الفصل التاسع

الشماليون والجنوبيون على ضفاف نهر النيل

يمكن تلخيصُ التأثير البعيد المدى للحرب الأهلية على مصر في كلمة واحدة؛ القطن. فقد اشتُهرت مصر منذ قديم الأزل بإنتاجها من الكتان وغيره من المنسوجات الراقية، إلى حدِّ أن كلمة cotton الإنجليزية مشتقَّة من كلمة «قطن» العربية؛ وعام ١٨٢٠ استوردت مصر بذورَ القطن الجديد من نوعية جوميل. كان هذا القطن عالي الجودة وطويل التيلة، وسرعان ما أصبح النوعَ المفضَّل لدى مصنِّعي المنسوجات في أوروبا. وتضاعفت مبيعات هذا المحصول، مما زاد من ثروة محمد علي، الذي سعى إلى احتكار سوقه العالمية. ولاحظ زائرٌ غربي لمصر أن «كل فدان في وادي النيل كان مخصصًا لزراعة القطن، فالحقول كلها مغطَّاة بالزهور البيضاء، وتدور أحلام الفلاحين كلهم حول القطن». وكان ويليام هودجسون — وهو الأول في قائمة طويلة من المستعربين في وزارة الخارجية الأمريكية — قد زار مصر عام ١٨٣٤، وقارن بينها وبين «مزارع الجنوب في أمريكا»، وانتهى إلى أنها خصبةٌ للغاية، ولكنَّ الفلاحين المزارعين في أسوأ حال. وأكَّد هودجسون لرؤسائه أنه مع ذلك «لم يؤثِّر سوءُ الإدارة هذا على جودة القطن المصري، الذي تهتم الولايات المتحدة به في المقام الأول».
اتسعت رقعة إنتاج القطن المصري عام ١٨٣٧، باستيراد مصر أولَ آلة حلج من الولايات المتحدة. تأثَّر محمد علي بهذا الاختراع إلى حدِّ أنه قام عام ١٨٤٦ بتعيين د. جيمس ديفيز، المزارع من كارولينا الجنوبية، لتطبيق الأساليب الأمريكية لزراعة القطن. وصل ديفيز إلى مصر مع أربعة من «العاملين السود»، وكلُّه حماسة للعمل، فقط ليواجه إحباطًا كبيرًا بسبب البيروقراطية المصرية المشينة. وعاد ديفيز، إلى موطنه بمدينة كولومبيا بعد عامين وقد فقدَ إحدى عينيه بسبب حادث أثناء العمل، حاملًا تسع عباءات من الفرو قدَّمها له الحاكم المصري هديةً.1

كانت مصر لا تزال تعتمد على أساليبَ بدائية في الزراعة؛ لذلك لم تتمكَّن من منافسة الإنتاج الضخم والأرخص سعرًا للولايات الأمريكية الجنوبية، الذي استمر في تلبية المتطلبات الأوروبية. ولكن هذا التوازن المختل تغيَّر تمامًا بنشوب الحرب الأهلية. فقد منع الانفصاليون تصديرَ القطن الأمريكي إلى أوروبا، في محاولةٍ منهم للضغط على بريطانيا وفرنسا لمساندتهم، بالإضافة إلى أن تبِعات الحرب كان لها أثرها أيضًا؛ اجتمعت كلُّ تلك العوامل على حرمان محالج أوروبا من خاماتها الطبيعية، وزاد سعر القطن المصري أربعة أضعاف، وارتفع كذلك سعر الفدان المصري المخصَّص لزراعته. وسعد قادة الاتحاد بذلك أيَّما سعادة. فقال وزير الخارجية سيوارد: «إن زيادة الرقعة المنزرعة بالقطن … في مصر له أهميةٌ كبرى لبلادنا … فالولايات الجنوبية التي انقلبت علينا ستكون عمياءَ عن مصلحتها إذا لم ترَ كيف يتلاشى ازدهارها وكل آمالها، عندما ترى مصر … وهي تمدُّ العالَم باحتياجاته من القطن.» وبلغ الأمر بواشنطن أن أرسلت مندوبًا إلى القاهرة لحثِّ المصريِّين على زيادة المساحات المزروعة بالقطن. وفي الوقت الذي كانت فيه بالات القطن تصاب بالعفن في موانئ الانفصاليِّين، ارتفعت الصادرات المصرية منه إلى عَنان السماء، من ٧ ملايين دولار عام ١٨٦١ إلى ٧٧ مليونًا بعدها بأربع سنوات فقط؛ أي بزيادة مقدارها ١١ ضعفًا.

وذهب معظم هذا الدخل إلى يد رجل واحد، هو إسماعيل، حفيد محمد علي. فقبل وصوله إلى الحكم بعد وفاة عمِّه سعيد عام ١٨٦٣، كان إسماعيل في الثانية والثلاثين من عمره، وكان من أكبر ملَّاك الأراضي الزراعية في مصر، ومهتمًّا للغاية بتطبيق أحدث التكنولوجيا الزراعية. وكان كتومًا وذكيًّا وطموحًا، وقد تلقَّى تعليمه في مدرسة سان سير. قرَّر سعيد باشا أن يستغل ثروته وثروة مصر المتنامية في تحويل بلاده إلى قطعة من أوروبا. فزيَّن مدنَ مصر بقصور ضخمة فخمة وطرقٍ حديثة، وأسَّس مجلسًا استشاريًّا على غرار النمط الغربي، ضمَّ عددًا من النواب، وشقَّ العديد من قنوات الري في الصحراء، ومدَّ خطوط السكك الحديدية والتلغراف. ومثل لنكولن، ألغى سعيد باشا نظامَ السُّخرة، الذي قام بموجبه ٢٠٪ من الفلاحين بشقِّ قناة السويس قهرًا وغصبًا، وساعد على تأمين وحدة مصر عن طريق شراء لقبٍ يورَّث هو لقب الخديوي من العثمانيِّين. ولم تكن أيٌّ من تلك الإنجازات أهدافًا في حدِّ ذاتها، بل كانت وسائلَ لتحقيق هدف إسماعيل باشا النهائي، وهو الاستقلال بمصر عن الدولة العثمانية. ولتحقيق ذلك كان بحاجة إلى جيش قوي.

لذلك قرَّر الخديوي إسماعيل الحصولَ على أحدثِ الأسلحة والمعدَّات لجنوده، بالإضافة إلى استقدام طاقم من المستشارين الغربيِّين لتدريبهم.2 وكان العُرف قد جرى على قيام الحكام المصريِّين بتعيين ضباط فرنسيين وبريطانيِّين مدرِّبين عسكريِّين، ولكنَّ إسماعيل كانت لديه شكوك بأن القوى الأوروبية تخطِّط لضم بلاده إلى إمبراطورياتها. وعلى العكس من ذلك، كانت الولايات المتحدة قد اشتُهرت حديثًا بأن قوَّتها الحربية تتساوى مع قوة أي دولة أوروبية وهي أيضًا لم تُظهِر قط أيَّ اهتمام استعماري بمصر.

ماضٍ رتيبٌ وعلاقات فاترة

لم تكن مصر محورَ اهتمام الأمريكيِّين على الإطلاق على عكس سوريا وفلسطين، اللتين كانتا مركزًا لنشاطٍ تبشيري أمريكي كبير. ومع أن الولايات المتحدة كانت لها قنصليات في الإسكندرية والقاهرة، وأن صنَّاع السفن الأمريكيِّين كانوا يمدُّون البحرية المصرية بالسفن، فإن التجارة بين البلدين ظلَّت هامشية للغاية. وكان النشاط التبشيري محدودًا جدًّا في بلاد النيل، حيث لم تُبن مدرسةٌ واحدة ولا مستشفى واحد قبل عام ١٨٦١. في تلك الأثناء لم تكن الحكومة الأمريكية تُظهِر أيَّ اهتمام بالشئون المصرية، ولا حتى عندما دعا الفرنسي فرديناند دي ليسبس صاحبُ فكرة قناة السويس الولايات المتحدة إلى الاشتراك في هذا المشروع عام ١٨٥٧، متنبئًا بأن تلك القناة «ستقصِّر المسافة البحرية بين بومباي ونيو أورلينز وبوسطن ونيويورك بمقدار ١١١٠٠ كيلومتر»، لم يكلِّف الرئيس بوكانان نفسَه حتى عناء الردِّ عليه. وكانت الاتصالات بين مصر وواشنطن مقصورةً على تبادُل الهدايا في المناسبات، مثل النموذج المصغَّر لأبي الهول الذي تلقَّاه بوكانان مسرورًا، ومصرحًا بأنه «تمثال غريب الشكل».

ومع أن العلاقات بين مصر وأمريكا كانت دائمًا وديةً، إلا أنها أصبحت فاترةً بوجود القوات المصرية في المكسيك. ولكن مهما كانت المنغِّصات التي سبَّبتها مصر لواشنطن بسبب تعاونها مع فرنسا، فإن تعاون مصر في مقاطعة قطن الولايات الجنوبية وازنَ ذلك تمامًا. وقد رحَّب تشارلز هيل — وهو القنصل نفسه الذي هدَّد بغزو مصر — بزيادة ثروة مصر عن طريق مبيعات القطن. وكتب: «أظهر حكامُ مصر دومًا الودَّ نحونا، وقدَّروا وضعنا واحترموا حقوقنا.» وبعد النزول في فيرا كروز بعام واحد؛ أي في ديسمبر ١٨٦٤، أعلن لنكولن أمام الكونجرس أن «علاقاتنا بمصر مُرضية للغاية».3

•••

ولكن من وجهة نظرِ إسماعيل كانت العلاقات «المُرضية» مع الولايات المتحدة غيرَ كافية. وعن طريق متابعته الدقيقة عن قُرب للحرب، انبهر الخديوي بكفاءة الأسلحة الأمريكية وقوة صناعة الشمال. ولاحظ أيضًا السرعةَ التي استعادت بها الولايات المتحدة قوَّتها ووضعها القوي ضمن دول العالم. وآمن إسماعيل بأن الأمريكيِّين مقدَّر لهم أن يلعبوا دورًا مهمًّا في شئون العالم، وأنه يمكنهم مساعدةُ مصر في سعيها نحو الاستقلال. ولم يكن المستشارون العسكريون الأمريكيون ليحدِّثوا الجيش المصري فحسب، بل كانوا سيمدُّون أيضًا جسرًا بشريًّا بين مصر وهذه القوة المتنامية التأثير. وقبل ذلك بخمسين عامًا، كان جَد إسماعيل الأكبر قد عيَّن المغامر جورج بيثون إنجليش لتحديث جيشه، ولكن الخديوي سعى آنذاك إلى تعيين عدد كبير من أقرانه في بلدٍ يبعُد عنه آلاف الأميال ودون أي تاريخ سابق للتعاون مع مصر. ولمساعدته في هذه المهمة الصعبة، ولتنفيذ ذلك اتَّجه إسماعيل إلى أمريكي غير تقليدي بالمرة.

كان من الممكن أن يكون ذلك الأمريكي قد اقتُلع من إحدى روايات المغامرات — كان ممتلئ الجسم وذا لحية، مخاطرًا ومتميزًا. وحين قابل إسماعيل عام ١٨٦٨، كان تاديوس موت قد خدَم بصفته ضابطًا في الجيشَين المكسيكي والإيطالي، وبحث عن الذهب في كاليفورنيا، وأبحر إلى الشرق الأقصى، وترأس سلاح فرسان الاتحاد في لويزيانا. وهو أيضًا ابنُ الطبيب فالنتاين موت، الجرَّاح النيويوركي، الذي كان قد جاب مصر والشرق الأوسط في الأربعينيات من القرن التاسع عشر. ومنذ ذلك الحين كان قد حافظ على علاقةٍ حميمة مع السلطات العثمانية. تبِع تاديوس والده إلى إسطنبول، وتزوَّج من ابنة إقطاعي عثماني ثري، وتعلَّم اللغة التركية وتحدَّثها بطلاقة، وأصبح ذا مكانة في بلاط السلطان. وهناك، في إحدى الحفلات الملكية، قابل موت إسماعيل ونجح في تركِ انطباع جيد لديه، وعلى الفور عرض عليه الخديوي رتبةَ جنرال ومهمة تجنيد الضباط الأمريكيِّين السابقين للعمل ضباطًا في الجيش المصري.

قبِل موت المهمةَ، وعند عودته إلى الولايات المتحدة نقل طلبَ إسماعيل لعدد من الجنرالات الانفصاليِّين السابقين، منهم بوريجارد وجونستون وبيكيت، وكذلك إلى العميد الاتحادي فيتز جون بورتر، ابنِ أخي ديفيد بورتر. ولم يُظهِر أيٌّ منهم أدنى اهتمام بالخدمة في مصر أو المساعدة في إيجاد محاربين قدامى يقبلون تلك المهمة. ولكن بورتر قدَّم موت إلى ويليام تيكومسيه شيرمان، القائدِ ذي اللحية الخشنة، الذي كان يشغَل حينها منصبَ القائد العام للقوات المسلحة الأمريكية. ومع أنه كان عنيفًا في قضائه على الانفصاليين، فإنه كان متعاطفًا مع الجهود المصرية للانفصال عن الباب العالي. وكان متحمسًا لإيجاد وظائفَ للكثيرين من الضباط المتمرسين ذوي الخبرة، الذين شاركوا في الحرب الأهلية، سواء بجانبه أو ضدَّه، واضطُر الجيش للاستغناء عنهم.

أحدُ هؤلاء القادة كان ويليام وينج لورينج، الذي اختير لقيادة المستشارين الأمريكيِّين. وكان قد نجا من المعارك ضد قبائل الهنود الحمر والمكسيكيِّين والمورمن وفقدَ ذراعًا، كان محاميًا سابقًا وسياسيًّا من فلوريدا اشتُهر بنزاهته التي لا تتزعزع. وكان يقطُن منطقةَ الحدود، وقاد في إحدى المرات كتيبةً لمسافة ٢٥٠٠ ميل إلى أوريجون دون أن يفقد جنديًّا واحدًا. كان قصيرًا ممتلئ الجسم ذا حماسة متقدة، وقد وقف في مواجهة كتيبة من الشماليِّين في فيكسبرج، مشجِّعًا جنودَه على القضاء عليهم، ثم احتمل بعدَها بشجاعةٍ ألمَ طلقةٍ استقرت في صدره. ولم يكن لورينج غريبًا عن الشرق الأوسط؛ فقد عمِل في سلاح الهجَّانة بالجيش في فورت ديفاينس، ثم جاب الدولة العثمانية قبيل ضربِ قلعة «فورت سمتر». وكان قد ملَّ عملَه مستشارَ استثمارات في نيويورك، فتلقَّى بلهفةٍ عرضَ شيرمان ودعوتَه.

وكذلك فعل تشارلز بومروي ستون، الخريج اللامع في كلية ويست بوينت الحربية، واللغوي الذي انتقده التاريخَ فيما بعدُ باعتباره «جنديًّا سيئ الحظ» ودرايفوس الأمريكي. تطوَّع ستون مبكرًا في صفوف الشماليين، وعُيِّن لقيادة دفاعات واشنطن العاصمة، ولكن سرعان ما ألقي عليه اللوم بسبب هزيمة الاتحاد في بولز بلاف، وسُجِن ستة أشهر دون محاكمة. ومع انكساره المعنوي والبدني — بسبب وفاة زوجته أثناء سَجنه — فقد تمكَّن من العودة إلى الخدمة، فقط ليُلقى عليه اللوم مرةً أخرى بسبب هزائم إضافية مُني بها الاتحاد. ثم عمِل أخيرًا في إدارة أحد المناجم بفرجينيا، وهناك عثر عليه شيرمان عام ١٨٦٩، بائسًا ومتطلعًا لأي تغيير.

أصبح لورينج المفتش العام لقوة المستشارين الأمريكيِّين، وأصبح ستون رئيس الأركان. وانضم إليهم في البداية ١٨ عسكريًّا، منهم الكولونيل صامويل لوكيت، الشاعر والفنان ومصمِّم دفاعات الانفصاليِّين في فيكسبرج؛ ومن جيش شمال فرجينيا جاء العميد رولي كولستون، والقبطان ويليام بريجز هال، الذي حرَّر سفينة عبيد قرب أفريقيا، ثم أبحر نحو الجنوب بجرأة تامة. وصاحبَ هؤلاء الانفصاليِّين السابقين صديقٌ شخصي للرئيس لنكولن، هو المستشار العقيد فاندربيلت آلن، وهو سليل عائلة فاندربيلت حديثي الثراء، وكذلك القبطان يوجين فيشيت من ميشيجان، الذي شارك في كل المعارك الرئيسية من شيلوه وحتى أتلانتا.4 ومع أنَّ هؤلاء المحاربين القدامى كانوا من ألدِّ الأعداء قبلها بسنوات قليلة فقط، فإنهم استقلوا السفينةَ نفسها، وعانوا دُوار البحر معًا، ونزلوا الإسكندرية في أغسطس عام ١٨٦٩، مرتبكين ولكنهم متَّحدون بصفتهم أمريكيِّين في الشرق الأوسط.

البناءون العظام

تزامن وصول الأمريكيِّين مع فترةٍ مشئومة في مصر. فالازدهار الاقتصادي الذي أشعلته الحرب الأهلية كان قد تبخَّر فجأة، بسبب حلول السلام. وتبعًا لذلك هبط سعر القطن المصري أيضًا. وكانت سنوات الوفرة قد تركت آثارها على مصر، في شكل تراث معماري مذهل تمثَّل في دار الأوبرا المصرية، حيث قُدِّمت أوبرا عايدة للموسيقار الإيطالي فيردي لأول مرة عام ١٨٧١، وبُنيت مدينة الإسماعيلية القريبة من القاهرة، وأُقيمت فيها قنوات وجسور على نُظُم متقدمة، وأُنشئ منتجع علاجي على الطراز الأوروبي في ضاحية حلوان. أما أكثرها روعةً فكانت قناة السويس، التي افتُتحت رسميًّا عام ١٨٦٩، وأُقيمت لذلك ثلاث ليالٍ من الاحتفالات، دُعي إليها ملوك أوروبا، وقد كانت تلك واحدةً فقط من بين العديد من الحفلات الباذخة التي أقامها الخديوي. ولكن مع هذا كلِّه، فقد أثقل الخديوي كاهلَ الشعب المصري بدَين وصلت قيمته إلى ١٠٠ مليون دولار. وحينذاك، لم يَعُد التعامل بالقطن مقبولًا تأمينًا للدَّين، وطالبت القوى الأوروبية بحق التدخُّل في الشئون المالية المصرية.5

ولم يظهر شبحُ الإفلاس هذا للأمريكيِّين أثناء رحلةٍ قاموا بها من الإسكندرية لزيارة معالم مدينة القاهرة. فبالإضافة إلى الأهرامات، زاروا القاعةَ التي استضاف فيها محمد علي عام ١٨٠٤ قائدَ العبارة البحرية بارون مع رجال أسطول البحر المتوسط. ولكنها لم تترك انطباعًا قويًّا لدى هؤلاء الضباط، أما ما ترك أثرًا كبيرًا فيهم فكان حالة الشوارع الصاخبة القذرة، والبيك المحلي الذي أكثرَ من الشكوى بسبب وصول عدد من الأمريكيِّين، قائلًا إنَّ على بعضهم العودة إلى بلادهم. كان جيمس موريس مورجان شابًّا مغامرًا في الرابعة والعشرين من عمره، هو مَن أوصلَ ختم الانفصاليين إلى البريطانيين، ثم أصبح المرافق الشخصي لجيفرسون ديفيز، وقد أجاب على البيك بدعوته إلى المبارزة. ومع عِلم ستون أن تلك الدعوة كانت من قبيل الخداع فقد وافق عليها. ولكن البيك تراجع عن شكواه، وأوصل ضيوفه إلى فندق أورينتال، حيث قام خيَّاط ملابس إيطالي بتفصيل ملابس سوداء للضباط، وكانت حسب قول مورجان «كأنها صورةٌ طبق الأصل من رداء قس مشيخي».

انتقل الضباط من الفندق عبْر النيل إلى طرقٍ اصطفَّ على جانبيها النخيل، وإلى عالَم آخر؛ أعمدة مصفوفة وسجاجيد فخمة وثريات متدلية، وكان ذلك هو قصر الجزيرة. ومشدوهًا قال الملازم أول تشارلز إيفرسون جريفز: «الشرق بكل فخامته وسِحره، والغرب بحضارته وذوقه الراقي قد اجتمعا هنا.» كان إيفرسون جريفز خريجًا في جامعة أنابوليس، عريضَ الكتفين، وقد قبِل العمل في مصر ليتمكَّن من الإنفاق على زوجة وخمسة أطفال يعيشون في مزرعته المتعثِّرة في جورجيا. وأضاف: «التناغم والتمازج قد اجتمعا معًا لتشكيل مكان سكن مثالي لم يُشاهَد مثله منذ جنة عدن.» وأخيرًا سُمح لهم بالدخول إلى البلاط الداخلي، وهم يحاولون جاهدين تقليدَ انحناءات رئيس التشريفات، ثم شرفوا أخيرًا بمقابلة الخديوي. وعند هذا الحد تلاشى انبهارهم. فقد كان الخديوي إسماعيل سمينًا قصيرَ القامة، وكانت لديه عادةُ إغلاق أحد جَفنيه عند الحديث، وكانت هيئته عامةً تثير الرِّيبة في محدِّثه. أما كلماته، التي ألقاها بالفرنسية، وترجمها الملازم تشارلز شاييه لونج، فقد أثَّرت فيهم كثيرًا. فعند ذكرِ فترة خدمتهم الأخيرة في الحرب الأهلية، وتماسُك ونزاهة الولايات المتحدة، مدحَ الخديوي «حماستهم والتزامهم وتقديرهم السليم» في مساعدة مصر على تحقيق استقلالها. وأعلن: «عندما يحدُث ذلك، إن شاء ﷲ، سأمنحكم أرفعَ وأعلى أوسمة الشرف.»6

ومن أجل استحقاقِ هذا التقدير الكبير شرع الأمريكيون في العمل فورًا. فأسَّس ستون مقرًّا في القلعة المطلة على القاهرة، في جناحٍ كان مخصصًا يومًا ما لحريم محمد علي. وهناك كوَّن أول هيئة للأركان العامة في الجيش المصري، وأسَّس مكتبةً بها ما يقرُب من ٤٠٠٠ كتاب والعديد من الخرائط، بالإضافة إلى مطبعةٍ لطبع مواد التدريب وكتيباته. وعلى نهج النموذجين البريطاني والأمريكي، وضع أولَ قواعد للسلوك والآداب داخل الجيش المصري. في تلك الأثناء كان لورينج يقوم بحصرٍ للأسلحة المصرية التي تلزم مصر من أجل الدفاع عن نفسها. وكانت النتيجة سيئة. فقد كان الجيش يمتلك عددًا محدودًا من المدافع، معظمها عفا عليه الزمن، ولم يكن يمتلك أيَّ ذخيرة على الإطلاق. وكانت كل المدافع متداعية، والاتصالات بين الفِرق المختلفة، سواء عن طريق السكك الحديدية أو الاتصالات السلكية، منهارة تمامًا. والأسوأ من كل ذلك كانت حالة الجيش ذاته، وقد وصفه لورينج بأنه «من العصور الوسطى». فقد كان مكوَّنًا من أربعين ألف فلاح ذي ثياب رثَّة، وغير ملتزمين بأي نظام، وقد درَّبهم ضباطٌ عديمو الخبرة على نمط تدريبات حروب نابليون.

كان إصلاح تلك الحالة مهمةً شاقة وعسيرة، وقد قسَّمها ستون ولورينج بينهما. فتولَّى الجنرال الوحيد الذراع مسئوليةَ الدفاع عن ساحل البلاد. وبمساعدة المهندس وقائد السفن الحربية للانفصاليِّين إبَّان الحرب الأهلية الكولونيل بيفرلي كينون، صمَّم لورينج سلسلةً من الحصون الخفية على طول الساحل الاستراتيجي من الإسكندرية وحتى رشيد، مغطيًا إياها بمدافعَ قوية. وتولَّى ستون أمرَ إعادة تأسيس الجيش من الصفر. وكان يساعده في ذلك ألكسندر رينولدز، عميدُ معارك شيكاموجا وأتلانتا، وابنه فرانك، الذي كان الثاني على دفعته لدى تخرُّجه في كلية ويست بوينت الحربية؛ أما أول الخريجين فكان جورج أرمسترونج كستر، وهو سليلُ عائلة من فيلادلفيا كانت قد انحازت إلى الجنوب. كان هنري سيبلي قائدًا آخرَ من قادة التمرُّد الانفصاليِّين، وهو أيضًا مخترع الخيمة المخروطية الشكل ذات الوتد الواحد، وكان رفيقَ سفر سابقًا ليوليسيس جرانت، وقد تولَّى سلاح المدفعية. وقسَّم ستون والعاملون معه الجيشَ إلى كتائب، وأسَّسوا هيئتين لتنظيم المبيت والسكن من ناحية، وتنظيم دفع الرواتب من ناحية أخرى، وشيَّدوا مصانعَ لإنتاج الأسلحة.

أسَّس الأمريكيون لمصر جيشًا حديثًا، وعن طريقه قدَّموا لها فرصةً للحفاظ على استقلالها يومًا ما. ولكن كما تعلَّم إسماعيل أن بناءَ القصور والحدائق واستصدار القوانين لا يضمن سيادةَ مصر، فإن الأمريكيِّين أيضًا فهِموا أن الأزياء والتكتيكات وحدَها لا تصنع جيشًا متحدًا. أما الحاجة الحقيقية فكانت إلى أفكارٍ محفِّزة، مثل حبِّ الوطن والانتماء والالتزام بالواجب نحو المجتمع. وكان العسكري المصري يجد صعوباتٍ في تعلُّم مثل تلك الأفكار الغريبة عليه، ولكن دون القدرة على قراءة كتاب أو جريدة — وهي مهارة كان يفتقدها ٩٠٪ من الجنود وثلث الضباط — كانت المهمة تقترب من المستحيل. ولعلاج هذا النقص، أسَّس المستشارون مدرسةً في العباسية، لنحو ١٥ ألف ضابط مكلَّفين وغير مكلَّفين للتدريس باللغة العربية. ووصل عددٌ كبير من هؤلاء بصحبة أبنائهم، مطالبِين بأن يتلقى أبناؤهم تعليمًا أيضًا. ووافق ستون على أنه «من حق أي ضابط أن يصحبه ابنُه من أجل التعليم». وسرعان ما كان نحو ثلاثة آلاف طفل مصري في ملابسَ أنيقة يدرسون في مدارسَ ابتدائية كوَّنها المحاربون الأمريكيون السابقون. وقال لوكيت تعليقًا على ذلك: «الجيش هنا هو صانعُ الحضارة والتحضُّر، أما الجنرالان ستون ولورينج فهما المعلِّمان.» وفي ثلاث سنوات، صار ثلاثة أرباع الجنود يجيدون القراءةَ والكتابة.

وهكذا أصبح ممثلو القوة الأمريكية في الشرق الأوسط وسطاءَ لنقل الإيمان المدني إلى الشرق الأوسط، وكان الخيال أيضًا حافزًا ودافعًا كبيرًا لهم. فعندما ارتدى الضباط زيَّهم الأزرق الجديد، وأكتافهم وأحزمتهم موشَّاة بالذهب، وسراويلهم وعماماتهم جديدة، تباهى مورجان بأنه «لامع كالبرق، بحيث يمكنك أن تتوقَّع قدومَ الرعد»؛ لذلك كان يُحْتَفل بهم بدعواتٍ مكثَّفة إلى الحفلات والسهرات، واستمرت الاحتفالات الدولية بضباط اسماعيل أسبوعًا كاملًا. وكانت هذه الحفلات «مبهرة وأكبر من القدرة على الاحتمال» من وجهة نظر الكولونيل ويليام ماكنتاير داي، الذي كان عضوًا سابقًا في سلاح المشاة بويست بوينت وأيوا، فجَمال السيدات وأناقتهن وملابسهن الملوَّنة وهن يتناولن الشراب المسكِر في سرادقات مُخملية جعلته يتأوَّه. فقال: «لقد وصلت إلى حدود الخيال، وكل شيء يتراقص أمام ناظري كحُلم جميل.»7

ولكن سرعان ما تبخَّر جَمال تلك الصورة. فمثلُ كثير من الزائرين الأوائل للمدينة الذين انبهروا في البداية ثم أصابهم الإحباط بسبب الحقيقة والواقع، أصاب واقعُ الشرق الأوسط الضباطَ الأمريكيِّين بالإرهاق. فعبَّر لورينج عن احتقاره للإسلام، واتهمه بأنه دِينٌ «وُلد على حد السيف ومعارِض لأي تنوير، وهادم لكل فكر أو نشاط مستقل». واشتكى أيضًا من أنه يُعلَّم شباب المسلمين «نفس الدروس البربرية … التي قادت أسلافهم إلى العنف والإجرام»، لكنه كان يأمُل أن يظهر «لوثر عربي» ليضعَ حدًّا «لهذا التلقين للكره». وعلى العكس من ذلك، انبهر الملازم جريفز باحترام وتقديس المسلمين ليسوع المسيح. فقد قال: «في هذا الصدد هم أفضلُ حالًا من اليهود أو الموحِّدين (الربوبيين)»، لكنه كره خضوعَ نساء المسلمين لرجالهم. فقال: «كل مجهودات جلالته ليصبح شعبُه متمدنًا وليبثَّ الحضارة فيه ستذهب هباءً إلا إذا أزال كل الحريم والمخصيِّين من البلاد.» أما ويليام داي، الذي انبهر يومًا ما بجمال وفخامة وأبَّهة الشرق فسرعان ما أصابه اليأس والقنوط من التعصُّر في المصريين، الذين يتمسَّكون بماضٍ قاسٍ وغامض، على عكس الأمريكيِّين، الذين يمتلكون «روحًا خلاقة … ومحلِّقة … مثل رحالة خيالي في رحلة إلى المستقبل». وباعتبار داي أحدَ الجنود الذين حاربوا الهنودَ الحمر، وانتهى إلى الإعجاب بهم، لكنه لم يجد شيئًا يستحق الثَّناء في المصريين، فقال إن لديهم ميلًا كبيرًا إلى «الكذب والمطالبة ببقشيش وإلى الابتزاز والتزوير والسرقة والفساد … والقتل!»

زاد هذا النفور من الانعزال الثقافي للأمريكيِّين وعدم رغبتهم في تعلُّم اللغة العربية أو العيش في حيٍّ لا يسكنه الأوروبيون. وكان عدمُ التفاهم هذا متبادلًا بينهم وبين المصريين. فقد وبَّخ جيمس مورجان مثلًا أحمد عرابي لأنه كان يقوم للصلاة كلَّ صباح، بدلًا من تنظيف بندقيته، وكان أحمد عرابي هذا ضابطًا له شأنٌ وتأثير في مستقبل البلاد، وقد لعِب دورًا مهمًّا فيها، وقد ردَّ عرابي على مورجان بالتنديد «بأفكار المسيحية». وأثار مورجان مرةً أخرى مشاعرَ المواطنين المحليِّين عندما غازل فاطمةَ ابنة الخديوي، البالغة من العمر تسعة عشر عامًا، غزلًا صريحًا. وعندما أمرَ رئيسُ شرطة القاهرة مورجان بإحضار كوب ماء له، كانت إجابة زوج ابنة وزير خزانة الانفصاليِّين هي إلقاء الماء على وجهه بعنف.

ولكن كل تلك العوائق لم تقف حائلًا أمام استكمال الضباط مهمَّتهم الأساسية. وبحلول عام ١٨٧٣، كانت مصر تمتلك كلَّ مؤهلات جيش غربي حديث، ومدارس بحرية وحربية، وقادة غواصات وألغامًا، ونظامًا لنقل الأوامر. وقال صامويل لوكيت: «الجيش – الضباط والجنود – على مستوًى عالٍ يتساوى مع مستوى بلادنا.»8 كان الضباط قد حقَّقوا نتائجَ عظيمة، بحيث أُرسل تاديوس موت مرةً أخرى إلى الولايات المتحدة لمحاولة جلبِ آخرين.

ومن سوء الحظ أن قام هذا الصَّرح العسكري على قاعدة اقتصادية ضعيفة؛ حيث كانت ديون مصر قد تضخَّمت بصورة تثير المخاوف. ولأنه لم يَعُد بالإمكان الاعتماد على عائدات القطن أو قناة السويس في تحقيق دخلٍ كافٍ لسداد تلك الديون، تشبَّث إسماعيل بآخر مصدر للدخل، وهو غزو جنوب السودان. فهناك في منطقة جنوب السودان، وهي ما نطلق عليه اليوم أوغندا وأثيوبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، كانت تتوافر مناجمُ لا حصرَ لها من الذهب واللبان والعاج. وكان محمد علي قد استولى على أجزاءٍ كبيرة من تلك البلاد، وإن كانت تحت الحكم المصري بالاسم وليس فعليًّا؛ ففي حقيقة الأمر كان عدد بسيط جدًّا منها قد وُضع على الخريطة أو أُخضِع بالفعل. وكان ترسيخ سيطرة مصر على هذه الأقطار المتمردة، وتجنُّب مخطَّطات بريطانيا وفرنسا بشأنها، مهمةً تتطلب شجاعةً نادرة وقوة ومهارة، وكلُّها مواصفات يمتلكها الأمريكيون، حسبما كان يرى إسماعيل.

قلوب مظلمة

بناءً على ذلك أُرسِلَت بعثتان. أولاهما تجربة استكشافية في أعماق السودان، سارت على النيل وصولًا إلى وادي حلفا على خطى ونهج جورج إنجليش قبل ذلك بخمسين عامًا، وكانت المسيرة بقيادة أحد أكثر الخبراء الأمريكيِّين حُنكة واحترامًا، هو رولي كولستون، الذي كان أستاذًا للجيولوجيا، كما كان عميدًا في جيش الانفصاليِّين. خطَّط كولستون للإبحار لمسافة ٤٠٠ ميل على نهر النيل، قبل الانحراف إلى الجنوب الغربي نحو مدينة العبيد في قلب السودان. وهناك كان سيقابل مجموعةً أخرى آتية من البحر الأحمر، يقودها نيويوركي ذو شوارب تشبه مقودَ الدراجة اسمه إيراستوس سبارو بيردي.

غادر الفريقان مصرَ في نوفمبر عام ١٨٧٤، وسارا مدة ثلاثة أشهر عبر مناطق دارفور وكردفان، عبر قرًى فقيرة، تسكنها «نوعيات غريبة ومخيفة من البشر»، بالإضافة إلى أسواقٍ غير مشروعة لتجارة العبيد»، كما كتب كولستون. وكان ثمانية من المصريِّين المرافقين لهم يموتون يوميًّا بسبب الإرهاق والأمراض، ونفق عدد أكبر من الحيوانات لنفس الأسباب. وأخيرًا، أصيب كولستون نفسه بمرضٍ في المثانة، أدَّى إلى إصابته بالشلل في نصفه السفلي. ومع ذلك فقد رفض أن يرجع، واستمر في جمعِ عينات من الأحجار والنباتات، وفي كتابة التقارير. وقال كولستون: «مع أنني مشلول بسبب مرضٍ خطير … يبدو أنه مميت، فإنني أرغب في القيام بواجبي حتى آخر لحظة.» وانتقلت القيادة منه إلى شابٍّ من نيو إنجلاند، هو الرائد هنري براوت، ثم أمر كولستون بربط نفسه على حصانٍ واتجه إلى القاهرة.

في تلك الأثناء كان بيردي قد نجح في الوصول إلى مدينة الهراس على خليج السويس، قبل الانعطاف غربًا نحو مدينة أسوان، حيث توقَّع أنه من الممكن بناءُ سدٍّ على النيل في يومٍ ما. وعلى العكس من كولستون الهادئ الخفيض الصوت، كان بيردي مرتفعَ الصوت مختالًا متباهيًا، لكنه من ناحية أخرى كان يمتلك خبرة طويلة في استكشاف أجزاء من كولورادو وكاليفورنيا. وكان بإمكانه أيضًا الاعتماد على مساعِده الممتاز، ألكسندر ماكومب ميسون، وهو أرستقراطي من فرجينيا، ومن بين ميزاته أنه عمِل مرتزقًا في شيلي وكوبا وبحر جنوب الصين، بالإضافة إلى أنه كان من عدد قليل من الأمريكيِّين الذين يجيدون العربية. نجح بيردي وميسون في التقابل مع براوت وفي مسح مائة ميل مربع من المناطق التي لم تظهر على أي خريطة من قبل، فقاموا بقياس معدَّلات هطول الأمطار وتتبَّعوا طرقًا تصلح لإنشاء السكك الحديدية. ولكن تبيَّن لهم أن المنطقة غير واعدة اقتصاديًّا، بسبب القيود المتمثلة في القبائل المحلية. وقال تقريرهم النهائي: «قد تثير تلك القبائل اهتمامَ القائمين بالأعمال الخيرية أو المبشِّرين. ولكن باعتبارهم رعايا للحكومة المصرية … فلن يضيفوا شيئًا إلى … ثروة الدولة أو قوَّتها أو مجدها.»9

زادت النتائج المخيِّبة للآمال التي توصَّلت إليها البعثة الأولى من أهمية البعثة الثانية، التي كانت أكثرَ طموحًا في التوغل داخل أفريقيا. واختار إسماعيل أحدَ الإنجليز رئيسًا لها، هو المقدِّم تشارلز جوردون، وعيَّنه محافظًا للأقاليم الاستوائية المصرية كما كان يُطلَق عليها. وكان جوردون مهندسًا بروتستانتيًّا، وهو الذي قمع ثورةَ تاي بنج، مما منحه لقبَه الذي اشتُهر به، وهو «الصيني»، كان جوردون أحمرَ البشرة، وله وجه صبي صغير، مع أنه كان في الخمسين من عمره، وكان شديد التناقض ولديه قدرةٌ فائقة على التعاطف الشديد أو الغضب العارم. ومع اتهامه بإلغاء تجارة العبيد وفرض احتكار القاهرة للعاج، فإن جوردون كان يهدُف في الحقيقة إلى إحكام السيطرة المصرية على منابع النيل، قبل أن تدَّعي بريطانيا أو فرنسا أيَّ حق لهما فيها. ولنفي أيِّ انطباع بأنه ينحاز إلى أيٍّ من تلك القوى، اختار جوردون مجموعةَ ضباط من جنسيات متنوِّعة، واختار أمريكيًّا من ميريلاند نائبًا له، كان في الثانية والثلاثين من عمره اسمه تشارلز شاييه لونج.

منح جوردون نائبَه ومساعده أربعًا وعشرين ساعة للاستعداد، ثم غادر يوم ٢١ من فبراير عام ١٨٧٤، مستقلًّا قطارًا ثم سفينة بخارية، وسار على قدميه مسافةً تقترب من ٣٠٠ ميل إلى البربر، وهي مدينة تجارية محاذية للنيل. ولكن في الطريق تدهورت العلاقة بين الرجلين. فقد كان شاييه لونج فيما عدا سجله الحربي شاعرًا محبطًا وممثلًا يميل إلى المبالغة والتأنُّق الشديد، والميل إلى ارتداء القبَّعات الحريرية والعباءات؛ لذلك كان يترك انطباعًا لدى كثير من معارفه بأنه «شخص ضعيف رخو». وكان رأي جوردون فيه أنه «يفكِّر كثيرًا فيما قام به في السابق … وهو ما لا يفيد فيما يجب القيام به الآن». ولكنَّ إسماعيل لم يكن يشاركه هذا الرأي، واعتبر أن هذا الأمريكي مغامرٌ بطبيعته، وأنه قادرٌ على اختراقِ الأحراش الأوغندية وعقدِ اتفاق مع ملكِها. وعلى ذلك، ففي حين تراجع جوردون إلى الخرطوم (التي لقي حتفَه فيها بعد ذلك بعشر سنوات على يد متمردين مسلمين)، تابع شاييه لونج سيرَه مدة شهرين فيما بين «مطر وطين وملاريا وبؤس وحمى الأدغال» متوجهًا إلى روباجا، القريبة من مدينة كمبالا اليوم، وهي عاصمة الملِك موتيزا.

ومن المدهش أن استقبالَ هذا الأمريكي كان حارًّا للغاية. فقد أشار الملك موتيزا ذو اللون النحاسي وهو مرتدٍ عمامةً بسيفه إلى وجوب إظهار الاحترام للضيف. وتذكَّر شاييه لونج بسعادة أن «عشرة آلاف من رعايا الملك سجدوا له وأنوفهم في التراب». ولكن سعادته تلك تحوَّلت إلى رعب، عندما قام «عدد من المحاربين … تبعًا لعادة مروعة، بخنق المجاورين لهم بحبال، ثم هشَّموا رءوسهم بهراوات».

ولكن شاييه لونج تمكَّن من عدم إظهار تقزُّزه، وأبهج ميتوزا بمرآة وصندوق موسيقى وبطارية أصابت الملكَ بصعقة خفيفة. وتُبودلت الهدايا: حرير وأحجار ثمينة وحصان (كان الأول من نوعه في أوغندا) من مصر، ومن موتيزا: صبي أمهق وثماني فتيات صغيرات، من بينهم ابنته. ثم وُقِّعت الاتفاقية. وهنَّأ شاييه لونج نفسَه بأن «كل حوض النيل أصبح تحت السيطرة المصرية، وأن الهدفَ الأساسي من البعثة قد تحقَّق».

ولكن مهمته لم تكن قد انتهت بعدُ. فعند عودته لم يتَّخذ شاييه لونج الطريقَ المباشر، بل عرَّج على طرقٍ جانبية، في محاولةٍ منه لإثبات أن نهر النيل يبدأ من بحيرة فيكتوريا في جنوب غرب أوغندا ويسير نحو بحيرة ألبرت، محاذيًا حدودَ ما أصبح يُعرف فيما بعدُ بجمهورية الكونغو. وجدَّف الأمريكي ومرافقوه من المحليِّين مدة ستة أيام مخيفة، عبر نباتات النهر الكثيفة، ليخرجوا منها إلى بحرٍ مفتوح وإلى مواجهة ٧٠٠ محارب من قبيلة بونيارو. قال شاييه لونج: «أظهِروا لهم العداء التام، وأطلقوا النار عليهم»، هكذا أمرَ رجاله بينما يصوِّب بندقيته على صدرِ زعيم قبيلة بونيارو. ونجحت الخطة، فقُتل اثنان وثمانون منهم، وهرب الباقون، ولكن ليس قبل أن يصاب هو نفسه في وجهه بحروق من أثرِ رصاصة. ثم كُتبت له النجاة مرةً أخرى عندما قابل قبيلةً من أكلةِ لحوم البشر في قرية نيام نيام، ثم من سهامٍ مسمومة أطلقها ٨٠٠٠ رجل من قبيلة يانباري، وكذلك من هجومٍ ليلي قام به فهد. وبعدها بثلاثة أشهر دخل رجلٌ مريض ومهترئ الثياب على جوردون. يتذكَّر شاييه لونج قائلًا: «كان شَعري قد طال ووصل إلى كتفي. وزادت لحيتي الطويلة من مظهري المريض، في حين تشكَّك جوردون في هويتي بسبب جُرح مؤلم في أنفي وعيني المغلقة المتورمة.» أما في القاهرة فظنَّه زملاؤه أحدَ الشحاذين.

ومع أن المستكشفين البريطانيِّين سخروا من اكتشافاته، ولقَّبوه ﺑ «القرصان الأمريكي»، فإن شاييه لونج كان بالفعل قد حدَّد موقعَ بحيرة كيوجا، وكان قد سافر مسافة مائة ميل كانت مجهولة من النيل من قبلُ، وكان قد تتبَّع مسارَ النهر عبْر أوغندا. وفرض سيطرة وهيمنة مصر من الصحاري السودانية إلى الغابات الممطرة الاستوائية في أفريقيا الوسطى، مكوِّنًا بذلك إمبراطوريةً واسعة خصبة. وقال الخديوي على الملأ في معرض مدحه: «هذا الضابط الشاب … قدَّم لمصر في عدة أيام ما لم يقدِّمه أيُّ جيش … في أربع سنوات، وكانت تكاليف الرحلة مليونين ونصف مليون دولار.»10 ولكن الحاكم المصري لم يكن يملك هذه المبالغ الطائلة، وكذلك لم يتبقَّ له وقت طويل. فأصحاب الديون الأوروبيون كانوا قد بدءوا بالفعل في الاستيلاء على بعض الأصول، مع الضغط عليه لإشهار إفلاسه. وكان هو بحاجة شديدة إلى وسائلَ تعينه على استغلال المواقع الثرية التي حدَّدها له جوردون وشاييه لونج، وهو طريق وصول إلى أفريقيا أقصرَ وأقلَّ إرهاقًا وتعذيبًا من طريق اﻟ ٣٠٠٠ ميل الذي يبدأ من القاهرة.

في تلك الأثناء كان شاييه لونج قد عقَد العزم على قضاء فترة الاستشفاء والنقاهة في موطنه بميريلاند. ولكنه لم يكد يصل إلى مدينة باريس حتى وصلته أوامرُ بالعودة إلى مصر فورًا. وفي سبتمبر عام ١٨٧٥ قاد ١٣٠٠٠ جندي وأبحر لمسافة ٥٠٠ ميل إلى خليج عدن، وإلى ما يسمَّى اليوم ساحل الصومال. وأرسل له إسماعيل برقيةً يقول فيها: «لا حاجةَ بي إلى تكرار القول إنه يجب الحفاظ على السرية بعد وصولك محطةَ البعثة. أنا أعتمد على حماستك ونشاطك وذكائك.» وكان على شاييه لونج أن يحاول إيجادَ طريق مائي، دون إثارة شكوك البريطانيِّين، عن طريق نهر جوبا غرب أوغندا. وكانت بعثة أخرى ستصل إلى الشمال، فيما يسمَّى أثيوبيا اليوم، لقمع الملك المتمرد جون. فإذا نجحت هاتان العمليتان، فسيُرْبَط وسط وشرق أفريقيا ربطًا فعالًا ومؤثرًا، وسيُضمان إلى مصر.

وفي حين غزا شاييه لونج قلعةً تابعة لسلطان زنزبار، واستمر في السير نحو جوبا، كانت الحملة الحبشية تواجه فشلًا سريعًا. وكان القائد كولونيلًا دانمركيًّا اسمه آرندروب. وكان — مع حب زملائه له — عديمَ الخبرة بساحات المعارك. لكنه مع ذلك رفض اقتراح الرائد جيمس دينيسون، ضابطه الإداري، بتعزيز فيالقه الثلاثة، وعدم المجازفة بالدخول في وادٍ قد يكون فيه فخٌّ منصوب. وكان دينيسون أصغرَ سنًّا بكثير من آرندروب، لكنه محارب عتيد من المحاربين القدامى، وقد أثبَت أن له رؤيةً مستقبلية صائبة. ففي أقلَّ من ساعة كان جنود الملك جون قد قتلوا ألفين من المصريين، ومعهم أيضًا القائد الدانمركي التَّعس.11

وللانتقام لهذه المذبحة، أرسل إسماعيل قوةً قوامها ١٢٠٠٠ جندي مسلَّحين ببنادق تُحشى من الخلف ومدافع من نوعية كروب وأسلحة حديثة أخرى. ورغم مرور عشر سنوات منذ آخر قيادة للورينج لأي قوات في ساحات المعارك، فقد طلب منه أن يكون رئيس أركان الحرب، وذهب معه أمريكيون آخرون؛ لوكيت وجريفز وداي وجرَّاح الجيش جيمس جونسون، والقبطان ديفيد إسيكس بورتر، وهو ابنُ أخي أول سفير أمريكي في إسطنبول. ومع ذلك، ومن أجل إسكات همهمات العامة حول مذبحة المصريِّين تحت قيادة الأجنبي آريندروب، رأى إسماعيل أنه من الأفضل منْحُ القيادة العامة للحملة لوزير الحربية راتب باشا. ولم يكن راتب باشا قد قاد رجالًا في ساحة المعركة من قبلُ مثل آريندروب. وقال عنه داي إنه رجل «رقيق وحساس تمامًا مثل جسده، وهيئته منكمشة بسبب فجوره كما تنكمش المومياء بسبب الزمن». ولم يكن أكبر هموم الوزير التميز في المعركة، بل التأكد من راحة الأمير حسن، ابن إسماعيل، المعتل الصحة الضعيف البنية، الذي قرَّر مرافقة الجيش.

أبحرت القوة إلى ميناء موساوة الذي يسيطر عليه المصريون في فبراير عام ١٨٧٦، وعلى الفور تمكَّنت من الدخول إلى ريف إريتريا، وهي منطقةٌ ذكَّرت داي بشجيرات البلوط في تكساس. وأثبتَت البيئة هناك أنها غير مناسبة، بل قاتلة للحيوانات، حتى إن المئات منها نفق نتيجةً للعطش إضافةً إلى المرض وضربِها المستمر من راكبيها المصريين. وحُمِّلت المائتا بغلٍ الباقية بأمتعة حسن الفاخرة، من خيام وأثاث ونبيذ، وبقي عدد قليل منها لتحميل المعدَّات الحربية المهمة. وفي غضون ذلك كان راتب قد تأكَّد رأيُ لورينج فيه، وهو أنه «جبان متهالك متشرِّد أخلاقيًّا وجسديًّا وجسمانيًّا». فقد رفض التحالف مع القبائل التي أظهرت لهم الود، ورفض إرسال استطلاع من الكشافة أو أوتاد أو حتى الاتفاق على خطة حرب. وبدلًا من ذلك سارَ على خطى آرندروب المضلِّلة، ووصل مع ستة آلاف من جنوده إلى وادي جورا، الذي تحيطه التلال من كل جانب، ووصفه لورينج قائلًا: «هو موقع ممتاز يمكن للملك جون شنُّ هجوم علينا منه، وهو طريقٌ مسدود تمامًا، ومن أسوأ ما يمكن لأي جيش أن يدخل فيه.»

كان أفضل ما يمكن أن يقوموا به في هذا الوضع الخطر، هو أن يطلب لورينج من لوكيت أن يبنيَ حصنًا صغيرًا. واشتكى داي من ذلك، ولكن هذا الحصن أثبَت جدواه وأنقذ حياتهم. فحالما انتهَوا من العمل، وصل الملك القوي الوسيم جون إلى جورا برفقة أسدين من أسوده. وكان معه أيضًا جيشٌ شعبي مكوَّن من خمسين ألف مقاتل، بالإضافة إلى أجساد جنود آرندروب التي مُثِّل بها، وهم يلوِّحون بها تهديدًا وإنذارًا للمصريين. وخاف راتب، ورفض اقتراحَ لورينج في القيام بضربةٍ وقائية، متعللًا بضرورة الحفاظ على حسن والدفاع عنه، وتراجع إلى الحصن الآمن.

وجاء الهجوم يوم ٧ من مارس، وكان مدمِّرًا. فقد انكسر خطُّ تلاحم المصريِّين فورًا وهربوا جميعًا. وأُصيب داي إصابةً بالغة في قدمه، وكان ينظر بلا حولٍ له ولا قوة: «الجرحى والشيوخ والمشاة والفرسان ورجال المدفعية والجياد التي بلا فرسان وحيوانات التحميل» كلهم يعدون فِرارًا من الخوف وهم يمرون بجانبه. وتجمَّع الجنود في وادٍ قام فيه الأحباش بذبحهم جميعًا، بصورةٍ ذكَّرتهم بكارثة المفاجأة للفيدراليِّين في معركة بيترسبرج. وتذكَّر لورينج، الذي كان ينظر من الحصن، أنه كان «من المستحيل وصفُ إحساسي بالرعب وأنا أشاهد هذا المشهد الرهيب. فلم يترك المصريون أنفسَهم يُذبحون على يدِ حَفنة من المتوحشين فقط، بل ساروا … بملء إرادتهم نحو العدوِّ». وبقي الأمل الوحيد في المدفعية المصرية، تحت قيادة عثمان باشا، حيث كانت مدافعه قريبة جدًّا من مجال العدوِّ. ولكنَّ عثمان باشا خاف من ارتداد النيران إلى صفوفه، وقنع بمجرد الاختباء خلف المتاريس. وظلَّت مدفعيته الحديثة صامتة. ولم يكن أمام داي من خيارٍ سوى أن يصعد مرةً أخرى إلى لورينج والضباط الآخرين المتحصنين بالحصن.

كان وضع المدافعين ميئوسًا منه. فلورينج، الذي ادَّعى أنه نجا في عدد من المعارك يفوق أيَّ أمريكي آخر — وصل عددها إلى ٧٥ معركة حسبما ذُكر — كان مروَّعًا بشدة. لأنه رأى الوادي يضجُّ بالحياة فجأةً «بسبب الحشود المتحركة» الحاملة للسهام والسيوف والدروع اللامعة، ثم سمع «أصواتًا مخيفة … كعواء وزئير الوحوش». وكانت تلك مشاهدَ وأصوات الأحباش وهم يهبطون في الطريق إليهم. كانوا بالفعل قد ذبحوا المصريِّين المصابين، الذين تُركوا وهم يتألَّمون بشدة في ساحة المعركة. وكان بإمكان داي أن يسمع توسُّلاتهم طالبين الرحمة، التي لم يُستجَب لأيٍّ منها. فقال: «نجَوا من الطلقات فقط ليشعروا بطعن السيوف والخناجر في أجسادهم. وقاوموا العِصي فقط ليلاقوا الطعنات … لقد كان هؤلاء المتوحشون شديدي التعطُّش للدماء.» وبدا وكأن هناك مذبحةً في الطريق، تشبه إلى حدٍّ بعيد مذبحةً مشابهة وشيكةَ الوقوع بين الفرسان الأمريكيِّين على بُعد آلاف الأميال، على ضفاف نهر بيج هورن في ولاية مونتانا. ومع ذلك فقد كان راتب لا يزال مصرًّا على عدم إصدار أوامره بهجومٍ مضاد، مفضِّلًا بدلًا من ذلك الاختباءَ بين أجولة دقيق الذرة في مخزن الأغذية بالحصن. أما الأمريكيون فلم يكن أمامهم سوى التهديد بقتل جنودهم بأنفسهم إذا لم يُظهِر المصريون بعضَ المقاومة.

وبسبب ذلك التحفيز والتهديد، تمكَّن المصريون من إطلاق نيرانٍ نجحت في حماية الحصن وحمايتهم. وسجَّل لورينج بفزع كيف كان المدافعون «يُهرعون من الحصن ويُظهرون شجاعتَهم بقتل المصابين من الأحباش الشجعان، والتمثيل بالأموات منهم، بفصل أيديهم وأقدامهم ونثرها يمينًا ويسارًا». وللانتقام لرجاله، قام الملك جون بإعدام ٨٠٠ من الأسرى المصريين، وتعذيب الباقين، ومن بينهم د. جونسون، الذي كُسرت ساقه بسبب رصاصة أصابتها.

جهَّز الأمريكيون أنفسهم لهجومٍ ثانٍ، وكان من المتوقَّع أن يكون الأخير. ورأى داي، عندما نظر من إحدى فجوات الحصن، «مجموعةً من الأشكال المهشَّمة والمشوَّهة … أجسادًا عارية تنزف دمًا … وأجسادًا بلا أطراف، ورءوسًا منفصلة، ولحمًا لا يزال ساخنًا طريًّا وكأنه حي، وكلها غارقة في دماء بشرية». وكان من السهل على رجال القبائل أن يفتكوا بعدوهم حينئذٍ، ولكن الملك جون الماكر رأى أنه لا فائدة من مزيد من المذابح، وأنه سيحقِّق استفادةً أكبرَ عن طريق عقدِ اتفاقِ هدنة أو وقف إطلاق النار. وأرسل مندوب سلام من طرفه إلى المصريين.

وكتب لورينج غاضبًا: «ما إن دخل هذا المندوب المعسكر، إلا وبدأت الاحتفالات. فوُضِع طعامٌ فاخر على مائدة الأمير، وسار كلُّ شيء في بهجة، وكأن شيئًا لم يكن.» وبعد أن تُبودلت الهدايا القيمة والأحضان، وافق راتب على الانسحاب. واستأذن حسن من الاجتماع، متعللًا بذهابه للصيد، وعاد مسرعًا إلى موساوة، حيث كان يخت والده بانتظاره ليقله بسرعة إلى القاهرة. وتبِعه طابور طويل من ٤٠٠٠ جندي مصري في ثيابٍ رثة وحالةٍ أكثرَ سوءًا بعدَها بعدة أيام.

ولكنَّ المهانة التي لقيها لورينج ورجاله لم تتوقَّف عند حدِّ الحبشة، بل زادت بعودتهم إلى القاهرة. فقد أجرى راتب الترتيبات اللازمة ليُستقبَل بطلًا، في حين ادَّعى عثمان قائد المدفعية أنه قتل بنفسه ١٠٠٠ من الأحباش، وكتب لورينج عن عثمان: «لو كان في أي جيش آخرَ لحوكم عسكريًّا وأُعدم كأي جبان.» أما الأمريكيون فمثَلوا أمام محاكم عسكرية بالفعل؛ الكولونيل دينيسون لأنه اعتُبر مذنبًا بسبب الإخفاق التام لحملة آرندروب، وأُدين داي لضربه ضابطًا مصريًّا رفضَ المشاركة في المعركة على وجهه. ولم ينجُ حتى شاييه لونج من اللوم. فقد انتُقد بسبب فشله في إيجاد طريق من جوبا إلى أوغندا، فالنهر يميل إلى الجنوب وليس إلى الغرب، واعتُبر مذنبًا أيضًا لإظهاره «حماسةً زائدةً» عند مهاجمة حصن زنزبار. وبسبب إصابته بالملاريا، عاد هذا المستكشف إلى وطنه، غيرَ مشكور على مجهوداته، مثله مثل بقية الضباط الأمريكيِّين.12

وسرعان ما نُسيت إساءة الخديوي لمستشاريه الأمريكيِّين، في غمار الأزمة المحيطة بديون مصر الخارجية، التي قُدِّرت برقم فلكي، هو ٥٠٠ مليون دولار. واضطُر إسماعيل إلى بيع أسهم مصر في شركة قناة السويس لبريطانيا، وإلى وضعِ أموال مصر تحت سيطرة دولية متنامية. وفي يونيو عام ١٨٧٨، أوصى المشرفون الأوروبيون على مصر بعمل استقطاعات كبيرة من الميزانية. وأُغلقت مدارسُ تعليم العساكر المصريِّين وأولادهم، وجرى التخلُّص من جميع المستشارين الأمريكيِّين تقريبًا. وحزِن لورينج قائلًا: «كانت تلك جريمةً ضد الإنسانية، ولا يمكن لأي كلمة أن تصفها وصفًا مناسبًا.»

وهكذا بعد عَقد كامل من الخدمة، غادر المستشارون الأمريكيون مصر، فرحل موت إلى إسطنبول، مستشارًا لعدد من السلاطين، وعمِل داي مستشارًا لملك كوريا. ودخل شاييه لونج الدوائرَ الدبلوماسية، بعد تخرُّجه في مدرسة الحقوق بجامعة كولومبيا. وعمِل لوكيت مهندسًا، وصمَّم خطوط السكك الحديدية لشيلي. وعمِل براوت تنفيذيًّا في شركة خطوط السكك الحديدية أيضًا. ولكن ذلك لا يعني أنهم جميعًا حققوا نجاحًا في حياتهم العملية؛ فمثلًا، أدمن سيبلي ورينولدز الابن الخمرَ حتى تُوفِّيا متأثرَين بها. ولم يتعافَ كثير من الأمريكيِّين من الأمراض التي أصيبوا بها في أفريقيا، ومات كثيرٌ منهم بسببها، من بينهم بيردي وكولستون. وكانت الحكومة المصرية مَدينة لهم جميعًا، ولبعضهم بضع سنين، وفي النهاية وصلتهم المبالغُ المستحقَّة لهم، بالإضافة إلى ٦٠٠٠ دولار معاشًا. وقد مكَّن هذا المبلغ تشارلز إيفرسون جريفز من سداد الرهن على مزرعته في جورجيا، وبناء بيت عليها. واحتفظ بحمار في تلك المزرعة ليذكِّره بتجاربه في مصر حتى نهاية حياته.

أما لورينج فربما كان أكثرهم حظًّا؛ فقد عاد إلى الولايات المتحدة، ليكتب مذكِّراته ويجوب الحدودَ الغربية. وقد توفِّي في نيويورك عام ١٨٨٧، ووقف إلى جانب سريره كلٌّ من شاييه لونج وستون، ودُفن في موطنه بفلوريدا، وحضر جنازته عشرة آلاف شخص. واحد فقط من هؤلاء الضباط ظلَّ في مصر، هو تشارلز ستون. فقد رُقِّي إلى رتبة فريق وظلَّ في منصبه هذا حتى عام ١٨٧٩، عندما قامت فرنسا وبريطانيا — بعد أن فاض بهما الكيل بسبب رفض إسماعيل منحهما السيطرةَ الكاملة على اقتصاد بلاده — بالضغط على العثمانيِّين لترشيح والٍ على مصر يكون أكثرَ تعاونًا معهم.

غادر الأمريكيون مصر، وبعضهم يحمل مشاعرَ ودٍّ وولعٍ تجاهها، في حين كان البعض الآخر يحمل مشاعرَ أقلَّ دفئًا بكثير. واشتكى لوكيت وهو يتذكَّر: «لقد خُدع كلُّ رجل خرج من مصر. فالأمر كلُّه كان خدعةٌ كبرى، كلُّها مظاهر وكلُّها أوهام.» وخلَص داي إلى أنه ليس بإمكان أي شخص تحقيق أي إنجازات في مصر «إلا إذا مُنِح صلاحيات كبيرة»، وأضاف: «يجب على أي أجنبي ذكي ألا يخدمَ مصريًّا.» ولكن ستون كان له رأي مختلِف. فقال: «كانت مصر ودودةً وكريمة للغاية معنا في أوقات الرخاء. وعندما تزدهر مرةً أخرى ستعاود معاملتنا تلك المعاملة الحسنة.» وتذكَّر لورينج أيضًا: «في أثناء السنوات العشر لإقامتي في مصر، لم أرفض ولو مرة واحدة مقابلةَ إسماعيل، ولم يكن بيننا إلا كل احترام وود.»

كان مجموع الضباط الذين شاركوا في الحرب الأهلية الأمريكية، سواء من الشماليِّين أو الجنوبيين، الذين استكشفوا مصرَ وحاربوا من أجلها، ٤٨ ضابطًا. هؤلاء بنَوا لمصر جيشًا وشيَّدوا مدارس وشقُّوا طرقًا جديدة في أفريقيا. وأثنى عليهم داي في مذكراته قائلًا: «كانوا رجالًا ذوي سمعة جيدة مثيرة للاحترام … ومعلِّمين يطمحون إلى المساعدة في عملية تطوير وتحضر … بلد على نهر النيل، وتدفعهم رغبةٌ جادة في تحصيل المعرفة وهم ينشرونها.»13 ومع أن إسهامات بعضهم كانت مؤقتةً وعابرة، إلا أن مفاهيم الوطنية والمواطنة التي قدَّموها لمصر لم يكن بالإمكان العودة بها إلى الوراء. وقد أصبح — بالفعل — الجيش الذي أسهموا في بنائه هو أكبرَ قوة لتحرير وتحديث مصر، وظل على هذه الحال مدةً تزيد على قرن من الزمن.

ورغم كل ذلك فلم يكونوا وحدَهم مَن قام بمجهودات لبثِّ الأفكار والأنماط الأمريكية بين شعوب الشرق الأوسط. ففي أماكنَ أخرى من المنطقة كان المبشِّرون يقومون ببناء مدارس مشابهة، وعن طريقها بُثَّت أيضًا نفس أفكار المدنية والقومية. وكما تأثَّر الضباط الأمريكيون بمصر، تأثَّر أيضًا الأمريكيون البروتستانت بالحرب الأهلية، سواء من الأهوال التي أحدثتها، أو من الآمال التي نتجت عنها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤