الفصل الرابع

الحجج المؤيدة للأصل الزنجي للجنس المصري وللحضارة المصرية

(١) الطوطمية

نوَّه موريه في مؤلَّفه «من العشائر إلى الإمبراطوريات» بالطابع الطوطمي الأساسي للمجتمع المصري. وقد حوربت أطروحته فيما بعد، وقيل إن هناك تخوُّفًا من العواقب الخطيرة التي ستنجم عن ذلك بالضرورة. والواقع أن فريزر كان حاسمًا فيما يتعلق بأصل الطوطمية، ففي رأيه أننا لا نصادفها إلا لدى الشعوب الملونة.

وبناء على ذلك، أصبح من المستحيل التمسُّك بتلك الأطروحة إذا كان المطلوب إثبات أن الحضارة المصرية من أصل أبيض.

وهكذا جرت محاولات لإنكار الطوطمية المصرية مع السعي إلى العثور على آثار لها لدى الشعوب المسمَّاة بيضاء، مثل البربر والطوارق. ويدل الحماس في البحث عنها لدى هؤلاء على أن النجاح في ذلك سيعني تبديد أي شكوك حول الطوطمية المصرية، غير أن المحاولة فشلت؛ إذ لم يتوصَّل فان جنيب إلى استخلاص طوطمية لدى البربر.

وانتهى الأمر بالمناقشات حول الطوطمية إلى التردي في التجريد الفلسفي؛ فقد تحولت المعطيات الإتنوجرافية الملموسة إلى ظاهرة تأملية، وإلى قضية منطقية وفكرة خالصة بحيث لا يمكن أن تعرقل بعد ذلك أي وقائع، أو تطورات من خلال عمليات التضمين.

ويستحيل إنكار أن تحريم بعض الحيوانات والنباتات في مصر (التابو) يتفق مع الطوطمية، كما هو الحال في كافة المناطق — وبالأخص في أفريقيا السوداء — حيث توجد الطوطمية بشكلٍ لا يتطرق إليه الشك. وعلى العكس، كانت هذه المحرمات غريبة على الإغريق وغيرهم من الشعوب الهندو-أوروبية؛ ولذا كان الإغريق يسخرون من تبجيل المصريين المُفْرِط للحيوانات، بل ولنباتات معينة أيضًا.

وعلى أساس درجة معينة من التطور الاجتماعي قد تكون أقل من درجة التطور والامتزاج التي بلغها الشعب المصري، كان الزواج من داخل القبيلة والطوطمية لا يتعارضان، بل يتعايشان معًا. وهكذا نجد الآن في أفريقيا السوداء زوجين يحملان نفس الاسم الطوطمي: ندياي، ديوب، فال.. إلخ، ولا يتبادر أبدًا إلى الذهن في الوقت الراهن أن مثل هذه الممارسة كانت مُحرَّمة، ومع ذلك فمن الواضح أن الزوجين اللذين يحملان نفس الاسم الطوطمي يدركان أن كلًّا منهما مشترك بحياته في جوهر طوطمه.

وعليه فإن الزوجين يدركان تمامًا أنهما يشتركان معًا في نفس الجوهر الحيواني، ونفس الجوهر الحياتي، كما يدركان أنهما ينتميان أصلًا إلى نفس القبيلة حتى إنهما يعلنان ذلك في الكثير من الأحوال. وعليه فإن فكرة فان جنيب القائلة بأنه تَعيَّن ألا يكون المصريون طوطميين لأنهم كثيرًا ما كانوا يتزوجون من الأقارب، بل ومن شقيقاتهم تجد تكذيبًا قاطعًا لها. فالزواج من الأخوات نابع عن سِمة ثقافية أخرى حية في العالم الزنجي، وهي النظام الأمومي الذي سنتعرض له في الصفحات ١٦٤ إلى ١٦٨.

فعندما أصبح الزواج من خارج العشيرة شائعًا، انتهى الأمر بقيام قرابة نسبية بين العشائر التي كانت تعقد زيجات فيما بينها (بين عشيرتين، وأيضًا بين ثلاث أو أربع … إلخ). وهذه القرابة تُفسِّر اليوم «الكال» في المجتمع الوُلوف مثلًا، أي القرابة العشائرية المفترَضة التي تسمح بتبادل المزاح والتهكم.

وعلى الرغم من الدراسات التي تحاول التوسع في مفهوم الطوطمية، فإنه بوسعنا أن نقول مع فريزر إنها لا توجد لدى الشعوب من الجنس الأبيض، ولو كان الأمر عكس ذلك لكشفت عنه الجحافل البربرية الأخيرة البيضاء الجنس التي اجتاحت أوروبا في القرن الرابع. وكانت هذه الشعوب في العصر الإتنوجرافي (عشيرة، قبيلة) حيث من المحتم أن تُلْهِم الطوطمية — إن تواجدت — كافة التصرفات، ويتضح أثرها في كل مستويات التنظيم الاجتماعي.

fig42
شكل ٤-١: آلات موسيقية وترية.
نقلًا عن كتاب سليجمان حول الملكية في أفريقيا وفي مصر Study in Divine Kingship.

على أنه لم يوجد في حياة تلك الجحافل شيء يعكس فكرة القرابة بين الإنسان والحيوان، لا بالمعنى الفردي، ولا بالمعنى الجماعي.

وعلى النقيض من ذلك لا يمكن إنكار أن فرعون يشترك في جوهر حيواني (الصقر) بنفس الطريقة الموجودة لدينا اليوم في أفريقيا.

(٢) الختان

كان المصريون يمارسون الختان منذ عصور ما قبل التاريخ، وهم الذين نقلوا هذه الممارسة إلى العالم السامي بصفة عامة (اليهود والعرب)، وبالأخص إلى من كان هيرودوت يسميهم السوريين.

ويسوق هيرودوت قرينتَين لكي يثبت أن الكولخيين كانوا مصريين:

«… أولاهما أنهم سود وشعرهم أكرت، وهذا الدليل لا يكفي في حد ذاته لأنهم يشتركون في ذلك مع شعوب أخرى، وثانيهما، وهو الدليل الرئيسي، أن الكولخيين والمصريين هم الوحيدون الذين لجَئوا إلى الختان منذ الأزمنة الموغلة في القدم. ويعترف الفينيقيون وسوريو فلسطين بأنهم تعلموا الختان من المصريين، ولكن السوريين الذين يعيشون على شواطئ الترمودون وبانينوس، وكذلك جيرانهم الماكرونيين، يقرُّون بأنهم أخذوا ذلك منذ أمد قريب من الكولخيين. وهذه الشعوب هي الوحيدة التي تمارس الختان، ويُقال إنهم إنما يحاكون في ذلك المصريين» (٢: ص١٠٤).

وأنا أزعم أن الزنجي١ هو الشخص ذو البشرة السوداء، خاصة عندما يكون شعره أكرت، وآمل أن أكون في ذلك متفقًا مع كل ذوي التفكير المنطقي.

وجميع مَن يقبلون هذا التعريف سيعترفون، وفقًا لما قاله هيرودوت، الذي رأى بعينَي رأسه المصريين، كما يرى القارئ الورق المطروح أمامه، بأن الختان من أصلٍ مصري وإثيوبي، وأن هؤلاء ما كانوا إلا زنوجًا يقيمون في مناطق مختلفة.

وبوسعنا أن نستنتج أيضًا من كافة التفاصيل الواردة في التوراة حول ختان إبراهيم، إثر زواجه من هاجر الزنجية المصرية، بعد أن بلغ التسعين من عمره، وكذلك موسى، ومن بعده اليهود، أن «الساميين» لم يمارسوا الختان إلا بعد اتصالهم بالعالم الأسود، وهو ما يتطابق مع شهادة هيرودوت.

ولا يجد الختان تفسيرًا متكاملًا له في إطار مفهوم عام للكون، إلا عند الزنوج؛ وينطبق ذلك بالأخص على مفهوم نشأة الكون عند الدوجون الذي تناوله مارسيل جريبول في كتابه «إله المياه». فهو يرى أنه لكي يكتسب الختان معناه الكامل فإنه يتعيَّن أن يكون مصحوبًا بالبتر، (أي ختان الأنثى)، باعتبار أن العمليتَين تهدفان إلى تخليص الرجل من جانبه الأنثوي، وتخليص المرأة من علامات الذكورة. وترمي هذه العملية، حسب العقلية القديمة، إلى تغليب سِمات أحد الجنسين عند شخص معين.

ووفقًا لمفهوم نشأة الكون عند الدجون (شعب زنجي من أفريقيا الغربية، حوالي ٢٠٠ ألف نسمة، يعيشون في مالي، حافظوا، بشكلٍ خاص، على ثقافتهم وفنونهم وتصورهم للعالم)، فإن الكائن الذي يولد، يكون خنثى إلى حدٍّ ما، شأنه في ذلك شأن الإله الأول.

«تكون الذكورة والأنوثة بنفس القوة، ما دام يحتفظ الكائن بغلفته أو ببظره، وهما دعامتا مبدأ الجنس المضاد للجنس الظاهر؛ ولذا فمن الخطأ اعتبار الرجل غير المختون امرأة، إنه مثل الفتاة التي لم يُبتر بظرها، أي أن كلًّا منهما ذكر وأنثى في آنٍ واحدٍ، ولو استمر عدم الحسم هذا إزاء الجنس، وظل على حالة، لما مال الكائن أبدًا إلى الإنجاب» (إله المياه، ص۱۸۷).

«هناك إذن أسباب مختلفة تفسر الختان والبتر؛ ضرورة تخليص الوليد من قوة شريرة، وضرورة أن يقدِّم ضريبة الدم وحسم مسألة جنسه نهائيًّا» (نفس المرجع، ص۱۸۹).

ولكي تكون حجة الختان، مقبولة، يتعين أن تتواجد الخنثوية الإلهية في المجتمع المصري، لأنها السبب التقليدي لتلك الممارسة في المجتمع الأفريقي، وفي هذه الحالة وحدها يحق لنا أن نتبيَّن الأسباب الطقوسية للختان لدى المصريين وبقية أفريقيا السوداء.

وقد أطلعنا شامبليون في خطاباته الموجَّهة إلى أخيه شامبليون-فيجاك، أثناء مروره بالنوبة في عام ۱۸۳۳م، على الخنثوية الإلهية لآمون، الرب الأكبر للسودان المروي ومصر، فقال:

«آمون هو نقطة انطلاق وتوحيد كافة الجواهر الإلهية، وبما أن أبيه … آمون-رع، الكائن الأعظم والأول، الذي وُصف بأنه زوج والدته (موت)، فإن القسط الأنثوي الموجود في جوهره الذاتي ذكوري وأنثوي في آن واحد».

وكان النيل يُصوَّر هو أيضًا في هيئة شخصية خنثوية، وآمون هو أيضًا إله كل أفريقيا السوداء.

ويجدر بنا أن نذكر هنا أن آمون مرتبط بفكرة الرطوبة والماء في كل من السودان المروي وأفريقيا السوداء ومصر؛ ولذا فهو يظهر في شكل إله كبش يحمل بين قرنيه قرعة (أسطوانة آمون)، كما جاء في كتاب مارسيل جريبول ذي العنوان الذي له مغزاه «إله المياه»، والذي تعرَّض فيه أيضًا للإله دوجون آما. ففي مفهوم نشأة الكون عند الدوجون (السودان الفرنسي) يهبط آمون من السماء إلى الأرض عن طريق قوس قزح، المُبشِّر بالأمطار والرطوبة.

وإذا كان بعض السود قد أقلعوا عن الختان لأنهم نسَوا تقاليدهم أو لأسباب أخرى، وإذا كان هناك اتجاه متزايد في أفريقيا السوداء نحو التخلي عن البتر (ختان البنات)، وإذا كان الختان المصري يختلف من الناحية التقنية عن الختان السامي، فإن كل ذلك لا يُغيِّر شيئًا من أصل القضية.

غير أنه لكي يكون تحقيق الهوية كاملًا، ولكي تكون الحجة الكامنة وراء الختان مُقْنِعَة، فإنه يتعيَّن أن يكون ختان الأنثى قد تواجد هو أيضًا في مصر، ويفيدنا سترابون بأن الأمر كان فعلًا على هذا النحو؛ إذ يقول:

«يتمسك المصريون بالأخص بالعناية بتربية أولادهم وختان الصبيان بل والبنات أيضًا، وهو تقليد يشاركون فيه اليهود، وهم شعب ينتمي أصلًا إلى مصر، كما قلنا ذلك من قبل في المكان الذي تناولنا فيه ذلك» (الجغرافيا، الكتاب السابع عشر، الفصل الأول، الفقرة ٢٩).

(٣) المَلكية

ومن السِّمات الأساسية البارزة أيضًا، مفهوم المَلكية المشترك بصفة عامة بين مصر وبقية أفريقيا السوداء.

ولنترك جانبًا المبادئ العامة مثل الطابع شبه المقدس للمَلكية، ولنُبرز سمة أخرى مشتركة تتميز بطابعها الفريد، ألا وهي القتل الطقوسي للملك.

كان يتعين ألا يحكم الملك في مصر إلا إذا كان في أوج قوته. ويبدو أنه كان يُقتَل فعلًا في بداية الأمر عندما كانت قوته تضمحل، غير أن الملكية سرعان ما لجأت إلى مختلف الحيل. كان الملك يتمسك بامتيازات منصبه — وهذا أمر مفهوم — مع الخضوع بأقل قدرٍ لمغباته؛ ولذا فقد توصل إلى جعل هذا الاختبار رمزًا؛ فلم يعودوا يقتلونه إلا طقوسيًّا، عندما يتقدم في السن، وذلك في الحفل الذي يستعيد فيه الملك شبابه في نظر الشعب، وأصبح صالحًا للاضطلاع بمهامه.

وهكذا غدا «حفل السد» احتفالًا لتجديد شباب الملك، وأصبح موت الملك الطقوسي وتجديد شبابه مترادفَين، وكانا يتمَّان في مناسبة واحدة (انظر دراسة في الملكية الإلهية، سليجمان).

وكان يتعين أن يكون الملك الرجل المتمتع بأوج عنفوانه، نظرًا لكونه الكائن المقدس الأعلى، وعندما كان مستوى قوته ينخفض عن حدٍّ أدنى معين، كان يحدث انكسار على صعيد قواه ككائن؛ ولو ظل في منصبه لأصبح ذلك خطرًا محدقًا بالشعب.

وهذا المفهوم الحيوي أساس لكل الملكيات الأفريقية التقليدية، وأقصد بذلك كافة الملكيات غير المغتصبة.

ويتجلَّى ذلك أحيانًا بشكلٍ مختلفٍ عما كان في مصر، ففي السنغال مثلًا، ما كان الملك يستطيع أن يتولى الحكم إذا ما أُصيب بجروحٍ أثناء معركة، وكان يتعيَّن عليه أن يُعيِّن مَن يحل محله حتى شفائه. وخلال مثل هذا الحلول محل الملك، استولى أخو تيني بوال — وهو أخ من ناحية الأب، وأمه من عامة الشعب — على السلطة عن طريق حركة انقلابية، باسم لات–سوكابيه، وأسس أسرة الجيدج في عهد أندريه برو (١٦٩٧م).

وهذا التقليد، المتمثِّل في إقصاء الملك عندما تضمحل قواه الحيوية بشكلٍ ملحوظٍ، ينبع من نفس المعتقدات الحيوية المنتشرة في كل العالم الأسود.

ووفقًا لتلك المعتقدات، فإن خصوبة الأرض، ووفرة المحاصيل، وصحة الشعب والقطعان، وسَيْرِ الأحداث بشكلٍ طبيعي، وكافة مظاهر الحياة، مرتبطة ارتباطًا حميمًا بقوة الملك الحيوية الكامنة.

وفي مناطق أخرى من أفريقيا تجري الأمور تمامًا على غرار ما كانت في مصر، وذلك فيما يتعلق بقتل الملك فعلًا، بل إنه يُحدَّد عند بعض الشعوب، بعدد السنوات التي من المفترض أن يصبح الملك بعدها عاجزًا، من حيث حيويته، على مواصلة تولِّي الحكم، ويتم قتله فعلًا. وتبلغ تلك المدة عشر سنوات لدى الميوم (Mboum) في أفريقيا الوسطى، ويتم ذلك الحفل قبل موعد حصاد الدُّخن.

ولا تزال الشعوب التالية تمارس موت الملك الطقوسي في أفريقيا السوداء؛ اليوروبا، والداجومباس، والتشامباس، والدجوكون، والإينجارا، والصونغاي، واليوادي، وهَوْسا الجوبير وكاتسينا، ودوارا، والشلوك (انظر بومان، ص۳۲۸).

وكان ذلك التقليد متبعًا أيضًا في مَرَوي القديمة، أي في النوبة وأوغاندا-رواندا.

(٤) مفهوم نشأة الكون

تتقارب مفاهيم نشأة الكون الزنجية والأفريقية والمصرية حتى إنها تُكمِّل بعضها في حالاتٍ كثيرة. ومن الأمور الملفتة للنظر أنه يتعين الرجوع إلى العالم الأسود لتَفَهُّم بعض المفاهيم المصرية، كما يؤكد ذلك ما جاء آنفًا بخصوص الختان، وكذلك بخصوص الملكية. ويكفي الرجوع فيما يتعلق بالحالة الأخيرة إلى فلسفة البانتو التي درسها الأب تمبلز؛ إذ يوجد في هذه الدراسة مفهومٌ متكامل للحيوية الزنجية، التي تُشكِّل — وفقًا للأب تمبلز — أساس التصرفات اليومية للبانتو.

وقد نوَّه مختلف المؤلفين، المعتبرين حجة، بما فيه الكفاية بصلة القرابة بين العادات، والتقاليد، والأعراف، ونظم التفكير، حتى إنه لم يعد من الضروري الخوض هنا في التفاصيل، وربما لا تكفي حياة بأسرها لحصر كافة قسمات القرابة القائمة بين مصر والعالم الأسود، نظرًا لأن الأمر يتعلق بنفس الشيء.

ولنكتفِ هنا بالاستشهاد ببول ماسون-أورسل، الذي أكد على الطابع الزنجي للفلسفة المصرية، فقال:

«لقد تكيفت الحركة الفكرية النابعة من سقراط وأرسطو وأيقليدس وأرشيميدس مع العقلية الزنجية، حتى إن المتخصص في علم المصريات يلاحظ ذلك كخلفية لتفننات الحضارة التي تبهره.»

«… ولما كنا مدفوعين إلى التفكير فيما يجب أن يكون تحصيل حاصل، حول المظهر الأفريقي للعقلية المصرية، فإننا نُفسِّر ذلك بأكثر من سِمة من سمات ثقافتها» (الفلسفة الشرقية، ص٤٢).

ويشكِّل هذا التماثل بين الثقافة المصرية والثقافة الزنجية، أو بقدرٍ أكبر من العمق، ذلك التماثل في البناء الذهني الذي لاحظه ماسون-أورسل، والذي يجعل من الفلسفة المصرية مجرد انعكاسٍ للعقلية الزنجية، يشكِّل السمة الأساسية، خاصة عندما يُضيف ماسون-أورسل أن هذه الملاحظة يجب أن تكون مسألة دارجة يُسلِّم بها الجميع، والواقع أنها تتجلى بكلٍ وضوحٍ لكل من كانت نيَّته سليمة.

والتماثل بين الثقافة المصرية والثقافة الزنجية واضحٌ بكل تأكيدٍ وبشكلٍ قاطعٍ. وهذا التماثل الأساسي في الفكر والثقافة والجنس هو الذي يسمح لكل الزنوج بأن يربطوا اليوم ثقافتهم بمصر القديمة، وبأن يقيموا ثقافة حديثة على هذا الأساس. إنه اتصال ديناميكي وحديث مع التاريخ المصري القديم، يتيح الإمكانية للزنوج لاكتشاف، بقدرٍ متزايدٍ كل يوم، القرابة الحميمة بين كافة السود في القارة وبين وادي النيل الأم. وسيتوصَّل الزنجي عن طريق ذلك الاتصال الديناميكي إلى الاقتناع تمامًا بأن هذه المعابد، والأعمدة الرائعة، والأهرامات، والتماثيل، والنقوش على الجدران، والرياضيات، وذلك الطب، وكل تلك العلوم، من صُنع أسلافه، وأن من حقِه، ومن واجبه أن يتعرَّف على نفسه تمامًا من خلال كل تلك الإبداعات.

«ومن الآن، وفي إطار تلك البحوث الثمينة للغاية لاكتشاف الفكر، نبدأ في تَبيُّن أن جزءًا كبيرًا من القارة السوداء ليس خشنًا و«همجيًّا» إلى هذا الحد، كما كان ذلك مفترضًا، وأنه يعكس في اتجاهات عديدة عبْر الانعزال الهائل للصحاري والغابات، يعكس التأثيرات الآتية من النيل، عن طريق ليبيا والنوبة وإثيوبيا» (ماسون-أورسل، فلسفة الشرق، مَلْزَمَةٌ ملحقة بتاريخ الفلسفة بقلم أميل بريهييه، ص٤٣).

وفيما يتعلق بتشابه الثامون والتاسوع عند الدوجون (ثمانية أو تسعة آلهة) مع الثامون والتاسوع في مصر، يتعيَّن أن ننقل هنا تقريبًا صفحات كاملة من «إله المياه» لمارسيل جريبول.

ففي كلتا الحالتين هناك أربعة أزواج تولَّدت عن الإله الأصلي، وهي التي أوجدت الخليقة والحضارة؛ ولذا كان العدد ٨ أساس نظام الترقيم عند الدجون، وهكذا كان العدد ٨٠ يعادل عندهم العدد ١٠٠ والعدد ٨٠٠ يعادل العدد ١٠٠٠.

ومن هنا ندرك أن عبادة الأسلاف كانت في كل من أفريقيا السوداء ومصر أساس مفهوم نشأة الكون. فبينما يتصاعد الأسلاف القُدامى للغاية كالبخار لينتقلوا إلى المناطق الإلهية، فإن الأسلاف القريبين، الذين تُوفوا منذ أمدٍ قريبٍ، ليسوا سوى أنصاف آلهة للأسرة، لأن معالم ذكراهم لم تُطمَس بعد بحيث لا يعودون أسلاف هذه الأسرة أو تلك، ولكن أسلاف كل الشعب.

وعندما ندخل في المرحلة التاريخية، حيث لا يسمح الحرص على تسجيل الأحداث أن تتناثر وتُصبح غامضة، تغدو عملية التأليه محصورة إلى حدٍّ ما، وتستمر عبادة الأسلاف، إلا أنهم يصبحون شخصيات تاريخية بقدرٍ أو آخر.

وبوسعنا أن نؤكد بالأخص على تشابه الإله-الثعبان عند الدجون والإله-الثعبان في مجمع الأرباب عند المصريين، فكلاهما يرقص في الظلمات. وقد كتب أميلينو يقول فعلًا إن الإله-الثعبان يُسمَّى «الذي يرقص في الظلمات». وقد جاء ذلك في إشارة إلى الثعبان في عبارة منقوشة على تابوتٍ بمتحف مارسيليا، إلى جانب تصوير لمقبرة أوزيريس (تمهيدات لدراسة الديانة المصرية، ص٤١).

وفي مجمع الأرباب عند الدوجون، تحوَّل السلف السابع إلى ثعبان، وقد قتله القوم وتم دفن رأسه تحت وسادة الحداد. ويشرئب السلف/الثعبان من هذا اللحد ليؤدي رقصة في جوف الأرض، أي في الظلمات، لكي يتجه نحو مقبرة أقدم المسنِّين ليلتهمه:

«وعلى إيقاع منفاخ الحداد المزدوج الذي يؤجج النار، وإيقاع الكتلة التي تقرع السندان، تقمَّص النومو السابع شكلَ جني ذي جذع بشري، يتخذ في طرفه مظهر الزواحف، ثم ينتصب على ذيله، بحركاتٍ منتظمة لذراعيه الممددتين أمامه، ومع اهتزازات إيقاعية للجسد، راح يؤدي الرقصة الأولى التي تفضي به تحت الأرض إلى مقبرة الشيخ المسن.»

«وعلى إيقاع ضربات الكور، تقدم السابع شمال الجسد، من ناحية الجمجمة، وابتلعه» (مارسيل جريبول، إله المياه، ص٦٢).

بل إنه بوسعنا أن نتوسع في تلك السمات الأخيرة التي تعود إلى الأكل الطقوسي للحم البشر، الذي تواجد أصلًا هو أيضًا في مصر. وهكذا يكون ذلك الصنيع نابعًا من المبادئ الحيوية التي يعتمد عليها المجتمع الأسود، هذا إذا استبعدنا الضرورات الاقتصادية؛ فاستيعاب جوهر الآخر يعني استيعاب قوته الحيوية، مما يزيد بذلك من الحصانة إزاء قوى الكون المدمِّرة.

كما أنه يمكننا أن نعقد نفس المقارنة بين الإله-ابن آوى الزاني بمحرم في محفل الأرباب عند الدوجون، والإله ابن آوى في محفل الأرباب المصري، حامي الحوض، حيث كان يتعين على المتوفين أن يتطهَّروا، غير أن الاتجاه يميل الآن إلى تشبيه الإله-ابن آوى بالإله-الكلب.

وأخيرًا فإن الموقع الذي تحتلُّه صور البروج الفلكية في مفهوم نشأة الكون عند الدوجون يستحق منَّا الاهتمام عندما نعرف أن الدوجون كانوا يعرفون نجم الشِّعرَى اليمانية؛ فلا بد حينئذٍ أن يتبادر إلى الأذهان التقويم المصري القائم على الشروق الاحتراقي لهذا النجم قبيل شروق الشمس.

(٥) التنظيم الاجتماعي

يتطابق تمامًا التنظيم الاجتماعي للحياة الأفريقية مع ذلك التنظيم في مصر.

ففي مصر، كان يوجد التقسيم الفئوي التالي:
  • الفلاحون.

  • العمال المتخصصون.

  • الكهنة والمحاربون والموظفون.

  • الملك.

  • وفي بقية أنحاء أفريقيا هناك:

  • الفلاحون.

  • المهنيُّون أو العمال المتخصصون المنظَّمون في طوائف.

  • المحاربون والكهنة أو الدومي سوهنا بلغة الوُلوف.

  • الملك.

(٦) النظام الأمومي

يعتمد التنظيم الاجتماعي في مصر على النظام الأمومي، شأنه في ذلك شأن بقية أفريقيا السوداء. وعلى النقيض من ذلك لم يتمكن أحد أبدًا من إثبات وجود نظام أمومي في العصر الحجري القديم في حوض البحر الأبيض، انفرد به جنس أبيض. ويكفينا، لكي نقتنع بذلك، أن نذكر حجج مؤلف خصَّص ٤٣٧ صفحة لكي يحاول، بلا جدوى، «تبييض» أفريقيا السوداء:

«يتم توارث العرش في كانو وفقًا للنظام الأمومي، الموروث عن العصر الحجري القديم في حوض البحر الأبيض المتوسط حتى عهد هيمنة البول (Peulh). ويُقال إن ملكة دوارا كانت لديها بقرة ركوب، مما يذكِّرنا بأعراف الجارامانت القُدامى! وهكذا نصطدم مرة أخرى بأفريقيا البيضاء القديمة، ذات النظام الأمومي الذي تُنسَب إليه بشكلٍ وثيق شعوب كردفان والنوبة، بما في ذلك التيدا والطوارق وأيضًا ملوك السودان الغربي» (بومان، ص٣١٣).

وسنلاحظ أن هذه التأكيدات التي لا يضاهي خطورتها سوى افتقادها للصواب، لا تنبع إلا من واقعة يتعيَّن علينا أن نُقدِّر إلى أي حدٍّ كانت واهية؛ ذلك أن ملكة دوارا كانت تمتطي بقرة مخصصة للركوب.

وسنلاحظ، بالمناسبة، أن بومان «بَيَّض» حتى ملوك السودان الغربي وفقًا للطريقة النازية المعهودة، ألا وهي تفسير كل حضارة أفريقية من خلال نشاط جنس أبيض أو إحدى سلالاته، حتى ولو اقتضى الأمر إصدار قرار بأنه يوجد بيض «سود» وبيض «لونهم أحمر داكن» … إلخ، على أن يتم تجميعهم تحت اسم الحاميين لحل المشكلة.

ولو لم يكن النظام الأمومي الموروث من العصر الحجري القديم في حوض البحر الأبيض المتوسط مجرد نظرية لا تمت للواقع بِصلة، لظل قائمًا في مختلف العهود؛ الفارسية والإغريقية والرومانية والمسيحية، كما استمر حتى أيامنا هذه في أفريقيا السوداء، غير أننا نعلم أن ذلك لم يحدث.

وقد حدَّد كورش خلافته مقدَّمًا بأن عيَّن ابنه البكر قمبيز الذي قتل شقيقه ليتجنب أي منافسة. وفي اليونان كانت الخلافة عن طريق الانتساب الأبوي في أحسن الحالات، وكذلك في روما.

والواقع أن النظام الملكي لم يتواجد أبدًا في اليونان؛ ففيما عدا عهد الإسكندر، لم تتوحَّد البلاد أبدًا. وملوك العصر البطولي الذين تحدث عنهم هوميروس ليسوا سوى ملوك مدن ورؤساء قرى، مثل أوليس … بل إن الخلافات بين تلك القرى كانت تتخذ — أحيانًا — منحًى طفوليًّا، بإلقاء الحجارة على سكان القرية المجاورة الذين يعبرون قريتهم. وفي أحسن العهود، حَكَم المدن الإغريقية، مثل أثينا، تجار مغامرون وطموحون، تبوءوا السلطة عن طريق تدبير المكائد، والإسكندر الذي وحَّد البلاد لأول مرة تحت هيمنته السياسية كان أجنبيًّا من مقدونيا. ويمكننا أن نلاحظ أنه لم يحدث أبدًا في التاريخ الإغريقي والروماني … والفارسي أن تقلَّدت السلطة ملكة، علمًا بأن الإمبراطورية الشرقية (البيزنطية) يجب أن ننظر إليها على حدة كحالة معقَّدة. وعلى النقيض من ذلك، كثيرًا ما كانت هناك ملكات في أفريقيا السوداء في تلك العهود القديمة، وعندما اكتسب العالم الهندو-أوروبي قدرًا كافيًا من القوة العسكرية للانطلاق في غزو بلاد قديمة عرَّفته بالحضارة، قوبِل بمقاومة عنيدة، لا تُقهر، على يد ملكة كانت إرادة الكفاح التي تحلَّت بها رمزًا للكبرياء القومي لشعبٍ كان قد أخضع الآخرين، حتى ذلك الوقت، لقوانينه؛ إنها كانديس، ملكة السودان المروي٢ التي أثارت إعجاب العهود القديمة بالمقاومة التي واجهت بها على رأس قواتها، جيوش قيصر-أغسطس، الرومانية. وقد فقدت عينًا في المعركة، فزاد ذلك من شجاعتها، وتضاعف الإعجاب بها من فرط ازدرائها للموت وبسالتها، حتى من جانب وطنيٍّ متطرف مثل سترابون الذي قال عنها: «لقد فاقت شجاعة هذه المرأة جنسها.» وفي بداية الحضارة الغربية، اعتاد ملوك الفرنجة — شيئًا فشيئًا — أن يحددوا مَن يخلفهم مقدَّمًا، مستبعدين تمامًا مفهوم النظام الأمومي. وهكذا تنتقل الحقوق السياسية في الغرب عن طريق الأب، ولا يعني ذلك أن البنت ليست أهلًا للحصول عليها.

وعلى النقيض من ذلك لا يزال النظام الأمومي الزنجي حيًّا في أيامنا هذه كما كان في العهود القديمة. وفي المناطق التي لم يتعرض فيها هذا النظام لتأثيرٍ خارجي، لا تزال الحقوق السياسية تنتقل بالكامل عن طريق المرأة.

ويعود ذلك إلى فكرة أعم تَعْتَبِر أن التوارث لا يكون فعَّالًا إلا إذا كان أصلًا عن طريق الأم.

وهناك سمة أخرى مميزة للنظام الأمومي الأفريقي، أُخطِئ فهمها حتى الآن، ألا وهي المهْر الذي يُقدِّمه الرجل للمرأة بينما تعارفت البلدان الغربية على التقليد المناقض لذلك. وهذا العُرف الذي لم تتفهمه أوروبا، يدفع إلى الاعتقاد بأن الرجل يشتري المرأة في أفريقيا السوداء، تمامًا كما قد يقول أحد الأفارقة اليوم إن المرأة تشتري الرجل في أوروبا.

ففي أفريقيا، تحصل المرأة على ضمان في شكل مَهْر في ذلك التعاقد المتمثل في الزواج، وذلك نظرًا لمركزها المتميز بفضل النظام الأمومي. ومما يُثْبِتُ أنها لم تُشتر (رقيق) أن هذا المهْر لا يُقيِّدها إلى الأبد ببيت الزوجية إذا تبيَّن أن الزوج مخطئ حقًّا. ففي هذه الحالة يمكن فض الزواج لغير صالحه في غضون ساعات قليلة. وعلى عكس ما يتردد، فإن الأعمال الأقل مشقة هي التي تختص بها النساء.

fig43
شكل ٤-٢: ملكة سوداء من السودان القديم.

وهي من سلالة كانداس التي كثيرًا ما استعارت الملكات السودانيات اسمها، تيمُّنًا بمقاومتها الباسلة التي جعلتها في مصاف جان دارك في فرنسا (صورة نقلها لبسيوس، ونشرها لينورمان في كتابه «تاريخ مصر»).

(٧) ما هو أصل ذلك النظام الأمومي الزنجي؟

لا نعرف حاليًّا ذلك الأصل بشكلٍ أكيدٍ، ولكن هناك رأي شائع يرى أن النظام الأمومي مرتبط بالزراعة. فإذا كانت النساء قد اكتشفت الزراعة، كما هو معتقَد أحيانًا، وإذا كان صحيحًا أنهن كنَّ أول من فكَّر في انتقاء الأعشاب المغذِّية نظرًا لأنهن كنَّ يُلازمن «البيت» بينما يتفرغ الزوج للأعمال التي تتضمن مخاطرة أكبر (القنص، الحرب … إلخ)، فإن ذلك يفسر، في الوقت نفسه، سِمة أخرى مهمة، في الحياة الأفريقية لم يُنتبه إليها تقريبًا، ألا وهي أن المرأة سيدة البيت بالمعنى الاقتصادي للكلمة؛ فكافة المأكولات توجد تحت تصرفها هي، ولا يستطيع أحد أن يمسَّها، بما في ذلك الزوج، دون موافقتها. وكثيرًا ما تكون في متناول يد الزوج الأغذية التي أعدَّتها زوجته، ولكنه لا يجرؤ على لمسها بدون إذن منها، فالدخول في المطبخ يُعتبر سقطة بالنسبة للرجل في أفريقيا السوداء، وهكذا تمارس، إلى حدٍّ ما، سيطرة اقتصادية على المجتمع الأفريقي، تكون أقوى مع اتِّباع هذا العرف على نطاقٍ واسع.

ويتيح أيضًا هذا الافتراض (أن المرأة هي أصل اكتشاف الزراعة) فَهْم استمرار حفاظ النساء — حتى الآن — على عادة زراعة الحديقة المحيطة بالكوخ بأنفسهن، باعتبارها مجالهن الخاص، حيث يتزودن بالخضراوات.

وقد يعتقد البعض أن الزراعة ظهرت في كل مكان في إحدى مراحل الإنسانية، ترجع إلى حوالي ثمانية آلاف سنة قبل المسيح. بَيْدَ أننا لا نجد آثارًا للحياة الزراعية تعود إلى تلك الحقبة بشكلٍ مؤكدٍ إلا في الصحراء. وكان جنس «زنجوي» و«مكتنز الإليتين» (زنجي)، كما يقترح ت. مونو، يمارس تلك الزراعة. وقد انتشرت الزراعة مبكرًا في المنطقة الممتدة بين المدارَين، من الصحراء حتى الهند، وربما أيضًا حتى بحيرة بايكال. أما السهوب الأوروبية الآسيوية غير الصالحة للزراعة والحياة الحضرية، فيبدو أنها كانت دائمًا مهدًا للترحال؛ ولذا كانت مفاهيم الحياة عند الهندو-أوروبيين، الذين شَكَّلهم وسطهم الجغرافي، متعارضة تمامًا مع مفاهيم الزنوج.

وقد تميزت نهاية الحقبة الإيجية، كما تَبيَّن لنا مما جاء آنفًا، بلفظ النظام الأمومي الزنجي الذي تأثر به الهندو-أوروبيون إلى حدٍّ ما. ولما كان النظام الأمومي الزنجي من السِّمات الأساسية للحضارة الزراعية الزنجية، فقد أصبح من العبث — تقريبًا — أن يُنظَّم التوارث في دولة أقامها البيض.

ويلجأ العديد من الأفارقة المسلمين إلى تعديل شجرة أنسابهم، بإضافة فروع لها حتى يكونوا من سلالة الأشراف. وكان ذلك هو الاتجاه الذي سلكه الأمراء السارا في غانا، عندما أصبحوا سارا كوله، وذلك في الفترة التي امتزجت فيها الأسرة الحاكمة في غانا بالدماء العربية مع دخول الإسلام.

ونحن نعلم، عن طريق المؤرخين العرب في العصور الوسطى، أن الأمراء السود في غانا كانوا يفرضون سلطانهم على البربر الطوارق في «وادوجوست» الذين كانوا يؤدون لهم الجزية. وسنلاحظ أن كلمة «وادوجوست» لها جرْس من مصدر جرماتي، يُذكِّرنا بأسماء مثل فيزيجوت وأوستروجوت، وتتفق هذه الفكرة مع افتراض الأصل الفاندالي (الجرماني) للبربر.

وقد زار ابن بطوطة السودان في العصور الوسطى فاسترعى انتباهه النظام الأمومي الزنجي، وقال في هذا الصدد إنه لم يجد مثيلًا له إلا في الهند عند شعوب سوداء هي أيضًا:

«ولا يُنسب أحدهم (أي الزنوج) إلى أبيه، بل يُنسب لخاله، ولا يرث الرجل إلا أبناء أخته دون بنيه. وذلك شيء ما رأيته في الدنيا إلا عند كفار بلاد المليبار من الهنود» (تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، لابن بطوطة، المطبعة الأميرية، بولاق، ١٩٣٤م، الجزء الثاني، ص٢٩٩).

ويجب ألا نخلط بين النظام الأمومي وحُكم الفارسات الخرافيات — الأمازون في أفريقيا وجورجون — وهو نظام أسطوري كانت تسيطر فيه النساء على الرجال، ويتميز بأساليب الحطِّ من شأنهم. فكان يتعيَّن منعهم، في تربيتهم، دون أن يقوموا بكل ما قد يُنمِّي شجاعتهم أو يستحث كرامتهم. وكان عليهم أن يعملوا كمرضعات محل النساء اللاتي كنَّ يُدافعن عن المجتمع، ويستأصلن الثدي لكي يستخدمن القوس والسهم بمزيدٍ من الكفاءة. ولو اتكل المرء على تلك الأسطورة لتعيَّن عليه أن يفترض سيطرة شرسة من جانب الرجال، أي فترة كان يسود فيها نظام «أبوي» أعقبه تحرر الأمازونيات، ومرحلة من الانتقام على أيديهن. ولا بد أن يكون هذا التمرد والانتصار على الرجال جزئيًّا لأنه لم يتواجد إلا لدى الأمازون والجورجون في عهودٍ مُوغِلة في القِدم. ولما كانت الأمازونيات فارسات مِقدامات فإن ذلك يدفع إلى الاعتقاد بأنهن منحدرات من السهوب الأوروبية الآسيوية، خاصة وأن هذه المنطقة كانت مهدًا للجياد.

والنظام الأمومي بمعنى الكلمة يتميز بالتعاون والازدهار المتناسق لكلا الجنسين، بل وحتى بقدرٍ من رجحان كفة المرأة في المجتمع، يعود إلى الظروف الاقتصادية الأصلية، وإلى تقبُّل الرجل له، بل ودفاعه عنه.

(٨) القرابة بين السودان المرَوي ومصر أسبقية السودان المرَوى وقيام الأسرة السودانية المرَوية: بعانخي، وشاباكا، وسباتاكا

إذا أخذنا في عين الاعتبار أن إثيوبيا٣ الراهنة ليست إثيوبيا الأولين، وأنها كانت تعني أساسًا حضارات مرَوي وناباتا وسنار السودانية، لتوجَّب علينا أن نعترض على كمٍّ من التعبيرات الحديثة المتعسفة التي تتمثَّل في إزاحة إثيوبيا القديمة تدريجيًّا نحو الشرق، إلى أديس أبابا. فالملوك الذين طَردوا مغتصبي عرش مصر الليبيين، في عهد الأسرة الخامسة والعشرين في حوالي عام ٧٥٠ق.م. كانوا بالفعل ملوكًا سودانيين.

فقد اعتلى شاباكا عرش مصر في عام ٧١٢ق.م. بعد أن طرد بوخوريس الغاصب. وقد استقبله الشعب المصري بحماسٍ باعتباره باعث التقاليد القديمة مما يشهد — مرة أخرى — لصالح تلك القرابة الأصلية بين المصريين والإثيوبيين الزنوج. وقد اعتبر المصريون دائمًا إثيوبيا وأغوار أفريقيا أرضًا مقدسة جاء منها الأسلاف. ويُبيِّن لنا النص التالي لشيروبيني كيف كان رد فعل الشعب المصري إزاء أسرة إثيوبية جاءت من بلاد كوش، أي السودان، وأمسكت بزمام السلطة في البلاد.

«وعلى أي حالٍ، فإنه لمن الجدير بالملاحظة أن سلطة ملك إثيوبيا كان مُعترَفًا بها في مصر، لا كسلطة عدو تفرض قوانينها بقوة السلاح، بقدر ما كان يُنظر إليها كنظام وصاية رحَّبت به البلاد التي عانت الأمرِّين طويلًا، وتعرَّضت للفوضى في الداخل والضعف في الخارج، ووجدت في هذا العاهل، الممثِّل على أي حالٍ لأفكارها ومعتقداتها، باعثًا متحمِّسًا لمؤسساتها، وحاميًا قويًّا لاستقلالها. والواقع أن حكم شاباكا كان مُعتبرًا من أسعد العهود التي احتفظت مصر بذكراها. وأسرته التي تم تبنيها في أرض الفراعنة، تحتل الترتيب الخامس والعشرين في سلسلة الأُسر الحاكمة القومية التي تبوأت عرش البلاد» (شيروبيني، النوبة، سلسلة الكون، باريس، ١٨٤٧م، ص١٠٨).

وهذه القرابة بين مصر والنوبة، وبين مصرايم وكوش، وكلاهما من أبناء حام، تتكشف من خلال العديد من أحداث التاريخ NgD المصري-النوبي.
وقد اضطر بودج (Budge) إلى الاعتراف، بعد شيروبيني، بتلك القرابة: «لقد لاحظ بودج أن معبد تي-راكا — في سمَّا — قد نُذر لروح الفرعون أوسارتا سون الثالث باعتباره أبًا إلهيًّا، فعبَّر عن رأيه، ألا وهو أن الملوك الإثيوبيين المحليين كانوا يَعتبرون الغزاة المصريين الأوائل كأسلاف لهم … ويلاحظ بودج أن المصريين كانوا حريصين على اقتناعهم الراسخ بأنهم مرتبطون ارتباطًا وثيقًا بشعب بلاد بونت، أي إثيوبيا الراهنة، مع مراعاة التسلسل الزمني. وقد لاحظ في نهاية الأمر أن أهالي بلاد بونت هذه كانوا قد تميَّزوا منذ زمن بعيد، في عهد الملكة حتشبسوت، بتلك اللحية المجدولة التي يتزيَّن بها وجه الآلهة في كل النقوش المصرية» (بدرال، ص١٨ و١٩).

ويستحق هذا النص تعليقًا بسيطًا؛ فالعنصر الأخير المتمثِّل في اللحية المجدولة لا يزال منتشرًا في أفريقيا السوداء، كما أن اقتناع المصريين الراسخ لم يكن مقتصِرًا على الصلات الوثيقة بين الشعبَين، بل كان يتعلق بالقرابة الأصلية والبيولوجية، لكون سلفهم واحدًا هم والزنوج الذين كانوا يقطنون آنذاك بلاد بونت. وهذا السلف المشترك كان المصريون والنوبيون يعبدونه معًا تحت اسم الإله آمون، إله كل أفريقيا السوداء حاليًّا، كما تَبيَّن لنا ذلك من قبل.

وحتى نهاية الإمبراطورية المصرية ظَلَّ ملوك النوبة (السودان حاليًّا) يحملون نفس لقب فرعون مصر، ألا وهو صقر النوبة (دياهاي، ماف بالوُلوف). وآمون وأوزيريس يصوَّران بلون أسود فاحم، وإيزيس ربة سوداء، والمواطن القومي وحده، أي الأسود، هو الذي يمكنه أن يحظى بشرف خدمة طقوس الإله «مين»، وما كان يمكن أن تكون كاهنة آمون في طيبة، الموقع المقدس الأعلى في مصر، إلا سودانية مَرَويَّة. وهذه الوقائع أساسية وقاطعة، وقد حاولتْ — عبثًا — التخيلات البارعة أن تتوصل إلى تفسير لذلك يتفق مع فكرة الجنس المصري الأبيض.

«كان هناك في كل من ممفيس وطيبة ومَرَوي محراب للإله كوش تحت اسم خونسو، إله السموات بالنسبة للإثيوبيين، وهرقل بالنسبة للمصريين» (بدرال، ص٢٩).

«خون» إله السموات عند الإثيوبيين، معناه قوس قزح بالوُلوف. وكانت هناك أرض تسمى أرض خونس في أعالي النيل علمًا بأن معنى كلمة خون يمتد ليصبح «ميت من العالم الآخر لم يبلغ بعدُ المرتبة الإلهية»، كما أن خون معناها الموت بلغة السيرير.

وهكذا يتبين أن النوبة لها قرابة وثيقة بكل من مصر وبقية أفريقيا السوداء، وأنها كانت على ما يبدو نقطة انطلاق لكل من الحضارتين. ولذا لا يُدهشنا أن نجد اليوم العديد من السِّمات الحضارية المشتركة بين النوبة، التي استمرت مملكتها حتى الاحتلال الإنجليزي، وبقية أفريقيا السوداء. وعلى أثر انتهاء التاريخ المصري-النوبي القديم، ارتفع شأن إمبراطورية غانا كالشعلة بين منحنى نهر النيجر ونهر السنغال، في فترة تقع بشكلٍ غير محقق في القرن الثالث بعد الميلاد. ويتضح لنا إذن، من هذه الزاوية، أن التاريخ الأفريقي ظل متواصلًا، فقد أعقبت الأسر الحاكمة النوبية أسر مصرية حتى احتلال الهندو-أوروبيين لمصر ابتداءً من القرن الخامس قبل الميلاد. وظلت النوبة مركز الثقافة والحضارة الوحيد حتى القرن السادس تقريبًا، ثم تسلمت غانا المشعل من القرن السادس حتى عام ١٢٤٠م، تاريخ تدمير عاصمتها على يد سوندجاتا كيتا، فانطلقت أخيرًا الإمبراطورية المادينجية (عاصمة مالي) التي قال عنها ديلافوس: «غير أن هذه القرية الصغيرة في أعالي نهر النيجر ظلَّت، طوال مئات من السنوات، العاصمة الرئيسية لأكبر إمبراطورية عرفتها أفريقيا السوداء ولواحدة من أكبر الإمبراطوريات التي تواجدت في العالم» (ديلافوس، سود أفريقيا، الناشر بايو، ١٩٢٢م، باريس). ثم جاءت بعد ذلك إمبراطورية جاو، وإمبراطورية ياتنجا (أو موسى، والقائمة حتى الآن)، ومملكتا دجولوف وكايور اللتان حطمهما فيدهِرْب (Faidherbe)، في ظل حكم نابوليون الثالث. وقد ابتغينا، من خلال التذكير بتلك الأحداث المتسلسلة زمنيًّا، أن نُبيِّن فقط أنه لم يحدث انقطاع في التاريخ الأفريقي. ومن الجلي أننا لو اتخذنا اتجاهًا جغرافيًّا قاريًّا، ابتداءً من النوبة ومصر، مثل النوبة-خليج بنين، أو النوبة-الكونغو، أو النوبة-الموزمبيق، لبدا لنا التاريخ الأفريقي متواصلًا أيضًا.

وتلك هي الزاوية السليمة التي يجب أن يُنظر من خلالها إلى التاريخ الأفريقي. وأيًّا كانت مهارة التفسيرات التي تُقدَّم لمحاولة تحاشي ذلك، فستبوء كلها بفشلٍ ذريع، لأن أي تفسيرات تتجاوز الحقائق لا يمكن أن تكون مثمرة.

وعلى نفس المنوال، فإن علم المصريات لن يرتكز على أرض صلبة إلا في اليوم الذي سيتم الاعتراف فيه رسميًّا، وبلا تكلُّف، بأساسه الزنجي الأفريقي.

وبوسعنا أن نقرر بكل ارتياحٍ، اعتمادًا على الوقائع المذكورة آنفًا، وتلك التي سنوردها فيما بعد، وبالاستناد إلى واقع التاريخ المصري الأفريقي، أنه طالما ظل علم المصريات يتجنب ذلك الأساس الزنجي، وطالما سيكتفي بمغازلته فقط لمجرد محاولة الظهور بمظهر النزاهة، وطالما ظل هذا العلم متمسكًا بذلك الموقف، فإن استقرار أُسسه سيكون مثل الهرم المعتمد على قمته، وسيجد نفسه دائمًا أمام طريق مسدود، بعد تلك التفسيرات المتحذلقة.

أوَليس من الطبيعي إذن أن تجد في أفريقيا مجمع الأرباب المصري-النوبي بأكمله تقريبًا؟ يُحدِّثنا بدرال، نقلًا عن موريه، بخصوص رواية قبطية، عن ملكَين لم تُحدَّد هويتهما، كان ثانيهما الملك شانجو، ياكوتا، أو خيفيوسو (حسب اللهجات المحلية). وهذا الأمير الذي كان يُعبد في كل ساحل العبيد (غينيا) تحت تسميات مختلفة، باعتباره إله الصواعق والدمار، كان ملك كوش، حسب روايات السود أنفسهم، ومن هناك جاء لقبه أوبا-كوسو. وكان شانجو أو أوبا-كوسو، مغرمًا بالحرب والقنص، وقد قادته فتوحاته حتى الداهومي، وكان الملكَان بيري (إله الظلمات) وأيدو-كويدو (إله قوس قزح) عبدَين له.

ووفقًا لموريه، كان أوبا-كوسو هذا قد وُلِدَ في إيفه، وهو موقع يجهله المؤلف تمامًا. ويحمل أوبا-كوسو لقب «الابن الأول للإله الأعظم»، وقد جاء إلى الوجود عن طريق العلاقة المحرَّمة بين أروجان إله الجنوب ويماديا، أمُّ «الإعصار» ذاته، علمًا بأنها هي نفسها أخت أجاندجو، إله الفضاء، وشانجو-أوبا-كوسو له أخوَان هما؛ دادا، إله الطبيعة وأوجون، إله القناصين والحدادين. وقد تزوج ثلاث نساء؛ أويا، وأوسون، وأوبا. ومن الجلي أن أوروجان ويماديا يُعيدان إلى الأذهان علاقة آمون وخام المحرَّمة وابنهما مُوت الذي يحمل مع ذلك لقب ملك كوش. كما أن أوسون تُعيد إلى الأذهان آسون، زوجة توبوم-ست-تيفون، التي تزوجها بعد ذلك حورس، ابن مصرايم-أوزيريس، ودادا يُعيد إلى الأذهان ديدان، ابن كوش وفقًا لرواية، ورياما ابن كوش وفقًا لرواية أخرى، علمًا بأن هناك جانبًا غير محقَّق زادته التوراة غموضًا. وأخيرًا فإن كوش كانت له، عند الإثيوبيين، ثلاث زوجات كنَّ شقيقاته.

«تلخص شهادات موريه … هذه جزءًا أساسيًّا من التقاليد المشتركة في البلدان المطلة على خليج بنين (توجو، داهومي، نيجيريا) بين الإيوي، والجوين، والفون واليوروبا، علمًا بأن المدينة المقدسة للأخيرَين كانت أيله، إيفه …» (بدرال، المرجع السابق، ص٣٠ و٣١).

وهذه الشهادات التي نقلها بدرال عن موريه، أوردها الأقباط أنفسهم. وتعود أهمية تلك الرواية إلى اختلاطها بكل بساطة مع تلك التي نجدها في أفريقيا الغربية في الوقت الراهن، عند أهالي داهومي وتوجو ونيجيريا … إلخ، حيث شانجو وأوراجون، وهما من آلهة نيجيريا وكل خليج بنين عمومًا. وإيفه التي نقل موريه اسمها عن النصوص القبطية دون أن يعلم أنها المدينة الكهنوتية لنيجيريا، تدلل على الارتباط الحميم بين التاريخ المصري وتاريخ أفريقيا السوداء. وأوروجان، إله الجنوب يذكِّرنا بالكلمة الأنتيلية المشتقة منها أوراجون (إعصار بالفرنسية)، والتي تعود، على ما يبدو، إلى أصل أفريقي، وانتقلت إلى جزر الأنتيل عن طريق الفودو. وياكوتا، إله الدمار، يُذكِّرنا بكلمة ياكوتا بالوُلوف التي تعني الدمار.

ويجدر بنا أن نذكر أن الملك الموسي يحمل حاليًّا لقب نابا، وهو نفس اللقب الذي كان يحمله ملك كان يحكم قِسمًا من النوبة.

«وكان أقوى هؤلاء الملوك الأربعة الذين حكموها «ناب» من نافتا بالكردفان التي كانت عاصمته قائمة باتجاه حوفرات، في الهاس التي كانت منذ هذا الزمن موقعًا تُستخرج منه كميات كبيرة من النحاس إلى جانب الذهب. وكان هذا الذهب والنحاس يُنقَلان إلى النوبة حيث كان يحضر ملوك الغرب والشرق للحصول عليه. وكان «الناب» يحكم في الجنوب عددًا كبيرًا من الشعوب التي كانت تصنع له الأسلحة من الحديد، وترسل له عبيدًا» (بدرال، نفس المرجع، ص٣٦).

وعندما تعرَّض الجيش لسوء المعاملة في عهد بسامتيك، انتقل ٢٠٠ ألف من رجاله، تحت قيادة كوادره، من برزخ السويس إلى السودان النوبي حيث وضع نفسه تحت إمرة ملك النوبة.

ووفقًا لهيرودوت، أنزل ملك النوبة الجيش بأسره في أراضٍ ليزرعها، واستوعب الشعب النوبي نهائيًّا كافة أفراد هذا الجيش. وقد جرى ذلك في فترة كانت قد مضت فيها من قبل آلاف السنوات على الحضارة النوبية؛ ولذا تصيب المرء الدهشة عندما يحاول بعض المؤرخين استخدام تلك الواقعة لتفسير ظهور الحضارة النوبية. فعلى عكس ذلك، فإن كل العلماء الأوائل الذين درسوا النوبة، والذين يرجع إليهم فضل اكتشاف الآثار النوبية ومنهم كايو (Caillaud) يستخلصون من ذلك أسبقية النوبة.
ويتضح من دراساتهم أن الحضارة المصرية تولَّدت من حضارة النوبة أي السودان، وكما لاحظ بدرال فقد استخلص كايو ذلك من واقع معين، وهو أن كافة أدوات العبادة (أي جوهر التقاليد المقدسة) نوبية.٤ وهكذا يفترض كايو أن جذور الحضارة المصرية كانت في النوبة (السودان)، وأنها انحدرت تدريجيًّا مع وادي النيل. وبذلك يكون قد اكتشف من جديدٍ، أو تحقق على الأرجح، من وجهة النظر الإجماعية للفلاسفة والكُتَّاب القُدامى الذين اعتبروا أسبقية النوبة أمرًا مفروغًا منه.
وقد أفادنا ديودور الصقلي أنهم كانوا يُخرِجون كل عام تمثال آمون ملك طيبة باتجاه النوبة (أي السودان) لبضعة أيام، ثم يُعِيدونه بعد ذلك للتدليل على أنه عاد من النوبة. ووفقًا لنفس المؤلف، فقد نبعت الحضارة المصرية من حضارة النوبة التي كانت مَرَوي مركزًا لها. والواقع أن كايو اكتشف في حوالي عام ١٨٢٠م أطلال مروي؛ ثمانين هرمًا وعدة معابد مكرَّسة لآمون رع … إلخ، وذلك اعتمادًا على إشارات ديودور وهيرودوت إلى موقع تلك العاصمة السودانية٥ … ويفيدنا هيرودوت من جهة أخرى (نقلًا عما قاله له الكهنة المصريون أنفسهم) أن من بين الفراعنة الثلاثمائة منذ عهد نعرمر حتى الأسرة الثامنة والعشرين، كان ثمانية عشر فرعونًا، لا الثلاثة فقط الخاصُّون «بالأسرة الإثيوبية»، من أصل سوداني.

والمصريون أنفسهم، وهم أدرى الناس بأصولهم، يعترفون بلا لفٍّ أو دوران أن أسلافهم جاءوا من النوبة وقلب أفريقيا، وبلاد الآمام، أي بلاد الأسلاف (ولنلاحظ أن آمام تعني السلف بلغة الوُلوف) وهي مجموع بلاد الآلهة. وهناك وقائع أخرى، من بينها الأعاصير والأمطار الغزيرة التي ورد ذكرها في هرم أوناس، تُذكِّرُنا بالمناطق المدارية، في قلب أفريقيا، كما لاحظ ذلك أميلينو.

وبمقتضى أسبقية النوبة هذه، مهد الحضارة والديانة، يقول هوميروس في بيت شعر من الإلياذة إن جوبيتر ينزل كل عام مع موكب الآلهة ليحج إلى إثيوبيا، لكي يجدِّد قواه.

ومما له مغزاه أن أعمال التنقيب التي تمت حتى الآن، في محيط إثيوبيا القدماء، لم تكشف عن وثائق جديرة بهذا الاسم إلا في النوبة ذاتها، لا في إثيوبيا الحالية. فهناك بالفعل أهرامات في النوبة على غرار تلك التي تم اكتشافها في مصر، ومنها هرما أسور ونوري. كما أن المعابد المُقامة تحت الأرض وغيرها، توجد هناك، لا في إثيوبيا، ومنها معابد سمنا وتيفونيوم وحتحور في إيسامبول (انظر الصورة رقم ٤-٣)، وكذلك الكتابة المُسمَّاة المَروية التي لم يتم بعدُ فك رموزها، وهي قريبة من الكتابة المصرية. وهناك شيء مثير للانتباه، لم يتم التأكيد عليه، وهو أن الكتابة النوبية متطورة بقدرٍ أكبر من اللغة المصرية، بينما لم تتخلص الأخيرة أبدًا، حتى في أطوارها الديموطيقية والهيراطيقية، من جوهرها الهيروغليفي، علمًا بأن الكتابة النوبية تعتمد على الحروف الأبجدية، لا الرموز.

وبالطبع، يمكننا أن نتوقع، دون خوفٍ من خيبة الأمل، محاولات لتشبيب الحضارة النوبية، واجتهادات لتفسيرها من خلال الحضارة المصرية. وهذا ما اعتقد ريسنر أنه نجح في التوصل إليه، في دراسة لا تشمل إلا المرحلة التاريخية النوبية التي تعود إلى العهد الآشوري، أي في الألف الأولى قبل الميلاد. وهو يفترض أن النوبة كانت تحكمها قبل ذلك أسرة ليبية، وأن الأُسر النوبية التي أعقبتها لم تكن إلا امتدادًا لها. ومرة أخرى يتولى جنس أبيض أسطوري مهمة إقامة حضارة والانسحاب بما يشبه المعجزة لكي يترك المجال للسود. وجميع تلك المحاولات العامة للنيْل من كافة الحضارات الزنجية في أفريقيا السوداء، ابتداءً من مصر والنوبة وغانا وسونراي حتى مملكة بنين، ومرورًا برواندا-أوروندي، على سبيل المثال لا الحصر، تتخذ في نهاية الأمر الطابع الرتيب لتمثيلية هزلية غثة لم تعد تدعو حتى إلى الابتسام.

fig44
شكل ٤-٣: أثر أفريقي قديم: معبد سوداني.

(صورة نشرها شيروبيني).

وما كان بوسع ريسنر أن يتجاهل أن الحضارة النوبية سابقة على عام ١٥٠٠ق.م. أي قبل ظهور الليبي الأبيض اليافثي في أفريقيا؛ ولذا، فإن المشكلة لا تتمثَّل في محاولة البحث عن ليبيين في التاريخ الحديث للنوبة، ولكن العثور عليهم في مستهل تلك الحضارة، أي من حوالي ٥٠٠٠ سنة ق.م. وبالطبع فقد حرص ريسنر على ألا يحاول الإقدام على تلك المهمة.

(٩) مهد الحضارات في قلب البلاد الزنجية

وهناك حقيقة أخرى لا تقل غرابة وهي أن الهندو-أوروبيين لم يؤسسوا قط حضارة في مهدهم الأول، أي في السهوب الأوروبية الآسيوية. والحضارات التي تُنسب إليهم نشأت، بلا مجالٍ للشك، في البلاد الزنجية، في الشطر الجنوبي من نصف الكرة الأرضية الشمالي؛ في مصر، والجزيرة العربية، وفينيقيا، وبلاد ما بين النهرين، وعيلام، والهند.

وفي جميع تلك البلدان، كانت هناك أصلًا حضارات زنجية عندما جاء إليها الهندو-أوروبيون في السنوات الألف الثانية قبل الميلاد، وكانوا آنذاك رُحَّلًا خشنين. ويتمثَّل التصرف هنا في محاولة إثبات أن هذه الشعوب التي كانت لا تزال متوحشة، جلبت معها في خضم الزعزعة التي أحدثتها، كافة عناصر التحضُّر، وأدخلتها في كل الأنحاء التي وصلت إليها. وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: لماذا لم تظهر كل تلك الاستعدادات الخلَّاقة إلا مع الاتصال بالزنوج، ولم تظهر أبدًا في مهدها الأول، أي السهوب الأوروبية-الآسيوية؟ لماذا لم تخلق هذه الشعوب حضارات في مواطنها الأصلية قبل هجرتها؟ فلو أن العالم الحديث اختفى، لأمكننا بسهولة أن نتبين أن الحضارة الحديثة انتشرت منه في كافة أرجاء المعمورة، وذلك بفضل بقايا تلك الحضارة المتواجدة في أوروبا. ولكن لا يمكننا أن نجد شيئًا مماثلًا في السهوب الأوروبية-الآسيوية. ولو رجعنا إلى أقدم العهود الغابرة لوجدنا أن الوثائق تجبرنا على الانطلاق من البلدان الزنجية لتفسير كافة ظواهر الحضارة.

ومن الخطأ الزعم بأن الحضارة نشأت عن ذلك التهجين، فلدينا الأدلة التي تثبت أنها كانت قائمة في البلدان السوداء قبل الاتصال التاريخي بالهندو-أوروبيين بزمنٍ بعيدٍ.

والشعوب الزنجية، المتجانسة عرقيًّا هي التي أوجدت كافة عناصر الحضارة بتواؤمها مع الظروف الجغرافية المواتية في مُهودها الأصلية. وعليه فقد أصبحت بلادها مراكز جذب حاول سكان البلاد المُعْدَمة والمتخلفة المجاورون لها دخولها لتحسين ظروف معيشتهم. ولذا فإن التهجين الذي نشأ عن ذلك الاتصال ترتَّب على الحضارة التي أوجدها الزنوج من قبل، وليس العكس، وهذه الأسباب نفسها هي التي تجعل أوروبا — وبالأخص باريس ولندن … إلخ — مراكز استقطاب تلتقي فيها يوميًّا، وتنصهر معًا، أجناس العالم. غير أنه من الخطأ أن نفسر الحضارة الأوروبية في عام ١٩٥٤م، على مدى ألفي سنة اعتمادًا على أن أوروبا كانت آنذاك شبه مُشبَّعة بعناصر مستعمَرة قدمت كلٌّ منها إسهامًا. فعلى العكس من ذلك، نرى أن العناصر الأجنبية، التي تجاوزتها الأحداث، تحتاج إلى بعض الوقت للتغلب على تأخرها، ولا تُقدِّم لفترة طويلة إسهامًا مجزيًا في الحضارة التقنية. وقد كان الأمر على هذا المنوال في العهود القديمة؛ فكل عناصر الحضارة المصرية كانت قد نشأت منذ البداية وظلت قائمة، ثم تفتتت على أقصى تقديرٍ، باتصالها بالخارج. والغزوات المختلفة للأجناس البيضاء على مصر معروفة في العصور التاريخية بكل تأكيد؛ الهكسوس (السكوتيون)، والليبيون، والآشوريون، والفُرس. ولم يأتِ أي من تلك العناصر بتطويرات جديدة في الرياضيات، والفلك، والفيزياء، والطب، والفلسفة، والفنون، والتنظيم السياسي.

ويسمح لنا كل ما جاء من قبل بأن نرفض أيضًا التفسيرات اللاحقة، التي قررت، على أساس الوضع في العالم الحديث، أن المنطقة المعتدلة المناخ مواتية بشكلٍ خاصٍّ لظهور الحضارات التي نشأت جميعها في تلك المنطقة. فالوثائق التاريخية تُثبت، على العكس، أن الحضارات الأولى تواجدت خارج تلك المنطقة، في الوقت الذي كان مناخ العالم فيه قد استقر.٦

(١٠) اللغات

بقدر ما توجد صعوبة في إثبات علاقة القرابة بين اللغة المصرية القديمة واللغات الهندو-أوروبية والسامية، بقدر ما يسهل إثبات رابطة الوحدة الوثيقة بين اللغة المصرية القديمة واللغات الزنجية.

«لقد خطرت في ذهن عالِم شاب مُتَبَحِّر، وهو السيد ن. ريش فكرة المقارَنة بين بعض أصول الكلمات باللغة المصرية القديمة وأصول بعضها الآخر التي لا تزال تستخدمها الشعوب الزنجية في وسط أفريقيا أو النوبة؛ وقد أثبت — بلا مشقة كبيرة — أن هناك تماثلًا تامًّا بينها» (أميلينو، تمهيدات في دراسة الديانة المصرية، الجزء الثاني، مطبوعات ليرو، باريس، ١٩١٦م، ص١٢٦).

ودعَّمت الآنسة هومبورجر، بعد ريش، صلة القرابة بين اللغة المصرية القديمة واللغات النجرو-أفريقية في الفصل الثاني عشر من كتابها؛ اللغات النجرو-أفريقية (مطبوعات بايو). غير أن أطروحتها تتضمن فقط تأثيرًا مصريًّا على اللغات الزنجية التي قد تكون أصلًا مختلفة عرقيًّا ولغويًّا عن اللغة المصرية.

ومع أن دراسات الآنسة هومبورجر لها أهميتها الكبيرة التي لا يزال يُسدل عليها ستار الصمت حتى الآن، إلا أنه من الصعب أن نجاريها بخصوص تلك النقطة الأخيرة. فالتماثل شبه الكامل بين مصر وأفريقيا السوداء، من كافة وجهات النظر العرقية وغيرها، لا يسمح بقبول ذلك الاستنتاج.

والمقارنة اللغوية بين المصرية القديمة والوُلوف على وجه الخصوص، ستكون أكثر مدعاة للاقتناع لأنها من الوضوح بحيث يصعب التمسك بوجود أساسَين لغويَّين مختلفَين.

وقد يتصور المرء، مقدَّمًا، أن مقارنة من هذا النوع مستحيلة بدعوى أن اللغة اللاتينية تحوَّلت تمامًا في غضون ألفي سنة إلى لغات أخرى، منها الفرنسية، والإيطالية … إلخ، وأنه سيكون من الصعب أن نربط تلك اللغات اليوم بها، لولا أنه تتوفر لدينا شهادات سابقة مدوَّنة.

وهذه الملاحظة لا تعوق طريقنا لسببَين؛ أولًا: لأن تطور اللغات لا يتم بسرعة واحدة في كل المناطق، بل إنه مرتبط، على ما يبدو، بعوامل أخرى، منها استقرار النظام الاجتماعي، أو على العكس تعرضه للزعزعات. ويمكننا أن ندرك بسهولة أن لغة الناس في المجتمعات الراسخة تغيرت بقدرٍ أقل عبر الزمان. وهذا ليس مجرد افتراض، فالجُمل العشرون بلغة البربر التي ترجع إلى القرن الثاني عشر وتوجد في حوزتنا، تدل على أنها لغة مماثلة للغة البربر اليوم، بينما المقارنة بين الفرنسية في أواخر القرن العاشر، وفرنسية اليوم تكشف عن فروقٍ عميقة. أما في أفريقيا السوداء، فإن الشهادات القليلة المتوفرة لدينا حول تلك اللغات السابقة، خلافًا للمَرَوية التي لم يتم بعدُ فك رموزها، تتكوَّن في ظل الوضع الراهن لمعارفنا من بعض الكلمات المتفرقة في كتابات مؤلفين عرب من القرن العاشر حتى القرن الخامس عشر. وهكذا وجدنا في مؤلف ابن بطوطة المذكور أعلاه (ص٣٠٠) أن «الغَرْتي ثمر كالإجاص شديد الحلاوة، ويُدَقُّ عظْمه فيُستخرج منه زيت لهم فيه منافع.» وكلمة الغَرْتِي هذه استُخدمت — على الأرجح — للفول السوداني عند دخوله مؤخرًا في أفريقيا السوداء. والكلمة المستخدمة حاليًّا «غَرته» لا تختلف إذن عن كلمة القرن الرابع عشر «غَرْتي» إلا باللفظ الأخير «إي» الذي أصبح (ﻫ)، وذلك بالنسبة لتلك الكلمة بلغة الوُلوف التي استعارتها من السراكوله، هذا إذا ما سلمنا بأن تدوين ابن بطوطة لها صحيح.

كما يقول ابن بطوطة أيضًا في نفس المرجع إن البيض من السُّنة الذين يتبعون المذهب المالكي يسمونهم توري، وكلمة توري هذه اسم علم سوداني. وهكذا فإن التوري هم على الأرجح خلاسيُّون منحدرون إلى حدٍّ أو آخر، من تلك الأقلية العربية التي كانت تعيش في السودان في القرن الرابع عشر. وهناك كذلك فاريا حسين دي فالاتا، وقد كتب ابن بطوطة اسم حسين بشكلٍ صحيحٍ بالطبع لأنه اسم عربي. وفالاتا، دُوِّنت فالاتن، وهو ما يبدو انعكاسًا لنهاية الكلمة بلغة البربر. وفيما عدا ذلك لا يزال تركيب هذه الكلمة كما هو حتى يومنا هذا، وهي تُنطَق فالاتا. وكلمة فاريا تشير إلى وظيفة إدارية بلغة السيرير، وقد انتقلت حرفيًّا إلى لغة الوُلوف. «وكان ملك غانا يُلقَّب ماجا»، فهي كلمة قد تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، مثل لغة السراكوله، إذا افترضنا أنها كانت اللغة المستخدَمة أصلًا في هذه الإمبراطورية.

ماج تعني كبيرًا، شخصية كبيرة بلغة الوُلوف، بينما تُشير كلمة غانار إلى موريتانيا، أي شمال غرب إمبراطورية غانا القديمة.

كيلا كانت تعني القرع في القرن الرابع عشر، والكيلة تعني حاليًّا وعاء من الخشب بلغة الوُلوف.

وهذه الأمثلة تُبيِّن أن اللغات الأفريقية ثابتة نسبيًّا.

ومن جهة أخرى فإن المقارنة بين اللغات الأفريقية واللغة المصرية القديمة لا تفضي بنا إلى علاقاتٍ غامضة يمكن اعتبارها، في أحسن الأحوال، مجرد احتمالات، بل إلى تطابق في قواعد الصرف والنحو على نطاقٍ واسعٍ؛ بحيث لا يمكن أن يكون ذلك مجرد صُدفة.

بَيْدَ أن الامتناع عن دراسة تلك الوقائع الملموسة ومحاولة تفسيرها، معناه اتخاذ موقف غير علمي، يُشبه في ذلك موقف هؤلاء الفلاسفة الذين يروْن أسلاك المصباح وهي تتوهج، ولكنهم يصرون — مع ذلك — على أنهم بصدد ظاهرة مستحيلة لأنها تخالف المبادئ المُسلَّم بها حتى ذلك الوقت، وتتعارض مع أفكارهم حول الأشياء.

فاللغة المصرية القديمة تُعبِّر عن الماضي ببدء الفعل بحرف النون مثل الوُلوف، وهناك تصريف للأفعال يتم بإضافة نجدها حرفيًّا في الوُلوف، وأغلب ضمائر هذا التصريف مماثلة لما يوجد في الوُلوف، والضميران المضافان بالمصرية القديمة «إف» و«إس» نجدهما بالأخص حرفيًّا في الوُلوف، وبنفس المعنى. كما أن حروف الإشارة واحدة في اللغتين، والمبني للمجهول تُعبِّر عنه نفس البداية «أو» في اللغتين؛ كما يكفي إحلال «اللام» في الوُلوف محل «النون» في اللغة المصرية القديمة للانتقال من الكلمة المصرية إلى الكلمة الوُلوف بنفس المعنى في العبارات التالية:

الكلمات المصرية الكلمات الوُلوف
«ناد» = يطلب. «لاد» = يطلب.
«ناه» = يخفي، يحمي. «لاه» = يخفي، يحمي.
«نت» = ضفيرة، يُضفِّر. «لت» = ضفيرة، يُضفِّر.
«بن-بن» = منبع. «بل-بل» = منبع.
«فون» = مؤكد، منتظم، أصيل. «فولا» = مسلك محترم أو مستقيم.

والصيغة «سجم-ت-إف» توجد في الوُلوف والصيغة «سدجم–كا» توجد في لغة السيرير، والجمع باللغة المصرية الذي ينتهي ﺑ «أو» موجود حرفيًّا في السراكوله. فهناك إذن قدر ضخم من التطابقات، هذا عدا حصيلة الكلمات المشتركة، بحيث لا يمكن أن يكون الأمر محض مصادفات.

وتمثَّلت خُططي الدراسية في تقصِّي جوانب القرابة التي لا يمكن نقضها، والمستخلَصة من العديد من التماثلات النحوية بين اللغات الزنجية واللغة المصرية، ثم السماح لنفسي، على أساس تلك القرابة الجلية، بعقد مقارنات، قد تبدو أقل شرعية، وتقتصر قيمتها على كونها افتراضات تصلح لبحوث تُجرى في المستقبل.

وقد لجأت في هذه الدراسة إلى كتاب النحو الكلاسيكي لجاردينر (Gardiner)، وجميع القواعد الأساسية للنحو المذكورة هنا، مأخوذة بنفس المعنى. ولكن بما أن هذا الكتاب مُدوَّن باللغة الإنجليزية، ولكي أتحاشى ترجمة النص المقابل كلما استندت إلى جاردينر، فقد اضطرني الأمر إلى اللجوء إلى قواعد النحو المصرية للدكتور ديرون (Deron) الأقل شهرة، والأبسط في العرض، كلما تعلق الأمر بقواعد النحو الواردة عند كل من جاردينير وديرون، وذلك بُغية تيسير الشرح. وعليه، فإن جميع قواعد النحو الواردة — فيما بعد — موجودة حرفيًّا في كتاب جاردينر.

(١١) دراسة مقارنة بين قواعد النحو المصرية والوُلوف

واللغة المصرية المقصودة هنا، هي اللغة الكلاسيكية التي استُخدمت منذ أيام الأسرة التاسعة حتى الأسرة الثالثة والعشرين بين ٢٤٠٠ و٧٥٠ق.م.

والأمثلة المتعلقة بالنحو الوُلوف أخذتُها عن معرفتي بها بوصفها لغتي أنا.

(١١-١) تكوين الجمع

يتكوَّن الجمع في اللغة المصرية القديمة بإضافة «واو» في نهاية الكلمة:

«باك» = خادم.

«باكو» = خدم.

ولنلاحظ في هذا الصدد أن «خادم» بالوُلوف هي: «بيك نج»، التي قد تكون تحويرًا ﻟ «بوك-نج»، ومعناها المشاركة في سُكنى نفس الكوخ.

وتكوين الجمع بالوُلوف معقد بدرجة أكبر، وسنكتفي هنا بذكر ما يمكن أن يكون قريبًا من اللغة المصرية.

فتكوين الجمع بإضافة «واو» لا يزال مستخدَمًا في لغة الوُلوف في شكل تركيب قديم، خاصة في المجالات التي كان يتعين الاحتفاظ فيها بهذا الشكل، أي عندما تخص الصفة العددية اسمًا موصوفًا.

«بن» = واحد، «بنبوب»
«نيآر» = اثنان، «نيري بوب»، «نيآرو بوب»
«نيآت» = ثلاثة، «نيآتي بوب»، «نياتو بوب»
«نيينت» = أربعة، «نيينتي بوب»، «نيينتو بوب»
… إلخ.
«تيمير» = مائة، «تميري بوب»، «تميرو بوب»

ومن المهم ألا نخلط في هذه الحالة «الياء» و«الواو» بالحروف المتحركة المصاحِبة لأداة التعريف والإشارة، بينما يمكن أن نقول على حدٍّ سواء:

«بوب آب نيت» أو «بوب أوب نيت» = رأس إنسان.

كما يمكن أن نقول:

«نآرو بوب» أو «ناري بوب» = رأسان.

واسم الموصوف بالوُلوف الذي يبدأ ﺑ «ب» أو «مب» يتم جمعه بتحويل اﻟ «ب» أو اﻟ «مب» إلى «واو»:

«بونت» = باب. «فونت» = أبواب.
«بوم» = حبل. «فوم» = حبال.
«مبام» = حمار. «فام» أو «بام» = حمير.
«مبورو» = رغيف. «فورو» أو «بورو» = أرغفة.

وإذا أردنا الإشارة إلى سكان بلدٍ ما بلغة الوُلوف يكفي أن تَسْبق اسم هذا البلد أداة التصدير «وا»:

«كادور»، اسم بلد. «فاكادور» = أهالي كادور.

وبوسعنا أن نلاحظ تماثُل الأداة «واو» مع «با» التي تقوم بنفس المهمة بالنسبة لأسماء قبائل حوض نهر الكونغو:

«بالوبا» = اللوبا.

وتوجد قاعدة الجمع بتصدير الكلمة بحرف «الواو» في لغة الدولا (Dôla) أيضًا وذلك بالنسبة للكلمات التي تبدأ بحرف الباء، كما هو الحال في الوُلوف، أو بحرف الكاف:
«بوسانا» = صانع الجبن، قارب. «فوسانا» = قوارب.
«بمبون» = قُبعة. «فمبون» = قبعات.
«كِن» = ديك. «فن» = ديوك.
«كانجِن» = يد. «فونجن» = أيدي.

ويتم الجمع بلغة الماندي ﺑ «لو»، وهو مجرد تحوير لفظي للجمع المصري بحرف «الواو».

«مُوهو» = رجل. «موهو لو» = رجال.

بَيْدَ أننا نجد في لغة السراكوله (السونينكا) التماثُل التام مع اللغة المصرية في صيغة الجمع. ففيما عدا بعض الكلمات التي تنتهي «بالياء»، يتكون الجمع بالسراكوله بإضافة «الواو»، تمامًا كما هو الحال في اللغة المصرية:

«كومبه» = كوخ. «كومبو» = أكواخ.
«ياهاره» = امرأة. «ياهارو» = نسوة.

ومن الملاحَظ في اللغة المصرية الحالية، أي القبطية التي تُعتبَر، وفقًا لأميلينو، لغة المصريين القُدامى المدوَّنة بالحروف الإغريقية، أن الجمع بحرف «الواو» يميل إلى الزوال. وهكذا نجد أنه من المفهوم أن تكون هذه الصيغة متوارية بقدرٍ أكبر، دون أن يكون هناك مجال لإنكار وجودها، في لغة تبدو أصلًا أبعد عن اللغة المصرية الكلاسيكية. فالصفة المسنَدة لا تتغير، بينما آخر الكلمة «وُ» في جمع المؤنث يُستبعَد في الكثير من الأحوال، ويحل محله جمع تخطيطي يتمثَّل في ثلاثة خطوط رأسية متوازية أو متتالية.

(١١-٢) العلاقة بين أسماء الإشارة

توجد عدة فئات من أسماء الإشارة في اللغة المصرية القديمة، من بينها فئتان رئيسيتان هما:

  • (أ)

    فئة المذكر المفرد، وفيها تبدأ كل حالات الإشارة بحرف «پ».

  • (ب)

    فئة الجمع التي تبدأ دائمًا بحرف «النون».

ولنقارن بين أدوات الإشارة المصرية والوُلوف التالية:
  • بالمصرية: «ﭘﻮي» «ﭘﻒ»، «ﭘﻮ»، «ﭘﺎ» = هذا، ذاك، ذلك … إلخ.
  • بالوُلوف: «بي»، «به»، «بو»، «با» = هذا، ذاك، هذا القريب، هذا البعيد.
  • بالمصرية: «نن»، «نف»، «نو»، «نا» = هؤلاء، أولئك، هاتيك …
  • بالوُلوف: «ني»، «نيه»، «نو»، «نا» = هؤلاء، أولئك، هاتيك، هؤلاء (على مسافة قريبة، أو على مسافة بعيدة).

وقد تطورت أدوات الإشارة هذه في كلٍّ من اللغتين المصرية والوُلوف، وأصبحت أدوات تعريف. وهكذا أصبحت «ﭘﺎ» و«نا» ابتداءً من الأسرة الثامنة عشرة أداتَي تعريفٍ للمفرد والجمع. ومن بين أدوات التعريف السبع بالوُلوف المستخدَمة حاليًّا، والتي تقوم في الوقت نفسه بدورها كأداة إشارة، هناك بالذات «بيه» و«با» و«بو»، وجميعها صيغة محوَّرة ﻟ «ﭘﺎ» التي تحكم أغلب الأسماء في هذه اللغة.

كما أن «نا» بلغة السيرير أداة تعريف للمفرد، وهي تُستخدَم في اللغة المصرية للجمع (ربما نتيجة لخلطٍ).

«نديد» = شمس. «نديدنا» = الشمس.

وتؤدي «ني» و«نيه» و«نآ» نفس الوظيفة في الوُلوف كأداة تعريف للجمع «نا» باللغة المصرية. وعندما يجد المرء أن:

«نا» = اﻟ بلغة السيرير. «نا» = اﻟ «للجمع» باللغة المصرية.
«نآ» = اﻟ «للجمع» بالوُلوف.
«نيت ني» = الرجال «هنا».
«نيت نآ» = الرجال «هناك».

فإنه يميل إلى اعتبار «نآ» مجرد تحوير لفظي لمقابلة «نا» المؤدية لنفس الوظيفة في اللغة المصرية.

وسندرك هنا أقدم أشكال، بل ومنشأ مجموعات الحروف الساكنة التي يتغير عددها حسب التاريخ الخاص بكلٍّ من اللغات الزنجية التي نعالجها. فقد ظل أصل هذه الحروف الساكنة، التي تحكم لفظيًّا أسماء اللغة، بلا تفسير، مما دفع المتخصصون إلى البحث عن ذلك في العقلية الزنجية في حد ذاتها. وأخيرًا فإن «ني» و«نينو» أداتان للجمع في اللغة المصرية، شأنهما في ذلك شأن «نوون» بالوُلوف.

  • بالمصرية: «ني» = خاص ﺑ «مع اسم مفرد».

    «نيو» = خاص ﺑ «مع اسم جمع».

  • بالوُلوف: «نيو» = خاص ﺑ «اسم مفرد».

    «نون» = خاص ﺑ «اسم جمع».

وتُستخدَم «بو» في الوُلوف بدلًا من «ني»، وقد رأينا من قبل أن «بو» تبدو مجرد تحوير ﻟ «بو» المصرية.

«بو»، «بوب» = خاص ﺑ الذي هو خاص ﺑ.

وهكذا، فإن «النون» تقوم بوظيفة معقدة للغاية في الوُلوف، كما هو الحال في اللغة المصرية. وقد لاحظ ذلك الدكتور ديرون نفسه «لقد تم الوصول — شيئًا فشيئًا — إلى «النون» الثابتة، لكل من المذكر المفرد والجمع في آنٍ واحدٍ، كما لو كان قد حدث خلط بين هذا الشكل المضمحل للصفة وأداة التبعية.»

ويبدو أن فكرة الخلط هذه، التي يجب أن توضع في عين الاعتبار أصلًا بالنسبة للتطور الداخلي للغة المصرية، قد قامت أيضًا بدورٍ أكبر في الانتقال من هذه اللغة إلى الوُلوف.

وإلى جانب أدوات الجر، تستخدِم اللغة المصرية البدل في أغلب الأحوال للتعبير عن الانتساب. وتميل لغة الوُلوف، التي تطورت إلى حدٍّ كبيرٍ، إلى تجاوز هذه المرحلة، ولكنها لا تزال تستخدم حتى الآن البدل شأنها في ذلك شأن السيرير وكل اللغات الزنجية تقريبًا:

«لات دور» = «لات» أو «لاتير»، ابن دور.

وفي اللغة المصرية، عندما يتعلق الأمر بمثل هذا البدل، يأتي الاسم المقدس في المقدمة عند التدوين، ولكن الترتيب يعود إلى أصله عند القراءة.

فعندما يقال «بيت الرب»، كانوا يكتبون «الرب بيت» تبجيلًا لاسم الرب الذي يجب أن تكون له الأسبقية على كل شيء.

وعند السيرير، حيث يُعتبر الملك شخصية شبه مقدسة، يحظى مقرُّه بنفس تلك الأسبقية.

«نبيم كام» = «بيت في»، بدلًا من «في بيت».

ويُستخدم هذا التبديل في ترتيب الكلمات كلما تعلَّق الأمر بتحديد وضع شيء ما عند الملك، وتلك هي الحالة الوحيدة التي يتم فيها اللجوء إلى هذا التبديل في لغة السيرير.

(١١-٣) الضمائر الملحقة

وهنا نصل إلى الضمائر الملحقة الشهيرة التي ساهمت — جزئيًّا — في اعتبار اللغة المصرية إحدى اللغات السامية.

وجميع تلك الضمائر، باستثناء ضمير واحد أو ضميرين، موجودة في لغة الوُلوف، كما يتضح من الجدول التالي؛ حيث هناك خمسة ضمائر موجودة في لغة الوُلوف بلا أي تغييرٍ:

بالمصرية بالوُلوف
«مآ» = ها أنا. «مآ» = ها أنا «مع أحد أفعال القول».
«مآك وي» = ها أنا ذا. «مآنجي» = ها أنا ذا، ها هو ذا منصرف إلى …
«تيو» = أنت. «يو» = أنت.
«إف، أوف» = منه «إف، أوف، إس» = منه
مثال ذلك: مثال ذلك:
سُمع منه = «سجم-إف». سُمِع منه = «دج-إف».
«سدجم» = سَمِعَ. «دج» = سَمِعَ.
«إس» = منها «مؤنث إف». «إس» يماثل «إف»، وقد اختفى التدرج الوحيد الذي كان يُفرِّق بين هذين الضميرين مع تغير طريقة التعبير عن المؤنث.
«نِن» = نحن، منا، لنا، نا. «نُن» = نحن.
«نِن» = الذي نحن.
«سونو» = نا.
«تِن» = أنتم، منكم، لكم، كم (مضافة للفعل). «يِن» = أنتم.
«سن» = تُم «مضافة للفعل».
«تِن» = أنتم (بلغة السيرير).
«سِن» = هم «مع فعل لفاعل مفرد أو جمع»، منهم، هنَّ، منهنَّ … «سِن» = هم … إلخ.
«دِن» = هم (بلغة السيرير) … إلخ.

غير أن القرابة أقوى من ذلك، لأن هناك سلسلتَين من الضمائر في اللغتَين، عدا ضمائر التبعية أو المفعول؛ وسأُقدِّم فيما يلي جدولَين للمقارنة بين تلك الضمائر مع التنويه في كل مرة بتماثلهما الوظيفي.

والجدول الأول يهدف إلى عرض التماثلات التي جرت على الأرجح عند الانتقال من اللغة المصرية إلى الوُلوف، وهو يتضمن إلى جانب الضمائر الملحقة، بعض الضمائر المنفصلة، كما لاحظنا أعلاه. وعلى العكس فإن الضمائر الملحَقة باللغة المصرية في الجدول الثاني، تقابلها فقط ضمائر ملحقة بالوُلوف.

بالمصرية بالوُلوف
«آ» أو «إي» = أنا «مع فعل قول». «نآ» = أنا.
«إك» = أنت. «نجا» = أنت.
«إف»، «أوف» هو، ه. «إف»، «أوف» هو، ه.
«إس» = مؤنث «إف». «إس» = مماثل ﻟ إف.
«نا» = هو.
«نِن» = نحن. «نن» = نحن «في الشعر».
«نانو» = نحن.
«رتن» = أنتم. «نِجن» = أنتم.
«سِن» = هم. «نانو»= هم.

وتُلحَق هذه الضمائر بالأفعال في كلتا اللغتين.

والضميران الملحقان «إف» و«أوف»، يُعبِّران بالأخص عن صيغة قديمة تعطينا فكرة عن المعنى الخاص الذي يجب أن تقابله هذه الضمائر الملحَقة في تصريف الأفعال باللغة المصرية.

وجميع الأفعال المصرية الواردة هنا مقتبسة من قاموس بييريه المذكور آنفًا.

ويبدو أن الصيغة المكوَّنة من الفعل + إف تمثِّل الفعل باللغة المصرية عندما لا يكون تصريفه مع أي ضمير، أي أن هذه الصيغة كانت تقوم بدور المصدر، وهكذا يمكننا أن ندرك أن الطابع العمومي لهذه الصيغة مكَّنها من البقاء في لغة الوُلوف.

بالمصرية بالوُلوف
«كِف» = أمسك بعنف. «كف» = أمسك بعنف، انتزع كالطيور الجارحة.
«كِف إف» = الترجمة العامة «هو ينتزع» غير صحيحة في الواقع، ويجب أن تُترجَم في صيغة المبني للمجهول (وفقًا للدكتور ديرون، ص٣٥)، وهو ما يعني في حالة فعل «كِف»، كما جاء في قاموس بول بييريه، أمسك هو به، انتزعه هو، أنتزِع، أمسك به. «كف إف» = لها المعاني الثلاثة الآتية حسب المضمون: أنتزع، أمسك شخص ما ﺑ (شيء)، فليُمْسَك.
«فاك» = خار عزمه، تقزز. «فاك» = تجاهل شخصًا عمدًا، أو بدافع الاشمئزاز أو لسببٍ آخر.
«فاك-إف» = مُتجاهل من جانبه. «فاك-إف» = متجاهل من جانبه، من المجهول … إلخ.
«ماما» = جرى. «ماما» = تَسرَّع، جرى حتى تقطعت أنفاسه.
«مام-إف» = جرآه. «مام-إف» = تَسَرعوا … إلخ.
(مي) = أعطى. «مي» = أُعطى.
«مي-إف» = أُعطِىَ من جانبه. «مي = إف» = أُعطِىَ من جانبه … إلخ.
«بت» = حرَّك أقدامه. «بت» = رَقْص، «فت» = رَقَصَ.
«بت-إف» = فلنَرقص. «فت-إف» = رقَصَهُ «هو»، فلنرقص … إلخ.

ولو أننا أضفنا «أوف» بدلًا من «إف» لأصبح تصريف الفعل في الماضي باللغة المصرية، وربما كانت درجة معينة في الماضي، لأن التصريف المصحوب بالضمائر المضافة لا يُعبِّر في كل من المصرية والوُلوف إلا عن شكلٍ معين من الماضي، ألا وهو الماضي المباشر، أما الإضافة «أوف» فتشير إلى الماضي البعيد.

«سدجم-أوف» = سَمِعَ، سُمعِ … إلخ.

غير أننا يجب أن نلاحظ أن النهاية «أوف» بالوُلوف مرادفة ﻟ «إف»، ولكن النهاية الأولى تتميز عن الثانية بفارقٍ يتعلق بالضمير.

«فاب» = أخذ.

«فاب-إف» = فلنأخذ.

«فاب-أوف» = فلنقم.

وعليه فإن العناصر المكوِّنة للماضي متحِدة بالضرورة في لغة الوُلوف، ولكنها لا تُعبِّر عن الفكرة عندما تكون منفصلة عن بعضها.

وسنتطرق لذلك مرة أخرى، فيما بعد، بخصوص الماضي باللغة المصرية.

ويتعين أن نُبدي الآن ملاحظة لا تخفَى أهميتها على أحدٍ، ألا وهي أن مؤنث الضمير المذكر المضاف «إف»، هو الضمير «إس» في اللغة المصرية.

وبعبارة أخرى، فإنه كلما أمكن استخدام «إف» باللغة المصرية، يمكن إحلال «إس» محلها، فيظل المعنى واحدًا، على أن يكون الفاعل هو وحده الذي تغيَّر جنسه، من مذكرٍ إلى مؤنثٍ.

ولكن، كما رأينا منذ قليلٍ، يوجد إلى جانب الضمير «إف» الملحق بالفعل في الوُلوف، ضميرٌ آخر يبدو أنه لا داعي له — لأنه مماثل تمامًا للضمير «إف» من حيث معناه — وهو ليس سوى «إس» الذي صادفناه من قبل. فماذا يمكن أن يكون هذا الضمير إن لم يكن راسبًا للمؤنث المصري؟ ويستحيل نقض هذا الرأي بعد كل التحققات التي أجريت منذ قليلٍ، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن نفس هذا الضمير بالمصرية، بلا أي تحوير، يقوم بنفس الدور كضميرٍ للغائب، وبنفس المعنى ولنفس الجنس تقريبًا، لأن ضمير الغائب بالوُلوف، شأنه شأن الضمائر الأخرى في هذه اللغة، يصلح للجنسين المذكر والمؤنث ما دام قد تم التعبير عنهما بشكلٍ متميزٍ. وبوسعنا أن ندرك أن تطابق «إف» مع «إس» تحقق في الوُلوف منذ أن أصبح الجنس لا تعبِّر عنه نهاية الكلمة في لغة كانت جديدة التكوين، ولكن بربط فكرة المذكر أو المؤنث باسم الشخص المذكور الذي يُراد تحديد جنسه.

ولنكرر هنا الأمثلة الواردة منذ قليلٍ مع استكمالها بالضمير المؤنث:

بالمصرية بالوُلوف
«كِف» «كف»
«كِف-إف» = أمسك «هو». «كِف-إف»، «كِف-إس» = أُمسك، يُمسك.
«كِف-إس» = أمسكت.
«مام» «مآم»
«مام-إف» = رَكَضهُ (فعل مُتَعدٍّ). «مآم-إف»، «مآم-إس» = رُكِض حتى تقطعت الأنفاس.
«مام-إس» = ركَضتْه.
«هام» هام
«هام-إف» = صاحب الجلالة. «هام-إف».
«هام-إس» = انحنى، انحنى تعبيرًا عن الاحترام (بييريه). «هام-إس».
هذه الكلمة كان يجب أن تعني منطقيًّا صاحبة الجلالة، حسب التفسير الرسمي، ولكن الأمر يشوبه عدم التيقُّن من ذلك. كما هو معروف فإن هاتين الكلمتين لا يمكن أن يكون لهما سوى معنًى واحد في الوُلوف. ومعنى مصدر كلمة «هام» = عَرَف، وعليه فهما يعنيان المعروف. وهذا المعنى وحده قد يُقصد به صاحب الجلالة أو صاحبة الجلالة. وإذا طُبِّقتا على فرد، يكون المقصود بذلك أنه من البلد، أو معروف، أو من أسرة محترمة، والمعنى المضاد أنه مجهول، من الخارج، ولا يُعرف عنه شيء. ومن المؤكد أن الكلمة المصرية أقرب إلى الكلمة الوُلوف، ولا علاقة لها اشتقاقيًّا بصاحب الجلالة. وترجمة «هام إف» إلى «صاحب الجلالة» يُقصَد منها التوصُّل إلى معادل رسمي، لا مجرد الاشتقاق.

وندرك هنا الأصل التاريخي للعديد من تلك الترادفات والتطابقات في المعاني في لغاتنا اللاتي تُشكِّل في الوقت نفسه مصدرًا نفيسًا لوثائق تاريخية.

وهكذا نكتشف في لغاتنا آثار مؤنث يأتي في نهاية الكلمة، ويدرك كل متخصص الأهمية الفلسفية لذلك.

وبوسعنا أن نواصل تحليل رواسب المؤنث هذه، وبالأخص المؤنث «بالتاء»، من خلال تركيب الكلمات. فقد تحقق في الكثير من الأحوال تركيب واقعي بين جذر الكلمة المصرية و«تاء» التأنيث عند الانتقال إلى الوُلوف؛ إذ تحولت (التاء) إلى جزء لا يتجزأ من الجذر ذاته. وينطبق ذلك مثلًا على تَحوُّل «نوفرت» = جميلة (بالمصرية) إلى «رافِت» = جميل (بالوُلوف). ومن العسير التشكيك في ذلك إزاء تطابق التعبير في اللغتين، مثل:
  • بالمصرية: «خيت نبيت نوفر» = كل أشياء جميلة.
  • بالوُلوف: «خيت يب رافِت» = كل أشياء جميلة.

ولنلاحظ، للتأكد من التطابق، أن كلمة «نب» بالمصرية تكون مبنية عندما تعقب اسمًا موصوفًا ليس مصحوبًا بنعتٍ.

  • بالمصرية: «خيت نب» = كل الأشياء.
  • بالوُلوف: «خيت يب» = كل الأشياء.

حتى إن المرء يكاد يظن أحيانًا أنه يتكلم نفس اللغة.

(١١-٤) تصريف الأفعال

لم نتناول حتى الآن سوى الضمائر المتصلة بالأفعال، فلنصَرِّف إذن فعل «كِف» «باللغتين» لكي ندرك مدى التطابق:

بالمصرية بالوُلوف
«كِف-إي» أو «كف آ». «كِف-نا».
«كَف-إيك». «كِف-نجا».
«كِف-إف». «كِف-إف».
«كِف-إس». «كِف-إس».
«كِف-نا».
كف-نِن. «كِف-نن» (في الشعر).
«كِف-نانو».
كف-تِن. «كِف-نِجن».
كف-سِن. «كِف-نانيو».

نحن إذن بصدد نفس النوع من التصريف المعتَمِد على الحروف المتصلة بالفعل. والضمائر المستخدَمة متماثلة تقريبًا في اللغتين، كما أن المعنى الذي يعطيه هذا النوع من التصريف واحد. ويتعلق الأمر بدرجة من الماضي عن طريق موضع الضمير المضاف بالنسبة لمصدر الفعل. والواقع أنه من المعتاد في اللغة المصرية أن يُترجَم هذا النوع من التصريف بصيغة الحاضر، علمًا بأن هذه الترجمة خاطئة. وقد كتب الدكتور ديرون يقول بخصوص تصريف فعل سَمِعَ على هذا المنوال: «إذا كان المعنى العام كذلك حقًّا، فإن ترجمته حرفيًّا تكون: سُمِع مني، منك، منه … إلخ» (ص٣٥).

وبناءً عليه، فإن العمود الأول سيعطينا باللغة المصرية، مع فعل «كِف»: أُمْسِك به مني، منك … إلخ، وفي هذه الحالة لا يكون تصريف الفعل في صيغة الحاضر، بل في صيغة الماضي المباشر والمُنقضِي.

وذلك هو بالضبط المعنى الذي تُعطيه الضمائر المتصلة في العمود الثاني بالوُلوف.

وهكذا يكون التطابق بين اللغتين المصرية والوُلوف، فيما يتعلق بتصريف الأفعال المتصلة بالضمائر، من ثلاث نواحٍ: فنوع التصريف، والضمائر المستخدَمة، والمعنى المقصود، هي نفسها في اللغتين، مما يسمح لنا بأن نؤكد أن التطابق تام بينهما.

(١١-٥) الضمائر المنفصلة

تُستخدم الضمائر المتصلة على نطاقٍ واسعٍ في اللغة المصرية، ولكن هناك أيضًا ضمائر منفصلة تُشير في كل الأحوال إلى الفاعل وتسبق الفعل؛ وهي تُعبِّر دائمًا عن قدْرٍ من التفخيم.

والضمائر المنفصلة في لغة الوُلوف تتميز هي أيضًا بنفس تلك السمات.

بالمصرية بالوُلوف
«إينوك»، «أنوك» = أكون (أنا). «نك» = يكون، أكون؛ «نك-نا» = أكون أنا.
«مآ» = أنا منصرف إلى.
«ما» = فَلْـ «أنا».
«أنْتِك» = أنت. «يانْجي» = أنت منصرف إلى.
«نِجا» = فَلْـ «أنت».
«أنتِف» = هو. «مينج، مانجي» = هو منصرِف إلى …
«نا» = فَلْـ «هو».
«إن» «إنو» = نحن. «إن» = نحن (باللغتين السيرير والليبو).
«أن» = نحن (بالوُلوف).
«أنو»، «نانو» = نفس المعنى، بصيغة التفضيل.
«نونجي» = نحن منصرفون إلى.
«نوتَن» = أنتم. «نَجَنْ» = فَلْـ «أنتم».
«ينانجي» = أنتم منصرفون إلى.
«نوتِسن» = هم، هُنَّ. «نينجي» = هم منصرفون إلى …
«نومْ» = هم، هي.
«نانو» = فَلْـ «هم» …

(١١-٦) سمات أخرى مشتركة في تصريف الأفعال

تُميز اللغة المصرية بين صيغتين للفعل: المنجز وغير المُنجز. وينطبق نفس الأمر على لغة الوُلوف، حيث يعبِّر التصريف المذكور أعلاه المتصل به الضمير، عن صيغة الفعل المنجَز، ويعبِّر التصريف مع ضميرٍ منفصل يسبق الفعل، عن الفعل الذي لم يتم إنجازه بعد؛ «مآنجي»، «يآنجي»، «مينجي»، «نونجي»، «ينانجي»، «ننجي».

ويقال لنا إنه في حالة صيغة غير المنجَز باللغة المصرية، يستمر تكرار الجذور والحروف الساكنة في آخر الفعل، على عكس ما يتم في حالة الفعل المنجَز.

وبوسعنا أن نلاحظ تقارب ذلك مع مضاعفة الجذر في لغة الوُلوف الذي يتفق مع تكثيف فعل يُجرى إنجازه.

ولكن، نظرًا للقرابة الجلية بين اللغتين الوُلوف والمصرية، ونظرًا للطريقة التي تُعبِّر بها لغة الوُلوف عن صيغتَي المنجَز وغير المنجَز، فإنه من الصعب أن نتصور أن اللغة المصرية تترجمهما بطريقة مختلفة إلى هذا الحد؛ ولذا فمن الأفضل التحقق من أن هذا التفسير لا يقوم على خطأ.

(١١-٧) التعبير عن زمن الفعل

لا يقتصر الأمر هنا أيضًا على مجرد قرابة بين اللغتين المصرية والوُلوف، بل هناك ما يكاد يكون تطابقًا تامًّا بينهما.

تعبِّر اللغة المصرية عن زمن الفعل عن طريق حرف يضاف إلى مصدر الفعل.

ولا ينحصر الأمر في كون الحال على نفس الغرار في لغة الوُلوف، بل إن الحروف المضافة تتطابق تقريبًا.

الماضي

حرف «النون» المضاف إلى الفعل يُشير إلى الماضي باللغة المصرية.

وقد عرفنا من قبل أن الأمر على هذا المنوال تمامًا بالوُلوف؛ حيث يكون الحرف المضاف للفعل هو «أو».

  • بالمصرية: «مآ» = رأي (مصدر الفعل).

    «مآ-ن-إي» = رأيت.

    «إي» = أنا.

  • بالوُلوف: «دي» = رأي (مصدر الفعل).
    «دي-أون-نا» = رأيت.٧

    «نا» = أنا.

وقد رأينا من قبل أن «أو» في الوُلوف موجودة كذلك في الماضي باللغة المصرية.

  • بالمصرية: «كِف-ن-إف» = أمْسِك (في الماضي البعيد) وأمسك (في الماضي القريب).
  • بالوُلوف: «كِف-أون-إف» = نفس المعنى.

وعندما تُستخدَم «أون» بعد مصدر لفعل ينتهي بحرفٍ متحرك، تلجأ لغة الوُلوف إلى استخدام «أو» «منغَّمة» بين المقطعين:

«قاب» = أخذ، «فابو» = قام، «فابو «و» أون-نا» = كنت قد قُمت و«الواو» هنا شبه حرف متحرك.

المستقبل

يُضاف المقطع «إن» إلى مصدر الفعل «للإشارة إلى نتيجة ستحدث في المستقبل» باللغة المصرية (د. ديرون، ص٥٨).

وفي لغة الوُلوف يؤدي إضافة الحرف المتحرك «إ» للفعل إلى معناه في المستقبل؛ ويُلغى هنا الحرف الصامت «ن» في نهاية الفعل.

«بيج» = يحب.
(بيج-إ) = الذهاب للبحث عن الحب؛ مستقبل ممتد.
= يحب مع الوقت، مستقبل زمني «إذا جاز التعبير».

وهكذا تكون النهاية «ن» في المقطع المصري «إن» قد سقطت في الوُلوف للتعبير عن المستقبل، أو عن «نتيجة مستقبلية».

وفي لغة السيرير تقوم الأداة «إك» بنفس الدور تمامًا.

ونجد في الواقع مستقبلًا يُعبِّر عنه الجزء «إ» «أو بدقة أكبر إ ممدودة» في اللغة المصرية، وتلك هي الحالة بالنسبة للنعوت الفعلية في صيغتها المستقبلية.

بالمصرية بالوُلوف
بالمصرية بالوُلوف
«مير» = يحب. «بيج» = يحب.
«مير-إ» = الذي سنحبه. «كو نيو» = الذي.
«كونيو بيج-إ» = الذي سنحبه.

والمقطعان «هر» و«كا» المستخدمان في النصوص الدينية وحدها، يُضفيان على الفعل نوعًا من النتائج المستقبلية.

ويوجد في الوُلوف مساعد للمستقبل، وهو «هال» الذي لا يختلف عن الجزء «هر» في القيام بنفس الدور إلا من حيث حركة اللسان نحو سقف الحلق «دانجا هالا دف نانجان» = ستضطر إلى فعل كذا … عليك أن تفعل كذا …

غير أن التشابه أوقع مع لغة السيرير، فهناك المساعد «هِل» الذي يقوم بنفس الدور في لغة الوُلوف.

ومن جهة أخرى، يتم تصريف المستقبل بإضافة «كا» إلى مصدر الفعل:

بالمصرية: «هي-كا-سن ما سن تو» = سوف يسعدون عندما سيرونك.

بالسيرير: تصريف الفعل في المستقبل:
  • «مي نا هود كا» = أنا الذي سأصبح مزوَّدًا.

  • «أو نا ماك كا» = أنت الذي ستصبح راشدًا.

  • «تن نا ماجِن كا» =هو الذي سيصبح قويًّا.

  • «إن أو نا ساديك كا» = نحن الذين سنصبح مغلقين.

  • «نون أو نا سوهود-كا» = أنتم الذين ستصبحون شريرين.

  • «دن أو نا ياد كا» = إنهم هم الذين سيصبحون كرماء.

وفيما يتعلق ب «هل» = فلنأخذ الأمثلة التالية:

بالمصرية: «أورِد هر ايبف غِيرس» = وقلبه يصبح مثقَلًا بسبب ذلك …

بالمصرية: «أورِد هر ايبف غِيرس» = وقلبه يصبح مثقَلًا بسبب ذلك …
بالسيرير: «هل آم أو رت» = أنا في سبيلي إلى الرحيل.
= يجب أن أرحل.
= أنا مضطر إلى الرحيل.
= سأرحل.
بالوُلوف: «داما هالا دم» = يجب أن أرحل.
= أنا مضطر إلى الرحيل.
= سأرحل.

(١١-٨) طرق التعبير عن المبني للمجهول

«يبدو أن صيغة المبني للمجهول قد تُعبِّر عن الفعل المتعدي عندما تُستخدَم مع ضمير: «سِدِمْ-إف» يمكن أن تعني هو يَسْمَع، هو مَسْموع» (د. ديرون، ص٦١).

هكذا يفيدنا د. ديرون بأن الإضافة «إف» تُضفي على الأفعال المصرية صيغة المبني للمجهول، وقد سبق أن أوضحنا أن نفس الأمر ينطبق على لغة الوُلوف.

«ولكن عندما يكون الفاعل معروفًا، ولا تكون هناك بالتالي حاجة إلى ضمير مضاف، أو عندما يكون الفعل غير شخصي، يتميز هذا المبني للمجهول بإضافة المقطع «أو»» (د. ديرون، ص٦١).

بالمصرية بالوُلوف
«سِدْ جِم» = سَمِع. «دِج» = سَمعَ.
«سِدْجِم أو» = سُمِع. «دِج-أو» = سُمِع، مسموع.
«ليك» = أكل.
«ليك-أو» = مأكول، مقضوم، يُؤكل …

والمقطع «تو»، كان في الأصل ضميرًا متصلًا، ولكنه التصق في نهاية الأمر مع مصدر الفعل ليصبح مبنيًّا للمجهول. وهكذا نجد باللغة المصرية أن:

«دجديه-تو نف رو بن» = قِيلت له هذه الكلمة.

ونفس المضاف «تو» موجود في لغة الوُلوف، ويقوم بدورٍ يصعب تعريفه، وإن كان مرتبطًا بفكرة تكرار المبني للمجهول.

وهو يُستخدم كلما كان المطلوب الإشارة إلى تكرار فعل من جانب فاعل يتصرف بشكلٍ سلبي تحت وطأة عاطفة، أو يبدأ في فقد السيطرة على ملكاته: هَوَس، أعراض جنون … إلخ، ومن هنا شيء من التحقير.

«فاه» = تكلم. «فاه-تو» = ثرثر، هذى، ناجى نفسه.

اسم المفعول

المتعدي المؤنث مفرد أو جمع ينتهي في اللغة المصرية ﺑ «إيت».

ونفس هذه النهاية تُعطي للفعل بالوُلوف معنى المفعول به: مُستخرَج من، وارد من، مستخلَص من:

  • بالمصرية: «جم-إيت م سنش» = موجود في مُدرج بردي.
  • بالوُلوف: «داج» = قَطَعَ، مقطوع.

    «داج-إيت» = قطعة، ما تم قطعه من …

    «داج-إيت أو جرمي» = سليل النبلاء، منحدر من النبلاء.

«هناك نعت مأخوذ عن الفعل، قريب من المفعول به، وقائم على عدم الإنجاز، وينتهي ﺑ «تي» التي قد تُختصَر إلى «ت». وهذه النهاية تلحق بشكلٍ مباشرٍ بمصدر الفعل، وتقبل الضمائر المتصلة المقابلة التي تتخذ، هي نفسها، في المفرد النهاية «ي»، وهذا النعت ينطبق على صيغتَي المتعدي والمستقبل» (د. ديرون، ص٦٤).

«سِدْجِم-تي-في» = الذي سيسمع.

«سِيْدجِم-تي-سي» = التي ستسمع.

ولقد سبق أن رأينا أن اﻟ «يِ» أو اﻟ «إ» تُضفي على الفعل معنى المستقبل. وينطبق نفس الأمر على «سي» التي يبدو أنها ليست سوى راسب لنهاية الفعل المصرية المكوَّنة من الضمير المتصل المفرد والمؤنث «س» و«يِ».

وهكذا تكون نهاية الفعل بالوُلوف مجرد راسب للمؤنث المفرد المصري:

«بآه» = «يكون» طيبًا.
«باه-إ» = «الذي» سيكون طيبًا.
«باه-سي» = «الذي يبدأ في أن يكون طيبًا».
«الذي» في سبيله إلى أن يصبح طيبًا.

وهناك فئة من النعوت الفعلية التي لا يمكن ترجمتها إلا إلى جملة موصولة، ومن هنا يأتي الاسم الموصول للفعل الذي أعطي لتلك النعوت، وفي ذلك أيضًا تطابق نحوي بين اللغتين:

  • بالمصرية: «مير» = يحب.

    «مير-أو» = محبوب.

    «مير-أو-إن» = شخص كان محبوبًا.

  • بالوُلوف: «بيج» = يحب.

    «بيج-أو» = محبوب، جدير بأن يُحَب.

    «بيج-أو (ف»-أون) = كان محبوبًا.

وهناك مصدر قديم للفعل لم يعُد يُستخدَم إلا للتفخيم في المرحلة الكلاسيكية؛ وهو يُنهي جميع الأفعال بحرف «التاء». ولكن عندما يكون الفعل منتهيًا ﺑ «إ»، فإن هذه النهاية إما تُشدَّد قبل التاء، أو تزول لتحل محلها «أو».

وسنتناول فيما بعد مسألة صيغة المصدر المنتهية ﺑ «أو».

ولننوِّه هنا «بالأهمية الكبرى التي تُولَّى لاسم المفعول المبني للمجهول؛ إذ إن هناك ميْلًا إلى اعتباره مصدر أغلب الصيغ الفعلية … كما أن هناك ميْلًا إلى اعتبار اسم المفعول المبني للمجهول أصل الصيغتَين «سِدِمْ إف» و«سِدِمْ نِفْ»» (د. ديرون، ص٦٧).

بَيْدَ أنه بوسعنا أن نلاحظ، مما سبق، أن هناك تطابقًا شبه كامل مع لغة الوُلوف في مجال اسم المفعول المبني للمجهول.

وهناك صيغ شبيهة باسم المفعول بالنسبة لضمير المتكلم والغائب المفرد، ظلت قائمة في لغة الوُلوف واتخذت طابعًا عامًّا. وقد اختلطت الصيغة الخاصة بالغائب مع «أو» الخاصة بالمبني للمجهول، بينما يبدو أن الصيغة الخاصة بالمتكلم أعطت:

  • بالمصرية: «سِدْجِم-كو-إ» = أنا وقد سُمعت.
  • بالوُلوف: «فلبيتي-كو–نا» = أنا وقد استدرت، استدرت.

وباختصارٍ، يمكننا وضع جدول مقارِن لبعض الأدوات التي تناولناها من قبل لكي تتجلى لنا مدى القرابة بين اللغتين المصرية والوُلوف.

بالمصرية بالوُلوف
«أو» = متصلة للتعبير عن المجهول. «أو»: متصلة للتعبير عن المجهول.
«تو» = متصلة للتعبير عن المجهول. «تو»: متصلة للتعبير عن المجهول، تتخذ إلى حدٍّ ما شكل الضمير.
«إ» = متصلة للتعبير عن المستقبل. «إ»: متصلة للتعبير عن المستقبل.
«إن» = متصلة تُعبِّر عن الماضي. «إن»: متصلة تعبر عن الماضي.
«كو» «إ»: شبه اسم مفعول. «كو»: ما يعادل شبه اسم مفعول.
«إف»، «أوف»، «نِف»، «إس»: أدوات للمبني للمجهول إلى جانب معانٍ أخرى لها. «إف»، «أول»، «نِف»، «إس» أدوات للمبني للمجهول إلى جانب معانٍ أخرى لها.
«بو»: أداة نفي. «بول»: أداة نفي (انظر أدناه).
«نِن»: (انظر أدناه). «نِن»: عدم، … إلخ.
«إيتْ»: أداة ذات معنًى غير محدد. «إيتْ»: متصلة تدل على راسب الفعل.

(١١-٩) الأفعال المساعدة وأدوات النفي

في كل من اللغتين المصرية والوُلوف، فإن الأدوات المساعِدة «أفعال تضاءلت إلى حدٍّ ما، وانمحى معناها الحقيقي، ولم تعد قائمة إلا كأدواتٍ مساعدة في بناء الجملة. وبعض هذه الأدوات يؤكد على الجانب السردي» (د. ديرون، ص٧٢).

ومن بين الأفعال المساعدة المصرية الخمسة التي ذكرها د. ديرون هناك أربعة منها لها مقابلها الأكيد في الوُلوف، والحالة الخامسة أقل وضوحًا.

الفعل المساعد الأول
بالمصرية بالولوف
«إيو»: حدث، غدًا. «نييو»: حدث، غدًا، بلغ.

«و«إيو» التي نصادفها على نطاقٍ أوسع، والتي كانت تعني أصلًا شيئًا مثل حدث، غدًا، أضحى، تدهورت حتى أصبح معناها: إنه، ها قد، هناك، ذلك أن، وعليه» (د. ديرون، ص٧٢).

الفعل المساعد الثاني
بالمصرية بالولوف
«أونن» = توجد، تواجد. «ني» أو «نك» = تواجد، وجد نفسه.

وكثيرًا ما نصادف الفعل المساعد الثاني «أومن» هو أيضًا، ومعناه الحقيقي، تواجد، في صيغة فعل مستقل. وقد يخفف تدريجيًّا ليكون معناه وجد نفسه، ثم مجرد «ها قد، وعليه، مع لمحة متوارية تشير إلى المستقبل» (المرجع السابق، ص٧٣ و٧٤).

«أو نِنِف هور سودجِم» = سيجد نفسه يسمع.
= وعليه سيسمع.

ويستخدم الفعل المساعد بالوُلوف بمعنى مقاربٍ، ويمكن أن يكون معناه أن يكون منصرفًا إلى:

«ني دي دِج»، يجد نفسه يسمع.
«نك دي دِج»، يكون منصرفًا إلى السماع.

وعلى غرار «أونن»، فإن نِك أو نيِ يستخدمان أساسًا للسرد (الحواديت).

  • بالمصرية: «إيووِن ندجس دجدجي رتيف» = كان ياما كان برجوازي «يُدعى» دجدجي.
  • بالوُلوف: «نِكونْ-نافي» = كان ياما كان …
الفعل المساعد الثالث
بالمصرية بالولوف
«تهاو» = قام، انتصب، راح ﻳ… «إيهي» = انتصب، قام، راح ﻳ…

«يتخفَّف تدريجيًّا المعنى الحقيقي ﻟ «إيهي»، وهو قام، انتصب، عندما يُستخدَم كفعلٍ مساعد ويصبح راح ﻳ…» (نفس المرجع، ص٧٤) «إيهيين سد جِيموف» = وقف هنا وسمع.

والفعل الوُلوف الذي يبدو مطابقًا ﻟ «إيهي» وهو «تهاو» الذي يعني قام كما رأينا منذ قليلٍ، انتصب، وقف على قدميه، وبناء على ذلك؛ راح يفعل كذا، وانشغل في:

«تهاو تيلف» = ينشغل ﺑ…

الفعل المساعد الرابع
بالمصرية بالوُلوف
«دي» = أعطى، سمع، عمل. «دي» = يُعبِّر عن إرادة التأكيد على عملٍ سيتم فعلًا الإقدام عليه.

وقد تحوَّل الفعل المساعد «ردي» إلى «دي» باستبعاد الراء المدغومة، وهو يعني أعطى، سمح، عمل. وهذا الفعل المساعد موجود حرفيًّا في الوُلوف، ويُعبِّر عن نية العمل: «دي» أو (دا) عن طريق الاستيعاب الارتدادي انطلاقًا من «دي-نا» أو (دا-نا)، وبالتالي «دا»، وهو الفعل المساعد المستخدَم عادة بالوُلوف والسراكوله، وهو فعل مساعد حقيقي يعطي طابع التأكيد على العمل المزمع القيام به، سواء تعلَّق ذلك بأمرٍ يصدر من أجل إنجاز عمل، أو تعلق بقرارٍ حاسمٍ أُخِذَ فعلًا للقيام بعملٍ.

ولا يمكن تصور استخدام «دي» أو «دا» إلا بخصوص شيء سيتم عمله أو فعلٍ.

بالمصرية: «دي-ني رنك إرت» = جعلك تفعل، سمحتُ لك ﺑ
بالوُلوف: «دي-نا دِف نانجام»، «دا-نا دِف نانجام» = سأقوم فعلًا بعمل هذا الشيء.

الفعل المساعد الخامس

الفعل المساعد «باو» باللغة المصرية يؤكد عملًا تم من قبل، وكلمة «داو» تعني بالوُلوف العام الماضي.

وهذا التقارب ليس سوى مجرد اقتراح، ولا مجال هنا لتصور التقاء أكيد.

أدوات النفي

ويتعلق ذلك بالأداتين نِن وبو المذكورتين في الجدول المقارن بين الأدوات.

و«نِن» يمكن أن تترجَم حرفيًّا بجملة نافية، يكون فيها فعل «نفي» هو نفسه الفاعل، مثل: «… هو شيء لا وجود له» (نفس المصدر، ص٧٨).

ولا يوجد تعريف خير من ذلك للكلمة المماثلة «نن» بالوُلوف.

«نن» = العدم، اللاشيء، اللاموجود، ما لا يمكن أن يكون إيجابيًّا.

«ليجاري تي جِنِن» = العمل تطوعًا.

«نداه دِسول أج نِن لا»؟ = هل هو عدم، هل هو غير موجود، كل ما هو ليس مرئيًّا بالنسبة لنا؟

فلنقارن هذين المَثلين بالوُلوف مع الجملة المصرية التالية:

«نِن أو نِن باهويِ في» = ونهايته ستكون شيئًا لا وجود له.

و«بو» أداة نفي بالمصرية معناها لا (قاموس بييريه).

ونفس هذه الأداة تقوم بنفس الدور في الوُلوف والسيرير.

  • بالوُلوف: «بُول» = لا.

    «بُول دن» = لا تذهب (أمر ناهٍ).

  • بالسيرير: «با» = لا.

    «با-إت» لا تذهب «أمر ناهٍ».

والأداة «تِرْ» التي تعني: أحقًّا؟ بالمصرية تأتي بعد ضمير استفهامي؛ ومن الممكن أن تلحق بالضمير الاستفهامي «بوتي» لتُعطي الاستفهام «بوتر».

والضمير الاستفهامي المقابل ﻟ (Which) بالإنجليزية و(Lequel) بالفرنسية هو «أوم … ته» بالسيرير، و«أوم … تي» بالوُلوف.

«بور» = ملك؛ «بو (ب» إ) = الملك.

«ب» أوم «أو» تي = أي ملك هو؟ أو «ب أوم تي» وهي الصيغة المدغمة.

(١١-١٠) مميزات الموصوف

في اللغة المصرية كما في لغة الوُلوف يمكن أن يكون الموصوف في آن واحد فعلًا ونعتًا، فلا يوجد مصدر، بالمعنى المفهوم في اللغات السامية والهندو-أوروبية.

ولذا لا يمكن أن نقول مثلًا بالمصرية أو الوُلوف «جميل» فقط، لأن النعت يشمل الفعل ضمنيًّا:

  • بالمصرية: «نوفِرت» = «تكون» جميلة.
  • بالوُلوف: «رافِت» = «يكون» جميلًا.

وهكذا فإن اللغتين المصرية والوُلوف، وكذلك اللغات الزنجية عمومًا، تمنح النعت البسيط في اللغات الهندو-أوروبية والسامية، مهمة وظيفية تتضمن في آنٍ واحدٍ، في شكلٍ تركيبي إذا جاز القول، كلًّا من النعت والفعل والموصوف (فاعلًا أو مفعولًا). وبفضل قواعد النحو الخاصة بلغاتنا لا يوجد أي لبس أبدًا حول الوظيفة التي تؤديها الكلمة في النص؛ فهي تقوم أمام الفعل بدور الموصوف.

بالمصرية: «نوفرت إيتي» = الجميلة مقبِلة.

وقد تحوَّل هذا التعبير في نهاية الأمر إلى اسم امرأة: الملكة نفرتيتي.

بالوُلوف: رافِت ديك = الجميلة مقبلة.

(١١-١١) تكوين الاسم بتكرار الجذر

تتضمن عبقرية كل من اللغتين الوُلوف والمصرية تكوين الأسماء بتكرار الجذر. ففي الوُلوف، مثلًا، هناك: دوج = قَطَع؛ دوج دوج = قَطْع.

بالمصرية بالوُلوف
نِفنِف = رغبة جامحة. نفنف = رغبة جامحة، الوله حتى الارتجاف.
بِنبِن = جعل الماء يندفع من منبعٍ. بِلْبِلْ = نبع، اندفاع الماء من منبعٍ.
بِلْ = منبع.
بِنبِنْ = حفرة.
هِبهِب = الطواف في البلد مع القنص. هَبْهَبْ = السير بحزمٍ هنا وهناك.
هَهَم = ابتهال، صيحات دينية. هَمْهَمْ = معرفة تنجيمية، تنجيم، ديني، عِلم، تبحر في العلم.
هتاهتا = يتعجل. هاتارهاتار = يَتَسرع.
هِبهِب = ماء يتموج بشدة، فيضان. هِبهِب = ماء يتموج بشدة، ماء يفيض.
زرسروس = يبني. كوسكوس = يعكف على إنجاز شيء بمشقة.
رِهرِه = «؟» المؤلف غير متأكد من المعنى (بييريه). رهرهله = تلميح واضح.

(١٢) هل يمكن إعادة صياغة قواعد اللغة المصرية القديمة على أساس لغة الوُلوف؟

أعتقد أنني توصلت إلى تحديد السِّمة الأساسية المميزة لأغلب اللغات الزنجية؛ إذ يبدو أن كافة القواعد الحالية لتكوين الكلمات والتغييرات التي تطرأ على تركيبها حسب وضعها في الجملة ناشئة بالذات٨ عن مقتضيات صوتية «متناغمة»، بل وموسيقية. ومن هنا نَبَعت كافة الصيغ «الاسمية» التي ينتج عنها الأساس الصوتي لكل طرق التعبير عن اسم الإشارة والملكية والوصل والجمع … إلخ.

ومع أن علم النحو والصرف نابع عن المنطق، إلا أنني أقصد بتلك القواعد العلاقات القائمة بين كافة الكلمات والجزئيات التي تتصدرها أو تلحق بها؛ وهكذا فإن الماضي المباشر والبعيد تعبِّر عنهما بكل بساطة أسبقية الفعل على الضمير المضاف: «لِك نا» = أكلتُ.

كما أن الدلالة على التبعية أو الملكية يمكن أن يُعبِّر عن كل منهما مجرد وضعهما بالنسبة للكلمة، ليس إلا.

وتنطبق كافة تلك الملاحظات المتعلقة بقواعد النحو الوُلوف على اللغة المصرية القديمة.

ولكن هل تتوفر في اللغة المصرية القديمة تلك الثنائية بين تكوين الكلمات وتناغمها، وبين النحو والمنطق، التي يؤكدها واقع اللغات الأفريقية؟

إذا كان الأمر كذلك فإن التماثل يكون كاملًا بين اللغة المصرية واللغات الزنجية، وعليه فإن دراسة تلك اللغات تتيح لنا إمكانية التعرف على قواعد اللغة المصرية وتحديدها.

ولا مجال للشك في أن قواعد النحو موجودة في اللغة المصرية القديمة كركيزة للمنطق أو كنتاجٍ له، وقد سبق أن تعرَّفنا — منذ قليل — على الدور المتميز الذي تؤديه تلك القواعد في التعبير عن الأفكار؛ فالمضمون في اللغة المصرية القديمة يُتيح هو وحده تحديد دور كل كلمة بلا أي لبسٍ.

وعليه، لا يبقى لنا إلا التعرُّف في مجال «الصوتية» على قواعد مشابهة لتلك التي تحكم اللغات الزنجية الأخرى.

وأعتقد أنني توصلت إلى ذلك. فتكوين الأسماء بالوُلوف يتم عن طريق تغيير الحرف الأول، فالفعل أو النعت الذي يبدأ ﺑ «إ» أو «إ ممدودة» يتحوَّل في الوُلوف إلى اسم إذا أضيف إليه حرف الكاف في بدايته.

«إيانو»، «إيبينو» حمَل على الرأس، «كينو» = عمود.

«أنيان» = حاسد، حَسَدَ، «كانيان» = الحَسَدْ.

وفيما يتعلق بالمثل الأول نجد في مقابل ذلك باللغة المصرية:

«إيني» = حمَل على الرأس (تعريفي للسيقان، ديرون، ص٦٣–٨٧).

«كينو» = عمود (قاموس بييريه).

وهناك أيضًا بالوُلوف:

«باه» = طيب، طيبة، عادة، تقليد، الختان «باه» عندنا.

«مياه» = طيبة.

وباللغة المصرية:

«باه» = ما تم إقراره من قبل، عُرْف، ختان، وفرة …

«مياه» = عُرف، تمثال (رمز للسلف المتوفى وسط الأحياء).

وهذه الحروف الساكنة التي تتصدر الكلمة في لغة الوُلوف لها قيمة صوتية تخضع تبدلاتها لقوانين محددة.

فهل يمكننا الاستدلال على أن الأمر كذلك في اللغة المصرية؟ تلك هي القضية؛ ولذا يبدو أن القيام ببحوثٍ جديدة حول نوع القواعد التي تحكم اللغة المصرية سيكون مثمرًا إذا ما تم إجراؤها في هذا الاتجاه، حتى وإن كانت الثنائية بين التناغم والنحو تقوم أصلًا بدورٍ ليس أساسيًّا إلى هذا الحد لأن مجال التناغم محدودٌ بقدرٍ أكبر.

(١٢-١) تطور الحروف الساكنة

لقد استخلصت قاعدة عامة توضح أن الأفعال السيرير المنتهية ﺑ «آند» أو «إيند» تقابلها أفعال وُلوف تنتهي ﺑ «آل».

بالسيرير سينة «موكيند». سحق، تلا.
سالوم «موكاند».
بالوُلوف «موكال» = سحق، تلا.
«سوتيل» أو «سوتال» = أنهى.

وهكذا سقطت «الدال» التي ينتهي بها الفعل، وأصبحت «لام»، فأعطتنا الكلمة بالوُلوف. والمطلوب الآن أن نُثْبِت أن الانتقال من الكلمات المصرية إلى الكلمات الوُلوف يتم بآلية مماثلة. وهناك بالفعل مثال واضح وأكيد، حيث تحوَّلت «النون» المصرية إلى «لام» بالوُلوف. وهذا الأمر نجده في اللغات الهندو-أوروبية، وبالطبع ما كان يمكن أن نتجاسر ونستخلص أي استنتاجٍ من ذلك لولا أن مجموع الوقائع التي تم تبيُّنها خلال تلك الدراسة كان معترفًا به مقدمًا. ولكن، بالنظر إلى كل ما جاء من قبل فإنه قد يكون من المسموح به أن نستدل من ذلك أن «النون» المصرية كانت تُلفَظ على أطراف الأسنان، وهذا ما تؤكده — على ما يبدو — الأمثلة التالية:

بالمصرية بالوُلوف
«نِبْت» = صفيرة. «لت» = ضفيرة.
«نِبْتو» = ضَفَّر، جدل. «ليتو» = ضَفَّر بنفسه.
«بِنْيِنْ» = دَفَّق الماءَ منبعٌ. «بَلبَلْ» = تَدَفَّق الماء من منبع.

والدراسة المقارنة بين مفردات اللغتين المصرية والوُلوف تكشف عن العديد من التطابقات بين الحروف الساكنة المصرية والوُلوف، غير أنني أُفضِّل أن أكتفي بمسألة تحويل «النون» إلى «لام» لكونها تتميز بصعوبة دحضها.

(١٢-٢) المصدر المنتهي ﺑ «أو»

يلتقي الفعل بالمصرية والوُلوف في صيغتين؛ إما أن يكون جذره «نو»، أو أن ينتهي هذا الجذر ﺑ «أو».

بيد أن بييريه يعطي — بصفة عامة — معنًى واحدًا للصيغتين في قاموسه المصري، وذلك بالرغم من الفارق بينهما.

بالمصرية بالوُلوف
«سام»، «سامو» = مَدَح، مديح. «دام» = امتدح كذا، مدح، مديح.
«دامو» = امتدح نفسه.
«كيب»، «كيبو». خبَّأ، تخفي. «كيب» = قرص.
«كيبو» = قرص نفسه.
«كِسْر»، «كسرو». تُستخدَم من أجل صوت مرتفع بل والصراخ أيضًا. «سِرْ» = صرخ بقوة.
رجل يضع يده أمام فمه. «سِرو» = صاح بكل قواه. وفي هذه الحالة، يضع المرء في أفريقيا يده أمام فمه، لكي يحمي نفسه من الأرواح التي يمكن أن تتسرب إلى جسده عن هذا الطريق، وينطبق ذلك على التثاؤب لأن عدم اتخاذ هذا الإجراء قد يدفع أحد الأرواح إلى صفع الشخص، مما يتسبَّب في «التواء» الفم.
«كانو» = تصايح؛ يتم التحديد بشخصٍ يستعرض نفسه بحركة إيقاعية. «كآن» = مجَّد.
«كانو» = تفاخر؛ وهو فعل لا يمكن تصوُّره بدون كلمات إيقاعية مصحوبة بالرقص كلما كان ذلك متاحًا.
«سن»، «سنو» = رفع، نقل. «يان» = ساعد على الحمل.
ويجب ألا يغيب عن بالنا أن «السين» في بداية الفعل باللغة المصرية لها معنى سببي. «يانو» = حَمَل
«كسام»، «كسامو». سقط. «دان» = أسقط، هزم.
«دانو» = وقع.
«كسن»، «كسنو». = دخل، توغل. «جن» = خرج.
«جنو» = المكان الذي يتم الخروج أو الانسحاب منه.
«سنَّو» = دورة، محيط. «سِن» = رأى.
«سنتو» = زار، راقب. «سنتو»، «سنو» = تفحص المكان بناظريه.
ولما كنا قد نوَّهنا آنفًا بأن مصدر الفعل الذي ينتهي ﺑ «أو» في الوُلوف يشير إلى تصريف الفعل مع ضمير الفاعل، فإنه من المناسب أن ننظر فيما إذا كان الأمر على هذا المنوال في اللغة المصرية؛ مما سيعني عدم جدوى المُسلَّمات الألمانية. فهذه المدرسة التي فرضها زيته (Sethe) لكي يُثْبِت على الأقل أن اللغة المصرية كانت لغة سامية «مما يستبعد مؤقتًا الواقع الزنجي لمصر ويُرضي الغربيين تمامًا»، تقرر كحقيقة مُنْزَّلة أنه لا توجد حروف متحركة في اللغة المصرية، وأن ما نصادفه من حروف متحركة (a, i, u, é …) يجب اعتبارها حروفًا ساكنة، تمامًا كما لو قلنا إن الشمس ليست شمسًا، بل إنها في الواقع قمرًا، أو لو قلنا، بنفس الثقة العلمية، إن النهار في الواقع هو الليل.

وقد تطورت هذه النظرية، ووصلت إلى أوج نضوجها وازدهارها في شكل النظرية «الحامية-السامية» لكونها تُلبِّي حاجة معنوية في الغرب.

وهذه الملاحظات حول مصدر الفعل المنتهي ﺑ «أو»، وما جاء من قبل حول صيغة المستقبل المنتهية ﺑ «إ»، لا يسمحان باعتبار هذين الحرفَين المتحركَين حروفًا ساكنة ضعيفة، كما يُزعَم، بل كإضافتين تقومان بدورٍ محددٍ تمامًا.

(١٢-٣) الحروف المُلزِنة٩

لما كانت اللغات الزنجية — ومنها لغة الوُلوف بالأخص — لغات مُلزِنة، فإنه يتعين أن نُشير إلى أن تلك السِّمة مشتركة بينها وبين اللغة المصرية القديمة.

ولنذكر بهذا الصدد الكلمات المصرية التالية التي لا يمكن التعبير عنها بالفرنسية إلا باستخدام عدة كلمات:

«ديدو» = التي تم إعطاؤها.

«دجديدي» = الذي قيل له.

«دجديت» = ما جرى قوله.

«هبرو» = الذين عاشوا.

ولنقارن ذلك بالوُلوف:

«أبْ» = استعار «أباتا لاتاليتي»، «لُو»، «أبوديكوفو»
راح يستعير للمرة الثالثة لشخصٍ، شيئًا …، من النوع الذي لا يمكن إعارته.

(١٢-٤) الإعراب

إذا كان هناك مجال يتجلَّى فيه التشابه بين اللغتين المصرية والوُلوف، فهو مجال الإعراب:

«في الجمل الفعلية، يكون ترتيب الكلمات كما يلي: الفعل، الفاعل أو الضمير المشير إلى الفاعل، المفعول به، المفعول المتعدَّى إليه بحرفٍ، المفعول المسبوق بجملة أو عبارة ظرفية» (د. ديرون، ص٨٦).

وهذا الترتيب يماثل ترتيب الجملة الوُلوف، ويعود في رأيي إلى التصريف الذي يتم عن طريق إضافة لاحقة:

«يوت» «نا» «نانجام» «ديف» «باراب» «سان جام»
أحضر تُ «أنا» الشيء الفلاني إلى فلان في المكان الفلاني
«الفعل» «الفاعل» «مفعول به» «مفعول متعدَّى إليه» «مفعول فيه»   

ومن المهم أن نعيد إلى الأذهان أن التعبير عن الماضي لا يتم عن طريق تعديل الشكل الأصلي للفعل، ولكن من خلال أسبقية وضع الفعل بالنسبة للفاعل.

«سيمي» «سيش» «سيشيتا» «بن ني نايف» «م نيوت بن»
ذكر الكاتب هذا السر لرئيسه في تلك المدينة
«الفعل» «الفاعل» «مفعول به» «مفعول متعدَّى إليه» «مفعول فيه»

(١٢-٥) النوع الثاني من الإعراب

«هابك» «سيش» «دجيدف» «ساخيرك»
أرﺳﻠ «تَ» «أنت» الكاتب لكي يقول ما هو قصدك

وها هي ترجمة تلك الجملة بالوُلوف:

«يوني» «نجا» «بينداكات-بي» «مو» «فاه» «سا» «سوهلا»
أرﺳﻠ تَ الكاتب هو يقول كَ مقصد

وهكذا يتبين لنا أن اللغتين المصرية والوُلوف تستغنيان أو يمكنهما الاستغناء عن الاسم الموصول حيثما يكون ضروريًّا في اللغات الهندو-أوروبية حتى يكون المعنى مفهومًا، وذلك فيما عدا اللغة البريتانية. غير أن هذا الاستثناء يؤكد، في نهاية المطاف، كل ما نعرفه عن تاريخ بريتانيا والأحجار الضخمة المنصوبة (الميجاليت) وتأثير الفينيقيين — وهم شعب زنجوي — في هذه المنطقة في العصر الإيجي.

(١٢-٦) النوع الثالث من الإعراب

يتم تغيير ترتيب كلمات الجملة باللغة المصرية «عندما يكون الفاعل ضميرًا مستقلًّا، يتضمن دائمًا استخدامه قدرًا من التفخيم، ولكن بالأخص عندما يسبق الفعل ضمير المتكلم أو المخاطب أو الغائب» (د. ديرون، ص٨٨).

وتنطبق هذه القاعدة بحذافيرها على الوُلوف، وهي تغنينا عن التكرار. فلننتقل إذن إلى أمثلة لذلك لكي نقتنع:

بالمصرية بالوُلوف
«إينوك» «بيريه-ني» «مان» «جن-نا»
أنا خرجتُ أنا خرجتُ

كما أن ترتيب الكلمات يؤدي إلى نفس التغييرات النحوية في اللغتين.

فالخبر يسبق المبتدأ في كلتا اللغتين، ولكنه يأتي بعده في الجمل الوصفية:

بالمصرية بالوُلوف
«نوفر» «إيبي» «رافت» «بير»
جميل قلبي جميل قلبي (حرفيًّا: جوفي)
«نوفر» «أوفي» «رافت» «نا»
جميل أنا (أكون) جميل أنا (أكون)
«ماك» «وي» = ها أنا ذا «مان-جي» = ها أنا ذا
«ماك» «وي» «مباهيك» =  أنا ذا أمامك. مان جي ني تي سا كاتام = ها أنا ذا أمامك.
«جيميني سو» «ريخ» «ست» هامون-نا يج ناكو
اكتشفتُ «أنه» كان يعرف ذلك كنت أعرف «أنه» على علمٍ

(١٢-٧) التعبير عن المؤنث

كما لاحظنا ذلك من قبل، كان المؤنث بالمصرية عن طريق إضافة حرف التأنيث في آخر الكلمة في طريقه إلى الزوال بعد قيام الدولة الجديدة؛ فلم يعد العديد من الكلمات يحمل أي علامة تشير إلى الجنس. وهكذا تم اللجوء إلى كلمتَي «رجل» و«امرأة» لتحديد المذكر أو المؤنث.

وقد تواصلت تلك الطريقة في الإشارة إلى الجنس بأن عمَّت فيما بعد في اللغات الزنجية المنحدِرة عن اللغة المصرية.

وقد سبق أن أشرنا إلى أن أدوات التأنيث التي كانت تحدد الجنس في اللغة المصرية ظلت قائمة في لغة الوُلوف. وقد فاتنا أن نقول إن أدوات التأنيث هذه كانت لا تُلحق فقط بالأفعال في كل من اللغتين المصرية والوُلوف، بل وأيضًا بمقاطع أخرى، ومنها أدوات الجر … إلخ. ففيما يتعلق ﺑ «إس» و«إف»، لدينا بالوُلوف:

«ك-إس دور» = من الذي (أو التي) ضُرِب (أو ضُرِبت)؟ و«ك» مشتقة من «كان» = مَن.

«ك-إف دور» = نادرة الاستخدام.

وامتدادًا لذلك النهج، وتعميمًا له نجد:

«ف-إس دِم» إلى أين نذهب؟ و«ف» مشتقة من «فان» = أين.
«ف-إف دِم»
«ل-إس فاه» ماذا قيل؟ و«ل» مشتقة من «لان» = ماذا.
«ل-إف فاه»

وكذلك بالنسبة لتكوين الأسماء:

«بينْد» = كتب (وهذا المصدر المحلِّي يُثْبِت أن الكتابة لم تفد إلى أفريقيا مع العرب أو الاستعمار الحديث).

«مبينْد-إف» = ما كتبه الله أو أملته الطبيعة = الخليقة = الشكل الذي خُلق.

وبوسعنا أن نتكهن، من شكل تلك الكلمة الوُلوف، أن المعبود الذي ترجع إليه أصلًا هذه الخليقة لا بد أن يكون مذكَّرًا، وذلك بمقتضى الإضافة «إ»ف المتفقة مع حالات التذكير باللغة المصرية.

وانطلاقًا من نفس هذا المصدر لدينا الصورة التالية:

«مبينْ-أ-ف-أون» وهي تعني نفس الشيء، ولكن مع التأكيد بدرجة أكبر على الماضي.

ونلاحظ هنا تجاور اللاحقة «إف» والإضافة «أون» التي تشير إلى الماضي.

وهناك أيضًا:

«فاه»: تكلم.

«فاه-ت-إف» = الذي لا يُذكَر اسمه من باب التطيُّر.

«سدجم-ت-إف» = ساحر، آكل البشر.

وأداة النفي يمثِّلها هنا حرف التاء.١٠

وكما سبق أن قلنا فإن هذه الصيغ، التي يتفق كل اثنتين منها مع أشكال من الحشو، كانت تتميز أصلًا بجنسها، كما هو الحال في اللغة المصرية.

وهكذا نجد أن كافة العناصر الدالة على المذكر أو المؤنث في اللغة المصرية موجودة في لغة الوُلوف، فيما عدا ما يتعلق بالمخاطب المفرد المؤنث الذي تلاشى.

وهناك بالأخص تمييز الجنس باستخدام كلمة الذكر أو الأنثى، فهو لا يُشكِّل اختلافًا بين اللغتين، بل إنه، على العكس، سمة قرابة أخرى بينهما، وهكذا جانَب التوفيق من أرادوا أن يستنتجوا من ذلك اختلافًا في أصل اللغتين.

(١٣) ملاحظات حول بعض الكلمات المصرية القديمة المتميزة

تعني كلمة «كير» بالمصرية مكان إقامة أيًّا كان، وفقًا لأميلينو (تمهيدات لدراسة الديانة المصرية) أو جناحًا لأوزيريس أو قمرة في مركب شمس.

وتعني كلمة «كير» بلغة الوُلوف مسكنًا، منزلًا، بيتًا.

ومن المعروف أن «كير» تعني كذلك مسكنًا باللغة البريتانية، ولكننا نعلم أيضًا مدى النفوذ الفينيقي (الزنجوي) على هذه المنطقة في العصر الإيجي.

وتعني «بير» بالمصرية سياجًا (سياج ذو أربعة أضلاع في أغلب الأحوال) «مجدول، أي أنه يقام بتشابك أعشاب أو فروع أشجار»، يحيط بالمنزل، ويحدد بذلك نطاقه؛ ولذا كثيرًا ما تُترجَم كلمة «بير» إلى منزل، دون أن يكون ذلك غير دقيقٍ إلى حدٍّ كبير.

وبلغة الوُلوف تعني «بير» ما يتم صنعه بالأعشاب المجدولة، على أن يكون جيدًا سواء من حيث نوع الأعشاب أو الحبك، من أجل إقامة سور حول مسكن ملك أو شخصيات عالية المقام، أو تشييد ما يمكن أن يُسمَّى «حوائط» غرفهم الخاصة. وهناك نوعان من اﻟ «بير»؛ ما يتم صنعه عن طريق تشابك البوص ويشكِّل بذلك مربعات أو مستطيلات أو معينات، حسب زوايا تداخل الأعشاب؛ وفي هذه الحالة لا يحتاج الأمر إلى لحاء النخيل أو السعف لتثبيت الأعشاب. وهناك السياج المكوَّن من بوص مثبَّت بطريقة فنية بواسطة سعف النخيل، وهو يسمى «ندْون» بالوُلوف. والنبات المفضَّل لإقامة اﻟ «بير» نوع من البوص الرفيع (السمار) المجفَّف (هات) والمنزوع منه غلافه الورقي، ولونه أصفر، لامع في ضوء الشمس، ولكنه يفقد لمعانه مع هبوب الرياح وهطول الأمطار.

وهناك سياج أكثر خشونة، يُقام من سيقان الدُّخن، يسمى «ساكِت».

ولذا فإن التعبير المصري «بير يا» الذي يُترجَم عادة إلى «البيت الكبير»، أي منزل فرعون، يعني حرفيًّا بالوُلوف: سياجًا رحبًا، علمًا بأن المقصود بالسياج ما جاء منذ قليل حول كلمة «بير».

وعلى العكس، فإن البيت الكبير بمعنى منزل فرعون أو أي رئيس آخر، لم يعد يتم التعبير عنه بهذه الطريقة؛ إذ يقال «كير جو ماك»، وهو تعبير مكون من كلمتين سبق أن صادفناهما. فكلمة «كير» هي أول ما ورد في بداية هذا القسم، ومعناها واحد باللغتين المصرية والوُلوف، و«ماك» معناها كبير، راشد، متمرس، باللغة المصرية (قاموس بييريه، ص٢٠٢).

ومن المعروف أن:

«بير-إيا» و«بير-وي-ايا» = الدار المزدوجة، ومنها جاءت كلمة فرعون.

وبالوُلوف، فإن «ب» (مفرد) = ف (جمع)، ومثال ذلك «بير مي» و«فير بي».

«بير، فير» «يو»، «إيا» = السياج، المساكن الرحبة.

كما أن الملك المعظَّم والإمبراطور، يحملان لقب «فاري» بالوُلوف. ومثال ذلك:

«بور فاري» = الملك المعظَّم.

ولا يوجد أي استخدام آخر لكلمة «فاري» بالوُلوف. ولا يمكن استخدامها للإشارة إلى شكلٍ آخر من أشكال العظَمة المعنوية أو الجسدية. ولذا يُفرض علينا ذلك الرجوع إلى مصطلح «فرعون» الذي كان يُنطق بالمصرية «فاري»، نظرًا لأن فرعون ليس إلا التحوير الإغريقي لتلك الكلمة.١١

و«فاري» اسم شخص بالوُلوف.

ولننتقل إلى الكلمة المصرية ذات الأهمية بعيدة المدى لأنها عنصر مشترك في كافة البحوث، دون أن يتم التوصل حتى الآن إلى التعرُّف على هوية العلامة الهيروغليفية المستخدَمة في كتابتها، إنها كلمة «مَن» التي تُكتب بالهيروغليفية على الوجه التالي:

وقد تمت حتى الآن محاولات للتعرف على هذه العلامة الهيروغليفية عن طريق رسمها فقط، لا معناها؛ ولذا فقد تم تشبيهها تباعًا «بلعبة الطاولة أو رقعة الضامة» (د. ديرون، ص١٨) وبتاجٍ من الزهور (ك. ديروش-نوبلكور)، والسيجة.

ولكن، هل يمكن أن نستخلص من فحص لغة زنجية، وبالأخص الوُلوف، معلومات دقيقة تتيح لنا إمكانية التعرف على تلك العلامة الهيروغليفية؟

نعم، ويكفينا هنا أن نضع الوقائع التالية في عين الاعتبار لكي نقتنع بذلك:

إننا نجد في قاموس بييريه أن معنى هذه الكلمة بالمصرية «مَن»-«ت» = ضِرع، ثدي، علمًا بأن التاء هنا للتأنيث.

«من-تي» = الضرعان، الثديان.

و«تي» تميز المثنى الذي اختفى من اللغة المصرية، ولا نجده بالتالي في اللغات الزنجية التي جاءت بعدها، وينطبق نفس الأمر على تاء التأنيث.

والكلمة التي يُعرف بها الثديان أو الضرعان لا تترك أي مجال للشك في المعنى الأصلي لكلمة «مَن».

كما أننا نجد في قاموس بييريه أن «مَن» = بقرة حلوب، وهي تُكتب بنفس العلامة التي لن نكررها حتى لا نثقل النص. وهكذا يمكننا أن نفهم أن الماشية يمكن أن تُسمى بالمصرية «مَن-مَن»-«ت» (د. ديرون، ص٢٧). وهذا التكرار أو التشديد على مصدر الكلمة تم استخدامه لكتابة؛ بقرة حلوب؛ ولذا فلا عجب في أن تكون كلمة ماشية مؤنثة، وتنتهي بتاء التأنيث.

وأخيرًا، إذا كانت كلمة «مَن» تعني ضرعًا أو ثديًا، فبوسعنا أن نفهم أنه في ظل مجتمع أمومي يستخدم لغة يكون فيها اسم الموصوف فعلًا، فإن هذه الكلمة إذا تقدمتها «س» سببية، فإنها يمكن أن تكتسب معنى: «إحلال ملك محل أبيه، تثبيت، تعزيز، إدامة، تأسيس» (قاموس بييريه، ص٤٩١).

ولا يجوز أن تتسبب كلمة أب هنا في أي بلبلة، لأن تَولِّي الرجال السلطة لا ينفي انتقال الحقوق السياسية عن طريق الأم؛ فالأمير يخلف إذن أباه، على أساس توفُّر شروط الخلافة عن طريق الأم، اللهم إلا في حالة اغتصاب العرش بالقوة أو باللجوء إلى خديعة.

وهذا التوسع في معنى كلمة (مَن) يؤكد الطابع الأمومي للمجتمع المصري، والمجتمع الزنجي بوجهٍ عام.

وهكذا فإننا لا نتفهم الصلة المنطقية التي تتيح لنا الارتقاء بفكرة الثدي إلى فكرة التعاقب على العرش، إلا بالاستناد إلى المفهوم الاجتماعي لدى المصريين.

ويقدم لنا بييريه أيضًا «ص٥٠٢»: «من»، «سن» = جزءًا من البقرة. والواقع أن المؤلف عاجز عن أن يحدد لنا ما إذا كان الأمر يتعلق ببقرة أو ثور.

وبعد أن أوردنا هنا مختلف المعاني التي تتخذها كلمة «من»، هل هناك مرادف لها بلغة الوُلوف؟ توجد كلمة «مَن» في لغة الوُلوف بنفس المعنى. «مَن» = النسل عن طريق الثدي، النهد؛ الذين رضعوا من نفس الثدي، النَّسب عن طريق الأم، الضِرع، الثدي بالمعنى العام للكلمة «الحضن».

وهناك صورة أخرى لنفس الكلمة بالوُلوف وهي «فن» = ثدي، ضِرع، حَلمة.

وهكذا نجد أن لغة الوُلوف تؤكد تمامًا معنى هذه الكلمة باللغة المصرية.

وبناء على ذلك، ماذا يمكننا أن نقول بخصوص التعرُّف على هوية هذه العلامة؟

يحق لنا أولًا أن نفترض أن المصريين ما كانوا يكتبون بشكلٍ يناقض التفكير السليم: ولما كانت كتابتهم تعتمد على تثبيت الأفكار عن طريق الصورة، كان لا بُدَّ وأن تمثل حدًّا أدنى من التوافق المباشر أو غير المباشر، والقريب أو البعيد، بين الفكرة المراد التعبير عنها والواقع المصوَّر، لكي تكون الفكرة مفهومة.

ومع افتراض أن هذا الشرط الأولي أمر لا غِنى عنه، فهل هو متوفر على أي صعيد كان من خلال مختلف التفسيرات الرسمية، حتى لو تقصَّينا أبسط جوانب المجتمع المصري في أدق تفاصيلها؟ لا بالطبع؛ إذ إننا لا نستطيع أن نؤكد وجود أي علاقة اجتماعية أو منطقية بين لعبة الطاولة ورقعة الضامة، والتاج المصنوع من الزهور، والسيجة … والضرع، والثدي، والتواصل، والتوارث.

ولذا، يتعيَّن أن نبحث عن مصدر آخر.

ويستدعي الأمر بالضرورة أن يتضمن الجزء الواقعي المستعار علاقة مع فكرة الثدي المشتركة في كافة معاني كلمة «مَن»، والتي يجب أن نعتبرها المعنى الأول لها.

ولذا يدفعنا ذلك إلى الاعتقاد بأن العلامة الهيروغليفية «مَن» التي نحن بصددها تُصوِّر ضرع بقرة يمكن أن تتغير تفاصيلها في الكتابة لاعتبارات متعلقة بالتبسيط. فعدد النتوءات في هذه العلامة يتراوح بين العدد البسيط وضِعفه أي بين ٤، و٨، بُغية التأكيد على الفكرة أو لأي سبب مشابه؛ غير أن هذا العدد يكون أحيانًا ٧؛ ولذا يهمنا أن نتأكد من صحته وتكراره باستمرارٍ، ولعل العدد الأصلي الحقيقي قد تعرَّض لتذبذبات حسب أهواء الكتبة.

وهذا التفسير الذي ما كان يمكن التوصل إليه إلا بفضل تأكيد معنى الكلمة بالمصرية القديمة عن طريق الوُلوف، يتميز بتوافقه مع كل ما نعرفه عنها. وهو يتيح بالأخص إمكانية تصوير البقرة الحلوب بخاصيتها الأساسية، وهذا أمر يتفق تمامًا مع الواقع والمنطق.

(١٣-١) ريبو، ليبو

لم تظهر هاتان الكلمتان في اللغة المصرية (وفي التاريخ) إلا مع التدفق المفاجئ لشعوب البحر في ظل الأسرة التاسعة عشرة، عندما وقعت الغزوات الهندو-أوروبية الأولى في الألف سنة الثانية قبل الميلاد. وكانت هذه الجحافل البربرية التي راحت تجتاح كل أفريقيا تُسمَّى: «ريبو»-«ليبو».

والبلد القفر الذي ردَّهم المصريون إليه، غرب مصر، كان يُسمَّى «ريبو»، وكلمة «ليبو» ليست سوى صورة أخرى لريبو، عن طريق تبديل أحد الحرفين الانسيابيين للانتقال من كلمة إلى أخرى.

وهكذا كان المصريون يُشيرون بكلمة «ريبو»، إلى ما أصبح بعد ذلك ليبيا، وجاءت كلمة ليبي من «ليبو».

ولا جدوى من محاولة العثور على أصل هاتين الكلمتين في اللغات الهندو-أوروبية والسامية. ولنبحث مرة أخرى في إمكانية الاستفادة من لغة زنجية مثل الوُلوف، للتوصل إلى استنتاج منطقي.

يتعين أن نلاحظ أولًا أن الشاغل الرئيسي للجحافل المشار إليها كان القنص.

ونجد من جهة أخرى في قاموس بييريه:

«ريبو» = ليبيا.

وجذر هذه الكلمة موجود في الوُلوف، ويعني هو أيضًا:

«رِ»= قَنْص، قناص، صاد.

«ريبو» = مكان يتم فيه القنص، بلاد القنص، وذلك على غرار ما يجري نحويًّا:

«دانج» = دراسة، دَرَس.

«دانج-و» = مكان تتم فيه الدراسة، مدرسة …

وبفضل هذا التوضيح الذي توفِّره لنا لغة الوُلوف، تكون لدينا أسباب قوية تدفعنا إلى الاعتقاد بأن مصدر كلمة ليبي هو — بلا شكٍّ — «ليبو»-«ريبو» التي تعني أصلًا قنَّاصًا.

وقد استخدم هيرودوت هذه الكلمة في مؤلَّفه «التواريخ» للإشارة إلى كافة الشعوب الهندو-أوروبية الهمجية التي كانت تعيش على الشواطئ الشمالية لأفريقيا بعد أن قُضي على تحالفهم في عهد فرعون مصر مرنفتاح (الأسرة التاسعة عشرة).

وأصبحت كلمة ليبيا تشير أكثر فأكثر في أذهان الإغريق إلى أفريقيا باستثناء مصر.

ويجدر بنا أن نذكر أن سكان شبه جزيرة الرأس الأخضر المنحدرين من السيرير لا يزالون يحملون اسم «ليبو»، مما يدفع إلى الاعتقاد بأن الأمر يتعلق باسم نوع يشير إلى كل الشعوب القناصة في المنطقة.

(١٣-٢) كِسيْ (xai)

نجد في قاموس بييريه (ص٤٠٦-٤٠٧) أن:

«كِسيْ» = أداة، ماعون، معدات.

«كِسيْ» = حلية.

بيد أن «كْيِ» (التي كان بوسعي أن أكتبها (كِسيْ) حسب مصطلحات بييريه في التدوين) لاحقة بلغة الوُلوف تُكسِب اسم الموصوف معنى مكان أو أداة:

«ليجِيْ» = عمل.

«ليجِيْ-و-كاي» = مكان العمل، موقع، أداة عمل، حسب المضمون.

«ليجِيْ-أو-كِيْ بي» = الموقع.

«ليجي-أو-كِيْ جي»-الأداة، الماعون المُستخدَم في العمل.

«داج» = قطع.

«داج-أو-كِيْ بي» = المكان الذي يتم فيه القطع.

«داج-أو-كِيْ بي» = الأداة التي تُستخدَم في القطع.

«توج-أو-كِيْ بي» = المكان الذي يتم فيه الطهي.

«توج أو كِيْ جي» = أداة المطبخ.

كما نجد أيضًا في قاموس بييريه:

«كِيْ» = حلية.

وفي الوُلوف:

«تاك» = حَمَل.

«تاك-كِيْ» = حلية.

بيد أننا قد نتساءل ما إذا كان الأمر يتعلق في تلك الحالة الأخيرة باللاحقة «كِيْ» أو (إيْ) التي تُشير إلى ميزة أو عيب جسدي أو معنوي أو إلى كينونة:

«رافت» = جميل.

«رافت-إيْ» = جمال.

ملحوظة: آخر الكلمة «كِيْ» له معنى أقوى من «أو» الذي يشير هو أيضًا إلى اسم مكان أو أداة؛ ولذا يتم دعم الأخير بإضافة الأول إليه:

«دِب» = طعن، أصاب بشدة بسكين مدبب.

«دِبو» = كل أداة مُدبَّبَة تُستخدَم في الطعن أو في التحقق من حصانة البشرة المكتسَبة على أثر تجرُّع مشروب خاص مكوَّن من مسحوق وجذور وقشور … إلخ.

(١٣-٣) ساه

«ساه» = بلد، قرية، نبيل، وجيه (من الأعيان) باللغة المصرية.

«ساه ساه» = مجلس كبار السن في القرية، مجلس القُدامى، وظيفة إدارية تواجدت منذ بداية الدولة المصرية حتى نهايتها؛ وكانت تلك المجالس أقدم الديمقراطيات الريفية التي عرفتها البشرية، ولقَّنتها مصر لليونان في العصر الإيجي، وتولَّدت عنها مختلف الدول-المدن في اليونان.

«ساهو» = القُدامى، الأسلاف.

وهناك تطابق تام في ذلك مع السيرير:

«ساه» = بلد.

«ساه ساه» = رئيس قرية، وهي وظيفة إدارية لا تزال قائمة حتى الآن.

«سار» = اسم علم مميز عند السيرير؛ ويبدو أن التوكولور استعاروه وهم يدفعون السيرير نحو الجنوب، ويحتلون وادي نهر السنغال. وهناك بعض التجمعات من أصل سيرير تحمل اسم «سار» ولا تزال تعيش في منطقة السنغال، البلد الحالي للتوكولور.

«ساهو» = اسم علم زنجي يبدو أنه مأخوذ عن «ساهو».

«ساتيه» = قرية (بالسيرير).

ولكننا نعلم أيضًا أن:

«ساتي» = مسكن، منزل باللغة المصرية (ديرون، ص٨١).

(١٣-٤) كا

نجد في قاموس بييريه (ص٦٥، ٦٦، ٦٧):

«كا» ويمثِّلها ذراعان مرفوعتان للدلالة على الفكرة العامة عن الارتفاع، السمو، التدرج = جوهر الإنسان الخالد، الذي يعيش في السماء بعد المرور على محكمة العالم الآخر، الزوج، الذكر، الثور، كبير، مرتفع، طويل، ارتفاع، سُمو، البومرانج «بصحبة علامات التعريف المناسبة».

كا «و» كا «و» = مرتفع علو، تل، مبنى مرتفع.

«كاو كاو» = شعب من أعالي النيل.

ونظرًا لما لدينا من معرفة بالوُلوف، فإنه يحق لنا أن نفترض أن «الواو» أُغفلت في نسخ الكلمتين المصريتين الأوليين.

فنحن نجد في الواقع حرف «الواو» المتحرك بشكلٍ متطابق تقريبًا في الوُلوف:

«كاو» أو «كاوَّ» = مرتفع، ارتفاع، علو، مناطق السنغال الداخلية، وإن كانت مناطق سهلة.

«كو كو» أو «كوُ كوُ» = ارتفاع، علو، سكان مناطق مرتفعة.

والكلمة الأخيرة التي تعني سكان مناطق مرتفعة، تُستخدَم مع ذلك في الوقت الراهن للإشارة إلى سكان السهل الداخلي في السنغال؛ كايور، باءول … إلخ. ويعود هذا التناقض الظاهري إلى الذكريات الجغرافية لشعبٍ هاجر من منطقة جبلية، مثل وادي النيل الأعلى.

ولنذكر في نهاية الأمر أن كلمة كاوُ هي اسم قبيلة تقيم حاليًّا في أعالي النيل.

(١٣-٥) خِتْ

بالمصرية:

«خِتْ» = غصن، شيء، خشب.

«خِتْنِب» = كل الأشياء، كل أنواع الأشياء.

بالوُلوف: «هِتْ» = شيء، نوع، خَلَف عن طريق الأم، شجرة النَّسب من فرع الأم، ومنها فكرة التفرع، وبالتالي فرع أو غصن، وهكذا يتم الالتقاء مع المعنى المصري. وإذا قال أحد عن شخص ما إنه «هِت» ي، فمعنى ذلك أنه قريبي، أنه مرتبط بي بصلة غير وثيقة، غير مباشرة، بعيدة ولكنها قائمة على أي حال، وأنه من جنسي.

«هِت» = قَشَط-الخشب أساسًا.

«هِتْ يِب» = كل الأشياء.

(١٣-٦) تِفْ

بالمصرية:

«تِف» = بصق.

«تِفنوت» = الربة التي لفظها رع.

بالوُلوف:

«تِف» أو «تيف» = البصق.

«تيفليت»، «تيفلي» = البصاق.

ويتأكد من الشكلين الأخيرين «تيفليت» و«تيفلي»، اللذين يعنيان نفس الشيء، أن التاء في «تفنوت» المصرية تميل إلى التلاشي في الوُلوف، بينما تصبح «النون» المصرية «لام» بالوُلوف، كما هو الحال بالنسبة ﻟ:

«نِبت» = لت = ضَفَّر، شبك.

«نِه» = «لَهْ» = حمَى.

… إلخ.

وهكذا تم الانتقال من المصرية إلى الوُلوف بالأشكال المتتابعة التالية:

تفنوت … تفلوت … تفليت … تيفلِت … تيفلي.

(١٣-٧) سا

بالمصرية:

«سا» = ربة العلم، الذكاء، التثقيف.

بالوُلوف:

«سا» = عَلَّم، ثقَّف، تعلَّم القراءة، علَّم نصًّا.

(١٣-٨) تِسْتِسْ

بالمصرية:

«تِسْتِسْ» = أوزيريس وهو في هيئة هامدة (بييريه، ص٦٨٢).

ومن المعروف أن هيئة أوزيريس هذه، قام أخوه سِت بتقطيع أوصالها ونثرها.

بالوُلوف:

«تاس» = بعْثَر، تبعثر، فكَّ نظام شيء.

«تاستاس» = مُفكك.

(١٣-٩) توم

بالمصرية:

«توم» = إله (بييريه، ص٦٧٢).

والواقع أن المقصود بذلك الشمس عند الغروب، والتي يعتبرها المصريون ربًّا «لم يعد له وجود».

«أتوم» = رع «الذي لم يعد له وجود».

بالوُلوف:

«تول» = لاحقة تضاف للفعل، وتضفي عليه معنى «لم يعد»، الكف عن فعل أو عن حالة:

«دوندا» = يعيش.

«دوندا-تول» = لم يعد حيًّا.

(١٣-١٠) ساتي

بالمصرية:

«ساتي» = أطلق سهامًا، نبَّال، آسيوي، آسيا (بييريه، ص٥٥٨).

ومن المحتمل أن تكون ترجمة «ساتي» نبَّال خاطئة، وأن السهام التي تظهر في العلامة الهيروغليفية للكلمة ليست سوى دلالة على عصابات اللصوص المتمثلة في الآسيويِّين الذين كان المصريون يتحفونهم بالعديد من النعوت والصفات ومنها الموبوءون … إلخ.

بالوُلوف:

«ساتي»: لص: وهو ما يتفق مع مدى تقييم المصريين للآسيويِّين الذين كانوا يطلقون على بلادهم؛ أرض «الساتي».

وفيما يتعلق بفعل أطلق، فهو بالوُلوف:

«ساني» = أطلق.

(١٣-١١) سنتا

بالمصرية، حسب ما جاء في قاموس بييريه «ص٥٠٢»:

«سِنْ» = شمَّ الأرض، سجد، ومنها:

«سِن-تا» = سجد.

بالوُلوف:

«سنتا» = شكر بكل تواضعٍ.

(١٣-١٢) سيرير

بالمصرية:

«سيرير» = الذي يرسم حدود المعابد.

بالوُلوف:

«سيرير» = جنس زنجوي قديم، يعيش حاليًّا في السنغال.

(١٣-١٣) تاب

بالمصرية:

«تاب» = تسمية معيار وزن بقرة (بييريه، ص٦٨٦).

قد يكون هناك خطأ في ذلك، فقد يتعلق الأمر — على الأرجح — بالتقدير العادي لقيمة بهيمة، أو بالتمييز بين كونها أو عدم كونها عِشارًا، وذلك لأن:

بالوُلوف:

«تيب» = فعل متميز يشير إلى التزاوج، وكان معناه أصلًا: قفز فوق.

(١٣-١٤) راميتو

بالمصرية:

«راميتو» = الإنسان أو الكائن المثالي.

بالوُلوف:

«راميتو» = طائر مُقدَّس يقال عنه إنه مزود بروحٍ بشرية، وهو الطائر الوحيد الذي تعترف له التقاليد بهذه الصفة.

«رامو» = بلوغ النعيم، الوصول إلى الجنة.

(١٣-١٥) يوما

بالمصرية:

«يوما» = بحر، ويبدو أن الترجمة الشائعة لتلك الكلمة ناجمة عن خلط لأن:

«يوما» = أم، بالتوكولور والبول.

وكان المصريون يعتبرون النيل أمهم، ويسمونه أيضًا «يوما». وبالطبع فإن النيل يفترض توفُّر المياه، مما قد يكون سببًا في هذا الخلط. (ويطلق المصريون الحديثون كلمة البحر على النيل في حديثهم بالعامية).

(١٣-١٦) تاه

بالمصرية:

«تاه» = الوحل، سكان المستنقعات، صياد.

«تاهو» = الغوص في الوحل.

«تاهوا» = الوحل، حثالة البشر (بييريه، ص٦٦٤).

بالوُلوف:

«تاه» = اتَّسخ، تلوَّث، وتُستخدَم هذه الكلمة أساسًا بمعناها الحقيقي، للتعبير عن فكرة الاتساخ بمادة لزجة مثل الوحل، وتعني بالمعنى المجازي، وصمة … إلخ.

وقد يوحي إلينا معنى هذه الكلمات برأي المصريين في الحياة في المستنقعات؛ وهو ما يجعل من المستبعَد أن تكون حضارتهم قد قامت أصلًا في منطقة الدلتا العامرة آنذاك بالمستنقعات، علمًا بأنه لا توجد أصلًا أي وقائع ذات بالٍ تؤيد ذلك الافتراض.

(١٣-١٧) كِم

بالمصرية:

«كِم» = أسود، اسوَدَّ، وبالتالي خشب ثمين لونه داكن، الأبنوس.

«كام» = حجر كريم داكن اللون.

«كِم-ت» = مصر (بييريه، ص٦١٨).

«هِم» = أسود، حرارة.

بالوُلوف:

«هِم» = فَحَّم، وتُستخدَم هذه الكلمة لكل ما يصبح فاحم اللون لتجاوز حدود النضج.

بَيْدَ أن الانتقال من كلمة «كِم» المصرية إلى كلمة «هِم» بالوُلوف لا يحتاج إلا إلى إحلال الحرف الاحتكاكي الحلْقي «ﻫ» محل الحرف الانغلاقي «ك»، وهو ما يتفق مع القاعدة العامة لتطوُّر الصوتيات التي تتحوَّل بمقتضاها الحروف الانغلاقية إلى حروفٍ احتكاكية نتيجة للميل إلى بَذْلِ أدنى قدرٍ من المجهود. ولذا فمن الطبيعي أن تتحوَّل «كِم» في لغة الوُلوف المتفرعة من اللغة المصرية إلى «هِم».

وهكذا يتبين لنا أن «كِم-ت»، وهو اسم مصر، يعني: السوداء، علمًا بأن التاء في نهاية الكلمة هي أداة التأنيث باللغة المصرية القديمة، وهي السوداء بمعنى أنها بلاد الزنوج، وهم ذرية حام، سلف السود كما جاء في التوراة. وحام أبو كلٍّ من مصراييم، وهو اسم آخر لمصر لا يزال ساريًا حتى الآن لدى كافة الشرقيين (خلافًا لإيجيبت الشائعة في الغرب)، وكوش سلف الإثيوبيين كما جاء في التوراة، وفوط، سلف الزنوج، حسب التوراة أيضًا، الذين كانوا يعيشون في الجزيرة العربية قبل غزو القبائل المنتمية إلى الجنس الأبيض في الألف الثانية قبل الميلاد، وامتزجوا مع بني عاد الزنوج، فاندرج منهم مَن أُطلق عليهم — فيما بعد — الفرع السامي الثاني، أي العرب؛ وكنعان، سلف الفينيقيين، وفقًا للتوراة، وهم عائلة أخرى من الزنوج، أبناء عم المصريين، شأنهم في ذلك شأن أهالي بلاد بونت، الذين امتزجوا في نفس تلك الحقبة مع قسم آخر من القبائل الهندو-أوروبية، وقد نشأ عن هؤلاء الفرع السامي الأول، أي اليهود.

وعليه فإن «ﻛِﻤ-ت» لا تعني الأرض السوداء بالمعنى الأصلي للعبارة، لأن الأمر لا يتعلق بلون الأرض، ولكنه يشير إلى البلد عن طريق لون الجنس الذي عاش عليها بلا انقطاعٍ، وذلك بنفس المعنى الذي يُستخدَم اليوم عندما يقال: أفريقيا السوداء، وأفريقيا البيضاء. وهناك تفسير مستنبط من التقاليد الزنجية يؤكد ذلك:

فلا تزال هناك رواسب أحد التقاليد التي تَعتبر أن الأبيض شخص لم تتم عملية إنضاجه بعد، بينما الأسود تم إنضاجه بقدرٍ زائد عن اللازم، لأن الخالق سها عليه وقْف الإنضاج في الوقت المناسب، فأصبح الزنجي بذلك «هِم».

وبوسعنا أن نجد في ذلك الأصل التاريخي لكلمة «حام»، سلف الزنوج، حسب التوراة. وقد استعار اليهود حتمًا هذه العبارة التي تُشير إلى سلف المصريين من المصريين أنفسهم، عندما كانوا أَسرى في مصر، ولا يمكن أن يكون عكس ذلك صحيحًا.

وهكذا يمكن أن نتفهم أن هذه الكلمة تعني حتى الآن بلغة اليهود: أسود، وحرارة.

ولننظر فيما يمكن أن نصل إليه من تفسير بالرجوع إلى كلمة «هِم» بالوُلوف.

فمن المعروف أن المصريين كانوا مشهورين بكونهم الكيميائيين الوحيدين في العهود القديمة. ولم يُعرَف هذا العلم في أوروبا إلا في القرن الثالث بعد الميلاد. ومن هنا جاء اسم عِلم الكيمياء، المشتق من اسم مصر نفسها، ولكن المصريين ابتكروا كافة العلوم، فلماذا أُطلق اسم مصر على هذا العلم وحده؟

ويتبدَّى لنا السبب جليًّا عندما نعرف أن الكيمياء نشأت وتطورت حتى القرون الوسطى على يد ممارسي التجارب الكيميائية القُدامى الذين كانوا يحاولون التوصُّل إلى حجر الفلاسفة، عن طريق عمليات تقطير وتعريض للحرارة طوال أيام بل وشهور. أَوَليس من الطبيعي أن تُطلق على عمليات الإنضاج لمددٍ طويلة للغاية كلمة «هِم» أو «كِم»، أي التعريض للحرارة إلى حد تجاوز الإنضاج؟

فيا له من أمرٍ مثير بالنسبة لفرد من الوُلوف عندما يكتشف أن أقدم وأعرق جذور ثقافة البشرية كانت جزءًا من تقاليده!

ولنا أن نتساءل بالطبع كيف أن «حام» و«حاميين»، اللتين تعنيان حسب علم الاشتقاق «فحَّم»، قد انقلبت بعملية سحرية على يد إخصائيِّين إلى الإشارة إلى أجناس بيضاء، خيالية؛ ليتخذ من ذلك أصحاب اليد الطولى ذريعة لتبرير أبسط مظاهر ثقافة عالم السود وإسنادها إلى أجناس بيضاء. إنها محاولة مريحة للغاية وساذجة، لا تصمد أمام الفحص الموضوعي للوقائع التاريخية، لينتزعوا منا المكسب المعنوي للحضارة المصرية وتسجيله لحساب التامهو (البيض)، كما لجأ إلى ذلك شامبليون-فيجاك. وفَشْل كافة تلك المحاولات، بالرغم من الجهود الضخمة للتوصل إلى حلول مقبولة (لصالح الريبو) لهو من الأدلة التي تؤكد استحالة منازعة الزنجي في دوره كأول مرشدٍ للبشرية في طريق الحضارة، وهو ما اعتبره كافة الفلاسفة والمؤرخون القُدامى أمرًا مفروغًا منه.

(١٣-١٨) دجادجنوت

بالمصرية:

«دجادجنوت» = أحد الآلهة، ويقول عنه أميلينو: «في الفصل الخامس والعشرين «من كتاب الموتى» يتم الابتهال على الوجه التالي إلى أحد الآلهة الدجادجنو الجالسين بجوار أوزيريس، وهو الواحد والأربعون في الترتيب، ويُسمَّى الرأس المُقدَّس، ويتخذ شكل الثعبان: «يا أيها الرأس المُقدَّس الخارج من خلوته، أنا لم أعمل أبدًا على التوسع فيما أملك، ولم أضم إليَّ أبدًا ما كان يخص الإله» (تمهيدات لدراسة الديانة المصرية القديمة، ص١٧ و١٨).

وتتكوَّن «دجادجنوت» من «دجدج» و«نوت».

وإذا جمعنا بين المقطع الأول «دجا» من الكلمة الأولى، والحرف الساكن الأول من الكلمة الثانية المكوَّنة أصلًا من مقطعٍ واحدٍ، لحصلنا على كلمة «دجان»، ومعناها الثعبان بالوُلوف.

وهكذا تكون المقاطع غير البارزة في الكلمة المصرية قد أُسقطت وفقًا لقاعدة شهيرة، بينما انضمت لبعضها العناصر البارزة لتتكوَّن منها الكلمة الوُلوف.

ومما يؤكد تلك الملاحظة ما نعرفه عن دور الثعبان في الميثولوجيا الزنجية، فالثعبان هو الإله-السلف عند الدجون، الذي قُتل ودُفنت رأسه تحت سندان الحدَّاد؛ ولذا يتعين أن يخرج الثعبان من عزلته، وأن يتقدم عبر الظلمات وهو يرقص على إيقاع الضربات فوق السندان.

بَيْدَ أننا نعلم أن الإله-الثعبان يُسمَّى في كتاب الموتى «الراقص في الظلمات».

والفعل الوُلوف المستخدَم للإشارة إلى علمية الارتداء، سواء تعلَّق الأمر برجل أو امرأة هو فعل «فودو» الذي يعني — حرفيًّا — ارتداء مئزر، ويخصُّ النساء وحدهن. بَيْدَ أن ما نعلمه عن العادات المصرية يلغي ذلك التناقض الظاهري، فقد كان المصريون، رجالًا ونساءً، يرتدون المئزر، وذلك على غرار ما كان يفعل العديد من الأفارقة حتى عهد قريب.

ولنورد هنا بعض الكلمات المصرية التي تستحق التعمُّق في دراستها:

«بتاح» = الإله المصري، المتسبب في تحويل المادة.

«تاه» = تسبَّب في، بالوُلوف.

وقد لا تكون «پ» أو «ﭘﺎ» إلا أداة التعريف اﻟ… بالمصرية.

«هِب» = النيل باللغة المصرية.

«هب» = مغمور في الماء، مُبْتل للغاية، تشبع بالماء، بالوُلوف.

«هور» = اسم نوع يدخل في تكوين أسماء أغلب الكواكب باللغة المصرية. وهو يُستخدَم في الإشارة إلى حورس (وهي تسمية لاتينية)، باعتباره كوكبًا يشرق.

«هور» = نجم، بالسيرير.

«سوتِن» = تُترجَم هذه الكلمة في أحوال كثيرة إلى حفيد باللغة المصرية، وفقًا ﻟ «بييريه».

«سِت» = إله المنطقة الجنوبية التي كان يسكنها أحفاد حام.

«سِت» = حفيد بلغة الوُلوف.

ويرى بدرال أن اسم «السودان» قد يكون مصدره «سوتن»، وبناء على هذا الاحتمال يكون السودان مرادفًا لبلد الأحفاد، ومشتقًّا من «سوتِن».

وعبارتا «ست بيتي» و«ني-ست-بيتي» وهما تسجيلان بالهيروغليفية يتصدران الأطر المزخرفة التي تحمل أسماء كافة فراعنة الأسر الإثيوبية، تعنيان حرفيًّا بلغة الوُلوف: «حفيدًا من الخارج بالنسبة للعبارة الأولى»، و«يكون حفيدًا من الخارج بالنسبة للعبارة الثانية». ولذا يبدو أنه من الخطأ اعتبار الحروف الهيروغليفية المستخدَمة في كتابة هذه العبارة؛ البوص؛ رمز الصعيد، والنحلة؛ رمز الوجه البحري. وقد لا تكون تلك الحروف الهيروغليفية سوى تسجيل لفكرة مرتبطة بتقليدٍ مشتركٍ قديم للغاية يربط بين مصر والسودان المروي، مسقط رأس الملوك المُسمِّين «إثيوبيين»، وبلد الحفيد الملكي لكوش، وهو لقب آخر من ألقاب الملك النوبي.

وهذه القرابة التي تجمع بين اللغتين المصرية والوُلوف، بل وبوسعنا أن تقول هذا التماثل شبه التام بين اللغة المصرية واللغات الزنجية بوجه عام، هو في الواقع أمرٌ فريدٌ من نوعه.

وبقدر ما تُمثِّل اللغة المصرية وِحدة لغوية طبيعية مع اللغات الزنجية يستحيل تجاهلها، بقدر ما تُشكِّل اللغة المصرية من جهة، واللغات المُسمَّاة سامية وهندو-أوروبية من جهة أخرى، عالمَين مختلفين نسبيًّا، إذا ما استثنينا بعض الاستعارات السامية من اللغة المصرية.

وقد باءت بالفشل المحاولات اللغوية التي بُذلت للتقريب بين لغتَي المصريين والبربر. وإذا كانت الكلمات البربرية مكوَّنة من ثلاثة مقاطع، وإذا كانت لغة البربر تتجاهل الحروف المتحركة مثل اللغة العربية، فإن ذلك لا ينطبق على اللغة المصرية.

وقد يكون من المفيد أن نذكر في ختام هذه الدراسة رأي إدوار نافيل حول طريقة تدوين مدرسة برلين للغة المصرية.

«لقد لاحظنا في مختلف الآجروميات التي لخصنا نتائجها أن جميعها لم يكن سوى تحليلٍ لأشكال اللغة، وأنه بالرغم من الجهود التي بذلها بروخ (Brugsch) لتقديم عملٍ متناسقٍ في إطار هندو-أوروبي أو سامي، إلا أنه لم يتوصَّل إلى ذلك، خاصة وأن تركيبة قواعد النحو والصرف التي تحكم هذه اللغات لا يمكن تطبيقها إطلاقًا على اللغة المصرية التي لا تتوفر فيها صيغٌ خاصة تُميز بين مختلف فئات الكلمات» (تطور اللغة المصرية واللغات السامية، باريس، مطبوعات بول جوتنر، ١٩٢٠م، ص٥٤).

«ومن الفروق الرئيسية بين اللغة المصرية من جهة، واللغات الهندو-أوروبية والسامية، من جهة أخرى، أن التمييز بين المصدر والكلمات والعبارات المشتقة منه، يكاد لا يمكن التعرُّف عليه، كما هو الحال في المجموعات اللغوية الأخرى. فالمصدر الصرف الذي يتواجد، إذا جاز القول، تحت السطح في العائلات اللغوية الأخرى ولا يتم الكشف عنه إلا من خلال تطوراته، يظل دائمًا مماثلًا للكلمة المستخدَمة في اللغة المصرية، بلا أي تبديلٍ تقريبًا؛ فالكلمة المصرية الحقيقية ليست في حد ذاتها جزءًا من سياق التكلم، ولكنها تستطيع أن تكون اسمًا أو فعلًا أو نعتًا أو ظرفًا … إلخ، وذلك في حدود الفكرة التي تمثِّلها» (نافيل، نفس المرجع، ص٥٦، نقلًا عن رينوف).

ويستشهد المؤلف برينوف (Renouf) فيما يتعلق بطريقة تدوين المدرسة الألمانية التي تغفل الحروف المتحركة في اللغة المصرية:
«إن الادعاء بأن الأصوات المتحركة a, i, u، وغيرها غير ممثَّلة في الحروف الهيروغليفية، ليس حقيقة مفروغًا منها، بل خطأ نَجَم عن الجهل، شاركتُ فيه شخصيًّا منذ ثلاثين سنة قبل أن أتفهم الوقائع» (نفس المصدر، ص٥٧).

ويستطرد رينوف قائلًا:

«إنه (يقصد مقاله عن «النطقيات المصرية»، ۱۸۹۹م) يُفسر فورًا كيف أنه يستحيل لمن تجاوز مفاهيم الهاوي في مجال علم الصوتيات، أن يَقبل نظام التدوين الجديد الذي تبنَّته برلين.»

«وقد حال الموت دون رينوف وإنجاز المهمة التي كان قد أخذها على عاتقه، ألا وهي تفنيد النظريات التي كان يعتبرها غريبة على اللغة المصرية، ولا تقوم على أساسٍ من الوقائع» (نافيل، نفس المصدر، ص٥٨).

«فاللغة المصرية ساميَّةٌ إذن؛ هذا ما تفيدنا به آجروميتا إرمان وزيته. ولكن إذا ما تمعَّنا في هذا المجهود في مجموعه، مع إعجابنا بالقدر الضخم من العمل الذي تطلَّبه، والألمعية التي تبدت فيه في أغلب الأحوال، إلا أن ما يثير الدهشة أن هذا الابتكار المصمَّم بحذقٍ وذا المظهر الجميل للغاية، مُصطنَع تمامًا. إنها ليست آجرومية بمعنى الكلمة، بل آجرومية سامية مفصَّلة في أشكال مصرية. وأنا لا أفكر، ولو للحظة واحدة، في إنكار كل العلم الذي تتضمنه تلك المجلدات، ولكن ليسمح لي زملائي العلماء في برلين بأن أكرر هنا ما سبق أن قلته في مواضع أخرى؛ وهو أن ما قاموا به هو نتاج مختبر للفقه اللغوي، إنها لغة مصرية تم تركيبها بمناهج ساميَّة. وهذا واضح بالأخص في كتاب زيته. فهو ينطلق من الفكرة القائلة بأن اللغة المصرية لغة ساميَّة، وبالتالي يتعيَّن — بالضرورة — أن نجد فيها بعض الصيغ التي تتميز بها تلك اللغات. وإذا كانت هذه الصيغ لا تتفق مع ما كان متوقَّعًا فإن الاختلاف ليس إلا ظاهريًّا، ومن المؤكَّد أنها كانت متفقة في الماضي. وهكذا فإن التأكيد بأن اللغة المصرية لغة ساميَّة ليس نتاجًا لما توصَّلت إليه دراسة هذه اللغة، بل نقطة الانطلاق والأساس الذي يتعيَّن أن يُعاد تركيب اللغة المصرية القديمة عليه. ولدينا هنا مثالٌ للمنهج الذي نجده في العديد من الأعمال الخاصة بما وراء نهر الراين، خاصة في مجال التاريخ. فالواقعة التي يمكن أن تُقدِّم تفسيرًا تؤدي إلى فكرة عامة. وسرعان ما يُعتبر ذلك التفسير أو الفكرة العامة حقيقة واقعة لا مجال للمجادلة فيها. وهكذا تنقلب الأوضاع؛ إذ لا مجال لتغيير التفسير أو الفكرة العامة وفقًا للوقائع، بل يجب أن نُكيِّف الوقائع بحيث تتفق مع الفكرة المُقرَّرة مسبقًا، وسيتعين تشذيب النصوص وتهذيبها بحيث تتفق تمامًا معها» (نفس المصدر، ص٦٦ و٦٧).

«ومن الواضح أنه ليس من الصعب أن يُعاد تركيب كل الكلمات بهذه الطريقة لتصبح مصادر من ثلاثة مقاطع؛ إذ يكفي أن نُسمِّي ما لا يمكن أن يكون جرسها إلا حرفًا متحركًا، حرفًا ساكنًا، أو أن نفترض أنه تم حذفه» (نفس المصدر، ص٦٨).

«وعلى الرغم من كل المزاعم المضادة، لم يتم التوصل حتى الآن إلى اكتشاف أي أثر للحروف المتحركة سواء في اللغة المصرية القديمة أو الحديثة.» بهذه الجملة تبدأ آجرومية زيته، التي قال لنا عنها إرمان إنها أرست ركائز العلم على أرض صلبة، وأثبتت بطريقة نهائية أن المصادر مكوَّنة من ثلاثة مقاطع، مما يؤكد بالتالي الطابع السامي للغة. ولو طلبنا الآن من السيد زيته علام يعتمد في ذلك التأكيد القاطع إلى هذا الحد، لقال لنا إن كلَّ مقطع يجب أن يبدأ بحرفٍ ساكنٍ كما هو الحال في اللغات السامية، وإنه لا توجد في اللغة المصرية مقاطع تبدأ بحرفٍ متحرك، وإن كل كلمة قبطية تبدأ بحرفٍ متحرك فقدت حرفها الساكن الأصلي. إننا نواجه دائمًا هذه الطريقة في التفكير التي ننكر تمامًا قيمتها في البرهنة. لا توجد حروف متحركة في اللغة المصرية، وعليه فإنها تكون لغة سامية، ومما يُثبت في الواقع أنه لا توجد بها حروف متحركة، هو أن اللغة المصرية، بصفتها لغة سامية، يجب ألا تكون بها حروف متحركة» (نفس المصدر، ص۸۰).

«وهنا أيضًا نجد إحدى الوسائل الدارجة في الأسلوب الألماني، خاصة في مجال الدراسات التاريخية، وردود الفعل هذه ضرورية لاستكمال النظرية. فالأمر لا يتطلَّب هنا وثائق أو مؤلفين، بل مجرد حروف يقال إنها اختفت في القبطية وإن كان يتعين الاعتراف بوجودها، لأن النظام الذي تم وضعه لا يمكن أن يستغني عنها» (نفس المصدر، ص۸۱).١٢

وقد قدَّم لنا نافيل الجدول التالي الذي استكملناه بعمودٍ بالوُلوف:

تدوين المدرسة الألمانية التدوين الجاري الوُلوف
إك أوسي كوسي كوسو (تل في نيجيريا)
إيفرورت إيرث «حليب» رات «حَلَبَ»
إيمنودج مينيت «الثدي» مِن «الثدي»
فيسيريف أوزيريس سيريه

(نقلًا عن نافيل، ص٧٦).

وهذه الأمثلة القليلة تُبيِّن لنا أن التعرُّف على الكلمات المصرية يُصبح عسيرًا بعد تعرُّضها لمثل تلك المعالجة، كما أن المقارنة الممكنة بين العمودَين الثاني والثالث تصبح مستحيلة بين العمودَين الأول والأخير.

وفيما يتعلق بتدوين الحروف المتحركة، بوسعنا أن نلاحظ أن وسيلة التعريف المصرية التي تُمكِّن من التمييز بين كلمتين تُنطقان تقريبًا بنفس الطريقة — وإن كان معنى كل منهما مختلفًا — كان لا بد وأن تكون معتمدة أساسًا على النغمة، إذا ما استندنا في ذلك إلى الوُلوف.

فالكلمتان الوُلوف «باج» = الذهاب والعودة، و«بآج» = أداة لاستقاء الماء، لا تختلفان إلا عن طريق تنغيم الحرف المتحرك في الكلمة الأخيرة، ولو تم تدوين الكلمتين بالهيروغليفية لما أمكن التمييز بينهما إلا بفضل وسائل تحديد مناسبة ذات طابع تنغيمي.

ولكن فيما يتعلق بالعبرية والمصرية فما أيسر التعرُّف على تشكيل الكلمة، أي التعرُّف على الحروف المتحركة التي تُمكِّننا من قراءة الكلمة التي لم تكتب سوى حروفها الصامتة؛ فهناك قواعد محددة لذلك. وعلى هذا الأساس يُقال إن هذه اللغات لا تستخدم الحروف المتحركة؛ إذ يمكن الاستغناء عن هذا المجهود الإضافي في التدوين نظرًا لتوفر وسيلة منتظمة للتعرُّف على الحرف المتحرك الصحيح المصاحِب لكل حرفٍ ساكن.

ولا يوجد شيء من هذا النوع في اللغة المصرية القديمة، والعالم الذي يتسلَّى بإلغاء الحروف المتحركة لكي يثبت أنه بصدد لغة سامية؛ لا تتوفر لديه أي قاعدة للعثور عليها، كما هو الحال في اللغات السامية. وفي حدود هيكل الكلمة المصرية على أساس الحروف الساكنة، لا توجد أي وسيلة لتشكيلها اللهم إلا إذا اعتمدنا على لغة مشتقة من اللغة المصرية ولا تزال مستخدَمة، مثل اللغات الزنجية واللغة القبطية.

ولو كان شامبليون قد افترض أن اللغة المصرية سامية، وأنها لا تُدوِّن أبدًا الحروف المتحركة، وصمَّم على التمسُّك بذلك الافتراض، لما تمكَّن أبدًا من قراءة الكتابة الهيروغليفية. فعندما عكف شامبليون على حل رموز اسمَي بطليموس وكيلوباترا، كان لا بد له من التعرُّف على هيروغليفيات مقابِلة للحروف المتحركة الإغريقية أ، إ، أُ … التي تمثِّلها على التوالي ما يشبه «القلب المقلوب»، و«ريشة» و«نسر»، ثم تعرَّف بعد ذلك على اﻟ «أو» الممدودة عن طريق «فرخ السمان» وعلى «إيه» عن طريق «الذراع المطويَّة». وليس هناك ما يدعو أبدًا لأن نُكرر أن هذه العلامات تتفق فعلًا مع حروفٍ متحركة في النص الإغريقي؛ وهكذا تم فك رموز نص حجر رشيد المسجَّل بلغتين (حجر رشيد، المتحف البريطاني، لندن، ١٩٥٠م).

ولذا لم يكن في إمكانهم أن يستبيحوا لأنفسهم تحويل الحروف المتحركة إلى حروفٍ ساكنة أو حروفٍ ساكنة ضعيفة إلا بعد أن تعرَّف عليها شامبليون، وذلك بقرارٍ أصدره العلم الألماني الرسمي.

وقد يتبادر إلى الأذهان أن ما نشره نافيل منذ عام ۱۹۲۰م قد تم تجاوزه الآن، وأنه تم تحقيق تقدُّم ملموس منذ ذلك الوقت. ولكن ذلك لم يحدث، فعلم الآثار المصرية كان قد أوشك أن يكون قد مضى عليه قرن من الزمن، بفارق عامَين تقريبًا، وعليه فإن هذه المدة لم تكن فترة تَعَثُّر، بل فترة تَمَكُّن؛ وبوسعنا أن نقول إن الأعمال الكلاسيكية التي يتم الاعتماد عليها حتى الآن تعود إلى ذلك التاريخ، وعليه، إذا كانت أعمال نافيل قد أصبحت قديمة، فإن أعمال معاصريه — وبالأخص المنتمين منهم إلى المدرسة الألمانية — أصبحت هي أيضًا قديمة. ومع ذلك فإن أعمال هؤلاء لا تزال رائجة على أوسع نطاق، وقد استشهد نافيل في ذلك بجاردينر، وهو من أكبر مناصري المدرسة الألمانية؛ فقد ترك لنا آجرومية لا تزال أساس التعليم الرسمي. ولا يوجد بالكاد سوى رد فعلٍ مائعٍ يعلن أن اللغة المصرية لغة أفريقية، واصطلاح «أفريقي» في مجال علم الآثار المصرية معروف بمضمونه الريائي؛ ففي مواجهة المصاعب العديدة التي تنشأ، يتم اللجوء إلى حيلة جديدة لا تنطلي على أحدٍ؛ لأن صفة «أفريقي» يُقصد بها هنا «غير زنجي».

١  إن احتمال مصادفة أفراد ذوي بشرة سوداء وشعر أكرت ولا تشملهم السمات العرقية الأخرى المرتبطة بالزنوج، باطلٌ علميًّا. وتعريف أمثال هؤلاء بأنهم «بيض ذوو بشرة سوداء» لأن تقاطيع وجههم رقيقة لا يقل سخفًا عن تسميتهم «زنوجًا ذوي بشرة بيضاء» المطبَّقة على ثلاثة أرباع الأوروبيين الذين لا يتميزون بسِماتٍ شمالية؛ ولذا فإن هذا الموقف ليس سوى زيفٍ علمي، حتى ولو ادَّعى من يتبنَّاه بأنه يتمسك بالعلم، لأن ذلك يعني تحويل الاستثناءات الضئيلة للغاية إلى قاعدة عامة.
٢  يبدو أن اسم مروي ليس من مصدر أفريقي، ومن المرجح أن الأجانب استخدموه ابتداءً من عهد قمبيز للإشارة إلى عاصمة إثيوبيا (السودان). ويقول سترابون، نقلًا عن ديودور الصقلي، إن زوجة قمبيز أو أخته ماتت في إثيوبيا، ودُفنت هناك عندما حاول هذا الغازي، بلا جدوى، أن يُخضع البلاد بقوة السلاح؛ وكان اسم هذه المرأة: مروى.
٣  كان النعت «إثيوبي» يخص شعوبًا سوداء أساسًا، ويشمل زنوجًا متحضِّرين في السودان المرَوي وكذلك الزنوج الهمج بالأحرى الذين كانوا مجاورين لهم ويأكلون الأخشاب والنعام والأسماك، ولم تكن وجوه هؤلاء الزنوج مجرد «سمراء» أو «صهباء» أو «مُلوَّحة»، بل كان لونها أسود فاحمًا مثل الإله أوزيريس، وخالية من أي تهجين مع عنصر أبيض.
٤  «قبل أن أبتعد عن النوبة، سأسمح لنفسي بأن أسجل بعض الملاحظات الصالحة لإثبات أقدمية حضارتها على حضارة مصر، وهذه المسألة التي لم تبت فيها بعد الوثائق التاريخية، تكتسب في رأيي قدرًا كبيرًا من الوضوح عندما يفحص المرء بعناية آثار إثيوبيا أو النوبة العليا ومنتجاتها الطبيعية. وأنا لا أعتقد أن آرائي ستُبدِّد كافة الشكوك حول هذا الموضوع الذي طال الجدال حوله … لقد عثرت على عددٍ كبيرٍ من العادات القديمة التي ظلت قائمة في النوبة ولم يتبق منها أي أثر في مصر؛ وأنا أُقر بأنه لا يمكن أن أستخلص من ذلك أي استقراء يدفع إلى الاعتقاد بأن هذه العادات لم تنشأ أصلًا في هذا البلد. ولكن إذا توصَّلنا إلى إثبات أن الأدوات الأساسية المخصَّصة للعبادة عند قدماء المصريين كانت من إنتاج انفردت به إثيوبيا، فإننا سنميل إلى الاعتراف بأن هذه العبادة لم تنشأ أبدًا في مصر … ويُقال عن حقٍّ إنَّ هجرات الشعوب الباحثة عن مستقرٍّ كانت تتم بالانحدار مع مجرى الأنهار، ولو تبنَّينا ذلك التدرج الطبيعي لما أمكننا أن نرفض استخلاص كون إثيوبيا كانت مسكونة قبل مصر. وهكذا تكون إثيوبيا هي التي كانت لها أولًا قوانين وفنون وكتابة. غير أن عناصر الحضارة هذه التي كانت لا تزال خشنة وناقصة، لم تتطور إلى حدٍّ كبيرٍ إلا في مصر حيث ساعد على ذلك المناخ وطبيعة الأرض والموقع الجغرافي. فهنا أكسب إزميل النحات رموز المعتقدات البدائية لمواطنيه، أشكالًا أكثر انتظامًا، لكي يُزيِّن بها المعابد، تلك الصروح التي تثير بكُتلها المهيبة إعجابنا، والتي لا تزال منطقة طيبة تحتوي حتى الآن على بقاياها الرائعة. وهكذا، كما كتب من قبل العديد من العلماء، ومن بينهم السيد جومار، فإن الفنون المُتقَنة في مصر صعدت مرة أخرى باتجاه منبع النهر، بعد أن كانت قد انحدرت معه في طفولتها. وكان هذا رأيي في الواقع في عام ١٨١٦م، عندما رأيت آثار النوبة السفلى، والمعترف اليوم بأنها لاحقة لأغلب آثار طيبة» (فردريك كايو، رحلة إلى مَروي، ١٨٢٦م، المجلد الثالث، ص٢٧١ والصفحات التالية).
٥  كايو، المرجع السابق، المجلد الثالث، ص١٦٥.
٦  «ظلَّت أفريقيا سرًّا خفيًّا لأمدٍ طويل … ولكن ألم تكن أحد مُهود الحضارة؟ إن مصر، وهي بلد أفريقي، لا تزال تحتفظ حتى اليوم، بعد عدة آلاف من السنوات، بأروع آثار الماضي العريق. ففي الوقت الذي كانت أوروبا فيه وحشية صرفة، ولم تكن باريس ولندن سوى مستنقعات، وروما وأثينا بقاعًا مهجورة، كانت أفريقيا تملك حضارة قديمة في وادي النيل. وكانت تعرف المدن العامرة بالسكان، والعمل الصبور للأجيال المتعاقبة في نفس تلك الأرض، والمنشآت العامة الكبيرة والعلوم والفنون، كما كانت قد أنتجت آلهة» (جاك وولِرْس، أفريقيا السوداء، مطبوعات فايار، ١٩٣٤م، باريس، ص١١).
٧  المقطع «دان»، «دون» المُعبِّر عن تكرار الفعل في الماضي يتكوَّن من: «دا» «مساعد إيجابي المعنى» + «أون» (إضافة للتعبير عن الماضي) = «دان» أو «د أون».
وكثيرًا ما تكون هناك حالة وسطى بإدخال «أو» صوتية بين الحرفين المتحركين، والاستثناء الوحيد المعروف هو «دينآ» أو «دانا» = أنا (معبِّرة عن الإرادة) وتتضمن فعلًا في المستقبل بالرغم من أن «دي» يُقصد بها فعل سابق، غير أن «دي» ليست فعلًا ذا معنًى متميز ودقيق، بل بالأحرى فعل مساعد يُعبِّر عن النية على الفعل.
٨  وبالأخص الأجزاء المتغيرة من الخطاب.
٩  ويُقصد بها الحروف التي يلتصق اللسان عند نطقها بسقف الحلق.
١٠  للمقارنة مع الصيغة المصرية سدجم-ت-إف (في صفحة ١٩٥).
١١  يبدو إذن أنه كانت هناك صيغة للجمع باللغة المصرية عن طريق تغيير الحروف الساكنة الأصلية، كما هو الحال في اللغات الزنجية.
١٢  ندَّد نافيل أيضًا بمحاولة الإيهام بأن اللغة المصرية لغة ساميَّة؛ إذ يكفي أن يطَّلع المرء على كتاب نحوٍ قبطي للتأكد من ذلك. ولو رجعنا بهذه المناسبة إلى آجرومية ستيندورف لوجدنا أنها تقول: القبطية لغة ساميَّة، فبما أن اللغة المصرية ساميَّة فإن اللغة القبطية تكون هي أيضًا ساميَّة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤