الفصل الثالث

التنظيم

حافَظ نظام الأرض على ظروفٍ صالحة للعيش فيها على مدار فتراتٍ زمنية جيولوجية. وتتضمن هذه الظروف درجةَ حرارة عالمية منتظمة وغير متقلبة، وكميةً كافية من ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي لدعم عملية التمثيل الضوئي، وموادَّ مغذية كافية للنمو. وفوق ذلك، فعلى مدار اﻟ ٣٧٠ مليونَ سنةٍ الماضية على الأقل، كانت توجد كميةٌ كافية من الأكسجين في الغِلاف الجوي لدعم الحياة الحيوانية المُعقدة التي تتسم بالحركة والتنقل، لكنها ليست كبيرةً لدرجة أن تلتهم حرائقُ الغابات الجزءَ الأكبر من الغطاء النباتي. يقدِّم هذا الفصل الطرق التي تُنظَّم بها هذه «المتغيرات الرئيسية» في نظام الأرض وكيف يَدرُس العلماء هذا التنظيم.

مفاهيم أساسية

تُوجد التغذية المرتدة السالبة في صميم كل الآليات التنظيمية؛ وبشكلٍ عام، يُمكن القول إنها حلقةٌ مغلقة من الصلات السببية تميل إلى كبح الاضطرابات في أي جزء من الحلقة. وعند التفكير في تنظيم المواد — كالمواد المُغذية في المحيطات، أو ثاني أكسيد الكربون أو الأكسجين في الغِلاف الجوي — نحتاج إلى ربط مفهوم التغذية المرتدة السالبة (الذي طُرِح في الفصل الأول) بمفهوم الخزانات والتدفقات (الذي طُرِح في الفصل الثاني). بمصطلحاتٍ أساسية، يُمكن القول إننا لتنظيم حجم خزانٍ ما، يُمكن أن تعمل التغذية المرتدة السالبة إمَّا على تدفُّق المُدخلات إلى ذلك الخزان أو على تدفُّق المُخرجات منه. على سبيل المثال، مع ازدياد حجم الخزان، يُمكن أن تؤدي التغذية المرتدة السالبة إلى زيادة تدفُّق المواد الخارجة من ذلك الخزان، وبذلك تُحافظ على استقراره.

fig12
شكل ٣-١: شكلٌ يوضِّح تشبيه عملية التنظيم والتحكم بحوض استحمام. تتحكم التغذية المرتدة السالبة في كمية المواد التي تخرج من المخزن.
إحدى الطرق لتصوُّر تلك العملية هي تشبيهها بما يحدُث في حوض استحمام (شكل ٣-١)؛ فهذا الحوض له مُدخلات (تأتيه من الصنبور) ومُخرجات (تتسرَّب عَبْر البالوعة الموجودة أسفله). إذا فتحتَ الصنبور وكانت البالوعة مفتوحة، فمن المفترَض أن يبقى مستوى الماء ثابتًا، وسيعتمد على مقدار الجزء المفتوح من فتحة الصنبور؛ وذلك لأنَّ حجم التدفق الخارج من البالوعة يميل إلى الازدياد مع ازدياد حجم الماء في الخزان، مُطبِّقًا بذلك تغذيةً مرتدة سالبة. تخيَّل لو زادت مساحة البالوعة مع ازدياد كمية الماء في الحوض، ستُصبح التغذية المرتدة السالبة أفضل. ولكن ماذا لو أُخرجَ الماء من الحوض بمعدلٍ ثابت بغضِّ النظر عن الكمية الموجودة فيه؟ عندئذٍ لن تتحكم التغذية المرتدة في كمية المُخرَجات. ولكي يكون هذا النظام مُستقرًّا، سيتوجَّب عندئذٍ أن تُوجد تغذيةٌ مرتدة تؤثِّر في كمية الماء المُدخَل إلى حوض الاستحمام لكي تُعادِل تأثير التغيرات الحادثة في مستوى الماء بضبطِ حجم الماء المندفع من الصنبور؛ أي بتقليل حجم الماء الداخل عند ارتفاع مستوى الماء في الحوض أو زيادته عند انخفاض مستوى الماء في الحوض.

هذا التشبيه يمكن أن يُستخدم في تجسيد خزان أي مادة؛ ليس شرطًا أن تكون ماءً أو حتى سائلًا. وكما سنرى، أحيانًا ما تتضمن حالاتُ التنظيم الحقيقية في نظام الأرض تغذيةً مرتدة سالبة على مدخلات خزانٍ معيَّن، وأحيانًا أخرى تتضمن تغذيةً مرتدة سالبة على المُخرَجات الخارجة من خزانٍ معيَّن.

نماذج بيوجيوكيميائية

سعيًا إلى فهم العوامل التي تُنظِّم المواد المغذية والأكسجين وثاني أكسيد الكربون عَبْر نطاقاتٍ زمنية جيولوجية، أنشأ علماء نظام الأرض نماذج. وهذه النماذج البيوجيوكيميائية الطويلة الأمد تُمثِّل الخزانات الرئيسية على أنها سلسلة من الصناديق بينها تدفُّقات. ومهمة واضع النموذج هي أن يُحدد أين وكيف تعتمد التدفقات الواردة في النموذج على أحجام الخزانات؛ ومن ثَم ينتج التغذيات المرتدة، كما حدث في تشبيه حوض الاستحمام. وغالبًا ما تؤدي هذه التغذيات المرتدة وظيفتَها عَبْر متغيراتٍ وسيطة مثل درجة الحرارة، وهذه المتغيِّرات لا تُعَد خزاناتٍ للمواد في حد ذاتها، ولكنها تتأثَّر بها.

وفي هذا النوع من البحث، يُعَد النموذج بمثابة أداة تُساعد على الفهم. إذ تُمثِّل فرضياتُ واضع النموذج الآليةَ المُعبِّرة عن آرائه بخصوص الطريقة التي يسير بها الكون، ويستخلص منها تنبؤات يُمكن اختبار صحتها بمقارنتها بالبيانات المتاحة. وعادةً ما يُجرِّب واضع النموذج بإدراج عمليةٍ معيَّنة جديدة أو علاقة من التغذية المرتدة في النموذج (مُمثِّلًا فرضيةً معينة)، ويَدرُس كيفية تأثيرها في تنبؤات النموذج فيما يتعلق ببعض البيانات (الأرصاد) التي يُحاول تفسيرها. فإذا تسبَّبَت العملية الجديدة في انحراف النتائج بعيدًا عن البيانات، فمن المرجَّح أن تُدحَض الفرضية؛ أمَّا إذا جعلَت النتائج مُقاربة للبيانات، فستظل الفرضية قائمة. (أحيانًا ما لا يكون الأمر بهذه البساطة في الواقع؛ لأنَّ النموذج الذي يُمثل نظام تغذية مرتدة معقَّدًا يُمكن، كما يحدث في العالم الحقيقي، أن يُظهِر سلوكًا مفاجئًا، وهنا قد يؤدي إجراء تعديلات متزامنة عديدة إلى تقليل الفجوة بينه وبين البيانات مجددًا.)

أذكُر أنني وضعتُ نموذجًا كهذا عندما كنتُ طالبًا للدكتوراه مع أندرو واطسون للتوصل إلى إجابة عن هذين السؤالَين المترابطَين: ما الذي يُنظِّم توازُن المواد المغذية في المحيطات ويُنظِّم محتوى الأكسجين في الغِلاف الجوي؟ ثم وسَّعنا النموذج لاحقًا — مع طالبٍ آخر، وهو نوم بيرجمان — لدراسة السؤال الآتي: ما الذي يُنظِّم محتوى ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي والمُناخ على النطاقات الزمنية الجيولوجية؟ كان النموذج الناتج، الذي يُسمَّى COPSE أو «كوبس»، مبنيًّا على عملٍ رائد من إنجاز بوب بيرنر، الذي وضع سلسلةً من النماذج لفهم التباينات في دورتَي الكربون والأكسجين الطويلتَي الأمد. كانت كل هذه النماذج تُركِّز على اﻟ ٥٤٢ مليون سنة الأخيرة، المعروفة باسم الحقبة الفانيروزوية، التي تعني حرفيًّا عصر الحياة الظاهرة، والتي بدأَت بالحيوانات وشهدَت ظهور النباتات. هذا وتُوضِّح الأقسام التالية الألغاز التي كنا نُحاول حلها وما عرفناه بمساعدة النموذج.

تنظيم المواد المغذية

يُوجد تكافؤٌ لافت بين النسبة التي يُوجد بها العنصران المغذيان الأساسيان، النيتروجين والفوسفور، في مياه المحيطات والنسبة التي تحتاجها الكائنات الحية البحرية منهما. وكان أوَّل من أبرز هذه المسألة هو عالِم المحيطات ألفريد ريدفيلد في عام ١٩٣٤؛ ولذا يُعرَف متوسط نسبة (أي النيتروجين إلى الفوسفور) التي تُوجد في الكائنات البحرية باسم «نسبة ريدفيلد» تكريمًا له. عادةً ما تبلغ نسبة لدى العوالق النباتية ١٦، في حين أنَّ نسبة في المياه المُتدفقة من أعماق المحيط إلى الأعلى تُساوي ١٥ تقريبًا. لذا ففي معظم الكائنات الحية، يُوجد عجزٌ طفيف في النيتروجين بالمقارنة بالفوسفور في المحيطات. يتمثل «لغز ريدفيلد» في تفسير سبب هذا التناظر بين نسبة العنصرَين في تركيب المحيطات ونسبتهما في تركيب الكائنات الحية. هل يُمكن أن يكون قد حدث بالصدفة؟ أم إنَّ الكائنات الحية تكيَّفَت مع الظروف البيئية وحسب؟ أم إنَّ الحياة نظَّمَت تركيب المحيطات بطريقةٍ ما لتتوافق مع متطلباتها الخاصة؟ أيَّد ريدفيلد تلك الإجابة الأخيرة.
يدخل في جوهر آلية التغذية المرتدة التي اقترحها ريدفيلد أنشطةُ الكائنات التي تعمل على تثبيت النيتروجين. فتثبيت النيتروجين يستهلك قَدرًا كبيرًا من الطاقة (في تفكيك الرابطة الثلاثية بين ذرتَي غاز النيتروجين)؛ وهو ما يعني أنَّ الكائنات التي لا تعمل على تثبيت النيتروجين من المُرجَّح أن تتفوَّق على مثبِّتات النيتروجين كلما توافَر النيتروجين. ومن ثَم، فعندما تتدفق مياه المحيطات العميقة التي تكون فيها نسبة أصغر من ١٦ إلى الأعلى نحو أسطح المحيطات، تستنفد عوالقُ نباتية أخرى النيتروجين الذي تحويه تلك المياه، ولكن عندما ينفد النيتروجين، سيبقى الفوسفور في العادة. عندئذٍ تسنح للكائنات الحية المثبِّتة للنيتروجين فرصة النمو باستخدام هذا الفوسفور المُتبقي وتثبيت النيتروجين مباشرةً من الغِلاف الجوي. وهكذا يضيف نشاط مثبِّتات النيتروجين نيتروجينًا مُثبَّتًا إلى المحيطات؛ ولذا تحدُّ هذه المُثبتات من انتشارها بنفسها. لكنَّ النيتروجين المُثبَّت يتعرض لإزالةٍ مستمرة بفعل أنشطة الكائنات الحية التي تعمل على نزع النيتروجين، والتي تزدهر حيثما يَنفَد الأكسجين في أعماق المحيطات. وهذا يُتيح لبعض مُثبتات النيتروجين أن تَبقى كجزءٍ صغير من مجتمع كائنات السطح.
وهكذا تنتُج من ذلك آلية تغذية مرتدة سالبة تُطبَّق على مُدخلات النيتروجين إلى المحيطات وتُبقيها متوازنةً مع المُخرجات. وتسمح هذه التغذية المرتدة لمحتوى النيتروجين بتتبُّع التباينات الحادثة في محتوى الفوسفور، والتي يمكن أن تُسببها التقلبات في التجوية، على سبيل المثال (شكل ٣-٢). فإذا زادت مُدخلات الفوسفور إلى المحيطات، فسيزداد معدل تثبيت النيتروجين، فيزيد محتوى النيتروجين في المحيطات. أمَّا إذا قلَّت مُدخلات الفوسفور، فسيقل مُعدل تثبيت النيتروجين؛ وبذلك يترك عملية نزع النيتروجين تُقلِّل محتوى النيتروجين في المحيطات. وبالمثل، فالتغيُّرات الحادثة في مُعدل إزالة الفوسفور من المحيطات ستُحدِث تغييراتٍ مضادةً مُعادِلة في مُعدل تثبيت النيتروجين ومُحتوى النيتروجين في المحيطات. ومن ثَم، فعلى الرغم من أنَّ النيتروجين عادةً ما يكون أول عنصر مغذٍّ ينفَد في أسطح المحيطات، فإنه نظرًا لأنَّ النيتروجين يمكن أن يتتبَّع التبايُنات الحادثة في مُحتوى الفوسفور، يُنظر إلى الفوسفور على أنه العنصر المُغذي الأساسي الذي يحدُّ من النمو البيولوجي عَبْر النطاقات الزمنية الجيولوجية.
fig13
شكل ٣-٢: نتائج من نموذج «ريدفيلد» يَظهر فيها أنَّ نسبة في المحيطات تُنظَّم تنظيمًا صارمًا بفعلِ تقلباتٍ مفروضةٍ كبيرة في مُدخلات الفوسفور.

وكذلك يُنظَّم محتوى الفوسفور في المحيطات، ولكن بفعل تغذية مرتدة سالبة تُطبَّق على مُخرجاته من المحيطات؛ لأن مُدخلات الفوسفور التي تسري مع مياه الأنهار لا يُمكن التحكم فيها عن طريق العمليات الحادثة في المحيط. فإذا زادت مُدخلات الفوسفور إلى المحيطات وبالتبعية زاد تركيزه، يؤدي ذلك إلى زيادة النيتروجين والإنتاجية ومُعدَّل انتقال الفوسفور إلى الرواسب البحرية. وبالمثل، فإذا قلَّت مُدخلات الفوسفور، يؤدي هذا إلى تقليل تركيزه في المحيطات، وهو ما يُقلل من إنتاجية السطح ويكبح عملية انتقال الفوسفور إلى الرواسب. وصحيح أنَّ التغذية المرتدة السالبة الناتجة ليست مثاليةً أو تامة، لكنها تُخفف من التقلبات الحادثة في تركيز المواد المُغذية في المحيطات، جاعلةً إياها أصغر من التقلبات الشديدة في مُدخلات الفوسفور إلى المحيطات.

تُوجد صلةٌ وثيقة بين تنظيم المواد المغذية وتنظيم الأكسجين في الغِلاف الجوي؛ لأنَّ مستويات المواد المغذية والإنتاجية البحرية تُحدِّدان مصدر الأكسجين عَبْر طَمْر الكربون العضوي. لكنَّ تنظيم المواد المُغذية في المحيطات يحدثُ على نطاقٍ زمني أقصر بكثير من نطاق تنظيم الأكسجين الموجود في الغِلاف الجوي لأنَّ أزمنة مكوثها أقصر بكثير؛ إذ يبلغ زمنُ مكوث النيتروجين حوالي ٢٠٠٠ سنة، ويبلغ زمنُ مكوث الفوسفور حوالي ٢٠ ألف سنة.

تنظيم الأكسجين

يبلغ زمنُ مكوث الأكسجين في الغِلاف الجوي فيما يتعلق بانتقاله إلى القشرة الأرضية حوالي أربعة ملايين سنة (طالِع الفصل الثاني). وصحيح أنَّ هذا قد يبدو زمنًا طويلًا، لكنه أقصر بكثير من الفترة التي شهدَت وجود الحيوانات التي تتنفس الأكسجين على الكوكب، والتي تبلغ حوالي ٥٥٠ مليون سنة. بل أقصر بكثير أيضًا من فترة اﻟ ٣٧٠ مليونَ عام التي شهدَت وجود الغابات، التي تُعَد عُرضةً لحدوث زيادات في الأكسجين تزيد معدَّل تكرار الحرائق وشدَّتها. وبذلك فمن اللافت أنَّ كمية الأكسجين في الغِلاف الجوي بقيَت ضمن الحدود الصالحة لعيش الحياة النباتية والحيوانية المعقدة مع أنَّ كل جزيئات الأكسجين استُبدلَت أكثر من مائة مرة.

في الواقع، كان استقرار كمية الأكسجين لافتًا بدرجةٍ أكبر وأكبر منذ انتشار الغابات في أنحاء الكوكب. فتجارب الاحتراق تُظهِر أنَّ الحرائق لا تصبح مُستدامة ذاتيًّا في مواد الوقود الطبيعية إلا عندما يصل الأكسجين إلى حوالي ١٧ في المائة من الغِلاف الجوي. ولكن طوال السنين اﻟ ٣٧٠ مليونًا الماضية، يُوجد سِجلٌّ شبه مستمر من الفحم الأحفوري، مشيرًا بذلك إلى أنَّ الأكسجين لم ينخفض قط تحت هذا المستوى. وفي الوقت نفسه، لم يرتفع الأكسجين قَط إلى الحد الذي يجعل الحرائق تمنع تجدُّد الغابات البطيء. فسهولة الاحتراق تزداد زيادةً غير خطية مع ازدياد تركيز الأكسجين، لدرجةٍ تُصعِّب تَصوُّر كيف كان من المُمكن أن تظل الغابات باقيةً إذا زادت نسبة الأكسجين عن نطاق يتراوح بين ٢٥ و٣٠ في المائة (اعتمادًا على رطوبة الوقود). وهكذا ظل الأكسجين ضِمن نسبة تتراوح بين ١٧ و٣٠ في المائة من الغِلاف الجوي على مرِّ اﻟ ٣٧٠ مليونَ سنةٍ الماضية على الأقل. والسؤال الآن هو: ما آليات التغذية المرتدة السالبة التي يمكن أن تُفسِّر هذا الاستقرار اللافت؟

نظريًّا، يُوجد موضعان من الممكن أن يكونا قد شهدا تغذيةً مرتدة مُحقِّقة للاستقرار؛ إما على المصدر الطويل الأمد الذي يُنتِج الأكسجين من طَمْر الكربون العضوي، وإما على المصرف الطويل الأمد الذي يُزيل الأكسجين عن طريق التجوية المؤكسِدة. ولكن في الكون الحالي الغني بالأكسجين، فإنَّ معظم الكربون العضوي القديم الذي انكشف بفعلِ ارتفاع الصخور على القارات يتأكسد. ولذا لا تُوجد فرصةٌ كبيرة لدى التباينات البسيطة في تركيز الأكسجين في الغِلاف الجوي لتؤثِّر في معدل تدفُّق إزالة الأكسجين بفعل التجوية المؤكسِدة. وعلى العكس من ذلك، تُوجد بالتأكيد آلياتٌ تجعل تدفق الأكسجين من مصدر إنتاجه القائم على طَمْر الكربون العضوي قابلًا للتأثر بالتباينات الحادثة في تركيز الأكسجين.

يأتي نحوُ نصف الكربون العضوي الذي يُطمر في العالم حاليًّا من الإنتاج الأوَّلي في المحيطات، ويأتي النصف الآخر من الإنتاج الأوَّلي على اليابسة، لكن كله تقريبًا يُطمر في رواسب المحيطات. لذا من الطبيعي أن يجري البحث عن آليات تنظيم الأكسجين في المحيطات. فعندما تَقِل مستويات الأكسجين في الغِلاف الجوي، يَقِل تركيز الأكسجين في المحيطات أيضًا، وعندما تصبح المحيطات أكثر خلوًّا من الأكسجين، تزداد كمية الكربون العضوي الذي يُحفَظ في الرواسب؛ وبذلك تُعَد هذه العمليات بمثابة تغذيةٍ مرتدة سالبة تميل إلى رفع مستويات الأكسجين في الغِلاف الجوي. وقد اتضح أنَّ هذه الآلية تتضمن دورة الفوسفور؛ ففي ظل حالة انعدام الأكسجين، يُعاد تدوير مزيد من الفوسفور من رواسب المحيطات وإرجاعه إلى عمود الماء، وهذا يؤدي إلى زيادة الإنتاجية في أسطح المحيطات، وهو ما يزيد كمية الكربون العضوي التي تصل إلى الأعماق، ومُعدل طَمره.

وصحيح أنَّ هذه الآلية التنظيمية المتركزة في المحيطات تُساعد على التخفيف من تأثير انخفاضات الأكسجين في الغِلاف الجوي. ولكن إذا ارتفع الأكسجين فوق مستوياته الحالية، يُصبح المحيط كله مؤكسَجًا وتتوقف التغذية المرتدة. لذا علينا أن نلجأ إلى اليابسة بحثًا عن آليةٍ حساسة يُمكنها إحداثُ تأثير مضاد يُوازِن زيادة الأكسجين. وهنا من المُرجَّح بوضوح أن نجد ضالَّتَنا في الحرائق والغطاء النباتي. فبينما تكبتُ الحرائق نمو النباتات، يُقلل هذا من كمية المواد العضوية الأرضية المتاحة للطمر، لكنه من المُرجَّح أن ينقل الفوسفور من اليابسة إلى المحيطات، مُغذيًا الإنتاجية هناك. غير أنَّ نسبة الكربون إلى الفوسفور في المواد العضوية البحرية أقل بكثير منها في المواد النباتية الأرضية، وهو ما يعني أنَّ نفس مصدر إمداد الفوسفور العالمي يدعم مقدارًا أقل من طَمر الكربون العضوي؛ الأمر الذي يُضعِف مصدر الأكسجين. وفوق ذلك، فعندما تكبتُ الحرائق انتشار الغابات، يُقلِّل هذا من تأثير الغابات على تجوية الصخور، ومُدخلات الفوسفور بالتبعية؛ مما يُقلل من طَمر الكربون العضوي وإنتاج الأكسجين.

عند إدراج آليات التغذية المرتدة هذه في نموذجٍ بيوجيوكيميائي، يمكن أن تُفسِّر استقرار الأكسجين الطويل الأمد في الغِلاف الجوي (شكل ٣-٣)؛ إذ يتنبأ النموذج بأنَّ نسبة الأكسجين في الغِلاف الجوي بقِيَت ضِمن نطاق يتراوح بين ١٧ و٣٠ في المائة طوال اﻟ ٣٥٠ مليونَ سنةٍ الماضية، وهذا متوافق مع سجل الفحم والغابات. ويتنبأ بأنَّ نسبة الأكسجين في الغِلاف الجوي قبل ظهور النباتات كانت تتراوح بين ٥ و١٠ في المائة؛ وذلك بسبب ضعف مصدر الفوسفور (إذ كانت تجوية الصخور أبطأ) وانخفاض نسبة طَمر الكربون إلى طَمر الفوسفور. لكنَّ هذا الأكسجين ما زال كافيًا لتفسير وجود الحيوانات المُبكرة. ويُشير النموذج إلى أنَّ كمية الأكسجين، قبل النباتات ومع انتشار ظاهرة انعدام الأكسجين في المحيطات على نطاقٍ أوسع، قد استقرَّت بفعل آليات تغذية مرتدة سالبة متركزة في المحيطات.
fig14
شكل ٣-٣: تنظيم نسبة الأكسجين في الغِلاف الجوي على مدار حقبة الفانيروزوي. نتائج مأخوذة من نموذج «كوبس».

ترتبط دورة الأكسجين ارتباطًا وثيقًا بدورة الكربون الطويلة الأمد. فعملية الإزالة السائدة التي تتضمن إزالة ثاني أكسيد الكربون عَبْر تجوية صخور السيليكات تُعَد مصدرًا رئيسيًّا للفوسفور المُجوَّى، وهذا بدوره يتحكم في طَمْر الكربون العضوي، ومصدر الأكسجين بالتبعية. وكذلك فإنَّ طَمْر الكربون العضوي يُمثِّل ثاني أهم بؤرة لثاني أكسيد الكربون الموجود في الغِلاف الجوي.

تنظيم ثاني أكسيد الكربون على المدى الطويل

على مدى أطول النطاقات الزمنية الجيولوجية، يُنظَّم تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي من خلال اعتماد تجوية السيليكات على ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي ودرجة الحرارة العالمية. وقد تحدَّثنا في الفصل الأول (شكل ١-٣) عن آلية التغذية المرتدة السالبة المهمة تلك. ولتلخيص ما ذُكر سلفًا، يُمكن القول إنَّ معدل تجوية السيليكات يزداد مع زيادة ثاني أكسيد الكربون ودرجة الحرارة. ومن ثَم، فإذا كان يُوجد شيءٌ ما يَزيد من كمية ثاني أكسيد الكربون أو يرفع درجة الحرارة، فإن هذا الشيء تتم مقاومتُه عن طريق ازدياد مُعدل إزالة ثاني أكسيد الكربون عن طريق تجوية السيليكات. وبالمثل، فإذا كان يُوجد شيءٌ ما يُقلل ثاني أكسيد الكربون أو يُخفِّض درجة الحرارة، فإن هذا الشيء تتم مقاومته بتقليل مُعدل إزالة ثاني أكسيد الكربون عن طريق تجوية السيليكات. وفي الوقت الحالي، يتحكم في جزءٍ كبير من هذه التغذية المرتدة البالغة الأهمية نباتاتُ اليابسة والفطريات الجذرية المصاحبة لها. فالنباتات سريعة التأثر بالتباينات الحادثة في كميات ثاني أكسيد الكربون ودرجة الحرارة، وتعمل مع شريكاتها الفطرية على تضخيم مُعدَّلات التجوية بدرجةٍ كبيرة (كما ذُكر في الفصل الثاني). وهذا يُنتِج آليةَ تغذيةٍ مرتدة سالبة أقوى ممَّا كانت عليه في غياب الحياة على اليابسة.
تتضمَّن نماذجُ دورة الكربون الطويلة الأمد هذه التغذية المرتدة مع عدة عوامل جيولوجية وبيولوجية مُسببة لتبايُن كميات ثاني أكسيد الكربون. فعلى سبيل المثال، يُقدَّر أن مصدر إضافة ثاني أكسيد الكربون إلى الغِلاف الجوي من العمليات البركانية وعمليات تحوُّل الصخور قد تعرَّض لتقلبات مع حدوث تغيرات في حركة الصفائح التكتونية، وأنَّ مصرف ثاني أكسيد الكربون تعرَّض لتقلبات مع حدوث تباينات في ارتفاع قشرة القارَّات واندفاع صخور البازلت السهلة التجوية على اليابسة. لكنَّ التغيير الأبرز في ثاني أكسيد الكربون الموجود في الغِلاف الجوي خلال حقبة الفانيروزوي كان بسبب استعمار النباتات لليابسة. إذ بدأ هذا منذ حوالَي ٤٧٠ مليونَ سنة، وتَصاعَد مع ظهور الغابات الأولى منذ ٣٧٠ مليونَ سنة. ويُقدَّر أنَّ ما أنتجه ذلك من تسريع في تجوية السيليكات قد أدى إلى خفض تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي بمقدارِ قيمةٍ أُسِّية كاملة (شكل ٣-٤) وخفض درجة حرارة الكوكب مُدخلًا إياه في سلسلة من العصور الجليدية في حقبة العصر الكربوني وحقبة العصر البرمي.
fig15
شكل ٣-٤: تباين تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي على مدار حقبة الفانيروزوي. مجموعة مُجمَّعة من بياناتٍ بديلة (نقاط ذات نطاقات خطأ) وتنبؤات نموذجية (تنبؤات نموذج «جيوكارب ٢» مُمثَّلة بالخط المتصل، وتنبؤات نموذج «كوبس» مُمثَّلة بالخط المتقطع).

تنظيم ثاني أكسيد الكربون على مدًى أقصَر

تميل التغذية المرتدة المتمثلة في تجوية السيليكات إلى تثبيت تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي، وحفظ استقرار درجة الحرارة العالمية، على نطاقٍ زمني يصل إلى مئات الآلاف من السنين. غير أنَّ بعض الاضطرابات الجيولوجية، كالثورانات البركانية الهائلة أو تحوُّل الرواسب الغنية بالمواد العضوية فجأةً، يُمكن أن تُضيف كميةً زائدة من ثاني أكسيد الكربون إلى الغِلاف الجوي من حين إلى آخر بوتيرة أسرع بكثير من ذلك، فتطغى بذلك على تأثير التغذية المرتدة السالبة. وكذلك تُضيف بعضُ الأنشطة البشرية في الوقت الحاضر كميةً من ثاني أكسيد الكربون إلى الغِلاف الجوي بمُعدل غير مسبوق. ولحُسن الحظ، تُوجد سلسلةٌ من آليات التغذية المرتدة السالبة الأخرى التي يُمكنها تنظيم ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي على نطاقاتٍ زمنية أقصر.

فعلى النطاق الزمني الذي يتراوح بين سنوات وقرون، تبدأ المحيطات وغِلاف اليابسة الحيوي امتصاص ثاني أكسيد الكربون الزائد المضاف إلى الغلاف الجوي. وبعد ذلك بحوالَي ألف عام، يتم التوصل إلى توازنٍ مؤقت؛ حيث يُقسَّم ثاني أكسيد الكربون المُضاف بين المحيطات والغِلاف الجوي وسطح اليابسة. ويبقى ما لا يقل عن ١٥ في المائة من ثاني أكسيد الكربون المضاف في الغِلاف الجوي على النطاق الزمني الألفي، وتزيد تلك النسبة كلما زادت كمية ثاني أكسيد الكربون المضاف في المقام الأول؛ لأنَّ ثاني أكسيد الكربون الذي ذاب في المحيطات يرفع حموضتها ويُقلِّل من قدرتها على تخزين الكربون.

وهذا بدوره يؤدي إلى آلية تغذية مرتدة سالبة تُعرَف باسم «تعويض الكربونات»، وهي تعمل على إزالة المزيد من ثاني أكسيد الكربون المضاف من ذلك الغِلاف الجوي على مدى نطاقٍ زمني يبلغ حوالي ١٠ آلاف عام. وفي هذه الآلية، تميل مياه المحيطات المُحمضة إلى إذابة رواسب الكربونات الملامسة لها، رافعةً مستوى عمق تعويض الكربونات إلى أعلى. تجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ رواسب الكربونات تحتوي على كمية قلويات بنسبة ٢ : ١ مع الكربون، وكمية القلويات في المحيطات هي التي تُحدِّد سَعَتها التخزينية للكربون. ومن ثَم، يضيف ذوبانُ رواسب الكربونات قلويةً أكبر مقارنة بالكربون إلى المحيطات؛ مما يسمح للمحيطات بامتصاص مزيد من ثاني أكسيد الكربون من الغِلاف الجوي.

وفي الوقت نفسه، يميل ثاني أكسيد الكربون الزائد في الغِلاف الجوي إلى تسريع تجوية صخور الكربونات على اليابسة، برفع درجة الحرارة وزيادة حموضة مياه الأمطار. يُعزز هذا من قلوية المحيطات؛ مما يزيد من قدرتها على تخزين ثاني أكسيد الكربون، مُتيحًا بذلك تغذيةً مرتدة سالبة مرةً أخرى على نطاقٍ زمني يبلغ حوالي ١٠ آلاف عام. وفي النهاية، تُتيح هذه العملية التي تُعيد إمداد المحيطات بالقلويات إعادة ترسيخ رواسب الكربونات في أعماق المحيطات مرةً أخرى؛ مما يزيد مستوى عُمق تعويض الكربونات مُجددًا؛ ومن ثَم تصل دورة الكربون إلى التوازن مرةً أخرى. وبعدما يصل كل ذلك إلى نهايته، يبقى في الغِلاف الجوي جزءٌ صغير من ثاني أكسيد الكربون الذي أُضيف في البداية، ويُزال على مدى مئات الآلاف من السنين بفعل التغذية المرتدة الناتجة عن تجوية السيليكات.

مثال تاريخي

هل يُمكن أن نرى أي أمثلة في السجل الجيولوجي على تطبيق آليات تنظيم ثاني أكسيد الكربون والمُناخ؟ نادرًا جدًّا ما تشهد دورة الكربون اضطراباتٍ طبيعيةً كبيرة، ومع ذلك تُوجد عدة اضطرابات كهذه في السجل الجيولوجي، وقد وقع أحد أحدث هذه الاضطرابات منذ ٥٥٫٨ مليون عام عند الحد الفاصل بين العصرَين الباليوسيني والإيوسيني. ويُقدِّم هذا الحدث الساخن اللافت — الذي يُعرَف باسم الذروة الحرارية فيما بين العصرَين الباليوسيني والإيوسيني — خيوطًا إرشادية مهمة بخصوص المصير الذي ربما ندفع المُناخ إليه في المستقبل، والوقت الذي سيستغرقه للتعافي.

لا أحد يعرف يقينًا ما الذي سبَّب الذروة الحرارية فيما بين العصرَين الباليوسيني والإيوسيني، لكننا نعرف أنَّ تلك الفترة شهدَت حقن كمياتٍ هائلة بلغَت آلاف مليارات الأطنان من الكربون إلى الغِلاف الجوي، على الأرجح بسبب اندساس بركاني داخل مخازن الوقود الأحفوري القديمة، وقد عُزِّز هذا الحقن بزعزعة استقرار هيدرات الميثان المجمدة تحت رواسب المحيطات. ويبدو أنَّ الكربون قد حُقِن على دَفقتَين بينهما ٢٠ ألف سنة. وقد ارتفعَت درجات الحرارة العالمية بحوالي ٥ درجاتٍ مئوية على مدى ٢٠ ألف سنة، وظلَّت مرتفعةً طوال ١٠٠ ألف سنة تقريبًا. وأدى تحمُّض المحيطات إلى ذوبان رواسب الكربونات على نطاقٍ واسع، فيما زاد عُمق تعويض الكربونات بمقدار يصل إلى ٢كم. وقد استغرق التعافي التام لدورة الكربون والمُناخ حوالي ٢٠٠ ألف سنة.

يتوافق التعافي البطيء من تلك الذروة الحرارية مع النطاق الزمني للتغذية المرتدة المتمثلة في تجوية السيليكات. وذلك ينبغي أن يُنذرنا بأنَّ التغذيات المرتدة التنظيمية في دورة الكربون، وإن كانت عديدة، يُمكن أن تتغلب عليها تأثيراتٌ أخرى. ولذا من المتوقَّع أنَّ الأنشطة البشرية المعتمدة على حَرْق الوقود الأحفوري يُمكن أن تترك إرثًا مُناخيًّا طويلًا كهذا.

التغذيات المرتدة البيوجيوكيميائية المؤثِّرة في المناخ

بينما أدَّى ثاني أكسيد الكربون دورًا أساسيًّا في تنظيم المُناخ على مرِّ تاريخ الأرض، تُوجد كذلك عوامل مؤثِّرة رئيسية أخرى. وعلى وجه الخصوص، يمكن أن يكون للتغييرات في درجة البياض، أو انعكاسية سطح الأرض، تأثيرٌ كبير على درجة حرارة الأرض.

fig16
شكل ٣-٥: فرضية «سي إل إيه دبليو» لآليات التغذية المرتدة بين إنتاج كبريتيد ثنائي الميثيل وبياض السُّحُب والمُناخ.
تُعَد السُّحُب ضروريةً لتحديد درجة بياض الأرض. فبينما تبدو لنا السُّحُب أشياء فيزيائية تمامًا، فإنها يمكن أن تتأثر بالأحياء؛ لأنَّ ماء السُّحُب يحتاج إلى شيء ليتكثَّف عليه. وهنا تُنتج مجموعةٌ متنوعة من الغازات الحيوية جُسيمات الهباء الجوي التي تُكوِّن بدورها مواقع تَنَوٍّ يمكن أن يتكثف عليها بخار الماء ليكوِّن السُّحُب. وعلى سبيل التحديد، تُطلِق العوالق النباتية البحرية غازًا يُسمى كبريتيد ثنائي الميثيل — أو DMS اختصارًا — ويُعَد المصدر الرئيسي لنوى تكاثُف السُّحُب فوق أجزاء بعيدة غير ملوَّثة من المحيطات في الوقت الحاضر (بل كان، قبل التلوث الصناعي البشري، أهم بكثير بصفته مصدرًا عالميًّا لنوى التكاثف). يؤدي ازدياد عدد نوى تكاثُف السُّحُب في أي سحابة إلى توزيع نفس الكمية من الماء على عدد أكبر من قُطَيراتٍ أصغر، وهو ما يجعل السحابة أشد بياضًا، وهذا يعني أنها تعكس قَدرًا أكبر من ضوء الشمس. وهكذا يُسفِر هذا الإنتاج الحيوي لنوى تكاثُف السُّحُب عن خفض حرارة الأرض بعدة درجات.
ومن مُنطلَق إدراك أنَّ كبريتيد ثنائي الميثيل مصدرٌ رئيسي لنوى تكاثف السُّحُب، أقدَم بوب تشارلسون وجيم لفلوك وأندي أندريا وستيف وارن، في خطوةٍ شهيرة، على اقتراح تغذيةٍ مرتدة مُناخية معروفة باسم فرضية «سي إل إيه دبليو» (نسبةً إلى الأحرف الأولى من أسماء مؤلفيها الإنجليزية) (شكل ٣-٥). وأكَّدوا في فرضيتهم أنه إذا كان شيءٌ ما يعمل على زيادة درجة الحرارة أو ضوء الشمس الواقع على سطح المحيطات، فمن المفترَض أن يُسفِر ذلك عن زيادة الإنتاج الحيوي لكبريتيد ثنائي الميثيل، مؤديًا إلى إكثار الغيوم العاكسة التي تعكس ضوء الشمس مرةً أخرى إلى الفضاء، فتنخفض درجة الحرارة مجددًا. وربما كانت هذه التغذية المرتدة السالبة آليةً مهمة لتنظيم المُناخ على المدى القصير في العالَم غير الملوَّث قبل وجود البشر. ولكن عند ارتفاع درجة الحرارة إلى مستوًى بالغ، يبدأ سطح المحيطات في التقسم إلى طبقات، فيُقيِّد عملية الحصول على المواد المغذية من الأسفل، وبذلك يحدُّ من الإنتاج الحيوي ومن إنتاج كبريتيد ثنائي الميثيل. وهذا يُغيِّر إشارة التغذية المرتدة الخاصة بالحرارة من السالبة إلى الموجبة، مؤديًا إلى تضخيم التغير المُناخي.

وفي الواقع، فالعديد من التغذيات المرتدة البيوجيوكيميائية الأخرى المؤثِّرة على المُناخ موجبة وليست سالبة. فمثل معظم العمليات الحيوية، يزداد إنتاج غازات «الدفيئة» الحيوية؛ أي ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز، كلها مع ارتفاع درجة الحرارة. وبذلك فإذا كان شيءٌ ما يعمل على رفع درجة الحرارة، فمن المُرجَّح أن يزداد حجم مصدر هذه الغازات، فيرفع درجة الحرارة أكثر وأكثر. تعمل هذه التغذية المرتدة الموجبة على نظام مُناخي فيزيائي مُتأثر أصلًا بتغذيةٍ مرتدة موجبة في المُجمَل بسبب آلياتٍ فيزيائية. وعلى وجه التحديد، يزداد تركيز أهم غازات الدفيئة على الإطلاق، وهو بخار الماء، مع الاحترار الناجم عن غازات الدفيئة الأخرى، فيُضخِّم تأثيراتها.

ما مدى كفاءة تنظيم مُناخ الأرض؟

تُشير الأمثلة التي نُوقشَت بإيجاز إلى أنَّ نظام الأرض، في حين أنه يتضمن ما لا يقل عن آليةٍ واحدة تعمل على حفظ استقراره على المدى الطويل، يحتوي كذلك على مزيج من تغذياتٍ مرتدة تحفظ استقراره وأخرى تُزعزعه على مدًى أقصر. ويُشير وجود الحياة منذ أمدٍ بعيد إلى أنَّ المُناخ يُنظم ضِمن حدودٍ واسعة، لكنَّ فرضية «الأرض كرة ثلجية» (التي تحدثنا عنها في الفصل الأول) تشير إلى أنَّ تنظيم المُناخ قد ينهار انهيارًا كارثيًّا جدًّا في بعض الأحيان. وهنا يظهر سؤالٌ مهم: ما مدى استقرار نظام المُناخ الحالي؟ يُقدم سِجل التغيرات المُناخية الأخيرة بعض الخيوط الإرشادية المفيدة التي قد تُعطي إجابةً مناسبة.

fig17
شكل ٣-٦: سِجل العينة الأسطوانية الجوفية المأخوذة من القارَّة القطبية الجنوبية المُعبِّر عن تغيُّر تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي ودرجة الحرارة (رُسم هنا بمقياسٍ مُعدَّل ليُعبِّر عن تغيُّر درجة الحرارة على مستوًى شبه عالمي).
على مرِّ الأعوام الأربعين مليونًا الماضية، ظلَّت الأرض تتعرَّض لانخفاض في حرارتها لدرجة أنه منذ ٢٫٥ مليون سنة، بدأَت دوراتُ العصور الجليدية في نصف الكرة الشمالي. وفي البداية، كانت هذه العصور تستمر حوالي ٤١ ألف سنة (إذ كانت مرتبطةً بالتقلبات الدورية في مَيل مِحوَر الأرض)، ولكن في المليون سنة الماضية، أصبحَت العصور الجليدية أطول وأعمق؛ إذ تستمر لما يقارب ١٠٠ ألف عام (شكل ٣-٦). وتُقدِّم دورات العصر الجليدي الحديثة هذه نموذجًا رائعًا على عملِ الأرض بصفتها نظامًا كليًّا واحدًا، وهو ما يبدو حساسًا جدًّا للتغيُّرات الطفيفة في مدار الأرض، مع وجود تغذياتٍ مرتدة داخل النظام تُسيطر على سلوكه. ويتضح من سِجل العينة الجليدية الأسطوانية الجوفية أنَّ التقلبات التي حدثَت في المُناخ ودورة الكربون كانت متزامنة؛ فالأوقات التي شهدَت ارتفاع درجات الحرارة هي نفسها التي شهدَت ارتفاع تركيزات ثاني أكسيد الكربون، والميثان، وأكسيد النيتروز (والعكس في الأوقات التي شهدَت انخفاض الحرارة). وعند نهاية كل عصر جليدي، كانت التغذيات المرتدة الموجبة بين ثاني أكسيد الكربون الموجود في الغِلاف الجوي ودرجة الحرارة قويةً بما يكفي لدرجة أنَّ المُناخ ربما يكون قد دخل حالة «جموح خارج عن السيطرة» مؤقتًا، مؤديًا فجأةً إلى تحويل حالة الكوكب كله من ظروفٍ جليدية إلى ظروفٍ بين جليدية.

وهذا الشعور بعدم الاستقرار يتعزز عندما ننظر إلى التقلبات المُناخية التي حدثَت على مدًى أقصر في العصر الجليدي الأخير. إذ شهدَت تلك الفترة تغيُّراتٍ متكررة سريعة للغاية غَطَّت تأثيراتها نصف الكرة الأرضية على الأقل. ومع انتهاء العصر الجليدي الأخير، اشتد التركيز على سِجلنا الخاص بهذه التغيُّرات المُناخية المفاجئة، فاكتُشف أنَّ منطقة جرينلاند شهدَت ارتفاع درجة الحرارة بمقدارٍ وصل إلى ١٠ درجاتٍ مئوية في أقل من عَقدٍ زمني. وهذا يُعزز فكرةَ أنَّ نظام المُناخ الحالي غير مستقر على نحوٍ غير عادي — على النطاقات الزمنية القصيرة نسبيًّا على الأقل — مُتيحًا بذلك إطارًا مُهمًّا للتفكير في الأنشطة التي تُغيِّر كوكبنا، والتي نُمارسها بصفتنا أحد الأنواع التي تعيش عليه (طالع الفصول من الخامس إلى السابع).

استقرارٌ متغير

يجري تنظيم بعض المتغيرات الرئيسية في نظام الأرض — ككمية النيتروجين والفوسفور في المحيطات وتركيز الأكسجين وثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي — بواسطة آلياتِ تغذيةٍ مرتدة سالبة تتضمن كائناتٍ حية. وقد حافظَت هذه التغذيات المرتدة على ظروفٍ مستقرة إلى حدٍّ كبير على كوكب الأرض طوال مئات الملايين من السنين. وتجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ المقصود بكلمة الاستقرار وَفْق المعنى الدارج في سياق الأنظمة ليس الثبات؛ فبعض العوامل البيولوجية والجيولوجية المتغيرة قد أحدثَت تغييراتٍ طويلة الأمد في نظام الأرض. وبالأخص، أسفَر ظهور نباتات اليابسة عن زيادة تركيز الأكسجين في الغِلاف الجوي وتقليل كمية ثاني أكسيد الكربون وخفض درجة الحرارة. لكنَّ هذه التغييرات كانت أصغر بكثير ممَّا كانت ستُصبح عليه لو لم تكن التغذيات المرتدة السالبة موجودة. وفي حين حَظِي مُناخ الأرض بالاستقرار على نطاقاتٍ زمنية جيولوجية، ظهرَت أدلة على عدم استقراره على نطاقاتٍ زمنية أقصر، خصوصًا بالقُرب من العصر الحاضر. وبعد أن قدَّمنا الكيفية التي يُنظِّم بها نظامُ الأرض ذو الحياة المُعقَّدة نفسَه بنفسه، سوف نطرح في الفصل الرابع التغييرات الأساسية التي أنشأته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤