للاستمتاع بليالٍ رومانسية في الصحراء، حيث «الخيام بين نيران الحراسة الموقدة، والجبال الداكنة في الخلفية، والنجوم فوقها والقوارب مربوطة إلى الساحل». وكان يتابع أخبارَ الوطن، عن طريق البريد الذي كان يصل إلى القنصل الأمريكي في القدس، فيوصله بدوره إليه؛ أحدُ تلك الطرود جاءه بخبرِ وفاة جون كوينسي آدامز، الرئيس الذي كان قد حاول فتحَ الشرق الأوسط أمام الأمريكيِّين قبل ذلك بعشرين عامًا. وبكى لينش قائلًا: «انسجمت فكرة الموت مع البيئة من حولنا؛ فأنزلنا الأعلام وساد الوجوم المكان.»

في ١٠ من مايو رفع لينش العلمَ نفسه على طوفٍ راسٍ في البحر الميت، وأمر بفك القوارب الحديدية. ثم توجَّه هو ورجاله شمالًا نحو القدس والناصرة وقيصرية. كانت انطباعاته عن تلك المواقع وغيرها من الأماكن الشهيرة مشابهةً لانطباعات كثير من الحجاج الأمريكيِّين؛ مزيج من الاشمئزاز بسبب قلة الجَمال فيما حولهم، مع سمو روحي. وكان الطريق مرهقًا للغاية، فحين وصلوا إلى دمشق كان كل رجال لينش يهذون بسبب الحمَّى. أما الملازم أول ديل — أحدُ رجاله — فمات في منزل إيلي سميث ببيروت، ودُفن بجانب ويليام تومسون.12

عاد لينش إلى نيويورك وإلى استقبالٍ ممتزج غير متوقَّع. فالذين انتقدوا الرئيس بوك لإرساله الجيشَ الأمريكي ليحارب ضد المكسيك كانوا ينتقدونه الآن بسبب إهداره ٧٠٠ دولار من المال العام على رحلةٍ استكشافية أخرى لا ضرورة لها. ومع ذلك فقد حقَّقت مذكرات لينش عن الرحلة مبيعاتٍ هائلة. كان مجلَّدًا وصفيًّا وإرشاديًّا غريبًا، لكن نبرته كانت مملوءة بالعناد والإصرار. وكان المؤلِّف قاسيًا في رسمه صورةَ العرب، مدعيًا أن «حبهم الكبير للذهب … الذي يستولون عليه من بين يدي الغريب غير المسلَّح، أو يقتنصونه من صديقٍ لا يتوقَّع منهم شرًّا»، ومع ذلك فقد دافع عن فلسطين بنفس الحماسة، مؤكدًا أن لها مستقبلًا اقتصاديًّا مبشِّرًا. وقدَّم لينش عدةَ أفكار لتطوير الأرض المقدَّسة، منها خطةٌ لإعادة تسكين الأمريكيِّين السُّمر في مزارعَ تؤسَّس في سهل الأردن. وكان مفتاح نجاح تلك البرامج هو الأمان، كما كان يؤكد. فكتب يقول: «خمسون من الفرنجة أقوياء الشكيمة مسلَّحون جيدًا … يمكنهم إحداث ثورة في البلد كلها.»

واختتم لينش كتابَه بدعوة حماسية لإعادة اليهود إلى فلسطين. فالشعب اليهودي «مقدَّر له أن يكون أولَ عنصر من عناصر حضارة العرب»، ووسيلةً لإعادة إحياء المنطقة بأكملها. توسَّع الدكتور أندرسون — طبيبُ البعثة الاستكشافية — في عرض لينش، وتحت رعاية الجمعية الأمريكية للجغرافيا والإحصاء نشرَ طلبًا يدعو الولايات المتحدة إلى الترويج للاستعمار اليهودي في فلسطين. فقد قال: «التأثير اليهودي كان كبيرًا فيما يسمَّى المنطقة العربية السورية، وسيمنح دفعةً جديدة لتجارة الشرق، وتجارة العالم كله.»13

حان وقت العودة

الاقتراح القائل بأن تقوم الولايات المتحدة بمساعدة اليهود في العودة إلى فلسطين لم يكن جديدًا، ولم يُعَدَّ متطرفًا بصورة مُبالغ فيها في فترةِ ما قبل الحرب. فأفكار إعادة اليهود التي سادت بين الكنائس الإنجيلية في أمريكا الاستعمارية كانت قد تعمَّقت لدى عامة الناس. وفي حين ظلَّ الأساقفة والموحدون على رفضهم لتلك الفكرة، كانت جماعات المنهجيِّين والأبرشانيِّين والمشيخيِّين قد تبنَّت الفكرة. وكان كثير من الأمريكيِّين يؤمنون بأن اليهود بدءوا بالفعل العودةَ إلى وطنهم، وهي منطقة قليلة السكان، أكَّد لهم المبشِّرون أنه يمكنها استيعابُ الملايين، وكانت المقولة الشهيرة للورد شافتزبري، الإصلاحي الإنجليزي المعاصر هي «وطن بلا شعب لشعبٍ بلا وطن». وقال قسُّ كونيتيكت توماس روبنز في مذكراته في يونيو ١٨٣٨: «تبدو هناك تحركاتٌ غير معتادة بين اليهود.» أما سارة هايت فهي امرأةٌ من لونج أيلاند رحلت إلى الشرق الأوسط في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، وكانت مقتنعةً تمامًا بقُرب تجمُّع اليهود في فلسطين، وكانت تقول متنبِّئة: «سيأتي ﷲ بشعبه المختار … لإعادة بناء هيكلهم والتعبُّد فيه.» وكانت بذلك تتنبأ بما أسمته «انقضاء عهد الكفرة».

ظهرت الدعوة إلى عودة اليهود في أجلى صورها في فترةِ ما قبل الحرب في دراسةٍ كُتبت عام ١٨٤٤، باسم «وادي الرؤية» أو «إحياء العظام الجافة لإسرائيل»، التي قام بها عالِم الإنجيل وأستاذ العبرية الشهير بجامعة نيويورك، جورج بوش. فقد انتقد فيها «العبودية والاضطهاد اللذين قرَّبا اليهود من التراب وأذاقاهم الذل» ودعا إلى «تحسين سُمعة اليهود بين أمم العالم» عن طريق إعادة تكوين دولتهم في فلسطين. هذه العودة لم تكن لتفيد اليهودَ وحدَهم، بل الإنسانية جمعاء، مكوِّنة «رابطةً للاتصال» بين الإنسانية والرب. وتنبأ بوش بأن ذلك «سينهي سوءَ سُمعتهم، وسيوضح ظاهرةً رائعة بين جميع الأمم والألسنة المختلفة التي تنطق بالحق». ولكن البعض انتقد هذا الكتاب، فانتقد «تقرير برينستون» ما أسماه «الاعتقاد في إعادة اليهود حرفيًّا التي ازداد تصديقُ وإيمان المسيحيِّين بها منذ سنوات». ومع ذلك فقد استمر قطاعٌ متزايد من الأمريكيِّين في تصديق جورج بوش — وهو جَد رئيسَين لاحقين يحملان الاسم نفسه — وحُلمه بدولة يهودية.

من وجهة نظر بوش — وكما كانت الحال مع معظم مَن آمنوا بعودة اليهود إلى أرضهم الموعودة — كان دور المسيحيِّين في إعادة تأسيس الكيان اليهودي يقتصر على الصلاة والدعاء، وفي أفضل الحالات تقديم «حوافز» ضرورية لليهود للعودة إلى فلسطين.14 ولكن بعض أتباع هذا الفكر سعَوا إلى دورٍ أكثرَ إيجابية في إعادة توطين اليهود، فكانوا يسافرون إلى الأرض المقدَّسة، ويقيمون هناك، ويُعِدُّون العُدة لعودة اليهود.

أحدُ أمثلة ذلك النشاط قدَّمته إحدى أحدث الطوائف وأكثرها إثارةً للجدل، وهي طائفة المورمون. كان مؤسِّس الحركة، جوزيف سميث، مؤمنًا إيمانًا عميقًا بإعادة توطين اليهود، وأرسل عام ١٨٤١ مبعوثَه الشخصي، أورسون هايد، في رحلةِ حجٍّ إلى القدس. فتسلَّق هذا الأخير جبلَ الزيتون، وأنشأ على قمَّته مذبحًا ودعا ربه أن «يعيد المُلك إلى بني إسرائيل، وأن يجعل القدس عاصمةً لهم، وأن يستمر شعبها في كونه مميزًا، أمةً وحكومة». وقد دمج المورمون فيما بعد هذا الدعاءَ في صلواتهم، وبنَوا في موقع المذبح الذي شيَّده هايد فرعًا لجامعة بريام يونج.

وأما واردر كريسون، فكان أكثرَ نشاطًا وأكثرَ اقتناعًا وتطرفًا من هايد، وقد أقام إقامةً دائمة في فلسطين، ووهب حياته لإعادة توطين اليهود. كان أبًا لستة أبناء يقيمون في فيلادلفيا، وكان في السابق من المورمون، وقبْلها من الكويكرز، وكان كذلك من الشيكرز. آمن كريسون بإعادة توطين اليهود في سن السادسة والأربعين، وكان ذلك عام ١٨٤٤. في تلك السنة، قابل كريسون موردخاي نوح، الذي كان قنصلًا في تونس من قبلُ، وكان قد بدأ حملةً لإعادة سيادة اليهود على فلسطين. جرَّب وفشل في دعوة أمريكيِّين يهود آخرين إلى مشروعه؛ لذلك بدأ في الترويج له بين المسيحيِّين. وتساءل: «أين يمكن أن ندعوَ إلى استقلال بني إسرائيل بثقةٍ أكبرَ عن مهد الحرية الأمريكية؟» تردَّد صدى التساؤل عند كريسون، الذي أصبح مقتنعًا بأن ﷲ خلق الولايات المتحدة خاصةً لإنقاذ ودعم اليهود، وأن النسر الأمريكي — تحقيقًا لنبوءة إليشع — «سيغطي البلد بجناحيه». ثم أعلن أنه «لا خلاص لليهود، إلا بقدومهم إلى إسرائيل».

كتب كريسون من فوره لوزير الخارجية جون كالهون، وطلب أن يتم تعيينه قنصلًا في القدس. وتزامن هذا الطلب مع بحث وزارة الخارجية عن الدبلوماسيِّين المقبولين لدى المبشِّرين، وبعد الحصول على ضماناتٍ عن «نزاهة وكفاءة» كريسون وافق كالهون على تعيينه. كان كريسون ذا ذقن داكن وعينين نافذتين وأنف كبير؛ أي إنه كان يمثل الصورة المثالية لرسول متحمِّس. رحل كريسون بالسفينة في ٢٢ يونيو ١٨٤٤، حاملًا معه علمًا أمريكيًّا وحمامة بيضاء كان ينوي إطلاقَ سراحها عند وصوله. وتذكَّر قائلًا: «تركت زوجتي التي تزوجتها في شبابي … وستة أطفال أحباء، ومزرعة ممتازة. كل شيء كان مريحًا حولي. ولكنَّ نور وعد ﷲ الثمين … (في إشارة إلى عودة اليهود) أصبح مضيئًا … لدرجةِ أنني لم أستطِع البقاءَ في الوطن».

وصل كريسون إلى فلسطين، واستقر في القدس، مؤسِّسًا «ختمًا قنصليًّا»، ومدَّ مظلة الحماية الأمريكية على يهود المدينة، الذين كان الكثيرون منهم علماءَ فقراء يعتمدون على المساعدات والجمعيات الخيرية من الخارج. في تلك الأثناء كان كالهون قد علِم من مصادرَ في فيلادلفيا أن كريسون «ضعيفُ العقل» وأن «البقية الباقية من عقله مشوَّشة إلى حدٍّ كبير». وهو ما أدَّى إلى إلغاء تعيينه قنصلًا. وبمنتهى البساطة تجاهلَ كريسون الأوامر، واستمر في مساعدة اليهود. وخلال اجتماعٍ مع المؤلِّف الساخر البريطاني ويليام ثاكيري، وهو مؤلِّف كتاب «فانيتي فير»، شرح كيف ستقوم بلاده عما قريب — بالتنسيق والتعاون مع القوى الأوروبية — بالتدخُّل لضمان تأسيس دولة مستقلة لليهود. فكتب ثاكيري: «كريسون ليست لديه أيُّ معرفة بسوريا إلا ما يستقيه من النبوءات، وأنا أشكُّ في أن تكون أيُّ حكومة قد استقبلت أو عيَّنت سفيرًا أو قنصلًا بهذا القدْر من الغرابة».15

استمرَّ كريسون في إبهار زوَّاره برؤًى للدولة اليهودية وبسلوكياته الغريبة الشبيهة بالغياب عن الوعي. ولكن كريسون لم يكن الأمريكي الوحيد المؤمن بعودة اليهود إلى وطنهم، ولم يكن كذلك بالضرورة أكثرَهم غرابةً. وبنفس القدْر من الغرابة وعدم التقليدية كانت هارييت ليفرمور، كاتبة الروايات والمغنِّية والشاعرة والواعظة المبشِّرة بعودة اليهود.

كانت ليفرمور ابنةَ عضو مجلس النواب عن نيو هامبشاير، وقد تحوَّلت من فتاة تتشبَّه بالرجال إلى آنسة بريئة، تتميز بالأناقة والعيون الداكنة، وفي سنواتِ ما بعد حرب ١٨١٢ رفضت طابورًا طويلًا من الشباب المتقدِّم للزواج بها. ولما رُفضت بدورها من طبيب شاب بالجيش، يئست تمامًا من خوض أي تجربة رومانسية، بحثًا عن حبٍّ أكبرَ وأسمى. فقالت: «تعبت من العالم، ويئست من أي أمل في سعادة دنيوية، ثم اتخذتُ قرارًا … أن أصبح متدينة». أخذها هذا القرارُ أولًا إلى الأبرشانية، ثم المشيخانية، فالكويكرز، لكنها لم تقتنع بأيٍّ منهم، فاتجهت إلى المعمدانية وأسَّست طائفةً خاصة بها، أسمتها الحاج الغريب. آمنت ليفرمور بأنها صاحبةُ قدرة على التنبؤ بالمستقبل، وأنها مبعوثة إلى الهنود الحمر، الذين آمنت أنهم من نسل الأسباط العشرة التائهة. ظهرت هذه وغيرها من الأفكار التي لا أساسَ لها في روايتها «دلائل من الكتب الدينية لصالح شهادة المرأة في الاجتماعات»، التي موَّلها بعضُ أهالي واشنطن ذوي النفوذ، ومنهم عضو مجلس الشيوخ جون تايلر ودوللي ماديسون. ووصلت تلك الطائفةُ إلى قمَّتها في عام ١٨٢٧، عندما خطبت ليفرمور في كلٍّ من مجلس الشيوخ ومجلس النواب. وقال جون كوينسي آدامز عنها: «إنها أكثرُ الخطباء الدينيِّين الذين سمِعتهم في حياتي بلاغةً. فلا توجد كلمات يمكنها أن توفيَها حقَّها من حيث إثارتها للمشاعر والأحاسيس».

حدَثت نقطة التحول في حياة ليفرمور بعد عشر سنوات، عندما جذبتها تقاريرُ عن إعادة توطين اليهود في فلسطين إلى الشرق الأوسط. فتسلَّحت بخطابٍ من وزارة الخارجية، يشهد «بنزاهتها واستقامتها الدينية والأخلاقية»، وزارت ديفيد بورتر في إسطنبول، ثم استقلَّت سفينةً بخارية إلى بيروت. في جنوب المدينة، في جبال صيدا، توقَّفت لزيارة السيدة هيستر ستانهوب، وهي سيدة بريطانية انطوائية في الخمسين من عمرها، كانت تعمل من قبلُ سكرتيرةً لخالها رئيس الوزراء، ويليام بيت. كانت ستانهوب أيضًا قد انتقلت إلى الشرق الأوسط أملًا في التشجيع على إعادة توطين اليهود في فلسطين. لكنها يئست من نجاحها في تلك المهمة، فاستأجرت قلعةً صليبية وأطلقت على نفسها «راهبة لبنان». ولأنهما كانتا من الجميلات في السابق وممن آمنوا بإعادة اليهود إلى موطنهم كان يجب أن تتفاهم السيدتان سريعًا، لكنهما تعاركتا حول أي منهما هي المختارة حقًّا، وأيهما ستصاحب الربَّ عند دخوله منتصرًا إلى القدس.

من صيدا تابعت ليفرمور رحلتها إلى المدينة المقدَّسة، فاستأجرت سكنًا متواضعًا فوق جبل صهيون. ومن هناك خطَّطت للإشراف على بناء مستعمرة تعليمية لليهود العائدين. ومثل الكثيرين من المؤمنين بالعودة، شاركتهم ليفرمور في فكرةِ أن كل الدول تتطلب أساسًا زراعيًّا، وأن المسيحيِّين لديهم واجبٌ ديني هو إعادة تعريف اليهود بالزراعة. سعَت ليفرمور إذن إلى رؤية المستعمرة كاملة ومنتهية، ثم إلى تخصيص حياتها للعبادة والتأمُّل «لمواجهة مصيرها … وهو الشهادة».

ولكن كان تمويل المستعمرة أكثرَ إرهاقًا وتكلفةً مما تنبأت به ليفرمور ومما توقَّعته، وسرعان ما نضبت مواردها. وبسبب رغبتها في «ما يقيم أودَها ويسدِّد ديونها ويعيدها إلى جبل صهيون فقط»، حاولت ليفرمور توزيعَ نسخ مطبوعة من محاضراتها وعِظاتها، ولكن الأمر انتهى بتسوُّلها في شوارع وطرقات مدينة القدس. غير أن التسول لم يُجدِ نفعًا. وغادرت ليفرمور فلسطين وهي على شفا الموت جوعًا، عائدةً إلى الولايات المتحدة منكسرةَ الخاطر. وتوفيت في عام ١٨٦٨ — شهيدةً بالفعل بالنسبة إلى البعض — في بيتٍ للفقراء بمدينة فيلادلفيا.16

ولكن ظلَّت فكرةُ عودة اليهود حيةً بوضوح، تمامًا مثل رؤية تحويل اليهود الذين كان معظمهم من أهل المدن إلى مزارعين فلسطينيِّين. وفي حين كانت أحوال هارييت ليفرمور تتدهور في القدس، وصل واعظٌ أمريكي آخرُ إلى المدينة، وكلُّه حماسة لبدء مشروع بناء المستعمرة. كان جيمس تيرنر باركلي طويلًا مهيبًا، لكن البعض كان يصفه بأن «له جرائم متواضعة». كان رجلًا من عصر النهضة — طبيبًا ومخترعًا ومهندسًا. وكان الناس ينبهرون بخطِّه، الذي وصفه أحدُ المصادر بأنه قادر على أن يكتب صلوات الرب بحروفٍ بلغ من صِغرها ودقَّتها أنه يمكن «كتابتها كلها على عملة من فئة الخمسة سنتات». وجاءت أهم إنجازات باركلي سلبًا في عام ١٨٣١، عندما اشترى مونتيتشيللو، وهي مزرعة جيفرسون الكلاسيكية، التي كان قد أصابها التدهور والدمار منذ زمن. حاول باركلي إعادةَ إحياء المزرعة من خلال إنتاج الحرير، لكنه فشل فشلًا ذريعًا. ومن بعدها اتَّجه للدين. فأصبح مشيخانيًّا، ثم انضم إلى طائفة أتباع كمبل، وهي حركة ألفية، تهدُف إلى إعادة حكم المسيح على الأرض. ومن أجل تحقيق هذا الهدف رحل باركلي في عام ١٨٥٠ إلى فلسطين.

ومثل ليفرمور سعى باركلي إلى تأسيس مستعمرة لإعادة تعليم وتأهيل اليهود للزراعة. لكنه سرعان ما واجه نقصًا مشابهًا في التمويل والموارد. أصابه الإحباط، فعاد أدراجه إلى ممارسة الهندسة، وحصل على عملٍ في ترميم قبَّة الصخرة. كما ألَّف كتابًا حقَّق مبيعات عالية، بعنوان «مدينة الملِك العظيم»، وفيه وصف مدينة القدس — تمامًا مثلما فعل ويليام تومسون قبل ذلك، كان وصفه مبهرًا، وأخذ من خلاله يدعو إلى فكرة إعادة توطين اليهود، تمامًا مثلما فعل جورج بوش من قبله. وأكَّد أن «الرب لم يطرد أبناءه (اليهود) الذين اعترف بهم من قبلُ؛ وكذلك يجب أن نفعل نحن أيضًا». بل كان رأيه أن المسيحيِّين يجب أن يتبنَّوا اليهود، قائلًا: «سنقف إلى جانبكم؛ لأننا سمِعنا أن الربَّ معكم».17

ساعدت مثل هذه الدعوات على صرفِ الانتباه عن فشل أصحاب دعوة عودة اليهود في تأسيس مركز دائم في فلسطين للمساعدة في إعادة اليهود إلى موطنهم، كما آمنوا. وقد سعى بروتستانت آخرون إلى تحقيق النجاح فيما فشِل فيه ليفرمور وباركلي، وإلى استكمال بناء المستعمرات في الأرض المقدَّسة. كان أكثر تلك الشخصيات لفتًا للأنظار وأكثرهم عنادًا وإصرارًا هي كلوريندا ماينور. كانت تابعةً للطائفة الأسقفية طوال عمرها، ومتزوجة من رجل أعمال ثري من فيلادلفيا، وفي مرحلة منتصف العمر أصبحت ماينور من السبتيِّين (المجيئيين)، ثم بدأت في الاستعداد لليوم الآخر. وفي ملاحظةٍ لها قالت: «يُظهِر عددٌ كبير من المسيحيِّين الكثيرَ من التعاطف نحو اليهود، وينتظرون … الزمنَ المحدَّد لدعم صهيون». وحسبت ماينور «الوقت الموعود» فتوصَّلت إلى أنه «وشيك»، وفي عام ١٨٥١ تركت زوجَها وأبحرت إلى فلسطين، قائلة: «كانت قناعةُ روحي تزيد في كل ساعة أن الرب يناديني للذهاب!»

بعد الوصول إلى يافا بقليل، قابلت ماينور جون ميشولام، وهو يهوديٌّ بريطاني كان قد تحوَّل إلى المسيحية، وكان يشارك ماينور رغبتَها في تعريف اليهود «بأنشطة محبَّبة». ولكن جهودهما — مثل سابقيهما — توقَّفت بسبب نقص التمويل. وعلى ذلك توجَّهت ماينور إلى أصدقائها في الولايات المتحدة، الذين أجابوا طلبَها بإرسال سبعة متطوِّعين، وخيام وأدوات وبذور وأدوية بقيمة ٢٥٦ دولارًا. فجرى شراء قطعة أرض قابلة للزراعة بالقرب من قرية أرطاس، بالقرب من بيت لحم، وأُسست مدرسةُ الزراعة للأعمال اليدوية لليهود في الأرض المقدَّسة. كما قدَّم البارون موسي مونتيفيوري، وهو رجل خيِّر يهودي من أصول إنجليزية، دعمًا إضافيًّا لهما؛ لأنه كان يرحِّب بأي مساهمة في تأسيس مستعمرة يهودية في فلسطين. وقد تنبَّأت ماينور في كتابها «مدٌّ من القدس» الذي حقَّق مبيعات ضخمة، تنبَّأت بأن «زمن دعم الرب لصهيون قد آنَ، وأن الرب سيمُدُّ يده مرةً أخرى لإعادة مجدِ بني إسرائيل». وقد بدا وقتَها أن نبوءتها ستتحقق.18

ولكن خلال سنتين، كانت مجموعة أرطاس قد تفكَّكت. وقد حدَث الشِّقاق أولًا بسبب رفض اليهود إظهارَ ولو قدرًا ضئيلًا من الاهتمام بالزراعة، ولكن السبب الأكثر تأثيرًا الذي قضى على المشروع تمامًا، كان الخلافَ الذي نشأ بين ماينور وميشولام. ورغم ذلك ظلَّت «تابيثا الحديثة» — كما كانت ماينور تسمَّى أحيانًا — على تفاؤلها، فانتقلت من أرطاس إلى مزرعةٍ صغيرة خارج يافا، وأسمتها «جبل الأمل». وأهداها مونتيفيوري بستانَ برتقال، فتمكَّنت من العيش بصعوبة، بمساعدة اثنين من المبشِّرين الألمان، هما يوهان وفريدريش جروسشتاينبيك. وبثَّت رسالةً إلى اليهود الأمريكيِّين عبْر جريدة «أوكسيدنت» اليهودية قائلة: «إذ أمكن لأصدقائنا العبريِّين في الولايات المتحدة أن يساعدونا، فسنقدِّم لهم … حسابًا تفصيليًّا لكل نفقاتنا. لا تضيعوا الفرصة، ولا تتركوا المعذَّبين للفَناء». ولكن وصلتها عدةُ تبرعات زهيدة فقط. وعلى ذلك فشِلت فكرةُ المزرعة، وأشهرت ماينور إفلاسها. ثم ماتت في عام ١٨٥٥ عن عمرٍ يناهز التاسعة والأربعين.

ورغم ذلك ثابرَ بعض البروتستانت الآخرين. فبعد وفاة ماينور اشترى مزرعةَ «جبل الأمل» واردر كريسون، وهو قنصلٌ عيَّن نفسَه بنفسه، وكان شخصيةً لها بعض السِّمات الخاصة المختلفة عن غيرها، ورأى كريسون في مستقبل المزرعة «مزرعة أمريكية نموذجية» لتعليم اليهود كيفيةَ زراعة الأناناس والموز والليمون. قريبًا منهم كان والتر ديكسون من مدينة جروتون بماساتشوستس قد أسَّس مستعمرةً أخرى لليهود. كان ديكسون قد عيَّن الأخوين جروسشتاينبيك اللذين كانا قد تزوَّجا ابنتيه ألميرا وماري. وبسبب تكرار مطاردة البدو لهم سعَت البعثة الأمريكية الزراعية — كما كان ديكسون يطلِق على مشروعه — إلى طلب المساعدة من البحرية الأمريكية، التي استجابت بإمداده ببعض الأسلحة والذخائر. وبذلك أُبعِد هؤلاء المتطفلون مؤقتًا، وتمكَّنت المستعمَرة من البقاء والاستمرار.19

•••

على مدى أربعين عامًا، بدءًا بليفي بارسونز وبليني فيسك في عام ١٨١٩، استمر الأمريكيون في بذلِ مجهوداتهم لبثِّ دعائم إيمانهم وقناعاتهم الدينية والدنيوية في الشرق الأوسط، في بعض المناطق البعيدة منها، وفي قلب فلسطين أيضًا. ولكنهم لم يكونوا الوحيدين في هذا المجال. فالمبشِّرون من فرنسا وبريطانيا وروسيا وبروسيا كانوا قد اقتحموا المنطقةَ أيضًا، مؤسِّسين مدارسَ ومستشفيات ومستعمرات. وقد اشتكى البروتستانتي ويليام إيدي من لبنان من أن «أوروبا تسعى للتفوق على أمريكا في التعليم والوعظ في هذا البلد». ولكن لم تستطِع أيُّ دولة أن تنافس التوسُّع الجغرافي والنطاق الحرفي الواسع واستثمار الموارد البشرية والمالية للبعثات الأمريكية إلى الشرق الأوسط.

ظل ولاء المبشِّرين يمثل انعكاسًا للأدوار التي وهب أمريكيو القرن التاسع عشر أنفسَهم لها باعتبارهم منفِّذي المصير الحتمي، وأيضًا باعتبارهم حمَلَة ثمار عصر النهضة الصناعية وثورتها، وحاملي لواء الديمقراطية في العالم. وكانت الحماسة التبشيرية دالةً أيضًا على الحاجة الأمريكية المستمرة لحدودٍ جديدة، وتجارب طازجة، وإلى التحرُّك قُدُمًا. ومن خلال ملاحظته لتلك الاحتياجات، علَّق المفكر السياسي الفرنسي أليكسيس دي توكفيل على «الحماسة الصاخبة» للأمريكيِّين، قائلًا: «يبدو وكأن قوةً خارقة موجودة بوفرة لديهم … تدفعهم. وهو عدم استقرار غريب، حتى في وسط تلك الوفرة.»20 ولكن عدم الاستقرار هذا لم يكن مقصورًا على البروتستانت. فقد غامر عددٌ كبير من الأمريكيِّين — من ربَّات المنازل والمهنيِّين والفنانين ورجال الأعمال، وحتى العبيد — إلى الشرق الأوسط في فترةِ ما قبل الحرب الأهلية، منجذبين إلى المنطقة، تدفعهم قناعاتُهم الدينية، والأكثر من ذلك، أحلامهم الواسعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤